وَقَدْ صَارَ النَّاسُ فِي مُسَمَّى "الْإِسْلَامِ" عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَالٍ:
فَطَائِفَة جَعَلَتِ الْإِسْلَامَ هُوَ الْكَلِمَة.
وَطَائِفَة أَجَابُوا بِمَا أَجَابَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ؛ حَيْثُ فَسَّرَ الْإِسْلَامَ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَة، وَالْإِيمَانَ بِالْإِيمَانِ بِالْأُصُولِ الْخَمْسَة.
الشيخ: الأصول الخمسة يعني ما عدا القدر، والقول الثاني تُسمَّى: الأصول الستة؛ لأنَّ القدر أحدها، وقد جاء ذكر القدر في حديث جبرائيل، وإن سقط من آية البقرة: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ الآية [البقرة:177]، لكنه ثابت في رواية جبريل وسؤاله النبيّ ﷺ، فالصواب أن يُقال: الأصول الستة، لا الخمسة، وإن كان القدر داخلاً في الإيمان بالله، يعني من صفات الله أنه قدَّر الأمور، فهو عند الإطلاق داخلٌ في الإيمان بالله، وكما أنه عند الإطلاق يدخل الإيمانُ بالملائكة والكتب والرسل أيضًا، وفي الآيات: مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة:99]، فإذا جاءت الآيةُ والحديثُ بالله واليوم الآخر دخل الإيمانُ بالكتب والرسل والملائكة والقدر، دخل في الإيمان بالله.
الشيخ: والصواب القول الأوسط هنا، وهو الوسط في الحقيقة والعدل والخيار، وهو أنَّ الإسلام والإيمان عند الاجتماع يفترقان، وعند الانفراد يجتمعان، كالفقير والمسكين، ونحوهما، فعند إطلاق الإسلام أو الإيمان يدخل فيه الآخر: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19] يعني: والإيمان والإحسان، الإيمان بضع وسبعون شعبة يعني: داخل فيه الإسلام، وعند الاجتماع يفترقان؛ يُفسَّر الإسلامُ بالأعمال الظاهرة والشَّعائر الظاهرة، والإيمان بالأصول الباطنة، كما فسَّره النبيُّ عليه الصلاة والسلام بهذا.
فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ هُوَ التَّصْدِيقَ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْه أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَة، وَإِنَّمَا هُوَ الِانْقِيَاد وَالطَّاعَة، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَفَسَّرَ الْإِسْلَامَ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَة، وَالْإِيمَانَ بِالْإِيمَانِ بِالْأُصُولِ الْخَمْسَة.
فَلَيْسَ لَنَا إِذَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا أَنْ نُجِيبَ بِغَيْرِ مَا أَجَابَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ.
وَأَمَّا إِذَا أُفْرِدَ اسْمُ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ، وَإِذَا أُفْرِدَ الْإِسْلَامُ فَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْإِسْلَامِ مُؤْمِنًا بِلَا نِزَاعٍ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ، وَهَلْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَلَا يُقَالُ لَهُ: مُؤْمِنٌ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ.
س: هل يكون مُسلمًا ولا يُقال له: مؤمن؟
ج: خلاف بين أهل السنة والجماعة؛ لأنَّ المسلم أعمُّ من المؤمن، والمؤمن أخصّ، فالإطلاق إذا أُطلق المسلمُ عمَّ الجميع: المسلمين والمؤمنين والمحسنين، ولكن قد ينفرد المسلمُ بوصف الإسلام دون الإيمان عند المدح، إذا كان من العُصاة يُقال: مسلم، وليس بمؤمن الإيمان الكامل، ولكن الأولى في مثل هذا أن يُقال: مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن فاسق، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، كما ذكر أبو العباس في "العقيدة الواسطية"؛ لأنَّ مقام المدح بالإيمان مقام عظيم، والله فصَّل بينهما فقال: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35]، هذا عند مقام التَّفصيل: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن يعني: بل هو مسلم، ليس بمؤمنٍ الإيمان الكامل، الإيمان الذي يستحق أهله المدح الكامل، فلا بدَّ من الجمع بين النصوص بما يُؤلِّف بينها ويُوضِّح معناها.
وَكَذَلِكَ هَلْ يَسْتَلْزِمُ الْإِسْلَامُ الْإِيمَانَ؟
فِيهِ النِّزَاعُ الْمَذْكُورُ، وَإِنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ بِالْجَنَّة فِي الْقُرْآنِ وَبِالنَّجَاة مِنَ النَّارِ بِاسْمِ "الْإِيمَانِ"، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62- 63]، وَقَالَ تَعَالَى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [الحديد:21].
وَأَمَّا اسْمُ "الْإِسْلَامِ" مُجَرَّدًا فَمَا عُلِّقَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ دُخُولُ الْجَنَّة، لَكِنَّه فَرَضَه وَأَخْبَرَ أَنَّهُ دِينُه الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاه.
الشيخ: جاء في بعض الرِّوايات: واعلموا أنه لن يدخل الجنةَ إلا نفس مؤمنة، وفي لفظٍ: مسلمة، هذا عند الإطلاق، يعني: مسلمة الإسلام الكامل المطلق الذي دخل فيه الإيمان، أو المعنى: أنه لا يدخل الجنةَ دخولًا سليمًا ليس فيه عذابٌ إلا نفس مؤمنة، بخلاف المسلمة؛ فقد تُبتلى بعذابٍ قبل ذلك، فعلى رواية الإطلاق: مسلمة، فالمراد بالمسلمة المؤمنة، أو المراد أنه يدخل الجنة مسلمة، ولكن لا يمنع ذلك من كونه قد يُؤخذ بسيئاته ثم يصير إلى الجنة.
وَبِهِ بَعَثَ النَّبِيِّينَ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].
فَالْحَاصِلُ أَنَّ حَالَة اقْتِرَانِ الْإِسْلَامِ بِالْإِيمَانِ غَيْرُ حَالَة إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَمَثَلُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِيمَانِ، كَمَثَلِ الشَّهَادَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى، فَشَهَادَة الرِّسَالَة غَيْرُ شَهَادَة الْوَحْدَانِيَّة، فَهُمَا شَيْئَانِ فِي الْأَعْيَانِ، وَإِحْدَاهُمَا مُرْتَبِطَة بِالْأُخْرَى فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ، كَشَيْءٍ وَاحِدٍ.
الشيخ: يعني: شيئان في الوجود، وهما شيء واحد في الحكم، فلا تكفي شهادة أن لا إله إلا الله عن شهادة أنَّ محمدًا رسول الله، ولا تكفي شهادة أنَّ محمدًا رسول الله عن شهادة لا إله إلا الله، لا بدَّ منهما، ولكنَّها شيئان من حيث الواقع، ليسا شيئًا واحدًا، ولكن من حيث الحكم لا بدَّ منهما، هكذا الإسلام والإيمان شيئان عند الاجتماع، ولكن في الحكم لا بدَّ من إسلامٍ وانقيادٍ، ولا بدَّ من الإيمان بالقلب، فانقياد في الظاهر من دون إيمان القلب نفاقٌ، ولا يصح ولا يُنجي من عذاب الله، وإيمان بالقلب دون إسلامٍ وانقيادٍ في الظاهر كإيمان اليهود وإبليس وأشباه ذلك، لا ينفع.
كَذَلِكَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ، لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا إِسْلَامَ لَهُ، وَلَا إِسْلَامَ لِمَنْ لَا إِيمَانَ لَهُ، إِذْ لَا يَخْلُو الْمُؤْمِنُ مِنْ إِسْلَامٍ بِهِ يَتَحَقَّقُ إِيمَانُه، وَلَا يَخْلُو الْمُسْلِمُ مِنْ إِيمَانٍ بِهِ يَصِحُّ إِسْلَامُه.
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَفِي كَلَامِ النَّاسِ كَثِيرَةٌ، أَعْنِي فِي الْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ.
مِنْهَا: لَفْظُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، فَالْكُفْرُ إِذَا ذُكِرَ مُفْرَدًا في وَعِيدِ الْآخِرَة دَخَلَ فيه الْمُنَافِقُونَ، كَقَوْلِه تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5]، وَنَظَائِرُه كَثِيرَةٌ. وَإِذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا كَانَ الْكَافِرُ: مَنْ أَظْهَرَ كُفْرَه، وَالْمُنَافِقُ: مَنْ آمَنَ بِلِسَانِه وَلَمْ يُؤْمِنْ بِقَلْبِه.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ: الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَفْظُ: الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَلَفْظُ: التَّوْبَة وَالِاسْتِغْفَارِ، وَلَفْظُ: الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
وَيَشْهَدُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: قُولُوا أَسْلَمْنَا: انْقَدْنَا بِظَوَاهِرِنَا.
الشيخ: يعني: استسلمنا، بمعنى الاستسلام، لا بمعنى الإسلام، هذا قول مرجوح ضعيف.
فَهُمْ مُنَافِقُونَ فِي الْحَقِيقَة، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَة.
وَأُجِيب بِالْقَوْلِ الْآخَرِ، وَرُجِّحَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ كَامِلِي الْإِيمَانِ، لَا أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، كَمَا نَفَى الْإِيمَانَ عَنِ الْقَاتِلِ، وَالزَّانِي، وَالسَّارِقِ، وَمَنْ لَا أَمَانَةَ له.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا سِيَاقُ الآية؛ فَإِنَّ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هُنَا فِي النَّهْي عَنِ الْمَعَاصِي، وَأَحْكَامِ بَعْضِ الْعُصَاة، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات:14]، وَلَوْ كَانُوا مُنَافِقِينَ مَا نَفَعَتْهُمُ الطَّاعَة.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا الْآيَةَ [الحجرات:15]، يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِي الْإِيمَانِ هُمْ هَؤُلَاءِ، لَا أَنْتُمْ، بَلْ أَنْتُمْ مُنْتَفٍ عَنْكُمُ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ.
يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَوْ أَذِنَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، وَالْمُنَافِقُ لَا يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانُوا مُنَافِقِينَ لَنَفَى عَنْهُمُ الْإِسْلَامَ، كَمَا نَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَمُنُّوا بِإِسْلَامِهِمْ، فَأَثْبَتَ لَهُمْ إِسْلَامًا، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَمُنُّوا بِهِ عَلَى رَسُولِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِسْلَامًا صَحِيحًا لَقَالَ: لَمْ تُسْلِمُوا، بَلْ أَنْتُمْ كَاذِبُونَ، كَمَا كَذَّبَهُمْ في قَوْلِهِمْ: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1]، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَيَنْتَفِي بَعْدَ هَذَا التَّقْدِير.
الشيخ: لعله: التَّقرير، يعني: الإيضاح والبيان.
وينتفي بعد هذا التَّقرير وَالتَّفْصِيلِ دَعْوَى التَّرَادُفِ، وَتَشْنِيعُ مَنْ أَلْزَمَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَوْ كَانَ هُوَ الْأُمُورَ الظَّاهِرَة لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ ذَلِكَ، وَلَا يُقْبَلَ إِيمَانُ الْمُخْلِصِ! وَهَذَا ظَاهِرُ الْفَسَادِ، فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ تَنْظِيرُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَنَّ حَالَة الِاقْتِرَانِ غَيْرُ حَالَة الِانْفِرَادِ؛ فَانْظُرْ إِلَى كَلِمَة الشَّهَادَة، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ الْحَدِيثَ، فَلَوْ قَالُوا: "لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ"، وَأَنْكَرُوا الرِّسَالَة مَا كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ الْعِصْمَة، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا: "لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ" قَائِمِين بِحَقِّهَا، وَلَا يَكُونُ قَائِمًا بِـ"لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ" حَقَّ الْقِيَامِ إِلَّا مَنْ صَدَّقَ بِالرِّسَالَة، وَكَذَا مَنْ شَهِدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، لَا يَكُونُ قَائِمًا بِهَذِه الشَّهَادَة حَقَّ الْقِيَامِ إِلَّا مَنْ صَدَّقَ هَذَا الرَّسُولَ فِي كُلِّ مَا جَاءَ به، فَتضمَّنتِ التَّوْحِيدَ.
وَإِذَا ضممت شَهَادَة "أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ" إِلَى شَهَادَة "أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ" كَانَ الْمُرَادُ مِنْ شَهَادَة "أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ" إِثْبَاتَ التَّوْحِيدِ، وَمِنْ شَهَادَة "أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ" إِثْبَاتَ الرِّسَالَة.
كَذَلِكَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ إِذَا قُرِنَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35]، وَقَوْلِهِ ﷺ: اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ أَحَدِهِمَا غَيْرَ الْمُرَادِ مِنَ الْآخَرِ.
وَكَمَا قَالَ ﷺ: الْإِسْلَامُ عَلَانِيَة، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ.
الشيخ: تقدَّم ما فيه من ضعفٍ، لكن الأظهر من هذا حديث: أو مسلمًا، قال: تركتُ فلانًا وما أعلمه إلا مؤمنًا، قال: أو مُسلمًا، حديث سعد في الصحيح، وهذا شيء واضح، فإنَّ الاقتران له حالة من المعنى غير حالة الانفراد في مسائل كثيرةٍ، والواجب الجمع بين النصوص وضمّ بعضها إلى بعضٍ، وإيضاح معانيها، وإبعاد ما قد يخشى أو يظنه بعضُ ناقصي الفهم من اضطرابٍ وتناقضٍ أو اختلافٍ.
والقرآن الكريم نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللّغات وأعظمها وأوسعها، فلدلالات تنوع: كالاقتران والعطف والانفراد والسياق فيما يتعلق بالكلام السابق واللاحق، إلى غير ذلك.
فالإسلام هو الأعمال الظَّاهرة التي تتضمن الانقياد والذل، ولا يتم هذا إلا بإيمانٍ يصدق هذا الذل والانقياد، وإلا صار نفاقًا؛ ولهذا نعى الله على المنافقين وذمَّهم وقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، فدلَّ ذلك على أنَّ الإسلام الظاهر إذا لم يصحبه إيمانٌ باطنٌ وتصديقٌ صار نفاقًا، وهكذا الإيمان الباطن إذا لم يصحبه انقيادٌ وذلٌّ وإسلامٌ لم يكن إيمانًا؛ ففرعون يعلم ربَّه، وإبليس واليهود وعلماء السُّوء، وهكذا رؤساء الكفرة من قريشٍ يعلمون أنَّ محمدًا جاء بالحقِّ، وأن دينه هو الحق، ولكن حملهم البغي والحسد، فلم ينفعهم هذا الإيمان، فلا بدَّ من هذا وهذا.
ولهذا بيَّن المؤلفُ أنه لو شهد "أن لا إله إلا الله"، ولكن لم يُصدق بأنَّ محمدًا رسول الله، فلا إيمانَ له، ولا إسلامَ له، ولو شهد "أنَّ محمدًا رسول الله" وصدَّق الرسل جميعًا، ولكنه لم يشهد أنه لا إله إلا الله، ولم يُوحِّد الله، بل عبد معه سواه؛ لم يكن مسلمًا، ولو شهد "أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله"، ولكنه لم يُكذِّب مُسيلمة ونحوه، بل صدَّق مُدعي النبوة بعد محمدٍ ﷺ، صار كافرًا؛ لأنه مُكذِّب لله، مُكذِّب لرسوله عليه الصلاة والسلام فيما أخبر عنه من ختم الرِّسالات والنُّبوات بمحمدٍ عليه الصلاة والسلام، وأنه لا نبيَّ بعده، وهكذا غير ذلك من المسائل، فلا بدَّ في الإيمان بالله ورسوله من مُراعاة تصديق الله ورسوله في كل شيءٍ، والبُعد عن استحلال ما حرَّم الله، أو إسقاط بعض ما أوجب الله، فالإيمان لا بدَّ أن يجتمع فيه الإيمانُ بالله ورسوله، وبكل ما أخبر به اللهُ ورسولُه، ولا بدَّ من الانقياد لما أمر الله به ورسوله قولًا وعملًا.
وكثير من الناس لقلة العلم وقلة البصيرة يظن أنَّ مجرد انتسابه للإسلام أو نطقه بالشَّهادتين يكفيه، وأنَّ هذا هو الإسلام، ولم يعلم أنَّ المقام يحتاج إلى ما هو فوق ذلك، إلى ما هو أوسع من ذلك من العمل: من توحيد الله والإخلاص له، ومن تصديق الرسول في كل شيءٍ، ومن الانقياد لأمر الله ورسوله، ومن عدم الاستهزاء بالله ورسوله، ومن عدم جحد شيءٍ مما أوجب الله ورسوله، ومن عدم إنكار شيءٍ مما حرَّم الله ورسوله، فلا بدَّ من إيمانٍ كاملٍ مصدق لجميع ما جاء به الرسولُ ﷺ، ولا بدَّ من حفظ الجوارح عمَّا يُسبب انتقاص الإسلام والردة عن الإسلام.
وَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا شَمِلَ مَعْنَى الْآخَرِ وَحُكْمَه، وَكَمَا فِي الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَنَظَائِرِه، فَإِنَّ لَفْظَي الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ إِذَا اجْتَمَعَا افْتَرَقَا، وإذا افترقا اجتمعا، فَهَلْ يُقَالُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89] أَنَّهُ يُعْطَى الْمُقِلُّ دُونَ الْمُعْدِمِ، أَوْ بِالْعَكْسِ؟ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271].
وَيَنْدَفِعُ أَيْضًا تَشْنِيعُ مَنْ قَالَ: مَا حُكْمُ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُسْلِمْ، أَوْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُؤْمِنْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؟ فَمَنْ أَثْبَتَ لِأَحَدِهِمَا حُكْمًا لَيْسَ بِثَابِتٍ لِلْآخَرِ ظَهَرَ بُطْلَانُ قَوْلِهِ.
وَيُقَالُ لَهُ فِي مُقَابَلَة تَشْنِيعِه: أَنْتَ تَقُولُ: الْمُسْلِمُ هُوَ الْمُؤْمِنُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35]، فَجَعَلَهُمَا غَيْرَيْنِ، وَقَدْ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاه مُؤْمِنًا؟! قَالَ: أَوْ مُسْلِمًا، قَالَهَا ثَلَاثًا، فَأَثْبَتَ له اسمَ الْإِسْلَام، وَتَوَقَّفَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ، فَمَنْ قَالَ: "هُمَا سَوَاءٌ" كَانَ مُخَالِفًا، وَالْوَاجِبُ رَدُّ مَوَارِدِ النِّزَاعِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَقَدْ يَتَرَاءَى فِي بَعْضِ هذه النُّصُوصِ مُعَارَضَة، وَلَا مُعَارَضَة بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي التَّوْفِيقِ، وَبِاللَّه التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35- 36] عَلَى تَرَادُفِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ الْمُخْرَجَ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الِاتِّصَافِ بِهِمَا تَرَادُفُهُمَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُعَارَضَاتِ لَمْ تَثْبُتْ عَنْ أبي حنيفةَ رحمه الله، وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الْأَصْحَابِ، فَإِنَّ غَالِبَهَا سَاقِطٌ لَا يَرْتَضِيه أَبُو حَنِيفَةَ! وَقَدْ حَكَى الطَّحَاوِي حِكَايَة أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ لَمَّا رَوَى لَهُ حَدِيثَ: "أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟" إِلَى آخِرِه، قَالَ لَهُ: أَلَا تَرَاه يَقُولُ: أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ، ثُمَّ جَعَلَ الْهِجْرَة وَالْجِهَادَ مِنَ الْإِيمَانِ؟ فَسَكَتَ أَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِه: أَلَا تُجِيبَه يَا أَبَا حَنِيفَةَ؟! قَالَ: بِمَا أُجِيبُه وَهُوَ يُحَدِّثُنِي بِهَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟
وَمِنْ ثَمَرَاتِ هَذَا الِاخْتِلَافِ: مَسْأَلَةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ -أي الرَّجُلَ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَالٍ: طَرَفَانِ وَوَسَطٌ: مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُه، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَرِّمُه، وَمِنْهُمْ مَنْ يُجِيزُه بِاعْتِبَارٍ، وَيَمْنَعُه بِاعْتِبَارٍ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ.
أَمَّا مَنْ يُوجِبُه فَلَهُمْ مَأْخَذَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مَا مَاتَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ، وَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا بِاعْتِبَارِ الْمُوَافَاة وَمَا سَبَقَ في عِلْمِه أَنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا عِبْرَة بِهِ، قَالُوا: وَالْإِيمَانُ الَّذِي يَتَعَقَّبُه الْكُفْرُ فَيَمُوتُ صَاحِبُه كَافِرًا لَيْسَ بِإِيمَانٍ.
الشيخ: باعتبار الموافاة معناه: باعتبار ما يموت عليه من حُسن الخاتمة أو سُوء الخاتمة؛ ولهذا كان كثير من السلف يخشون السَّابقة واللاحقة، السابقة والخاتمة، الخاتمة على حسب السابقة؛ فلهذا كان الواجب على المؤمن أن يهتم بالخاتمة، وأن يحرص على الاستمرار في العمل الصالح؛ لأنَّ ذلك من أسباب حُسن الخاتمة، والإصرار على المعاصي من أسباب سُوء الخاتمة، نسأل الله العافية.
وَالْإِيمَانُ الَّذِي يَتَعَقَّبُه الْكُفْرُ فَيَمُوتُ صَاحِبُه كَافِرًا لَيْسَ بِإِيمَانٍ: كَالصَّلَاة الَّتِي أَفْسَدَهَا صَاحِبُهَا قَبْلَ الْكَمَالِ، وَالصِّيَامِ الَّذِي يُفْطِرُ صَاحِبُه قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَهَذَا مَأْخَذُ كَثِيرٍ مِنَ الْكُلَّابِيَّة وَغَيْرِهِمْ، وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فِي الْأَزَلِ مَنْ كَانَ كَافِرًا إِذَا عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا، فَالصَّحَابَة مَا زَالُوا مَحْبُوبِينَ قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ، وَإِبْلِيسُ وَمَنِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِه مَا زَالَ اللَّهُ يُبْغِضُه وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكْفُرْ بَعْدُ!
وَلَيْسَ هَذَا قَوْلَ السَّلَفِ، وَلَا كَانَ يقولُ بِهَذَا مَنْ يَسْتَثْنِي مِنَ السَّلَفِ فِي إِيمَانِه، وَهُوَ فَاسِدٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ إِنِ اتَّبَعُوا الرَّسُولَ، فَاتِّبَاعُ الرَّسُولِ شَرْطُ الْمَحَبَّة، وَالْمَشْرُوطُ يَتَأَخَّرُ عَنِ الشَّرْطِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّة.
ثُمَّ صَارَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ طَائِفَةٌ غَلَوْا فِيهِ، حَتَّى صَارَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَسْتَثْنِي فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَة، يَقُولُ: صَلَّيْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ! وَنَحْوَ ذَلِكَ، يَعْنِي الْقَبُولَ.
ثُمَّ صَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَسْتَثْنُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: هَذَا ثَوْبٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ! هَذَا حَبْلٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ! فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ! يَقُولُونَ: نَعَمْ، لَكِنْ إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُغَيِّرَه غَيَّرَهُ!
الْمَأْخَذُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَبَدَه كُلِّهِ، وَتَرْكَ مَا نَهَاه عَنْهُ كُلِّهِ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: أَنَا مُؤْمِنٌ، بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ فَقَدْ شَهِدَ لِنَفْسِه أَنَّهُ مِنَ الْأَبْرَارِ الْمُتَّقِينَ الْقَائِمِينَ بِجَمِيعِ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَتَرْكِ كُلِّ مَا نُهُوا عَنْهُ، فَيَكُونُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ، وَهَذَا مَعَ تَزْكِيَة الْإِنْسَانِ لِنَفْسِه، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الشَّهَادَة صَحِيحَةً لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَ لِنَفْسِه بِالْجَنَّة إِنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ.
وَهَذَا مَأْخَذُ عَامَّة السَّلَفِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَثْنُونَ، وَإِنْ جَوَّزُوا تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَعْنًى آخَرَ، كَمَا سَنَذْكُرُه إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشيخ: وهذا المعنى يرجع إلى كمال العمل وتمام العمل، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله، يعني: إن شاء الله لي إكمال العمل وإتمامه، فإنَّ العمل في الغالب لا يكون تامًّا، بل يكون فيه من النَّقص ما فيه: من تفريطٍ في واجبٍ، أو ارتكابٍ لمحرَّمٍ، فأهل السنة والجماعة يستثنون لهذا المعنى، يستثنون لأنهم لا يدرون هل كملوا أو لم يكملوا؟ والغالب النَّقص؛ ولهذا يقول: إن شاء الله، يعني: إن شاء الله أني كملت إيماني، وأتممتُ إيماني، كما يقول السَّفاريني في العقيدة التي ينسبها للسَّلف:
ونحسن في إيماننا نستثني | من غير شكٍّ فاستبن واستبني |
فالمقصود أنَّ السلف يقولون هذا من غير شكٍّ، بل من باب ردِّ ذلك إلى كمال العلم وتمام العمل، وليس بواجبٍ كما تقوله الكلابية وأشباههم، بل هو مُستحبٌّ، من باب الإزراء على النَّفس، وعدم الشَّهادة لها بالكمال والتَّمام، وبعض السلف يتورع عن هذا ويقول: إذا قيل له: أنت مؤمن؟ قال: أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر. ويتورع عن قول: إن شاء الله.
ثم إنَّ هذا ليس من هدي السلف، السؤال: أنت مؤمن؟ أو هل أنت مؤمن؟ ليس هذا من هدي السلف، ولا حاجة إلى ذلك، ولا وجهَ له، ولا يرغب فيه، لكن لو قدر أنَّ إنسانًا سُئل، فأهل السنة يقولون: أنا مؤمن إن شاء الله. إذا قال: أنت مؤمن؛ لأنَّ بعض المبتدعة قد يمتحنون الناسَ بهذا فيسألونهم، ثم يرمونهم بالعظائم، فإذا قال: إن شاء الله، قالوا: هذا شكٌّ في إيمانه، فيكون كافرًا، وهذا من جهلهم وضلالهم، فإنَّ المؤمن من أهل السنة إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله، ليس قصده الشَّك، وإنما قصده الإزراء على نفسه وعدم الشَّهادة لها بالكمال والتَّمام، هذا وجه ما يقوله السلف، يستثنون خشية أن لا يكونوا كملوا ما أوجب الله عليهم، وتركوا ما حرَّم الله عليهم، كل بني آدم خطَّاء؛ فلهذا المؤمن من أهل السنة لا يشهد لنفسه بالإيمان الكامل، بل يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، عندما يُسأل عن ذلك؛ لئلا يُزَكِّي نفسه؛ ولئلا يشهد لها بالتَّمام والكمال.
الشيخ: هذا يُؤتى بها للتَّبرك والتَّجرد من الحول والقوة؛ ولهذا قال: وإنا إن شاء الله بكم لاحقون من باب البراءة من الحول والقوة.
وقال بعضهم: إنه يرجع إلى البقعة، يعني: في هذه البقعة، وإلا فالموت لا بدَّ منه، فالحاصل أنه يؤتى بها للبركة والتَّبرؤ من الحول والقوة في كل شيءٍ؛ ولهذا يُنهى أن يقول الرجل: سأفعل كذا، وسأُعالج كذا، وسأُسافر إلى كذا، من غير استثناءٍ، بل السنة أن يقول: إن شاء الله؛ لأنه لا يدري: أيتم له الأمر أو لا؟ وهذا أمر مشروع في الآية الكريمة: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23- 24].
وَقَالَ أَيْضًا: إِنِّي لِأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَنَظَائِرُ هَذَا.
وَأَمَّا مَنْ يُحَرِّمُه: فَكُلُّ مَنْ جَعَلَ الْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي مُؤْمِنٌ، كَمَا أَعْلَمُ أَنِّي تَكَلَّمْتُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَقَوْلِي: أَنَا مُؤْمِنٌ، كَقَوْلِي: أَنَا مُسْلِمٌ، فَمَنِ اسْتَثْنَى فِي إِيمَانِه فَهُوَ شَاكٌّ فِيهِ، وَسَمَّوُا الَّذِينَ يَسْتَثْنُونَ فِي إِيمَانِهِمُ: الشَّكَّاكَة.
وَأَجَابُوا عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27] بِأَنَّه يَعُودُ إِلَى الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، فَأَمَّا الدُّخُولُ فَلَا شَكَّ فِيهِ.
وَقِيلَ: لَتَدْخُلُنَّ جَمِيعُكُمْ أَوْ بَعْضُكُمْ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمُوتُ.
وَفِي كِلَا الْجَوَابَيْنِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُمْ وَقَعُوا فِيمَا فَرُّوا مِنْهُ، فَأَمَّا الْأَمْنُ وَالْخَوْفُ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ آمِنِينَ، مَعَ عِلْمِه بِذَلِكَ، فَلَا شَكَّ فِي الدُّخُولِ، وَلَا فِي الْأَمْنِ، وَلَا فِي دُخُولِ الْجَمِيعِ أَوِ الْبَعْضِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ مَنْ يَدْخُلُ، فَلَا شَكَّ فِيهِ أَيْضًا، فَكَانَ قَوْلُ: "إِنْ شَاءَ اللَّهُ" هُنَا تَحْقِيقًا لِلدُّخُولِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ فِيمَا عَزَمَ عَلَى أَنْ يَفْعَلَه لَا مَحَالَة: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا يَقُولُهَا لِشَكٍّ فِي إِرَادَتِه وَعَزْمِه.
الشيخ: ساقط .....، ولكن يقول ذلك على سبيل التَّجرد من الحول والقوة، أو على سبيل التَّبرك، أو على سبيل التَّحقير؛ ولهذا إنما لا يحنث.
وَلَكِنْ إِنَّمَا لَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِحُصُولِ مُرَادِه.
وَأُجِيبَ بِجَوَابٍ آخَرَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ تَعْلِيمًا لَنَا كَيْفَ نَسْتَثْنِي إِذَا أَخْبَرْنَا عَنْ مُسْتَقْبَلٍ.
وَفِي كَوْنِ هَذَا الْمَعْنَى مُرَادًا مِنَ النَّصِّ نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ مَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْ إِشَارَة النَّصِّ.
وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِجَوَابَيْنِ آخَرَيْنِ بَاطِلَيْنِ، وَهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَلَكُ قَدْ قَالَهُ، فَأُثْبِتَ قُرْآنًا! أَوْ أَنَّ الرَّسُولَ قاله!
فعند هذا المسكين يكون من القرآن ما هو غير كلام الله! فيدخل في وعيد مَنْ قَالَ: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25]، نسأل الله العافية.
وَأَمَّا مَنْ يُجَوِّزُ الِاسْتِثْنَاءَ وَتَرْكَه: فَهُمْ أَسْعَدُ بِالدَّلِيلِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا: فَإِنْ أَرَادَ الْمُسْتَثْنِي الشَّكَّ فِي أَصْلِ إِيمَانِه مُنِعَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ.
وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2- 4]، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، فَالِاسْتِثْنَاءُ حِينَئِذٍ جَائِزٌ.
وَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَثْنَى وَأَرَادَ عَدَمَ عِلْمِه بِالْعَاقِبَة، وَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَثْنَى تَعْلِيقًا لِلْأَمْرِ بِمَشِيئَة اللَّهِ، لَا شَكًّا فِي إِيمَانِه. وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْقُوَّة كَمَا تَرَى.
الشيخ: والخلاصة في هذا أنَّ الأقوال كما قال الشارحُ ثلاثة: قول بوجوب الاستثناء، وقول بوجوب الترك، وأنَّ الاستثناء شكٌّ لا يجوز، وكلا الطرفين خطأ، فالاستثناء ليس بشكٍّ، والوجوب ليس بواجبٍ، والعبرة بالظواهر وما عليه الحال، والوسط هو الجواز، فإن شاء الله قال ذلك: أنا مؤمن إن شاء الله، وإن شاء ترك ذلك، وإذا قاله فهو على سبيل التَّبرك والتَّجرد من الحول والقوة وخوف تزكية النفس، لا عن شكٍّ في ذلك.
وأما ما تقوله الخوارج والمعتزلة من أن الاستثناء شكٌّ؛ لأنهم يقولون: الإيمان شيء واحد لا يتبعَّض، فلهذا عندهم مَن عصى كفر، فهذا قول فاسد، ولا وجهَ له، وما عليه أهل السنة والجماعة هو الصواب: أن الاستثناء جائز، وتركه جائز، ومَن استثنى فليس للشكِّ، بل للتَّجرد من الحول والقوة، وللتَّبرك بالمشيئة، وأن الله جلَّ وعلا هو مُصرف الأمور، ومَن ترك ذلك قُبل على الظاهر، وأنه بحمد الله على الإيمان والإسلام الذي جاء به الرسولُ ﷺ، وليس قصده التَّزكية، وإنما قصده الإخبار أنه في جملة المسلمين والمؤمنين.
س: قوله: وإن شاء الله بكم لاحقون هنا للتَّبرك، ما معناه؟
ج: بالمشيئة: إن شاء الله، هذا المقصود؛ لأنها كلمة عظيمة تُفيد التَّجرد من الحول والقوة، وأنَّ الله هو الذي بيده كل شيءٍ، فيتبرك بقولها لئلا ينسب إلى نفسه ما ليس في قُدرته، فقد لا يُلحقه الله بهم في البقعة هذه، أو في العمل والإيمان، أو في أشياء أخرى.
س: الاستثناء في أمرٍ قد مضى مثل: هل صليتَ؟ فيقول: إن شاء الله؟
ج: إذا قاله على طريقة أهل السنة والجماعة من باب التَّجرد من الحول والقوة، وأنه إن شاء الله أدَّى الواجب، ما نعلم فيه حرجًا، ولكن إذا أراد "صليت" يعني: أدَّيتَ الصلاة المعروفة، فلا يحتاج إلى استثناءٍ، لكن لو قالها: صليتُ إن شاء الله. يعني: على سبيل أنه أدَّى الواجب إن شاء الله، ولا يدري لعله يكون قصَّر في الصلاة: في خشوعها، أو في شيءٍ منها، فهذا المعنى لا حرجَ فيه.
س: المعروف عن الأحناف من أهل السنة أنَّهم يمنعون من الاستثناء؟
ج: لأنهم مُرجئة؛ لأنَّ الإيمان عندهم هو التَّصديق، كيف يشكّ في التَّصديق؟! عندهم الإيمان هو التَّصديق، ما عندهم عمل، هذا وجهه، يلحقون بالخوارج والمعتزلة والمرجئة، كلهم شيء واحد.
قَوْلُهُ: (وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ).
يُشِيرُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالْمُعَطِّلَة وَالْمُعْتَزِلَة وَالرَّافِضَة الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْأَخْبَارَ قِسْمَانِ: مُتَوَاتِرٌ وَآحَادٌ. فَالْمُتَوَاتِرُ وَإِنْ كَانَ قَطْعِي السَّنَدِ، لَكِنَّه غَيْرُ قَطْعِي الدِّلَالَة، فَإِنَّ الْأَدِلَّة اللَّفْظِيَّة لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ! وَلِهَذَا قَدَحُوا فِي دلَالَة الْقُرْآنِ عَلَى الصِّفَاتِ! قَالُوا: وَالْآحَادُ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهَا مِنْ جِهَة طَرِيقِهَا، وَلَا مِنْ جِهَة مَتْنِهَا!
فَسَدُّوا عَلَى الْقُلُوبِ مَعْرِفَة الرَّبِّ تَعَالَى وَأَسْمَائِه وَصِفَاتِه وَأَفْعَالِه مِنْ جِهَة الرَّسُولِ، وَأَحَالُوا النَّاسَ عَلَى قَضَايَا وَهْمِيَّة، وَمُقَدِّمَاتٍ خَيَالِيَّة، سَمَّوْهَا: قَوَاطِعَ عَقْلِيَّة، وَبَرَاهِينَ يَقِينِيَّة! وَهِيَ فِي التَّحْقِيقِ: كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:39- 40].
وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ قَدَّمُوهَا عَلَى نُصُوصِ الْوَحْي، وَعَزَلُوا لِأَجْلِهَا النُّصُوصَ، فَأَقْفَرَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْ الِاهْتِدَاءِ بِالنُّصُوصِ، وَلَمْ يَظْفَرُوا بِالْعُقُولِ الصَّحِيحَة الْمُؤَيَّدَة بِالْفِطْرَة السَّلِيمَة وَالنُّصُوصِ النَّبَوِيَّة.
الشيخ: وهذا البلاء الذي وقع في الناس ترتب عليه من الشُّرور والفساد والإعراض عن الله ورسوله ما لا يُحصي شرَّه وخطره إلا الله ، فإنَّ هذا التَّقسيم الذي وقع في الناس قسَّمه قومٌ فأخذوا به، واحتجُّوا به، واستقاموا عليه من أئمة الحديث وغيرهم، فلم يحصل به بالنسبة إليهم ضرر، حيث قالوا: الأخبار تنقسم إلى تواتر وآحاد. وهذا واقع، ولكن أهل البدع قسَّموا هذا التَّقسيم من أجل الوصول إلى نتيجتهم، وإلى قصدهم الباطل، حتى يقولوا ما قالوا: بأنَّ المتواتر وإن كان صحَّ سنده، واضطرت العقولُ إلى تصديقه، لكنه ليس قطعي الدلالة، فلا يُحتج به على ما دلَّ عليه من إثبات أسماء الرب وصفاته. فعزلوا القرآنَ عن أن يُفيد العلم، ثم عزلوا السنةَ وقالوا: إنَّ أكثرها آحاد لا تُفيد العلم. وما تواتر منها جعلوه كالقرآن أيضًا ليس قطعي الدلالة؛ فعطَّلوا هذا وهذا، وضلوا عن سواء السَّبيل، من الجهمية والمعتزلة والرافضة وغيرهم من صنوف أهل البدع الذين تورَّطوا في هذا الأمر، وأقفرت قلوبهم من الإيمان والهدى بالنصوص، واستحوذ عليهم الشيطان؛ فحكَّموا عقولهم الفاسدة، وآراءهم الكاسدة، وقضاياهم الوهمية، وتعطلت بالنسبة إليهم حُجَّة الله على عباده.
أما أهل السنة والجماعة فقبلوا ما جاءت به النصوص، فاحتجُّوا بها، وردُّوا بها على أعداء الله وخصوم الإسلام، فاستقام أمرهم، واستقام إيمانهم، واستقامت لهم الأدلة، وبطلت شبهات المشبِّهين؛ بسبب نور الحقِّ والإيمان الذي احتجَّ به أهلُ الحقِّ، وما يكون من آحادٍ فهو حُجَّة إذا استقام الإسنادُ.
وقد أجمع المسلمون -كما حكى ذلك ابنُ عبد البر والخطيب البغدادي وغيرهما- على أنَّ الآحاد حُجَّة، كما أن المتواتر حُجَّة في باب العقائد، وفي باب الأحكام جميعًا، فالآحاد متى استقامت أسانيدها ولو من طريقٍ واحدةٍ فهي حُجَّة في العمل، وحُجَّة في وجوب الاعتقاد على مَن خالف ذلك، وهذا حديث عمر بن الخطاب : إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى حُجَّة قائمة عند أهل العلم قاطبةً، مع أنه خبر آحادٍ، ونظائر هذا في النصوص كثيرة لا تُحصى.
والمقصود أنَّ الحديث متى استقام إسناده، ومتى اتَّصل، وعُدلت رجاله؛ فهو حُجَّة في العقائد وغير العقائد: في أبواب العبادات، وفي أبواب المعاملات، وفي أبواب الجنايات، وفي أبواب النكاح والطلاق، وغير ذلك، حُجَّة في الجميع عند أهل العلم، وهو حُجَّة بالإجماع عند أهل السنة والجماعة، وإنما اختلفوا: هل يُفيد العلم القطعي أم لا؟
على قولين، والصواب أنه يفيد العلم عند وجود القرائن التي يعرفها أهلُ العلم وأهل البصيرة: من ثقة الرجال، واتصال السند، وعدم المعارض، فإنَّ مثل هذا يُفيد العلم كما ذكر ذلك أئمَّة الحديث في المصطلح، ومن ذلك الحافظُ ابن حجر رحمه الله، حتى في "النخبة" التي هي من أخصر المختصرات، ومن أقلها كلمات، يقول فيها: وقد يقع فيها –يعني الآحاد- ما يُفيد العلم النَّظري بالقرائن على المختار. والقرائن هي استقامة الأسانيد، وثقة الرجال، وظهور وشهرة عدالتهم واستقامتهم، مع عدم الشُّذوذ والعلَّة، فيستقيم الإسناد ويُحتجُّ به، ويُفيد العلم النَّظري بالنسبة إلى أهل العلم والنَّظر، وقد يُفيد العلم الضَّروري عند تعدد الأسانيد وظهور المعنى.
والحاصل أن الأدلة من الكتاب والسنة حجة قائمة على أعداء الله وعلى خصوم الإسلام في جميع الشؤون الإسلامية: عقدية أو فرعية، في جميع الأمور، فالآيات حُجَّة قائمة بالإجماع، وهكذا الأحاديث حُجَّة قائمة بالإجماع، سواء سُميت: متواترة، أو سميت: آحادًا، فالحكم فيها واحد، كلها تُفيد القطع، وتُفيد الحُجية على الأحكام، ما عدا أشياء قليلة من الآحاد، قد يتوقف في إفادتها العلم، وإن كانت حُجَّةً قائمةً في أسانيدها الصحيحة وثبوتها، فكونها تُفيد العلم النظري أو الضَّروري أمر ثانوي، المهم أنها حُجَّة قائمة، متى استقامت الأسانيد ولو إسنادًا واحدًا فإنه حُجَّة قائمة في العقائد والأحكام.
الشيخ: فصار عاقبتهم الشَّك والحيرة، نعوذ بالله، هؤلاء المتكلمون الضَّالون الملحدون، وهؤلاء الذين قلَّدوهم صار عاقبتهم الشَّك والحيرة.
الشيخ: الله يقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، ويقول سبحانه: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، وهؤلاء الضَّالون يقولون: لا، ما تنازعتم فيه واختلفتم فيه ردُّوه إلى قضايا العقول التي خلقها الله لنا؛ لنُميز بها وننظر بها! فجعلوا عقولهم الكاسدة المختلفة المتناقضة هي الأساس، بأي عقلٍ يُحتج؟! وعلى أي عقلٍ يُعتمد؟! العقول متناقضة ومختلفة ومتنوعة، فعلى أي عقلٍ لو كانوا يعقلون؟!
فَلِذَلِكَ اشْتَدَّ إِنْكَارُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَطَرِيقُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنْ لَا يَعْدِلُوا عَنِ النَّصِّ الصَّحِيحِ، وَلَا يُعَارِضُوه بِمَعْقُولٍ، وَلَا قَوْلِ فُلَانٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: سَمِعْتُ الْحُمَيْدِيَّ يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَتَاه رَجُلٌ فَسَأَلَه عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: قَضَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ رجُلٌ لِلشَّافِعِي: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَرَانِي فِي كَنِيسَةٍ؟! تَرَانِي فِي بِيعَةٍ؟! تَرَى على وَسَطِي زُنَّار؟! أَقُولُ لَكَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأَنْتَ تَقُولُ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟!
الشيخ: والمعنى: قضايا الرسول موقوفة على رأيي؟ ما دام أنه قال رسولُ الله فليس لي كلام أنا ولا غيري، مَن أنا حتى أقول شيئًا يُخالف رسول الله؟! ومقصود من هذا الإنكار، يعني: هل رأيتني عليَّ علامة اليهود أو النَّصارى في كنيسةٍ أو في بيعةٍ حتى تقول: ما تقول أنت؟! أنا مسلم، ما دام أنه قضى رسولُ الله فأنا مع قضايا رسول الله.
ومن هذا الباب ما ذكره الشيخُ محمد رحمه الله في كتاب "التوحيد"، في باب "مَن جحد شيئًا من الأسماء والصِّفات"، وقال أحمد رحمه الله حين قال: عجبتُ لمن عرف الإسنادَ وصحَّته ويذهبون إلى رأي سفيان! والله تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
يتعجَّب رحمه الله من قومٍ من أهل الحديث عرفوا الإسنادَ وصحَّته إلى النبي ﷺ، ثم يذهبون إلى رأي سفيان الثَّوري؛ لعدم ثقتهم بعلومهم وعقولهم، فيعجب منهم ويقول: كيف يذهبون إلى رأي سفيان؟! وسفيان مَن هو سفيان؟ سفيان المعروف بالورع والعلم والفضل والفقه، فكيف بمَن ذهب إلى مَن لا يُحاذي ولا يُقارب تلاميذ سفيان في العلم والفضل والورع والدين؟! بل يذهبون إلى آراء أناس مُنحرفين عن الهدى، حكَّموا عقولهم، وضيَّعوا دينَهم! نسأل الله العافية.
وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
وَخَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا تَلَقَّتْه الْأُمَّة بِالْقَبُولِ، عَمَلًا بِهِ، وَتَصْدِيقًا لَهُ؛ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِي عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأُمَّة، وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَي الْمُتَوَاتِرِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ سَلَفِ الْأُمَّة في ذَلِكَ نِزَاعٌ: كَخَبَرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ: "نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِه"، وَخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا، وَكَقَوْلِه: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ خَبَرِ الَّذِي أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْقِبْلَة تَحَوَّلَتْ إِلَى الْكَعْبَة، فَاسْتَدَارُوا إِلَيْهَا.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُرْسِلُ رُسُلَه آحَادًا، وَيُرْسِلُ كُتُبَه مَعَ الْآحَادِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ يَقُولُونَ: لَا نَقْبَلُه؛ لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ! وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33]، فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْفَظَ اللَّهُ حُجَجَه وَبَيِّنَاتِه عَلَى خَلْقِه؛ لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجَه وَبَيِّنَاتِه.
وَلِهَذَا فَضَحَ اللَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِهِ فِي حَيَاتِه وَبَعْدَ وَفَاتِه، وَبَيَّنَ حَالَه لِلنَّاسِ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: مَا سَتَرَ اللَّهُ أَحَدًا يَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: لَوْ هَمَّ رَجُلٌ في البحر أَنْ يَكْذِبَ فِي الْحَدِيثِ، لَأَصْبَحَ وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: فُلَانٌ كَذَّابٌ.
وَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَلَكِنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ وَسَقِيمِهَا لَا يَنَالُه أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُعْظَمَ أَوْقَاتِه مُشْتَغِلًا بِالْحَدِيثِ، وَالْبَحْثِ عَنْ سِير الرُّوَاة؛ لِيَقِفَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَشِدَّة حَذَرِهِمْ مِنَ الطُّغْيَانِ وَالزَّلَلِ، وَكَانُوا بِحَيْثُ لَوْ قُتِلُوا لَمْ يُسَامِحُوا أَحَدًا فِي كَلِمَةٍ يَتَقَوَّلُهَا على رَسُولِ الله ﷺ، وَلَا فَعَلُوا هُمْ بِأَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ، وَقَدْ نَقَلُوا هَذَا الدِّينَ إِلَيْنَا كَمَا نُقِلَ إِلَيْهِمْ، فَهُمْ تركُ الْإِسْلَامِ.
الشيخ: يزك: جند الإسلام يعني، ولعلها كلمة تركية أخذوها من الأتراك: اليزك: الجند والعسكر. ياء، زاي، كاف.
الطالب: في تعليق شاكر قال: ترك -بضم التاء المثناة والراء- جمع تريكة -بفتح التاء وكسر الراء- وهي بيضة الحديد للرأس، يريد أنهم دروع الإسلام وحفظته، وفي المطبوعة: بزك، وهو تحريف لا معنى له، ويمكن أن تُقرأ: بزل -بضم الباء الموحدة والزاي وآخرها لام- وهو جمع بازل، وأصله وصف للبعير إذا بزل نابه، أي طلع، وهو أقصى أسنان البعير.
الشيخ: ليس كذلك ....... هذا نبَّه عليه ابنُ القيم رحمه وقال: إنها لغة تركية؛ لأنَّ الترك ملكوا الشام مدةً طويلةً، وكثرت كلماتهم، واستعملها الناس، وليس لها فيما نعلم أصل في العربية، ولكنَّها مما استُعمل من لغات الآخرين، أما "ترك" فما هو واضح، لا ترك، ولا بزل، كلها ما هي واضحة، هم شباب الإسلام .......
المقصود أنَّ الكلمة هذه كلمة فيما يظهر أعجمية، من لغة الأتراك، ومن استعمالهم، استعملها ابنُ القيم، واستعملها جماعةٌ آخرون؛ لأنها اشتهرت في الجند والعساكر، والتي ترصد للحرب، فصوابه: يزك -بالياء والزاي والكاف- وهم الجند؛ جند الإسلام.
يزكُ الْإِسْلَامِ، وَعِصَابَة الْإِيمَانِ، وَهُمْ نُقَّادُ الْأَخْبَارِ، وَصَيَارِفَة الْأَحَادِيثِ، فَإِذَا وَقَفَ الْمَرْءُ عَلَى هَذَا مِنْ شَأْنِهِمْ، وَعَرَفَ حَالَهُمْ، وَخَبَرَ صِدْقَهُمْ وَوَرَعَهُمْ وَأَمَانَتَهُمْ؛ ظَهَرَ لَهُ الْعِلْمُ فِيمَا نَقَلُوه وَرَوَوْه.
وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ وَمَعْرِفَة يَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِ نَبِيِّهِمْ وَسِيرَتِه وَأَخْبَارِه مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ بِهِ شُعُورٌ، فَضْلًا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لَهُمْ أَوْ مَظْنُونًا، كَمَا أَنَّ النُّحَاة عِنْدَهُمْ مِنْ أَخْبَارِ سِيبَوَيْه وَالْخَلِيلِ وَأَقْوَالِهِمَا مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَعِنْدَ الْأَطِبَّاءِ مِنْ كَلَامِ بُقْرَاطَ وَجَالِينُوسَ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَكُلُّ ذِي صَنْعَةٍ هُوَ أَخْبَرُ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ، فَلَوْ سَأَلْتَ الْبَقَّالَ عَنْ أَمْرِ الْعِطْرِ، أَوِ الْعَطَّارَ عَنِ الْبَزِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لَعُدَّ ذَلِكَ جَهْلًا كَثِيرًا.
وَلَكِنَّ النُّفَاةَ قَدْ جَعَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] مُسْتَنَدًا لَهُمْ فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة، فَكُلَّمَا جَاءَهُمْ حَدِيثٌ يُخَالِفُ قَوَاعِدَهُمْ وَآرَاءَهُمْ وَمَا وَضَعَتْه خَوَاطِرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ رَدُّوه بِـلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
الشيخ: كلمة حقٍّ أُريد بها باطل، خفي عليهم معناها، وضلُّوا بها، نسأل الله العافية، وهي آية عظيمة، وحُجَّة قاطعة في نفي مُشابهة الله لخلقه، مع إثبات أسماء الله وصفاته، فهو سبحانه الذي قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ هو الذي أثبت الأسماء والصِّفات، وأخبر بها عن نفسه جلَّ وعلا، فكيف يرد كلامه بكلامه لو كان القومُ يعقلون؟!
كلامه لا ينقض بعضُه بعضًا، فقد أخبر عن نفسه بصفاتٍ، وأخبر أنه لا مثلَ له، ولا كفء له، ولا سَمِيَّ له، ولا ندَّ له، ولا تُضرب له الأمثال، فهذا حقٌّ، وهذا حقٌّ، فهو سميع ليس كمثله شيء، بصير ليس كمثله شيء، قوي ليس كمثله شيء، عليم ليس كمثله شيء، وهكذا، فهي صفات عظيمة كاملة، لا مثلَ له فيها .
تَلْبِيسًا مِنْهُمْ وَتَدْلِيسًا عَلَى مَنْ هُوَ أَعْمَى قَلْبًا مِنْهُمْ، وَتَحْرِيفًا لِمَعْنَى الْآي عَنْ مَوَاضِعِه.
فَفَهِمُوا مِنْ أَخْبَارِ الصِّفَاتِ مَا لَمْ يُرِدْه اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ، وَلَا فَهِمَه أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّة الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَقْتَضِي إِثْبَاتُهَا التَّمْثِيلَ بِمَا لِلْمَخْلُوقِينَ! ثُمَّ اسْتَدَلُّوا عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ بِـلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] تَحْرِيفًا لِلنَّصَّيْنِ! وَيُصَنِّفُونَ الْكُتُبَ، وَيَقُولُونَ: هَذَا أُصُولُ دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَجَاءَ مِنْ عِنْدِه، وَيَقْرَأونَ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَيُفَوِّضُونَ مَعْنَاهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ لِمَعْنَاه الَّذِي بَيَّنَه الرَّسُولُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَعْنَاهُ الَّذِي أَرَادَه اللَّهُ.
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ عَلَى هذه الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ.
الشيخ: هذه الصِّفات الثلاث: تحريف الكلم عن مواضعه، يعني: تفسيره بغير معناه. كتابة الكتب من عند أنفسهم، ويقولون: هذه من عند الله، هذا الثاني، والثالث: التَّفويض.
تحريف وكذب وتفويض للمعاني، يقولون: ما نعرف معناه، هذه ألفاظ لا نعرف معناها، هذه مما ذمَّ الله عليها الأوائل، فذمَّهم بالتَّحريف: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [النساء:46]، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79]، وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78]، مجرد التلاوة، لا يعرفون المعنى، بل يُفوِّضونه.
فالمقصود أنَّ الله جلَّ وعلا أنزل كتابًا، وأنزل سنةً، وبيَّن معانيها وأوضحها، فلا يجوز أن تُؤَوَّل بغير تأويلها أو تُحرَّف، ولا يُزاد فيها شيء من عند الناس، يكتبون ويقولون: هذا من عند الله، ولا يجوز أن تُفوَّض ويُقال: لا نعلم معناها، بل يجب التَّدبر، والله أمر بالتَّدبر: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29]، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، فهم مأمورون بالتَّدبر، يعني: أن يعلموا المعنى، والتَّفويض معناه: إعراض عن التَّدبر، وإعراض عن فهم ما أوحى الله إليهم، فالله ما أوحى إليهم ليُعرضوا، بل أوحى إليهم ليتدبروا ويعقلوا ويتعلَّموا ويستفيدوا ويعملوا.
فالتَّفويض الذي يدعيه بعضُ أهل البدع، وتنسبه إلى أهل السنة، وإيجاد كتب ما أنزل الله بها من سلطانٍ، تُخالف الحقَّ، وتُباين الحق، هذا كذلك باطل، ومن عمل اليهود وأشباههم، وتحريف الكلم عن مواضعه، وتغيير معانيه، كقولهم: استوى: استولى، أو المحبَّة بمعنى: إرادة المنعم، والبغضاء معناها: إرادة الانتقام! هذا تأويل للكلم عن مواضعه، تحريف المحبَّة غير الإرادة، والبغضاء غير الإرادة، فالبغضاء وصف مُستقلٌّ، والمحبَّة وصف مُستقلٌّ، والإرادة وصف مُستقلٌّ، فتفسير البغضاء والغضب بعدم إرادة الإنعام، وتفسير المحبَّة والرضا بإرادة الإنعام، تحريفٌ للكلم عن مواضعه، وتفسير الاستواء بالاستيلاء أو بمعنًى آخر غير العلو، كل هذا من باب التَّحريف.
والواجب على أهل العلم والإيمان وعلى أهل الإسلام وعلى أهل الخوف من الله: أن يتقبَّلوا ما جاءت به النصوص تقبُّلًا حسنًا بالرضا والقبول والتَّدبر والعمل والتَّفقه، لا بالتَّحريف ولا بالتَّأويل، وبإعراضٍ وغفلةٍ، ولا بإيجاد أشياء ما أنزل الله بها من سلطانٍ تُضاف إلى مَن جحد ما جاء به الرسولُ للتَّدليس والتَّأويل والتَّلبيس وصرف الناس عن الحقِّ، فهذا كله من عمل أهل الكتاب، ومن عمل أعداء الله، أما أهل الإيمان والإسلام فلا، بل يقبلون الحقَّ، ويتدبرونه، ويتعقَّلونه، ويتفهمون المعاني؛ لأنهم خُوطبوا بلغةٍ يفهمونها، والذي لا يفهمها يجب أن تُترجم له وتُفسر له بلغته ليتعقلها، وليس له أن يأتي بشيءٍ من عنده ويقول: هذا من عند الله! لا، هذا من عمل أعداء الله، وليس له أن يُؤول النصوص على غير تأويلها بغير حُجَّةٍ، وبغير دليلٍ من كلام العرب الذي نزل به القرآنُ وجاءت به السنة، وليس له أن يعرض ويقول: هذا لا نعرفه ولا نعلم معناه، فيُعرض ويُفوِّض، كل هذا لا يجوز، بل الواجب تقبل الحقّ والرضا به، وتدبر المعاني وفهمها والتَّفقه فيها، وإمرارها كما جاءت، وإبقاؤها كما جاءت، لا تُغير، ولا تُحرَّف، ولا يُزاد فيها، ولا يُنقص.
الشيخ: الأول التَّحريف، والثاني التَّفويض.
الشيخ: هذا الثالث.
فَذَمَّهُمْ عَلَى نِسْبَة مَا كَتَبُوه إِلَى اللَّهِ، وَعَلَى اكْتِسَابِهِمْ بِذَلِكَ، فَكِلَا الْوَصْفَيْنِ ذَمِيمٌ: أَنْ يَنْسِبَ إِلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ مِنْ عِنْدِه، وَأَنْ يَأْخُذَ بِذَلِكَ عِوَضًا مِنَ الدُّنْيَا مَالًا أَوْ رِيَاسَةً.
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَعْصِمَنَا مِنَ الزَّلَلِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِمَنِّه وَكَرَمِه.
الشيخ: يعني أنهم جمعوا بين الشَّرين: كذبوا، ثم أخذوا في مقابل ذلك عوضًا: مالًا، أو رياسةً، أو نحو ذلك، فما كفاهم الكذب فقط، بل كذبوا وأخذوا في مقابل ذلك التَّأويل والكذب والتَّحريف المالَ، اشتروا به ثمنًا قليلًا، يعني: حتى تبقى لهم الرياسة التي هم فيها، أو حتى يُعطوا مالًا في مقابل هذا الكذب الذي يُرضي مَن كذبوا له؛ حتى يُغيروا شرع الله ويُحرفوه، نسأل الله العافية.
الشيخ: الشرع الابتدائي: الأحكام التي ليست في القرآن، هذا الشرع الابتدائي، ليس في القرآن.
والبياني: إيضاح لما في القرآن، مثل: بيان الرضاعة، يعني: ما هي الرضاعة؟ وأنها خمس رضاعات، وأنها في الحولين، وأنها تقوم مقام النَّسب.
وبيان معنى "أقيموا الصلاة"، ما معنى إقامة الصلاة؟ "آتوا الزكاة" ما معناها؟ وأنها تُصلَّى: الظهر أربعًا، والعصر أربعًا، والمغرب ثلاثًا، والعشاء أربعًا، والفجر ثنتين، وأنَّ فيها ركوعًا، وفيها سجودين، هذا من البيان.
والزكاة: بيان الأنصبة، وبيان الحق الواجب في المال، ما هو؟ هذا البيان.
صيام رمضان: ما هو الصيام؟ ما دليل الصيام؟ ما هو الذي يُمسَك عنه؟
الحجّ: ما أعماله؟ ما هي أوقاته؟ كل هذا بيان.
أما الشرع المستقل الذي جاء به الرسولُ ﷺ من غير بيانٍ، بل هو شرع مُستقلٌّ، فله أمثلة، مثل: تحريم الجمع بين المرأة وعمَّتها، وبين المرأة وخالتها، فإنَّ هذا شرع مُستقلٌّ لم يرد في الكتاب في بيان المحرَّمات، وعندما ذكر الله المحرَّمات قال: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، فجاءت السنة ببيان تحريم الجمع بين المرأة وعمَّتها، والمرأة وخالتها، فهذا شرع مُستقل، كذلك تحريم مَن عدا الأمهات والأخوات من الرضاع، نصّ القرآن: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [النساء:23]، ولم يذكر في ذلك بنات الأخ، ولا بنات الأخت، ولا الخالات، ولا العمَّات، فجاءت السنةُ ببيان الزيادة، وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النَّسب، فتحرم الخالةُ والعمَّة وبنتُ الأخ وبنتُ الأخت والبنتُ من الرضاع، فهؤلاء خمس جاءت بهم السنة، أما الكتاب فجاء بالأم والأخت، وجاءت السنة بتحريم البنت من الرضاعة، والخالة من الرضاعة، والعمَّة من الرضاعة، وبنت الأخ من الرضاعة، وبنت الأخت من الرضاعة، خمس، وأشياء من جنس ذلك.
وَجَمِيعُ ذَلِكَ حَقٌّ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ.
وَقَوْلُهُ: (وَأَهْلُه فِي أَصْلِه سَوَاءٌ، وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِيقَة وَمُخَالَفَة الْهَوَى، وَمُلَازَمَة الْأَوْلَى). وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: "بِالْخَشْيَة وَالتُّقَى" بَدَلَ قَوْلِهِ: "بِالْحَقِيقَة".
فَفِي الْعِبَارَة الْأُولَى يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْكُلَّ مُشْتَرِكُونَ فِي أَصْلِ التَّصْدِيقِ، وَلَكِنَّ التَّصْدِيقَ يَكُونُ بَعْضُه أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ وَأَثْبَتَ، كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُه بِقُوَّة الْبَصَرِ وَضَعْفِه.
وَفِي الْعِبَارَة الْأُخْرَى يُشِيرُ إِلَى أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَأَمَّا التَّصْدِيقُ فَلَا تَفَاوُتَ فِيهِ.
وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ قُوَّةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشيخ: المعنى الأول هو الصواب، أصل التَّصديق الناس فيه سواء من جهة التَّصديق، كلهم يجب عليهم التصديق بما أخبر الله به ورسوله، لكنه يتفاوت كما يتفاوت العمل، والمرجئة في هذا لهم كلمات انتقدها أهلُ السنة والجماعة، فقولهم: "في أصله سواء، مع الاختلاف في العمل والخشية". هذا غلط، فليس تصديق الصديق وعمر وعثمان وعلي مثلًا مثل تصديق مَن بعدهم من الناس، وليس تصديقُ الصحابة كتصديق مَن بعدهم، تصديقهم أقوى، وليس الناس بعدهم سواء، وليس تصديقُ العلماء أهل البصائر مثل تصديق العامَّة، بينهم فرق في التَّصديق، وليس تصديق مَن شاهد السيلَ يجري ورأى السيل يجري كتصديق مَن قيل له: الوادي الفلاني سال، تصديق هذا بالمشاهدة غير تصديق ذاك الذي جاءه الخبر، التصديق يتفاوت، وهكذا العمل يتفاوتون فيه، فهم مُتفاوتون في العمل، ومتفاوتون في التَّصديق.
ولهذا قال أهلُ السنة: الإيمان يزيد وينقص، هذا يزيد إيمانه لكثرة أعماله الصَّالحة وقوة تصديقه وكمال تصديقه، وهذا ينقص إيمانه بضعف تصديقه وبضعف عمله الصالح وبضعف خشيته لله، فأعمال القلوب: الخشية والمحبَّة والرجاء والخوف والإخلاص متفاوتة، وهكذا أعمال الجوارح: الصلاة والزكاة والصيام والحج وترك المحارم والمسارعة في الخيرات وترك السيئات متفاوتة؛ ولهذا من أصول أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص، يزداد بالطاعات والأعمال الصَّالحات وقوة اليقين وكمال العلم، وينقص بخلاف ذلك.
والمرجئة جعلوا العملَ ليس من الإيمان، وأن الإيمان مجرد التَّصديق فقط، ولكن هذا قول عند أهل السنة مرجوح، والصواب أنَّ الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، هذا الذي عليه جمهورُ أهل السنة والجماعة قاطبةً.