20 قوله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)

قَوْلُهُ: (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ).

قَالَ تَعَالَى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ الآية [يونس:62- 63].

الْوَلِي مِنَ "الْوَلَايَة" -بِفَتْحِ الْوَاوِ- الَّتِي هِيَ ضِدُّ الْعَدَاوَة، وَقَدْ قَرَأَ حَمْزَة: مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنفال:72] بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ. وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ النُّصْرَة، وَبِالْكَسْرِ الْإِمَارَة. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَجَازَ الْكَسْرُ لِأَنَّ فِي تَوَلِّي بَعْضِ الْقَوْمِ بَعْضًا جِنْسًا مِنَ الصِّنَاعَة وَالْعَمَلِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ مَكْسُورٌ، مِثْلُ: "الْخِيَاطَة" وَنَحْوِهَا.

فَالْمُؤْمِنُونَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى وَلِيُّهُمْ.

الشيخ: والأظهر والأكثر بالفتح من "وَلاية" التي هي الموالاة والمحبَّة، وفي الولاية التي هي الإمارة والعمل بالكسر، ولاية البلد الفلاني، يعني: إمارة البلد والتَّصرف، والولاية: المحبَّة والتَّعاطف والتَّناصر والتَّعاون، يُقال لها: ولاية: مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ [الكهف:44]، فالمؤمنون أولياء لما بينهم بحسب إيمانهم وتقواهم لله، لكن ما تقوله الصُّوفية: أن الولي له شروط كذا وكذا من الخوارق! أو أنه يتصرف في الكون! أو أنه يعلم الغيب! أو أنه كيت وكيت. كل هذا من الأباطيل، بل الولي هو المؤمن، هذا هو الولي، وضدُّه العدو والكافر، والعاصي فيه نوع ولاية، وفيه نوع عداوة، فهو بمعاصيه صار في قسم العداوة، وفي طاعته لله صار في قسم الولاية، ففيه شُعبتان، بل شُعب، على حسب طاعته ومعاصيه، فهو ذو شائبتين: شائبة تُلحقه بأهل الإيمان بتقواه لله وإيمانه، وشائبة تُلحقه بالأعداء بمعاصيه لله.

والكفار هم أعداء الله، والمؤمنون هم أولياء الله، والعاصي بين البين، فإنَّ له وصفًا يُلحقه بأولياء الله، وله وصفًا يُلحقه بالأعداء، فهذا يوجب له البدار والمسارعة إلى التَّخلي من كلِّ ما يُلحقه بالأعداء من معاصي الله، وأن يكون حريصًا على أن يكون أبدًا في ولاية الله وفي طاعة الله: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62- 63]، هؤلاء أولياء الله، ليس من شرطهم أن تكون لهم خوارق، لا، ليس بشرطٍ، قد يقع الخارقُ لكن ليس بشرطٍ، أكثر الصَّحابة لم ترد عنهم خوارق، وهم رأس أولياء الله.

وكذلك قوله جلَّ وعلا: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الأنفال:34] فالذي لا يتَّقي الله ولا يستقيم ليس بوليٍّ لله، ولو طار في الهواء بين الناس، ولو مشى على البحر جامدًا، تحته البحر يمشي عليه لا يكون وليًّا لله، يكون من أولياء الشيطان حتى يستقيم على أمر الله، وحتى يُعرف بالاستقامة على أمر الله، أما الجهلة إذا رأوا شيئًا من الشَّعوذة التي يفعلها بعضُ أولياء الشيطان قالوا: هذا ولي؛ لأنه كذب عليهم في أشياء، وادَّعى أشياء، فقالوا: الولي مَن حصل له خارق، ثم قال: فلان يصل، بدعوى علم الغيب، أو فلان يُحضر له طعامًا في غير وقته، أو ما أمثل لوقته بالطرق الخفية، أو ما أشبه ذلك من الأشياء، أو فراسة يتفرَّسها فيُصيب، فيقولون: هذا هو الولي، ولو كان يعصي الله ليلًا ونهارًا، ويأتي بالفواحش ليلًا ونهارًا، فهذا جهل كبير، والعياذ بالله، وفساد عظيم، واستيلاء الشيطان على قلوبهم ومشاعرهم، نسأل الله العافية.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ الآية [البقرة:257]، وَقَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:11]، وقَالَ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ الآية [التوبة:71]، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:72] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ۝ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:55- 56].

فَهَذِهِ النُّصُوصُ كُلُّهَا ثَبَتَ فِيهَا مُوَالَاة الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ وَلِيُّهُمْ وَمَوْلَاهُمْ، فَاللَّهُ يَتَوَلَّى عِبَادَه الْمُؤْمِنِينَ، فَيُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه، وَيَرْضَى عَنْهُمْ وَيَرْضَوْنَ عَنْهُ، وَمَنْ عَادَى لَهُ وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَه بِالْمُحَارَبَة.

وَهَذِهِ الْوِلَايَة مِنْ رَحْمَتِه وَإِحْسَانِه، لَيْسَتْ كَوِلَايَة الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ لِحَاجَتِه إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [الإسراء:111]، فَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ، بَلْ لِلَّهِ الْعِزَّة جَمِيعًا.

الشيخ: يعني: أولياؤه ليس في حاجةٍ إليهم، فهو غني عنهم وعن غيرهم ، إنما هم أولياء محبَّةٍ وطاعةٍ وإحسانٍ منه جلَّ وعلا إليهم، وليسوا بأولياء من الذلِّ، بل هو العزيز ، وعباده هم الأذلَّاء الفُقراء إليه.

خِلَافَ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَتَوَلَّاه لِذُلِّه وَحَاجَتِه إِلَى وَلِيٍّ يَنْصُرُه.

وَالْوِلَايَة مَعْنَاهَا أَيْضًا نَظِيرُ الْإِيمَانِ، فَيَكُونُ مُرَادُ الشَّيْخِ: أَنَّ أَهْلَهَا فِي أَصْلِهَا سَوَاءٌ، وَتَكُونُ كَامِلَةً وَنَاقِصَةً: فَالْكَامِلَة تَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ۝ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [يونس:62- 64]، فَـالَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَة "أَوْلِيَاءِ اللَّهِ"، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، أَوْ بِإِضْمَارِ: أَمْدَحُ، أَوْ مَرْفُوعٌ بِإِضْمَارِ: هُمْ، أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ لِـ"إِنَّ"، وَأُجِيزَ فِيهِ الْجَرُّ بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ "عَلَيْهِمْ".

وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوه كُلِّهَا فَالْوِلَايَة لِمَنْ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، وَهُمْ أَهْلُ الْوَعْدِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ، وَهِيَ عِبَارَة عَنْ مُوَافَقَة الْوَلِي الْحَمِيدِ فِي مَحَابِّه وَمَسَاخِطِه، لَيْسَتْ بِكَثْرَة صَوْمٍ وَلَا صلاةٍ، وَلَا تَمَلُّقٍ وَلَا رِيَاضَةٍ.

وَقِيلَ: "الَّذِينَ آمَنُوا" مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ "لَهُمُ الْبُشْرَى"، وَهُوَ بَعِيدٌ؛ لِقَطْعِ الْجُمْلَة عَمَّا قَبْلَهَا، وَانْتِثَارِ نَظْمِ الآية.

وَيجْتَمِعُ فِي الْمُؤْمِنِ وِلَايَة مِنْ وَجْهٍ، وَعَدَاوَة مِنْ وَجْهٍ، كَمَا قَدْ يَكُونُ فِيهِ كُفْرٌ وَإِيمَانٌ، وَشِرْكٌ وَتَوْحِيدٌ، وَتَقْوَى وَفُجُورٌ، وَنِفَاقٌ وَإِيمَانٌ.

الشيخ: هؤلاء هم العُصاة، وهم الطبقة الثالثة، فإنَّ الناس طبقات ثلاث:

الطبقة الأولى: أهل الإيمان والتَّقوى، وتشمل: الرسل والأنبياء ومَن تبعهم بإحسانٍ.

الطبقة الثانية: مَن عادى الله وكفر به، وهم الكفَّار من المنافقين ومن سائر أنواع الكفَّار، وهم أعداء الله وأهل غضبه وحربه.

والطبقة الثالثة: مَن فيه شُعبة من الإيمان، وشُعبة من النِّفاق والكفر، وهم أهل المعاصي والسّيئات على اختلاف أصنافهم، فيهم المقلّ من المعاصي، وفيهم المكثِر، فمَن كانت طاعته أكثر صار إلى ولاية الله أقرب، وإن صارت معاصيه وشرُّه أكثر صار إلى عداوة الله أقرب، على حسب أحوالهم، ما لم يتوبوا، فإذا تابوا التحقوا بأولياء الله، وإذا ارتدُّوا التحقوا بأعداء الله، وما داموا في المعاصي مع أصل الإيمان والإسلام فهم أصحاب الشَّائبتين، وهم أصحاب الخلط وعدم التَّجرد وعدم التَّمييز.

وَإِنْ كَانَ فِي هَذَا الْأَصْلِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَنِزَاعٌ مَعْنَوِيٌّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْبِدَعِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْإِيمَانِ. وَلَكِنَّ مُوَافَقَةَ الشَّارِعِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى أَوْلَى مِنْ مُوَافَقَتِه فِي الْمَعْنَى وَحْدَه، قَالَ تَعَالَى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106]، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا الْآيَةَ [الحجرات:14]، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ.

وَقَالَ ﷺ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصلةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصلةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ بَدَلَ: وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ. أَخْرَجَاه فِي "الصَّحِيحَيْنِ".

وَحَدِيثُ "شُعَبِ الْإِيمَانِ" تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ ﷺ: يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِه مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ.
فَعُلِمَ أَنَّه مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ أَقَلّ الْقَلِيلِ لَمْ يُخَلَّدْ فِي النَّارِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ النِّفَاقِ فَهُوَ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ عَلَى قَدْرِ مَا مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ.

الشيخ: والمقصود من هذا النِّفاق العملي، مثل: المعاصي، ليس يُنافي التوحيد، فإذا دخل النارَ بخيانته أو بكذبه أو بفجوره في الخُصومات أو ما أشبه ذلك من المعاصي فإنَّه لا يُخلَّد في النار، بخلاف المنافق النِّفاق الاعتقادي، النفاق الأكبر، وهو نفاق التَّكذيب، هذا مع المخلَّدين في النار، نعوذ بالله، هذا كافر كما قال سبحانه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145].

فالنِّفاق نفاقان: نفاق عملي لا يُنافي التوحيد والإيمان، ولكن ينقصهما: كالمعاصي، فهذا مثلما جاء في حديث عبدالله بن عمرو: إذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإذا اؤتُمن خان، وفي حديث أبي هريرة: آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتُمن خان، وإن صلَّى وصام وزعم أنه مسلم.

فالحاصل أنَّ هذه كلها لا تتنافى مع أصل الإيمان، وقد يُعذَّب صاحبُها في النار إذا مات عليها، لكن لا يُخلَّد ما دام مُوحِّدًا مؤمنًا بالله واليوم الآخر، لا يعبد إلا الله، وإن كان توحيده قليلًا، وإن كان توحيده مثاقيل الذَّر، لكن ليس عنده الشرك الأكبر، فهذا لا يُخلَّد في النار، وإنما يُخلَّد مَن فقد الإيمان، مَن فقد التوحيد بنفاقه الأكبر وكفره، فإنَّ المنافق المكذِّب: تكذيبه بالرسول ﷺ، أو تكذيبه بيوم القيامة، أو تكذيبه بما جاء عن الله من الأخبار يُحبط أعماله كلها، ما يبقى له توحيد، وما تبقى له حسنة، تكون أعماله كلها حابطةً، مثل سائر الكفار، نعوذ بالله؛ لأنَّ الله قال في كتابه العظيم: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5]، وقال سبحانه: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، فهذا يدل على أنَّ الكفر يُحبط الأعمال، ولو أنَّ صاحب هذا الكفر يُصلي ويصوم ويتصدَّق ويعتق، هذه أعمال باطلة، حابطة، ما لها قيمة: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].

ثم يُوضِّح هذا لو أنَّ إنسانًا أحسن الوضوء، وتطهر أحسن الطَّهارة، ثم أحدث من ريحٍ أو بولٍ أو غائطٍ؛ بطلت هذه الطَّهارة، ولو كانت أحسن طهارةٍ، فإنَّ هذا الناقضَ أفسدها، فهكذا نواقض الإسلام تُفسد هذه الأعمال، نواقض الإسلام بمثابة نواقض الطَّهارة، بل أشدّ، فالذي يصوم ويُصلي ويتصدق ويحج، ولكنه يُشرك بالله ويدعو غيره، ويطلب المدد من الآلهة: من القبور، من الكواكب، من الأصنام، من الشيوخ؛ شركه أبطل عمله، وهكذا استهزاؤه بالدِّين، وهكذا تكذيبه بيوم القيامة، وتكذيبه للرسول عليه الصلاة والسلام، وسبّه للدِّين واستهزاؤه، أي ناقضٍ من النواقض، تبقى هذه الأعمال لا قيمةَ لها، مثلما أن الطَّهارة التي نقضها بالريح أو بالبول أو نحوهما ما لها قيمة، ولو كان قد أكملها وأحسنها حين توضأ.

فينبغي التَّفطن لهذا الأمر؛ لأنَّ كثيرًا من العبَّاد في النَّصارى وفي هذه الأمة وفي غيرها من أمم الكفر: كالبوذية والوثنية وغير هذا من أنواع الكفر، قد يكون عندهم شيء من العبادات، قد يكون عندهم شيء من صدقات، من عطفٍ على الفقراء والمساكين، من إكثارٍ من بعض الخير الذي يُحبه الله، لكن ما عندهم من الكفر بالله أفسد عليهم هذا كله، وأبطل عليهم هذا كله، وصار وجوده كعدمه بسبب الكفر الذي معه.

س: ما يلزم الجاهل القبوري؟

ج: هذه من الأمور العظيمة التي جاء بها الإسلام وجاءت بها الرسل، لا يخفى مثلها، والقرآن بين أيديهم، والسنة بين أيديهم، والعلماء بين أيديهم، ولكنَّهم قانعون بما هم عليه، لا يرضون أن يُنَبَّهوا، نسأل الله العافية.

ثم لو قُدِّر أنهم جهلوا، فالحكم في الدنيا على هذا، مثل سائر الكفار، أما الآخرة: إذا كان الله جلَّ وعلا يعلم من قلوبهم أنهم جهلوا وأنهم يطلبون الحقَّ، يكون لهم حكمُ الآخرة عند الله، الله يتولى حسابهم، كأهل الفترات، قد يُمتحنون يوم القيامة، نسأل الله العافية، وقد بيَّن سبحانه أنَّ أكثرهم لا يعقل ولا يفهم، قال تعالى: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30]، وقال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ۝ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103- 104]، نسأل الله العافية.

فَالطَّاعَاتُ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَالْمَعَاصِي مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُ شُعَبِ الْكُفْرِ الْجُحودَ، وَرَأْسُ شُعَبِ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقَ.

وَأَمَّا مَا يُرْوَى مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ جَمَاعَةٍ اجْتَمَعَتْ إِلَّا وَفِيهِمْ وَلِيٌّ لِلَّهِ، لَا هُمْ يَدْرُونَ بِهِ، وَلَا هُوَ يَدْرِي بِنَفْسِه فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ كَلَامٌ بَاطِلٌ.

الشيخ: هذا من وضع المتصوفة الملاحدة الضُّلال، والجهلة الطّغام، هذا من وضعهم وأشباههم.

صفحة كم؟

الطالب: 405.

الشيخ: الله المستعان، نعم.

.......... ما علَّق عليه بشيءٍ؟

الطالب: قال: باطل، لا أصلَ له، كما قال المؤلف.

طالب آخر: فيه حاشية: كلام الشارح هنا هذا نقله ملا علي القاري في "الموضوعات" -طبعة الهند- بشيءٍ من الاختصار، ونسبه لبعضهم دون تعيين القائل، ونقله العجلوني في "كشف الخفا" عن القاري.

فَإِنَّ الْجَمَاعَة قَدْ يَكُونُونَ كُفَّارًا، وَقَدْ يَكُونُونَ فُسَّاقًا يَمُوتُونَ عَلَى الْفِسْقِ.

وَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْكَامِلُونَ فَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ۝ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ الآية [يونس:62- 64].

وَالتَّقْوَى هِيَ الْمَذْكُورَة فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ إِلَى قَوْلِهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177].

وَهُمْ قِسْمَانِ: مُقْتَصِدُونَ، وَمُقَرَّبُونَ.

فَالْمُقْتَصِدُونَ: الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ.

وَالسَّابِقُونَ: الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ، كَمَا فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: يَقُولُ الله تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَة، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذَا أَحْبَبْتُه كُنْتُ سَمْعَه الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَه الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَه الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَه الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّه، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّه، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُه تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَه.

الشيخ: علَّق عليه عندك؟

الطالب: نعم، قال: انظر "المستدرك" 2 في آخر الكتاب.

طالب آخر: هذا الحديث في "صحيح البخاري" (11/ 292- 297) من "الفتح"، وقد أفاض الحافظ في شرحه وتخريج ما ورد في معناه، وصرح الحافظُ بأنه ليس في "مسند أحمد"، وبين اللفظ الذي هنا ولفظ البخاري اختلافٌ في أحرفٍ يسيرةٍ، لا تُغير المعنى، فلم أُغيرها، لعلَّ الشارح يروي الصحيحَ من روايةٍ أخرى غير ما بين أيدينا.

الشيخ: مَن هذا؟

الطالب: هذا أحمد شاكر.

الشيخ: المعروف ............

طالب آخر: هنا علَّق عليه في آخر الكتاب، قال: صحيح لإخراج البخاري إياه، وإسناده قوي لغيره، له طرق وشواهد عدَّة خرجتُها في "الأحاديث الصحيحة" رقم (1640)، لكن لفظ "المبارزة" ليس عند البخاري، وإنما هو عند غيره من حديث أبي أمامة بسندٍ فيه ضعيفان كما بيَّنتُه هناك.

وَالْوَلِي خِلَافُ الْعَدُوِّ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلَاءِ، وَهُوَ الدُّنُوُّ وَالتَّقَرُّبُ، فَوَلِي اللَّهِ: هُوَ مَنْ وَالَى اللَّهَ بِمُوَافَقَتِه مَحْبُوبَاتِه، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِمَرْضَاتِه، وَهَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2- 3].

الشيخ: وبعضهم قد يُشكل عليه قوله: كنتُ سمعه .. إلخ، وبعضهم يجره إلى وحدة الوجود، وأن المخلوق هو الخالق، والعبد هو المعبود، فللملاحدة والصوفية وأهل وحدة الوجود في هذا الحديث كلام قبيح وشنيع، وأما أهلُ السنة والجماعة فليس عندهم في هذا البحث أي إشكالٍ كسائر الأحاديث التي فيها الصّفات.

ويُبين الرسولُ ﷺ شناعةَ مُعاداة أوليائه وأهل طاعته، وأن مُعاداة المؤمنين وظلمهم وإيذاءهم في الحقيقة محاربة لله، فيدل ذلك على وجوب مُوالاة المؤمنين ومحبَّتهم والتَّعاون معهم على الخير، والحذر من إيذائهم وظلمهم.

ويُبين الحديثُ أنه ما تقرَّب أحدٌ إلى الله بأحبّ ولا بأفضل من أداء الفرائض وترك المحارم، وهذا يرد على كثير من الناس، تجدهم نشيطين في النَّوافل، ضعيفين في الفرائض، وهذا من الجهل، فما تقرب عبدٌ إلى الله بشيءٍ أحبّ إليه من أداء فرائضه، وهي ترك المحارم، وأداء الفرائض، هذا أحب شيءٍ إلى الله؛ أن تُؤدي فرائضَه من صلاةٍ وصومٍ ونحو ذلك، ومن الفرائض: ترك المحارم، فإنَّ ترك ما حرَّم الله فرض، والكفَّ عن ذلك فرض، ثم بعد هذا يأتي أمر النَّوافل.

ومما يُشكل في ذلك على بعض الناس ويجرُّه الملاحدةُ إلى تفاسير خطيرة خاطئة قوله: كنتُ سمعه .. إلى آخره، فليس المراد أنَّ الربَّ هو سمع الإنسان وبصره .. إلى آخره، يعقل هذا كل مؤمنٍ، وكل مَن يفهم اللغة العربية، وإنما المراد من هذا: تسديده وتوفيقه له، وعنايته به، وهدايته له، وإرشاده له، حتى تكون هذه الحواس مُوفَّقةً مُسددةً بعيدةً عمَّا يُغضب الله ، وقد فسَّر هذا بالرواية الأخرى: فبي يسمع، وبي يُبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، فتكون حركاته وتصرُّفاته مُوفقةً في الله.

فلا يعقل أحدٌ أن يكون المراد أنَّ الربَّ صار هو السمع، وهو البصر، وهو اليد، ولكن أهل الكفر والضَّلال وأهل الانحراف وسُوء الفهم عن الله يقولون في النصوص ما لا يقوله عاقلٌ، ولا يفهمه مَن يعقل ما يقول، نسأل الله السلامة.

وما وقع في الحديث في آخره: وما ترددتُ عن شيءٍ أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن هذا شيء يليق به سبحانه على محبَّته لعبده المؤمن، وكراهته لكلِّ ما يُؤذيه، ولكن الأمور التي لا بدَّ منها لا بدَّ منها؛ ولهذا قد يُصيبه بعض الأذى، كما جرى للنبي ﷺ في أُحُدٍ وللصحابة، وهم رؤوس الأولياء، وهم القمة في مسألة الولاية، ما هنا أحدٌ أفضل منهم، أفضل الأولياء الرسل، ثم يليهم أتباعهم الصَّادقون، وعلى رأس الرسل محمد عليه الصلاة والسلام، ومع هذا جرى عليه ما جرى في يوم أُحدٍ من كسر رباعيته، وكسر البيضة على رأسه، وإدماء وجهه الشريف، وسقوطه في بعض الحُفَر التي هناك، إلى غير هذا مما وقع له وللصحابة، فليس هذا لهوانهم على الله، لا، هم أعزة على الله، ولكن ليبتليهم بالسَّراء والضَّراء؛ وليكونوا قُدوةً لغيرهم، ويتأسَّى بهم مَن بعدهم، وليعلم العبدُ أنه مهما بلغ من الفضل فلن يخرج عن طبيعة البشر وما يُصيب البشر.

فأولياء الله وإن كانوا أعزَّ خلقه عليه، لكن ليس معناه أنهم معصومون من كل شيءٍ، وأنهم محفوظون من كل شيءٍ، لا يُصيبهم مرض، ولا يُصيبهم جرح، ولا يُصيبهم كذا، ولا تقع منهم سيئة، ولكن الله يُسددهم ويُوفِّقهم ويُعينهم ويبتليهم، ومن ذلك الموت، فهو يعمّهم ويعمّ غيرهم.

قَالَ أَبُو ذَرٍّ : لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: يَا أَبَا ذَرٍّ، لَوْ عَمِلَ النَّاسُ بِهَذِه الْآيَةِ لَكَفَتْهُمْ.

الطالب: علَّق على هذا الحديث قال: ضعيف، رواه أحمد والحاكم بسندٍ فيه انقطاع.

طالب آخر: رواه بنحوه الإمام أحمد مُطوَّلًا، كما في تفسير ابن كثيرٍ.

الطالب: في تعليق للأرناؤوط قال: أخرجه ابن ماجه والحاكم، وفي سنده انقطاع بين أبي السليل وأبي ذرٍّ، ومع ذلك فقد صححه الحاكمُ ووافقه الذَّهبي.

الشيخ: وفي وجه تصحيح الحاكم وإقرار الذَّهبي يمكن أنَّ فيه قولًا آخر للأئمَّة: أنَّ أبا السليل لقي أبا ذرٍّ، فإذا كان قاله بعضُهم فهذا هو وجه التَّصحيح.

فَالْمُتَّقُونَ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُمْ مَخْرَجًا مِمَّا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ، وَيَرْزُقُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ.

الشيخ: سواء صحَّ هذا الحديث عن أبي ذرٍّ أو لم يصح، فالآية جامعة: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2- 3] جامعة لأنها جمعت خير الدنيا والآخرة، والتَّقوى جماع الدِّين، فالمتقي لله هو الذي أدَّى فرائضه، وترك محارمه، فمَن اتَّقى الله جعل الله له مخرجًا في الدنيا والآخرة، مخرجًا من مضايق الدنيا، ومخرجًا من مضايق الآخرة، وأعظم المضايق مضايق الآخرة، كما يكون من الأهوال يوم القيامة، فإذا كان ينجو من المضايق ويُرزق من حيث لا يحتسب فماذا بقي عليه؟ فهي جامعة لخير الدنيا والآخرة كما في هذا الحديث.

فَيَدْفَعُ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَضَارَّ، وَيَجْلِبُ لَهُمُ الْمَنَافِعَ، وَيُعْطِيهِمُ اللَّهُ أَشْيَاءَ يَطُولُ شَرْحُهَا مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ.

قَوْلُهُ: (وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ الله أَطْوَعُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ).

أَراد أَكْرَم الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْأَطْوَعُ لِلَّهِ، وَالْأَتْبَعُ لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ الْأَتْقَى، وَالْأَتْقَى هُوَ الْأَكْرَمُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

وَفِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ.

الطالب: علَّق عليه: صحيح، لكن عزوه للسنن وهمٌ؛ فإنه لم يروه أحدٌ منهم، وإنما هو في "مسند الإمام أحمد" انظر: المستدرك رقم (3) في آخر الكتاب.

قال المستدرك: هذا ما كنتُ قلتُه منذ عشر سنين، ثم يسَّر الله لي تعالى جمع كثيرٍ من طرقه، وحققت الكلام عليه، فتبين لي أنه صحيح بمجموعها، وأودعتُ تفصيل ذلك في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1640)، وعليه استجزت إيراده في كتابي الكبير "صحيح الجامع الصغير وزيادته"، وقد طُبع منه الآن كذا، ومثله، ومن الكتاب الآخر، وهما من منشورات المكتب الإسلامي، أسأل الله طبع تمامهما بمنِّه وكرمه.

الشيخ: في النسخة الأخرى ....... الأرناؤوط قال شيئًا؟

الطالب: نعم: أخرجه أحمد في "المسند" من حديث إسماعيل بن عُلية، عن سعيد الجريري، عن أبي نضرة قال: حدَّثني مَن سمع خطبةَ رسول الله ﷺ في وسط أيام التَّشريق فقال: يا أيها الناس، ألا إنَّ ربَّكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضلَ لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربيٍّ، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتَّقوى، ورجاله ثقات، وإسناده صحيح، فإنَّ ابن عُلية روى عن سعيدٍ الجريري قبل الاختلاط، ولم يُخرجه أحدٌ من أصحاب السنن فيما أعلم.

الشيخ: وهذا على شرط مسلم.

وَبِهَذَا الدَّلِيلِ يَظْهَرُ ضَعْفُ تَنَازُعِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ وَالْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ التَّفْضِيلَ لَا يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ وَالْحَقَائِقِ، فَالْمَسْأَلَة فَاسِدَة فِي نَفْسِهَا؛ فَإِنَّ التَّفْضِيلَ عِنْدَ اللَّهِ بِالتَّقْوَى وَحَقَائِقِ الْإِيمَانِ، لَا بِفَقْرٍ وَلَا غِنًى.

وَلِهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ عُمَرُ : "الْغِنَى وَالْفَقْرُ مَطِيَّتَانِ، لَا أُبَالِي أَيُّهُمَا رَكِبْتُ".

وَالْفَقْرُ وَالْغِنَى ابْتِلَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ الآية [الفجر:15]، فَإِنِ اسْتَوَيا الْفَقِيرُ الصَّابِرُ وَالْغَنِيُّ الشَّاكِرُ فِي التَّقْوَى، اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَة، وَإِنْ فَضَلَ أَحَدُهُمَا فِيهَا فَهُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى لَا يُوزَنَانِ، وَإِنَّمَا يُوزَنُ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ أَحَالَ الْمَسْأَلَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ الْإِيمَانَ نِصْفٌ صَبْرٌ، وَنِصْفٌ شُكْرٌ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ صَبْرٍ وَشُكْرٍ.

وَإِنَّمَا أَخَذَ النَّاسُ فَرْعًا مِنَ الصَّبْرِ وَفَرْعًا مِنَ الشُّكْرِ، وَأَخَذُوا فِي التَّرْجِيحِ، فَجَرَّدُوا غَنِيًّا مُنْفِقًا مُتَصَدِّقًا، بَاذِلًا مَالَه فِي وُجُوهِ الْقُربِ، شَاكِرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ، وَفَقِيرًا مُتَفَرِّغًا لِطَاعَة اللَّهِ، وَلِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، صَابِرًا عَلَى فَقْرِه.

وَحِينَئِذٍ يُقَالُ: إِنَّ أَكْمَلَهُمَا أَطْوَعُهُمَا وَأَتْبَعُهُمَا، فَإِنْ تَسَاوَيَا تَسَاوَتْ دَرَجَتُهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ولَوْ صَحَّ التَّجْرِيدُ لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: أَيُّمَا أَفْضَلُ: مُعَافًى شَاكِرٌ، أَوْ مَرِيضٌ صَابِرٌ. أو مُطَاعٌ شَاكِرٌ، أَوْ مُهَانٌ صَابِرٌ. أَوْ آمِنٌ شَاكِرٌ، أَوْ خَائِفٌ صَابِرٌ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

س: ........ معنى كلام المؤلف هنا؟

الشيخ: كلام طيب، وهذه الحقيقة مثلما قال المؤلف: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فمَن كان أتقى لله وأكمل للعبادة والعمل الصَّالح كان أفضل عند الله، سواء كان مُبتلًى بالفقر أو بالغنى؛ ولهذا في قصة الفقراء لما سألوا النبيَّ ﷺ وقالوا: ذهب أهلُ الدُّثور بالأجور؛ لأنَّ لهم فضلًا من المال، قال: ألا أُعلمكم شيئًا تُدركون به مَن سبقكم، وتسبقون مَن بعدكم، ولا يكون أحدٌ أفضلَ منكم إلا مَن صنع مثلما صنعتُم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تُسبِّحون وتحمدون وتُكبِّرون دبر كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين، ففعلوا، ثم جاءوا إلى النبيِّ ﷺ فقالوا: يا رسول الله، سمع إخواننا أهل الأموال ففعلوا مثلنا، فقال النبيُّ ﷺ: ذلك فضل الله يُؤتيه مَن يشاء، فالمسابقة على الخيرات فضل الله.

قَوْلُهُ: (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِه، وَكُتُبِه، وَرُسُلِه، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِه وَشَرِّه، وَحُلْوِه وَمُرِّه مِنَ اللَّهِ تَعَالَى).

تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ هِيَ أُصُولُ الدِّينِ، وَبِهَا أَجَابَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الْمَشْهُورِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِه، حِينَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ عَلَى صُورَة رَجُلٍ أَعْرَابِيٍّ، وَسَأَلَه عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاة، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَسَأَلَه عَنِ الْإِيمَانِ، فَقَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِه، وَكُتُبِه، وَرُسُلِه، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِه وَشَرِّه، وَسَأَلَه عَنِ الْإِحْسَانِ، فَقَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاه، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاه فَإِنَّهُ يَرَاكَ.

وَقَدْ ثَبَتَ كَذَلِكَ في الصَّحِيحِ عنه ﷺ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَي الْفَجْرِ تَارَةً بِسُورَتَي الْإِخْلَاصِ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون]، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص]، وَتَارَةً بِآيَتَي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ: الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَة: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا الآية [البقرة:136]، وَالَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الآية [آل عمران:64].

وَفَسَّرَ ﷺ الْإِيمَانَ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِه، حَيْثُ قَالَ لَهُمْ: آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَه، أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَه؟ شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاة، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ تَكُونُ إِيمَانًا بِاللَّهِ بِدُونِ إِيمَانِ الْقَلْبِ؛ لِمَا قَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِيمَانِ الْقَلْبِ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ مَعَ إِيمَانِ الْقَلْبِ هُوَ الْإِيمَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا.

وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْإِيمَانِ إِلَّا بِالْعَمَلِ مَعَ التَّصْدِيقِ، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاة، فَإِنَّ تِلْكَ إِنَّمَا فَسَّرَتْهَا السُّنَّةُ، وَالْإِيمَانُ بَيَّنَ مَعْنَاهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.

فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ الآية [الأنفال:2].

الشيخ: وفي حديث جبرائيل ما يُبين أنَّ هذه الأصول تتعلق بالإيمان بالقلب، تتعلق بتصديق القلب واعترافه وإقراره، والأعمال الظَّاهرة تتعلق بأركان الإسلام الظاهرة، فكل ما يتعلق بالظَّاهر فهو أمسُّ بالإسلام؛ لأنه يدل على الخضوع والذل والانقياد، فما كان من الأعمال الظَّاهرة فهو ألصق بالإسلام، وما كان من الأعمال الباطنة فهو ألصق بالإيمان؛ ولهذا ذكر أصول الإيمان الستة، وكلها تتعلق بالقلب: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشرِّه، وذكر أصول الإسلام الخمسة، وكلها تتعلق بالظَّاهر: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت.

فلما ذكر هذا وهذا عُلم أنه لا بدَّ من ذا وذا، لا بدَّ من الإيمان الباطن حتى يخلص من صفات أهل النِّفاق، ولا بدَّ من الإيمان الظاهر والإسلام الظَّاهر حتى يخلص من صفات الكفار والمعرضين المناقضين والمعاندين، فبإسلامه الظاهر يُفارق الكفارَ من أهل الأوثان وغيرهم، وبإيمانه الباطن يُفارق المنافقين الذين قالوا بأفواههم ونطقوا بألسنتهم وعملوا بظواهرهم ما ليس في قلوبهم، فصاروا بذلك من أهل الدَّرك الأسفل من النار، نعوذ بالله، بتكذيبهم في الباطن، وإنكارهم ما جاء به الرسولُ باطنًا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ۝ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ۝ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:8- 10]؛ لأنهم قالوا: آمنا، وهم كاذبون، وقُرئ: يُكذِّبون، والأظهر التَّخفيف؛ لأنَّ الله حكى عنهم أنَّهم قالوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وليس الأمر كذلك، بل هم غير مؤمنين، فكذَّبهم الله بقوله: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، هذا يدل على أنَّ العقوبة أصابتهم، وتوعدوا بها بسبب كذبهم، حيث قالوا وزعموا أنهم مُؤمنون وأنهم مسلمون، والحقيقة خلاف ذلك.

فالإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان: إذا اجتمعا افترقا، فالإسلام هو الأعمال الظَّاهرة، والإيمان هو الأعمال الباطنة، كما في حديث جبريل، فإذا انفرد أحدُهما دخل فيه الآخر؛ ولهذا قال لوفد عبد القيس: آمركم بالإيمان، وفسَّره لهم بالإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأداء الخُمس. وذكر في حديث أبي هريرة في "الصحيحين": الإيمان بضع وسبعون -أو قال: بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان، فبين هنا أنَّ الإسلام والإيمانَ يجتمعان، عند انفراد أحدهما أو عند انفراد مثل الإسلام يدخل فيه الآخر، قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19]، فهو يُشبه موضوع الفقير والمسكين، عند الاجتماع يفترقان، وعند الافتراق يجتمعان، هذا هو الصواب عند أهل السنة والجماعة.

وقال بعضُ أهل السنة: إنهما شيء واحد، فالإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان. ولكن الصواب التَّفرقة كما دلَّ عليه حديثُ جبرائيل من رواية عمر، ومن رواية أبي هريرة.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا الآية [الحجرات:15]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، فنَفْي الْإِيمَانِ حَتَّى تُوجَدَ هَذِهِ الْغَايَة دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْغَايَة فَرْضٌ عَلَى النَّاسِ.

الشيخ: ودلَّ على أنها من الإيمان، تحكيم الشريعة من الإيمان، فعُلم بذلك أنَّ الأعمال داخلة في الإيمان، خلافًا للحنفية والمرجئة جميعًا، الأعمال داخلة في الإيمان بالنصِّ؛ ولهذا ينقص الإيمانُ ويزيد، ينقص الإيمان عند أهل السنة ويزيد، فالإيمان قول وعمل، يزداد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، هكذا الإيمان عند أهل الحقِّ، عند أهل السنة والجماعة أنه قول وعمل، قول القلب واللسان، قول القلب: تصديقه واعترافه، وقول اللسان كذلك: تصديقه واعترافه بالنُّطق، وعمل القلب والجوارح، عمل القلب بما يحصل منه من محبَّةٍ وخوفٍ ورجاءٍ وإخلاصٍ وخضوعٍ، إلى غير هذا من أعمال القلوب، وعمل الجوارح بأدائها ما فُرض عليها من صلاةٍ وصومٍ وجهادٍ وغير ذلك، فهو قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، والآيات في هذا واضحة والنصوص، فهو يزداد بالطَّاعات، وينقص بالمعاصي، كلما ازداد المؤمنُ في طاعة الله وأداء حقِّه زاد إيمانه، وكمل إيمانه، وبالغفلة والمعصية ينقص هذا الإيمان ويضعف، حتى لا يبقى مع الإنسان إلا مثاقيل الذَّر، والله المستعان.

س: الكلام يا شيخ يدل على أنَّه مصدر، أقصد النَّفي، كأنه يدل على أنه نفي، ما هو نفى، اجعله يُعيد الكلام؟

ج: نعم.

فنَفْي الْإِيمَانِ حَتَّى تُوجَدَ هَذِهِ الْغَايَة دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ فَرْضٌ عَلَى النَّاسِ، فَمَنْ تَرَكَهَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ.

الشيخ: ما يُخالف، الأمر سهل: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ [النساء:65] نفى الإيمان حَتَّى، الربُّ جلَّ وعلا نفى الإيمانَ حتى توجد هذه الغاية، وهي تحكيم الشَّريعة، وإذا قيل: نفي الإيمان مبتدأ، ودلَّ خبره -نفي الإيمان- دلَّ على كذا وكذا.

ولَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ الَّذِي وُعِدَ أَهْلُه بِدُخُولِ الْجَنَّة بِلَا عَذَابٍ.

وَلَا يُقَالُ: إِنَّ بَيْنَ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ ﷺ الْإِيمَانَ في حَدِيثِ جبْرائيلَ وَتَفْسِيرِه إِيَّاه فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مُعَارَضَة؛ لأنه فَسَّرَ الْإِيمَانَ في حَدِيثِ جبْرائيلَ بَعْدَ تَفْسِيرِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِه وَكُتُبِه وَرُسُلِه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، مَعَ الْأَعْمَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي تَفْسِيرِ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّ الْإِحْسَانَ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِيمَانِ الَّذِي قَدَّمَ تَفْسِيرَه قَبْلَ ذِكْرِهِ. بِخِلَافِ حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَه ابْتِدَاءً، لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَهُ تَفْسِيرُ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَتَأَتَّى عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ، فَحَدِيثُ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مُشْكِلٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: ولا إشكالَ، يقال: كلام الطَّحاوي غلط، والحديث هو الصحيح وهو الجواب، وكلام الطحاوي وأشباهه: "أن الإيمان هو تصديق القلب فقط" غلط، وهكذا قول مَن قال بقوله من المرجئة كله غلط، والصواب ما دلَّ عليه الكتابُ والسنةُ، فالإشكال في كلامهم هم، هم الذين أشكلوا، وهم الذين وقعوا في الإشكال وغلطوا، أما الآيات والأحاديث فليس فيها إشكال، لكن مقصوده بأشكل عليه يعني: لا ينطبق على قوله، فيكون قوله خطأ، والحديث هو الصواب.

وَمِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَا أَوْجَبَه اللَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَة أَكْثَرَ مِنَ الْخِصَالِ الْخَمْسِ الَّتِي أَجَابَ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ في حَدِيثِ جبْرائيلَ الْمَذْكُورِ، فَلِمَ قَالَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ هَذِهِ الْخِصَالُ الْخَمْسُ؟

وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ النَّاسِ بِأَنَّ هَذِهِ أَظْهَرُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَأَعْظَمُهَا، وَبِقِيَامِه بِهَا يَتِمُّ اسْتِسْلَامُه، وَتَرْكُه لَهَا يُشْعِرُ بِانْحِلَالِ قَيْدِ انْقِيَادِه.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ ذَكَرَ الدِّينَ الَّذِي هُوَ اسْتِسْلَامُ الْعَبْدِ لِرَبِّه مُطْلَقًا، الَّذِي يَجِبُ لِلَّهِ على عِبَاده مَحْضَه عَلَى الْأَعْيَانِ.

الشيخ: كذا: محضه؟

الطالب: نعم.

الشيخ: ما يُخالف، يعني: خالصًا.

فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، لِيَعْبُدَ اللَّهَ بِهَا مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَهَذِهِ هِيَ الْخَمْسُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِأَسْبَابٍ وَمَصَالِحَ، فَلَا يَعْلَمُ وُجُوبَهَا جَمِيعُ النَّاسِ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَة: كَالْجِهَادِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ إِمَارَةٍ، وَحُكْمٍ، وَفُتْيَا، وَإِقْرَاءٍ، وَتَحْدِيثٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَإِمَّا ما يَجِبَ بِسَبَبِ حَقِّ الْآدَمِيِّينَ، فَيَخْتَصُّ بِهِ مَنْ وَجَبَ له وعليه، وَقَدْ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِه: مِنْ قَضَاءِ الدُّيُونِ، وَرَدِّ الْأَمَانَاتِ وَالْغُصُوبِ، وَالْإِنْصَافِ مِنَ الْمَظَالِمِ: مِنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ، وَحُقُوقِ الزَّوْجَة وَالْأَوْلَادِ، وَصِلَة الْأَرْحَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى زَيْدٍ غَيْرُ الْوَاجِبِ عَلَى عَمْرٍو.

بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاة وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا مَالِيًّا فَإِنَّهَا وَاجِبَة لِلَّهِ، وَالْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَة مَصَارِفُهَا؛ وَلِهَذَا وَجَبَتْ فِيهَا النِّيَّة، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهَا الْغَيْرُ عنه بِلَا إِذْنِه، وَلَمْ تُطْلَبْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا النِّيَّة، وَلَوْ أَدَّاهَا غَيْرُهُ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِه بَرِئَتْ ذِمَّتُه، وَيُطَالَبُ بِهَا الْكُفَّارُ.

وَمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَالْكَفَّارَاتِ هُوَ بِسَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَفِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَة؛ وَلِهَذَا كَانَ التَّكْلِيفُ شَرْطًا فِي الزَّكَاة، فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ عِنْدَ أَبِي حنيفة وَأَصْحَابِه رَحِمَهُمُ الله تعالى، على ما عُرِفَ فِي مَوْضِعِه.

الشيخ: والصواب الذي عليه الجمهور: أنها تجب على الصَّغير والمجنون؛ لأنها حقٌّ مالي، فهم داخلون في المطالبة بالحقوق المالية.

وَقَوْلُهُ: (وَالْقَدَرِ خَيْرِه وَشَرِّه، وَحُلْوِه وَمُرِّه مِنَ اللَّهِ تَعَالَى) تَقَدَّمَ قَوْلُهُ ﷺ في حَدِيثِ جبْرائيلَ: وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِه وَشَرِّه، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، وَقَالَ تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ۝ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ الآية [النساء:78- 79].

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وجهُ الْجَمْع بَيْنَ قَوْلِهِ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَمِنْ نَفْسِكَ؟

قِيلَ: قَوْلُهُ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْخِصْبُ وَالْجَدْبُ، وَالنَّصْرُ وَالْهَزِيمَة، كُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.

وَقَوْلُهُ: فَمِنْ نَفْسِكَ أَيْ: مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ مِنَ اللَّهِ فَبِذَنْبِ نَفْسِكَ عُقُوبَةً لَكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30] يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ قَرَأَ: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَنَا كَتَبْتُهَا عَلَيْكَ.

الشيخ: والأحسن في هذا المعنى أن يُقال: كلٌّ من عند الله قضاءً وقدرًا: الخصب والجدب، والنصر والذل، هذا لا يكفي، هذا بعضه، بعض ما يقع، قال تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78] يعني: قضاءً وقدرًا، قد سبق علمُ الله وقضاؤه وتقديره، ثم التفصيل بعد ذلك من جهة الأسباب، فما أصابك من حسنةٍ فمن الله، وهو الذي وفَّق لها وهدى ويسَّرها، وساقها إليك: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] يعني: من أسباب نفسك، من أجل معاصيك وسيئاتك وتفريطك وإضاعتك، ونحو ذلك، فالأمور من الله قضاءً وقدرًا، ومن العبد تسببًا في ذلك؛ بسبب معاصيه وأعماله السَّيئة وتفريطه وتفسيره أو غلوه وإفراطه، فما يقع في الدنيا وفي الآخرة يُنسب إلى الله قضاءً وقدرًا، ويُنسب إلى العبد كسبًا وعملًا، فالعبد يعمل ويكسب ويفعل ويُؤجر على الحسن، ويستحق العقابَ على السَّيئ، وذلك كله سبق به علمُ الله وتقديره وكتابته .

وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَة هُنَا النِّعْمَة، وَبِالسَّيِّئَة الْبَلِيَّة، فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ.

وَقَدْ قِيلَ: الْحَسَنَة: الطَّاعَة، وَالسَّيِّئَة: الْمَعْصِيَة.

وَقِيلَ: الْحَسَنَة: مَا أَصَابَه يَوْمَ بَدْرٍ، وَالسَّيِّئَة: مَا أَصَابَه يَوْمَ أُحُدٍ.

وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ شَامِلٌ لِمَعْنَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي لَيْسَ مُرَادًا دُونَ الْأَوَّلِ قَطْعًا، وَلَكِنْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ سَيِّئَة الْعَمَلِ وَسَيِّئَة الْجَزَاءِ مِنْ نَفْسِه، مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ مُقَدَّرٌ، فَإِنَّ الْمَعْصِيَة الثَّانِيَة قَدْ تَكُونُ عُقُوبَة الْأُولَى، فَتَكُونُ مِنْ سَيِّئَاتِ الْجَزَاءِ، مَعَ أَنَّهَا مِنْ سَيِّئَاتِ الْعَمَلِ، وَالْحَسَنَة الثَّانِيَة قَدْ تَكُونُ مِنْ ثَوَابِ الْأُولَى، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.

وَلَيْسَ لِلْقَدَرِيَّة أَنْ يَحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ -حَسَنَةً كَانَ أَوْ سَيِّئَةً- فَهُوَ مِنْهُ لَا مِنَ اللَّهِ! وَالْقُرْآنُ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ؛ وَلِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَجَعَلَ الْحَسَنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا جَعَلَ السَّيِّئَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ، بَلْ فِي الْجَزَاءِ.

وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ ومِنْ سَيِّئَةٍ مِثْلُ قولِه: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ ووَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ.

وَفَرَّقَ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي هِيَ النِّعَمُ، وَبَيْنَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي هِيَ الْمَصَائِبُ، فَجَعَلَ هَذِهِ مِنَ اللَّهِ، وَهَذِهِ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ مُضَافَةٌ إِلَى اللَّهِ، إِذْ هُوَ أَحْسَنَ بِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَمَا مِنْ وَجْهٍ مِنْ أَوْجُهِهَا إِلَّا وَهُوَ يَقْتَضِي الْإِضَافَة إِلَيْهِ، وَأَمَّا السَّيِّئَة فَهُوَ إِنَّمَا يَخْلُقُهَا لِحِكْمَةٍ، وَهِيَ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْحِكْمَة مِنْ إِحْسَانِه، فَإِنَّ الرَّبَّ لَا يَفْعَلُ سَيِّئَةً قَطُّ، بَلْ فِعْلُه كُلُّهُ حَسَنٌ وَخَيْرٌ.

وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ في الِاسْتِفْتَاحِ: وَالْخَيْرُ كلُّه بِيَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَيْ: فَإِنَّكَ لَا تَخْلُقُ شَرًّا مَحْضًا، بَلْ كُلُّ مَا تَخْلُقُه فَفِيهِ حِكْمَة، هُوَ بِاعْتِبَارِهَا خَيْرٌ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شَرٌّ لِبَعْضِ النَّاسِ، فَهَذَا شَرٌّ جُزْئِي إِضَافِي، فَأَمَّا شَرٌّ كُلِّي، أَوْ شَرٌّ مُطْلَقٌ؛ فَالرَّبُّ مُنَزَّه عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الشَّرُّ الَّذِي لَيْسَ إِلَيْهِ.

الطالب: زاد: "وأما الشر الجُزئي الإضافي فهو خيرٌ باعتبار حكمته".

وَلِهَذَا لَا يُضَافُ الشَّرُّ إِلَيْهِ مُفْرَدًا قَطُّ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِ الْمَخْلُوقَاتِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78]، وَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إِلَى السَّبَبِ، كَقَوْلِه: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2]، وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ فَاعِلُه، كَقَوْلِ الْجِنِّ: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10].

الشيخ: وهذا مقام يغلط فيه كثيرٌ من الناس، ولا يفهمه كثيرٌ من الناس، فالشَّر ليس إليه بمعنى: أنه لا يخلقه شرًّا محضًا، ولا يُتقرب إليه بالشَّر أيضًا، وليس من صفاته خلق الشَّر، وإنما يخلقه عن حكمةٍ، وعن غايةٍ محمودةٍ، وإن كان شرًّا بالنسبة إلى مَن أُصيب به، فخلقه إبليس لحكمةٍ بالغةٍ؛ لامتحان العباد، وبيان مَن يُطيع ومَن يعصي، وهكذا خلقه ما خلق من أفعال العباد من معاصيهم وسيئاتهم، هو بالنسبة إليه ابتلاء وامتحان، وجزاء لهم على ما قد فرط منهم من معاصٍ وسيئات وغفلةٍ وإضاعةٍ وإفراطٍ وتفريطٍ وغير ذلك، فهو خلقها لحكمةٍ بالغةٍ، ومقاصد عظيمةٍ، وغايات محمودةٍ.

والعبد يُذمُّ على فعله ذلك، وعلى اقترافه ذلك، فهي من حيث فِعلها فَعلها لحكمةٍ بالغةٍ وغايةٍ محمودةٍ، ومن جنس وقوعها من المخلوق يُذمُّ عليها المخلوق، فهي شرٌّ بالنسبة إلى المخلوق؛ لكونها معصيةً منه لله؛ ولكونها مخالفةً لأمره؛ ولكونها تُسبب غضبَ الله وعقابه عليه، فصارت شرًّا قبيحًا بالنسبة إليه.

وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ فَاعِلُه، كَقَوْلِ الْجِنِّ: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10].

وَلَيْسَ إِذَا خَلَقَ مَا يَتَأَذَّى بِهِ بَعْضُ الْحَيَوَانِ لَا يَكُونُ فِيهِ حِكْمَة، بَلْ لِلَّهِ مِنَ الرَّحْمَة وَالْحِكْمَة مَا لَا يُقَدِّرُ قَدْرَه إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.

..............

الشيخ: قدَّر هذا، وقدَّر هذا، يقدر يعني: يُحصيه ......

وَلَيْسَ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ شَرٌّ جُزْئِي بِالْإِضَافَة يَكُونُ شَرًّا كُلِّيًّا عَامًّا، بَلِ الْأُمُورُ الْعَامَّة الْكُلِّيَّة لَا تَكُونُ إِلَّا خَيْرًا أَوْ مَصْلَحَةً لِلْعِبَادِ: كَالْمَطَرِ الْعَامِّ، وَكَإِرْسَالِه رَسُولًا عَامٍّا.

وَهَذَا مِمَّا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَيِّدَ كَذَّابًا عَلَيْهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا الصَّادِقِينَ، فَإِنَّ هَذَا شَرٌّ عَامٌّ لِلنَّاسِ، يُضِلُّهُمْ، فَيُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ.

وَلَيْسَ هَذَا كَالْمَلِكِ الظَّالِمِ وَالْعَدُوِّ، فَإِنَّ الْمَلِكَ الظَّالِمَ لَا بُدَّ أَنْ يَدْفَعَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الشَّرِّ أَكْثَرَ مِنْ ظُلْمِه، وَقَدْ قِيلَ: سِتُّونَ سَنَةً بِإِمَامٍ ظَالِمٍ خَيْرٌ مِنْ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَا إِمَامٍ، وَإِذَا قُدِّرَ كَثْرَة ظُلْمِه فَذَاكَ خَيْرٌ فِي الدِّينِ، كَالْمَصَائِبِ تَكُونُ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِمْ، وَيُثَابُونَ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَيَرْجِعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَه وَيَتُوبُونَ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ مِنَ العدوِّ.

وَلِهَذَا قَدْ يُمَكِّنُ اللَّهُ كَثِيرًا مِنَ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ مُدَّةً، وَأَمَّا الْمُتَنَبِّئُونَ الْكَذَّابُونَ فَلَا يُطِيلُ تَمْكِينَهُمْ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُهْلِكَهُمْ؛ لِأَنَّ فَسَادَهُمْ عَامٌّ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَة، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ۝ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ۝ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44- 46].

وَفِي قَوْلِهِ: فَمِنْ نَفْسِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَطْمَئِنُّ إِلَى نَفْسِه، وَلَا يَسْكُنُ إِلَيْهَا، فَإِنَّ الشَّرَّ كَامِنٌ فِيهَا، لَا يَجِيءُ إِلَّا مِنْهَا، وَلَا يَشْتَغِلُ بِمَلَامِ النَّاسِ وَلَا ذَمِّهِمْ إِذَا أَسَاءُوا إِلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي أَصَابَتْه، وَهِيَ إِنَّمَا أَصَابَتْه بِذُنُوبِه، فَيَرْجِعُ إِلَى الذُّنُوبِ، وَيَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِه وَسَيِّئَاتِ عَمَلِه، وَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَه عَلَى طَاعَتِه؛ فَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ كُلُّ خَيْرٍ، وَيَنْدَفِعُ عَنْهُ كُلُّ شَرٍّ.

وَلِهَذَا كَانَ أَنْفَعُ الدُّعَاءِ وَأَعْظَمُه وَأَحْكَمُه دُعَاءَ الْفَاتِحَة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6- 7]، فَإِنَّهُ إِذَا هَدَاه هَذَا الصِّرَاطَ أَعَانَه عَلَى طَاعَتِه وَتَرْكِ مَعْصِيَتِه، فَلَمْ يُصِبْه شَرٌّ، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة.

لَكِنَّ الذُّنُوبَ هِيَ لَوَازِمُ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْهُدَى كُلَّ لَحْظَةٍ، وَهُوَ إِلَى الْهُدَى أَحْوَجُ مِنْهُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، لَيْسَ كَمَا يَقُولُه بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ قَدْ هَدَاه! فَلِمَاذَا يَسْأَلُ الْهُدَى؟! وَأنَّ الْمُرَادَ التَّثْبِيتُ، أَوْ مَزِيدُ الْهِدَايَة! بَلِ الْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إِلَى أَنْ يُعَلِّمَه اللَّهُ مَا يَفْعَلُه مِنْ تَفَاصِيلِ أَحْوَالِه، وَإِلَى مَا يَتْرُكُه مِنْ تَفَاصِيلِ الْأُمُورِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَإِلَى أَنْ يُلْهِمَه أَنْ يَعْمَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ عِلْمِه إِنْ لَمْ يَجْعَلْه مُرِيدًا لِلْعَمَلِ بِمَا يَعْلَمُه، وَإِلَّا كَانَ الْعِلْمُ حُجَّةً عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُهْتَدِيًا.

وَمُحْتَاجٌ إِلَى أَنْ يَجْعَلَه قَادِرًا عَلَى الْعَمَلِ بِتِلْكَ الْإِرَادَة الصَّالِحَة، فَإِنَّ الْمَجْهُولَ لَنَا مِنَ الْحَقِّ أَضْعَافُ الْمَعْلُومِ، وَمَا لَا نُرِيدُ فِعْلَه تَهَاوُنًا وَكَسَلًا مِثْلُ مَا نُرِيدُه أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ أَوْ دُونَه، وَمَا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ مِمَّا نُرِيدُه كَذَلِكَ، وَمَا نَعْرِفُ جُمْلَتَه وَلَا نَهْتَدِي لِتَفَاصِيلِه فَأَمْرٌ يَفُوتُ الْحَصْرَ.

وَنَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْهِدَايَة التَّامَّة، فَمَنْ كَمُلَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمُورُ كَانَ سُؤَالُه سُؤَالَ تَثْبِيتٍ، وَهِيَ آخِرُ الرُّتَبِ.

وَبَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ هِدَايَة أُخْرَى، وَهِيَ الْهِدَايَة إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّة فِي الْآخِرَة؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ مَأْمُورِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ؛ لِفَرْطِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، فَلَيْسُوا إِلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إِلَى هَذَا الدُّعَاءِ، فَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ بِفَضْلِ رَحْمَتِه جَعَلَ هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَة لِلْخَيْرِ، الْمَانِعَة مِنَ الشَّرِّ، فَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ مِنَ النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَتْ بِقَدَرِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْحَسَنَاتِ كُلَّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُشْكَرَ سُبْحَانَهُ، وَأَنْ يَسْتَغْفِرَه الْعَبْدُ مِنْ ذُنُوبِه، وَأَن لا يَتَوَكَّلَ إِلَّا عَلَيْهِ وَحْدَه، فَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا هُوَ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ تَوْحِيدَه، وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَحْدَه، وَالشُّكْرَ لَهُ وَحْدَه، وَالِاسْتِغْفَارَ مِنَ الذُّنُوبِ.

وَهَذِهِ الْأُمُورُ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَجْمَعُهَا فِي الصَّلَاةِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَه مِنَ الرُّكُوعِ يَقُولُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ.

الطالب: علَّق عليه، قال: البخاري، لكن ليس من فعله ﷺ، بل إنه سمع رجلًا يقول ذلك، فقال ﷺ: لقد رأيتُ بضعةً وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيّهم يكتبها أولًا.

الشيخ: يعني زيادة: حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه هذه أقرَّها ﷺ، وندب إليها في هذا الكلام، أما الذي من فعله: ربنا ولك الحمد، ملء السَّماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد .. إلى آخره، فالزيادة حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كأنها فاتت على المؤلف، فاتت على الشارح أنها ليست من فعله، ولكنَّها من قوله، يعني من قوله الذي يتضمن الثَّناء على هذا الشيء، وأنَّ الله رضيه وأحبَّه من العبد حتى صار بضعة وثلاثون ملكًا يبتدرونها أيّهم يكتبها أولًا.

ولا نعلم أنه جاء في السنن والروايات أنه كان يقولها عليه الصلاة والسلام، إنما جاء الثناء وهذا الفضل العظيم فيها، وربما يكون المؤلفُ وقف على شيءٍ في هذا من الفعل، ربما، لكن المعروف من هذا أنه من كلام الرجل الذي حمد الله بهذه المحامد، فأخبر النبيُّ عليه الصلاة والسلام عن ذلك.

الطالب: قال: البخاري، لكن ليس من فعله ﷺ، بل إنه سمع رجلًا يقول ذلك، فقال ﷺ: لقد رأيتُ بضعةً وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيّهم يكتبها أولًا. انظر كتابي "صفة الصلاة".

وعلَّق على الجزء الثاني: ملء السَّماوات، وملء الأرض .. قال: صحيح، متَّفق عليه، وهو حديث آخر، والمصنَّف دمجه بالأول، فأوهم أنهما حديث واحد. انظر: المصدر السابق.

الشيخ: نعم، مثلما قال.

س: ...............؟

ج: هذا كلام بعض السلف، من كلام بعض الناس، بعضهم يقول: ستون عامًا من ملكٍ ظلومٍ خير من ليلةٍ واحدةٍ من فتنةٍ تدوم، والمقصود أنَّ الله يدفع بالملك وإن كان ظالمًا شرًّا كثيرًا: من أمن البلاد، واستقامة الأحوال، وأمن الناس في دينهم ودنياهم، إلى غير ذلك، وظلمه وإن كان يضرّ بعضَ الناس، لكن الله يدفع به شرًّا كثيرًا أكبر.

.............

فَهَذَا حَمْدٌ، وَهُوَ شُكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَبَيَانُ أَنَّ حَمْدَه أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ.

وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِوَحْدَانِيَّتِه: لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّة: خَلْقًا وَقَدَرًا، وَبِدَايَةً وَنِهَايَةً، هُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ. وَلِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّة: شَرْعًا وَأَمْرًا وَنَهْيًا، وأنَّ الْعِبَادَ وَإِنْ كَانُوا يُعْطَوْنَ جَدًّا: مُلْكًا وَعَظَمَةً وَبَخْتًا وَرِيَاسَةً فِي الظَّاهِرِ، أَوْ فِي الْبَاطِنِ: كَأَصْحَابِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْخَارِقَة؛ فَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ، أَيْ: لَا يُنْجِيه وَلَا يُخَلِّصُه؛ وَلِهَذَا قَالَ: لَا يَنْفَعُه مِنْكَ، وَلَمْ يَقُلْ: وَلَا يَنْفَعُه عِنْدَكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ ذَلِكَ أَوْهَمَ أَنَّهُ لَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْكَ، لَكِنْ قَدْ لَا يَضُرُّه.

فَتَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ تَحْقِيقَ التَّوْحِيدِ، أو تَحْقِيقَ قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

الشيخ: قوله: "أو تحقيق قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" الألف في "أو" ما لها معنى، تحقيق التوحيد لقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، لعلَّ الألف زائدة، فهو يُحقق هذا وهذا جميعًا؛ فإنَّ تحقيق توحيد الربوبية يُحقق توحيد الإلهية، وأنه المستحقُّ للعبادة .

 

فَإِنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَسْبَابِ يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِالْمَطْلُوبِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَيْسِيرِه.

الشيخ: ما هناك شيء مُستقل، كل شيءٍ بمشيئة الله، لكن لو فرضنا أنَّ هناك شيئًا مُستقلًّا لكان الواجبُ أن يُرجع الأمر إلى الله؛ لأنه خالق لتلك الأشياء ومُوجدها، وقادر على التَّصرف فيها ، وهو الذي جعلها مُستقلةً، لكن ما هناك شيء مُستقل إلا بمشيئة .......

س: يعني: وإنما تكون زائدةً؟

ج: لفظة "إنما".

فَإِنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَسْبَابِ يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِالْمَطْلُوبِ، وَلا يَكُونُ بِمَشِيئَة اللَّهِ وَتَيْسِيرِه؛ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُرْجَى إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يُتَوَكَّلَ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا يُسْأَل إِلَّا هُوَ، وَلَا يُسْتَغَاث إِلَّا بِهِ، وَلَا يُسْتَعَان إِلَّا هُوَ، فَلَهُ الْحَمْدُ، وَإِلَيْهِ الْمُشْتَكَى، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ، وَبِهِ الْمُسْتَغَاثُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا به.

فَكَيْفَ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَسْبَابِ مُسْتَقِلًّا بِمَطْلُوبٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِن انْضِمَامِ أَسْبَابٍ أُخَرَ إِلَيْهِ، وَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ صَرْفِ الْمَوَانِعِ وَالْمُعَارَضَاتِ عَنْهُ؛ حَتَّى يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ، فَكُلُّ سَبَبٍ فَلَهُ شَرِيكٌ، وَلَهُ ضِدٌّ، فَإِنْ لَمْ يُعَاوِنْه شَرِيكُه، وَلَمْ يَنْصَرِفْ عَنْهُ ضِدُّه لَمْ يَحْصُلْ مُسَبَّبه.

طالب: هنا: "لم تحصل مشيئته".

الشيخ: لم يحصل مُسَبَّبه.

وَالْمَطَرُ وَحْدَه لَا يُنْبِتُ النَّبَاتَ إِلَّا بِمَا يَنْضَمُّ إِلَيْهِ مِنَ الْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ الزَّرْعُ لَا يَتِمُّ حَتَّى تُصْرَفَ عَنْهُ الْآفَاتُ الْمُفْسِدَة لَهُ، وَالطَّعَامُ وَالشَّرَابُ لَا يُغَذِّي إِلَّا بِمَا جُعِلَ فِي الْبَدَنِ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْقُوَى، وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ إِنْ لَمْ تُصْرَفْ عَنْهُ الْمُفْسِدَاتُ.

وَالْمَخْلُوقُ الَّذِي يُعْطِيكَ أَوْ يَنْصُرُكَ، فَهُوَ مَعَ أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ فِيهِ الْإِرَادَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْفِعْلَ، فَلَا يَتِمُّ مَا يَفْعَلُه إِلَّا بِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ قُدْرَتِه، تُعَاوِنُه عَلَى مَطْلُوبِه، وَلَوْ كَانَ مَلِكًا مُطَاعًا، وَلَا بُدَّ أَنْ يُصْرَفَ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُتَعَاوِنَة مَا يُعَارِضُهَا وَيُمَانِعُهَا، فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ إِلَّا بِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَعَدَمِ الْمَانِعِ.

وَكُلُّ سَبَبٍ مُعينٍ فَإِنَّمَا هُوَ جُزْءٌ مِنَ الْمُقْتَضِي، فَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هُوَ مُقْتَضٍ تَامٌّ، وَإِنْ سُمِّيَ: مُقْتَضِيًا، وَسُمِّي سَائِرُ مَا يُعِينُه: شُرُوطًا؛ فَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِي، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ عِلَّة تَامَّة تَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهَا فَهَذَا بَاطِلٌ.

وَمَنْ عَرَفَ هَذَا حَقَّ الْمَعْرِفَة انْفَتَحَ لَهُ بَابُ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسْأَلَ غَيْرُهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ، وَلَا يُتَوَكَّلَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُرْجَى غَيْرُهُ.

...............

فإنه جلَّ وعلا شرع لنا هذا في الصلاة وفي غير الصلاة، وفي ضمن ذلك الهداية إلى كل خيرٍ، فإنَّ الهداية إلى الصراط المستقيم -صراط المنعَم عليهم- مضمونه الهداية إلى كلِّ ما ينفعنا، وترك ما يضرُّنا، فمَن هُدي إلى الصراط المستقيم -صراط المنعَم عليهم- فقد وُفِّق إلى الخيرات، وصُرفت عنه الشُّرور، وفاز بما يُوصله إلى دار الكرامة والهداية فيها.

أنواع الهداية: هداية مطلقة: تشمل الهداية إلى الصراط دلالة، وإلى تفصيل الهداية وما يحتاج إليه، وإلى إعانة، وإلى تحريك الإرادة، وإلى منح القدرة، إلى غير ذلك، فمَن رزقه الله الهدايةَ الكاملةَ أعانه ويسَّر أمره، ونشطه على إرادة الخير، ووفَّقه للتفاصيل في ذلك، وما يدفع عنه الشَّر، وما يُعينه على الخير، وما يُثبته عليه.

فالهداية المطلقة تتضمن أمورًا كثيرة؛ ولهذا ينبغي للعاقل، ينبغي للمؤمن عند هذا الدعاء أن يستحضر شدةَ حاجته إليه، وأنه في أشد الضَّرورة إلى أن يهديه مولاه إلى الصراط المستقيم هدايةً كاملةً، فيها العلم، وفيها التفصيل، وفيها التَّوجيه، وفيها الإعانة على فعل الخير، وفيها شرح الصدر له، وفيها صرف الموانع المضادة، إلى غير ذلك، والله المستعان.

س: أصحاب المُنكرات الباطنة؟

ج: إذا كانوا على الصراط المستقيم قد يرزقهم الله من العلم والبصيرة والفراسة ما يُعينهم على أمر الدنيا والآخرة، أما أهل المكاشفات الشيطانية فهي بلاء ونقمة.

س: هل يُقال: أنها مكاشفات؟

ج: يُراد بها الخير، وعلى فرض أنهم يُعطون المكاشفات الشيطانية قد تنفعهم في الدنيا، فهي ضرر عليهم عاجلًا وآجلًا، نسأل الله العافية، ولا تنفعهم عند الله إن لم يُوفَّقوا للهداية: ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجد، هذا الجدّ الذي سُمي: مكاشفةً أو قُدرةً على بعض الأشياء، لا تنفعه عند الله إذا لم تُعنه على طاعة الله، ولا تُغني صاحبها من الله، وهكذا المكاشفات الصَّحيحة والكرامات للمؤمن لا تُغني صاحبها من الله إن لم يستعن بها على طاعته وهداية الإيمان.

.............

س: المكاشفات تنصرف إلى ما يدَّعيه الصُّوفية، المكاشفات الصَّحيحة تُسمَّى: مكاشفات، تُسمَّى: علم، تُسمَّى: نور، تُسمَّى: بصيرة، المكاشفات إذا أُطلقت تنصرف إلى ما يدَّعيه الصُّوفية من العلوم الباطنة، والشارح أدمجها وما فصَّل؟

ج: الذي يظهر أنها تنقسم إلى قسمين: قسم صالح، وقسم طالح، قسم لأهل الخير والإيمان، مثلما يجري للمُلهمون: إن يكن في أمتي مُحدَّثون فهو عمر، فيُكشف له أشياء مثلما في قصة: "يا سارية الجبل"، فالمقصود أنه قد يقع لأهل الإيمان مكاشفات واطِّلاع على أشياء دقيقة يكشف اللهُ لهم عنها تُسمَّى: فراسة، وتُسمَّى: كرامة، وغير ذلك مما أوقع الله في قلوبهم من العلم والبصيرة والهداية؛ حتى استدلُّوا على أشياء مهمة بأشياء دقيقة وفقوا بها.

أما أولئك فمُكاشفاتهم شيطانية، وخوارقهم شيطانية، من فعل الشياطين وما تجلبه إليهم، وتنقله إليهم، ما عندهم بصيرة، إنما تنقل لهم الشياطين أشياء خفية، فيُخبرون بها الناس بزعم أنها غيوب اطَّلعوا عليها، وإنما هي أشياء من أخبار الشَّياطين.

قَوْلُهُ: (وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه، وَنُصَدِّقُهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاءُوا بِهِ).

الْإِشَارَة بِذَلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ تَفْصِيلًا، وَقَوْلُهُ: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه ..) إِلَى آخِرِ كَلَامِه، أَيْ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ بِأَنْ نُؤْمِنَ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرَ بِبَعْضٍ، بَلْ نُؤْمِنُ بِهِمْ وَنُصَدِّقُهُمْ كُلَّهُمْ، فَإِنَّ مَنْ آمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ كَافِرٌ بِالْكُلِّ؛ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ۝ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:150- 151]، فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِه آمَنَ بِمَنْ آمَنَ به مِنْهُمْ مَوْجُودٌ في الذي لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَذَلِكَ الرَّسُولُ الَّذِي آمَنَ بِهِ قَدْ جَاءَ بِتَصْدِيقِ بَقِيَّة الْمُرْسَلِينَ، فَإِذَا لَمْ يُؤْمِنْ بِبَعْضِ الْمُرْسَلِينَ كَانَ كَافِرًا بِمَنْ فِي زَعْمِه أنَّه يُؤْمِنُ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّسُولَ قَدْ جَاءَ بِتَصْدِيقِ الْمُرْسَلِينَ كُلِّهِمْ، فَكَانَ كَافِرًا حَقًّا، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَكَانَ مِنَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104].

الشيخ: وبهذا يُعلم أنَّ اليهود مع أنواع الكفر التي وقعوا فيها: كفروا بإنكارهم نبوة عيسى، وزعمهم أنه ولد بغي، صاروا كفَّارًا بذلك، ثم جاء محمد ﷺ أيضًا فلم يُؤمنوا به، فكانوا كفَّارًا أيضًا بذلك، فصاروا كفَّارًا من جهة عدم إيمانهم بعيسى، وعدم إيمانهم بمحمدٍ عليه الصلاة والسَّلام.

والنصارى مَن أدرك منهم محمدًا ﷺ فلم يُؤمن به صار كافرًا؛ لأنه آمن ببعضٍ، وكفر ببعضٍ، فلا يتم الإيمانُ ولا يصلح إلا بالجميع، مَن كذَّب ببعضهم وآمن ببعضهم فهو كافر حقًّا، وهكذا مَن آمن ببعض ما جاء به محمدٌ ﷺ وكفر ببعضٍ: كمَن آمن بالشَّهادتين وكفر بالصلاة، أو بالصوم، أو بالحج، أو بالزكاة، أو بالجهاد، أو ما أشبه ذلك؛ يكون كافرًا حقًّا، وكما أنَّ مَن آمن ببعض المرسلين وكفر ببعضٍ يكون كافرًا، فهكذا مَن آمن ببعض ما جاءوا به، وأنكر بعضَ ما جاءوا به.

قَوْلُهُ: (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّة مُحَمَّدٍ ﷺ فِي النَّارِ لَا يُخَلَّدُونَ، إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ، وَهُمْ فِي مَشِيئَتِه وَحُكْمِه؛ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ بِفَضْلِه، كَمَا ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِه: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ فِي النَّارِ بِعَدْلِه، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِه وَشَفَاعَة الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِه، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ إِلَى جَنَّتِه، وَذَلِكَ بِأَنَّ الله تعالى تولَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِه، وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ كَأَهْلِ نكرَتِه الَّذِينَ خَابُوا مِنْ هِدَايَتِه، وَلَمْ يَنَالُوا مِنْ وِلَايَتِه. اللَّهُمَّ يَا وَلِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِه، ثَبِّتْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى نَلْقَاكَ بِهِ).

فَقَوْلُهُ: (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّة مُحَمَّدٍ ﷺ فِي النَّارِ لَا يُخَلَّدُونَ، إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ) رَدٌّ لِقَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَة الْقَائِلِينَ بِتَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ، لَكِنَّ الْخَوَارِجَ تَقُولُ بِتَكْفِيرِهِمْ، وَالْمُعْتَزِلَة بِخُرُوجِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ، لَا بِدُخُولِهِمْ فِي الْكُفْرِ، بَلْ لَهُمْ مَنْزِلَة بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَة بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّه).

وَقَوْلُهُ: (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّة مُحَمَّدٍ) تَخْصِيصُه أُمَّةَ مُحَمَّدٍ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّة غَيْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ قَبْلَ نَسْخِ تِلْكَ الشَّرَائِعِ بِهِ، حُكْمُهُمْ مُخَالِفٌ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّة مُحَمَّدٍ، وَفِي ذَاكَ نَظَرٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّهُ: يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِه مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَمْ يَخُصَّ أُمَّتَه بِذَلِكَ، بَلْ ذَكَرَ الْإِيمَانَ مُطْلَقًا، فَتَأَمَّلْه. وَلَيْسَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ذِكْرُ الْأُمَّة.

وَقَوْلُهُ: (فِي النَّارِ) مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: (لَا يُخَلَّدُونَ)، وَإِنَّمَا قَدَّمَه لِأَجْلِ السَّجْعَة، لَا أَنْ يَكُونَ (في النَّارِ) خَبَر لِقَوْلِهِ: (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ)، كَمَا ظَنَّه بَعْضُ الشَّارِحِينَ.

الشيخ: القول بأنهم في النار ليس بمتعين؛ لأنه قد يُعفا عن بعضهم لأسبابٍ، لكن لو قال: أهل الكبائر مُتوعدون بالنار، أو مُستحقون للنار، صحَّ الكلام، أما الجزم بأنهم في النار فلا؛ ولهذا نبَّه الشارحُ على أن قوله: (في النار) متعلق بـ(يُخلدون)، وأهل الكبائر من أمة محمدٍ في النار لا يُخلدون، يعني: لا يُخلدون في النار، وإن كان قد يُعفا عن بعضهم، لكن مَن دخلها منهم لا يُخلَّد، بل له نهاية، وهذا قول أهل السنة والجماعة قاطبةً، إذا مات على الكبائر وليس بتائبٍ فهو متوعد بالنار ومستحق لها، لكن لا يتعين دخولهم إياها، بل قد يُعفا عن بعضهم بأعمال صالحةٍ كثيرةٍ عملها، وبشفاعة بعض الشُّفعاء قبل دخول النار، لكن الجزم بأنهم مستحقون لها إذا أدخلهم إياها فقد أدخلهم بعدله، وهم مُستحقون لها بذنوبهم.

وأراد بهذا الرد على الخوارج والمعتزلة، كما ذكر الشارح؛ لأنَّ المعتزلة والخوارج غلوا في هذا الأمر، إذ زعموا أنَّ مَن دخل النار لا يخرج منها أبدًا، مَن دخل النار لا يخرج منها أبدًا عندهم، سواء كنا حكمنا بكفره أم لا، ما دام أنه من أهل الكبائر، ما دام دخل النار بذنبه فلا يُخلد فيها، واحتجُّوا بأشياء اشتبهت عليهم وظنُّوها عامَّة، مثل: قوله : كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، ومثل: قوله جلَّ وعلا: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]، هذه في الكفرة، كلها في الكفرة، ليست في العُصاة.

أما العصاة فقد جاءت فيهم أحاديث محكمة دالَّة على أنهم لا يُخلَّدون، ولا يكفرون أيضًا، وإن أُطلق على بعضهم: الكفر، فهو كفر دون كفرٍ، ليس المراد الكفر الأكبر.

فالمقصود أنَّ أهل الكبائر الذين ماتوا على معاصيهم: على الزنا مثلًا، أو على السرقة، أو على عقوق الوالدين أو أحدهما، أو ماتوا على الربا، أو ماتوا على شهادة الزور؛ شهدوا بالزور وماتوا ولم يتوبوا، أو على أيمانٍ فاجرةٍ، أو على ظلم الناس في دمٍ أو في مالٍ أو في عرضٍ ولم يتوبوا، هؤلاء هم أهل الكبائر، وهم لا يُخلَّدون في النار عند أهل السنة والجماعة، بل لهم أمد ينتهون إليه، ثم يخرجون منها.

ولهذا تواترت الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه يخرج من النار مَن كان في قلبه مثقال حبَّة خردل من إيمانٍ، والرسول يشفع فيهم أربع شفاعات، يحدّ اللهُ له حدًّا في كل شفاعةٍ، فيُخرجهم من النار، ويشفع الأنبياء والمؤمنون والملائكة والأفراط، ثم تبقى بقية فيُخرجهم الله من النار بغير شفاعة أحدٍ، بل بمجرد رحمته .

وهذا قول أهل الحقِّ، هو قول الصحابة ، أصحاب النبي ﷺ ومَن سار على طريقهم من أئمة الهدى، ومَن كفَّرهم كالخوارج فقد غلط وضلَّ ضلالًا بعيدًا، وهكذا مَن قال فيهم: إنهم ليسوا بكفار، ولكنَّهم مخلدون في النار كذلك، كالمعتزلة، قد ضلُّوا في هذا وأخطأوا.

س: ..............؟

ج: قد جاء في "صحيح مسلم" من حديث أبي سعيدٍ: أنَّ العاصي إذا دخل النار يُميته الله إماتةً، يعني: إماتة خاصَّة، وهذا من رحمة الله جلَّ وعلا وإحسانه، وهذا ظاهر العموم في العُصاة، وفي بعض الأحاديث إطلاق قد يُفهم منه أنهم يُعذَّبون فيها، وأنَّ لهم حياةً فيها بالنسبة إلى الإطلاق: أخف الناس عذابًا يوم القيامة مَن يُوضع على قدميه جمرتان من نارٍ يغلي منهما دماغه، وهو يرى أنه أشدّ الناس عذابًا، وهو أهونهم عذابًا، فإنَّ هذا ظاهره يعمّ جميع مَن دخل النار، يعني: لا يخص الكفار، قال: أهون أهل النار عذابًا، وهو من أهل النار ما دام داخلًا، نسأل الله السلامة. وفي بعضها: إنَّ أهون الناس عذابًا يوم القيامة مَن يكون له نعلان من نارٍ يغلي منهما دماغه.

فالحاصل أنهم يُعذَّبون، لكن تلك الموتة التي أراد الله لهم متى تكون؟ الله أعلم، قد تكون بعد عذاب طويل، وقد تكون بعد عذابٍ قليلٍ، الله أعلم، ثم يخرجون من النار ظبائر، كالفحم، يخرجون كأنهم الفحم، فيُلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبَّة في حميل السَّيل، هذا يُبين أنهم يحيون في هذا النهر بعدما ماتوا وامتُحشوا واحترقوا إلا آثار السجود من ابن آدم، كما جاء في الحديث الصحيح: إنَّ الله حرَّم على النار آثار السُّجود.

س: ..............؟

ج: ...........

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْكَبَائِرِ عَلَى أَقْوَالٍ:

فَقِيلَ: سَبْعة.

وَقِيلَ: سَبْعَة عَشَرَ.

وَقِيلَ: مَا اتَّفَقَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِه.

وَقِيلَ: مَا يَسُدُّ بَابَ الْمَعْرِفَة بِاللَّهِ.

وَقِيلَ: ذَهَابُ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْدَانِ.

وَقِيلَ: سُمِّيَتْ "كَبَائِرَ" بِالنِّسْبَة وَالْإِضَافَة إِلَى مَا دُونَهَا.

وَقِيلَ: لَا تُعْلَمُ أَصْلًا. أَوْ: أَنَّهَا أُخْفِيَتْ كَلَيْلَة الْقَدْرِ.

وَقِيلَ: إِنَّهَا إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ.

وَقِيلَ: كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَة.

وَقِيلَ: إِنَّهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَدٌّ، أَوْ تُوُعِّدَ عَلَيْهَا بِالنَّارِ، أَوِ اللَّعْنَة، أَوِ الْغَضَبِ، وَهَذَا أَمْثَلُ الْأَقْوَالِ.

الشيخ: ما فيه حدّ في الدنيا أو وعيد: كغضبٍ ولعنةٍ ونارٍ؛ هذا يُسمَّى: كبيرة، وما سوى ذلك صغيرة، ما لا حدَّ فيه في الدنيا، ولا وعيد في الآخرة، ولا جاء مذكورًا بلعنةٍ ولا بغضبٍ ولا بنارٍ، والحكمة في عدم تحديدها بنصوص واضحةٍ للتَّحذير منها؛ لأنَّ الشارع له حكمة عظيمة فيما قد يُخفيه من الأشياء مثل: ليلة القدر، أُخفيت في العشر الأواخر من رمضان ليجتهد المسلمون في العشر كلها رجاء هذه الليلة، وكساعة الجمعة -ساعة الدعاء- ليجتهد المسلم في الدعاء، والساعة التي في الليل، وأمثال ذلك.