15 أصول المعتزلة الفاسدة

فَهَذِهِ أُصُولُهُمُ الْخَمْسَةُ الَّتِي وَضَعُوهَا بِإِزَاءِ أُصُولِ الدِّينِ الْخَمْسَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا الرَّسُولُ.

الشيخ: وهذه الأصول فيها من الفساد والشرِّ ومخالفة النصوص ما لا يخفى على مَن له أدنى تأمّل، فإنَّ الله جلَّ وعلا جعل أركان الإسلام خمسةً على يد نبيه ﷺ: الشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج.

وجعل أصول الإيمان ستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشرِّه.

وقال هؤلاء: أصول الدين خمسة، وغيَّروا ما جاء به النبيُّ ﷺ، فقالوا: الأصول الخمسة: التوحيد -هذا واحد- ثم فسَّروا التوحيد بما يُخالف ما جاء به النبيُّ ﷺ، فالتوحيد –توحيد الربِّ جلَّ وعلا- أنه إخلاص العبادة لله وحده، والكفر بما يُعبد من دون الله، الإيمان بالله، والكفر بالطَّاغوت، هم جعلوا التوحيدَ نفي الصِّفات وإبطال الصِّفات، وأن تكون ذاتًا مجرَّدةً عن الصِّفات، قالوا: هذا هو التوحيد، فإذا أثبت الصِّفات معنى ذلك أنَّ هذا تشبيه له بالمخلوقات، فلم يُميزوا بين صفات الخالق وصفات المخلوق، فالله له صفات تليق به جلَّ وعلا، وهو الواحد الأحد ، هو الأول بجميع صفاته من العلم والقُدرة والحياة وغير ذلك، والمخلوق له صفات تليق به، صفات جاءت بعد العدم، كان معدومًا ثم جاء وبصفاته، هذا شيء، وهذا شيء.

ثم تكلَّموا بالعدل، وأنَّ الله جلَّ وعلا هو الحكم العدل، فظنوا واعتقدوا بفساد عقولهم أنَّ هذا العدل لا يتم إلا بإنكار القدر، فمَن آمن بالقدر فلا عدلَ، كيف يمضي القدرُ ويقدّر عليهم أشياء، ثم يُعاقبهم بما قدَّر عليهم؟!

فأساءوا الظنَّ بالله، وشبَّهوا على عباد الله، والله له الحكمة، وله التَّصرف في عباده، وهو الحكيم العليم جلَّ وعلا، فالعدل أنه يضع الأشياءَ في مواضعها ، فيُعاقب مَن يستحق العقاب، ويُثيب مَن يستحق الثواب، ويُنعم على عباده بما يشاء، ويُضل مَن يشاء، ويهدي مَن يشاء، وله الحكمة البالغة، فهم جعلوا أصلًا سوى هذا وقالوا: لا عدلَ إلا بإنكار القدر، وأنَّ الأمر أُنف.

كذلك المنزلة بين المنزلتين: قالوا: العاصي لا يكون مسلمًا ولا كافرًا، ولكن في منزلةٍ بين المنزلتين.

والله جلَّ وعلا جعل العاصي مسلمًا على خطرٍ، مؤمنًا ناقص الإيمان، فلم ينفَ عنه الإيمان والإسلام جميعًا، بل يُنفى عنه الإيمان الكامل، ويكون له الإيمان الناقص، وهو موصوف بالإسلام مع معصيته، ما لم تُخرجه معصيته عن الإيمان، فإن أخرجته معصيتُه عن الإيمان وكانت كفرًا: كسبِّ الإله، وسبِّ رسوله، وعدم الإيمان بالآخرة، وعدم الإيمان بوجوب الصلاة، وما أشبه ذلك من أمور الردة، فما دامت معصيته لا تُخرجه عن الإسلام فهو مسلم، لا يكون في منزلةٍ بين منزلتين، بل هو مسلم تحت مشيئة الله إذا مات على معصيته.

ثم الأصل الرابع: إنفاذ الوعيد، يقولون: لا بدَّ من إنفاذ الوعيد، فمَن جاءت النصوص بأنه من أهل النار يكون من أهل النار، ولا يُعفا عنه أبدًا.

وهذا من جهلهم، والله يقول: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، يُعذب مَن يشاء، ويرحم مَن يشاء من أهل المعصية، إنما تحتم النار للكافرين، هم الذين يتحتم في حقِّهم دخول النار والخلود فيها، أما العاصي فلا يتحتم عليه، قد يُعفا عنه، قد يغفر الله له معصيته، قد يشفع فيه الشُّفعاء فلا يدخل النار، تحت مشيئة الله.

فلا يجب إنفاذ الوعيد، ربنا قد يعفو ولا ينفذ الوعيد ، فمن صفاته العظيمة ومن جميل إحسانه أنه يعفو ويصفح، وهو العفو الكريم ، وإنفاذ الوعيد دائمًا وعدم العفو ليس صفة كمالٍ، إنما صفة الكمال أن يعفو إذا شاء، وينفذ الوعيد إذا شاء، أما أن يلزم بإنفاذ الوعيد، فليس له إمكان في عدم إنفاذ الوعيد، فهذا من الجهل، إنما الوعيد الذي يجب إنفاذه أوجبه سبحانه أن ينفذه، وألزمه على نفسه في حقِّ الكفرة، كما أوجب على نفسه رحمةَ المؤمنين وإدخالهم الجنة فضلًا منه .

وجعلوا إنفاذ الوعيد لازمًا، واتَّفقوا مع الخوارج أنَّ العاصي مخلد في النار، هذا رأيهم هم والخوارج، الخوارج كفروه وجعلوه مخلد في النار، والمعتزلة لم يُكفروه في الدنيا، وجعلوا له شيئًا آخر عندهم؛ في منزلةٍ بين منزلتين، ولكن اتَّفقوا في الآخرة أنه مخلد في النار، فمَن مات وهو زانٍ فهو مخلد في النار، ومَن مات وهو يشرب الخمر فهو مخلد في النار عندهم، ومَن مات وقد عقَّ والديه فهو مخلد في النار عندهم، مَن مات وهو قاطع للرحم فهو مخلد في النار عندهم، مَن مات وقد شهد بالزور فهو مخلد في النار عندهم، إلا أن يتوب قبل أن يموت، كل عاصٍ مات على معصيةٍ غير تائبٍ ليس تحت المشيئة، بل هو عندهم وعند الخوارج مخلد في النار، هذا الغلو في إنفاذ الوعيد.

وعكسهم المرجئة الذين قالوا: لا يضرّ مع الإيمان شيء، والإيمان قول واعتقاد فقط، ولم يجعلوا الأعمال من الإيمان، فصار عندهم جفاء قابلوا به المعتزلة.

والأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وهذا الأصل أدخلوا فيه شرًّا، فقالوا في هذا الأصل: إنه يجوز الخروج على السلطان والإمام إذا عصى، يجوز الخروج عليه ولو لم يكفر، بفعل المعصية جاز الخروجُ عليه، هذا جعلوه من الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، هذا من أصولهم، والرسول ﷺ قال: إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان، فهؤلاء خالفوا هذا الأصل، وخالفوا أهل السنة والجماعة وقالوا: متى وُجدت منه المعصية وجب الخروجُ عليه.

هذه الأصول الخمسة كلها خالفوا فيها أهل الحقِّ، وجعلوها كأصول الدين عندهم بدلًا من أركان الإسلام الخمسة، وبدلًا من أركان الإيمان الستة، جعلوها أصولًا من كيسهم، ومن آرائهم الفاسدة، ومن عقولهم الفاسدة، فينبغي التَّنبه لهذه الأصول، وعلى هذه الأصول درجت المعتزلة والزيدية والرافضة وجميع مَن ينتسب إلى الحسين من المتأخرين، ساروا على طريق المعتزلة في هذه الأصول الخبيثة، مع سبِّهم للصَّحابة، ومع ما عندهم من الشرِّ الآخر، نسأل الله العافية.

س: هل يُحكم بكفرهم بناءً على هذه الأصول؟

ج: اختُلف في تكفيرهم، منهم مَن كفَّرهم؛ لأنها أصول واضحة الفساد، قاله جمعٌ من أهل العلم، وآخرون قالوا: إنهم شُبِّه عليهم، فيكونون عُصاةً ولا يُكفِّرونهم، وقوم فرَّقوا؛ قالوا: دُعاتهم كفَّار، ومُقلدوهم عُصاة. وهو المشهور عند الحنابلة والجماعة، فالداعية كافر، والمقلد عاصٍ، وظاهر النصوص تكفيرهم هم والخوارج كما قال النبيُّ ﷺ: يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه، ولكن يظهر من كلام الكثير عدم التَّكفير لأجل الشُّبهة.

س: قولهم في المنزلة بين المنزلتين: ما حكم زوجته المُسلمة عندهم من جهة الميراث؟

ج: في الدنيا يُعامل معاملة أهل الإسلام، وفي الآخرة هو مخلد في النار، في الدنيا يُعامل معاملة أهل الإسلام، هذا الظاهر عندهم.

وَالرَّافِضَةُ الْمُتَأَخِّرُونَ جَعَلُوا الْأُصُولَ أَرْبَعَةً: التَّوْحِيدَ، وَالْعَدْلَ، وَالنُّبُوَّةَ، وَالْإِمَامَةَ.

الشيخ: يعني زادت الرافضةُ: الإمامة.

وَأُصُولُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ تَابِعَةٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَأَصْلُ الدِّينِ: الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا كَانَتِ الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ -لَمَّا تَضَمَّنَتَا هَذَا الْأَصْلَ- لَهُمَا شَأْنٌ عَظِيمٌ لَيْسَ لِغَيْرِهِمَا؛ فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ.

وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: "بينا جبرائيل قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ، لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ، لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا، لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُوتِيتَهُ.

الشيخ: وهذا فضل عظيم لهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وهذا الحديث يحتمل أنه نزل بهما، ولم ينزل بهما جبرائيل، وهذا من خصائص هاتين السورتين: سورة الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، ويحتمل أنه نزل بهما جبرائيل سابقًا، ثم نزل بهما هذا الملك لمزيد عنايةٍ؛ لأنَّ الأصل أن جبرائيل هو الذي جاء بالقرآن على النبي ﷺ، وهو الواسطة في الوحي بين الرسل وبين الله ، فهذه السورة وهاتان الآيتان نزل بهما هذا الملك، ولم ينزل قبل ذلك، مع بابٍ لم يُفتح إلا ذلك اليوم؛ إعظامًا لهذه السورة وهاتين الآيتين، وإكرامًا وتنويهًا بمحمدٍ عليه الصلاة والسلام، فيكون والله أعلم نزولهما مرتين مع جبرائيل ومع هذا الملك، أو أنهما نزلا بصفةٍ خاصَّةٍ مع هذا الملك دون بقية القرآن العظيم.

والفاتحة هي أعظم سورةٍ في كتاب الله، وهكذا الآيتان فيهما الإيمان: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ۝ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:285- 286] فيها العفو والسماح عن الأمة في هذه الأمور التي بيَّنها في آخر السورة.

وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ: أَرْكَانُ الْإِيمَانِ سَبْعَةٌ، يَعْنِي هَذِهِ الْخَمْسَةَ، وَالْإِيمَان بِالْقَدَرِ، وَالْإِيمَان بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَهَذَا حَقٌّ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَيْهِ ثَابِتَةٌ مُحْكَمَةٌ قَطْعِيَّةٌ.

الشيخ: لا حاجةَ إلى ما زاده أبو طالب، السنة كافية، الزيادة ما لها صلة، أصول الإيمان ستة فقط، كما قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام، الإيمان بالجنة والنار داخل في الإيمان باليوم الآخر.

وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى دَلِيلِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ.

وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَكُلُّ حَرَكَةٍ فِي الْعَالَمِ فَهِيَ نَاشِئَةٌ عَنِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [النازعات:5]، فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا [الذاريات:4].

الشيخ: يعني: بأمر الله، جعلهم سبحانه بواسطة هذه الأشياء التي يُصرفونها بأمر الله.

وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَأَتْبَاعِ الرُّسُلِ، وَأَمَّا الْمُكَذِّبُونَ بِالرُّسُلِ الْمُنْكِرُونَ لِلصَّانِعِ فَيَقُولُونَ: هِيَ النُّجُومُ. وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَصْنَافِ الْمَلَائِكَةِ، وَأَنَّهَا مُوَكَّلَةٌ بِأَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَكَّلَ بِالْجِبَالِ مَلَائِكَةً، وَوَكَّلَ بِالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ مَلَائِكَةً، وَوَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَائِكَةً تُدَبِّرُ أَمْرَ النُّطْفَةِ حَتَّى يَتِمَّ خَلْقُهَا، ثُمَّ وَكَّلَ بِالْعَبْدِ مَلَائِكَةً لِحِفْظِ مَا يَعْمَلُهُ وَإِحْصَائِهِ وَكِتَابَتِهِ، وَوَكَّلَ بِالْمَوْتِ مَلَائِكَةً، وَوَكَّلَ بِالسُّؤَالِ فِي الْقَبْرِ مَلَائِكَةً، وَوَكَّلَ بِالْأَفْلَاكِ مَلَائِكَةً يُحَرِّكُونَهَا، وَوَكَّلَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مَلَائِكَةً، وَوَكَّلَ بِالنَّارِ وَإِيقَادِهَا وَتَعْذِيبِ أَهْلِهَا وَعِمَارَتِهَا مَلَائِكَةً، وَوَكَّلَ بالجنَّة وعمارتها وغرسها وَعَمَلِ آلَاتِهَا مَلَائِكَةً.

فَالْمَلَائِكَةُ أَعْظَمُ جُنُودِ اللَّهِ، وَمِنْهُمُ: الْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا [المرسلات:1]، وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا [المرسلات:3]، و الْفَارِقَاتِ فَرْقًا ۝ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا [المرسلات:4- 5]، وَمِنْهُمُ: النَّازِعَاتِ غَرْقًا ۝ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ۝ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ۝ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا [النازعات:1- 4]، وَمِنْهُمُ: الصَّافَّاتِ صَفًّا ۝ فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ۝ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا [الصافات:1- 3].

س: ما معنى التأنيث في ذلك كله؟

ج: المرسلات والصَّافات ما قال، والصَّافون والمرسلون يعني: أراد الجماعات والفِرَق.

وَمَعْنَى جَمْعِ التَّأْنِيثِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: الْفِرَقُ وَالطَّوَائِفُ وَالْجَمَاعَاتُ الَّتِي مفردها: "فرقة" و"طائفة" و"جماعة".

الطالب: في النُّسخة الثانية ليس فيها جمع التأنيث، وإنما فيها التأنيث فقط.

وَمِنْهُمْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، وَمَلَائِكَةٌ قَدْ وُكِّلُوا بِحَمْلِ الْعَرْشِ، وَمَلَائِكَةٌ قَدْ وُكِّلُوا بِعِمَارَةِ السَّمَاوَاتِ، بِالصَّلَاةِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّقْدِيسِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إِلَّا الله.

وَلَفْظُ "الْمَلَكِ" يُشْعِرُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مُنَفِّذٌ لِأَمْرِ مُرْسِلِهِ، فَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، بَلِ الأمرُ كله لله الواحد الْقَهَّارِ، وَهُمْ يُنَفِّذُونَ أَمْرَهُ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ۝ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:27- 28]، يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50]، فَهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، مِنْهُمُ الصَّافُّونَ، وَمِنْهُمُ الْمُسَبِّحُونَ، لَيْسَ مِنْهُمْ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، وَلَا يَتَخَطَّاهُ، وَهُوَ عَلَى عَمَلٍ قَدْ أُمِرَ بِهِ، لَا يُقَصِّرُ عَنْهُ وَلَا يَتَعَدَّاهُ، وَأَعْلَاهُمُ الَّذِينَ عِنْدَهُ: لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ۝ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:19- 20]، ورؤساؤهم الأملاك الثلاثة.

الطالب: في نسخة: "ومنهم الأملاك الثلاثة" بدل "ورؤساؤهم".

جبرائيل وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ، الْمُوَكَّلُونَ بِالْحَيَاةِ، فَجِبْرِيلُ مُوَكَّلٌ بِالْوَحْيِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، وَمِيكَائِيلُ مُوَكَّلٌ بِالْقَطْرِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْأَرْضِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، وَإِسْرَافِيلُ مُوَكَّلٌ بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْخَلْقِ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ.

فَهُمْ رُسُلُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَسُفَرَاؤُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، يُنْزِلُونَ الْأَمْرَ مِنْ عِنْدِهِ فِي أَقْطَارِ الْعَالَمِ، وَيَصْعَدُونَ إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ، قَدْ أَطَّتِ السَّمَاوَاتُ بِهِمْ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ لِلَّهِ، وَيَدْخُلُ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ.

الشيخ: يعني للتَّعبد، هذا يدل على كثرة الملائكة، وأنه شيء عظيم لا يُحصيهم إلا الله : وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] ، يدخل البيتَ المعمور كل يوم سبعون ألف ملك للعبادة، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم، والبيت المعمور في السماء السابعة على وزان الكعبة، فهذا يدل على أنَّ الملائكة لها تعبد في هذا البيت، وأنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك مرةً واحدةً، لا يعودون إليه، هكذا يكون كل يوم، فكم يكون عددهم على طول الأيام والليالي؟ والله المستعان.

الطالب: زياد بن كليب الحنظلي، أبو معشر، الكوفي، ثقة، من السادسة، مات سنة 19 أو20. (مسلم وأبو داود والترمذي والنَّسائي).

الشيخ: ............

وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ وَأَصْنَافِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ، فَتَارَةً يَقْرِنُ اللَّهُ تَعَالَى اسْمَهُ بِاسْمِهِمْ، وَصَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِمْ، وَيُضِيفُهُمْ إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعِ التَّشْرِيفِ، وَتَارَةً يَذْكُرُ حَفَّهُمْ بِالْعَرْشِ وَحَمْلَهُمْ لَهُ، ومراتبهم من الدُّنو، وَتَارَةً يَصِفُهُمْ بِالْإِكْرَامِ وَالْكَرَمِ، وَالتَّقْرِيبِ وَالْعُلُوِّ وَالطَّهَارَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْإِخْلَاصِ، قَالَ تَعَالَى: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]، شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران:18]، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الأحزاب:43]، الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7]، وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الزمر:75]، بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:26]، إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف:206]، فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ [فصلت:38]، كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار:11]، كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس:16]، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:21]، لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى [الصافات:8].

وكذلك الأحاديث النَّبوية طَافِحَةٌ بِذِكْرِهِمْ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ أَحَدَ الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ الَّتِي هِيَ أَرْكَانُ الْإِيمَانِ.

وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَصَالِحِي الْبَشَرِ، وَيُنْسَبُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ تَفْضِيلُ صَالِحِي الْبَشَرِ وَالْأَنْبِيَاءِ فَقَطْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَإِلَى الْمُعْتَزِلَةِ تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ، وَأَتْبَاعُ الْأَشْعَرِيِّ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يُفَضِّلُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ وَلَا يَقْطَعُ فِي ذَلِكَ قَوْلًا، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ مَيْلُهُمْ إِلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ.

وَقَالَتِ الشِّيعَةُ: إِنَّ جَمِيعَ الْأَئِمَّةِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ فَصَّلَ تَفْصِيلًا آخَرَ.

وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِمَّنْ لَهُ قَوْلٌ يُؤْثَرُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ دُونَ بَعْضٍ.

وَكُنْتُ تَرَدَّدْتُ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِقِلَّةِ ثَمَرَتِهَا، وَأَنَّهَا قَرِيبٌ مِمَّا لَا يَعْنِي، وَ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ.

وَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ قَدْ تَرَكَ الْكَلَامَ فِيهَا قصدًا، فإنَّ الإمام أبا حنيفة رحمه الله وَقَفَ فِي الْجَوَابِ عَنْهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي "مَآلِ الْفَتَاوَى"، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَسَائِلَ لَمْ يَقْطَعْ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهَا بِجَوَابٍ، وَعَدَّ مِنْهَا: التَّفضيل بين الملائكة والأنبياء.

وهذا هو الحق، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ، وَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ أَيّ الْفَرِيقَيْنِ أَفْضَلُ، فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ لَبُيِّنَ لَنَا نَصًّا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64].

وَفِي الصَّحِيحِ: إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهَا.

الطالب: قال: حسن لغيره، رواه الدَّارقطني وغيره.

الشيخ: ورد في الصحيح، يعني: من الحديث الصحيح، ليس في "الصحيحين" أو أحدهما، تسامح في العبارة.

الطالب: وجيه بن عبدالرحمن السندي -بكسر المهملة وسكون النون- المدني، أبو معشار -أو معشر- وهو مولى بني هاشم، مشهور بكُنيته، ضعيف، من السادسة، أسن واختلط، مات سنة 170، ويقال: كان اسمه عبدالرحمن بن وليد بن هلال. (الأربعة).

فَالسُّكُوتُ عَنِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَوْلَى.

وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ نَظِيرُ غَيْرِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ هُنَا مُتَكَافِئَةٌ، عَلَى مَا أُشِيرُ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَحَمَلَنِي عَلَى بَسْطِ الْكَلَامِ هُنَا: أَنَّ بَعْضَ الْجَاهِلِينَ يُسِيئُونَ الْأَدَبَ بِقَوْلِهِمْ: كَانَ الْمَلَكُ خَادِمًا لِلنَّبِيِّ ﷺ! أَوْ: إِنَّ بَعْضَ الْمَلَائِكَةِ خُدَّامُ بَنِي آدَمَ! يَعْنُونَ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِالْبَشَرِ، وَنَحْو ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ، الْمُجَانِبَةِ لِلْأَدَبِ، وَالتَّفْضِيلُ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّنَقُّصِ أَوِ الْحَمِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ لِلْجِنْسِ لَا شَكَّ فِي رَدِّهِ، وَلَيْسَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَظِيرَ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنْ تِلْكَ قَدْ وُجِدَ فِيهَا نَصٌّ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْآيَةَ [البقرة:253]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ [الإسراء:55]، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: "وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ"، يَعْنِي: النَّبِيَّ ﷺ.

وَالْمُعْتَبَرُ رُجْحَانُ الدَّلِيلِ، وَلَا يُهْجَرُ الْقَوْلُ لِأَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَافَقَ عَلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفًا فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ أَوَّلًا بِتَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ، ثُمَّ قَالَ بِعَكْسِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّوَقُّفِ أَحَدُ أَقْوَالِهِ.

وَالْأَدِلَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْفَضْلِ، لَا عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ، وَلَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ.

الشيخ: مع العلم بأنَّ أهل السنة والجماعة يقولون: إنَّ الملائكة لهم فضلهم العظيم، ولكن صالحي البشر من الأنبياء وأتباعهم أفضل، واحتجُّوا بأمورٍ كما يأتي، من ذلك ومن أهم ما احتجُّوا به ما رواه الدَّارمي رحمه الله بسندٍ جيدٍ: يقول النبيُّ عليه الصلاة والسلام: يقول الله جلَّ وعلا: لن أجعل صالح ذرية مَن خلقتُ بيدي كمَن قلتُ له: فكن فكان، وأن الصّلحاء من البشر من الأنبياء والرسل وأتباعهم أفضل لأمورٍ، منها هذا؛ ولأنَّ الملائكة قد حفظهم الله من أسباب الفتنة، ولم يبتليهم بالشَّهوات وبالشَّيطان، بخلاف بني آدم، فإنهم ابتلوا بالشيطان والشَّهوات، فمَن جاهد نفسه لله وصابر واتَّقى شرَّ نفسه وشيطانه فله منزلة عظيمة، ويأتي الكلام في هذا إن شاء الله.

وَلِلشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مُصَنَّفٌ سَمَّاهُ "الْإِشَارَةَ فِي الْبِشَارَةِ" فِي تَفْضِيلِ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَكِ، قَالَ فِي آخِرِهِ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ المسألة من بدع علم الكلام التي لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهَا الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الْأُمَّةِ، وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَعْلَامِ الْأَئِمَّةِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا أَصْلٌ مِنْ أَصُولِ الْعَقَائِدِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ كَثِيرٌ مِنَ الْمَقَاصِدِ؛ وَلِهَذَا خَلَا عَنْهَا طَائِفَةٌ مِنْ مُصَنَّفَاتِ هَذَا الشَّأْنِ، وَامْتَنَعَ مِنَ الْكَلَامِ فِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ، وَكُلُّ مُتَكَلِّمٍ فِيهَا مِنْ عُلَمَاءِ الظَّاهِرِ بِعِلْمِهِ لَمْ يَخْلُ كَلَامُهُ عَنْ ضَعْفٍ واضطرابٍ. انتهى، والله الموفق للصواب.

فَمِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَفْضِيلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يَسْجُدُوا لِآدَمَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمْ؛ وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ إِبْلِيسُ وَاسْتَكْبَرَ وَقَالَ: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء:62].

قَالَ الْآخرُونَ: إِنَّ سُجُودَ الْمَلَائِكَةِ كَانَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِمْ، وَعِبَادَةً وَانْقِيَادًا وَطَاعَةً لَهُ، وَتَكْرِيمًا لِآدَمَ وَتَعْظِيمًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْأَفْضَلِيَّةُ، كَمَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ سُجُودِ يَعْقُوبَ لِابْنِهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ تَفْضِيلُ ابْنِهِ عَلَيْهِ، وَلَا تَفْضِيلُ الْكَعْبَةِ عَلَى بَنِي آدَمَ بِسُجُودِهِمْ إِلَيْهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِمْ.

وَأَمَّا امْتِنَاعُ إِبْلِيسَ فَإِنَّهُ عَارَضَ النَّصَّ بِرَأْيِهِ وَقِيَاسِهِ الْفَاسِدِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ الصُّغْرَى، وَالْكُبْرَى مَحْذُوفَةٌ، تَقْدِيرُهَا: وَالْفَاضِلُ لَا يَسْجُدُ لِلْمَفْضُولِ! وَكِلْتَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ فَاسِدَةٌ:

أَمَّا الْأُولَى: فَإِنَّ التُّرَابَ يَفُوقُ النَّارَ فِي أَكْثَرِ صِفَاتِهِ؛ وَلِهَذَا خَانَ إِبْلِيسَ عُنْصُرُهُ، فَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ، فَإِنَّ مِنْ صِفَاتِ النَّارِ طَلَبَ الْعُلُوِّ وَالْخِفَّةَ وَالطَّيْشَ وَالرُّعُونَةَ، وَإِفْسَادَ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ وَمَحْقَهُ وَإِهْلَاكَهُ وَإِحْرَاقَهُ، وَنَفَعَ آدَمَ عُنْصُرُهُ فِي التَّوْبَةِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالِاعْتِرَافِ وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، فَإِنَّ مِنْ صِفَاتِ التُّرَابِ الثَّبَاتَ وَالسُّكُونَ وَالرَّصَانَةَ، وَالتَّوَاضُعَ وَالْخُضُوعَ وَالْخُشُوعَ وَالتَّذَلُّلَ، وَمَا دَنَا مِنْهُ يَنْبُتُ وَيَزْكُو وَيَنْمِي وَيُبَارَكُ فِيهِ، ضِدَّ النَّارِ.

وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ: أَنَّ الْفَاضِلَ لَا يَسْجُدُ لِلْمَفْضُولِ فَبَاطِلَةٌ، فَإِنَّ السُّجُودَ طَاعَةٌ لِلَّهِ وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِهِ، وَلَوْ أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ أن يسجدوا لحجرٍ لوجب عليهم الامتثال وَالْمُبَادَرَةُ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَسْجُودَ لَهُ أَفْضَلُ مِنَ السَّاجِدِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَكْرِيمُهُ وَتَعْظِيمُهُ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهِ.

قَالُوا: وَقَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ: هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء:62] بَعْدَ طَرْدِهِ لِامْتِنَاعِهِ عَنِ السُّجُودِ لَهُ، لَا قَبْلَهُ، فَيَنْتَفِي الِاسْتِدْلَالُ بِهِ.

وَمِنْهُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَهُمْ عُقُولٌ، وَلَيْسَتْ لَهُمْ شَهَوَاتٌ، وَالْأَنْبِيَاءُ لَهُمْ عُقُولٌ وَشَهَوَاتٌ، فَلَمَّا نَهَوْا أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْهَوَى، وَمَنَعُوهَا عَمَّا تَمِيلُ إِلَيْهِ الطِّبَاعُ، كَانُوا بِذَلِكَ أَفْضَلَ.

وَقَالَ الْآخرُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ مُدَاوَمَةِ الطَّاعَةِ وَتَحَمُّلِ الْعِبَادَةِ وَتَرْكِ الْوَنَى وَالْفُتُور فِيهَا مَا يَفِي بِتَجَنُّبِ الْأَنْبِيَاءِ شَهَوَاتِهِمْ، مَعَ طُولِ مُدَّةِ عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ.

وَمِنْهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ رُسُلًا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَسُفَرَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ.

وَهَذَا الْكَلَامُ قَدِ اعْتَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ أَقْوَى، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُرْسَلِينَ إِنْ ثَبَتَ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ بِالرِّسَالَةِ، ثَبَتَ تَفْضِيلُ الرُّسُلِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَيْهِمْ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الرَّسُولَ الْمَلَكِيَّ يَكُونُ رَسُولًا إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ.

وَمِنْهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا الآيات [البقرة:31].

قَالَ الْآخرُونَ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْفَضْلِ لَا عَلَى التَّفْضِيلِ، وَآدَمُ وَالْمَلَائِكَةُ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ، وَلَيْسَ الْخَضِرُ أَفْضَلَ مِنْ مُوسَى بِكَوْنِهِ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ مُوسَى، وَقَدْ سَافَرَ مُوسَى وَفَتَاهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إِلَى الْخَضِرِ، وَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ، وَطَلَبَ مُوسَى مِنْهُ الْعِلْمَ صَرِيحًا، وَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: إِنَّكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ .. إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَلَا الْهُدْهُدُ أَفْضَل مِنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكَوْنِهِ أَحَاطَ بِمَا لَمْ يُحِطْ بِهِ سُلَيْمَانُ عِلْمًا.

وَمِنْهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75].

قال الآخرون: هَذَا دَلِيلُ الْفَضْلِ لَا الْأَفْضَلِيَّةِ، وَإِلَّا لَزِمَ تَفْضِيلُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ.

فَإِنْ قُلْتُمْ: هُوَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ؟ فَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، بَلْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا قِيلَ لِآدَمَ: ابْعَثْ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ، يَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِئَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَى النَّارِ، وَوَاحِدًا إِلَى الْجَنَّةِ، فَمَا بَالُ هَذَا التَّفْضِيل سَرَى إِلَى هَذَا الْوَاحِدِ مِنَ الْأَلْفِ فَقَطْ.

وَمِنْهُ: قَوْلُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "مَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ" الْحَدِيثَ.

الطالب: "المستدرك" بسندٍ صحيحٍ عنه، وصححه هو والذَّهبي.

فَالشَّأْنُ فِي ثُبُوتِهِ، وَإِنْ صَحَّ عَنْهُ فَالشَّأْنُ فِي ثُبُوتِهِ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ.

وَمِنْهُ: حديث عبدالله بن عمرو : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبَّنَا، أَعْطَيْتَ بَنِي آدَمَ الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَيَلْبَسُونَ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، وَلَا نَأْكُلُ وَلَا نَشْرَبُ وَلَا نَلْهُو، فَكَمَا جَعَلْتَ لَهُمُ الدُّنْيَا فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ. قَالَ: لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدِي كَمَنْ قُلْتُ لَهُ: كُنْ فَكَانَ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ.

الشيخ: هذا الحديث هو أصرح ما في الباب، وقد احتجَّ به أبو العباس ابن تيمية وابن القيم وغيرهما، وذكروا ما يدل على سلامة سنده بقوله: لا أجعل صالح ذرية مَن خلقتُ كمَن قلتُ له: كن فكان صريح في أن ذرية بني آدم الصَّالحين أفضل من الملائكة.

والحديث أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله في ردِّه على بشر المريسي، وظاهر ما ذكره الأئمة أن إسناده جيد.

الطالب: قال: ضعيف، كما أشار إليه المصنف، وأما تعقب الشيخ أحمد شاكر عليه بقول: هكذا أعلَّ الشارحُ الحديثَ إسنادًا ومتنًا، وما أصاب في ذلك السداد، إذ قصر في تخريجه.

أما رواية الطبراني فإنها ضعيفة حقًّا، بل غاية في الضَّعف، فقد نقلها ابنُ كثير في "التفسير" بإسنادها من "المعجم الكبير"، ونقلها الهيثمي في "معجم الزوائد" وقال: رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، وفيه إبراهيم بن عبدالله بن خالد المصيصي، وهو كذَّاب متروك. وفي إسناد "الأوسط" طلحة بن زيد، وهو كذَّاب أيضًا، فهذان إسنادان لا نعبأ بهما، ولكن الحديث رواه الإمام عثمان بن سعيد الدَّارمي في كتاب "الرد على المريسي" بإسنادٍ صحيحٍ مطوَّلًا؛ رواه عن عبدالله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، وهذا إسناد لا مغمزَ فيه، وقد أشار إليه الحافظُ ابن كثير في "التاريخ" مختصرًا، من رواية عثمان بن سعيد، وأشار إلى صحَّته.

الشيخ: وهذا هو المعروف، المعروف سند عثمان بن سعيد، فإنه جيد وسليم؛ ولهذا جزم أبو العباس ابن تيمية وابن القيم جزما بأنَّ هذا حُجَّة قائمة في تفضيل صالح بني آدم على الملائكة؛ لقوله: لا أجعل صالح ذرية مَن خلقت بيدي كمَن قلت له: كن فكان، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهو أن صالحي البشر أفضل من الملائكة؛ لأنَّ صالح البشر خُلقوا لعبادة الله وابتُلوا، ابتلوا بالشَّهوات، ابتلوا بالشيطان، ومَن سلم منهم وعافاه الله صار أفضل من الملائكة الذين حفظوا من الشيطان، وحفظوا من الشَّهوات، فالذي يُكابد الشَّهوات ويُكابد الشيطان ويُجاهد نفسه في ذلك ليس مثل الذي حفظ وسلم، بينهما فرق عظيم.

وهذا السند الذي ذكره عثمان لا بأس به: هشام بن سعد جيد في روايته عن زيد بن أسلم، وليس به بأس. وعبدالله بن صالح جيد، وإن كانت له بعض الأوهام.

الطالب: وأما رواية عبدالله بن أحمد بن حنبل فإنها من زياداته في كتاب "السنة" الذي رواه عن أبيه، فقال عبدالله: حدَّثني الهيثم بن خارجة: حدَّثنا عثمان بن علاق، وهو عثمان بن حصن بن علاق، وكتب في المطبوعة: محصن، خطأ: سمعتُ عروة بن رويم يقول: أخبرني الأنصاري، عن النبي ﷺ.

فهذا إسناد ظاهره الصحة أيضًا، وإن لم أستطع أن أجزم بذلك؛ لأنَّ عروة بن رويم لم يُصرح فيه بأنَّ الأنصاري الذي حدَّثه به صحابي، فجهالة الصَّحابي لا تضرّ، وهو يروي عن أنس بن مالكٍ الأنصاري، فإن يكنه يكن الإسناد صحيحًا، وهذا محتمل جدًّا، وإن كنتُ لا أقطع به.

فإنَّ الحديث ذكره ابنُ كثير في "التفسير" نقلًا عن ابن عساكر بإسناده إلى عثمان بن علاق: سمعتُ عروة بن رويم اللَّخمي: حدَّثني أنس بن مالك، عن النبي ﷺ. فهذا قد يُرجح أنَّ الأنصاري في رواية عبدالله بن أحمد هو أنس بن مالك الأنصاري، ولكن إسناد ابن عساكر لم يتبين لي صحَّته من ضعفه.

وأيًّا ما كان، فرواية عبدالله بن أحمد ورواية ابن عساكر تصلحان للاستشهاد، وتُؤيدان صحَّة حديث عبدالله بن عمرو بإسناد الدَّارمي.

أما إعلاله من جهة المتن: فإنه غير جيدٍ ولا مقبول، فإنَّ الملائكة لم يعترضوا بهذا على ربِّهم، ولم يتبرموا بأحوالهم، وإنما سألوا ربَّهم، وهم عباد مُطيعون، يرضون بما أمرهم الربُّ تبارك وتعالى، إذا لم يستجب دعاءهم، ومثال ذلك: الآيات في خلق آدم في أول سورة البقرة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:30].

قلتُ: فلا نرى فيه ما ينهض على تصحيح الحديث، وإليك البيان بإيجازٍ:

أما قوله في طريق الدَّارمي: "وهذا إسناد صحيح لا مغمز فيه، وقد أشار الحافظُ ابن كثير إلى صحَّته" ففيه نظر لأمرين:

الأول: أنا لا نُسلم بصحته مع وجود عبدالله بن صالح في طريقه؛ فإنه إن كان البخاريُّ أخرج له في "صحيحه" فهو متكلم فيه من قبل حفظه، ولا يتسع هذا التَّعليق للإفاضة في ذكر أقوال الأئمَّة فيه، فحسبنا ما ذكره الحافظُ ابن حجر في ترجمته من "التقريب"، وهو إنما يذكر فيه عادةً خلاصة أقوال الأئمة فيمَن يُترجمه، قال: صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة.

الثاني: أننا لا نُسلم أيضًا أنَّ ابن كثير أشار إلى صحَّة الحديث؛ ذلك لأنَّ غاية ما قال فيه: وهو أصح. وهذا القول لا يُفيد تصحيحًا مطلقًا للحديث، بل تصحيحًا نسبيًّا، وهو لا يُنافي ضعفه، كما في قول الترمذي في كثيرٍ من الأحاديث: هو أصح شيءٍ في الباب. فهذا لا يُؤخذ منه صحَّة الحديث كما هو مقرر في المصطلح، فكذلك قول الحافظ ابن كثير هنا والله أعلم.

حديث عبدالله بن أحمد بسنده عن الأنصاري: فلا شكَّ في عدالة رواته باستثناء الأنصاري، وإنما البحث في كون الأنصاري إنما هو أنس بن مالك ؛ لأنه إن كان هو فالحديث متَّصل الإسناد، صحيح كما قال الشيخ أحمد، لكن استئناسه على ذلك برواية ابن عساكر التي نقلها عن تفسير ابن كثير مما لا يصلح له؛ لأنَّ ابن عساكر أورده من طريق محمد بن أيوب بن الحسن الصيدلاني، وفي ترجمته ساق الحديث، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، ودونه جماعة لم أجد مَن ترجمهم، فمثل هذا الإسناد الواهي لا يترجح به كون الأنصاري هو أنس.

على أنني قد وقفتُ له في ابن عساكر على طريقٍ أخرى ضعيفة أيضًا سُمي فيه الصَّحابي عبدالله جابر الأنصاري، أخرجه من طريق هشام بن عمار: حدَّثنا عبد ربه بن صالح القرشي قال: سمعتُ عروة بن رويم يُحدث عن جابر بن عبد الله الأنصاري مرفوعًا به.

والقرشي هذا لم أجد له ترجمةً، وهشام بن عمار وإن أخرج له البخاري فهو مُتكلَّم فيه أيضًا، قال الحافظ في "التقريب": صدوق مُقرئ، كبر فصار يتلقن.

وجملة القول أنَّ حديث ابن رويم هذا ضعيف؛ لجهالة الأنصاري، واضطراب الروايتين الأخيرتين في تعيينه: فأولاهما تقول: إنه أنس، والأخرى تقول: إنه جابر، ولا يصلح عندي تقويته بحديث عبدالله بن صالح؛ لاحتمال أنه مما أُدخل عليه، قال ابن حبان: كان في نفسه صدوقًا، وإنما وقعت المناكير في حديثه من قبل جارٍ له، كان بينه وبينه عداوة، كان يضع الحديثَ على شيخ أبي صالح، ويكتبه بخطٍّ يُشبه خطَّ عبدالله، ويرميه في داره بين كتبه، فيتوهم عبدالله أنه خطَّه؛ فيُحدِّث به.

هذا ويحتمل أن يكون أصلُ الحديث من الإسرائيليات التي كان يُحدث بها بعضُ الذين أسلموا من أهل الكتاب، ثم أخطأ بعضُ الرواة فرفعه إلى النبي ﷺ، كما صنعوا بقصة هاروت وماروت، والله أعلم.

الشيخ: الأقرب والله أعلم مثلما قال الأئمَّة المحققون: أن الأصل سلامة الإسناد، الإنسان قد يهم، قد يغلط، ما يمنع من صحَّة أسانيده إلا إذا عُرف الغلط والوهم، ولو أنَّ كل واحدٍ له أوهام بطلت أحاديثه لبطل الشيء الكثير، لكن الأصل في الثِّقة والصَّدوق السلامة حتى يتبين وجه الخطأ بمجيء طريقٍ أخرى ممن هو أوثق منه تُبين وجه الخطأ، وإلا فالأصل صحَّة رواية عبدالله بن صالح عن شيوخه، إلا ما ثبت خطؤه فيه.

س: كأنه يرى أنه يضعف بالاضطراب باسم الصَّحابي؟

ج: ...... الصحابي لا تضرّ جهالته، المقصود أنه ما يُدرى: هل هو صحابي أو غير صحابي، قد يكون أنصاريًّا وليس بصحابيٍّ، فيكون مرسلًا، ما يكون متَّصلًا عن النبي ﷺ، هذا مراده، فالأنصار فيهم الصَّحابة، وفيهم التابعون: عروة بن رويم عن أنصاري تابعي، فيكون مرسلًا، فإذا صرَّح به عُرف أنس أو جابر صار متَّصلًا، لا مُرسلًا.

س: من جهة إعلاله من جهة المعنى والمتن؟

ج: المتن ما فيه شيء، كون الملائكة يسألون ويُجيبهم الله لا شيءَ فيه، وما في هذا نكارة، والمسألة ليست من الأهمية بمكانٍ، سواء فضل هؤلاء على هؤلاء، أو هؤلاء على هؤلاء، ما لها كبير أهمية، صالحو البشر والملائكة كلهم في خيرٍ عظيمٍ وفضلٍ كبيرٍ، سواء فضل هؤلاء على هؤلاء، أو هؤلاء على هؤلاء، فالمسألة مثلما قال الفزاري: ليس من الأهمية بمكانٍ. ومذهب أهل السنة مع هذا يرون تفضيل الأنبياء والرسل وصالحي البشر على الملائكة للأسباب المتقدمة، والمعتزلة وجماعة يقولون: الملائكة أفضل؛ لأنهم معصومون من المعاصي، فهم أفضل، وبكل حالٍ فقول أهل السنة أظهر وأبين.

وَأَخْرَجَهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْأَنْصَارِيُّ، عن النبي ﷺ: أنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا .. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَيَنَامُونَ وَيَسْتَرِيحُونَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا، فَأَعَادُوا الْقَوْلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا.

وَالشَّأْنُ فِي ثُبُوتِهِمَا: فإنَّ في سنديهما مَقَالًا، وَفِي مَتْنِهِمَا شَيْئًا، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِالْمَلَائِكَةِ الاعتراض على الله مَرَّاتٍ عَدِيدَةً؟! وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]، وهل يُظن بهم أنَّهم مُتبرمون بأحوالهم، مُتشوقون إِلَى مَا سِوَاهَا مِنْ شَهَوَاتِ بَنِي آدَمَ؟! وَالنَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، فَكَيْفَ يَغْبِطُونَهُمْ بِهِ؟ وَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ يَغْبِطُونَهُمْ بِاللَّهْوِ، وَهُوَ مِنَ الْبَاطِلِ؟

قَالُوا: بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ؛ فَإِنَّ إِبْلِيسَ إِنَّمَا وَسْوَسَ إِلَى آدَمَ وَدَلَّاهُ بِغُرُورٍ، إِذْ أَطْمَعَهُ فِي أَنْ يَكُونَ مَلَكًا بِقَوْلِهِ: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20]، فَدَلَّ أَنَّ أَفْضَلِيَّةَ الْمَلَكِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الْفِطْرَةِ، يَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عن النُّسوة اللاتي قطعن أيديهن عِنْدَ رُؤْيَةِ يُوسُفَ: وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31]، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام:50].

قَالَ الْأَوَّلُونَ: إِنَّ هَذَا إِنَّمَا كَانَ لِمَا هو مركوز في النَّفس: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خَلْقٌ جَمِيلٌ عَظِيمٌ، مُقْتَدِرٌ عَلَى الْأَفْعَالِ الْهَائِلَةِ، خُصُوصًا الْعَرَبَ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْعَظَمَةِ بِحَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ. تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا.

الشيخ: وعبدوهم كذلك.

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33].

قَالَ الْآخِرُونَ: قَدْ يُذْكَرُ "الْعَالَمُونَ" وَلَا يُقْصَدُ بِهِ الْعُمُومُ الْمُطْلَقُ، بَلْ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِحَسَبِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ [الحجر:70]، أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ [الشعراء:165]، وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:32].

الشيخ: يعني: بني إسرائيل.

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7]. وَالْبَرِيَّةُ: مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبَرْءِ، بِمَعْنَى الْخَلْقِ، فَثَبَتَ أَنَّ صَالِحِي الْبَشَرِ خَيْرُ الْخَلْقِ.

قَالَ الْآخِرُونَ: إِنَّمَا صَارُوا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ لِكَوْنِهِمْ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَالْمَلَائِكَةُ فِي هَذَا الْوَصْفِ أَكْمَلُ، فَإِنَّهُمْ لَا يَسْأَمُونَ وَلَا يَفْتُرُونَ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ "الْبَرِيئَةِ" بِالْهَمْزِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، إِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْهَمْزَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا نِسْبَةٌ إِلَى الْبَرَى، وَهُوَ التُّرَابُ، كَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي "الصِّحَاحِ" يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ خير مَن خُلق من التراب، فلا عُمُومَ فِيهَا إِذًا لِغَيْرِ مَنْ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ.

قَالَ الْأَوَّلُونَ: إِنَّمَا تَكَلَّمْنَا فِي تَفْضِيلِ صَالِحِي الْبَشَرِ إِذَا كَمُلُوا، وَوَصَلُوا إِلَى غَايَتِهِمْ وَأَقْصَى نِهَايَتِهِمْ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ، وَنَالُوا الزُّلْفَى، وَسَكَنُوا الدَّرَجَاتِ الْعُلَا، وَحَبَاهُمُ الرَّحْمَنُ بِمَزِيدِ قُرْبِهِ، وَتَجَلَّى لَهُمْ لِيَسْتَمْتِعُوا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ.

وَقَالَ الْآخِرُونَ: الشَّأْنُ فِي أَنَّهُمْ هَلْ صَارُوا إِلَى حَالَةٍ يَفُوقُونَ فِيهَا الْمَلَائِكَةَ أَوْ يُسَاوُونَهُمْ فِيهَا؟ فَإِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِلَى حَالٍ يَفُوقُونَ فِيهَا الْمَلَائِكَةَ سُلِّمَ الْمُدَّعَى، وَإِلَّا فَلَا.

وَمِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172]، وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْوَزِيرُ أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِلْمَلِكِ، وَلَا الشُّرْطِيُّ أَوِ الْحَارِسُ! وَإِنَّمَا يُقَالُ: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الشُّرْطِيُّ أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِلْمَلِكِ وَلَا الْوَزِيرُ.

فَفِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ يَتَرَقَّى مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، فَإِذَا ثَبَتَ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَبَتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ دُونَ بَعْضٍ.

أَجَابَ الْآخِرُونَ بِأَجْوِبَةٍ، أَحْسَنُهَا، أَوْ مِنْ أَحْسَنِهَا: أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي فَضْلِ قُوَّةِ الْمَلَكِ وَقُدْرَتِهِ وَشِدَّتِهِ وَعِظَمِ خَلْقِهِ، وَفِي الْعُبُودِيَّةِ خُضُوعٌ وَذُلٌّ وَانْقِيَادٌ، وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْهَا، وَلَا مَنْ هُوَ أَقْدَرُ مِنْهُ وَأَقْوَى وَأَعْظَمُ خَلْقًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ الْأَفْضَلِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام:50]، وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ بِمَعْنَى: إِنِّي لَوْ قُلْتُ ذلك لادَّعيتُ فوق مَنْزِلَتِي، وَلَسْتُ مِمَّنْ يَدَّعِي ذَلِكَ.

أَجَابَ الْآخِرُونَ: بأنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا قَدْ قَالُوا: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان:7]، فَأُمِرَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنِّي بَشْرٌ مِثْلُكُمْ، أَحْتَاجُ إِلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْبَشَرُ مِنْ الِاكْتِسَابِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، لَسْتُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُمْ حَاجَةً إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَلَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ الْأَفْضَلِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ.

وَمِنْهُ مَا رَوَى مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قُوَّةَ الْبَشَرِ لَا تُدَانِي قُوَّةَ الْمَلَكِ وَلَا تُقَارِبُهَا.

قَالَ الْآخِرُونَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْبَشَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَلَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ فِي هَذَا الْعُمُومِ.

وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهُ قَالَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ ، قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ الْحَدِيثَ. وَهَذَا نَصٌّ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ.

قَالَ الْآخِرُونَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ خَيْرًا مِنْهُ لِلْمَذْكُورِ، لَا الْخَيْرِيَّةُ المُطلقة.

ومنه ما رواه إمامُ الأئمة محمد بن خُزَيْمَةَ بِسَنَدِهِ فِي كِتَابِ "التَّوْحِيدِ": عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ إذ جاء جبرائيل، فَوَكَزَ بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَقُمْتُ إِلَى شَجَرَةٍ مِثْلِ وَكْرَيِ الطَّيْرِ، فَقَعَدَ فِي إِحْدَاهُمَا، وَقَعَدْتُ فِي الْأُخْرَى، فَسَمَتْ وَارْتَفَعَتْ حَتَّى سَدَّتِ الْخَافِقَيْنِ، وَأَنَا أُقَلِّبُ بَصَرِي، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَمَسَّ السَّمَاءَ مسيت، فنظرتُ إلى جبرائيل كَأَنَّهُ حِلْسٌ لَاطِئٌ، فَعَرَفْتُ فَضْلَ عِلْمِهِ بِاللَّهِ عليَّ.

الطالب: علَّق عليه، قال: ضعيف؛ فيه الحارث بن عبيد الإيادي، وهو ضعيف؛ لسوء حفظه، وقول الشيخ أحمد شاكر: "تكلم فيه غير حجَّةٍ، والراجح توثيقه" مردود، فقد قال فيه الإمامُ أحمد: مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، يُكتب حديثه، ولا يُحتج به. وقال ابن حبان: كان ممن كثر وهمه حتى خرج عن جملة مَن يُحتج بهم إذا انفردوا. ومن المقرر في المصطلح أنَّ الجرح المفسر مُقدَّم على التَّعديل، وقد تبين من هذه الكلمات أنَّ ضعفه بسبب وهمه، ومن الغريب أنه ليس هناك نقل عن إمامٍ في توثيقه، وأحسن ما قيل فيه قول النَّسائي: صالح. أفمثل هذا يرد نصوص الأئمة الجارحة؟! انتهى.

الشيخ: ...........

الطالب: محمد بن خزيمة في كتابه بسنده في كتاب "التوحيد".

الشيخ: ..........

الطالب: شاكر رحمه الله قال: رواه البزار والطبراني في "الأوسط"، ورجاله رجال الصحيح. قلتُ: بينا في "المسند" ذلك.

س: تلقيب ابن خزيمة بإمام الأئمَّة؟

ج: هذا مشهور عنه؛ لأجل نشاطه في الرد على أهل البدع، وقوته على أهل البدع رحمه الله، إمام الأئمة في زمانه.

............

س: ما معنى: حلس لاطئ؟

ج: بمعنى: البساط، وما أشبهه، يعني: متواضع.

الحارث بن عبيد، "التقريب" عندك.

............

الطالب: الحارث بن عبيد الإيادي -بكسر الهمزة بعدها تحتانية- أبو قدامة، البصري، صدوق يُخطئ، من الثامنة. (البخاري تعليقًا، ومسلم وأبو داود والترمذي).

الشيخ: ...........

قال الآخرون: في سَنَدِهِ مَقَالٌ، فَلَا نُسَلِّمُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ.

وَحَاصِلُ الْكَلَامِ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ فُضُولِ الْمَسَائِلِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَتَوَقَّفَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فِي الْجَوَابِ عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ: فَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِمَنْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْ رُسُلِهِ، وَالْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ رُسُلًا سِوَاهُمْ وَأَنْبِيَاءَ لَا يَعْلَمُ أَسْمَاءَهُمْ وَعَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي أَرْسَلَهُمْ، فَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِهِمْ جُمْلَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي عَدَدِهِمْ نَصٌّ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر:78].

وَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِأَنَّهُمْ بَلَّغُوا جَمِيعَ مَا أُرْسِلُوا بِهِ عَلَى مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَأَنَّهُمْ بَيَّنُوهُ بَيَانًا لَا يَسَعُ أَحَدًا مِمَّنْ أُرْسِلُوا إليه جهله، ولا يحل خِلَافُهُ، قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النحل:35]، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النحل:82]، وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [التغابن:12].

وَأَمَّا أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فَقَدْ قِيلَ فيهم أقوال، أحسنها ما نقله البغوي وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّهُمْ نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7]، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى:13].

س: الأثر المروي أنَّ عدد الأنبياء مئة وأربعة وعشرون ألفًا، والرسل ثلاثمئة وبضعة عشر؟

ج: كما ذكرها الحافظُ ابن كثير في "التفسير"، ولكن لا تخلو من مقالٍ وضعفٍ، لا أعلم فيه طريقًا سليمة.

وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ: فَتَصْدِيقُهُ وَاتِّبَاعُ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا.

وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ: فَنُؤْمِنُ بِمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا فِي كِتَابِهِ، مِنَ التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ، وَالزَّبُورِ، وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى سِوَى ذَلِكَ كُتُبًا أَنْزَلَهَا عَلَى أَنْبِيَائِهِ، لَا يَعْرِفُ أَسْمَاءَهَا وَعَدَدَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.

الشيخ: وهذا باب واسع؛ فإنَّ ما أجمله الله أجملناه، وما فصَّله الله فصَّلناه، وما بيَّنه بيَّناه، وآمنا به مُفصلًا، وهذا في الملائكة، وفي أسماء الله وصفاته، وفي الكتب، وفي الرسل، وفي أخبار القيامة والجنة والنار، كلها على هذا الباب، ما جاء في النصوص من الآيات القرآنية وفي الأحاديث الصَّحيحة مُفصلًا مُسمًّى آمنا به مفصلًا مُسمًّى على حسب علمنا، وما لم يأتِ فيه ذلك آمنا به مجملًا بأنَّ لله أسماء وصفات بيَّن منها ما بيَّن ، ولله رسل، ولله ملائكة، ولله كتب، بيَّن منها ما بيَّن، وما بيَّنه آمنا به على التَّفصيل: كنوح وهود وموسى، والتوراة والإنجيل والزبور، وجبريل وميكائيل وإسرافيل، إلى غير ذلك، وما أجمل أجملناه.

وهكذا أخبار الآخرة من الجنة والنار، وما يكون في آخر الزمان، ما جاء مفصلًا في النصوص آمنا به مُفصلًا: من الدجال، وعيسى ابن مريم، ويأجوج ومأجوج، والدابة، وغير ذلك. وما كان في الآخرة مما يتعلق بالحساب والجزاء والصراط، وأول زمرة تدخل الجنة، وثاني زمرة، ووصف ما في الجنة، ووصف ما في النار، كله على حسب النصوص؛ لأنَّ هذا ليس للعقل فيه مجال، بل هذا من علم الغيب، فما جاءت به النصوص آمنا به على ما جاء في النصوص، وما لا وكل إلى الله .

وقد بيَّن أنه أنزل الكتب على الأنبياء: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [الحديد:25]، ورد أنه أنزل عليهم الكتاب والميزان، وهكذا قوله: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [البقرة:213] يعني: جنس الكتاب، دلَّ على أنَّ الرسل والأنبياء معهم كتب، لكن تفصيلها إليه .

وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ: فَالْإِقْرَارُ بِهِ، وَاتِّبَاعُ مَا فِيهِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ، فَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَى رُسُلِ اللَّهِ أَتَتْهُمْ مِنَ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهَا حَقٌّ وَهُدًى وَنُورٌ وَبَيَانٌ وَشِفَاءٌ، قَالَ تَعَالَى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:136]، الم ۝ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ إلى قوله: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:1- 4]، آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285]، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء:82]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِهَا، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ مِنْ عِنْدِهِ، وَفِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ صِفَةِ الْكَلَامِ وَالْعُلُوِّ.

وَقَالَ تَعَالَى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [البقرة:213]، وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ۝ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41- 42]، وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ [سبأ:6]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا [التغابن:8]، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرة.

الشيخ: وهي هدى، وهي شفاء، وهي رحمة لمن وُفق للأخذ بها والتَّمسك بها، وعلاج ما في قلبه من الأمراض والشُّكوك والجهل، وعلاج ما في المجتمع من الشرِّ والفساد، فهي شفاء لهؤلاء، أما مَن أعرض وأبى واستكبر، فهي عليه عمى، نعوذ بالله، كما أخبر جلَّ وعلا: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44].

فالمقصود أنَّ الله جلَّ وعلا جعلها شفاء لمن اهتدى بها واستشفى بها وأقبل عليها، وقبل ما فيها من الحقِّ، فإنَّ الله يهدي بها إلى الصراط المستقيم، ويشفي بها أمراض قلبه من الشُّكوك والأوهام والجهل والنِّفاق وغير هذا، ومَن صدَّ عنها وأعرض واستكبر عن ذلك فهي عليه عمى، فهي عليه شقاء، وعاقبته وخيمة، نسأل الله العافية.

قَوْلُهُ: (وَنُسَمِّي أَهْلَ قِبْلَتِنَا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مُعْتَرِفِينَ، وَلَهُ بِكُلِّ مَا قَالَهُ وَأَخْبَرَ مُصَدِّقِينَ).

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَهُوَ الْمُسْلِمُ، لَهُ مَا لَنَا، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا.

وَيُشِيرُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذَا الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ بِارْتِكَابِ الذَّنْبِ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ.

وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: "أَهْلَ قِبْلَتِنَا" مَنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَيَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي، مَا لَمْ يُكَذِّبْ بِشَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ.

وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: "وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ"، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: "وَالْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَاحِدٌ، وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ".

الشيخ: وهذا كما سيأتي فيه التَّفصيل، أهل السنة والجماعة لهم في هذا قولان:

أحدهما: أنَّ الإسلام والإيمان شيء واحد، سواء اجتمعا أو افترقا، هما شيء واحد، فالإسلام: هو الخضوع لله؛ للأوامر الظاهرة، والإيمان: الاعتقاد بالقلب والتَّصديق، خلافًا لأهل النِّفاق.

وقال قومٌ من أهل السنة والجماعة: هما واحد، إذا انفرد أحدُهما عن الآخر فهما واحد: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19] يعني: والإيمان، ومن هذا الحديث الصحيح: الإيمان بضع وسبعون شعبة يعني: والإسلام داخلٌ فيه، أما إذا اجتمعا في نصٍّ فإنَّ الإسلام هو الأعمال الظَّاهرة، والإيمان هو الأعمال الباطنة، كما في حديث جبريل حين سأله عن الإسلام والإيمان، فسَّر له الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفسَّر له الإيمان بالأعمال الباطنة، فلا منافاة، فلا إسلامَ إلا بإيمانٍ، ولا إيمانَ إلا بإسلامٍ، ولكن الإيمان أخصّ.

وهكذا قصة الأعراب لما قالوا: آمَنَّا قال الله: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، فالإيمان أخص وأكمل، فكل مؤمنٍ مسلم لا العكس، فالإسلام دائرته أوسع، يدخل فيه الفاسق والمبتدع الذي لم تُخرجه بدعته إلى الكفر، ويدخل فيه المؤمن المستقيم، فالإيمان أخص، المؤمن عند الإطلاق هو الذي استكمل أداء الواجب، وابتعد عن المحرم، ولم يُصرّ على معصيةٍ، فصار أخصّ، ويأتي تفصيله إن شاء الله على كلام المؤلف حين قال: "والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء".

س: وقوله: ولا نُكفِّر أحدًا من أهل القبلة بذنبٍ ما لم يستحلَّه؟

ج: المراد من دون الشرك، دون ما يُسمَّى: شركًا، كسائر المعاصي والبدع، هذا قول أهل السنة في الجملة، مثل: ما لو لم يُزَكِّ، أو لم يُصلِّ، أو لم يصم، لكنه مؤمن بهذه الأمور، يكون عاصيًا، لا كافرًا، أما الاستهزاء فهذا مضمونه التَّكذيب، المستهزئ في ضمن كلامه التَّكذيب؛ ولهذا يكفر عند الجميع، المستهزئ كافر عند الجميع؛ لأنَّ استهزاءه يدل على مرضٍ في قلبه، وشكٍّ في قلبه، نسأل الله العافية.

س: إذا كان مقصوده الإضحاك لا التَّكذيب؟

ج: ولو، يدل على استخفافه بالدين، وأنه ليس عنده إيمان يردعه، نسأل الله العافية.

س: المُصرُّ على المعصية يدخل في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]؟

ج: من هذا الوجه -من وجه اتباع الهوى- ولا شكَّ أنَّ مثل هذا إلهه هواه يكون كافرًا، ويكون عاصيًا، فالزاني والسارق اتَّبع هواه، والمغتاب والنَّمام اتَّبع هواه، لكن اتباع الهوى أوسع من الشرك، كل مشركٍ قد اتبع هواه، وليس كل مُتبعٍ هواه مشركًا شركًا أكبر، ومَن يسلم من اتباع الهوى في الجملة؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.

قَوْلُهُ: (وَلَا نَخُوضُ فِي اللَّهِ، وَلَا نُمَارِي فِي دِينِ اللَّهِ).

يُشِيرُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى الْكَفِّ عن كلام المُتكلمين الباطل، وذمّ عِلْمِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْإِلَهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23].

الشيخ: وهذان الأصلان هما أصل كل كافر ومبتدع وفاسق: اتباع الهوى والظن، يحملهم على كفرهم وفسقهم وضلالهم اتِّباعهم الهوى واتِّباعهم الظنّ، فلا علمَ صحيح، ولا قصد صحيح، فالعلم ظنون، والقصد مدخول باتباع الهوى، بخلاف الموحد المؤمن؛ فإنه يتبع الحقَّ، ولا ينقاد للهوى، بل يُخلص لله وحده عن علمٍ صحيحٍ، لا عن جهلٍ وهوى.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَنْطِقَ فِي ذَاتِ اللَّهِ بِشَيْءٍ، بَلْ يَصِفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ".

وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْحَقُّ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: مَنْ أَلْزَمْتُهُ الْقِيَامَ مَعَ أَسْمَائِي وَصِفَاتِي أَلْزَمْتُهُ الْأَدَبَ، وَمَنْ كَشَفْتُ لَهُ حَقِيقَةَ ذَاتِي أَلْزَمْتُهُ الْعَطَبَ، فَاخْتَرِ الْأَدَبَ أَوِ الْعَطَبَ.

وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَشَفَ لِلْجَبَلِ عَنْ ذَاتِهِ سَاخَ الْجَبَلُ وَتَدَكْدَكَ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى عَظَمَةِ الذَّاتِ.

قَالَ الشِّبْلِيُّ: الِانْبِسَاطُ بِالْقَوْلِ مَعَ الْحَقِّ تَرْكُ الْأَدَبِ.

وَقَوْلُهُ: "وَلَا نُمَارِي فِي دِينِ اللَّهِ" مَعْنَاهُ: لَا نُخَاصِمُ أَهْلَ الْحَقِّ بِإِلْقَاءِ شُبُهَاتِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ عَلَيْهِمْ، الْتِمَاسًا لِامْتِرَائِهِمْ وَمَيْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ إِلَى الْبَاطِلِ، وَتَلْبِيسِ الْحَقِّ، وَإِفْسَادِ دِينِ الْإِسْلَامِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، فَعَلَّمَهُ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدًا ﷺ، وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا نَقُولُ بِخَلْقِهِ، وَلَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ).

س: كلام الشبلي: الانبساط بالقول مع الحقِّ ترك الأدب؟

ج: يعني: مراده التَّكلف والتَّنقيب عن أشياء ما ليس لك به علم، مثل ما وقع فيه نُفاة القدر والمجبرة وأشباههم، يعني: التوسع في الأقوال في ذات الرب وصفاته على غير دليلٍ يُفضي إلى معاطب كثيرةٍ: إما إلى الإلحاد والقول بوحدة الوجود، وإما إلى إنكار القدر، وإما إلى الجبر، والعياذ بالله، وإما إلى ما هو شرّ من ذلك: كالانسلاخ من الدِّين -نسأل الله العافية- والشك.

فالواجب على المسلم التَّأدب بالآداب الشرعية، والوقوف مع النصوص، وعدم التَّوسع والدُّخول في أقوالٍ ليس له فيها أساس ولا أصل، فترك ما لا يعلمه علم، وعدم الدُّخول فيما لا يعلمه علم؛ ولهذا قالوا في هذا الباب: أسماء الله وصفاته توقيفية، ليس للعقل فيها مجال، فلا نُثبت إلا ما أثبته الله ورسوله، ولا ننفي إلا ما نفاه الله ورسوله، وما سوى ذلك نقف: لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [البقرة:32].

قال أحمد رحمه الله: لا يُوصَف الله إلا بما وصف به نفسه، أو صفه به رسولُه عليه الصلاة والسلام، لا يُتجاوز القرآن والحديث.

ورُوي هذا المعنى من كلام غيره، والوجه من ذلك أنَّ العقل عاجز عن أن يعرف التفاصيل -تفاصيل صفات الله - لأنه لا مثلَ له ولا كُفْءَ له حتى يُقاس على غيره، ومَن لا مثلَ له فكيف تُعلم صفاته بغير نصٍّ منه؟!

فهذا الحق الذي لا ريبَ فيه، كما قاله أهلُ السنة والجماعة؛ أنَّ الواجب أن نقوم مع النصوص، والحذر من الخروج عنها في باب أسماء الله وصفاته، كما أنَّ الواجب في باب أسماء الإيمان والدِّين وباب التَّكفير هو الوقوف مع النصوص، والحذر من تحكيم الآراء بغير حُجَّةٍ.

س: ألا يُعرف بعضها بالعقل -بعض الصفات- لأنه خالق، واحد، رازق؟

ج: هي جاءت بما يُوافق العقول السليمة، والفِطر الصحيحة، لكن تفاصيلها ليس للعقل فيها مجال، إنما يعرفونها جملةً: أنه خلَّاق، رزاق، مدبر، عالم، إلى غير ذلك، لكن التفاصيل ليس له فيها قدرة؛ ولهذا ألَّف شيخُ الإسلام كتابًا سمَّاه: "مطابقة صحيح المنقول لصريح المعقول"، فالنُّقول الصحيحة مُوافقة للعقول الصحيحة والفِطَر السليمة، لكن ليس لها مجال في التَّفصيل، بل في الجملة.

س: المقصود الالتزام بالألفاظ؛ لأننا أحيانًا إذا خاطبنا غير العرب نستعمل ألفاظًا ..؟

ج: توضح المعنى، لا بأس، لا تخرج عن النصوص، فهنا أسماء وصفات معلومة بالعقل والنص جميعًا، وهناك صفات لا مجال للعقل فيها، جنس الإيمان بوجود الله، وأنه عليم بكل شيءٍ، وأنه القادر على كل شيءٍ، وأنه الخالق لهذا العالم، وأشباهها، وهذه أمور معلومة بالنَّقل والعقل جميعًا، لكن أمورًا أخرى مثل: الضحك، وما أشبه ذلك من النزول، إلى غير هذا من الصفات التي تحتاج إلى نقلٍ.

س: ...........؟

ج: نعم، يقول بعض السلف: "لا أدري نصف العلم"؛ لأنَّ الأشياء قسمان: قسم تعلمه، وقسم لا تعلمه، فصار الذي لا تعلمه نصفًا.