21 ماهي الكبائر

وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَات السَّلف في تعريف الصَّغائر:

مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الصَّغِيرَة: مَا دُونَ الْحَدَّيْنِ: حَدِّ الدُّنْيَا، وَحَدِّ الْآخِرَة.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ ذَنْبٍ لَمْ يُخْتَمْ بِلَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ نَارٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الصَّغِيرَة: مَا لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا، وَلَا وَعِيدٌ فِي الْآخِرَة.

وَالْمُرَادُ بِالْوَعِيدِ: الْوَعِيدُ الْخَاصُّ بِالنَّارِ أَوِ اللَّعْنَة أَوِ الْغَضَب، فَإِنَّ الْوَعِيدَ الْخَاصَّ فِي الْآخِرَة كَالْعُقُوبَة الْخَاصَّة فِي الدُّنْيَا، أَعْنِي: الْمَقْدِرَة، فَالتَّعْزِيرُ فِي الدُّنْيَا نَظِيرُ الْوَعِيدِ بِغَيْرِ النَّارِ أَوِ اللَّعْنَة أَوِ الْغَضَبِ. وَهَذَا الضَّابِطُ يَسْلَمُ مِنَ الْقَوَادِحِ الْوَارِدَة عَلَى غَيْرِهِ.

الشيخ: إذا عُرف ضابط الكبيرة فما دونه صغيرة، وإذا كان ضابطُ الكبيرة فيه خلاف مشهور، علم المؤمنُ أنَّ الواجب عليه تجنب السَّيئات كلها، والحذر منها كلها:

أولًا: لأنَّ الله نهى عنها.

ثانيًا: المؤمن ينظر إلى عظم مَن عصى، لا إلى المعصية نفسها، بل إلى عظم مَن عصى، وأنه جلَّ وعلا جدير بأن يُطاع، وأن لا يُعصى .

ثالثًا: لئلا تكون كبيرةً وهو لا يشعر، فيحصل له بها من البلاء العظيم والعواقب الوخيمة ما لا يخطر بالبال.

فالحزم كل الحزم في اجتناب المعاصي كلها، دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها؛ ولهذا جاء في الحديث: إياكم ومُحقرات الذنوب، فإنَّ لها من الله طالبًا، وفي لفظٍ: فإنها تجتمع على العبد حتى تُهلكه، ثم ضرب النبيُّ ﷺ لهذا مثلًا بالقوم المسافرين، فينزلون منزلًا، فيحضر صنيعهم حاجتهم للطبخ، فيأتي هذا بالعود، وهذا بالعود، وهذا بالبعرة، ثم يُوقدون نارًا، ثم يُنضجون عليها حاجتهم، فالصغيرة مع الصغيرة، والصغيرة مع الصغيرة تجتمع حتى تُهلك العبد وهو لا يشعر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّهُ كَبِيرَة: كَالشِّرْكِ، وَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَالسِّحْرِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: كَالْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَشَهَادَة الزُّورِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.

وَتَرْجِيحُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ السَّلَفِ: كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُيَيْنَة، وَابْنِ حَنْبَلٍ، وَغَيْرِهِمْ.

الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]، فَلَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الْوَعْدَ الْكَرِيمَ مَنْ أُوعِدَ بِغَضَبِ اللَّهِ وَلَعْنَتِه وَنَارِه، وَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَحَقَّ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَمْ تَكُنْ سَيِّئَاتُه مُكَفَّرَةً عَنْهُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الضَّابِطَ مَرْجِعُه إِلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الذُّنُوبِ، فَهُوَ حَدٌّ مُتَلَقًّى مِنْ خِطَابِ الشَّارِعِ.

الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الضَّابِطَ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بِهِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ.

فَإِنَّ مَنْ قَالَ: سَبْعٌ، أَوْ سَبْعَ عَشْرَة، أَوْ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ -مُجَرَّدُ دَعْوَى.

وَمَنْ قَالَ: مَا اتَّفَقَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِه دُونَ مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ -يَقْتَضِي أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ، وَالتَّزَوُّجَ بِبَعْضِ الْمَحَارِمِ، وَالْمُحَرَّمَ بِالرَّضَاعَة وَالصِّهْرِيَّة، وَنَحْوَ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْكَبَائِرِ! وَأَنَّ الْحَبَّة مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالسَّرِقَة لَهَا، وَالْكِذْبَة الْوَاحِدَة الْخَفِيفَة، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ! وَهَذَا فَاسِدٌ.

وَمَنْ قَالَ: مَا سَدَّ بَابَ الْمَعْرِفَة بِاللَّهِ، أَوْ ذَهَابَ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْدَانِ -يَقْتَضِي أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَأَكْلَ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَة وَالدَّمِ، وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ -لَيْسَ مِنَ الْكَبَائِرِ! وَهَذَا فَاسِدٌ.

وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ "كَبَائِرَ" بِالنِّسْبَة إِلَى مَا دُونَهَا، أَوْ كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَة -يَقْتَضِي أَنَّ الذُّنُوبَ فِي نَفْسِهَا لَا تَنْقَسِمُ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ! وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ النُّصُوصِ الدَّالَّة عَلَى تَقْسِيمِ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ.

وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَا تُعْلَمُ أَصْلًا، أَوْ إِنَّهَا مُبْهَمَة -فَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِه أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهَا، فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَهَا غَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ) لِأَنَّ التَّوْبَة لَا خِلَافَ أَنَّهَا تَمْحُو الذُّنُوبَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي غَيْرِ التَّائِبِ.

وَقَوْلُهُ: (بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ تَعَالَى عَارِفِينَ) لَوْ قَالَ: "مُؤْمِنِينَ" بَدَلَ قَوْلِهِ: "عَارِفِينَ" كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ.

وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِالْمَعْرِفَة وَحْدَهَا الْجَهْمُ، وَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّ إِبْلِيسَ عَارِفٌ بِرَبِّه: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص:79]، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82- 83].

وَكَذَلِكَ فِرْعَوْنُ وَأَكْثَرُ الْكَافِرِينَ؛ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون:84- 85]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّة عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.

وَكَأَنَّ الشَّيْخَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرَادَ الْمَعْرِفَةَ الْكَامِلَة الْمُسْتَلْزِمَة لِلِاهْتِدَاءِ، الَّتِي يُشِيرُ إِلَيْهَا أَهْلُ الطَّرِيقَة، وَحَاشَا أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ، بَلْ هُمْ سَادَة النَّاسِ وَخَاصَّتُهُمْ.

س: قوله: "أهل الطريقة" يُشيرون إلى معرفةٍ تامَّةٍ؟

ج: عبارة فيها نظر، فإنَّ هذا يُعبر به عن الصُّوفية، هذا كلام مجمل، لكن عذره لعله أراد بها -بالمعرفة التامَّة- لعلَّ مُراده المعرفة التي تضمنت الإيمانَ، إذا ماتوا وهم عارفون بالله معرفةً اقتضت إيمانهم به، وتوحيدهم له ، مثلما تقدم في "الموحدون"، فكلامه يُفسر بعضُه بعضًا، وهو ابتُلي بهذه السَّجعات التي أوجبت له أشياء مما لا يحسن ذكرها.

س: توجيه كلام الشارح بأنها المعرفة التامَّة التي يُشير إليها أهلُ الطريقة، أهل الطريقة يُشيرون إلى أنَّ المعرفةَ تُسقط التَّكاليف؟

ج: لا، ما هو هذا مُراده، هؤلاء أهل الزيغ والإلحاد، ليس مُراده هذه الطريقة التي يُعبرون بها عن الصُّوفية، والطَّريقة التي لعموم الناس: لهم الشريعة الظاهرة، والصوفية لهم الحقيقة التي هي الطريقة الباطنة، ولكن لعلَّ المراد غير هذا، لعلَّ مُراده طريقة الذين هم أهل الزهد والاستقامة، وليس على طريقة الصُّوفية المذمومين، وقد يُحمل على محملٍ آخر أسلم من هذا الشيء، فهم أهل الطريقة المحمودة، أهل السنة والجماعة، لا أهل الزيغ وأهل التَّصوف، والعبارة فيها إيهام.

الطالب: قوله: واختلف العلماء في الكبائر على أقوال: فقيل: سبعة.

الشيخ: يجوز التَّذكير عند عدم التفسير، والصواب: سبع .......

س: الشيخ ابن تيمية رحمه الله في كتاب "الفرقان" وجدتُ له أنه يُثني على الجُنيد، مع أنه من رؤساء الصُّوفية؟!

ج: الجنيد وأبو سليمان الدَّاراني من أهل الخير، ليسوا من أهل الصوفية المذمومين؛ لأنهم قالوا: علمنا مُقيد بالكتاب والسنة.

وَقَوْلُهُ: (وَهُمْ فِي مَشِيئَة اللَّهِ وَحُكْمِه، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ بِفَضْلِه ..) إِلَى آخِرِ كَلَامِه.

فَصَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، كَمَا قَالَ ﷺ، وَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الشِّرْكَ غَيْرُ مَغْفُورٍ، وَعَلَّقَ غُفْرَانَ مَا دُونَه بِالْمَشِيئَة، وَالْجَائِزُ يُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَة دُونَ الْمُمْتَنِعِ، وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ سَوَاءً لَمَا كَانَ لِلتَّفْصِيلِ مَعْنًى؛ وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ هَذَا الْغُفْرَانَ بِالْمَشِيئَة، وَغُفْرَانُ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ بَعْدَ التَّوْبَة مَقْطُوعٌ بِهِ، غَيْرُ مُعَلَّقٍ بِالْمَشِيئَة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْغُفْرَانُ الْمُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَة هُوَ غُفْرَانَ الذُّنُوبِ سِوَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ قَبْلَ التَّوْبَة.

الشيخ: وهذا الذي قاله المؤلفُ هو قول أهل السنة والجماعة قاطبةً، قول أهل السنة والجماعة جميعًا، وأجمع أهلُ العلم والإيمان على أنَّ الشرك لا يُغفر لمن مات عليه، مَن مات على الشرك لا يُغفر له؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا يقول: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، فجزم بعدم مغفرة الشرك، ولم يُعلِّق، بل قال: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، فدلَّ ذلك على أنَّ مَن مات على الشرك لا يُغفر له.

وقال سبحانه: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، فعُلم أنَّ الشرك إذا مات عليه العبدُ فعمله حابط، والمغفرة ممتنعة في حقِّه، مُحرَّمة عليه، نسأل الله العافية.

ثم قال بعد ذلك: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، هذا يدل على أنَّ ما دون الشرك فهو مُعلَّق بالمشيئة: قد يُغفر، وقد لا يُغفر، وهذا في حقِّ مَن مات غير تائبٍ، مَن مات على المعاصي لم يتب منها فهذا مُعلَّق أمره بالمشيئة: إن شاء الله غفر له فضلًا منه لإسلامه وما معه من العمل الصالح والتَّقوى لله، وإن شاء عذَّبه على قدر الجريمة التي مات عليها، وهو سبحانه أعلم بمقادير تلك الجرائم وعقوباتها.

والجرائم أنواع: منها الزنا، ومنها اللواط، والعياذ بالله، ومنها شرب المسكر، ومنها شهادة الزور، ومنها العقوق للوالدين، أو أحدهما، ومنها قطيعة الرحم، واليمين الكاذبة، والدعاوى الباطلة، وظلم الناس في دمائهم أو أموالهم أو أعراضهم، وقذف المحصنات الغافلات، وقتل النفس بغير حقٍّ، وأكل الربا.

كل هذه معاصٍ، إذا كان لم يستحلها؛ فعلها ويعلم أنها معاصٍ، فعلها ويعلم أنه عاصٍ بها، وأنه مُجرم، وأنه مُذنب، ولم يستحلها؛ فهذا يدخل تحت مشيئة الله إذا مات على ذلك: إن شاء الله غفر له لإسلامه وإيمانه وما معه من خيرٍ وعملٍ صالحٍ، وإن شاء عذَّبه، وقد توعده بالعذاب.

وكثير من العُصاة لا يُغفر لهم، بل يُعذَّبون، جاءت النصوص دالَّةً على أنَّ كثيرًا منهم يُعذَّبون في النار على قدر معاصيهم، ثم يخرجون منها بعد ذلك حسبما يشاء الله ، ثم يُلقون في نهر الحياة، يخرجون كما قال في آخر الحديث: ظبائر، ظبائر يعني: جماعات، جماعات، قد احترقوا كالحمم، كالفحم، نسأل الله العافية، فيُلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبَّةُ في حميل السَّيل، ثم بعد أن يتم خلقهم يُدخلهم اللهُ الجنَّة، وقد يشفع فيهم الشُّفعاء، مثل: الملائكة، والأنبياء، والمؤمنين، والأفراط، يشفعون في أهل المعاصي بعد دخولهم النار، والنبي ﷺ أيضًا يشفع شفاعات عديدة في أهل المعاصي، فيحدّ الله له حدًّا غير مرةٍ فيُخرجهم من النار، ثم تبقى بقيةٌ من أهل المعاصي في النار، لم تنلهم الشَّفاعات، ولم تُحط بهم الشَّفاعات؛ فيُخرجهم الله فضلًا منه جلَّ وعلا، لم يعملوا خيرًا قط، إلا أنهم يقولون: لا إله إلا الله، إلا أنهم من الموحدين، فيُدخلهم الجنةَ بعد ذلك، بعدما عذَّبهم سبحانه العذاب الذي اقتضته حكمتُه وعدله ، فهذا معنى قوله جلَّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وهذا إجماع أهل السنة والجماعة، خلافًا للمُعتزلة والخوارج.

أما الطائفتان -المعتزلة والخوارج- فيقولون: مَن دخل النار لا يخرج منها، فالعُصاة مُخلَّدون في النار عندهم، عندهم أنَّ العاصي مخلَّد في النار، إذا مات على الزنا ولم يتب يُخلد في النار، إذا مات على العقوق يُخلد في النار، إذا مات على الرِّبا يُخلد في النار، ولو ما استحلَّه، هذا قول هاتين الطائفتين من الخوارج والمعتزلة، وقد أنكر عليهم أهلُ السنة ذلك، وصاحوا بهم، ونددوا بهم، وبيَّنوا خطأهم وضلالهم في هذا الأمر.

أما التَّائبون فيُغفر لهم، مَن تاب تاب الله عليه، الشرك وما دونه، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ يعني: بالمعاصي أو بالشرك لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، لا تقنطوا يعني: لا تيأسوا من رحمة الله، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا يعني: يغفرها للتَّائبين، أجمع أهلُ السنة وأجمع علماء التفسير على أنها في التَّائبين، هذه الآية -آية الزمر- في التَّائبين، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ المسرفين في المعاصي لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ يعني: لا تيأسوا إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

ثم قال بعدها: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:54] يعني: بعد التوبة أنيبوا واستقيموا على طاعة الله، والله يغفر الذنوب ، ومَن تاب توبةً صادقةً بالنَّدم على الذنوب الماضية، والإقلاع منها، والعزم أن لا يعود فيها، وردّ المظالم لأهلها؛ تاب الله عليه، وعفا عنه إذا كان صادقًا، فعليه أن يستقبل أمره، وأن يُنيب إلى الله بالعمل الصَّالح ويجتهد، فهذه في التَّائبين.

وآية النساء في غير التَّائبين، آية النساء قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ هذه آية النساء، بيَّن أن الشرك لا يُغفر، ولم يُعلِّقه، بل قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، فلم يُعَلِّق، ثم جعل ما تحت المشيئة فقال : وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، فجعل ما دون الشرك مُعلَّقًا بالمشيئة، فهذا في غير التَّائبين، إذا ماتوا على غير التوبة، ماتوا على الشرك، أو على ما دونه، فإن كانوا على الشرك فلا مغفرةَ لهم، والجنة عليهم حرام، نعوذ بالله، كما قال في الآية الأخرى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72]، وما دون ذلك فهو مُعلَّق بالمشيئة، إذا كان مات على المعاصي، وهو غير مُستحلٍّ لها، يعني: غير مُعتقد حلّها له، بل مات وهو يعلم أنه عاصٍ، وأنه مُخطئ، وأنه مُذنب، ولكن غلب عليه الهوى والشيطان، فهذا هو الذي تحت مشيئة الله.

أما الذي يرى أن الزنا حلال، فهذا كافر، نعوذ بالله، الذي يستحل الزنا أو اللواط أو المسكر، هذا يكون كافرًا مُرتدًّا، إذا مات على هذا يكون مُخلَّدًا في النار، نعوذ بالله، هذا مخلَّد في النار عند أهل السنة جميعًا، بإجماع أهل السنة والجماعة، وهكذا مَن استحلَّ عقوقَ الوالدين أو المسكر، أو استحلَّ قطيعة الرحم، أو استحلَّ الربا وقال: إنه حلال؛ يكون كافرًا مُرتدًّا، نعوذ بالله، نسأل الله العافية.

هذه مسائل عظيمة يجب أن تُلاحظ، وأن تكون على البال، نسأل الله السلامة.

س: بالنسبة للشرط الأخير من شروط التوبة الذي هو: ردّ المظالم، يقول: أنا فقير لا أستطيع أن أردَّ المظالم مثلًا من سرقةٍ؟

ج: يستحلّه منها، فإذا عجز عن ذلك فالله يعلم تمام عزمه، إذا عزم على ذلك عفا الله عنه، إذا عجز عنها ولم يسمحوا عنك فالله يُسامحك، إذا صدق في التوبة؛ لأنَّ العاجز الصَّادق كالمؤدي.

س: عندما يريد الإنسانُ الحجَّ فيُنصح أنه يجب أولًا أن ترد المظالم، فيقول: كم مظالم عليَّ؟

ج: التوبة، التوبة.

س: مات موتًا ثانيًا؟

ج: يُميتهم الله إماتتين؛ العُصاة.

س: فوائد الربا بعضهم يعتبرها ليست ربًا؟

ج: هذا غلط، هذا منكر، هذا منكر خلاف قول أهل السنة والجماعة قاطبةً، فوائد الربا ربا: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة:279].

س: هل هذا يدخل في معنى استحلال الربا؟

ج: يُبَيَّن له إذا كان جاهلًا، يُبَيَّن له الحكم، فإذا أصرَّ على أن فوائد الربا جائزة فهذا استحلال منه، إذا قال: إنه يجوز له أن يُرابي. وإذا حلَّ الدَّين قال له مثلًا: أنا أُمهلك كذا وعليك زيادة كذا. أو يبيعه الدرهم بالدِّرهمين، والدينار بالدِّينارين.

س: هم لا يقولون: "هذا ربا" مباشرةً، وإنما يقولون: هذه أجرة العاملين من كتبةٍ ومن إدارةٍ؟

ج: الربا الصريح ردة عن الإسلام، أما الذي فيه شُبهة يُبين لهم.

وَقَوْلُهُ: (ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تولَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِه) فِيهِ مُؤَاخَذَة لَطِيفَة كَمَا تَقَدَّمَ.

الشيخ: لو قال: تولَّى الإيمانَ منهم؛ لأنَّ المعرفة لا تكفي كما تقدم، فإبليس يعرف ربَّه، وفرعون يعرف ربَّه، ولكن لا تنفعهم المعرفة، فإنما الذي ينفع الإيمانُ، فهذا تسامح من المؤلف مثلما تقدم، ما كل عارفٍ ناجيًا، الذي ينفع الإيمانُ الصَّادق الذي يُثمر العمل، أما المعرفة فاليهود تعرف ربها، والكافر يعرف ربه، وإبليس يعرف ربَّه: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]، ومع هذا هو من المخلدين في النار، نعوذ بالله، معرفة ما معها إيمانٌ وتقوى ما تنفع، نسأل الله العافية، ولو كان أعلم الناس، بلعام يعرف ربَّه وانسلخ من آيات الله بسبب إيثاره الهوى والدنيا.

وَقَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ يَا وَلِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِه، مَسِّكْنَا بِالْإِسْلَامِ) وَفِي نُسْخَةٍ: (ثَبِّتْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى نَلْقَاكَ بِهِ).

رَوَى شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِي فِي كِتَابِه "الْفَارُوقِ" بِسَنَدِه عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: يَا وَلِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِه، مَسِّكْنِي بِالْإِسْلَامِ حَتَّى أَلْقَاكَ عَلَيْهِ.

الشيخ: علَّق عليه؟

الطالب: نعم: رواه الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"، رواه من طريق الطبراني بسنده عن أنس بن مالك به، وهو إسناد جيد، كما حققته في "الأحاديث الصحيحة" رقم كذا، وراجع مقدمة الطبعة الثالثة. انتهى.

.............

قَوْلُهُ: (وَنَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَة، وَعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ).

قَالَ ﷺ: صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ رَوَاهُ مَكْحُولٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَخْرَجَه الدَّارَقُطْنِي، قَالَ: مَكْحُولٌ لَمْ يَلْقَ أَبَا هُرَيْرَةَ. وَفِي إِسْنَادِه مُعَاوِيَة بْنُ صَالِحٍ، مُتَكَلَّمٌ فِيهِ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِه". وَخَرَّجَ لَهُ الدَّارَقُطْنِي أَيْضًا وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الصَّلَاةُ وَاجِبَة عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ مُسْلِمٍ، بَرًّا كان أَوْ فَاجِرًا، وَإِنْ عَمِلَ بِالْكَبَائِرِ، وَالْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ، بَرًّا كان أَوْ فَاجِرًا، وَإِنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ.

الشيخ: الأحاديث في هذا الباب ضعيفة، ولكن أهل السنة والجماعة على معناها، وإن كانت أسانيدها لا تخلو من ضعفٍ، فإنَّ الواجبَ على الرعية أن يكونوا مع ولاة الأمور في جهادهم وصلواتهم في الجماعة، وأن لا يتخلَّفوا عن ذلك؛ لما في إظهار الصلاة في الجماعة من إظهار شعائر الإسلام، ولما في الجهاد من إظهار دين الإسلام وإعزازه والدَّعوة إليه ودعوة الناس إليه، وجهاد مَن تخلَّف عنه، فمصلحته أكبر وأعظم مما حصل من النَّقص من الإمام في الصلاة أو غيرها كالجهاد.

وَفِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ": أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِي، وَكَذَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ فَاسِقًا ظَالِمًا.

وَفِي "صَحِيحِه" أَيْضًا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَخْطَأوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ.

الشيخ: وهذا كله يُبين لنا المعنى.

وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ، وَصَلُّوا عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ. أَخْرَجَه الدَّارَقُطْنِي مِنْ طُرُقٍ، وَضَعَّفَهَا.

اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّانَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّي خَلْفَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُ بِدْعَةً وَلَا فِسْقًا، بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّة، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِائْتِمَامِ أَنْ يَعْلَمَ الْمَأْمُومُ اعْتِقَادَ إِمَامِه، وَلَا أَنْ يَمْتَحِنَه، فَيَقُولُ: مَاذَا تَعْتَقِدُ؟ بَلْ يُصَلِّي خَلْفَ الْمَسْتُورِ الْحَالِ، وَلَوْ صلَّى خَلْفَ مُبْتَدِعٍ يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ، أَوْ فَاسِقٍ ظَاهِرِ الْفِسْقِ، وَهُوَ الْإِمَامُ الرَّاتِبُ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ الصَّلَاةُ إِلَّا خَلْفَه: كَإِمَامِ الْجُمعَة وَالْعِيدَيْنِ، وَالْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْحَجِّ بِعَرَفَة، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يُصَلِّي خَلْفَه عِنْدَ عَامَّة السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.

وَمَنْ تَرَكَ الْجُمعَة وَالْجَمَاعَة خَلْفَ الْإِمَامِ الْفَاجِرِ، فَهُوَ مُبْتَدِعٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا وَلَا يُعِيدُهَا، فَإِنَّ الصَّحَابَة كَانُوا يُصَلُّونَ الْجُمعَة وَالْجَمَاعَة خَلْفَ الْأَئِمَّة الْفُجَّارِ وَلَا يُعِيدُونَ، كَمَا كَانَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَكَذَلِكَ أَنَسٌ ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ عَبْدُالله بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَة ابْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، حَتَّى إِنَّهُ صَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ مَرَّة أَرْبَعًا، ثُمَّ قَالَ: أَزِيدُكُمْ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا زِلْنَا مَعَكَ مُنْذُ الْيَوْم فِي زِيَادَةٍ!

............

وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ لَمَّا حُصِرَ صَلَّى بِالنَّاسِ شَخْصٌ، فَسَأَلَ سَائِلٌ عُثْمَانَ: إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّة، وَهَذَا الَّذِي صَلَّى بِالنَّاسِ إِمَامُ فِتْنَةٍ؟! فَقَالَ: "يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّ الصَّلَاةَ مِنْ أَحْسَنِ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنُوا فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ".

وَالْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ صَلَاتُه فِي نَفْسِهَا صَحِيحَة، فَإِذَا صلَّى الْمَأْمُومُ خَلْفَه لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُه، لَكِنْ إِنَّمَا كَرِه مَنْ كَرِه الصَّلَاةَ خَلْفَه لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ.

وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ بِدْعَةً وَفُجُورًا لَا يُرَتَّبُ إِمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ حَتَّى يَتُوبَ، فَإِذَا أَمْكَنَ هَجْرُه حَتَّى يَتُوبَ كَانَ حَسَنًا، وَإِذَا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ إِذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ خَلْفَه وَصَلَّى خَلْفَ غَيْرِهِ أَثَّرَ ذَلِكَ فِي إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ حَتَّى يَتُوبَ أَوْ يُعْزَلَ أَوْ يَنْتَهِي النَّاسُ عَنْ مِثْلِ ذَنْبِه -فَمِثْلُ هَذَا إِذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ خَلْفَه كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَة شَرْعِيَّة، وَلَمْ تَفُتِ الْمَأْمُومَ الجُمعَةُ وَلَا الجَمَاعَةُ.

الشيخ: يعني: يفعل ما هو أصلح؛ إذا رأى أنَّ الأصلح ترك الصلاة خلفه ويُصلي خلف إمامٍ آخر ليظهر إنكاره عليه، ويظهر أنه قد أنكر ولم يرضَ فعل ذلك، وإذا كان تركُ الصلاة خلفه يُسبب فتنة بين المسلمين قد يترك ذلك ويُصلي خلفه ويُنكر بما استطاع.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ تَرْكُ الصَّلَاةِ خَلْفَه يُفَوِّتُ الْمَأْمُومَ الْجُمعَة وَالْجَمَاعَة، فَهُنَا لَا يَتْرُكُ الصَّلَاةَ خَلْفَه إِلَّا مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلصَّحَابَة .

وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ قَدْ رَتَّبَه وُلَاةُ الْأُمُورِ، لَيْسَ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ خَلْفَه مَصْلَحَة شَرْعِيَّة، فَهُنَا لَا يَتْرُكُ الصَّلَاةَ خَلْفَه، بَلِ الصلاةُ خَلْفَ الأفضل أَفْضَلُ، فَإِذَا أَمْكَنَ الْإِنْسَانُ أَنْ لَا يُقَدِّمَ مُظْهِرًا لِلْمُنْكَرِ فِي الْإِمَامَة وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، لَكِنْ إِذَا وَلَّاه غَيْرُهُ، وَلَمْ يُمْكِنْه صَرْفُه عَنِ الْإِمَامَة، أَوْ كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ صَرْفِه عَنِ الْإِمَامَة إِلَّا بِشَرٍّ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ مَا أَظْهَرَ مِنَ الْمُنْكَرِ -فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْفَسَادِ الْقَلِيلِ بِالْفَسَادِ الْكَثِيرِ، وَلَا دَفْعُ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ بِحُصُولِ أَعْظَمِهِمَا، فَإِنَّ الشَّرَائِعَ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا، بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.

فَتَفْوِيتُ الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ الِاقْتِدَاءِ فِيهِمَا بِالْإِمَامِ الْفَاجِرِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ التَّخَلُّفُ عَنْهَا لَا يَدْفَعُ فُجُورًا، فَيَبْقَى تَعْطِيلُ الْمَصْلَحَة الشَّرْعِيَّة بِدُونِ دَفْعِ تِلْكَ الْمَفْسَدَة.

وَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ فِعْلُ الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة خَلْفَ الْبَرِّ، فَهَذَا أَوْلَى مِنْ فِعْلِهَا خَلْفَ الْفَاجِرِ؛ وَحِينَئِذٍ، فَإِذَا صَلَّى خَلْفَ الْفَاجِرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَهُوَ مَوْضِعُ اجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُعِيدُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُعِيدُ. وَمَوْضِعُ بَسْطِ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ.

الشيخ: والصواب أنه لا يُعيد، فالصَّحابة ما أعادوا، وفي إمكانهم أن يُصلوا جماعةً وحدهم، والمقصود أنَّ الصلاة خلف البرِّ والفاجر جائزة عند أهل السنة والجماعة، ولا سيما في الجمع والأعياد والصَّلاة في الحج، ولو قدر أنه يمكن أن يُصلي خلف البرِّ؛ لأنَّ إظهار الشَّعائر مع المسلمين والبُعد عن أسباب الفتن وشقّ العصا أمرٌ مطلوب، والقاعدة: أن المؤمن يُراعي تكميل المصالح وتثبيتها وتكثيرها، وتعطيل المفاسد وتقليلها مهما أمكنه ذلك، وهكذا صلاة الجماعة، يُراعي هذه الأصول أيضًا، ويحرص على إقامة صلاة الجماعة وإن كان الإمامُ فاسقًا حتى يتيسر زواله.

وَأَمَّا الْإِمَامُ إِذَا نَسِي أَوْ أَخْطَأَ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمَأْمُومُ بِحَالِه، فَلَا إِعَادَةَ عَلَى الْمَأْمُومِ؛ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَقَدْ صَلَّى عُمَرُ وَغَيْرُهُ وَهُوَ جُنُبٌ، نَاسِيًا لِلْجَنَابَة، فَأَعَادَ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَأْمُرِ الْمَأْمُومِينَ بِالْإِعَادَة، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ إِمَامَه بَعْدَ فَرَاغِه كَانَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، أَعَادَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِي وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ.

الشيخ: والصواب أنه لا يُعيد، إذا صلَّى بالناس ولم يعلم أنه على غير طهارةٍ إلا بعد ذلك أعاد هو ولم يُعيدوا.

س: ولو علم أثناء الصَّلاة؟

ج: يقطعها، ويستأنفون هم، أو يُكملون لأنفسهم، والصواب أنهم يُكملون لأنفسهم، أو يستخلف عليهم مَن يُصلي بهم.

س: يُقدِّم واحدًا؟

ج: يُقدِّم واحدًا مثلًا، وإن لم يُقدم أحدًا قدَّموا مَن يُصلي بهم ويُكمل لهم.

س: الذي صلَّى بهم وهو مُحْدِث ثم انصرف وقدَّموا مَن يُكمل بهم؟

ج: إذا انصرف وقدَّموا هم مَن يُصلي بهم ويُكمل بهم صحَّ على الصحيح.

س: .............؟

ج: وإن لم يُقدِّموا وأتموا لأنفسهم صحَّت أيضًا على الصحيح، وإن انتظروه واستأنفوها من أولها فلا بأس أيضًا.

وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ الْإِمَامُ مَا لَا يَسُوغُ عِنْدَ الْمَأْمُومِ، وَفِيهِ تَفَاصِيلُ مَوْضِعُهَا كُتُبُ الْفُرُوعِ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ إِمَامَه يُصَلِّي عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّي خَلْفَه؛ لِأَنَّهُ لَاعِبٌ، وَلَيْسَ بِمُصَلٍّ.

الشيخ: يعني: لاعب قبل الدُّخول في الصلاة، يُنكر عليه، ولا يُصلي خلفه.

س: إذا كان يرى نقضَ الوضوء بأكل لحم الجزور، والإمام لا يرى نقضه؟

ج: تُصلي خلفه، هذا محل اجتهادٍ، لكن لو علم أنه أظهر ما يُوجب الوضوء: من صوتٍ، أو ريحٍ، ومع ذلك يُصلي بالناس، فلا، أما الذي محل اجتهادٍ: كمس المرأة، ومثل: أكل لحم الإبل، لا يراه ناقضًا؛ يُصلي خلفه.

س: بعض الناس لا يذكر أنه على غير وضوءٍ إلا في أثناء الصَّلاة، وقد يخجل فيُكمل الجماعة؟

ج: هذا لا يجوز له أن يُكمل، يجب عليه قطع الصلاة، لكن إذا ما علم فلا عليه.

س: إذا ما قطعها صحَّت صلاتهم أو لا؟

ج: إذا ما دروا صحَّت صلاتهم.

س: .............؟

ج: هو يُعيد، وهم ما عليهم إعادة.

س: إذا سلَّم الإمامُ يُسلمون معه .......؟

ج: لا يُسلمون، لا، يُقدِّمون مَن يُصلي بهم من جديدٍ.

وَقَدْ دَلَّتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّة أَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ، وَإِمَامَ الصَّلَاةِ، وَالْحَاكِمَ، وَأَمِيرَ الْحَرْبِ، وَعَامِلَ الصَّدَقَة -يُطَاعُ فِي مَوَاضِعِ الِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ أَتْبَاعَه فِي مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ، بَلْ عَلَيْهِمْ طَاعَتُه فِي ذَلِكَ، وَتَرْكُ رَأْيِهِمْ لِرَأْيِه، فَإِنَّ مَصْلَحَة الْجَمَاعَة وَالِائْتِلَافَ، وَمَفْسَدَة الْفُرْقَة وَالِاخْتِلَافِ أَعْظَمُ مِنْ أَمْرِ الْمَسَائِلِ الْجُزْئِيَّة؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ لِلْحُكَّامِ أَنْ يَنْقُضَ بَعْضُهُمْ حُكْمَ بَعْضٍ. وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ صِحَّة صَلَاةِ بَعْضِ هَؤُلَاءِ خَلْفَ بَعْضٍ.

ويُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ لَمَّا حَجَّ مَعَ هَارُونَ الرَّشِيدِ، فَاحْتَجَمَ الْخَلِيفَة، وَأَفْتَاه مَالِكٌ بِأَنَّه لَا يَتَوَضَّأُ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَقِيلَ لِأَبِي يُوسُفَ: أَصَلَّيْتَ خَلْفَه؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ خَلْفَ وُلَاة الْأُمُورِ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْبِدَعِ.

وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَخْطَأوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَخْطَأَ فَخَطَؤُه عَلَيْهِ، لَا عَلَى الْمَأْمُومِ.

وَالْمُجْتَهِدُ غَايَتُه أَنَّهُ إذا أَخْطَأَ بِتَرْكِ وَاجِبٍ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا، أَوْ فَعَلَ مَحْظُورًا اعْتَقَدَ أنه لَيْسَ مَحْظُورًا.

وَلَا يَحِلُّ لِمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُخَالِفَ هَذَا الْحَدِيثَ الصَّرِيحَ الصَّحِيحَ بَعْدَ أَنْ يَبْلُغَه، وَهُوَ حُجَّة عَلَى مَنْ يُطْلِقُ مِنَ الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة وَالْحَنْبَلِيَّة أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا تَرَكَ مَا يَعْتَقِدُ الْمَأْمُومُ وَجُوبَه لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُه بِهِ! فَإِنَّ الِاجْتِمَاعَ وَالِائْتِلَافَ مِمَّا يَجِبُ رِعَايَتُه، وَتَرْكُ الْخِلَافِ الْمُفْضِي إِلَى الْفَسَادِ.

الشيخ: .............

الطالب: ونرى الصلاةَ خلف كل برٍّ وفاجرٍ من أهل القبلة، وعلى مَن مات منهم، قال ﷺ: صلُّوا خلف كل برٍّ وفاجرٍ رواه مكحول عن أبي هريرة ، في التَّعليق: ضعيف؛ علته الانقطاع بين مكحولٍ وأبي هريرة. انتهى.

وكذلك الحديث الآخر: حديث الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلمٍ، برًّا كان أو فاجرًا، قال: ضعيف أيضًا للعلة المذكورة.

س: الحديث الأخير حديث ..... أصرح في المسألة؟

ج: نعم، أصرح وأوضح، كل صحيح، كافٍ، شافٍ.

س: إذا كانت بدعته مُكفِّرةً كبدعة الجهمية فهل يُصلِّي خلفه؟

ج: على حسب رأي المجتهد، إذا رآها مُكفِّرةً لا يُصلي خلفه.

وَقَوْلُهُ: (وَعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ) أَيْ: وَنَرَى الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنَ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، وَإِنْ كَانَ يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْعُمُومِ الْبُغَاة وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ، وَكَذَا قَاتِلُ نَفْسِه، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، لَا الشَّهِيدُ، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِي رَحِمَهُمَا اللَّهُ، عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِه.

لَكِنَّ الشَّيْخَ إِنَّمَا سَاقَ هَذَا لِبَيَانِ أَنَّا لَا نَتْرُكُ الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ، لَا لِلْعُمُومِ الْكُلِّي.

وَلَكِنِ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ قِسْمَانِ: إِمَّا مُؤْمِنٌ، وَإِمَّا مُنَافِقٌ، فَمِنْ عُلِمَ نِفَاقُه لَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ مِنْهُ صُلِّي عَلَيْهِ.

فَإِذَا عَلِمَ شَخْصٌ نِفَاقَ شَخْصٍ لَمْ يُصَلِّ هُوَ عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ نِفَاقَه.

وَكَانَ عُمَرُ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ حُذَيْفَة؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي غَزْوَة تَبُوكَ قَدْ عَرَفَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ بِاسْتِغْفَارِه، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَنْهه عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مِنَ الذُّنُوبِ الِاعْتِقَادِيَّة الْبِدْعِيَّة أَوِ الْعَمَلِيَّة الْفُجُورِيَّة مَا لَهُ، بَلْ قَدْ أَمَرَه اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، فَأَمَرَه سُبْحَانَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِنَفْسِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.

فَالتَّوْحِيدُ أَصْلُ الدِّينِ، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ كَمَالُه، فَالدُّعَاءُ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة وَسَائِرِ الْخَيْرَاتِ إِمَّا وَاجِبٌ، وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: عَامٍّ وَخَاصٍّ، أَمَّا الْعَامُّ فَظَاهِرٌ، كَمَا فِي هَذِهِ الآية، وَأَمَّا الدُّعَاءُ الْخَاصُّ فَالصَّلَاة عَلَى الْمَيِّتِ، فَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَمُوتُ إِلَّا وَقَدْ أُمِرَ الْمُؤْمِنُونَ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ صَلَاةَ الْجِنَازَة، وَهُمْ مَأْمُورُونَ فِي صَلَاتِهِمْ عَلَيْهِ أَنْ يَدْعُوا لَهُ، كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ.

الشيخ: علَّق عليه؟

الطالب: نعم، إسناده جيد "أحكام الجنائز". انتهى.

الشيخ: الحديث رواه أبو داود، وهو من حديث أبي هريرة، لا بأس به.

الشيخ: والخلاصة من هذا أنَّ مَن مات وهو على ظاهر الإسلام يُصلَّى عليه، ولكن لا مانع من ترك الصلاة على بعض الناس من باب التَّنفير من عملهم السيئ: كقاتل نفسه، ومَن ظهرت بدعته، لا يُصلِّي عليه أعيانُ الناس وكُبراؤهم للتَّنفير، ويُصلي عليه بعضُ الناس؛ لكونه مسلمًا، فمَن لم نحكم بكفره صلينا عليه، ومَن حكمنا بكفره أو نفاقه النِّفاق الأكبر لم يُصلَّ عليه.

قَوْلُهُ: (وَلَا نُنْزِلُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَنَّةً وَلَا نَارًا).

يُرِيدُ: أَنَّا لَا نَقُولُ عَنْ أَحَدٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَة: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّة، أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، إِلَّا مَنْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ ﷺ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّة: كَالْعَشَرَة .

الشيخ: ويُستثنى من ذلك الشَّهيد كما تقدم، فالشَّهيد وإن كان مؤمنًا ومن خيرة الناس فإنه لا يُصلَّى عليه، لا يُصلَّى على شهيد المعركة إذا مات في المعركة كما تقدم.

س: والمقتول في حدٍّ؟

ج: يُصلَّى عليه، النبي ﷺ صلَّى على الغامدية، وصلَّى على ماعز.

وَإِنْ كُنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ إِدْخَالَه النَّارَ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا بِشَفَاعَة الشَّافِعِينَ، وَلَكِنَّا نَقِفُ فِي الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ، فَلَا نَشْهَدُ لَهُ بِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ إِلَّا عَنْ عِلْمٍ؛ لِأَنَّ الحَقِيقة بَاطِنَة، وَمَا مَاتَ عَلَيْهِ لَا نُحِيطُ بِهِ، لَكِنْ نَرْجُو لِلْمُحْسِنين، وَنَخَافُ عَلَى الْمُسِيءِ.

الشيخ: هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، فإنَّ عقيدة أهل السنة والجماعة من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وأتباعهم بإحسانٍ: عدم الشَّهادة لإنسانٍ مُعيَّنٍ بالجنة والنار إلا مَن شهد له الله جلَّ وعلا بالنار: كأبي لهب، أو شهد له بالجنة، كما شهد النبيُّ ﷺ للعشرة ولعبدالله بن سلام ولعكاشة ولآخرين، وإلا فنقول: المؤمنون في الجنة، والكفار في النار، هذا أمر مقطوع به، نرجو للمُحسن المستقيم، ونخاف على المسيء، وأما علم الغيب فإلى الله .

س: وكذلك الشَّهادة بالنار للأشخاص الذين أخبر النبيُّ ﷺ أنَّهم من أهل النار؟

ج: ....... كذلك مثل قتلى بدر وأشباههم، وأبي جهل وأشباهه.

وَلِلسَّلَفِ فِي الشَّهَادَة بِالْجَنَّة ثَلَاثَة أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ لَا يُشْهَدَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا يُنْقَلُ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّة، وَالْأَوْزَاعِي.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُشْهَدُ بِالْجَنَّة لِكُلِّ مُؤْمِنٍ جَاءَ فِيهِ النَّصُّ، وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ.

الشيخ: وهذا هو الصواب، وهو قول أهل السنة والجماعة.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُشْهَدُ بِالْجَنَّة لِهَؤُلَاءِ، وَلِمَنْ شَهِدَ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ": أَنَّهُ مُرَّ بِجِنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا بِخَيْرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: وَجَبَتْ، وَمُرَّ بِأُخْرَى، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا بِشَرٍّ، فَقَالَ: وَجَبَتْ. وَفِي رِوَايَةٍ كَرَّرَ: وَجَبَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا وَجَبَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ.

وَقَالَ ﷺ: تُوشِكُونَ أَنْ تَعْلَمُوا أَهْلَ الْجَنَّة مِنْ أَهْلِ النَّارِ، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ، فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ أَهْلُ الْجَنَّة وَأَهْلُ النَّارِ.

الشيخ: يعني: من أهل الحقِّ، وهذا قول جمعٍ من أهل العلم، وهو قول جيد، إذا أجمع أهلُ الحقِّ وأهل الخير على شخصٍ فهذه علامة أنه من أهل السَّعادة، وإذا ذكر أهلُ الخير وأهلُ الحقِّ شرًّا على إنسانٍ فهذه علامة أنه من أهل النار؛ لهذا الحديث وما جاء في معناه: وجبت، وجبت قول جيد.

ولكن المشهور هو الأول، يعني: القول الوسط من الثلاثة هو المشهور؛ مَن شهد له الرسولُ ﷺ بالجنَّة شهدنا له، ومَن شهد له بالنار شهدنا له، وما لا فنُمسِك؛ لأنَّ الله هو العالم بالبواطن، والعالم بالخواتيم، ولكن نرجو للمُحسن، ونخاف على المسيء.

والقول الثالث هو هذا القول: أنه مَن اشتهر بالخير والصلاح والاستقامة، وشهد له أهلُ الخير وأهل الاستقامة من أهله أو أكثر بالاستقامة؛ شهدنا له بالجنة، والضدّ بالضدّ: أنتم شُهداء الله في أرضه.

وكان أبو ثورٍ المعروف، إبراهيم بن خالد الكلبي، المشهور بالفقه، يشهد لأحمد بالجنَّة، فيقولون: لم شهدتَ؟ قال: لأنَّ المسلمين أثنوا عليه خيرًا، فنشهد له بالجنة؛ لقوله ﷺ: أنتم شهداء الله في الأرض.

واستنبط من هذا الحديث جماعةٌ من أهل العلم هذا الحكم، وهو قول قوي جيد، وبُشرى للمؤمن، ولكن التوسط هو الأقرب والأحوط؛ لأنه قد يشهد أناسٌ كثيرون لبعض الناس، ولكن ليسوا على المستوى الذي يطمئن إليه، فإنَّ بعض الناس في آخر الزمان وفي غالب الأزمان قد يشهدون بغير بصيرةٍ، وقد يشهدون لمجرد عاطفةٍ أو قرابةٍ أو صداقةٍ، أو لأنه أعطاهم بنيةٍ، أو لأنه وظَّفهم، أو لأنه كذا .. فليس الناس على المستوى الذي يطمئن إليه في الشَّهادة في غالب الأحوال وفي آخر الزمان، وهذا مما يُوجب التَّوقف، ولكن إذا جاء النصُّ عن رسول الله ﷺ فهذا لا كلامَ فيه.

س: ما يكون قول مَن قال: إنه خاصٌّ بالصحابة؟

ج: هذا ليس بشيءٍ.

س: أو بالجماعة الذين مرَّ بهم؟

ج: ليس خاصًّا بهم: أنتم شُهداء الله في الأرض، ليس مُراده الصَّحابة، مُراده المؤمنون: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].

س: أليس الأصل عدم ذكر مساوئ الميت؟

ج: بلى، لكن إذا كان ذكر الشَّر للتنفير فهذا مُستثنًى؛ لأنَّ الرسولَ ﷺ ما أنكر عليهم لما أثنوا شرًّا، فيكون للتَّنفير منه، نقول: هذا مبتدع، هذا داعية سوء، هذا مما أعلم منه الفجور والمعاصي؛ للتَّنفير من شرِّه، مُستثنى، نعم، بخلاف مَن ستره الله فلا تبحث عن مساويه.

الطالب: حديث "الثناء الحسن والثناء السيئ" قال في الأسفل: إسناده محتمل للتَّحسين، فإنه من رواية ابن أبي زهير الثَّقفي عن أبيه مرفوعًا، أخرجه ابن ماجه وأحمد، قال في "الزوائد": إسناده صحيح، رجاله ثقات. قلت: أبو بكر هذا لم يروِ عنه غير اثنين، ولم يُوثقه غير ابن حبان، وقال في "التقريب": مقبول. يعني: عند المتابعة، وإلا فلين الحديث. انتهى.

الشيخ: يُراجع سنده عند أحمد.

س: إذا قلنا بالعموم لماذا لا يُصار إلى القول الثالث، ويُقال: هو الأولى؟

ج: للتَّثبت؛ لأنَّ شهادة الناس قد يعتريها ما يعتريها، قد يشهد أناسٌ ممن لا يُوثق بشهادتهم، بخلاف إذا شهد أهلُ الخير، فهو الظن الغالب، لكن إذا شهد أناسٌ لا يُعتبر بحالهم.

س: يقال: العبرة بالمُعتدلين من الناس؟

ج: إذا شهد له العدول يُرجا له الخير، القول بالشهادة بالجنة قول قوي، إذا شهد مَن يُعرف أنه من أهل الخير وأهل الاستقامة.

قَوْلُهُ: (وَلَا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلَا بِشِرْكٍ وَلَا بِنِفَاقٍ، مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنَذَرُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى).

لِأَنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِالْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ، وَنُهِينَا عَنِ الظَّنِّ وَاتِّبَاعِ مَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ؛ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ الآية [الحجرات:11]، وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36].

قوله: (وَلَا نَرَى القتلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أُمَّة مُحَمَّدٍ ﷺ إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ السَّيْفُ).

الشيخ: ومعنى هذا الكلام السابق: أنَّ أهل السنة والجماعة رحمة الله عليهم يقبلون من الناس ظواهرهم، ويُوكِلون سرائرهم إلى الله سبحانه، وهذا هو الحق، مثلما قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: أُمِرْتُ أن أُقاتل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، ويُقيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّ الإسلام، وحسابهم على الله .

فالناس مُطالبون بالاستقامة على ظاهر الشرع، والسير على ذلك منهاجًا لما درج عليه النبيُّ وأصحابه، وأما التَّنقيب عن سرائرهم والتَّفتيش عمَّا تنطوي عليه قلوبهم، هذا ليس إلينا، بل الله هو الذي يعلم السَّرائر ، وإنما علينا أن نُقيمه على الظاهر، ونكل السَّرائر إلى الله .

فعلى كل مسلمٍ أن يستقيم على أمر الله، ويبتعد عن محارم الله، وأن يقف عند حدود الله، وعلى ولاة الأمور أن يقوموا بذلك، وأن يجتهدوا في إقامته على الشرع المطهر، وليس لهم من السريرة شيء، السريرة إلى الله ، فمَن أظهر شيئًا أُخذ به، ومَن سكت وأسرَّ ولم يظهر منه شيءٌ يُخالف الشرعَ فأمره إلى الله ؛ ولهذا ثبت عن عمر أنه كان يقول: "إنَّ الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر من أعمالكم؛ فمَن أظهر خيرًا قربناه وأمناه، ومَن أظهر شرًّا لم نأمنه ولم نقربه، وليس لنا من سريرته شيء، بل هي عند الله ".

فالمقصود أنَّ الواجب على جميع المسلمين أن يستقيموا على الشرع، وأن يُحافظوا عليه، وأن يتواصوا بذلك، وأن يُحسنوا الظنَّ بإخوانهم، وأن لا يتَّهموهم بالنِّفاق أو بغيره من الشُّرور ما لم يظهر منهم ما يدل على ذلك، والله المستعان.

فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِه الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَة.

قَوْلُهُ: (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاة أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا، وَلَا نَدْعُو عَلَيْهِمْ، وَلَا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَة اللَّهِ فَرِيضَة، مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ، وَنَدْعُوا لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَالْمُعَافَاة).

قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ يُطِعِ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عصى الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي.

الشيخ: وهذا أيضًا هو عقيدة أهل السنة والجماعة؛ أنهم لا يحملون السلاحَ على أمة محمدٍ عليه الصلاة والسلام، بل هذا شأن الخوارج، وكذلك لا ينزعون يدًا من طاعةٍ، بل يُطيعون ولاةَ الأمور، ويدعون لهم بالتوفيق والهداية والصَّلاح، ولا يخرجون عليهم، ولا ينزعون يدًا من طاعتهم ما لم يأمروا بمعصية الله، فإذا أمروا بمعصية الله فلا يُطاعون في المعصية: إنما الطاعةُ في المعروف؛ ولهذا قال : أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يعني: في المعروف، وقال النبيُّ ﷺ: مَن أطاعني فقد أطاع الله، ومَن عصاني فقد عصى الله، ومَن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومَن عصى الأمير فقد عصاني، وهو مُخرَّج في "الصحيحين"، وقال ﷺ: على المسلم السمع والطاعة فيما أحبَّ وكره، ما لم يُؤمر بمعصية الله، فإذا أُمر بمعصية الله فلا سمعَ ولا طاعةَ.

فعلى المؤمن أن يعرف ما درج عليه السلفُ الصالحُ، وأن يستقيم على ذلك، وأن يدعو لولاة الأمور بالتوفيق والهداية، وأن يُناصحهم، وأن يُبين لهم الخير، ويُحذرهم من الشرِّ، وأن يدعوهم إلى كلِّ ما فيه طاعة الله ورسوله، وأن يُحذِّرهم من كلِّ ما فيه معصية الله والرسول، مع أمير البلد، وأمير القرية، وشيخ القبيلة، ونحو ذلك، فإنَّ السلطان يتنوع؛ فالسلطان الأعظم هو أمير المؤمنين ورئيس الدولة، ثم يجيء بعد ذلك الأمراء والرُّؤساء للمدن والقُرى وشيوخ القبائل، كل واحدٍ له سلطان، والمعاونة على طاعة الله ورسوله، والمساعدة على ترك ما نهى الله عنه ورسوله، سواء كانت ولايتهم كبيرةً أو صغيرةً؛ لما في هذا من اجتماع الكلمة، والتَّعاون على البرِّ والتَّقوى، وتقليل الشر، وتكثير الخير.

س: ما في رواية: مَن أطاع أميري؟

ج: جاء هذا وهذا: مَن أطاع الأمير ومَن أطاع أميري، رواية البخاري: مَن أطاع أميري أو العكس، والحديث في "الصحيحين".

............

س: لو كان كافرًا يُطاع في الخير؟

ج: يُطاع في الخير، ولا يُطاع في الشرِّ، لو بُلي الناس بأميرٍ كافرٍ ولم يستطيعوا بالطرق الشرعية أن يُعينوا غيره؛ أطاعوه في الخير، لا في الشرِّ.

س: يجوز الخروج عليه إذا كان كافرًا؟

ج: ويجوز الخروج عليه إذا كانت عندهم قُدرة يترتب عليها زواله من دون ضررٍ أكبر، أما إذا كان يُخشى من ضررٍ أكبر فلا، حتى يأتي اللهُ بالفرج.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: "إِنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ". وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ: "وَلَوْ لِحَبَشِي كَأَنَّ رَأْسَه زَبِيبَة".

وَفي "الصَّحِيحَيْنِ" أَيْضًا: عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَة.

وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُه عَنِ الشَّرِّ مَخَافَة أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ من شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُه؟ قَالَ: قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ، فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، دُعَاة عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوه فِيهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: نَعَمْ، قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا، يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا تَرَى إِذَا أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَة الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ، فَقُلْتُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَة وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ.

الشيخ: وهذا الحديث في الصحيح له شأن عظيم، حديث حذيفة قد رواه البخاريُّ ومسلم في الصحيح، وهو يُبين أنَّ المؤمن يسأل عن الخير والشرِّ؛ حتى يتوقَّى الشرَّ، وحتى يأخذ بالخير، وكان حذيفةُ عُني بسؤال رسول الله ﷺ عن الشرِّ مخافة أن يُدركه الشرُّ؛ فلهذا قال له هذا الكلام: "إنا كنَّا في جاهليةٍ وشرٍّ، فجاءنا الله بهذا الخير" يعني على يدك، وهو ما دعا إليه من توحيد الله، والإخلاص له، واتباع شريعته، وتعظيم أمره ونهيه، والنهي عمَّا نهى عنه، والسير على منهاجه الذي رسمه سبحانه لعباده على يد نبيه عليه الصلاة والسلام، "فهل بعد هذا الخير من شرٍّ؟" قال: نعم، ثم قال بعد ذلك: "وهل بعد ذلك الشرِّ من خيرٍ؟" قال: نعم، وفيه دخن، قال: "قلت: وما دخنه؟" قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتُنكر، تعرف أشياء، وتُنكر أشياء، فقلت: "وهل بعد هذا الخير من شرٍّ؟" هذا الخير الذي فيه دخن، هل بعده من شرٍّ؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، مَن أجابهم قذفوه فيها، يعني: دعاة إلى النار، نسأل الله العافية، يدعون إلى معاصي الله، وإلى الشرك، وإلى ترك أوامر الله، ويُزينون للناس الباطل، ويصدُّونهم عن الحقِّ في الأساليب التي يستطيعونها، وبالأساليب الواضحة، وبالأساليب المغلفة النِّفاقية، تارةً وتارةً، قال حذيفة: "صفهم لنا؟" قال: نعم، قوم من جلدتنا، ويتكلَّمون بألسنتنا يعني: عرب فُصحاء يدعون إلى النار.

وهذا هو الواقع من أزمانٍ كثيرةٍ: من خُطباء ضالِّين، وأصحاب صحف سيارة، ومقالات رنانة، كلها في الباطل والشر والدَّعوة إلى النار، نعوذ بالله، ما بين مجلات فاسدة، وصحافات فاسدة، وإذاعات فاسدة، وخطب منحرفة، إلى غير ذلك، كلها دعوة إلى جهنم، نعوذ بالله، ولكن لا تخلو الأرض من الخير: لا تزال طائفةٌ من الأمة على الحقِّ منصورة، لا يضرها مَن خذلها، ولا مَن خالفها، حتى يأتي أمر الله، فهذا موجود، وهذا موجود، لكن غلبة الشرِّ أكبر، كثرة الشر ودُعاة النار أكثر -نسأل الله العافية- في آخر الزمان، كما أخبر النبيُّ ﷺ.

قال: "فما تأمرني إن أدركني ذلك؟" ماذا أفعل؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، يعني: أي جماعة من المسلمين تلزمها وإمام لهم، ولو قليلين، لو عشرة، ولو عشرين، ولو ثلاثين، ولو مئة، ولو ألفًا، حسبما تيسر، في أي مكانٍ، أي جماعةٍ تلزمها وتلزم أميرها –إمامها- قلَّت أو كثرت.

قال: "فإن لم يكن لهم إمام ولا جماعة؟" ما وجد شيئًا، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها يعني: الفرق التي تدعو إلى النار، وتدعو إلى غضب الجبار، اعتزلها، ولو أن تعضَّ على أصل شجرةٍ حتى يُدركك الموت وأنت على ذلك، يعني: حتى يُدركك الموت وأنت على هذا الصبر، وهذا الاعتزال الذي فارقت به أهلَ الباطل، وبقيت فيه على الحقِّ، فأنت على الحقِّ، وأنت الجماعة ولو كنت وحدك، أنت على الحقِّ، وأنت الجماعة، وأنت صاحب الحقِّ، وأنت صاحب السنة، ولو كان أهلُ الأرض كلهم على خلافك فهم على الباطل، وأنت على الحقِّ، ما دمت على كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام.

وبهذا يُعلم عظم شأن هذا الحديث، وأنه حديث كبير، عظيم الشأن، فيه دلالة على المخلص وطريق النَّجاة عند الفتن، وعند انقسام الناس، وكثرة الفرق الضَّالة.

س: ..............؟

ج: واقع اليوم يُمثل ما قاله النبيُّ ﷺ، أنصار العرب وأنصار المسلمين ومَن كل مكانٍ يُمثل هذا، تجد دعوات صالحة، وتجد دعوات مُضللة، فالمؤمن يُميز بين الدَّعوة الصَّادقة فيلزمها أينما كان: في أوروبا، في أمريكا، في آسيا، في أفريقيا، في أي مكانٍ، ويحذر الدَّعوات الباطلة، أما آخر الزمان فسوف يأتي ما وعد من ذهاب الدِّين بالكلية، ولا يبقى مَن يقول: لا إله إلا الله، والله المستعان.

س: بناءً على ذلك، تكون هذه الجماعة ..... تكون هي الجماعة؟

ج: هي جماعة المسلمين في أي مكانٍ، ولو عشرة، ولو خمسة بين ملايين.

س: ولي الأمر إذا أتى بكفرٍ صريحٍ؟

ج: يُنصح، ويُناصح، ويُوجَّه للحقِّ، ويُبين له الصواب، ويحذر ..... أنَّ هذا يُزيل ولايته، ويجوز الخروج عليه لعله ينتهي، فإن هداه الله وسلم فالحمد لله، وإلا نظروا إن كانت عندهم قُدرة يعزلونه ويُعينون غيره فعلوا، فلا يتعرضوا لسفك الدِّماء بغير طائلٍ، الفرقة أعظم، يصبرون على الجماعة، ويجتهدون في رأب الصدع وإصلاح الأوضاع حسب الطاقة.

س: ما يكون أعظم منها؟

ج: فاجتماعهم على الحقِّ، وفي سبيل الدَّعوة إلى الحقِّ، ولو كان أميرهم يدعو إلى الكفر؛ خير لهم من أن يتصدَّعوا على الانتشار والذبح وسفك الدِّماء وضياع الحقِّ بينهم.

س: مَن مات وليس في عنقه بيعة؟

ج: القاعدة الشرعية: تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فلا بدَّ من مُراعاة المصالح، والنظر إلى درء المفاسد، فإذا كان القيامُ عليه لا يكون إلا بفسادٍ وقتل المسلمين وإضاعة الحقّ أكثر لم يجُز الخروج، حتى يُوجد ما يُعين على إزالة الشرِّ وتقليله وتكثير الخير، ويكون بتنصيب أهل الحقِّ.

س: يكون مُستثنًى من الحديث؟

ج: مثلما قال النبيُّ ﷺ: إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان، فأباح لهم الخروج، إباحة الخروج حتى يُزيلوا الباطل.

س: ولا يكون واجبًا؟

ج: لا، حسب الطَّاقة.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِه شَيْئًا يَكْرَهُه فَلْيَصْبِرْ، فإنَّه مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَة شِبْرًا فَمَاتَ فَمِيتَته جَاهِلِيَّة. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِه.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخرَ مِنْهُمَا.

وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، أَلَا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ، فَرَآه يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَة اللَّهِ، فَلْيَكْرَه مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَة اللَّهِ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ.

فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَة أُولِي الْأَمْرِ، مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ، فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] كَيْفَ قَالَ: "وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ"، وَلَمْ يَقُلْ: وَأَطِيعُوا أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ؟ لِأَنَّ أُولِي الْأَمْرِ لَا يُفْرَدُونَ بِالطَّاعَة، بَلْ يُطَاعُونَ فِيمَا هُوَ طَاعَة لله ورسوله.

وَأَعَادَ الْفِعْلَ مَعَ الرَّسُولِ للدلالة على أنَّ مَنْ أطَاعَ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله، فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَا يَأْمُرُ بِغَيْرِ طَاعَة اللَّهِ، بَلْ هُوَ مَعْصُومٌ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا وَلِي الْأَمْرِ فَقَدْ يَأْمُرُ بِغَيْرِ طَاعَة اللَّهِ، فَلَا يُطَاعُ إِلَّا فِيمَا هُوَ طَاعَة لِلَّهِ وَرَسُوله.

الشيخ: وهذا من المواضع التي قيد بها الكتاب بالسنة، فإنَّ القرآن أطلق أولي الأمر: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، وجاءت السنة بالتَّقييد بأنَّ الطاعة في المعروف، هذا من المواضع التي يُمثل بها لتقييد الكتاب بالسنة المطهرة الصَّحيحة.

وَأَمَّا لُزُومُ طَاعَتِهِمْ وَإِنْ جَارُوا، فَلِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ طَاعَتِهِمْ مِنَ الْمَفَاسِدِ أَضْعَافُ مَا يَحْصُلُ مِنْ جَوْرِهِمْ، بَلْ فِي الصَّبْرِ عَلَى جَوْرِهِمْ تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ، وَمُضَاعَفَة الْأُجُورِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا سَلَّطَهُمْ عَلَيْنَا إِلَّا لِفَسَادِ أَعْمَالِنَا، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَعَلَيْنَا الِاجْتِهَادُ بالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَة وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ.

الشيخ: والمعنى: أنَّ ما يقع من ولاة الأمور من الشرِّ على الناس والأذى والتَّعب ونحو ذلك، إنما هو بأسباب ذنوب الرعية، وتقصير الرعية في أمر الله؛ فلهذا قد يُسلط عليهم ولاةَ الأمور بأسباب أعمالهم الرديئة، كما قال : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، فأمر الرب بالصبر عليهم، وأمر الرسول بذلك؛ لما في الصبر عليهم وعدم الخروج من المصالح العظيمة، وكفّ الفساد، أما الخروج فيترتب عليه من الفساد والانشقاق وسفك الدماء ما لا يُحصيه إلا الله ، وهذا تحت قاعدة معروفة، وهي: ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت كبراهما، وتحصيل أعلى المصلحتين ولو بفوت الدنيا منهما.

ثم فيما يحصل للعباد من الأذى والتَّعب نوع من التَّكفير للسيئات التي فعلوها، ونوع من حطِّ الخطايا، كما يُبتلون بالجدب وعدم القسط، ويُبتلون بالأمراض، ويُبتلون بغير هذا مما يُكفر اللهُ به الخطايا، ويحطّ به السيئات، لكن هذا كله لا يمنع من النَّصيحة، ومن المناصحة والتَّعاون مع ولاة الأمور على البرِّ والتَّقوى، والتَّخويف من عذاب الله، ونحو ذلك مما قد ينفع اللهُ به.

قَالَ تَعَالَى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، وَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، وَقَالَ تَعَالَى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]، فَإِذَا أَرَادَ الرَّعِيَّةُ أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ ظُلْمِ الْأَمِيرِ الظَّالِمِ فَلْيَتْرُكُوا الظُّلْمَ.

وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ: أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ: "أَنَا اللَّهُ مَالِكُ الْمُلْكِ، قُلُوبُ الْمُلُوكِ بِيَدِي، فَمَنْ أَطَاعَنِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِ رَحْمَةً، وَمَنْ عَصَانِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِ نِقْمَةً، فَلَا تَشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِسَبِّ الْمُلُوكِ، لَكِنْ تُوبُوا أعطفهُمْ عَلَيْكُمْ".

س: لفظ "أُعطِّفهم" أبلغ من "أعطف"؟

ج: جواب توبوا، جواب الأمر: فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ [يوسف:63]، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ [الأنعام:151] بالتخفيف، "أعطف" من الثلاثي، ما أعرف الرباعي، عطف المعروف من استعمالها التَّخفيف: عطف، يعطف، عطفًا ..... وضمّه إليه، وجعله يرحمه.

الطالب: علَّق عليه.

الشيخ: وهذا من أثر بني إسرائيل.

الطالب: قال: هذا من الإسرائيليات، وقد رفعه بعضُ الضُّعفاء إلى النبي ﷺ، ورواه الطبراني في "الأوسط" عن أبي الدَّرداء، قال الهيثمي: فيه إبراهيم بن راشد، وهو متروك.

الشيخ: هذه من الآثار الإسرائيلية؛ فإنَّ مالك بن دينار يروي عن بني إسرائيل، ووهب بن منبه وكعب الأحبار وعبدالله بن عمرو وأمم كثيرة يروون هذه الآثار التي فيها ترغيب وترهيب؛ لأنَّ النبي ﷺ قال: حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وفي بعض الرِّوايات: فإنَّ فيهم الأعاجيب.

الطالب: أحسن الله إليك، بالنسبة للحديث الأول في بداية الكلام -حديث ابن عباس- علَّق عليه، قال: صحيح، وهو من رواية الحارث الأشعري في حديثٍ طويلٍ، أخرجه أحمد وغيره بسندٍ صحيحٍ، وليست من رواية ابن عباس، كما أوهم الشَّارح.

الشيخ: حديث؟

الطالب: حديث: مَن رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر؛ فإنه مَن فارق الجماعة شبرًا فمات فميتته جاهلية.

الطالب: الأرناؤوط علَّق على الرواية الأولى، قال: أخرجها البخاري في أول "الفتن"، ومسلم، قوله: وفي روايةٍ: وقد خلع ربقة الإسلام من عنقه قطعة من حديثٍ مطولٍ أخرجه أحمد من حديث الحارث الأشعري، سنده صحيح، وليس من حديث ابن عباسٍ كما تُوهم عبارة الشارح، وهو في "سنن الترمذي" و"مسند الطيالسي" وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم.

الشيخ: تعليق الأرناؤوط أوفى .......

الطالب: قال: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ فَمِيتَته جَاهِلِيَّةٌ.

الشيخ: ما عزاه المؤلفُ؟

الطالب: لا، ما عزاه المؤلف، ولكن أشار في التعليق، قال: مسلم من حديث ابن عباس.