قَوْلُهُ: (وَنَتَّبِعُ السنة وَالْجَمَاعَة، وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ وَالْخِلَافَ وَالْفُرْقَة).
السُّنَّةُ: طَرِيقَة الرَّسُولِ ﷺ، وَالْجَمَاعَة: جَمَاعَة الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الصَّحَابَة وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، فَاتِّبَاعُهُمْ هُدًى، وَخِلَافُهُمْ ضَلَالٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّه ﷺ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، وَقَالَ: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، وَقَالَ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159].
وَثَبَتَ فِي السُّنَنِ الْحَدِيثُ الَّذِي صَحَّحَه التِّرْمِذِيُّ: عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَة قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَة مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسنَّة الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة.
الشيخ: علَّق عليها؟
الطالب: نعم، قال: صحيح، كما قال الترمذي، انظر: "الإرواء" و"السنة" لابن أبي عاصم، رقم كذا.
أخرجه الترمذي في "العلم"، باب "ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع"، وأبو داود في "السنة"، باب "في لزوم السنة"، وابن ماجه في "فضل ما جاء في اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين"، وأحمد، والدارمي، وإسناده صحيح.
الشيخ: علَّق عليه؟
الطالب: نعم، قال: صحيح، وهو مُخرج في "الصحيحة"، وفي "تخريج السُّنة".
الشيخ: الأرناؤوط؟
الطالب: الأرناؤوط يقول: في الأول أخرجه أحمد وأبو داود في أول "السنة"، والدارمي في "السير" باب "في افتراق هذه الأمة"، والحاكم من حديث معاوية، وسنده حسن، كما قال الحافظ في .....، وفي الباب عن أبي هريرة عند أبي داود والترمذي وابن ماجه وأحمد، وسنده حسن، وصححه ابن حبان والحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن، صحيح. ولفظه: افترقت اليهودُ على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة، وعن أنس بن مالك عند أحمد وابن ماجه وغيرهما، وفيه من الزيادة: واحدة وثنتان وسبعون في النار، وهو حسن.
قال على قوله: ما أنا عليه وأصحابي: أخرجه الترمذيُّ من حديث عبدالله بن عمرو .
هنا علَّق عليها وقال: هذه الرواية فيها ضعف، وحسَّنها الترمذي في "الإيمان".
فَبَيَّنَ ﷺ أَنَّ عَامَّة الْمُخْتَلِفِينَ هَالِكُونَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، إِلَّا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَة.
وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، حَيْثُ قَالَ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ؛ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَة، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ، كَانُوا أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّة؛ أَبَرَّهَا قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَة نَبِيِّه، وَإِقَامَة دِينِه، فَاعْرَفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ، وَتَمَسَّكُوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ".
وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى زيادةُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: (وَنَرَى الْجَمَاعَة حَقًّا وَصَوَابًا، وَالْفُرْقَةَ زَيْغًا وَعَذَابًا).
قوله: (وَنُحِبُّ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالْأَمَانَة، وَنُبْغِضُ أَهْلَ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَة).
وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَتَمَامِ الْعُبُودِيَّة، فَإِنَّ الْعِبَادَة تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْمَحَبَّة وَنِهَايَتَهَا، وَكَمَالَ الذُّلِّ وَنِهَايَتَه.
فَمَحَبَّة رُسُلِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِه وَعِبَادِه الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَحَبَّة الله، وَإِنْ كَانَتِ الْمَحَبَّةُ التي لله لَا يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ، فَغَيْرُ اللَّهِ يُحَبُّ فِي اللَّهِ، لَا مَعَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُحِبَّ يُحِبُّ ما يُحِبُّ مَحْبُوبُه، وَيُبْغِضُ مَا يُبْغِضُ، وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِيه، وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِيه، وَيَرْضَى لِرِضَائِه، وَيَغْضَبُ لِغَضَبِه، وَيَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَيَنْهَى عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَحْبُوبِه فِي كُلِّ حَالٍ.
وَاللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَيُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، وَنَحْنُ نُحِبُّ مَنْ يُحِبُّه اللَّهُ.
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ، وَلَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ، وَلَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَنَحْنُ لَا نُحِبُّهُمْ أَيْضًا، وَنُبْغِضُهُمْ؛ مُوَافَقَةً له .
الشيخ: وهذا من كمال المحبَّة، ومن كمال الإيمان، فإنَّ من كمال الإيمان: الحبَّ في الله، والبغضَ في الله، فكما أنَّه يجب علينا أن نُحبَّ الله محبَّةً صادقةً، ونُحب رسله محبَّةً صادقةً تقتضي اتِّباع ما جاءوا به، والاستقامة على توحيده، والإخلاص له، وأداء فرائضه، وترك محارمه، فهكذا نُحب مَن أحبَّه الله، وأحبَّه رسوله عليه الصلاة والسلام، نُحبهم في الله ولله ، هذا من كمال الإيمان، ومن كمال الحبِّ في الله ، وهكذا نُبغض مَن أبغضه الله، ونكره مَن كرهه الله، وهذا من كمال الإيمان.
أما المحبَّة مع الله فهي الشرك بالله ، المحبَّة مع الله معناها: جعل المحبَّة منقسمة: بعضها لله، وبعضها لغيره، كمحبة الأنداد والأصنام وما يُعبد من دون الله ، كما فعل المشركون الأوَّلون وغيرهم ممن سار على نهجهم، وهي المراد في قوله جلَّ وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]، فالمحبَّة مع الله تقتضي الإشراكَ به، والتَّعلق بغيره، وصرف بعض العبادة لغيره؛ فلهذا صارت شركًا بالله ، أما المحبَّة لله وبالله فهذه من كمال محبَّته، ومن كمال الإيمان به .
س: إذا كانت الرِّواية معناها صحيح ودلَّ عليها الشَّرع؟
ج: يجب الأخذُ بها، لكن ما يُقال عن الرسول ﷺ أنه قال كذا إلا بدليلٍ، إلا بسندٍ، قلو قال واحدٌ: إنَّ الرسول ﷺ قال: "المحبَّة مع الله شركٌ بالله، والمحبَّة في الله طاعة لله"، نقول: ما هو بصحيحٍ هذا عن النبي ﷺ، لكن معناه صحيح، لكن ما يقال عن النبي ﷺ أنه قال كذا إلا بشيءٍ ثابتٍ، لا يُكذَب على الرسول، قال الرسول ﷺ: مَن كذب عليَّ مُتعمدًا فليتبوأ مقعده من النار.
فرق بين كون الشيء في نفسه صحيحًا، وكون الشيء في نفسه يُنسب إلى أنه قرآن، أو إلى أنه من السنة، فكونه صحيحًا هذا أوسع، لكن لا يُقال: قال الله كذا إلا بنصٍّ جاء في القرآن، أو جاء في السنة عن الله ، ولا يُقال: قال الرسول ﷺ كذا إلا بشيءٍ ثابتٍ عن الرسول أنه قال كذا، ولو أنَّ معناه صحيح.
س: محبَّة أبي طالب للنبي ﷺ تُعتبر محبَّةً مع الله؟
ج: لا مع الله، ولا لله، بل هي محبَّة قرابة، ومحبة نسبٍ، محبَّة طبيعية، مثل: محبَّة الأكل والشرب، ومحبَّته للحلوى، ومحبَّته للحوم، ومحبَّة ما يُناسب هواك.
س: ...............؟
ج: لا، ما هي مع الله، والله جعل في قلبه المحبَّة لقرابته وأخلاقه العظيمة، ولمعرفة صدقه أيضًا، كل هذه مُجتمعة، لكن ما هداه الله لاتِّباعه.
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّه إِلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَ يَكْرَه أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ.
فَالْمَحَبَّة التَّامَّة مُسْتَلْزِمَة لِمُوَافَقَة الْمَحْبُوبِ فِي مَحْبُوبِه وَمَكْرُوهِه، وَوِلَايَتِه وَعَدَاوَتِه.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ الْمَحَبَّة الْوَاجِبَةَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبْغِضَ أَعْدَاءَه، وَلَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّ مَا يُحِبُّه مِنْ جِهَادِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4].
وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ بِحَسَبِ مَا فِيهِمْ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَجْتَمِعُ فِيهِ سَبَبُ الْوِلَايَة وَسَبَبُ الْعَدَاوَة، وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ، فَيَكُونُ مَحْبُوبًا مِنْ وَجْهٍ، مَبْغُوضًا مِنْ وَجْهٍ، وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ.
وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْعَبْدِ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ يُحِبُّ الشَّيْءَ مِنْ وَجْهٍ، وَيَكْرَهُه مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، كَمَا قَالَ ﷺ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّه : وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُه تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَه الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَه مَسَاءَتَه، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ.
الشيخ: هذا هو بقية حديث أبي هريرة المعروف الذي أوله: مَن عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليَّ مما افترضتُه عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنَّوافل حتى أُحبَّه.. كما تقدم، رواه البخاري.
س: معنى التَّردد في حقِّ الله ؟
ج: شيء يليق به ، لكن هذا مُقتضاه ومُوجبه هذا الشيء؛ أن الموت لا بدَّ منه، والله يُحب ما يُحبه عبدُه المؤمن، ويكره مساءة عبده المؤمن، ولكن الموت لا بدَّ منه؛ فلهذا قضى عليه الموت الذي لا بدَّ من ذلك، وأنه يُفضي إلى ما هو أحبّ إلى الله من هذا، وأحبّ إلى العبد من هذا أيضًا، يُفضي إلى النَّعيم المقيم بجوار الربِّ الكريم في دار الكرامة، فهو يُفضي إلى محابٍّ عظيمةٍ؛ فلهذا نفذ الأمر الآخر وإن كرهه الإنسانُ بعض الأحيان، مع أنَّ العبد المؤمن قد يستهون الموت في بعض الأحيان، ويرغب حصوله؛ ليستريح مما هو فيه من تعبٍ ونكدٍ.
س: هل يُوصف الله بالتَّردد؟
ج: مثلما أخبر عن نفسه، شيء يليق بجلاله.
قَوْلُهُ: (وَنَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ فِيمَا اشْتَبَه عَلَيْنَا عِلْمُه).
تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِه إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِه ﷺ، وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَه عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِه. وَمَنْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَإِنَّمَا يَتَّبِعُ هَوَاه، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50]، وَقَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج:3- 4]، وَقَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35]، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّه ﷺ أَنْ يَرُدَّ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الكهف:26]، قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ [الكهف:22]، وَقَدْ قَالَ ﷺ لَمَّا سُئِلَ عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ.
وَقَالَ عُمَرُ : "اتَّهِمُوا الرَّأْي فِي الدِّينِ، فَلَوْ رَأَيْتَنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَرُدُّ أَمْرَ رَسُولِ الله ﷺ بِرَأْيي، فَأَجْتَهِدُ وَلَا آلُو، وَذَلِكَ يَوْم أَبِي جَنْدَلٍ، وَالْكِتَابُ يُكْتَبُ، وَقَالَ: اكْتُبْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ: اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَرَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَكَتَبَ وَأَبَيْتُ، فَقَالَ: يَا عُمَرُ، تَرَانِي قَدْ رَضِيتُ وَتَأْبَى؟!".
وقَالَ أَيْضًا : "السُّنَّةُ مَا سَنَّه اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﷺ، لَا تَجْعَلُوا خَطَأَ الرَّأْي سُنَّةً لِلْأُمَّةِ".
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : "أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إِنْ قُلْتُ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي، أَوْ بِمَا لَا أَعْلَمُ؟!".
وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِي: حَدَّثَنَا عَارِمٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ ابْنِ أَبِي صَدَقَة، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: "لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَهْيَبَ لِمَا لَا يَعْلَمُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ أَهْيَبُ لِمَا لَا يَعْلَمُ مِنْ عُمَرَ ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ نَزَلَتْ بِهِ قَضِيَّةٌ، فَلَمْ يَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْهَا أَصْلًا، وَلَا فِي السُّنَّةِ أَثَرًا، فَاجْتَهَدَ بِرَأْيِه، ثُمَّ قَالَ: هَذَا رَأْيِي، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ".
الشيخ: هذا منقطع، لكن معناه صحيح، فإنَّ محمد بن سيرين لم يُدرك عمر .........
الطالب: حديث: "السُّنَّةُ مَا سَنَّه اللَّهُ وَرَسُولُهُ" أو الذي قبله؟
أما "السنة ما سنَّه الله" فهذا لم يُعلِّق عليه.
الشيخ: ............
الطالب: ولم يُعلِّق عليه أيضًا، لكن الرِّواية الأولى التي فيها ذكر: "اتَّهموا الرأي في الدِّين" قول عمر هو الذي علَّق عليه، قال: الطبراني في "الكبير"، وابن حزم في "الأحكام"، ورجاله ثقات، غير فضالة بن مبارك، مدلس، كما في "التقريب"، وقد عنعنه، وقال الهيثمي في "المجمع": رواه أبو يعلى، ورجاله موثقون وإن كان فيهم مبارك بن فضالة. وقال في موضعٍ آخر: وقد ساقه بأطول من هذا، لكنَّه لم يذكره بتمامه، رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح، وطرفه الأول في "الصحيحين" من قول سهل بن حُنيف. انتهى.
الشيخ: ............
الطالب: كتب مُصححو المطبوعة عند قوله: "فأجتهد ولا آلو": كذا بالأصل، ولعله: "رأيتني ولو أستطيع أن أردّ .." إلخ، وهذا انتقال نظر؛ فإنَّ الذي قال: "ولو أستطيع" هو سهل بن حنيف، وحديثه في البخاري ومسلم، فإنه قال: "يا أيها الناس، اتَّهموا رأيكم على دينكم، ولقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أردَّ أمر رسول الله ﷺ لرددتُه". وباقي الحديث سياق غير هذا المروي هنا عن عمر.
وقال الحافظ في "الفتح": وقد جاء عن عمر نحو قول سهل، ولفظه: "اتَّقوا الرأي في دينكم". أخرجه البيهقي في "المدخل"، هكذا مختصرًا. وأخرجه هو والطبري والطبراني مُطولًا بلفظ. فذكر نحو ما هاهنا عن عمر.
وقد رواه ابن حزم في "الأحكام" بتصحيحنا، بإسناده إلى مبارك بن فضالة، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، أنه قال: "يا أيها الناس، اتَّهموا آراءكم على الدِّين، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَرُدُّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ برأيي، أجتهد والله ولا آلو .." إلى آخره، بنحو ما هاهنا. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" بنحوه، وقال: رواه أبو يعلى، ورجاله موثقون، وإن كان فيهم مبارك بن فضالة. أقول: ومبارك بن فضالة ثقة، كما حققنا ذلك في شرح "المسند" في الحديثين: (1426) و(5989). انتهى.
الشيخ: الحسن بن علي الحلواني ذكره؟
الطالب: لا، ما تكلَّم عليه.
الشيخ: انظر: سعيد ابن أبي صدقة في "التقريب"؟
س: كيف قول الألباني أول شيء: فضالة بن مبارك، ثم مبارك بن فضالة، فيه خطأ يا شيخ؟
ج: صوابه: مبارك بن فضالة، غلط.
س: قال: فضالة بن مبارك، ثم قال: قال في "المجمع": مبارك بن فضالة؟!
ج: شُبِّهَ عليه، هو مبارك بن فضالة، لا بأس به لولا تدليسه.
الطالب: سعيد بن أبي صدقة، البصري، أبو قرة، ثقة من السادسة، أبو داود وابن ماجه.
الشيخ: في أحدٍ آخر؟
الطالب: لا.
الشيخ: الحسن بن علي؟
الطالب: الحسن بن علي بن محمد، الهذلي، أبو علي، الخلال، الحلواني -بضم المهملة- نزيل مكة، ثقة، حافظ، له تصانيف، من الحادية عشرة، مات سنة اثنتين وأربعين (خ، م، د، ت، ق).
س: السَّند هذا؟
ج: منقطع بين ابن سيرين وعمر.
قَوْلُهُ: (وَنَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ).
تَوَاتَرَتِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَبِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَالرَّافِضَة تُخَالِفُ هَذِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَة، فَيُقَالُ لَهُمُ: الَّذِينَ نَقَلُوا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ الْوُضُوءَ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَالَّذِينَ تَعَلَّمُوا الْوُضُوءَ منه، وَتَوَضَّؤوا وَهُوَ يَرَاهُمْ وَيُقِرُّهُمْ، وَنَقَلُوه إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ -أَكْثَرُ عَدَدًا مِنَ الَّذِينَ نَقَلُوا لَفْظَ هَذِهِ الآية؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَتَوَضَّؤونَ عَلَى عَهْدِه، وَلَمْ يَتَعَلَّمُوا الْوُضُوءَ إِلَّا مِنْهُ، فَإِنَّ هَذَا الْعَمَلَ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا عِنْدَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَهُمْ قَدْ رَأَوْه يَتَوَضَّأُ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَه إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَنَقَلُوا عنه غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ فِيمَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْحَدِيثِ، حَتَّى نَقَلُوا عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ قَالَ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ، مَعَ أَنَّ الْفَرْضَ إِذَا كَانَ مَسْحَ ظَاهِرِ الْقَدَمِ كَانَ غَسْلُ الْجَمِيعِ كُلْفَةً لَا تَدْعُو إِلَيْهَا الطِّبَاعُ، كَمَا تَدْعُو الطِّبَاعُ إِلَى طَلَبِ الرِّيَاسَة وَالْمَالِ.
فَلَوْ جَازَ الطَّعْنُ فِي تَوَاتُرِ صِفَةِ الْوُضُوءِ، لَكَانَ فِي نَقْلِ لَفْظِ آيَةِ الْوُضُوءِ أَقْرَبَ إِلَى الْجَوَازِ، وَإِذَا قَالُوا: لَفْظُ الْآيَةِ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْكَذِبُ وَلَا الْخَطَأُ، فَثُبُوتُ التَّوَاتُرِ فِي نَقْلِ الْوُضُوءِ عَنْهُ أَوْلَى وَأَكْمَلُ، وَلَفْظُ الْآيَةِ لَا يُخَالِفُ مَا تَوَاتَرَ مِنَ السُّنَّةِ، فَإِنَّ الْمَسْحَ كَمَا يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِصَابَة، كَذَلِكَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِسَالَة، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: تَمَسَّحْتُ لِلصَّلَاة.
وَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ الْمَسْحَ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ الْغَسْلِ، بَلِ الْمَسْحُ الَّذِي الْغَسْلُ قِسْمٌ مِنْهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، وَلَمْ يَقُلْ: إِلَى الْكِعَابِ، كَمَا قَالَ: إِلَى الْمَرَافِقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبٌ وَاحِدٌ، كَمَا فِي كُلِّ يَدٍ مِرْفَقٌ وَاحِدٌ، بَلْ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَانِ، فَيَكُونُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالْمَسْحِ إِلَى الْعَظْمَيْنِ النَّاتِئَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْغَسْلُ، فَإِنَّ مَنْ يَمْسَحُ الْمَسْحَ الْخَاصَّ يَجْعَلُ الْمَسْحَ لِظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ، وَجَعْلُ الْكَعْبَيْنِ فِي الْآيَةِ غَايَة يَرُدُّ قَوْلَهُمْ، فَدَعْوَاهُمْ أَنَّ الْفَرْضَ مَسْحُ الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا مُجْتَمَعُ السَّاقِ وَالْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَفِي الْآيَةِ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ: النَّصْبُ وَالْخَفْضُ، وَتَوْجِيه إِعْرَابِهِمَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِه.
الشيخ: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة:6] عطف على الرؤوس، وَأَرْجُلَكُمْ عطف على الوجوه، وهو القراءة المشهورة؛ لأنَّ المقصود الغسل، بدليل فعل النبي ﷺ أنه كان يغسلهما، ومَن قرأ بالجرِّ: وَأَرْجُلِكُمْ فليس المرادُ بالمسح الذي هو مثل مسح الرأس، وإن اشتركا في اسم المسح، لكن مسح الرِّجلين فسَّره النبيُّ ﷺ بأنه الغسل، والرسول هو المفسر لكتاب الله، والمبين لمعنى كتاب الله، فمسح الرأس وغسل الرِّجْلين، فدلَّ على أنَّ الرِّجْل تُغسل غسلًا يُسمَّى: مسحًا، وهو الغسل الذي ليس فيه كثرة الماء.
والرافضة أحقر وأقلّ من أن يتكلموا؛ فإنَّ الرافضة لهم من الأغلاط والمخالفة للكتاب والسنة ما لا يُحصى، وليس هذا أول غلطٍ، فأغلاطهم لا تُحصى، وشرُّهم لا يُحصى، وسنة الرسول ﷺ تُفسر الكتابَ، وتُبين أنَّ الرِّجْل تُغسل إذا كانت مكشوفةً، وتُمسح إذا كانت مستورةً في الخفين وما في معناهما، فتواترت الأخبارُ عن رسول الله ﷺ قولًا وفعلًا، تواترت عن رسول الله ﷺ بالمسح من قوله وفعله عليه الصلاة والسلام، فلا كلامَ للرافضة ولا لغير الرافضة؛ فلهذا أدخلها السلفُ في العقائد ردًّا على الرافضة.
س: قراءة الجر على مسح الخُفَّين؟
ج: الكلام في الرِّجْل.
س: وقراءة الضَّم شاذَّة؟
ج: ما أعرف قراءةَ الضم.
وَقِرَاءَة النَّصْبِ نَصٌّ فِي وُجُوبِ الْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْمَحَلِّ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا، كَقَوْلِه: "فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا".
وَلَيْسَ مَعْنَى: "مَسَحْتُ بِرَأْسِي وَرِجْلِي" هُوَ مَعْنَى: "مَسَحْتُ رَأْسِي وَرِجْلِي"، بَلْ ذِكْرُ الْبَاءِ يُفِيدُ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مُجَرَّدِ الْمَسْحِ، وَهُوَ إِلْصَاقُ شَيْءٍ مِنَ الْمَاءِ بِالرَّأْسِ، فَتَعَيَّنَ الْعَطْفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة:6].
الشيخ: والصواب العطف على وجوهكم: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ أيدي معطوفة على الوجوه، وهكذا الأرجل معطوفة على الوجه، كلاهما معطوفان على الوجوه؛ لأنهما هما المباشران بالفعل، ثم الأيدي معطوفة عليهما.
س: لكن المعنى ما يتغير؟
ج: .............
فَالسُّنَّة الْمُتَوَاتِرَة تَقْضِي عَلَى مَا يَفْهَمُه بَعْضُ النَّاسِ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الرَّسُولَ بَيَّنَ لِلنَّاسِ لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ، كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ السُّلَمِي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَغَيْرُهُمْ: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يتجَاوزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَعْنَاهَا.
وَفِي ذِكْرِ الْمَسْحِ فِي الرِّجْلَيْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى قِلَّة الصَّبِّ فِي الرِّجْلَيْنِ، فَإِنَّ السَّرَفَ يُعْتَادُ فِيهِمَا كَثِيرًا، وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة، وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ.
قَوْلُهُ: (وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ مَاضِيَانِ مَعَ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، إِلَى قِيَامِ السَّاعَة، لَا يُبْطِلُهُمَا شَيْءٌ، وَلَا يَنْقُضُهُمَا).
يُشِيرُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الرَّافِضَة، حَيْثُ قَالُوا: لَا جِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَخْرُجَ الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: اتَّبِعُوهُ!
وَبُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ، وَهُمْ شَرَطُوا فِي الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا، اشْتِرَاطًا من غَيْرِ دَلِيلٍ! بَلْ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِي قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ، قَالَ: قُلْنا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، أَلَا مَنْ وَلِي عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآه يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَة اللَّهِ فَلْيَكْرَه مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَة اللَّهِ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَتِه.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ نَظَائِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْإِمَامَة، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ الْإِمَامَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا.
الشيخ: هذا القول الذي قاله الرافضةُ قول فاسد، لا أساسَ له، فليس هناك معصومٌ بعد الرسول ﷺ، فإنَّ الله عصمه فيما يُبلغه عن الله ، أما مَن بعده فكل واحدٍ غير معصوم، قد تقع منه الذنوب، قد تقع السَّيئات، حتى أبو بكر الذي هو أشرف الأمة وأفضلها بعد رسول الله ﷺ، فما هنا أحد معصوم: كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التَّوابون.
ولكن قول الرافضة قول خرق الإجماع، وخالف النصوص، وقولهم: إنَّ أئمَّتهم معصومون، وأنهم يعلمون الغيبَ! هذا من أفسد الأقوال وأبطلها وأضلها عن سواء السبيل، نسأل الله العافية.
س: يعني: جميع الرسل والأنبياء؟
ج: نعم، لكن الرسلَ لا يُقرون على أخطائهم.
س: لكن فيما لا يُبلغون عن الله؟
ج: ما هم معصومين، قد يقع منهم بعض الشيء، النَّبيون قد تقع منهم الصَّغائر.
..............
وَالرَّافِضَة أَخْسَرُ النَّاسِ صَفْقَةً فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِمَامَ الْمَعْصُومَ هُوَ الْإِمَامَ الْمَعْدُومَ الَّذِي لَمْ يَنْفَعْهُمْ فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا! فَإِنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّه الْإِمَامُ الْمُنْتَظَر: مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِي، الَّذِي دَخَلَ السِّرْدَابَ فِي زَعْمِهِمْ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِئَتَيْنِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ بِسَامَرَّاء! وَقَدْ يُقِيمُونَ هُنَاكَ دَابَّةً: إِمَّا بَغْلَة، وَإِمَّا فَرَسًا؛ لِيَرْكَبَهَا إِذَا خَرَجَ! وَيُقِيمُونَ هُنَاكَ فِي أَوْقَاتٍ عَيَّنُوا فِيهَا مَنْ يُنَادِي عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ: يَا مَوْلَانَا، اخْرُجْ! يَا مَوْلَانَا، اخْرُجْ! وَيُشْهِرُونَ السِّلَاحَ، وَلَا أَحَدَ هُنَاكَ يُقَاتِلُهُمْ! إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ التي يَضْحَكُ عَلَيْهِمْ مِنهَا الْعُقَلَاءُ.
وَقَوْلُهُ: (مَعَ أُولِي الْأَمْرِ، بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ) لِأَنَّ الْحَجَّ وَالْجِهَادَ فَرْضَانِ يَتَعَلَّقَانِ بِالسَّفَرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ سَائِسٍ يَسُوسُ النَّاسَ فِيهِمَا، وَيُقَاوِمُ فيها الْعَدُوَّ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَمَا يَحْصُلُ بِالْإِمَامِ الْبَرِّ يَحْصُلُ بِالْإِمَامِ الْفَاجِرِ.
الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ الجهاد مع البرِّ والفاجر تُقام به أعلامُ الدِّين، ويُرفع به شأن الإسلام، وفجوره على نفسه، ما دام أقام الجهادَ والحجَّ ففجوره على نفسه، وإن كان الأتقى والمؤمن خيرًا للمسلمين وأنفع، لكن ليس في كل وقتٍ يتوفر هذا، فإقامة الجهاد مع كل برٍّ وفاجرٍ فيه مصالح المسلمين العامَّة، وسياسة دينهم ودنياهم، وتنفيذ أوامر الله، وإقامة حدوده.
الطالب: الحديث السابق التَّعليق عليه: صحيح، حديث عوف بن مالك.
الشيخ: اصطلاح له، الأولى عدم التَّعليق، مثل هذا أن يُقال: خرجه مسلم في كذا، في صفحة كذا، والبخاري كذلك. يعني مفروغ من هذا .......
قَوْلُهُ: (وَنُؤْمِنُ بِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَهُمْ عَلَيْنَا حَافِظِينَ).
قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10- 12]، وَقَالَ تَعَالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17- 18]، وَقَالَ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]، وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80]، وَقَالَ تَعَالَى: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29]، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [يونس:21].
وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَيَصْعَدُ إِلَيْهِ الَّذِينَ كَانُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ، والله أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَفَارَقْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: إِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لَا يُفَارِقُكُمْ إِلَّا عِنْدَ الْخَلَاءِ، وَعِنْدَ الْجِمَاعِ، فَاسْتَحْيُوهُمْ، وَأَكْرِمُوهُمْ.
الشيخ: أيش قال عليه؟
الطالب: ضعيف، "الضعيفة" رقم (2241).
الشيخ: .............
جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ: اثْنَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ، يَكْتُبَانِ الْأَعْمَالَ، صَاحِبُ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَصَاحِبُ الشِّمَالِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، وَمَلَكَانِ آخَرَانِ يَحْفَظَانِه وَيَحْرُسَانِه: وَاحِدٌ مِنْ وَرَائِه، وَوَاحِدٌ أَمَامَه، فَهُوَ بَيْنَ أَرْبَعَة أَمْلَاكٍ بِالنَّهَارِ، وَأَرْبَعَةٍ آخَرِينَ بِاللَّيْلِ، بَدَلًا، حَافِظَانِ وَكَاتِبَانِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، قَالَ: مَلَائِكَة يَحْفَظُونَه مِنْ بَيْنِ يَدَيْه وَمِنْ خَلْفِه، فَإِذَا جَاءَ قَدَرُ اللَّهِ خَلَّوْا عَنْهُ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنْ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُه مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُه مِنَ الْمَلَائِكَة، قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِيَّاي، لَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ.
الرِّوَايَة بِفَتْحِ الْمِيمِ مِنْ "فَأَسْلَمَ"، وَمَنْ رَوَاهُ: "فَأَسْلَمُ" بِرَفْعِ الْمِيمِ فَقَدْ حَرَّفَ لَفْظَه.
وَمَعْنَى "فَأَسْلَمَ" أَيْ: فَاسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ لِي، فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ صَارَ مُؤْمِنًا، فَقَدْ حَرَّفَ مَعْنَاهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا.
الشيخ: علَّق عليه؟
الطالب: نعم، قال: قال الشيخ أحمد شاكر: والخلاف في ضبط الميم من "فأسلم" خلاف قديم، والراجح فيها الفتح، كما قال الشارح، ولكن المعنى الذي رجَّحه غير راجحٍ؛ فقال القاضي عياض في "مشارق الأنوار": رويناه بالضم والفتح، فمَن ضمَّ ردَّ ذلك إلى النبي ﷺ، أي: فأنا أسلم منه. ومَن فتح ردَّه إلى القرين، أي: أسلم من الإسلام. وقد رُوي في غير هذه الأمّهات: "فاستسلم"، يريد بالأمّهات: "الموطأ" و"الصحيحين" التي بنى عليها كتابه، وإن كان هذا الحديثُ لم يروه مالك ولا البخاري.
وقال النووي في "شرح مسلم": هما روايتان مشهورتان .. واختلفوا في الأرجح منهما، فقال الخطابي: الصحيح المختار الرفع. ورجَّح القاضي عياض الفتح. وأما الحافظ ابن حبان فإنه روى الحديثَ في "صحيحه"، وجزم برواية فتح الميم، وقال: في هذا الخبر دليلٌ على أنَّ شيطان المصطفى ﷺ أسلم حتى لم يكن يأمره إلا بخيرٍ، لا أنه كان يسلم منه إن كان كافرًا. وهذا هو الصحيح الذي تُرجحه الدَّلائل.
وادِّعاء الشارح أنَّ هذا تحريف للمعنى: "فإنَّ الشيطان لا يكون مؤمنًا" انتقال نظرٍ:
فأولًا: أنَّ اللفظ في الحديث: قرينه من الجنِّ، لم يقل: "شيطانه".
وثانيًا: أنَّ الجنَّ فيهم المؤمن والكافر، والشياطين هم كفَّارهم، فمَن آمن منهم لم يُسمَّ شيطانًا. انتهى.
الشيخ: .............
الطالب: قال: أخرجه الترمذي في "الأدب"، باب "ما جاء في الاستتار عند الجماع"، من حديث ابن عمر: أن رسول الله ﷺ قال: إياكم والتَّعري؛ فإنَّ معكم مَن لا يُفارقكم إلا عند الغائط، وحين يُفضي الرجلُ إلى أهله، فاستحيوهم وأكرموهم.
قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. يعني أنه ضعيف؛ لأنَّ في سنده ليث ابن أبي سليم، وهو سيئ الحفظ، وباقي رجاله ثقات، وفي الباب عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان القومُ بعضهم في بعضٍ؟ قال: إن استطعتَ أن لا يراها أحدٌ فلا ترينها، قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: فالله أحق أن يُستحيا منه من الناس. أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وسنده حسن كما قال الترمذي، وصححه الحافظ.
الشيخ: ............
الطالب: نصّ كلام الشيخ ناصر.
س: ما يكون حسنًا؟
ج: .............
س: الذي يظهر من تحقيق الشيخ أحمد شاكر؟
ج: ظاهر الإطلاق أنه دخل في الإسلام؛ لأنَّ الشياطين هم مردة الجن وكفَّارهم: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ [الجن:11]، فالشيطان هو رأسهم الأول، .......، فالكفَّار من الجنِّ هم الشياطين، ومَن لم يكفر بالله فهو من المؤمنين، وهكذا بنو آدم: منهم مَن تمرد وكفر، ومَن لم يتمرد فهو مؤمن، فالجن فيهم المؤمن والكافر، والإنس فيهم المؤمن والكافر، ولعلَّ أكثر الجنِّ شياطين، مثلما أنَّ أكثر الإنس شياطين: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، فالأقرب والله أعلم مثلما قال: فأسلم، ولا حاجة إلى تأويلها: فاستسلم، فالرواية المعروفة: فأسلم يعني: دخل في الإسلام.
س: يعني بعدما أسلم لا يُسمَّى: شيطانًا؟
ج: نعم.
س: في الأول كان يُسمَّى: شيطانًا، فلما أسلم ..؟
ج: لأنه صار مسلمًا.
س: ما يُستبعد إسلام بعض الشَّياطين؟
ج: شياطين الجن فيهم طبقات الناس: فيهم الكافر، وفيهم اليهودي، وفيهم النَّصراني، وفيهم الجهمي، وفيهم المعتزلي، وفيهم الأشعري، وفيهم الرافضي، مثل الإنس: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن:11] طرائق وأقسام، وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن:14- 15] فالإنس كذلك.
س: .............؟
ج: لا نعلم في عدد الحفظة شيئًا محفوظًا، الحفظة المعروف أنها تكتب حسناتهم وسيئاتهم، أما تعدادهم فالله أعلم.
س: ما ورد أنَّهم عشرون ملكًا؟
ج: الله أعلم.
..............
ومعنى: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] قِيلَ: حِفْظُهُمْ لَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَيِ: اللَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، يَشْهَدُ لِذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: "يَحْفَظُونَه بِأَمْرِ اللَّهِ".
ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمَذْكُورَة أَنَّ الْمَلَائِكَة تَكْتُبُ الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ، وَكَذَلِكَ النِّيَّة؛ لِأَنَّهَا فِعْلُ الْقَلْبِ، فَدَخَلَتْ فِي عُمُومِ: يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:12]، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ: قَالَ اللَّهُ : إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَلَيْهِ سَيِّئَةً، وَإِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: ذَاكَ عَبْدٌ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ، فَقَالَ: ارْقُبُوه، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائي. خَرَّجَاهُمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
الشيخ: وهذا يُوجب للمؤمن العناية التامَّة بأعماله وأقواله ما دام محفوظًا تُكتب عليه سيئاته وحسناته، فما أجدره أن يكون حريصًا على إملاء الحسنات؛ حذرًا من إملاء السَّيئات، وهو كتاب عظيم سوف يُعطاه يوم القيامة، ويُقال: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14].
فما أولى المؤمن وما أحقّه بأن يحذر هذه الكتابة، وأن يستحي من الله ومن ملائكته أن يُملي عليهم ما يُغضبه سبحانه ويُخالف أمره، ولا حول ولا قوةَ إلا بالله.
س: البدع التي تكون في الجنِّ يتلقونها عن الإنس، أو عندهم مُبتدعة تلقَّى بعضُهم عن بعضٍ؟
ج: الذي يظهر والله أعلم أنَّ منهم مَن يتلقاها عن الإنس، ومنهم مَن يتلقاها عن الجنِّ؛ لأنهم لهم اتِّصال بالإنس، ولهم معرفة بأحوال الإنس، يعلمون بالمجالس، ويقرؤون ويكتبون، فلا مانعَ أن يأخذوا عن الإنس بعض الخير والشرِّ، وعن بعضهم مثل الإنس.
قَوْلُهُ: (وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ).
قَالَ تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11]، وَلَا تُعَارِضُ هَذِهِ الْآيَةُ قَوْلَهُ: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61]، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42]؛ لِأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ يَتَوَلَّى قَبْضَهَا وَاسْتِخْرَاجَهَا، ثُمَّ يَأْخُذُهَا مِنْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَة أَوْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، وَيَتَوَلَّوْنَهَا بَعْدَهُ، كُلُّ ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَضَائِه وَقَدَرِه، وَحُكْمِه وَأَمْرِه، فَصَحَّتْ إِضَافَةُ التَّوَفِّي إِلَى كُلٍّ بِحَسَبِه.
الشيخ: هذا قول، والقول الثاني: أنَّ له أعوانًا، وأنَّ أعوانه قد يتولون القبضَ بأمره وتوجيهه: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ظاهر بأنَّ التَّوفي قد يتوفاه جماعةٌ، قد يتولَّاه جماعةٌ، ويحتمل ما قاله الشارحُ: أنه يقبضها، ثم يتولون بقية الأمر، يحتمل الأمر القول الثاني، وهو أنه ينوب عنه أعوان، ويصدق عليه أنه هو الملك الموكل، ويصدق على الملائكة أنهم توفّوا فلانًا وفلانًا وفلانًا: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ [الأنفال:50]، فجعل التَّوفي لجماعةٍ، فهذا يدل على أنه له أعوان ونواب يتصرَّفون بتوجيهه، فلا منافاةَ بين كون الوفاة تستند إليه: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة:11]، وبين أن تسند إلى جماعةٍ من الملائكة.
س: ...............؟
ج: ما عليه معول، الله أعلم بكيفية التوفي، هذا إلى الله .
الشيخ: وقد ألَّف ابنُ القيم رحمه الله كتابًا في هذا مُختصًّا فيه، سماه: "كتاب الروح"، كتاب عظيم كثير الفائدة، فالروح قال الله جلَّ وعلا فيها: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، الله سبحانه الذي أخبر أنها من أمره، وأنَّ شأنها عظيم، وأنه لم يجعل ذلك إلى أحدٍ من الناس، بل هي شيء مُستقل يدخل ويخرج، فالله الذي يعلم كيفيتها وحقيقة أمرها، فهو الخلَّاق لها، وهو العالم بشأنها، وهو المدبر لها ، وهي مُستقلة، غير البدن، وهي لا تموت كما يأتي، بل هي مستقلة، بل بعد المفارقة: إما إلى عذابٍ، وإما إلى نعيمٍ، بعدما تُفارق البدن: إما إلى نعيمٍ، وإما إلى عذابٍ.
فَقِيلَ: الرُّوحُ قَدِيمَة، وَقَدْ أَجْمَعَتِ الرُّسُلُ عَلَى أَنَّهَا مُحْدَثَة مَخْلُوقَة مَصْنُوعَة مَرْبُوبَة مُدَبَّرَة. وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَة مِنْ دِينِهِمْ؛ أَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ، وَمَضَى عَلَى هَذَا الصَّحَابَة وَالتَّابِعُونَ، حَتَّى نَبَغَتْ نَابِغَة مِمَّنْ قَصُرَ فَهْمُه فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَزَعَمَ أَنَّهَا قَدِيمَة، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَأَمْرُه غَيْرُ مَخْلُوقٍ! وَبِأَنَّ اللَّهَ أَضَافَهَا إِلَيْهِ بقوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، وَبِقَوْلِه: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29]، كَمَا أَضَافَ إِلَيْهِ عِلْمَه وَقُدْرَتَه وَسَمْعَه وَبَصَرَه وَيَدَه. وَتَوَقَّفَ آخَرُونَ.
وَاتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَة أَنَّهَا مَخْلُوقَة، وَمِمَّنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ: مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي، وَابْنُ قُتَيْبَة، وَغَيْرُهُمَا.
الشيخ: ولا شكَّ في هذا، الله يقول: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62]، والمضاف إلى الله قسمان:
قسم يُضاف إليه لأنه صفة له: كعلمه وكلامه ورضاه وغضبه.
وقسم يُضاف إليه لأنه خالقه ومُدبره ومُنشئه.
ثم هذا الذي يُضاف إليه على أنه خالقه قسمان:
أحدهما: أن يُضاف إليه إضافة خلقٍ وإيجادٍ، كما يقال: أرض الله، وسماء الله.
وتارةً يُضاف إليه إضافة تشريفٍ وتكريمٍ، مع كونه مخلوقًا: كناقة الله، وبيت الله، ورسول الله، ومن هذا الباب الروح: روح الله: مِنْ رُوحِي، فعيسى روح الله، من باب إضافة المخلوق إلى خالقه؛ لتشريفه وتكريمه.
وَمِنَ الْأَدِلَّة عَلَى أَنَّ الرُّوحَ مَخْلُوقَة: قَوْلُهُ تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، فَهَذَا عَامٌّ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ بِوَجْهٍ مَا، وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى اسْمِه، فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْإِلَه الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، فَعِلْمُه وَقُدْرَتُه وَحَيَاتُه وَسَمْعُه وَبَصَرُه وَجَمِيعُ صِفَاتِه دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى اسْمِه، فَهُوَ سُبْحَانَهُ بِذَاتِه وَصِفَاتِه الْخَالِقُ، وَمَا سِوَاه مَخْلُوقٌ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الرُّوحَ لَيْسَت هِيَ اللَّهَ، وَلَا صِفَةً مِنْ صِفَاتِه، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَصْنُوعَاتِه.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى لِزَكَرِيَّا: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم:9].
الشيخ: وَلَمْ تَكُ شَيْئًا يعني: يعمّ روحه وجسده، لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا لا روحًا ولا جسدًا، ثم خلق اللهُ الجميعَ .
وَالْإِنْسَانُ اسْمٌ لِرُوحِه وَجَسَدِه، وَالْخِطَابُ لِزَكَرِيَّا: لِرُوحِه وَبَدَنِه، وَالرُّوحُ تُوصَفُ بِالْوَفَاة وَالْقَبْضِ، وَالْإِمْسَاكِ وَالْإِرْسَالِ، وَهَذَا شَأْنُ الْمَخْلُوقِ الْمُحْدَثِ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ: مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] فَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا بِالْأَمْرِ الطَّلَبَ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْمَأْمُورُ، وَالْمَصْدَرُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِإِضَافَتِهَا إليه بقوله: مِنْ رُوحِي [الحجر:29] فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمُضَافَ إِلَى اللَّهِ تعالى نَوْعَانِ:
صِفَاتٌ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا: كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَة وَالْكَلَامِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، فَهَذِهِ إِضَافَة صِفَةٍ إِلَى الْمَوْصُوفِ بِهَا، فَعِلْمُه وَكَلَامُه وَقُدْرَتُه وَحَيَاتُه صِفَاتٌ لَهُ، كَذَلك وَجْهُه وَيَدُه سُبْحَانَهُ.
وَالثَّانِي: إِضَافَة أَعْيَانٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنْهُ: كَالْبَيْتِ وَالنَّاقَةِ وَالْعَبْدِ وَالرَّسُولِ وَالرُّوحِ، فَهَذِهِ إِضَافَة مَخْلُوقٍ إِلَى خَالِقِه، لَكِنَّهَا إِضَافَة تَقْتَضِي تَخْصِيصًا وَتَشْرِيفًا، يَتَمَيَّزُ بِهَا الْمُضَافُ عَنْ غَيْرِهِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الرُّوحِ: هَلْ هِيَ مَخْلُوقَة قَبْلَ الْجَسَدِ أَمْ بَعْدَهُ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ ذِكْرِ الْمِيثَاقِ الْإِشَارَة إِلَى ذَلِكَ.
وَاخْتُلِفَ فِي الرُّوحِ: مَا هِيَ؟
فقِيلَ: هِيَ جِسْمٌ. وَقِيلَ: عَرَضٌ. وَقِيلَ: لَا نَدْرِي مَا الرُّوحُ: أَجَوْهَرٌ أَمْ عَرَضٌ؟ وَقِيلَ: لَيْسَ الرُّوحُ شَيْئًا أَكْثَرَ مِن اعْتِدَالِ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ. وَقِيلَ: هِيَ الدَّمُ الصَّافِي الْخَالِصُ مِنَ الْكدرة وَالْعُفُونَاتِ. وَقِيلَ: هِيَ الْحَرَارَة الْغَرِيزِيَّة، وَهِيَ الْحَيَاة. وَقِيلَ: هُوَ جَوْهَرٌ بَسِيطٌ مُنْبَعِثٌ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، عَلَى جِهَة الْإِعْمَالِ لَهُ وَالتَّدْبِيرِ، وَهِيَ عَلَى مَا وُصِفَتْ مِن الِانْبِسَاطِ فِي الْعَالَمِ غَيْرُ مُنْقَسِمَة الذَّاتِ وَالْبِنْيَة، وَأَنَّهَا في كُلِّ حَيَوَانِ الْعَالَمِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ لَا غَيْرُ. وَقِيلَ: النَّفْسُ هِيَ النَّسِيمُ الدَّاخِلُ وَالْخَارِجُ بِالتَّنَفُّسِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
الشيخ: مثلما تقدم لنا: أنها شيء مُستقل، ذات مستقلة، كما قال أهلُ العلم، أهل السنة والجماعة، تدخل وتخرج وتتصرف، ولها شأنها بأمر ربِّها ، لكن كيفيتها الله الذي يعلمها .
وَلِلنَّاسِ فِي مُسَمَّى "الْإِنْسَانِ": هَلْ هُوَ الرُّوحُ فَقَطْ، أَوِ الْبَدَنُ فَقَطْ، أَوْ مَجْمُوعُهُمَا، أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا؟
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَة لَهُمْ فِي كَلَامِه: هَلْ هُوَ اللَّفْظُ، أَوِ الْمَعْنَى فَقَطْ، أَوْ هُمَا، أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا؟ فَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي النَّاطِقِ وَنُطْقِه، وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِنْسَانَ اسْمٌ لَهُمَا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِقَرِينةٍ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ.
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَة وَأَدِلَّةُ الْعَقْلِ: أَنَّ النَّفْسَ جِسْمٌ مُخَالِفٌ بِالْمَاهِيَّة لِهَذَا الْجِسْمِ الْمَحْسُوسِ، وَهُوَ جِسْمٌ نُورَانِي عُلْوِي.
الشيخ: نسبة إلى النور.
خَفِيفٌ، حَي، مُتَحَرِّكٌ، يَنْفُذُ فِي جَوْهَرِ الْأَعْضَاءِ، وَيَسْرِي فِيهَا سَرَيَانَ الْمَاءِ فِي الْوَرْدِ، وَسَرَيَانَ الدُّهْنِ فِي الزَّيْتُونِ، وَالنَّارِ فِي الْفَحْمِ، فَمَا دَامَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ صَالِحَةً لِقَبُولِ الْآثَارِ الْفَائِضَة عَلَيْهَا مِنْ هَذَا الْجِسْمِ اللَّطِيفِ، بَقِي ذَلِكَ الْجِسْمُ اللَّطِيفُ سَارِيًا فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَإفَادَتهَا هَذِهِ الْآثَارُ مِنَ الْحِسِّ وَالْحَرَكَة الْإِرَادِيَّة، وَإِذَا فَسَدَتْ هَذِهِ بِسَبَبِ اسْتِيلَاءِ الْأَخْلَاطِ الْغَلِيظَة عَلَيْهَا، وَخَرَجَتْ عَنْ قَبُولِ تِلْكَ الْآثَارِ، فَارَقَ الرُّوحُ الْبَدَنَ، وَانْفَصَلَ إِلَى عَالَمِ الْأَرْوَاحِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا الآية [الزمر:42]، فَفِيهَا الْإِخْبَارُ بِتَوَفِّيهَا وَإِمْسَاكِهَا وَإِرْسَالِهَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الأنعام:93]، فَفِيهَا بَسْطُ الْمَلَائِكَة أَيْدِيَهُمْ لِتَنَاوُلِهَا، وَوَصْفُهَا بِالْإِخْرَاجِ وَالْخُرُوجِ، وَالْإِخْبَارُ بِعَذَابِهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ مَجِيئِهَا إِلَى رَبِّهَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ الآية [الأنعام:60]، فَفِيهَا الْإِخْبَارُ بِتَوَفِّي النَّفْسِ بِاللَّيْلِ، وَبَعْثِهَا إِلَى أَجْسَادِهَا بِالنَّهَارِ، وَتَوَفِّي الْمَلَائِكَة لَهَا عِنْدَ الْمَوْتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27- 30]، فَفِيهَا وَصْفُهَا بِالرُّجُوعِ وَالدُّخُولِ وَالرِّضَا.
وَقَالَ ﷺ: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَه الْبَصَرُ.
الشيخ: هذا في قصة أبي سلمة، رواه مسلم، والغالب فيها التَّذكير: إنَّ الروح إذا قُبِضَ، وقد تُؤنَّث، ولكن الغالبَ فيها التَّذكير كالنفس مؤنثة.
فَفِيهِ وَصْفُه بِالْقَبْضِ، وَأَنَّ الْبَصَرَ يَرَاه.
وَقَالَ ﷺ فِي حَدِيثِ بِلَالٍ: قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ، وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ، وَقَالَ ﷺ: نَسَمَة الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يعلق فِي شَجَرِ الْجَنَّة.
الشيخ: هذا رواه الإمامُ أحمد بإسنادٍ جيدٍ من حديث كعب بن مالك الأنصاري، وهو حديث جيد من طريق الإمام أحمد، عن الشافعي، عن مالك.
س: علُق من باب: كرم؟
ج: نعم، أو علَق من باب: نصر. علَق يعلَق، من باب: نصر ينصر، القاعدة: علق يعلق، مثل: قطع يقطع، ولكن ظاهر الرواية الضم، من باب نصر، على خلاف القاعدة ......
س: أيش مقصوده بالطبائع الأربع؟
ج: المعروفة: الغالبية، والدَّموية، والصَّفراوية.
س: وصفها بالجسم على مصطلح أهل الكلام؟
ج: جسم يعني: لطيف جدًّا؛ لأنها تخرج وتدخل، فهذا تسامح في العبارة، والغالب في اللغة أنَّ الأجسام لها جسد، ولها ثخانة في الغالب، فقد يتسامحون في العبارة.
س: ..............؟
ج: الصواب أنَّ النفس والروح شيء واحد، النفس تُوصف بالطُّمأنينة واللَّوامة كما يأتي.
وَسَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ خِطَابِ مَلَكِ الْمَوْتِ لَهَا، وَأَنَّهَا تَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَة مِنْ فِي السِّقَاءِ، وَأَنَّهَا تَصْعَدُ، وَيُوجَدُ مِنْهَا مِنَ الْمُؤْمِنِ كَأَطْيَبِ رِيحٍ، وَمِنَ الْكَافِرِ كَأَنْتَنِ رِيحٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ.
وَعَلَى ذَلِكَ أَجْمَعَ السَّلَفُ، وَدَلَّ الْعَقْلُ، وَلَيْسَ مَعَ مَنْ خَالَفَ سِوَى الظُّنُونِ الْكَاذِبَة، وَالشُّبَه الْفَاسِدَة الَّتِي لَا يُعَارَضُ بِهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْوَحْي وَالْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة.
الشيخ: علَّق على حديث "نفس المؤمن".
الطالب: قال: "الصحيحة" برقم كذا.
الأرناؤوط يقول: أخرجه النَّسائي في "الجنائز" باب "أرواح المؤمنين"، وابن ماجه في "الزهد"، باب "ذكر القبر والبلى"، ومالك في "الجنائز"، باب "جامع الجنائز"، وأحمد من طريق عبدالرحمن بن كعب، عن أبيه كعب بن مالك بلفظ: "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنَّة حتى يَرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه".
الشيخ: "يَرْجِعه" الثلاثي أفصح: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ [التوبة:83] أي: يرده.
الطالب: وإسناده صحيح.
الشيخ: صدق، إسناده جيد؛ لأنه من طريق الأئمة: ..... أحمد، عن الشافعي، عن مالك، عن عبدالرحمن بن كعب.
س: .............؟
ج: من جهة الصِّفات، وإلا هي شيء واحد: تارة تكون لوامةً، وتارة تكون مطمئنةً، وتارة تكون أمَّارةً بالسوء، هذه أوصافها.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي مُسَمَّى النَّفْسِ وَالرُّوحِ: هَلْ هُمَا مُتَغَايِرَانِ أَوْ مُسَمَّاهُمَا وَاحِدٌ؟
فَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ النَّفْسَ تُطْلَقُ عَلَى أُمُورٍ، وَكَذَلِكَ الرُّوحُ، فَيَتَّحِدُ مَدْلُولُهُمَا تَارَةً، وَيَخْتَلِفُ تَارَةً. فَالنَّفْسُ تُطْلَقُ عَلَى الرُّوحِ، وَلَكِنْ غَالِبُ مَا تُسَمَّى نَفْسًا إِذَا كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِالْبَدَنِ، وَأَمَّا إِذَا أُخِذَتْ مُجَرَّدَةً فَتَسْمِيَة الرُّوحِ أَغْلَبُ عَلَيْهَا. وَيُطْلَقُ عَلَى الدَّمِ، فَفِي الْحَدِيثِ: مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَة لَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ إِذَا مَاتَ فِيهِ.
الطالب: قال: لا أعرف له أصلًا، وإنما هو من كلام الفقهاء.
الأرناؤوط يقول: أخرجه الدَّارقطني والبيهقي من حديث سلمان الفارسي، قال رسول الله ﷺ: يا سلمان، كلُّ طعامٍ وشرابٍ وقعت فيه دابَّةٌ لها دم فماتت فيه فهو حلال أكله وشربه ووضوؤه، وفي سنده مجهول وضعيف.
الشيخ: يُراجع الدَّارقطني والبيهقي.
وهذا مشهور، يقول الشاعر:
تسيل على حدِّ السيوف نفوسنا | وليست على غير السيوف تسيل |
نفوسنا: يعني دماؤنا.
فالمقصود أنَّ النفس تُطلق على عين الشيء، نفس الشيء يعني: عينه، أما ما يتعلق بالروح والنفس فهما شيء واحد فيما يتعلق بالبدن، خُلق الإنسان في نفسه، والنفس مؤنثة، والروح في الغالب مذكرة، وتُطلق النفس على نفس الدم، وعلى عين الشيء، وعلى أشياء أخرى، وهكذا الروح تُطلق على نفس النفس التي هي روح الإنسان، وتُطلق على أشياء أخرى، مثل: تسمية الملك جبرائيل: الروح، ومثل تسمية القرآن: روحًا، والوحي: روحًا؛ لما يحصل من الحياة، كل شيءٍ يحصل به الحياة يُسمَّى: روحًا.
الشيخ: وبهذا يُعلم أنه مُشترك هنا بمعنى القوة.
وَأَمَّا الرُّوحُ فَلَا تُطْلَقُ عَلَى الْبَدَنِ، لَا بِانْفِرَادِه، وَلَا مَعَ النَّفْسِ. وَتُطْلَقُ الرُّوحُ على الْقُرْآنِ، وعلى جِبْرِائيلَ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء:193]، وَتُطْلَقُ الرُّوحُ عَلَى الْهَوَاءِ الْمُتَرَدِّدِ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَيْضًا.
وَأَمَّا مَا يُؤَيِّدُ اللَّهُ بِهِ أَوْلِيَاءَه فَهِيَ رُوحٌ أُخْرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة:22].
الشيخ: "إيمان" هنا بمعنى القوة، الشيء الذي يحصل بعد الثبات من قوة القلب وقوة الغيرة وقوة البصيرة، إلى غير ذلك.
وَكَذَلِكَ الْقُوَى الَّتِي فِي الْبَدَنِ، فَإِنَّهَا أَيْضًا تُسَمَّى: أَرْوَاحًا، فَيُقَالُ: الرُّوحُ الْبَاصِرُ، وَالرُّوحُ السَّامِعُ، وَالرُّوحُ الشَّامُّ.
وَتُطْلَقُ الرُّوحُ عَلَى أَخَصِّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَهُوَ: قُوَّة الْمَعْرِفَة بِاللَّهِ، وَالْإِنَابَة إِلَيْهِ، وَمَحَبَّتُه، وَانْبِعَاثُ الْهِمَّة إِلَى طَلَبِه وَإِرَادَتِه.
وَنِسْبَة هَذِهِ الرُّوحِ إِلَى الرُّوحِ كَنِسْبَة الرُّوحِ إِلَى الْبَدَنِ، فَالْعِلْم رُوحٌ، وَالْإِحْسَان رُوحٌ، وَالْمَحَبَّة رُوحٌ، وَالتَّوَكُّل رُوحٌ، وَالصِّدْق رُوحٌ، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذِهِ الأَرْوَاحِ؛ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَرْوَاحُ فَيَصِيرُ رُوحَانِيًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْقِدُهَا أَوْ أَكْثَرَهَا فَيَصِيرُ أَرْضِيًّا بَهِيمِيًّا.
وَقَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ ثَلَاثَة أَنْفُسٍ: مُطْمَئِنَّة، وَلَوَّامَة، وَأَمَّارَة، قَالُوا: وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ، كَمَا قَالَ تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر:27]، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:2]، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53].
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهَا نَفْسٌ وَاحِدَة، لَهَا صِفَاتٌ، فَهِيَ أَمَّارَة بِالسُّوءِ، فَإِذَا عَارَضَهَا الْإِيمَانُ صَارَتْ لَوَّامَةً، تَفْعَلُ الذَّنْبَ ثُمَّ تَلُومُ صَاحِبَهَا، وَتَلُومُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَإِذَا قَوِي الْإِيمَانُ صَارَتْ مُطْمَئِنَّةً.
وَلِهَذَا قَالَ ﷺ: مَنْ سَرَّتْه حَسَنَتُه، وَسَاءَتْه سَيِّئَتُه فَهُوَ مُؤْمِنٌ، مع قوله: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْحَدِيثَ.
.............
س: أو تُطلق على الكلِّ ويُراد البعض؟
ج: وصف لهذه الأشياء، يعني: القوة الباصرة، والقوة السامعة، والقوة المتحركة، وقوة الغيرة لله، والقوة الثابتة، والقوة التي بها إدراك الحقائق على ما هي عليه نوع من الحياة الخاصة، ونوع من البصر الخاص، توسع اللغة في هذه الأشياء، لغة العرب فيها توسع كبير في كلمات كثيرة.
س: ..............؟
ج: نوع منها، نوع.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ تَمُوتُ الرُّوحُ أَمْ لَا؟
فَقَالَتْ طَائِفَة: تَمُوتُ؛ لِأَنَّهَا نَفْسٌ، وَكُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:26- 27]، وَقَالَ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88].
قَالُوا: وَإِذَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَمُوتُ، فَالنُّفُوسُ الْبَشَرِيَّة أَوْلَى بِالْمَوْتِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا تَمُوتُ الْأَرْوَاحُ، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ لِلْبَقَاءِ، وَإِنَّمَا تَمُوتُ الْأَبْدَانُ.
قَالُوا: وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الدَّالَّة عَلَى نَعِيمِ الْأَرْوَاحِ وَعَذَابِهَا بَعْدَ الْمُفَارَقَة إِلَى أَنْ يُرْجِعَهَا اللَّهُ فِي أَجْسَادِهَا.
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: مَوْتُ النُّفُوسِ هُوَ مُفَارَقَتُهَا لِأَجْسَادِهَا وَخُرُوجُهَا مِنْهَا، فَإِنْ أُرِيدَ بِمَوْتِهَا هَذَا الْقَدْرُ، فَهِيَ ذَائِقَة الْمَوْتِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهَا تَعْدَمُ وَتَفْنَى بِالْكُلِّيَّة، فَهِيَ لَا تَمُوتُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، بَلْ هِيَ بَاقِيَة بَعْدَ خَلْقِهَا فِي نَعِيمٍ أَوْ فِي عَذَابٍ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشيخ: وهذا هو الصواب؛ أن النفوس التي هي الأرواح لا تموت بمعنى العدم والفناء، ولكنها تموت بمفارقة الأجساد: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، كل نفسٍ تُفارق جسدها وتنتقل: إما إلى نعيمٍ، وإما إلى عذابٍ، موت النفوس كونها تُفارق هذه الأجسام التي خُلقت فيها، وتنتقل عنها إلى غيرها، فإذا مات الإنسانُ فقد ذاقت نفسُه الموت؛ وذلك لكونها فارقته وانتقلت عنه إلى شيءٍ آخر، وإلى محلٍّ آخر: إلى نعيمٍ أو عذابٍ، أو إلى ما بين هذا: تارةً نعيمًا، وتارةً عذابًا، وأما الجسد فقد خرب بمُفارقتها إياه، ثم هي بعد ذلك مُستمرة في حالها: إما في نعيم، وإما في عذابٍ حتى ترد إلى أجسادها يوم القيامة، يوم القيامة تُرد إلى أجسادها فتُنعم معها أو تُعذَّب معها، نسأل الله السَّلامة.
س: ..............؟
ج: كلها تموت.
س: وهم أحياء؟
ج: هذا موت خاصٌّ غير الموت الحقيقي، هذا موت عدم المعرفة وعدم البصيرة: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام:122] ميتًا بالكفر، وإلا فيه روح، لكنَّه ميت بسبب الكفر بالله.
وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّة لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى [الدخان:56]، وَتِلْكَ الْمَوْتَة هي مُفَارَقَة الأرواحِ لِلْأجسَادِ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَهْلِ النَّارِ: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ [غافر:11]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة:28] فَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ كَانُوا أَمْوَاتًا وَهُمْ نُطَفٌ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وفي أَرْحَامِ أُمَّهَاتِهِمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَمَاتَهُمْ، ثُمَّ يُحْيِيهِمْ يَوْمَ النُّشُورِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إِمَاتَة أَرْوَاحِهِمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَة، وَإِلَّا كَانَتْ ثَلَاثَ مَوْتَاتٍ.
وَصَعْقُ الْأَرْوَاحِ عِنْدَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَوْتُهَا، فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة إِذَا جَاءَ اللَّهُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِه، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْتٍ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَذَلِكَ صَعْقُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مَوْتًا، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ نَفْخَةَ الصَّعْقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَوْتُ كُلِّ مَنْ لَمْ يَذُقِ الْمَوْتَ قَبْلَهَا مِنَ الْخَلَائِقِ، وَأَمَّا مَنْ ذَاقَ الْمَوْتَ، أَوْ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ الْمَوْتُ مِنَ الْحُورِ وَالْوِلْدَانِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَمُوتُ مَوْتَةً ثَانِيَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلًا، وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي قَبْرِه عَنْ رَبِّه وَدِينِه وَنَبِيِّه، عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَعَنِ الصَّحَابَة رِضْوَانُ الله عَلَيْهِمْ. وَالْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّة، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ).
قَالَ تَعَالَى: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:45- 46]، وَقَالَ تَعَالَى: فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الطور:45- 47]، وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ عَذَابُهُمْ بِالْقَتْلِ وَغَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ عَذَابُهُمْ فِي الْبَرْزَخِ، وَهُوَ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَاتَ وَلَمْ يُعَذَّبْ فِي الدُّنْيَا، أَوِ الْمُرَادُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.
الشيخ: عذاب القبر ونعيم القبر قد أجمع عليه أهلُ السنة والجماعة، استقرَّ إجماعُ أهل السنة على أن القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حُفرة من حُفر النار، وقد تواترت الأخبارُ عن رسول الله ﷺ من وجوهٍ كثيرةٍ عن جماعةٍ من الصحابة كثيرين كلها تدل على أنَّ القبر صاحبه إما مُعذَّب، وإما مُنَعَّم، وأنَّ عذاب القبر شيء مُعجَّل لأهله، ونعيم القبر شيء مُعجَّل لأهله.
ومما دلَّ عليه من كتاب الله قوله جلَّ وعلا: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، هذا هو عذاب القبر وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ هذا يوم القيامة، نسأل الله السلامة، وقوله جلَّ وعلا: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ يعني: قبل يوم القيامة، هو ما يحصل لهم في الدنيا من أنواع العذاب من الغمِّ والهمِّ والقلق، وما يقع في صدورهم من الضيق والحرج والحيرة والشك، وما يكون لهم في القبور من العذاب المعجَّل قبل يوم القيامة، نسأل الله السَّلامة.
الشيخ: قوله: "كأنَّ على رؤوسنا الطير" لأنهم في غايةٍ من الخشوع والخضوع؛ ليستمعوا لكلامه عليه الصلاة والسلام، يعني: أنهم مُنصتون خاشعون، لا حركات، ولا أصوات، كالذي على رأسه الطير يخشى أن يطير الطير؛ لأنَّه إذا تحرَّك طار، فهم خاشعون خاضعون يستمعون لما يقول عليه الصلاة والسلام، مُتشوقون لسماع الفائدة، ليس عندهم أصوات تشغل، ولا حركات؛ ولهذا قال: "كأنَّ على رؤوسنا الطير".
الشيخ: الحنوط هو الطِّيب، تكون في كفنٍ يكون فيه الطِّيب الذي لا يعلم مدى حُسنه وطِيبه إلا الذي خلقه .
الشيخ: وهذه الإعادة إعادة مُؤقتة، إعادة الروح -روح المؤمن- إلى الأرض إعادة مُؤقتة للسؤال، ثم تُرفع هذه الروح إلى الجنَّة، فإنَّ أرواح المؤمنين في الجنَّة تسرح في الجنة حيث شاءت، في أشباه طيرٍ تسرح في الجنة، وتعلق في أشجار الجنة وثمارها؛ حتى يُعيدها الله إلى جسدها عند البعث والنُّشور، كما جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من حديث كعب بن مالك الأنصاري، وأما أرواح الشُّهداء فتكون لها أجساد، يخلق الله لها أجسادًا من طيرٍ خضرٍ تحمل هذه الأرواح، تسرح بها في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، هذا شأنها حتى يردَّها اللهُ إلى أجسادها يوم القيامة.
فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِه، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّي اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِي الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوه مِنَ الْجَنَّة، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّة، قَالَ: فَيَأْتِيه مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِه مَدَّ بَصَرِه، قَالَ: وَيَأْتِيه رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ الَّذِي يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: يَا رَبّ، أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي.
قَالَ: وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَة، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوه، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِه، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَة، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ، قَالَ: فَتَتَفَرَّقُ فِي جَسَدِه، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِه طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحٍ خَبِيثَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَة إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِه التي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ، فَلَا يُفْتَحُ لَهُ.
ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، فَيَقُولُ اللَّهُ : اكْتُبُوا كِتَابَه فِي سِجِّينٍ، فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحُ رُوحُه طَرْحًا، ثُمَّ قَرَأَ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]، فَتُعَادُ رُوحُه فِي جَسَدِه، وَيَأْتِيه مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِه، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاه! هَاه! لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاه! هَاه! لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ، فَافْرِشُوه مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيه مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، وَيَضِيقُ عَلَيْهِ قَبْرُه حتى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُه، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوؤُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الذي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْه يَجِيءُ بِالشَّرِّ! فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ، لَا تُقِمِ السَّاعَة.
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه أَوَّلَه، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَأَبُو عَوَانَة الْإِسْفِرَايينِي فِي "صَحِيحَيْهِمَا"، وَابْنُ حِبَّانَ.
وَذَهَبَ إِلَى مُوجَبِ هَذَا الْحَدِيثِ جَمِيعُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنَ الصَّحِيحِ:
فَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَة، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِه وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُه، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُقْعِدَانِه، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ ﷺ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّة، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا. قَالَ قَتَادَة: وَرُوِيَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِه. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَبرئ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَة، فَدَعَا بِجَرِيدَةٍ رَطْبَةٍ فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ وَقَالَ: لَعَلَّه يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا.
الشيخ: علَّق عليه بشيءٍ؟
الطالب: لا، علَّق على ..
الشيخ: هذه إحدى الرِّوايات، والمعروف رواية: لا يستتر من البول، وفي روايةٍ: لا يستنزه من البول، عندك: "يستبرئ"؟
الطالب: نعم.
الشيخ: علَّق عليه بشيءٍ؟
الطالب: لا، ليس عليه تعليق.
الشيخ: في النسخة الأخرى علَّق عليه؟
الطالب: ............
الشيخ: .............
الطالب: يقول: أخرجه البخاري في "الوضوء"، باب "من الكبائر أن لا ..... الجنائز، باب الجريد على القبر والأدب، باب الغيبة والنَّميمة من الكبائر ...... الطَّهارة، باب الدليل على نجاسة البول والاستبراء منه.
الشيخ: ما تكلَّم على حديث البراء؟
الطالب: قال: صحيح، انظر: "أحكام الجنائز".
الشيخ: وشُعيب؟
الطالب: حديث صحيح؛ أخرجه أحمد وأبو داود في "السنة"، باب "المسألة في القبر وعذاب القبر"، والنَّسائي في "الجنائز"، باب "عذاب القبر"، وصححه ابنُ حبان والحاكم.
س: ..............؟
ج: القتلى في سبيل الله خاصَّة.
...............
س: حديث أنسٍ هل فيه قلب: وإن كان العبدُ الكافر إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا، وإقبالٍ من الآخرة صحيحة هذه العبارة؟
ج: مستقيم، المؤمن والكافر في انقطاعٍ من الدنيا، وإقبالٍ من الآخرة، لكن هذا إلى الجنَّة، وهذا إلى النار.
الشيخ: تكلَّم عليه؟
الطالب: نعم، قال: حسن؛ أخرجه الترمذي أيضًا وقال: حديث حسن غريب. قلت: وإسناده حسن، وفيه ردٌّ على مَن أنكر من المعاصرين تسمية الملكين بالمنكر والنَّكير، وهو مخرَّج في "الصحيحة" (1391).
الشيخ: ..........
الطالب: يقول: حديث حسن؛ أخرجه الترمذي في "الجنائز"، باب "ما جاء في عذاب القبر"، وحسَّنه وصحَّحه ابنُ حبان، ولفظه بتمامه. وذكر الحديث: إذا قُبر الميتُ أتاه ملكان أسودان أزرقان، يُقال لأحدهما: المنكر، وللآخر: النَّكير، فيقولان: ما كنتَ تقول في هذا الرجل محمدٍ؟ فيقول: ما كان يقول: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنَّك تقول هذا، ثم يُفسح له في قبره سبعون ذراعًا في سبعين، ثم يُنور له فيه، ثم يُقال له: نم، فيقول: أرجع إلى أهلي فأُخبرهم، فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يُوقظه إلا أحبّ أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقًا قال: سمعتُ الناس يقولون فقلت مثله، لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنَّك تقول ذلك، فيُقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه، فتختلف فيها أضلاعه، فلا يزال فيها مُعذَّبًا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك.
س: ..............؟
ج: في الجنة، تسرح في الجنة حيث شاءت.
س: قوله تعالى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ [الطور:47] شاملٌ ..؟
ج: يشمل عذابَ الدنيا، ويشمل عذابَ القبر.
س: ما أصابهم من القتل والأسر؟
ج: نعم، يشمل ذلك، نسأل الله العافية، بعضهم قد يموت وما أصابه شيءٌ، فيناله عذاب القبر، نسأل الله العافية.
الطالب: المسح كالمنع: إمرار اليد على الشيء السَّائل أو المتلطخ لإذهابه، كالتَّمسيح والتَّمسح، والقول الحسن ممن يخدعك به، كالتَّمسيح، والمشط، والقطع، وأن يخلق الله الشيء مباركًا، أو ملعونًا، ضد، والكذب كالتمساح –بالفتح- والضرب، والجماع، والذرع، كالمساحة –بالكسر- وأن تسير الإبل يومها، وأن تُتعبها وتُدبرها وتُهزلها، كالتمسيح، وبالكسر: البلاس، والجادة، جمعه: مسوح، وبالتحريك: احتراق باطن الركبة لخشونة الثوب، أو اصطكاك الرّبلتين، والنَّعت: أمسح ومسحاء.
والمسيح: عيسى ﷺ؛ لبركته، وذكرتُ في اشتقاقه خمسين قولًا في شرحي "لمشارق الأنوار" وغيره، والدجال لشؤمه، أو هو كسكين، والقطعة من الفضة، والعرق، والصّديق، والدرهم الأطلس، والممسوح بمثل الدهن، وبالبركة، وبالشؤم، والكثير السياحة كالمسيح، كسكين، والكثير الجماع كالماسح، والممسوح الوجه، والمنديل الأخشن، والكذَّاب كالماسح.
والممسح والتِّمسح بكسر أولهما.
والمسحاء: الأرض المستوية ذات حصى صغار. والأرض الرسحاء، والأرض الحمراء، والمرأة لا أخمص لها، والتي ما لثدييها حجم، والعوراء، والبخقاء: التي لا تكون عينها ملوَّزة، والسيارة في سياحتها، والكذَّابة.
وتماسحا: تصادقا، أو تبايعا فتصافقا.
وماسحا: لا يُنافي القول غشًّا.
والتَّمسح: المارد الخبيث، والمداهن.
والتِّمساح: وهو خلق كالسّلحفاة ضخم، يكون بنيل مصر، وبنهر مهران.
والمسيحة: الذُّؤابة، والقوس، جمع: مسائح، ووادٍ قرب مرّ الظهران.
وعليه مسحة من جمالٍ أو هزالٍ: شيء منه.
وذو المسحة: جرير بن عبدالله البجلي.
والمسوح: الذَّهاب في الأرض.
وتل ماسح: موضع بقنسرين.
وامتسح السيف: استلَّه.
والأمسوح –بالضم- كل خشبةٍ طويلةٍ في السفينة.
وهو يتمسَّح به، أي: يتبرَّك به لفضله.
وفلان يتمسح، أي: لا شيء معه، كأنَّه يمسح ذراعيه. انتهى.
الشيخ: ما تعرض ...... المقصود أنها أشياء تُشبه الكفن، لكنها أشياء خبيثة، أشياء فيها نار، وفيها أذى، تُؤذيه؛ لأنها ضدّ ما يُثاب به المؤمن، نسأل الله العافية.
الطالب: هنا قال: أكفان سود.
الشيخ: كأنَّه لا بدَّ فيها من شيء من الأذى ....... المؤمن كفن فيه طيب.
.............
الطالب: البَلَسُ مُحرَّكةً: مَن لا خيرَ عندَهُ، أو عندَهُ إبْلاسٌ وشَرٌّ.
وثَمَرٌ كالتِّينِ، والتِّينُ نَفْسُهُ، وبضمتين: جبلٌ أَحْمَرُ ببلادِ مُحَارِبَ، والعَدَسُ المَأْكُولُ، كالبُلْسُنِ. وككتِفٍ: المُبْلِسُ الساكِتُ على ما في نفسِهِ. وكسَحاب: المِسْحُ، جمعه: بُلُسٌ، وبائِعُهُ: بَلَّاسٌ،
وموضع بِدِمَشْقَ، وبلد بينَ واسِطَ والبَصْرَةِ.
الشيخ: .............
الطالب: استدل لعذاب القبر بالآيتين السابقتين، والنعيم .............
الشيخ: ..............