18 الإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان

قَوْلُهُ: (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ. وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ. وَالْإِيمَانُ وَاحِدٌ، وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ، وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى).

اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ "الْإِيمَانِ" اخْتِلَافًا كَثِيرًا: فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه وَسَائِرُ أَهْلِ الحديث، وأهل المدينة، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ -إِلَى أَنَّهُ تَصْدِيقٌ بِالْجَنَانِ، وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ.

الشيخ: وهذا هو المشهور عند أهل السنة والجماعة، عندهم هو هذا: قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يعني: قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، بخلاف ما ذكره عن الحنفية أنه اعتقاد بالجنان، وقول باللسان فقط، دون العمل، ويأتي في بقية البحث.

وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ: أَنَّهُ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ رُكْنٌ زَائِدٌ لَيْسَ بِأَصْلِيٍّ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .

وَذَهَبَ الْكَرَّامِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ! فَالْمُنَافِقُونَ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنُونَ كَامِلُو الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ .............

الشيخ: ........ مؤمن أيضًا؛ لأنه يعرف ربَّه وعصاه على بصيرةٍ، نسأل الله العافية.

س: القدرية هل لهم دليل ظاهر على اعتقادهم؟

ج: وكل هذه أقوال باطلة، ولكن أحبَّ المؤلفُ أن يذكرها فقط، وأن يُبين أقوال الناس، وإلا فهي باطلة مخالفة لشرع الله، ليس لهم دليل ظاهر على اعتقادهم.

وَأَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا يَعْرِفُونَ النَّبِيَّ ﷺ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ، بَلْ كَافِرِينَ بِهِ، مُعَادِينَ لَهُ، وَكَذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ عِنْدَهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا، فَإِنَّهُ قَالَ:

وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا

بَلْ إِبْلِيسُ يَكُونُ عِنْدَ الْجَهْمِ مُؤْمِنًا كَامِلَ الْإِيمَانِ! فَإِنَّهُ لَمْ يَجْهَلْ رَبَّهُ، بَلْ هُوَ عَارِفٌ بِهِ: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36]، قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39]، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]، وَالْكُفْرُ عِنْدَ الْجَهْمِ هُوَ الْجَهْلُ بِالرَّبِّ تَعَالَى، وَلَا أَحَدَ أَجْهَلُ مِنْهُ بِرَبِّهِ! فَإِنَّهُ جَعَلَهُ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ، وَسَلَبَ عَنْهُ جَمِيعَ صِفَاتِهِ، وَلَا جَهْلَ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا، فَيَكُونُ كَافِرًا بِشَهَادَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ.

وَبَيْنَ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذَاهِبُ أُخَرُ بِتَفَاصِيلَ وَقُيُودٍ، أَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِهَا اخْتِصَارًا، ذَكَرَ هَذِهِ الْمَذَاهِبَ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ فِي "تَبْصِرَةِ الْأَدِلَّةِ" وَغَيْرِهِ.

الطالب: عُرف بأبي المعين، قال: هو ميمون بن محمد بن محمد، أبو المعين، النَّسفي، الحنفي، عالم بالأصول وبالكلام، كان بسمرقند، وسكن بخارى، له كتب عدة، توفي 508.

وَحَاصِلُ الْكُلِّ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلف من الأئمَّة الثلاثة وغيرهم، كَمَا تَقَدَّمَ. أَوْ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ دُونَ الْجَوَارِحِ، كَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. أَوْ بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنِ الْكَرَّامِيَّةِ. أَوْ بِالْقَلْبِ وَحْدَهُ، وَهُوَ إِمَّا بالْمَعْرِفَة، كَمَا قَالَهُ الْجَهْمُ، أَوِ التَّصْدِيق، كما قاله أبو منصور الماتريدي. وَفَسَادُ قَوْلِ الْكَرَّامِيَّةِ وَالْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ ظَاهِرٌ.

وَالِاخْتِلَافُ الَّذِي بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَئِمَّةِ الْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ اخْتِلَافٌ صُورِيٌّ؛ فَإِنَّ كَوْنَ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ لَازِمَةً لِإِيمَانِ الْقَلْبِ، أَوْ جُزْءًا مِنَ الْإِيمَانِ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ، بَلْ هُوَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ -نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ، لَا يَتَرَتَّبُ عليه فسادُ اعْتِقَادٍ.

وَالْقَائِلُونَ بِتَكْفِيرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ ضَمُّوا إِلَى هَذَا الْأَصْلِ أَدِلَّةً أُخْرَى، وَإِلَّا فَقَدَ نَفَى النَّبِيُّ ﷺ الْإِيمَانَ عَنِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَشَارِبِ الْخَمْرِ وَالْمُنْتَهِبِ، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ زَوَالَ اسْمِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، اتِّفَاقًا.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْعِبَادِ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ، وَأَعْنِي بِالْقَوْلِ: التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ، وَهَذَا الَّذِي يُعْنَى بِهِ عِنْدَ إِطْلَاقِ قَوْلِهِمُ: "الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ"، لَكِنَّ هَذَا الْمَطْلُوبَ مِنَ الْعِبَادِ هَلْ يَشْمَلُهُ اسْمُ "الْإِيمَانِ"، أَمِ الْإِيمَانُ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ الْقَوْلُ وَحْدَهُ، وَالْعَمَلُ مُغَايِرٌ لَهُ، لَا يَشْمَلُهُ اسْمُ "الْإِيمَانِ" عِنْدَ إِفْرَادِهِ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِمَا كَانَ مَجَازًا؟ هَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ.

الشيخ: والمقصود أنَّ أهل السنة والجماعة من الصحابة ومَن سلك سبيلهم يقولون: إنَّ الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعاصي، والأدلة من الكتاب والسنة كلها تُؤيد هذا، وتدل على أنَّ الإيمان يشمل قول القلب وقول اللسان، ويشمل عمل القلب والجوارح، وكلها تُسمَّى: إيمانًا، والآيات من القرآن الكريم واضحة في ذلك، كثيرة، وكذلك السنة عن النبي ﷺ واضحة في ذلك؛ فإنَّ الله جلَّ وعلا أمر عباده بالإيمان، وفصَّله في الآيات في بيان أعمال الإيمان، قال جلَّ وعلا: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا [التغابن:8]، والنور الذي أنزل فيه الأعمال وفيه الأقوال، كلها داخلة فيما أنزل، والناس مأمورون بالإيمان بهذا والإيمان بهذا، وهكذا الإيمان بكل ما حرَّم الله، وأنه حقٌّ، كله داخل في الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136].

فالمقصود أنَّ الإيمان يشمل كلَّ ما أمر الله بالتَّصديق به، ويشمل كلَّ ما نهى الله عنه إيمانًا بتحريمه والنَّهي عنه، وهكذا قوله ﷺ: الإيمان بضع وسبعون شعبة -أو قال: بضع وستون شعبة- فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق داخل فيه كل شيءٍ مما شرعه الله وأمر به من قولٍ وعملٍ، وهكذا قوله سبحانه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] يعني: صلاتكم.

فأهل السنة والجماعة قولهم في هذا هو الصواب، وقول الحنفية في هذا ضعيف، وإن قالوا: إنه متوعد، إن عصى وترك الواجبَ فهو متوعد، لكن إخراجهم للأعمال من الإيمان خطأ واضح، ويأتي بقية البحث في هذا.

س: قول الشارح: (الخلاف لفظي)؟

ج: على إطلاقه ليس بجيدٍ، يعني: إن كان مؤمنًا كاملًا كيف يُعاقب على الأعمال إذا تركها؟! فهو متناقض، فتحوا باب التَّساهل بدين الله وركوب محارم الله.

س: ............؟

ج: هذا غلط، وقولهم: "خلاف صوري ومجازي" غلط، ليس بجيدٍ، بل هو حقيقة؛ فإنَّ أهل السنة والجماعة يقولون: مَن عصى فإيمانه ناقص، وهم يقولون: إيمانه كامل، إذا كان إيمانه كاملًا كيف يُعذَّب؟! سبحان الله!

س: ..............

ج: ................

وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ، وَأَقَرَّ بِلِسَانِهِ، وَامْتَنَعَ عَنِ الْعَمَلِ بِجَوَارِحِهِ: أَنَّهُ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، مُسْتَحِقٌّ لِلْوَعِيدِ.

الشيخ: هذا الإجماع إذا صحَّ من المرجئة يكون ما قاله الشارحُ من كون الخلاف لفظيًّا بين أهل السنة والمرجئة يكون قريبًا إذا أجمعوا على أنَّ مَن آمن بقلبه وصدَّق بلسانه، ولكن لم ينقد بالعمل، فما صلَّى، ولا صام؛ أنه مستحق للوعيد، أو دخول النار، فهذا هو قول أهل السنة والجماعة، لكن نقرأ قولهم أنه يكون كامل الإيمان؛ لإيمانه بقلبه وبلسانه، إذا قال: إنه كامل الإيمان، كيف يكون هذا الإجماع؟! إذا كان كامل الإيمان كيف يستحق الوعيد؟ فحكاية الإجماع مع قول المرجئة: أنَّ العمل ليس من الإيمان يتضمن بعض النظر.

س: مَن آمن بقلبه ولسانه ولم يعمل بجوارحه؟

ج: هذا محل خلافٍ بين العلماء، فمَن قال: إنَّ ترك الصلاة كفر، يقول: هو مخلَّد في النار، ومَن قال: إنه كفر أصغر، يكون حكمه حكم سائر الكبائر؛ تحت المشيئة.

لَكِنْ فِيمَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَعْمَالَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي مُسَمَّى "الْإِيمَانِ" مَنْ قَالَ: لَمَّا كَانَ "الْإِيمَانُ" شَيْئًا وَاحِدًا فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق وعمر! بل قال: كإيمان الأنبياء والمُرسلين وجبرائيل وميكائيل!

وَهَذَا غُلُوٌّ مِنْهُ، فَإِنَّ الْكُفْرَ مَعَ الْإِيمَانِ كَالْعَمَى مَعَ الْبَصَرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبُصَرَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي قُوَّةِ الْبَصَرِ وَضَعْفِهِ، فَمِنْهُمُ الْأَخْفَشُ والأعشى، ومَن يَرَى الْخَطَّ الثَّخِينَ، دُونَ الدَّقِيقِ إِلَّا بِزُجَاجَةٍ ونحوها، ولا يَرَى عَنْ قُرْبٍ زَائِدٍ عَلَى الْعَادَةِ، وَآخَرُ بِضِدِّهِ.

الشيخ: يعني: أن المبصرين بالنسبة للعُميان كالمؤمنين فيما يتعلق بإيمانهم بالله واليوم الآخر، وكما أن المبصرين يتفاوتون في إبصارهم، فهكذا المؤمنون يتفاوتون في إيمانهم، فليس إيمانُ الرسل والأنبياء والصّديقين كإيمان مَن دونهم، لا قولًا، ولا قلبًا، ولا عملًا، فمَن قال: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، وإيمان الأنبياء، وإيمان أبي بكر وعمر، وأنه لا يتفاوت. فهذا جهل صرف، وغفلة، وغلو زائد، حتى إيمان أهل البلد الواحدة والقبيلة الواحدة يتفاوت، فكيف بالأمم؟! كيف بالأنبياء والمؤمنين والصّديقين؟! هذا من أقوال الغُلاة الضَّالين!

س: هل الآن تبين أنَّ مَن هم مَن لم يجمع على هذا الكلام .....؟

ج: فيه تفصيل؛ أنَّ مَن يقول: العمل ليس من الإيمان، فيه من التَّفصيل ..........

وَلِهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ)، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ التَّسَاوِيَ إِنَّمَا هُوَ فِي أَصْلِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّسَاوِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ تفاوت درجات نُورِ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فِي قُلُوبِ أهلها لا يُحصيه إلا الله تعالى؛ فمن الناس من نور "لا إله إلا الله" فِي قَلْبِهِ كَالشَّمْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهَا فِي قَلْبِهِ كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ، وَآخَرُ كَالْمِشْعَلِ الْعَظِيمِ، وَآخَرُ كَالسِّرَاجِ الْمُضِيءِ، وَآخَرُ كَالسِّرَاجِ الضَّعِيفِ؛ وَلِهَذَا تَظْهَرُ الْأَنْوَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَيْمَانِهِمْ وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ عَلَى هذا الْمِقْدَارِ، بِحَسَب مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَكُلَّمَا اشْتَدَّ نُورُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَعَظُمَ أَحْرَقَ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ بِحَسَبَ قُوَّتِهِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ رُبَّمَا وَصَلَ إِلَى حَالٍ لَا يُصَادِفُ شَهْوَةً وَلَا شُبْهَةً وَلَا ذَنْبًا إِلَّا أَحْرَقَهُ.

الشيخ: وهذا المعنى من كلام ابن القيم رحمه الله.

وَهَذِهِ حَالُ الصَّادِقِ فِي توحيده، فسماء إيمانه قد حُرس بِالرُّجُومِ مِنْ كُلِّ سَارِقٍ، وَمَنْ عَرَفَ هَذَا عَرَفَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، وَقَوْلِهِ: لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَا جَاءَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى ظَنَّهَا بَعْضُهُمْ مَنْسُوخَةً، وَظَنَّهَا بَعْضُهُمْ قَبْلَ وُرُودِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَحَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى نَارِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ، وَأَوَّلَ بَعْضُهُمُ الدُّخُولَ بِالْخُلُودِ، وَنَحْو ذَلِكَ.

الشيخ: ومثله ما جاء من حديث عُبادة بن الصَّامت: مَن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنَّة على ما كان من العمل، كل هذه الأحاديث متعلقة بلا إله إلا الله وبالتوحيد، معناها: مَن صدق في هذا الشيء، وقال كلمةَ التوحيد على حقيقتها عن إيمانٍ صادقٍ وإخلاصٍ ومعرفةٍ وبصيرةٍ بهذا المعنى؛ فإنَّ توحيده الخالص وإيمانه الصَّادق لا يدعه يُصرُّ على سيئةٍ، بل يحمله إيمانه الصَّادق وتوحيده الخالص على محاربة السَّيئات، وعدم الإصرار عليها، فيكون بمثابة مَن تاب توبةً نصوحًا، فلا تبقى له سيئة، فيكون من أهل الجنَّة، ويحرم على النار، فإذا ضعفت هذه الكلمة وضعف هذا الإيمان وقع في المعاصي، وصار تحت مشيئة الله، وصار من المتوعدين، وكلما قوي الإيمان بالله ورسوله وقوي الإخلاص والتوحيد انتفت السّيئات، وابتعد عن السيئات وحذرها، ولم يقم على شيءٍ منها، ولم يُصرّ على شيءٍ منها، ومتى قارف السّيئات ضعف إيمانه وضعف توحيده، وهكذا.

وَالشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ حَاصِلًا بِمُجَرَّدِ قَوْلِ اللِّسَانِ فَقَطْ، فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَهُمْ تَحْتَ الْجَاحِدِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَتَفَاضَلُ بِصُوَرِهَا وَعَدَدِهَا، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِتَفَاضُلِ مَا فِي الْقُلُوبِ.

وَتَأَمَّلْ حَدِيثَ الْبِطَاقَةِ الَّتِي تُوضَعُ فِي كِفَّةٍ، وَيُقَابِلُهَا تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مَدُّ الْبَصَرِ، فَتَثْقُلُ الْبِطَاقَةُ، وَتَطِيشُ السِّجِلَّاتُ، فَلَا يُعَذَّبُ صَاحِبُهَا.

الطالب: قال: صحيح، وهو من حديث عبدالله بن عمرو، أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما، وهو مخرَّج في الأحاديث الصحيحة وغيرها، وسيأتي لفظ الحديث في الكتاب.

الشيخ: ولا شكَّ أن هذه البطاقة بطاقة إخلاصٍ وصدقٍ وإيمانٍ كاملٍ، أحرقت السّيئات وأزالتها، وصار صاحبُ هذه البطاقة بمثابة التَّائب التوبة النَّصوح؛ لأنَّ إخلاصه وإيمانه أزال سيئاته وقضى عليها، وصفى قلبه وسلم من شرِّها، فمات على هذا، مات على توبةٍ صادقةٍ، وإيمانٍ صادقٍ، وابتعادٍ عن هذه المحرَّمات التي سُجلت عليه.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مُوَحِّدٍ لَهُ مِثْلُ هَذِهِ الْبِطَاقَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَدْخُلُ النَّارَ.

وَتَأَمَّلْ مَا قَامَ بِقَلْبِ قَاتِلِ الْمِئَةِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي لَمْ تَشْغَلْهُ عِنْدَ السِّيَاقِ عَنِ السَّيْرِ إِلَى الْقَرْيَةِ، وَحَمَلَتْهُ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنْ جَعَلَ يَنُوءُ بِصَدْرِهِ وهو يُعالج سكرات الموت.

وَتَأَمَّلْ مَا قَامَ بِقَلْبِ الْبَغِيِّ مِنَ الْإِيمَانِ حِينَ نَزَعَتْ مُوقَهَا وَسَقَتِ الْكَلْبَ مِنَ الرَّكِيَّةِ، فَغُفِرَ لَهَا.

وَهَكَذَا الْعَقْلُ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ، وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ، مُسْتَوُونَ فِي أَنَّهُمْ عُقَلَاءُ غَيْرُ مَجَانِينَ، وَبَعْضُهُمْ أَعْقَلُ مِنْ بَعْضٍ.

وَكَذَلِكَ الْإِيجَابُ وَالتَّحْرِيمُ، فَيَكُونُ إِيجَابٌ دُونَ إِيجَابٍ، وَتَحْرِيمٌ دُونَ تَحْرِيمٍ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ طَرَّدَ ذَلِكَ فِي الْعَقْلِ وَالْوُجُوبِ.

الشيخ: هذا لا يطرده العقل، العقول متفاوتة، والأذهان متفاوتة، والإيمان متفاوت، لا شكَّ في هذا.

س: البطاقة كأنَّها صغيرة؟

ج: ما فيها إلا شهادة "لا إله إلا الله"، ما فيها أعمال كثيرة .......

س: لم تعظم؟

ج: صغيرة، المكتوب فيها صغير، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، يعني: ما يحتاج إلى سجلٍّ طويلٍ.

وَأَمَّا زِيَادَةُ الْإِيمَانِ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَا وَجَبَ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْإِيمَانِ الْمُفَصَّلِ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ خَبَرُهُ، كَمَا فِي حَقِّ النَّجَاشِيِّ وَأَمْثَالِهِ.

وَأَمَّا الزِّيَادَةُ بِالْعَمَلِ وَالتَّصْدِيقِ الْمُسْتَلْزِمِ لِعَمَلِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ فَهُوَ أَكْمَلُ مِنَ التَّصْدِيقِ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُهُ، فَالْعِلْمُ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ صَاحِبُهُ أَكْمَلُ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ اللَّازِمُ دَلَّ عَلَى ضَعْفِ الْمَلْزُومِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَيْسَ الْمُخْبَرُ كَالْمُعَايِنِ.

الشيخ: هذا رواه أحمد بإسنادٍ جيدٍ، وفيه بعض الضَّعف، وفي اللَّفظ الآخر: ليس الخبرُ كالعيان، أيش قال عليه؟

الطالب: قال: صحيح، أخرجه أحمد والطبراني والخطيب وغيرهم بسندٍ صحيحٍ، بلفظ: ليس الخبر كالمعاينة، وانظر "تخريج المشكاة".

الشيخ: ما ذكر صحابيه؟

الطالب: يقول: أخرجه ابن حبان، وابن أبي حاتم فيما ذكره ابن كثير من طريقين: عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: يرحم الله موسى، ليس المعاين كالمخبَر، أخبره ربُّه عزَّ وجلَّ أنَّ قومه فُتنوا بعده، فلم يُلْقِ الألواحَ، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح، وسنده صحيح.

وأخرجه أحمد وابن حبان والحاكم بلفظ: ليس الخبر كالمعاينة، إنَّ الله أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يُلْقِ الألواح، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت، ورجاله ثقات، وهشيم وإن كان مُدلسًا فقد انتفت شُبهة تدليسه بمتابعة أبي عوانة في الرواية المتقدمة، وذكره السيوطي في "الدر"، وزاد نسبته لعبد بن حميد والبزار والطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه، وله شاهد عن أنسٍ عند الطبراني في "الأوسط"، وآخر من حديث أبي هريرة عند الخطيب البغدادي في "تاريخه".

ومعنى الحديث: ليس المعاينة كالخبر، بل هي أقوى وآكد؛ لأنَّ المخبر لا يطمئن قلبه وتزول عنه الشُّكوك في خبره، ويجوز عليه السَّهو والغلط.

الشيخ: وهذا صحيح، ومن هذا: علم اليقين، وعين اليقين، وحقّ اليقين؛ فإنَّ علم اليقين هو الخبر الصَّادق الثابت، وعين اليقين: المشاهدة، وهي أبلغ من علم اليقين، وحق اليقين أبلغ من عين اليقين، وهو المخالطة للشيء، والتَّحقق منه بالأمور الحسية غير البصر: كاللَّمس، وضربوا لهذا مثلًا فقالوا: لو جاء الخبرُ من طريق الثِّقات أنَّ الوادي سال، هذا علم اليقين، فإذا وقفتَ عليه ورأيتَ بعينك هذا عين اليقين، فإذا شربتَ منه أو توضَّأتَ منه صار حقّ اليقين، وهكذا أخبار الجنة والنار، فهي الآن علم اليقين عند أهل الإيمان، والذي شاهدها في الدنيا قبل الآخرة صارت عين اليقين، والناس يوم القيامة إذا شاهدوها صارت عين اليقين، فإذا دخل المؤمنون الجنة والكفار النار صار ذلك عندهم حقّ اليقين.

س: .............؟

ج: ......، لكن بكل حالٍ، فالمشاهدة غير الخبر، إلا إخبار الله جلَّ وعلا، ما يعتريه سهو ولا غلط، كأن المتكلم ما التفت إلى ......؛ لأنه ألقاها من شدَّة الغضب، لما عاين الأمر المنكر الفظيع ألقاها من شدة الغضب، ولما كان خبرًا صار أسهل، فلما شاهد الأمر الفظيع اشتدَّ غضبه عليهم وعِيل صبره فلم يتمالك حتى ألقى الألواح.

وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُخْبِرَ أَنَّ قَوْمَهُ عَبَدُوا الْعِجْلَ لَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَدْ عَبَدُوهُ أَلْقَاهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِشَكِّ مُوسَى فِي خَبَرِ اللَّهِ، لَكِنَّ الْمُخْبَرَ وَإِنْ جَزَمَ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ، فَقَدْ لَا يَتَصَوَّرُ الْمُخْبَرَ بِهِ فِي نَفْسِهِ، كَمَا يَتَصَوَّرُهُ إِذْ عَايَنَهُ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260].

الشيخ: ومقصود المؤلف بهذا أنَّ الإيمان يزيد وينقص، وأن زيادة الإيمان تختلف؛ فقد تكون الزيادةُ من غير فعل العبد واجتهاده، بل من مجيء الفرائض، كالذين أدركوا أول الإسلام، ثم أدركوا بقية الشَّرائع؛ زاد إيمانهم بما شرع الله لهم من الفرائض: كالصلاة والزكاة، زاد الإيمانُ بالشرائع الجديدة، وقوم ماتوا قبل ذلك، وصار إيمانهم كاملًا بالنسبة إلى حالهم؛ لأنهم لم يُفرض عليهم شيء ذلك الوقت سوى ما آمنوا به وصدَّقوا به، فهؤلاء إيمانهم كامل، وهؤلاء إيمانهم كامل، لكن هذا أكثر من هذا بما شرع الله من الفرائض في المدينة بعدما هاجر النبيُّ ﷺ، وتكون الزيادة من جهة عمل المؤمن، فيزداد إيمانه بطاعاته لله، واستكثاره من الحسنات، ويضعف إيمانه بعدم ذلك، ويضعف إيمانه أيضًا بالمعاصي.

فأهل السنة والجماعة يقولون: يزيد وينقص، الإيمان بالأعمال الصَّالحات يزداد، وبالغفلة والإعراض ينقص، وبالمعاصي ينقص، خلافًا للخوارج والمعتزلة الذين قالوا: لا يزيد ولا ينقص. وهذا من جهلهم بما يعقل، وبما شرع الله ، فقد جهلوا المعقول، وجهلوا المنقول جميعًا، كل إنسانٍ يعقل أنَّ الإيمان يزيد وينقص، وأن ليس إيمان أبي بكرٍ وعمر كإيمان مَن دونهم، وليس إيمانُ أهل العلم والبصيرة والتَّقوى والجهاد كإيمان المعرضين والغافلين، هذا معقول بلا حاجةٍ إلى النَّقل، فكيف بالنَّقل؟!

وَأَيْضًا فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَالزَّكَاةُ مَثَلًا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ أَنْ يَعْلَمَ مَا أُمِرَ به، ويُؤمن بأنَّ الله أوجب عليه مَا لَا يَجِبُ على غيره الإيمان به إِلَّا مُجْمَلًا، وَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الْإِيمَانُ الْمُفَصَّلُ.

الشيخ: يعني: لأنه دخل في الطَّاعات فيجب عليه أن يُؤمن أنَّ الله أوجب عليه الحجَّ مع استطاعته، لكن الإيمانَ المجملَ أن يعلم أنَّ الحجَّ واجب على المسلمين بشرطٍ، ولكن هو بعينه لما استطاع صار واجبًا عليه عينًا.

وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ أَوَّلَ مَا يُسْلِمُ، إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ الْمُجْمَلُ، ثُمَّ إِذَا جَاءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِوُجُوبِهَا وَيُؤَدِّيَهَا، فَلَمْ يَتَسَاوَ النَّاسُ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَامَ بِقَلْبِه التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الَّذِي لَا يَقْوَى عَلَى مُعَارَضَتِه شَهْوَة وَلَا شُبْهَة لَا تَقَعُ مَعَهُ مَعْصِيَة، وَلَوْلَا مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الشَّهْوَة وَالشُّبْهَة أَوْ إِحْدَاهُمَا لَمَا عَصَى، بَلْ يَشْتَغِلُ قَلْبُه ذَلِكَ الْوَقْت بِمَا يُوَاقِعُه مِنَ الْمَعْصِيَة، فَيَغِيبُ عَنْهُ التَّصْدِيقُ وَالْوَعِيدُ فَيَعْصِي؛ وَلِهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ ﷺ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْحَدِيثَ.

فَهُوَ حِينَ يَزْنِي يَغِيبُ عَنْهُ تَصْدِيقُه بِحُرْمَة الزِّنَا، وَإِنْ بَقِي أَصْلُ التَّصْدِيقِ فِي قَلْبِه، ثُمَّ يُعَاوِدُه، فَإِنَّ الْمُتَّقِينَ كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، قَالَ لَيْثٌ: عَنْ مُجَاهِدٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَهُمُّ بِالذَّنْبِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ فَيَدَعه. وَالشَّهْوَة وَالْغَضَبُ مَبْدَأُ السَّيِّئَاتِ، فَإِذَا أَبْصَرَ رَجَعَ.

الشيخ: وعند أهل السنة والجماعة أنَّ هذا نفي الإيمان الكامل الواجب: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن الحديث في "الصحيحين"، فالمعنى: لا يشربه وهو مؤمن كامل الإيمان؛ لضعف إيمانه بالشَّهوة والمعصية التي سبقت هذه المعصية، وبالجهل لعقوبة هذه المعصية وشأنها وخطرها عند الله؛ ولهذا قال بعضُ السلف: مَن عصى الله فهو جاهل.

والمقصود أنَّ مُواقعته للمعصية تُضعف إيمانه، فلو كان إيمانه كاملًا حين همَّ بهذه المعصية لما واقعها، ولكن لضعف الإيمان واستيلاء الغفلة والشيطان والشَّهوات المحرَّمة تُزعجه إلى هذه المعصية، فيكون بذلك قد فارقه الإيمانُ الكامل، وبقي معه أصل الإيمان بالله ورسوله وبتحريم هذه الأشياء.

س: ..............؟

ج: يعني: يُعاوده إيمانه، يرجع إليه إيمانه بالتوبة والرجوع إلى الله، يزيد إيمانه، وينقص إيمانه، يزيد بالطَّاعات، وينقص بالمعاصي، ثم يعود بالتوبة والرجوع إلى الله، وهكذا الإنسان في حياته بين جزرٍ ومدٍّ، بين زيادةٍ ونقصٍ.

س: ...............؟

ج: يعني: الإيمان الواجب، لا أصله؛ لأنه لو ارتفع كله لكفر وارتدَّ.

س: قول المُؤلف: (فهو حين يزني يغيب عنه تصديقه بحُرمة الزِّنا)؟

ج: ليس بجيدٍ، إنما يضعف التَّصديق، يضعف الإيمان بسبب غلبة الشَّهوة، ويغلب عليه أيضًا تذكر عفو الله ورحمة الله، وأنَّ هذا لا يُخرج من الملة، تأتيه مواد الشيطان وشُبهاته.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202] أَيْ: وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ تَمُدُّهُمُ الشَّيَاطِينُ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا الْإِنْسُ تُقْصِرُ عَنِ السَّيِّئَاتِ، وَلَا الشَّيَاطِينُ تُمْسِكُ عَنْهُمْ.

فَإِذَا لَمْ يُبْصِرْ يَبْقَى قَلْبُه فِي عَمًى، وَالشَّيْطَانُ يَمُدُّه فِي غَيِّه، وَإِنْ كَانَ التَّصْدِيقُ فِي قَلْبِه لَمْ يَكْذِبْ، فَذَلِكَ النُّورُ وَالْإِبْصَارُ وَتِلْكَ الْخَشْيَة وَالْخَوْفُ تَخْرُجُ مِنْ قَلْبِه.

وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُغْمِضُ عَيْنَيْه فَلَا يَرَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْمَى، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ بِمَا يَغْشَاه مِنْ رَيْنِ الذُّنُوبِ لَا يُبْصِرُ الْحَقَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْمَى كَعَمَى الْكَافِرِ.

وَجَاءَ هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا زَنَا الْعَبْدُ نُزِعَ مِنْهُ الْإِيمَانُ، فَإِنْ تَابَ أُعِيدَ إِلَيْهِ.

الشيخ: كالظُّلَّة.

الطالب: علَّق عليه: صحيح، أخرجه أبو داود والحاكم، وصحَّحه هو والذَّهبي، وهو مخرَّج في "الصَّحيحة".

وإذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعا لفظيا ، فلا محذور فيه سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق بسبب ذلك، وأن يصير ذَلِكَ ذَرِيعَة إِلَى بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ مِنْ أَهْلِ الْإِرْجَاءِ وَنَحْوِهِمْ، وَإِلَى ظُهُورِ الْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي؛ بِأَنْ يَقُولَ: أَنَا مُؤْمِنٌ مُسْلِمٌ حَقًّا، كَامِلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَلِي مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ! فَلَا يُبَالِي بِمَا يَكُونُ مِنْهُ مِنَ الْمَعَاصِي.

وَبِهَذَا الْمَعْنَى قَالَتِ الْمُرْجِئَة: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَه! وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا.

فَالْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ نَظَرَ إِلَى حَقِيقَة الْإِيمَانِ لُغَةً، مَعَ أَدِلَّةٍ مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ، وَبَقِيَّة الْأَئِمَّة رَحِمَهُمُ اللَّهُ نَظَرُوا إِلَى حَقِيقَتِه فِي عُرْفِ الشَّارِعِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ ضَمَّ إِلَى التَّصْدِيقِ أَوْصَافًا وَشَرَائِطَ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَمِنْ أَدِلَّة الْأَصْحَابِ لأبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ "الْإِيمَانَ" فِي اللُّغَة عِبَارَة عَنِ التَّصْدِيقِ، قَالَ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ إِخْوَة يُوسُفَ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17] أَيْ: بِمُصَدِّقٍ لَنَا، وَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى إِجْمَاعَ أَهْلِ اللُّغَة عَلَى ذَلِكَ.

ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِي -وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ- هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ حَقًّا لِلَّهِ، وَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَ الرَّسُولَ ﷺفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَمَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ فِيمَا بَيْنَه وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِقْرَارُ شَرْطُ إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا، هَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ؛ وَلِأَنَّهُ ضِدُّ الْكُفْرِ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ وَالْجُحُودُ، وَهُمَا يَكُونَانِ بِالْقَلْبِ، فَكَذَا مَا يُضَادُّهُمَا.

وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل:106] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَلْبَ هُوَ مَوْضِعُ الْإِيمَانِ، لَا اللِّسَانَ.

الشيخ: ولكن هذا عند أهل العلم والشرع باطل؛ لأنَّ الشارع زاد على ما في اللُّغة من العمل والقول، واللُّغة أيضًا لا تأبى ذلك، فإنَّ المصدق ما ينفع تصديقه إذا صدَّق باللسان ولا صدَّق بالعمل، فلو صدَّق بقلبه أنَّ هذا الخبر واقع، ولكنَّه يقول بلسانه: لا، ليس بواقعٍ، وفلان كاذب، ما نفع هذا التَّصديق، ولا سُمِّي: مُصدِّقًا، ولا مُؤمنًا، فلا بدَّ أن يكون إيمانُ القلب يتبعه شيء.

كذلك إذا كان صدَّق بقلبه ولسانه، ثم تأخَّر عن العمل المقتضي الذي يقتضيه هذا التَّصديق، صدَّق أنَّ أباه له حقّ بلسانه وقلبه، وأنه يجب برُّه، ولكن ما برَّه ولا أحسنَ إليه، يراه فقيرًا، يراه مريضًا، فلا يُبالي به، هل هذا يُسمَّى: مُصدِّقًا بأنَّ البرَّ حقٌّ؟ لا يمكن أن يكون مُصدِّقًا بأنَّ البرَّ حقٌّ.

كذلك تصديقه بقلبه أو بلسانه أنَّ الجهاد واجبٌ عليه، ويرى إخوانه محتاجين لجهاده ومُساعدته، والعدو قد أحاط بهم، ثم يقول: لا يجب عليَّ الجهاد، أنا صدَّقتُ بقلبي وصدَّقت بلساني، يكفي! كذب، لو صدَّق بقلبه ولسانه لانطلق في العمل؛ ولهذا تقول العرب: حملة صادقة، إذا كان معها العمل، العمل الذي يُؤيد القلب ويُؤيد القول يُسمَّى: صدقًا، ويُسمَّى: إيمانًا.

فاللغة وإن كان أصلُ الإيمان فيها بالقلب، لكن أيضًا في اللسان، وأيضًا في العمل، حتى في اللغة، فالمرجئة لا حُجَّة لهم في هذا، بل قولهم فاسد.

ثم لو سلمنا أنَّ اللغة فقط هي التَّصديق بالقلب أو باللسان مع القلب، فالشرع جاء بأمرٍ زائدٍ على هذا؛ جاء بالصلوات والأعمال الأخرى، وسمَّاها: إيمانًا، فوجب الأخذ بقول الشارع الذي جاء بالحقيقة العرفية، الحقيقة الشرعية، حقيقة اعتنى بها وأوجبها وألزم بها، فوجب الأخذ بالحقائق الشرعية وتقديمها على الحقائق العرفية، كما أنَّ الصلاة دعاء في الأصل، والصوم الإمساك عن الكلام، لكن الشارع جاء بالصلاة والصوم غير هذا؛ جاء بصلاةٍ غير الدعاء، صلاة فيها ركوع، فيها سجود، فيها قراءة، فيها تسبيح خاصّ، وجاء بصومٍ خاصٍّ، صوم عن أكلٍ، وعن شربٍ، وعن كذا، وعن كذا، ليس مجرد الإمساك فقط، وهكذا الحج أصله القصد -قصد المعظمين- لكن في الشرع جاء حجًّا خاصًّا، حجًّا فيه أعمال، فيه قصد عرفات ووقوف بها، وفيه عمل في منى وفي مُزدلفة، وعمل يتعلق بالكعبة، لا يكون الحج المجرد، بل يكون أعمالًا، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: الإيمان بضع وسبعون شعبة الحديث، وحديث وفد عبد القيس وغير ذلك.

فالمقصود أنَّ الواجب على أهل الإسلام الأخذ بعُرف الشرع والحقائق الشرعية وما زاد عليه الشرع، ولا يلتفت إلى اللغة مع الشرع، لو سلمنا أنَّ ما في اللغة خالف الكتاب، فالشرع له حقائق جاء بها غير مجرد ما في اللغة، أمسك ما في اللغة وزاد عليها أشياء فيها تكميل وفيها تشريع للعباد بما ينفعهم ويُصلح شؤونهم.

فقول المرجئة بكل حالٍ، سواء قالوا: إنَّ الإيمان تصديق القلب، أو بالقلب واللسان. وأخرجوا العمل، أو أخرجوا القولَ؛ كله باطل، كله غلط، مخالف للأحاديث الصَّحيحة، ومخالف للآيات القرآنية، ومخالف لإجماع سلف الأمة من الصحابة ومَن بعدهم، وليس بخلافٍ لفظيٍّ، بل خلاف جذري حقيقي؛ لأنَّ معناه أنَّ مَن قال باللسان وصدَّق بالقلب فإيمانه كامل، فإذا كان الإيمانُ كاملًا كيف يُعذَّب بالمعاصي؟! لا يستقيم ذلك.

وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ لَزَالَ كُلُّهُ بِزَوَالِ جُزْئِه.

الشيخ: ولا يلزم هذا، هذا غلط أيضًا، ما يلزم أن يزول الكلُّ بزوال الجزء، إذا زال منه جزء ..... في بعض الأحيان، أو الزكاة تأخَّر عنها، لا يزول الإيمانُ كله، والحيوان نفسه قد تُقطع يده، قد تُقطع رجله، ولا يزول، يبقى عاقلًا مُكلَّفًا مأمورًا منهيًّا، وقد زالت يده، أو زالت رجله، أو زالت يداه، أو زالت رجلاه، أو زالت أذنه، أو غير ذلك، فالإيمان يزيد وينقص، لا يزول كله بزوال بعضه، فإذا زلَّت قدمه وشرب الخمر أو زنى أو أربى لا يزول إيمانُه، أو تأخَّر عن الصيام مثلًا، أو عن الحجِّ مع قُدرته عليه لا يزول إيمانه، لكن يأثم.

وَلِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ عُطِفَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَة، قَالَ تَعَالَى: آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:25]، وغيرها فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ.

الشيخ: والقرآن يأتي بالألفاظ المتقاربة والمتغايرة عند الحاجة إلى تنويعها، وعند الإطلاق يدخل أفرادها في المطلق، فعند إطلاق الإيمان تدخل الأعمال، وعند التَّفصيل يذكر الربُّ بعضَ الأعمال للتأكيد فيها، لا لأنها خارجة من الإيمان، فإن الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات ليس معناها أنَّ الأعمال غير الإيمان، ولكن للتنصيص عليها؛ حتى يعلم أنها مُرادة، وأنه لا بدَّ منها، وهكذا قوله جلَّ وعلا: وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر]، ليس معناه أنه جعل التَّواصي بالحقِّ والتَّواصي بالصبر خارجًا عن الإيمان، بل هو داخل في الإيمان، لكن للتنصيص فائدة، وهكذا ما يأتي في النصوص.

وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَة عِبَارَة عَنِ التَّصْدِيقِ، بِمَنْعِ التَّرَادُفِ بَيْنَ التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ، فَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ يَصِحُّ فِي مَوْضِعٍ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ يُوجِبُ التَّرَادُفَ مُطْلَقًا؟

وَكَذَلِكَ اعْتُرِضَ عَلَى دَعْوَى التَّرَادُفِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّرَادُفِ: أَنَّهُ يُقَالُ لِلْمُخْبَرِ إِذَا صَدَّقَ: صَدَّقَه، وَلَا يُقَالُ: آمَنَه، وَلَا آمَنَ بِهِ، بَلْ يُقَالُ: آمَنَ لَهُ، كَمَا قَالَ تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26]، فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ [يونس:83]، وَقَالَ تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة:61]، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُعَدَّى بِالْبَاءِ وَالْمُعَدَّى بِاللَّامِ؛ فَالْأَوَّلُ يُقَالُ لِلْمُخْبَرِ بِهِ، وَالثَّانِي لِلْمُخْبِرِ.

وَلَا يَرِدُ كَوْنُه يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا؛ لِأَنَّ دُخُولَ اللَّامِ لِتَقْوِيَة الْعَامِلِ، كَمَا إِذَا تَقَدَّمَ الْمَعْمُولُ، أَوْ كَانَ الْعَامِلُ اسْمَ فَاعِلٍ، أَوْ مَصْدَرًا، عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِه.

فَالْحَاصِلُ أنَّه لَا يُقَالُ: قَدْ آمَنْتُه، وَلَا: صَدَّقْتُ لَهُ، إِنَّمَا يُقَالُ: آمَنْتُ لَهُ، كَمَا يُقَالُ: أَقْرَرْتُ لَهُ. فَكَانَ تَفْسِيرُه بِـ"أَقْرَرْتُ" أَقْرَبَ مِنْ تَفْسِيرِه بِـ"صَدَّقْتُ" مَعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ في المعنى، فَإِنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ عَنْ شَاهدٍ أَوْ غَيْبٍ يُقَالُ لَهُ فِي اللُّغَة: صَدَقْتَ، كَمَا يُقَالُ لَهُ: كَذَبْتَ. فَمَنْ قَالَ: السَّمَاءُ فَوْقَنَا. قِيلَ لَهُ: صَدَقْتَ.

وَأَمَّا لَفْظُ "الْإِيمَانِ" فَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، فَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ: طَلَعَتِ الشَّمْسُ: صَدَّقْنَاه. وَلَا يُقَالُ: آمَنَّا لَهُ، فَإِنَّ فيه أَصْلَ معنى الْأَمْنِ، وَالائتِمانُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، فَالْأَمْرُ الْغَائِبُ هُوَ الَّذِي يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُخْبِرُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ لَفْظُ: "آمَنَ لَهُ" إِلَّا فِي هَذَا النَّوْعِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يُقَابَلْ لَفْظُ "الْإِيمَانِ" قَطُّ بِالتَّكْذِيبِ، كَمَا يُقَابَلُ لَفْظُ "التَّصْدِيقِ"، وَإِنَّمَا يُقَابَلُ بِالْكُفْرِ، وَالْكُفْرُ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّكْذِيبِ، بَلْ لَوْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ، وَلَكِنْ لَا أَتَّبِعُكَ، بَلْ أُعَادِيكَ وَأُبْغِضُكَ وَأُخَالِفُكَ. لَكَانَ كُفْرًا أَعْظَمَ.

فَعُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ التَّصْدِيقَ فَقَطْ، وَلَا الْكُفْر هُوَ التَّكْذِيب فَقَطْ، بَلْ إِذَا كَانَ الْكُفْرُ يَكُونُ تَكْذِيبًا، وَيَكُونُ مُخَالَفَة وَمُعَادَاة بِلَا تَكْذِيبٍ، فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَكُونُ تَصْدِيقًا وَمُوَافَقَةً ومُوالاةً وَانْقِيَادًا، وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ، فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ جُزْءَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ.

وَلَوْ سُلِّمَ التَّرَادُفُ فَالتَّصْدِيقُ يَكُونُ بِالْأَفْعَالِ أَيْضًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنُ تَزْنِي، وَزِنَاهَا السَّمْعُ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُه.

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِي رَحِمَهُ اللَّهُ: "لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي، وَلَكِنَّه مَا وَقَرَ في الصُّدورِ وَصَدَّقَتْه الْأَعْمَالُ".

وَلَوْ كَانَ تَصْدِيقًا فَهُوَ تَصْدِيقٌ مَخْصُوصٌ، كَمَا في الصَّلاة وَنَحْوِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ هَذَا نَقْلًا لِلَّفْظِ وَلَا تَغْيِيرًا له، فَإِنَّ الله لَمْ يَأْمُر بِإِيمَانٍ مُطْلَقٍ، بَلْ بِإِيمَانٍ خَاصٍّ وَصَفَه وَبَيَّنَه.

فَالتَّصْدِيقُ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ أَدْنَى أَحْوَالِه أَنْ يَكُونَ نَوْعًا مِنَ التَّصْدِيقِ الْعَامِّ، فَلَا يَكُونُ مُطَابِقًا لَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ مِنْ غَيْرِ تَغير اللسانِ وَلَا قَلْبِه، بَلْ يَكُونُ الْإِيمَانُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مُؤَلَّفًا مِنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، كَالْإِنْسَانِ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّه حَيَوَانٌ نَاطِقٌ؛ ولِأَنَّ التَّصْدِيقَ التَّامَّ الْقَائِمَ بِالْقَلْبِ مُسْتَلْزِمٌ لِمَا وَجَبَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، فَإِنَّ هذه لَوَازِم الْإِيمَانِ التَّامِّ، وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ.

وَنَقُولُ: إِنَّ هذه لوَازِم تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى اللَّفْظِ تَارَةً، وَتَخْرُجُ عَنْهُ أخرى، أَوْ: إِنَّ اللَّفْظَ بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ فِي اللُّغَة، وَلَكِنَّ الشَّارِعَ زَادَ فِيهِ أَحْكَامًا، أَوْ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ اسْتَعْمَلَه فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِي، فَهُوَ حَقِيقَة شَرْعِيَّة، مَجَازٌ لُغَوِي، أَوْ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَقَلَه الشَّارِعُ. وهذه الأَقْوَال لِمَنْ سَلَكَ هَذا الطَّرِيقَ.

وَقَالُوا: إِنَّ الرَّسُولَ قَدْ وَقفَنَا عَلَى مَعَانِي الْإِيمَانِ، وَعَلِمْنَا مِنْ مُرَادِه عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّ مَنْ قالَ: إِنَّهُ صَدَّقَ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِه بِالْإِيمَانِ، مَعَ قُدْرَتِه عَلَى ذَلِكَ، وَلَا صَلَّى، وَلَا صَامَ، وَلَا أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَا خَافَ اللَّهَ، بَلْ كَانَ مُبْغِضًا لِلرَّسُولِ، مُعَادِيًا لَهُ، يُقَاتِلُه -أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ.

كَمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ رَتَّبَ الْفَوْزَ وَالْفَلَاحَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْإِخْلَاصِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُمَا؛ فَقَدْ قَالَ ﷺ: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أعلاها قَوْلُ: لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَة الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ.

طالب: عندنا: فأفضلها.

الشيخ: عند مسلم: فأفضلها، وكأنه رواه بالمعنى.

وَقَالَ أَيْضًا: الْحَيَاءُ شُعْبَة مِنَ الْإِيمَانِ، وَقَالَ أيضًا ﷺ: أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَقَالَ أَيْضًا: الْبَذَاذَة مِنَ الْإِيمَانِ.

 

الشيخ: علَّق عليه؟

الطالب: علَّق على الحديث الأول والثاني:

أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا قال: صحيح؛ رواه أبو داود وابن حبان والحاكم وأحمد وغيرهم.

وأما حديث: الْبَذَاذَة مِنَ الْإِيمَانِ فقال عنه: حسن؛ رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم وأحمد والطبراني، والمراد بـ"البذاذة" التَّواضع في اللباس، وترك التَّبجح به.

الشيخ: يعني: في بعض الأحيان يُلاحظ الإنسانُ هذا تارةً وهذا تارةً، الجمال تارة، والبذاذة في بعض الأحيان للتَّواضع وكسر النَّفس.

الطالب: وهو كما قال أحسن الله إليك؟

الشيخ: لا بأس به، نعم.

فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ أَصْلًا لَهُ شُعَبٌ مُتَعَدِّدَة، وَكُلُّ شُعْبَةٍ مِنْهَا تُسَمَّى: إِيمَانًا، فَالصَّلَاة مِنَ الْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاة وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَالْأَعْمَالُ الْبَاطِنَة: كَالْحَيَاءِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْخَشْيَة مِنَ اللَّهِ وَالْإِنَابَة إِلَيْهِ، حَتَّى تَنْتَهِي هَذِهِ الشُّعَبُ إِلَى إِمَاطَة الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّهُ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ.

الشيخ: وهذا قول أهل السنة والجماعة، هم الصحابة، إذا قيل: "أهل السنة والجماعة" فالمراد بهم أصحاب النبي ﷺ وأتباعهم بإحسانٍ، هم أهل السنة والجماعة، أهل السنة: يعني للعمل بسنة النبي ﷺ والكتاب والاجتماع على ذلك، فهم أصحاب النبي ﷺ، ويقال لهم: أهل الكتاب والسنة، وأهل الجماعة، والمعنى: أنهم هم الذين أخذوا بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، واجتمعوا على ذلك، وتواصوا بذلك، وهم أصحاب النبي ﷺ ومَن سلك سبيلهم من أئمة الهدى إلى يومنا هذا.

فعندهم الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، قول القلب: اعترافه وتصديقه وإيمانه. وعمله: حبّه وبُغضه؛ حبّه في الله، وبُغضه في الله، والإخلاص والمحبَّة والخوف والرَّجاء، كل هذا من عمل القلب.

وعمل الجوارح: الصَّلوات والجهاد والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك.

وقول اللسان: تصديقه وعمله ما يفعله من الأذكار، فهو يُصدق ويعمل بما يأتي من أذكارٍ وتسبيحٍ وتحميدٍ ودعاءٍ وأمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكرٍ وغير ذلك.

وبهذا تكون شُعب الإيمان كثيرة، بخلاف مَن قال: إنَّ الإيمان قول فقط، أو تصديق القلب فقط، أو تصديق القلب واللسان فقط. فإن الشعب تكون قليلةً.

وأهل السنة والجماعة أخذوا هذا من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فإنَّ الكتاب والسنة دلَّ على أنَّ الإيمان قول وعمل: الصلاة إيمان، والزكاة إيمان، والصوم إيمان، والحج إيمان، والحب في الله والبُغض في الله إيمان، إلى غير ذلك؛ ولهذا قالوا: يزيد وينقص، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي.

ومما ورد في هذا صحيحًا في السنة: قوله ﷺ لوفد عبد قيس: آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تُؤدُّوا خُمس ما غنمتُم تُسمَّى هذه الأمور: إيمانًا.

وهكذا حديث أبي بكر في "الصحيحين": الإيمان بضع وسبعون شعبة، ثم قال: فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان، فجعل عملَ القلب وعملَ الجوارح إيمان، فالحياء من أعمال القلب، وإماطة الأذى عن الطريق من أعمال الجوارح، وقول "لا إله إلا الله" من قول اللسان وعمل اللسان، جعل هذا كله إيمانًا، فإذا اجتهد في الصلاة والصيام والصدقات والجهاد زاد إيمانه، وإذا غفل وأعرض نقص إيمانه، وإذا أقدم على معصيةٍ من المعاصي: من غيبةٍ ونميمةٍ، أو زنا، أو سرقة، أو ربا؛ نقص إيمانه، وضعف إيمانه، فإذا تاب إلى الله ورجع وأناب زاد إيمانه، وهكذا.

س: كما هو معلوم أنَّ ناسًا يعتقدون أنَّه لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، ويعتنون بكل أركان الإسلام، ولكن اختلف عليهم الأمرُ: يرتكبون بعض المُنكرات أو الشركيات: كالطواف عند القبور، وكمُناجاة عند الأموات، وما أشبه ذلك؟

ج: إذا أتى الإنسانُ نظر في عمله الآخر، إذا أتى بالصلاة والصيام والشَّهادتين ونحو ذلك نظر في عمله الآخر؛ فإن كان عمله الذي خالف فيه شرع الله معاصٍ، مثل: السرقة، وهو يعلم أنها محرمة، مثل: عقوق الوالدين، مثل: قطيعة الرحم، وما أشبه ذلك، فهذا نقص في الإيمان، وضعف في الإيمان. أما إذا كان يتعلق بالشرك فهذا يُنافي الإيمان، فالذي يتعلق بالأموات: يدعوهم، يستغيث بهم، ينذر لهم، ويطوف بقبورهم يرجو البركة منهم؛ هذا كفر أكبر، هذا يُبطل الإيمان، مثل: الذي توضأ ثم يُحدث، إذا توضأ الإنسان ثم خرج منه الريح ماذا يصير حكم طهوره؟ بطل وضوؤه، فهكذا الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، ويُصلي، ويصوم، ثم يسبّ الدين، أو يستهزئ بالدِّين، أو يستهزئ بالمصحف ويجعله تحت أقدامه إهانةً له، أو يسبّ الأنبياء، أو يسب النبي محمد ﷺ؛ فإنه يكون كافرًا لا مسلمًا، وصلاته وصومه تبطل ولا تنفع.

فهكذا إذا دعا الأموات: يا سيدي أغثني، يا سيدي البدوي، يا سيدي فلان، أو يا سيدي الميرغني، وأشباههم، معنى هذا مثل الحدث في الطَّهارة، الشرك بالله يُبطل الأعمال والإيمان، كما أنَّ الحدث يُبطل الطَّهارة.

فالواجب التوبة والرجوع إلى الله، فإذا تاب إلى الله ورجع إلى الله واستقام على الإيمان ثبت إيمانه، وإن بقي على الشرك بطل إيمانه؛ ولهذا قال سبحانه: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وقال سبحانه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5].

فلو أنَّ إنسانًا يصوم النهار ويقوم الليل، ويؤدي الصَّلوات الخمس، ويزكي، ويتعبد، ولا يترك شيئًا من الأعمال، لكن يقول: مُسيلمة نبي، ماذا يكون؟ يكون كافرًا، أو يقول: المختار ابن أبي عبيد نبي، أو يقول: محمد كذَّاب، أو يسب الدِّين، ويقول: إنَّ الدين خُرافة، ولكن أنا أُجامل الناس وأصوم مع الناس وأُصلي مع الناس؛ يكون منافقًا كافرًا.

س: مثل هؤلاء الجماعات بعضهم ما وصلتهم الحُجَّة؟

ج: يُعلَّمون، بعض أهل العلم يتوقف عن الكفر، يقول: أعماله، ولكن نتوقف عن كفره حتى نُبين له، ثم إن أجاب فالحمد لله، وإلا وجب قتله، إذا كان هناك ولي أمرٍ يُقيم الحدود؛ لأنَّ الحجَّة لا بدَّ من بيانها، مثلما قال سبحانه: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فإذا كان مثله يجهل، لكن اليوم أكثر الناس لا يُبالي، لا يريد الدين، وإذا أردتَ أن تُعلمه يأبى عليك، وربما قاتلك؛ لأنه قد أقام على هذا الشرك، واستقرَّ في قلبه، وعظم تقليده لأسلافه، فإذا قلت: هذا عمل باطل، وهذا شرك؛ لأنَّ الله قال كذا، والرسول قال كذا. قال: لا، أنت تبغض الصَّالحين، تبغض الأنبياء. أو يقول: أنت وهَّابي. أو ما أشبه ذلك من العبارات، ما يرضى أن يُنبه على باطله، هذه حال كثيرٍ منهم أو أكثرهم، نسأل الله العافية، لكن لا يمنع هذا من البيان إذا جاء الله بالسلطان الذي يُقيم الحدود على هؤلاء.

س: هل تُؤكل ذبائحُهم؟

ج: ولا تُؤكل ذبائحهم إذا كانوا يطوفون بقبور الأموات؛ لأنَّ أعمالهم أعمال أهل الشرك، ولا تُنكح نساؤهم.

وَهَذِهِ الشُّعَبُ مِنْهَا مَا يَزُولُ الْإِيمَانُ بِزَوَالِهَا إِجْمَاعًا، كَشُعْبَة الشَّهَادَتين، وَمِنْهَا مَا لَا يَزُولُ بِزَوَالِهَا إجماعًا، كَتَرْكِ إِمَاطَة الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ.

الشيخ: وهذه المسائل مسائل عظيمة، وأكثر الخلق ليس عندهم الفهمُ كما ينبغي، يسمعون بعض الأحاديث ولا يفهمونها، مثل: حديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: مَن قال: لا إله إلا الله، صادقًا من قلبه دخل الجنَّة، إنَّ الله حرَّم على النار مَن قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله، وما أشبه ذلك، لا يفهمون أنَّ المراد: مَن قالها وأدَّى حقَّها، وإلا معناه تضاربت النُّصوص، وأبطل بعضُها بعضًا، المعنى: أنَّ مَن قال: لا إله إلا الله، وأدَّى حقَّها من أداء الواجبات والفرائض، وترك المحارم، وترك الشرك، والتصديق بما قاله الله ورسوله، فلا بدَّ من شيءٍ واحدٍ، لا بدَّ أن تجمع أطرافه، يجمع هذا مع هذا، فمَن آمن ببعضٍ وكفر ببعضٍ ما صحَّ إيمانه، بل لا بدَّ أن يُؤمن بالجميع.

وَبَيْنَهُمَا شُعَبٌ مُتَفَاوِتَة تَفَاوُتًا عَظِيمًا، مِنْهَا مَا يَقْرُبُ مِنْ شُعْبَة الشَّهَادَة، وَمِنْهَا مَا يَقْرُبُ مِنْ شُعْبَة إِمَاطَة الْأَذَى.

وَكَمَا أَنَّ شُعَبَ الْإِيمَانِ إِيمَانٌ، فَكَذَا شُعَبُ الْكُفْرِ كُفْرٌ، فَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ الله مَثَلًا مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ كُفْرٌ، وَقَدْ قَالَ ﷺ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْه بِيَدِه، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِه، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِه، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي لَفْظٍ: لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ.

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ؛ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ.

الطالب: قال: صحيح، وهو مخرج في "تخريج المشكاة".

تعليق آخر: أخرجه أحمد وأبو داود من حديث أبي أمامة، وسنده حسن. ولأحمد وأبي داود من حديث أبي ذرٍّ مرفوعًا: أفضل الأعمال الحبُّ في الله والبُغض في الله. وللترمذي من حديث معاذ بن أنسٍ نحو حديث أبي أمامة، وسنده قوي. ولأحمد عن عمرو بن الجموح: لا يحقّ لعبدٍ حقّ صريح الإيمان حتى يُحبَّ لله ويُبغض لله. ولأحمد أيضًا عن البراء: أوثق عُرى الإسلام: الحب في الله والبُغض في الله، وله شاهد من حديث ابن مسعودٍ عند الطَّبراني.

الشيخ: جزاه الله خيرًا، حديث ابن عباسٍ المشهور.

وَمَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ أَصْلُ حَرَكَة الْقَلْبِ، وَبَذْلُ الْمَالِ وَمَنْعُه هُوَ كَمَالُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَالَ آخِرُ الْمُتَعَلِّقَاتِ بِالنَّفْسِ، وَالْبَدَنُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْمَالِ، فَمَنْ كَانَ أَوَّلُ أَمْرِه وَآخِرُه كُلُّهُ لِلَّهِ كَانَ اللَّهُ إِلَهَه فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَهُوَ إِرَادَة غَيْرِ اللَّهِ وَقَصْدُه وَرَجَاؤُه، فَيَكُونُ مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّة عَلَى قُوَّة الْإِيمَانِ وَضَعْفِه بِحَسَب الْعَمَلِ.

وسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَأْنِ الصَّحَابَة: (وَحُبُّهُمْ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ، وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَطُغْيَانٌ)، فَسَمَّى حُبَّ الصَّحَابَة: إِيمَانًا، وَبُغْضَهُمْ: كُفْرًا.

وَمَا أَعْجَبَ مَا أَجَابَ بِهِ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِي وَغَيْرُهُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ شُعَبِ الْإِيمَانِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَنَّ الرَّاوِيَ قَالَ.

الشيخ: هذا من مصائب التَّقليد، ومن آفات التقليد، نعوذ بالله، نسأل الله العافية.

وَهُوَ أَنَّ الرَّاوِيَ قَالَ: "بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ"، فَقَدْ شَهِدَ الرَّاوِي بِفعله نَفْسِه حَيْثُ شَكَّ فَقَالَ: "بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ"، وَلَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ الشَّكُّ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ!

الشيخ: وهذا ليس شكًّا للرواة، قد يقع للراوي الشكُّ، وليس معناه أن الرسول هو الذي شكَّ، الراوي هو الذي شكَّ، هذا إذا ضبط شكّ الراوي، فهو يدل على إتقان الرواة وعنايتهم وحرصهم على ضبط الأمور، وأن لا يقولوا على الرسول إلا بحقٍّ، فإخباره بشكِّه دليل على قوة إيمانه وصلابة إيمانه، وعظمة خوفه من الله، لا على غفلته، لكن نعوذ بالله من الهوى، ونعوذ بالله من سُوء القصد، ونعوذ بالله من آفة التَّقليد الأعمى، من أجل تقليد أبي حنيفة في نفي كون العمل من الإيمان، نسأل الله العافية.

............

الطالب: عبدالله بن ميمون بن محمد بن محمد أبو المعين النَّسفي، متكلم، فقيه أصولي، كان بسمرقند، وسكن بخارى توفى 508هـ.

الشيخ: والمقصود أنَّ الأحناف في الإيمان قولهم رديء؛ لأنهم من مُرجئة الفقهاء، هم على خلاف قول أهل السنة والجماعة في هذا.

فَطَعَنَ فِيهِ بِغَفْلَة الرَّاوِي وَمُخَالَفَتِه الْكِتَابَ.

فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الطَّعْنِ مَا أَعْجَبَه! فَإِنَّ تَرَدُّدَ الرَّاوِي بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ ضَبْطِه، مَعَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّمَا رَوَاهُ: بِضْعٌ وَسِتُّونَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ.

وَأَمَّا الطَّعْنُ بِمُخَالَفَة الْكِتَابِ: فَأَيْنَ فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِه؟! وَإِنَّمَا فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى وِفَاقِه، وَإِنَّمَا هَذَا الطَّعْنُ مِنْ ثَمَرَة شُؤْمِ التَّقْلِيدِ وَالتَّعَصُّبِ.

س: .............؟

ج: من أعظم الآيات في بيان أنَّ العمل من الإيمان قوله سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، فجعل كلَّ هذا من الإيمان، من أعمال المؤمنين.

س: محاولة الشَّارح التوفيق بين الرَّأيين؟

ج: ليس بجيدٍ، بناه على أنهم مُجمعون على أنَّ مَن ترك الواجبَ أو فعل المحرَّم فقد عصى الله ورسوله، فهو مُتوعد بالعذاب، فيكون الخلاف لفظيًّا، وليس الأمر كذلك، فإنَّ لازمهم أنَّ مَن اكتمل إيمانه لا يضرّه شيء، كما تقوله المرجئة صريحًا: لا يضرُّ مع الإيمان شيء، والإيمان هو الذي في القلوب.

س: مسألة الاستثناء في الإيمان، الأحناف ما يقولون بعموم الاستثناء على الإطلاق، هذه من ثمرة الخلاف، فهل يكون لفظيًّا؟

ج: أصل الخلاف في هذا معروف، منهم مَن يرده إلى العاقبة: الوفاة والخاتمة، ومنهم مَن يرده إلى العمل، وأهل السنة والجماعة يرون الاستثناء، ويقولون: إن شاء الله، لكن لا يعلم كمل أو ما كمل، لا يدرون: هل يموتون على ذلك أم لا؟

وهم يلزمهم أيضًا أن يقولوا بالمشيئة؛ لأنهم ما يضمنون لأنفسهم حُسن الخاتمة، ولا ينظرون لأنفسهم أن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل على الصَّحيح، الإيمان يتفاوت حتى في القلب، إيمان القلب يتفاوت، غير إيمان العمل.

س: لكن يمنعون؟

ج: ينظر في أصولهم ومذهبهم، لكن يلزمهم ذلك، يلزمهم أن يقولوا مثلما قال أهلُ السنة والجماعة؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منا لا يدري: هل يُختم له بحُسن الخاتمة أم لا؟ ولا يدري: هل استكمل الواجبات أم لا؟ والواجبات منها ما هو قلبي، ومنها ما هو جارحي، فيلزمهم مثلما قال أهلُ السنة والجماعة، ولا يلزم من هذا شك، الشك لا يلزم.

وَقَالُوا أَيْضًا: وَهُنَا أَصْلٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّ الْقَوْلَ قِسْمَانِ: قَوْلُ الْقَلْبِ، وَهُوَ الِاعْتِقَادُ. وَقَوْلُ اللِّسَانِ، وَهُوَ التَّكَلُّمُ بِكَلِمَة الْإِسْلَامِ. وَالْعَمَلُ قِسْمَانِ: عَمَلُ الْقَلْبِ، وَهُوَ نِيَّتُه وَإِخْلَاصُه. وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ. فَإِذَا زَالَتْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ زَالَ الْإِيمَانُ بِكَمَالِه، وَإِذَا زَالَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ لَمْ يَنْفَعْ بَقِيَّة الأخر.

الشيخ: لأنه صار منافقًا، ..... إذا زال إيمانُ القلب ما نفعت الأخرى.

الطالب: قال في الأصل: الأجزاء.

الشيخ: كله صحيح: الأجزاء أو الأخر.

فَإِنَّ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ شَرْطٌ فِي اعْتِبَارِهَا وَكَوْنِهَا نَافِعَة، وَإِذَا بَقِي تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَزَالَ الْبَاقِي فَهَذَا مَوْضِعُ الْمَعْرَكَة.

وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ طَاعَة الْجَوَارِحِ عَدَمُ طَاعَة الْقَلْبِ، إِذْ لَوْ أَطَاعَ الْقَلْبُ وَانْقَادَ لَأَطَاعَتِ الْجَوَارِحُ وَانْقَادَتْ، وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ طَاعَة الْقَلْبِ وَانْقِيَادِه عَدَمُ التَّصْدِيقِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلطَّاعَة، قَالَ ﷺ: إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ، فَمَنْ صَلَحَ قَلْبُه صَلَحَ جَسَدُه قَطْعًا، بِخِلَافِ الْعَكْسِ.

وَأَمَّا كَوْنُه يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ جُزْئِه زَوَالُ كُلِّهِ، فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الْهَيْئَة الِاجْتِمَاعِيَّة لَمْ تَبْقَ مُجْتَمِعَةً كَمَا كَانَتْ، فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ بَعْضِهَا زَوَالُ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ، فَيَزُولُ عَنْهُ الْكَمَالُ فَقَطْ.

الشيخ: وهذا مثل الإنسان؛ لا يلزم من زوال أجزائه زواله، فلو قُطعت يده أو رجله ما زال اسمه: إنسانًا، يكون إنسانًا ناقصًا، هكذا الإيمان عند أهل السنة، إذا زالت منه شعبةٌ من الشُّعب التي تُخرجه من الإسلام: كشعبة الصيام عند الجمهور بأنه كان مُصدِّقًا، ولكنه لا يصوم، فهي كبيرة يُعاقب عليها، أو زالت منه شعبةٌ من شعب عدم استقامته على برِّ والديه أو صلة رحمه، أو إقدامه على بعض المعاصي، فلا يلزم من هذا زوال أصل الإيمان.

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].

وَكَيْفَ يُقَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا: إِنَّ الزِّيَادَة بِاعْتِبَارِ زِيَادَة الْمُؤْمِنِ بِهِ؟! فَهَلْ فِي قَوْلِ النَّاسِ: قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ زِيَادَة مَشْرُوعٍ؟ وَهَلْ فِي إِنْزَالِ السَّكِينَة عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ زِيَادَة مَشْرُوعٍ؟ وَإِنَّمَا أَنْزَلَ اللَّهُ السَّكِينَة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مَرْجِعَهُمْ مِنَ الْحُدَيْبِيَة؛ لِيَزْدَادُوا طُمَأْنِينَةً وَيَقِينًا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ [آل عمران:167]، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124- 125].

وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْفَقِيه أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِي فِي تَفْسِيرِه عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ وَأَبُو الْقَاسِمِ السَّابَاذِي قَالَا: حَدَّثَنَا فَارِسُ بْنُ مَرْدَوَيْه قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بن الْعَابِد قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُطِيعٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ أبي الْمُهَزِّمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ وَفْدُ ثَقِيفٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟ فَقَالَ: لَا، الْإِيمَانُ مُكَمَّلٌ فِي الْقَلْبِ، زِيَادَتُه كفر، وَنُقْصَانُه شركٌ.

الشيخ: هذا من الموضوعات بلا شكِّ، نسأل الله العافية.

الطالب: علَّق عليه قال: موضع، آفته أبو المهزم، فقد اتَّهمه شُعبة، كما ذكره الشارح وغيره.

الشيخ: هذا موضوع بلا شكٍّ، أبو الليث هذا يروي الضَّعيف والغثَّ والسَّمين والموضوع، لا يُعتمد عليه.

فَقَدْ سُئِلَ شَيْخُنَا الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَأَجَابَ: بِأَنَّ الْإِسْنَادَ مِنْ أبي اللَّيْثِ إِلَى أَبِي مُطِيعٍ مَجْهُولُونَ لَا يُعْرَفُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ التَّوَارِيخِ الْمَشْهُورَة، وَأَمَّا أَبُو مُطِيعٍ فَهُوَ: الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْلَمَة الْبَلْخِي، ضَعَّفَه أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي، وَأَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ الْبُسْتِي، وَالْعُقَيْلِي، وَابْنُ عَدِي، وَالدَّارَقُطْنِي، وَغَيْرُهُمْ.

وَأَمَّا أَبُو الْمُهَزِّمِ الراوي عَنْ أبي هريرة: وقَدْ تَصَحَّفَ عَلَى الْكَاتِبِ، وَاسْمُه: يَزِيدُ بْنُ سُفْيَانَ، فَقَدْ ضَعَّفَه أَيْضًا غَيْرُ وَاحِدٍ، وَتَرَكَه شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: مَتْرُوكٌ، وَقَدِ اتَّهَمَه شُعْبَةُ بِالْوَضْعِ، حَيْثُ قَالَ: لَوْ أَعْطَوْهُ فَلْسَيْنِ لَحَدَّثَهُمْ سَبْعِينَ حَدِيثًا!

وَقَدْ وَصَفَ النَّبِيُّ ﷺ النِّسَاءَ بِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَقَالَ ﷺ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِه وَوَالِدِه وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَالْمُرَادُ نَفْي الْكَمَالِ، وَنَظَائِرُه كَثِيرَةٌ، وَحَدِيثُ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَحَدِيثُ الشَّفَاعَة، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ في قَلْبِه أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ.

الشيخ: يعني: كل هذا يدل على الزيادة والنُّقصان؛ لأنَّ قوله ﷺ: الإيمان بضع وستون شعبة أو بضع وسبعون شعبة يدل على أنه متى توافرت الشُّعب كمل الإيمان، ومتى نقص منها شيء نقص الإيمان، وهكذا إخراج العُصاة من النار، مَن كان في قلبه مثقال كذا، مثقال كذا، يدل على زيادة الإيمان ونقصانه؛ ولهذا أجمع أهلُ السنة والجماعة على ذلك، ذكره البخاري في أول الكتاب، وذكره غيره.

فالمقصود أنَّ المرجئة والمعتزلة والجهمية والخوارج وأشباههم كل هؤلاء خالفوا أهل الحقِّ في هذه المسألة، والصواب مع أهل السنة والجماعة، وهم أصحاب النبي ﷺ ومَن سلك سبيلهم من أهل الكتاب والسنة، من أئمَّة الهدى.

س: الشَّارح أول مرة يُصرح؟

ج: وهذا الموضع الآن هو أحد المواضع التي صرَّح فيها بأنَّ شيخه ابن كثير، ثم ما تواترت به الأخبار عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من إخراج العُصاة من النار ردٌّ صريحٌ على المعتزلة والخوارج في قولهم: إنَّ العاصي مخلَّد في النار.

قول الخوارج والمعتزلة: "إنَّ العاصي مُخلَّد في النار" هذا مخالف للكتاب والسنة، ومخالف لما تواترت به الأخبار عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأجمع عليه أهلُ السنة بأنَّ العاصي لا يُخلد الخلود الذي وُعد به الكفَّار، نعم هناك خلود دون خلود، قال أهل السنة: الخلود خلودان: خلود لا خروج معه بالكلية، بل إلى أبد الآباد، وهذا خلود أهل الكفر والضَّلال والنِّفاق، خلودهم أبدًا. وهناك خلود له نهاية، وهذا خلود بعض أهل المعاصي الذين اشتدت جريمتهم: كالقاتل عمدًا بغير حقٍّ، والذي قتل نفسه، والزاني، هؤلاء موعودون بالخلود، ولكنه خلود له نهاية، ليس خلودًا دائمًا دائمًا أبدًا كخلود الكافر، لا، بل خلود له نهاية، والعرب تُسمِّي الإقامة الطويلة: خلودًا، أقاموا فأخلدوا يعني: طوَّلوا.

فَكَيْفَ يُقَالُ بَعْدَ هَذَا: إِنَّ إِيمَانَ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِمَعَانٍ أُخَرَ غَيْرِ الْإِيمَانِ؟!

وَكَلَامُ الصَّحَابَة فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ أَيْضًا، مِنْهُ: قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ : "مِنْ فِقْهِ الْعَبْدِ أَنْ يَتَعَاهَدَ إِيمَانه وَمَا نَقَصَ مِنْهُ، وَمِنْ فِقْهِ الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَيَزْدَادُ هُوَ أَمْ يَنْقُصُ؟".

وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِأَصْحَابِه: "هَلُمُّوا نَزْدَدْ إِيمَانًا"، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ .

وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي دُعَائِه: "اللَّهُمَّ زِدْنَا إِيمَانًا وَيَقِينًا وَفِقْهًا".

وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ لِرَجُلٍ: "اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً".

الشيخ: يعني: نتذاكر.

الطالب: علَّق عليه قال: علَّقه البخاري في أول الإيمان، ووصله ابنُ أبي شيبة وأبو عبيدٍ كلاهما في الإيمان، وإسناده صحيح على شرطهما، وفي روايةٍ لابن أبي شيبة: كان معاذٌ يقول للرجل من إخوانه: "اجلس بنا فلنُؤمن ساعةً"، فيذكران الله ويحمدانه.

وَمِثْلُه عَنْ عَبْدِالله بْنِ رَوَاحَة.

وَصَحَّ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ: إِنْصَافٌ مِنْ نَفْسِه، وَالْإِنْفَاقُ مِنْ إِقْتَارٍ، وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ".

الشيخ: هذا ذكره البخاري مُعلَّقًا مجزومًا به: "ثلاثٌ مَن استكملهنَّ فقد استكمل الإيمانَ".

ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله في "صَحِيحِه".

الطالب: قال: رواه ابنُ أبي شيبة في الإيمان بإسنادٍ صحيحٍ عنه موقوفًا، وأورده البخاري في الإيمان مُعلَّقًا مجزومًا موقوفًا، ورواه بعضُهم مرفوعًا، وهو خطأ، كما قال أبو زرعة وغيره، ذكره الحافظُ في "الفتح" وقال: إلَّا أنَّ مثله لا يُقال بالرأي، فهو في حكم المرفوع. وهو مخرَّج في تعليقي على "الكلم الطيب". انتهى.

الشيخ: وهذا أثر طيب عظيم: "ثلاث مَن استكملهنَّ فقد استكمل الإيمان: الإنصاف من نفسك" وهذا أشدها، "والإنفاق من الإقتار"، وفي لفظٍ: "مع الإقتار" يعني: مع قلَّة المال يُنفق مما آتاه الله ولو كان يسيرًا، "وبذل السلام للعالم"، يعني: نشره للسلام وإفشاؤه وعدم البخل، وهذا تُؤيده أحاديث كثيرة.

أما الإنصاف من نفسك: فهذا أمر واجب، وهو مُقتضى العدل، ويُؤخذ من قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [النساء:135].

كذلك الإنفاق من الإقتار يُؤخذ من العموم، وفي الحديث: خير الصَّدقة جهد المقِلّ.

وبذل السلام للعالم: هذا له شواهد؛ ما رواه مسلم في "الصحيح" من حديث الزبير ، وثبت عن أبي هريرة : أن النبي ﷺ قال: والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تُؤمنوا حتى تحابُّوا، ألا أدلكم على أمرٍ إذا فعلتُموه تحاببتُم؟ أفشوا السلام بينكم، والحديث الذي في "الصحيحين" من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي عليه الصلاة والسلام سُئل: أيّ الإسلام أفضل؟ قال: أن تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على مَن عرفتَ ومَن لم تعرف، وأيضًا من حديث عبدالله بن سلام: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينةَ قال: أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنَّة بسلامٍ.

فإفشاء السلام له شأنٌ، ولكن لا يلزم من هذا ترك الهجر المشروع، فالهجر المشروع مُستثنًى، ولا يدخل في هذا أيضًا بدء اليهود والنَّصارى والكفار بالسلام، غير داخلٍ في هذا، فكلام النبي ﷺ يُحمل ويُفسر بما تقتضيه الأدلة الأخرى، فالمطلق عند أهل العلم يُقيد، والعام يُخصص، فمُراد النبي ﷺ في إفشاء السلام بالنسبة إلى مَن لا يلزم هجره، وبالنسبة إلى مَن يجوز بدؤه بالسلام كما هو معلوم.

س: المُعلَّق المجزوم هل يجب العملُ به؟

ج: حكمه حكم الصحيح، الصواب عن أهل العلم تلقيه بالقبول.

س: إذا كان بصيغة التَّمريض؟

ج: لا، يُبحث عنه، يُنظر، المجزوم صحيح إلى مَن علَّقه عنه، فإذا كان ما بعده صحيحًا فهو مقبول عند أهل العلم، ولكن معناه أنه مقبول صحيح عمَّن علَّقه عنه، سواء كان حديثًا أو أثرًا، وأما باقيه يُنظر.

وفي هَذَا المقدارِ كِفَايَة، وَبِاللَّه التَّوْفِيقُ.

وَأَمَّا كَوْنُ عَطْفِ الْعَمَلِ عَلَى الْإِيمَانِ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَة، فَلَا يَكُونُ الْعَمَلُ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ تَارَةً يُذْكَرُ مُطْلَقًا عَنِ الْعَمَلِ وَعَنِ الْإِسْلَامِ، وَتَارَةً يُقْرَنُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَتَارَةً يُقْرَنُ بِالْإِسْلَامِ.

فَالْمُطْلَقُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَعْمَالِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ الآية [الأنفال:2]، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا الآية [الحجرات:15]، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة:81].

وَقَالَ ﷺ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْحَدِيثَ. لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا. مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا. مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا.

وَمَا أَبْعَدَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَيْسَ مِنَّا أَيْ: فَلَيْسَ مِثْلَنَا! فَلَيْتَ شِعْرِي: فَمَنْ لَمْ يَغُشَّ يَكُونُ مِثْلَ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِه!

الشيخ: والمقصود من هذا أنَّ الإيمان متى أُطلق دخلت فيه الأعمالُ القلبية والجارحية، كما قال أهلُ السنة والجماعة، ومنه الآية الكريمة: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الأنفال:2- 3]، فقوله: وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ هذا مما يتعلق بعمل القلب، وذكر الصلاة والزكاة تتعلق بعمل الجوارح، فدخل في هذا الإيمان.

كذلك في الآية الأخرى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الحجرات:15] جعل الجهاد داخلًا في ذلك، وهكذا في آيات كثيرات: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71]، فجعل هذا كله داخلًا في الإيمان.

وحديث وفد عبد القيس: آمركم بالإيمان، ثم فسَّر لهم الإيمان بالشَّهادتين، والصَّلوات الخمس، والزكاة، وصيام رمضان، هذا أمر معلوم، كذلك حديث: الإيمان بضع وسبعون -أو قال: بضع وستون- شعبة.

وإذا قُرن معه غيرُه صار ذلك لمزيد تأكيد هذا الشيء، وأنه داخلٌ فيه، أو ليتبين هذا من هذا، وأنَّ هذا شيء، وهذا شيء عند الاقتران: كالإسلام والإيمان، الإسلام يُكنى به عن الأعمال الظَّاهرة، وعمَّا يعمل في الظَّاهر من صلاةٍ وصومٍ ونحو ذلك، والإيمان عمَّا يتعلق بالقلوب، مثل قوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، الصلاة الوسطى من الصَّلوات، لكن خصَّها بالذكر لمزيد العناية، فلا يُستنكر هذا، وهكذا قوله: اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب:70]، القول السديد من التَّقوى، لكن خُصَّ بالذكر لمزيد العناية، هكذا قوله: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].

فكون الإيمان من العمل الصلاح هذا شيء كثير، كون الشيء يُذكر في بعض الأحيان مُجملًا ومُفردًا، وفي بعض الأحيان يُضاف إليه غيره، ويُعطف عليه غيره، غير مُستنكرٍ في اللغة العربية، ولا في الكتاب العزيز، ولا في السنة المطهرة.

وأَمَّا إِذَا عُطِفَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فَاعْلَمْ أَنَّ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي ذُكِرَ لَهُمَا، وَالْمُغَايَرَة عَلَى مَرَاتِبَ:

أَعْلَاهَا: أَنْ يَكُونَا مُتَبَايِنَيْنِ، لَيْسَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْآخَرَ، وَلَا جُزْءًا مِنْهُ، وَلَا بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ، كَقَوْلِه تَعَالَى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران:3]، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ.

وَيَلِيه: أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ، كَقَوْلِه تَعَالَى: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة:92].

الشيخ: فلا بدَّ من الإيمان بالتَّوراة والإيمان بالإنجيل أيضًا، ولا بدَّ من العمل بمُقتضاهما جميعًا، كتب الله ورسل الله الإيمان بهم فيه تلازم، وهو من الثاني فيما يظهر، بخلاف الأرض والسَّماء.

الثَّالِثُ: عَطْفُ بَعْضِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة:98]، وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ [الأحزاب:7].

وَفِي مِثْلِ هَذَا وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ عَطْفَه عَلَيْهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِيهِ هُنَا، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ مُنْفَرِدًا، كَمَا قِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي لَفْظِ "الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين" وَنَحْوِه مما تَتَنَوَّعُ دِلَالَتُه بِالْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ.

الرَّابِعُ: عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ لِاخْتِلَافِ الصِّفَتَيْنِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ [غافر:3]، وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْرِ الْعَطْفُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ فَقَطْ، كَقَوْلِه:

فَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنا  

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي مَوْضِعِه.

فَإِذَا كَانَ الْعَطْفُ فِي الْكَلَامِ يَكُونُ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوه، نَظَرْنَا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ: كَيْفَ وَرَدَ فِيهِ "الْإِيمَانُ"؟ فَوَجَدْنَاه إِذَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ مَا يُرَادُ بِلَفْظِ: الْبِرِّ، وَالتَّقْوَى، وَالدِّينِ، وَدِينِ الْإِسْلَامِ.

ذُكِرَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنِ الْإِيمَانِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الْآيَاتِ [البقرة:177].

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، وَالْمُلَائِي، قَالَا: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِي، عَنِ الْقَاسِمِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلى أبي ذَرٍّ فَسَأَلَه عَنِ الْإِيمَانِ، فَقَرَأَ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ .. إلى آخِرِ الآية، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَيْسَ عَنْ هَذَا سَأَلْتُكَ! فَقَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَسَأَلَه عَنِ الَّذِي سَأَلْتَنِي عَنْهُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الَّذِي قَرَأْتُ عَلَيْكَ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي قُلْتَ لِي، فَلَمَّا أَبَى أَنْ يَرْضَى قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي إِذَا عَمِلَ الْحَسَنَةَ سَرَّتْه وَرَجَا ثَوَابَهَا، وَإِذَا عَمِلَ السَّيِّئَة سَاءَتْه وَخَافَ عِقَابَهَا.

الشيخ: يعني هذا من مُقتضى الإيمان، وأنَّ المؤمن إذا عمل بهذه الأمور فمن كمال إيمانه أيضًا أنها تسرُّه الحسنة ويرجو ثوابها، وتسوؤه السيئة ويخشى عقابها.

أيش قال المحشِّي؟

الطالب: قال: ضعيف بهذا السياق والإسناد، وعلته الانقطاع واختلاط المسعودي، لكن صحَّ الحديثُ من رواية أبي أُمامة: أن رسول الله ﷺ سأله رجلٌ فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: إذا سرَّتك حسنتُك، وساءَتك سيئتُك فأنت مؤمن، قال: يا رسول الله، ما الإثم؟ قال: إذا حاك في صدرك شيء فدعه رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وإنما هو على شرط مسلم وحده، فإن ممطورًا لم يُخرج له البخاري في "صحيحه". (الصحيحة).

الشيخ: انظر القاسم بن عبدالرحمن الدمشقي، وأبو سلام.

وَكَذَلِكَ أَجَابَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ بِهَذَا الْجَوَابِ.

وَفِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَه، أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاة، وَأَنْ تُؤَدُّوا الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ تَكُونُ إِيمَانًا بِاللَّهِ بِدُونِ إِيمَانِ الْقَلْبِ؛ لِمَا قَدْ أَخْبَرَ فِي مَوَاضِعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِيمَانِ الْقَلْبِ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ مَعَ إِيمَانِ الْقَلْبِ وهُوَ الْإِيمَانُ.

وَأَيّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى "الْإِيمَانِ" فَوْقَ هَذَا الدَّلِيلِ؟ فَإِنَّهُ فَسَّرَ الْإِيمَانَ بِالْأَعْمَالِ، وَلَمْ يَذْكُرِ التَّصْدِيقَ؛ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا تُفِيدُ مَعَ الْجُحُودِ.

وَفِي "الْمُسْنَدِ" عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: الْإِسْلَامُ عَلَانِيَة، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ.

الشيخ: يعني: أصل الإيمان في القلوب أمر معلوم تصدر عنه الأعمال الظَّاهرة والخفيَّة.

الطالب: علَّق عليه، قال: إسناده ضعيف، فيه علي بن مسعدة، قال العُقيلي في "الضعفاء": قال البخاري: فيه نظر. وقال عبد الحقِّ الأزدي في "الأحكام الكبرى": حديث غير محفوظٍ. انتهى.

..............

الشيخ: الدِّين إذا أُطلق هو الإيمان، وإذا أُطلق دين الإسلام هو الإيمان: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6]، دين الله هو الإيمان، وهو التُّقى، وهو البر، وهو دين الإسلام، مضاف ومطلق، يعني: دين الحقَّ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُغَايَرَة بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَيُؤَيِّدُه قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ سُؤَالَاتِ جِبْرِيلَ فِي مَعْنَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ: هَذَا جبرائيل أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ، فَجَعَلَ الدِّينَ هُوَ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ وَالْإِحْسَانَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ دِينَنَا يَجْمَعُ الثَّلَاثَة، لَكِنْ هُوَ دَرَجَاتٌ ثَلَاثَة: مُسْلِمٌ، ثُمَّ مُؤْمِنٌ، ثُمَّ مُحْسِنٌ.

وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ مَا ذُكِرَ مَعَ الْإِسْلَامِ قَطْعًا، كَمَا أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْإِحْسَانِ مَا ذُكِرَ مَعَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، لَا أَنَّ الْإِحْسَانَ يَكُونُ مُجَرَّدًا عَنِ الْإِيمَانِ، هَذَا مُحَالٌ. وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32]، وَالْمُقْتَصِدُ وَالسَّابِقُ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا عُقُوبَةٍ، بِخِلَافِ الظَّالِمِ لِنَفْسِه، فإنَّه مُعَرَّضٌ لِلْوَعِيدِ.

وَهَكَذَا مَنْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ مَعَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، لَكِنْ لَمْ يَقُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ؛ فَإِنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلْوَعِيدِ.

فَأَمَّا الْإِحْسَانُ فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ جِهَة نَفْسِه، وَأَخَصُّ مِنْ جِهَة أَهْلِه، وَالْإِيمَانُ أَعَمُّ مِنْ جِهَة نَفْسِه، وَأَخَصُّ مِن جِهَة أَهْلِه مِنَ الْإِسْلَامِ. فَالْإِحْسَانُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ، وَالْإِيمَانُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْلَامُ. وَالْمُحْسِنُونَ أَخَصُّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِنُونَ أَخَصُّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَهَذَا كَالرِّسَالَة وَالنُّبُوَّة؛ فَالنُّبُوَّة دَاخِلَة فِي الرِّسَالَة، وَالرِّسَالَة أَعَمُّ مِنْ جِهَة نَفْسِهَا، وَأَخَصُّ مِنْ جِهَة أَهْلِهَا، فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِي، وَلَا يَنْعَكِسُ.

الشيخ: ولهذا قال سبحانه: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] حتى يعمَّ الجميع، وقال في سورة الأحزاب: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ ..[الأحزاب:35] إلى آخره، فالسياق قد يقف على شيءٍ لأسبابٍ اقتضت ذلك مع اتِّحاد الأصل....