23 ثبوت عذاب القبر ونعيمه

وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي ثُبُوتِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِه لِمَنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا، وَسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ، فَيَجِبُ اعْتِقَادُ ثُبُوتِ ذَلِكَ وَالْإِيمَانُ بِهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي كَيْفِيَّتِه؛ إِذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ وُقُوفٌ عَلَى كَيْفِيَّتِه؛ لِكَوْنِه لَا عَهْدَ لَهُ بِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَالشَّرْعُ لَا يَأْتِي بِمَا تُحِيلُه الْعُقُولُ، وَلَكِنَّه قَدْ يَأْتِي بِمَا تَحَارُ فِيهِ الْعُقُولُ، فَإِنَّ عَوْدَ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ لَيْسَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْهُودِ فِي الدُّنْيَا، بَلْ تُعَادُ الرُّوحُ إِلَيْهِ إِعَادَةً غَيْرَ الْإِعَادَة الْمَأْلُوفَة فِي الدُّنْيَا.

فَالرُّوحُ لَهَا بِالْبَدَنِ خَمْسَة أَنْوَاعٍ مِنَ التَّعَلُّقِ مُتَغَايِرَة الْأَحْكَامِ:

أَحَدُهَا: تَعَلُّقُهَا بِهِ فِي بَطْنِ الْأُمِّ جَنِينًا.

الثَّانِي: تَعَلُّقُهَا بِهِ بَعْدَ خُرُوجِه إِلَى وَجْهِ الْأَرْضِ.

الثَّالِثُ: تَعَلُّقُهَا بِهِ فِي حَالِ النَّوْمِ، فَلَهَا بِهِ تَعَلُّقٌ مِنْ وَجْهٍ، وَمُفَارَقَة مِنْ وَجْهٍ.

الرَّابِعُ: تَعَلُّقُهَا بِهِ فِي الْبَرْزَخِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ فَارَقَتْه وَتَجَرَّدَتْ عَنْهُ فَإِنَّهَا لَمْ تُفَارِقْه فِرَاقًا كُلِّيًّا بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهَا إِلَيْهِ الْتِفَاتٌ أَلْبَتَّة، فَإِنَّهُ وَرَدَ رَدُّهَا إِلَيْهِ وَقْتَ سَلَامِ الْمُسَلِّمِ، وَوَرَدَ أَنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ، وَهَذَا الرَّدُّ إِعَادَة خَاصَّة، لَا يُوجِبُ حَيَاة الْبَدَنِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَة.

الْخَامِسُ: تَعَلُّقُهَا بِهِ يَوْمَ بَعْثِ الْأَجْسَادِ، وَهُوَ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ تَعَلُّقِهَا بِالْبَدَنِ، وَلَا نِسْبَةَ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعَلُّقِ إِلَيْهِ، إِذْ هُوَ تَعَلُّقٌ لَا يَقْبَلُ الْبَدَنُ مَعَهُ مَوْتًا وَلَا نَوْمًا وَلَا فَسَادًا، فَالنَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ.

فَتَأَمّل هَذَا يُزِح عَنْكَ إِشْكَالَاتٍ كَثِيرَةً.

الشيخ: وهو كما قال الشارح؛ فإنَّ هذا التَّعلق كله صحيح، فإنَّ الروح لها في الجسد خمسة أنواعٍ من التَّعلق:

التَّعلق الأول: تعلُّقها به حين وجوده في بطن أمه -حركته في بطن أمه- فإنَّ فيه روحًا بها صارت حركته في بطن أمه.

والتَّعلق الثاني: بعد الانفصال، بعد الولادة، وهذا التَّعلق يقوى ويشتد مع الولد ببدنه وقوته.

والتَّعلق الثالث: تعلُّقها في النوم حين المنام، فإنَّ لها تعلقًا به، فهو ليس بميتٍ، وإن كان النومُ أخا الموت، لكنه موت أخصّ، فلها تعلق به، وبه بقيت حياته حتى تعود إليه.

والتَّعلق الرابع: تعلُّقها في البرزخ بعد الموت، فإنها تُعاد إليه عودةً خاصةً حتى يُسأل عن ربِّه، وعن دينه، ويسمع قرع نعالهم إذا ولوا، ويحسّ بالنعيم والعذاب، فهذا تعلق، الجسد له نصيبه، والروح لها نصيبها، وفي الحديث: ما من مسلمٍ يُسلِّم عليَّ إلا ردَّ اللهُ إليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام هذا له تعلُّق، وجاء هذا المعنى في بعض الرِّوايات: ما من عبدٍ يزور أخًا له كان يعرفه في الدنيا يُسلِّم عليه إلا ردَّ الله عليه روحَه حتى يردَّ عليه السلام، وإن كان فيه ضعف، لكن المقصود أنَّ له تعلقًا.

والخامس: التَّعلق الأخير، التَّعلق الأكمل، وهو تعلُّقها به في الجنة أو النار بعد البعث والنُّشور، وهذا أكمل التَّعلقات، إذ هو تعلق ليس بعده انفصال، وليس بعده موت، بل هو تعلق مستمر أبد الآباد، إما في الجنة، وإما في النار، وهذا أكمل التَّعلقات وأتمها.

.............

وَلَيْسَ السُّؤَالُ فِي الْقَبْرِ لِلرُّوحِ وَحْدَهَا -كَمَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ- وَأَفْسَدُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لِلْبَدَنِ بِلَا رُوحٍ! وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَة تَرُدُّ الْقَوْلَيْنِ.

وَكَذَلِكَ عَذَابُ الْقَبْرِ يَكُونُ لِلنَّفْسِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَة، تَنْعَمُ النَّفْسُ وَتُعَذَّبُ مُفْرَدَةً عَنِ الْبَدَنِ وَمُتَّصِلَةً بِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ هُوَ عَذَابُ الْبَرْزَخِ، فَكُلُّ مَنْ مَاتَ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ نَالَه نَصِيبُه مِنْهُ، قُبِرَ أَوْ لَمْ يُقْبَرْ، أَكَلَتْه السِّبَاعُ، أَوِ احْتَرَقَ حَتَّى صَارَ رَمَادًا وَنُسِفَ فِي الْهَوَاءِ، أَوْ صُلِبَ، أَوْ غَرِقَ فِي الْبَحْرِ -وَصَلَ إِلَى رُوحِه وَبَدَنِه مِنَ الْعَذَابِ مَا يَصِلُ إِلَى الْمَقْبُورِ.

وَمَا وَرَدَ مِنْ إِجْلَاسِه وَاخْتِلَافِ أَضْلَاعِه وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَيَجِبُ أَنْ يُفْهَمَ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ مُرَادُه مِنْ غَيْرِ غُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، فَلَا يُحَمَّلُ كَلَامُه مَا لَا يَحْتَمِلُه، وَلَا يُقَصَّرُ به عَنْ مُرَادِ مَا قَصَدَه مِنَ الْهُدَى وَالْبَيَانِ، فَكَمْ حَصَلَ بِإِهْمَالِ ذَلِكَ وَالْعُدُولِ عَنْهُ مِنَ الضَّلَالِ وَالْعُدُولِ عَنِ الصَّوَابِ مَا لَا يَعْلَمُه إِلَّا اللَّهُ، بَلْ سُوءُ الْفَهْمِ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَصْلُ كُلِّ بِدْعَةٍ وَضَلَالَةٍ نَشَأَتْ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَصْلُ كُلِّ خَطَأٍ فِي الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ أُضِيفَ إِلَيْهِ سُوءُ الْقَصْدِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

الشيخ: والمقصود من هذا أنَّ أصل كل شرٍّ في الوجود من بدعةٍ ومعصيةٍ وغير ذلك، أصلها سُوء الفهم عن الله، وسُوء البصيرة، وقلة العلم، وإذا انضمَّ إلى هذا اتِّباع الهوى –يعني: سُوء القصد- تضاعف الشرُّ، وعظم الشرُّ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم:23]، هذا داء الكفار: اتباع الظن، وقلة العلم، وقلة البصيرة، وسوء الفهم: وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ هذا سوء القصد.

فبناء كل شرٍّ وفسادٍ في الدنيا والآخرة على هذين الأمرين: على قلَّة العلم وسُوء الفهم، وعلى سوء القصد، وعدم إخلاص القصد لله وحده ، فإذا اجتمع للإنسان قلَّة علمٍ مع اتباع الهوى تم فساده، نسأل الله العافية، وتمَّت الخسارة، وإذا رُزق العبدُ المعرفةَ التامَّة بما قاله الله ورسوله، والفهم الصحيح بما قاله الله ورسوله، مع حُسن القصد، ومع الرغبة في الخير، والبُعد عن الهوى؛ كان ذلك أقرب إلى السلامة، وأقرب إلى حُسن العاقبة.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الدُّورَ ثَلَاثَة: دَارُ الدُّنْيَا، وَدَارُ الْبَرْزَخِ، وَدَارُ الْقَرَارِ.

وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ دَارٍ أَحْكَامًا تَخُصُّهَا، وَرَكَّبَ هَذَا الْإِنْسَانَ مِنْ بَدَنٍ وَنَفْسٍ، وَجَعَلَ أَحْكَامَ الدُّنْيَا عَلَى الْأَبْدَانِ، وَالْأَرْوَاحُ تَبَعٌ لَهَا، وَجَعَلَ أَحْكَامَ الْبَرْزَخِ عَلَى الْأَرْوَاحِ، وَالْأَبْدَانُ تَبَعٌ لَهَا، فَإِذَا جَاءَ يَوْمُ حَشْرِ الْأَجْسَادِ وَقِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ؛ صَارَ الْحُكْمُ وَالنَّعِيمُ وَالْعَذَابُ عَلَى الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ جَمِيعًا.

فَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا الْمَعْنَى حَقَّ التَّأَمُّلِ، ظَهَرَ لَكَ أَنَّ كَوْنَ الْقَبْرِ رَوْضَة مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّة أَوْ حُفْرَة مِنْ حُفَرِ النَّارِ -مُطَابِقٌ لِلْعَقْلِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَبِذَلِكَ يَتَمَيَّزُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ غَيْرِهِمْ.

الشيخ: وبهذا يتبين أنَّ الروح والجسد مُصطحبين، لكن تعلّق الروح بالبدن في الدنيا أعظم من تعلُّقها بالبدن في البرزخ، والنعيم والعذاب والأحكام في الدنيا أكثر تعلّقًا بالبدن، وفي البرزخ أكثر تعلقًا بالروح، فهي تُعذَّب وتُنعم أكثر، والبدن له نصيبه، وأما في الآخرة فيتعلق الأمر بهما جميعًا، النعيم والعذاب يتعلق بهما جميعًا تعلُّقًا كاملًا، فإن الروح تجتمع بالبدن ولا تُفارقه أبدًا؛ لا نوم، ولا موت، فالروح مصاحبة للبدن في الآخرة مصاحبةً كاملةً؛ لأنه ليس هناك نوم، وليس هناك سكر، وليس هناك موت، فتعلق الروح بالبدن في الآخرة تعلق كامل تامّ، أما في الدنيا فيعتريه النوم، ويعتريه السُّكْر، ويعتريه أشياء أخرى، ثم الموت بعد ذلك، وفي البرزخ تنفصل الروح، وتكون للعذاب والنعيم أكثر، ويكون نصيبُ الجسد أقل، وفي الآخرة يكون النَّعيم والعذاب لهما جميعًا كاملًا تامًّا، واتصال الروح بالجسد تامٌّ يوم القيامة، وفي الآخرة في الجنة وفي النار، فليس هناك موت، ولا نوم، ولا غير ذلك مما يفصل الروح عن الجسد، بل اتِّصالها به اتِّصال تام يوم القيامة، وفي الجنة أو في النار، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّارَ التي في الْقَبْرِ وَالنَّعِيمَ لَيْسَت مِنْ جِنْسِ نَارِ الدُّنْيَا وَلَا نَعِيمِهَا، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَحْمِي عَلَيْهِ التُّرَابَ وَالْحِجَارَة التي فَوْقَه وَتَحْتَه حتى تكُونَ أَعْظَمَ حَرًّا مِنْ جَمْرِ الدُّنْيَا، وَلَوْ مَسَّهَا أَهْلُ الدُّنْيَا لَمْ يُحِسُّوا بِهَا.

الشيخ: له شاهد في الدنيا، له شاهد في الحياة؛ الإنسان قد يُنعم في قبره ويُعذب ومَن حوله لا يشعر بشيءٍ، وقد يكون الميتُ بين الناس في نعيمٍ أو في عذابٍ لم يُدفن، ولا يشعر به الناس، وهكذا في الحياة الدنيا؛ الإنسان في نومه قد يُعذَّب في النوم، ويُنعم في النوم، ومَن حوله لا يشعر به، وهو في عذابٍ في نومه، فيه أشياء كثيرة مُؤذية في نومه، فإذا استيقظ من نومه وجد راحةً عظيمةً من ذلك العذاب في النوم، مما يعرض عليه، ومما يُؤذى به في النوم، وقد يكون في نعيمٍ في النوم: في راحةٍ وسرورٍ وأحلامٍ طيبةٍ، إلى غير هذا، ومَن حوله لا يشعر به، فكيف بحال الآخرة؟!

فإنَّ البرزخ أمره لا يُقارن ما في الدنيا، ولا يُداني ما في الدنيا، وليس بشرط عذابه أو نعيمه في البرزخ أن يعلمه جيرانه أو الناس، لا، هذا شيء خاصٌّ، الله جلَّ وعلا يُرسله إلى الروح، ويُرسله إلى الجسد، وإن كان أهلُ الدنيا لا يشعرون بذلك، ولا مَن حوله من الأحياء، ولا مَن حوله من الأموات.

بَلْ أَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَيْنِ يُدْفَنُ أَحَدُهُمَا إِلَى جَنْبِ صَاحِبِه، وَهَذَا فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، وَهَذَا فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّة، لَا يَصِلُ مِنْ هَذَا إِلَى جَارِه شَيْءٌ مِنْ حَرِّ نَارِه، وَلَا مِنْ هَذَا إِلَى جَارِه شَيْءٌ مِنْ نَعِيمِه.

وَقُدْرَة اللَّهِ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْجَبُ، وَلَكِنَّ النُّفُوسَ مُولَعَة بِالتَّكْذِيبِ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ عِلْمًا.

وَقَدْ أَرَانَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِه مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا بِكَثِيرٍ، وَإِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُطْلِعَ عَلَى ذَلِكَ بَعْضَ عِبَادِه أَطْلَعَه، وَغَيَّبَه عَنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ أَطْلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ لَزَالَتْ حِكْمَةُ التَّكْلِيفِ وَالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَلَمَا تَدَافَنَ النَّاسُ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ: لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَا أَسْمَعُ.

الشيخ: علَّق عليه بشيءٍ؟

الطالب: نعم، قال: أخرجه مسلم عن أبي سعيدٍ، وعن أنسٍ، لكن دون قوله: ما أسمع.

أخرجه مسلم في "الجنة وصفة نعيمها وأهلها"، باب "عرض مقعد الناس من الجنة أو النار عليه"، وأحمد من حديث زيد بن ثابت، وفي الباب عن أنس بن مالك ...... وأحمد والنَّسائي.

الشيخ: وهذا من رحمة الله أنه لم يُسمعنا عذابَ المعذَّبين، ولو أسمع الناس عذاب المعذَّبين في قبورهم لما تهنؤوا بنومٍ ولا بعيشٍ، ولتكدرت عليهم هذه الدنيا إذا سمعوا عذابَ المعذَّبين من آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وقراباتهم وغيرهم، ولكن من رحمة الله أنَّ الله أخفى علينا ذلك، وهذا من إحسانه .

س: زيادة ما أسمع ليست ..؟

ج: كأنها ليست الرواية على ما ذكر.

وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْحِكْمَةُ مُنْتَفِيَةً فِي حَقِّ الْبَهَائِمِ سَمِعَته وَأَدْرَكته.

 

س: ثبوت ذلك بالنسبة للبهائم عفا الله عنك؟

ج: لأجل الرِّوايات المعروفة: فيسمعه كل شيءٍ إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسانُ لصعق، فيدل على أنهم يسمعون، ما استثنى إلا الإنسان، وفي روايةٍ: إلا الثَّقلين.

ويُذكر أنَّ أبا العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سأله بعضُ الناس فقالوا: بعض الخيل يُصيبها مرض في بطونها، فيذهبون بها إلى قبورٍ معروفةٍ فيُصيبها إسهال، وتُلقي ما في بطونها، ويظنون أنَّ هذا من بركة هذه القبور، قال: لا، هذه القبور من قبور النَّصارى وكذا وكذا مُعذَّبون، فإذا ذهبتُم بها إليهم وسمعت تلك الأهوال في القبور أصابها ما أصابها من إسهالها وإخراج ما في بطونها من الروعة والخوف مما تسمع؛ فلهذا يُصيبها ما يُصيبها من إخراج ما في بطونها، لا لأنهم مُباركون، بل لأنهم مُعذَّبون.

وأبلغ من هذا الحديث الصحيح: يسمعها كل شيءٍ إلا الثقلين، وفي لفظٍ: إلا الإنسان.

س: بعض الحيوانات تعيش في المقابر؟

ج: ما كل مقبرةٍ مُعذَّبة.

س: عدم ورود لفظة: ما أسمع في مسلم، صحَّتها؟

ج: هذا يحتاج إلى تأمّل، يُراجع.

س: الحكايات والأخبار التي تُروى في مشاهدة بعض الناس لشيءٍ من النَّعيم؟

ج: هذا واقع، ذكره ابنُ رجبٍ رحمه الله وغيره، ذكره ابنُ رجب في "أهوال القبور"، والقرطبي في "التذكرة"، والسَّفاريني في "البحور الزاخرة"، وغيرهم ذكروا أشياء من هذا كثيرة، ابن رجب ذكر من هذا أشياء في "أهوال القبور"، أطلع الله الناس على ما يشاء ؛ عبرةً، للعظة والتَّذكر، مثلما أطلع اللهُ نبيَّه ﷺ على القبرين، قال: إنهما ليُعذَّبان، وما يُعذَّبان في كبيرٍ، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنَّميمة، هذا مما أطلع عليه النبيَّ ﷺ، وفي غلام -مولاه كركرة- قال: إنَّ الشَّملة التي غلَّها لتشتعل عليه نارًا، وأشياء من هذا جاءت عن النبي ﷺ.

..............

وَلِلنَّاسِ فِي سُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ: هَلْ هُوَ خَاصٌّ بِهَذِه الْأُمَّة أَمْ لَا؟ ثَلَاثَة أَقْوَالٍ: الثَّالِثُ: التَّوَقُّفُ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ؛ مِنْهُمْ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فَقَالَ: وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّه قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، مِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيه: "تُسْأَلُ"، وَعَلَى هَذَا اللَّفْظِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأُمَّة قَدْ خُصَّتْ بِذَلِكَ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُقْطَعُ بِهِ، وَيَظْهَرُ عَدَمُ الِاخْتِصَاصِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَكَذَلِكَ اخْتُلِفَ فِي سُؤَالِ الْأَطْفَالِ أَيْضًا، وَهَلْ يَدُومُ عَذَابُ الْقَبْرِ أَوْ يَنْقَطِعُ؟

جَوَابُه أَنَّهُ نَوْعَانِ:

مِنْهُ مَا هُوَ دَائِمٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، وَكَذَا في حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي قِصَّة الْكَافِرِ: ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَى مَقْعَدِه فِيهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَة، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي بَعْضِ طُرُقِه.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُدَّة ثُمَّ يَنْقَطِعُ، وَهُوَ عَذَابُ بَعْضِ الْعُصَاة الَّذِينَ خَفَّتْ جَرَائِمُهُمْ، فَيُعَذَّبُ بِحَسَبِ جُرْمِه، ثُمَّ يُخَفَّفُ عَنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ ذكره في الْمُمَحِّصَاتِ الْعَشْرة.

الشيخ: وهذه المسألة القطع فيها محل نظر؛ لأنَّ عذاب القبر حقٌّ، ونعيم القبر حقٌّ، وأما كون العذاب مُستمرًّا حتى يُبعث يوم القيامة فهذا يحتاج إلى دليلٍ واضحٍ؛ فإنَّ قوله سبحانه: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا قد يظهر منه خلاف المدعى، ما قال: النار يُعرضون عليها دائمًا، بل غُدُوًّا وَعَشِيًّا؛ فيظهر من ذلك أنَّ هناك فترات في البرزخ، فإذا كان آل فرعون لهم فترات فغيرهم من باب أولى.

وليس في أخبار منكر ونكير ما هو صريح في ذلك في حديث: يُفتح له باب إلى النار، فيأتيه من سمومها وعذابها ليس بالصريح بأنَّ ذلك مستمر حتى يبعثه الله، بل قد يحتمل أن يكون هناك فترات.

فالحاصل أنَّ علينا أن نُؤمن بأنَّ عذاب القبر حقٌّ، ونعيمه حق، وأما كونه قد يفتر بعض الشيء عن بعض الناس أو لا يفتر من عذاب القبر، هذا أمر إلى الله ، هو الذي يعلم الحقائق جلَّ وعلا، فعذاب القبر حق، ونعيمه حق بالنص والإجماع، أما استمرار العذاب للعُصاة أو للكفار دائمًا حتى يُبعثون، لا يفتر عنهم في القبر شيء، هذا محل نظرٍ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مُسْتَقَرِّ الْأَرْوَاحِ مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَة.

الشيخ: وأما الأطفال كذلك، فالأقرب في الأطفال أنهم لا يُمتحنون؛ لأنهم غير مُكلَّفين، فأقرب الأقوال في هذا أنهم لا يُمتحنون؛ لأنَّ الامتحان لأهل التَّكليف الذين لهم عذاب وعقاب، أما هؤلاء فغير مُكلَّفين، وليسوا من أهل التكليف، فالأقرب والله أعلم أنهم غير ممتحنين.

س: أطفال المُشركين والمُسلمين؟

ج: أطفال المؤمنين تبع لآبائهم في الجنة، وأطفال الكفار مثلما قال فيهم النبيُّ ﷺ: الله أعلم بما كانوا عاملين، يمتحنون يوم القيامة.

س: سؤال منكرٍ ونكير هل هو خاصٌّ بالأمة؟

ج: هذا محل نظر، والأقرب أنه لهذه الأمة؛ قال النبي ﷺ: إنها تُبتلى في قبورها، هذا ظاهره أنه خاصٌّ بهذه الأمة، قوله: إنَّكم تُمتحنون في قبوركم قريبًا من فتنة المسيح الدجال، ظاهره أنه خاصٌّ بهذه الأمة.

س: أمة الدَّعوة؟

ج: عام، أمة الدعوة، وأمة الإجابة جميعًا، فهو عام: المؤمن والكافر.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مُسْتَقَرِّ الْأَرْوَاحِ مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَة:

فَقِيلَ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّة، وَأَرْوَاحُ الْكَافِرِينَ فِي النَّارِ.

وَقِيلَ: إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ بِفِنَاءِ الْجَنَّة عَلَى بَابِهَا، يَأْتِيهِمْ مِنْ رَوْحِهَا وَنَعِيمِهَا وَرِزْقِهَا.

وَقِيلَ: عَلَى أَفْنِيَة قُبُورِهِمْ.

وَقَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ الرُّوحَ مُرْسَلَة، تَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَتْ.

وَقَالَتْ طَائِفَة: بَلْ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ اللَّهِ ، وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ.

وَقِيلَ: إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَابِيَة مِنْ دِمَشْقَ، وَأَرْوَاحَ الْكَافِرِينَ بِبَرَهُوتَ -بِئْرٍ بِحَضْرَمَوْتَ!

وَقَالَ كَعْبٌ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي عِلِّيِّينَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَة، وَأَرْوَاحُ الْكَافِرِينَ فِي سِجِّينَ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَة تَحْتَ خَدِّ إِبْلِيسَ!

وَقِيلَ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ بِبِئْرِ زَمْزَمَ، وَأَرْوَاحُ الْكَافِرِينَ بِبِئْرِ بَرَهُوتَ.

وَقِيلَ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ يَمِينِ آدَمَ، وَأَرْوَاحُ الْكُفَّارِ عَنْ شِمَالِه.

قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ: مُسْتَقَرُّهَا حَيْثُ كَانَتْ قَبْلَ خَلْقِ أَجْسَادِهَا.

وَقَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّة، وَأَرْوَاحُ عَامَّة الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَفْنِيَة قُبُورِهِمْ.

وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ كَطَيْرٍ خُضْرٍ مُعَلَّقَة بِالْعَرْشِ، تَغْدُو وَتَرُوحُ إِلَى رِيَاضِ الْجَنَّة، تَأْتِي رَبَّهَا كُلَّ يَوْمٍ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ.

الشيخ: هذا حتى يردَّها الله إلى أجسادها، فأرواح المؤمنين في الجنَّة كما جاء به النص الصحيح؛ في الحديث أنَّ الشهداء أرواحهم في الجنة تسرح حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش. رواه مسلم. وأرواح المؤمنين طائر يسرح في الجنة. كما رواه أحمد بإسنادٍ جيدٍ عن الشافعي، عن مالك بإسنادٍ لا بأس به، صحيح.

وكذلك ظاهر الأخبار العامَّة الدالة على أنهم في نعيمٍ، وأنَّ الكفار في عذابٍ، وهكذا عموم قوله جلَّ وعلا: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۝ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13- 14]، كلها دالة على أنَّ أرواح المؤمنين في الجنة وفي نعيمٍ، وأرواح الكفار في النار، حتى تردَّ إلى أجسادها، هذا هو القول الأول، وهو الصواب.

س: قوله: تسلم عليه؟

ج: هذا قول ما عليه دليل.

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مُسْتَقَرُّهَا الْعَدَمُ الْمَحْضُ.

وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ النَّفْسَ عَرَضٌ مِنْ أَعْرَاضِ الْبَدَنِ، كَحَيَاتِه وَإِدْرَاكِهِ!

وَقَوْلُهُمْ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَقَالَتْ فِرْقَة: مُسْتَقَرُّهَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَبْدَانٌ أُخَرُ تُنَاسِبُ أَخْلَاقَهَا وَصِفَاتِهَا الَّتِي اكْتَسَبَتْهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا، فَتَصِيرُ كُلُّ رُوحٍ إِلَى بَدَنِ حَيَوَانٍ يُشَاكِلُ تِلْكَ الرُّوحَ!

وَهَذَا قَوْلُ التَّنَاسُخِيَّة مُنْكِرِي الْمَعَادِ، وَهُوَ قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كُلِّهِمْ.

وَيَضِيقُ هَذَا الْمُخْتَصَرُ عَنْ بَسْطِ أَدِلَّة هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالْكَلَامِ عَلَيْهَا.

وَيَتَلَخَّصُ مِنْ أَدِلَّتِهَا: أَنَّ الْأَرْوَاحَ فِي الْبَرْزَخِ مُتَفَاوِتَة أَعْظَمَ تَفَاوُتٍ:

فَمِنْهَا: أَرْوَاحٌ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَهِيَ أَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُه، وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ.

وَمِنْهَا: أَرْوَاحٌ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَسْرَحُ فِي الْجَنَّة حَيْثُ شَاءَتْ، وَهِيَ أَرْوَاحُ بَعْضِ الشُّهَدَاءِ، لَا كُلِّهِمْ، بَلْ مِنَ الشُّهَدَاءِ مَنْ تُحْبَسُ رُوحُه عَنْ دُخُولِ الْجَنَّة لِدَيْنٍ عَلَيْهِ؛ كَمَا فِي "الْمُسْنَدِ" عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ جَحْشٍ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لِي إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: الْجَنَّة، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: إِلَّا الدَّيْنَ، سَارَّنِي بِهِ جِبْرِيلُ آنفًا.

الشيخ: وهذا شيء مُؤقت، حبس الروح في الدَّين شيء مُؤقت، ثم يزول بقضاء الدَّين، المقصود أنَّ الحديث الصحيح جاء بأنَّ أرواح الشُّهداء في الجنة، شهداء المعركة، الشهداء القتلى في سبيل الله في أجواف طيرٍ خضرٍ، عوَّضهم الله عن أجسادهم بهذه الطيور الخضر التي تحمل أرواحهم وتسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تعود إلى قناديل مُعلقة في العرش، وأما أرواح المؤمنين فهي نفسها طائر، يعني: جعلها الله جلَّ وعلا في شكل طائرٍ يعلق بشجر الجنة، يعني: يأكل منها، ويرعى منها، حتى يرده الله إلى جسده.

س: هذا ما هو في الصحيح، الحديث الأخير؟

ج: لا، هذا رواه أحمد وجماعة من طريق الشافعي عن مالك.

س: لا، الحديث الأخير حديث الدَّين؟

ج: ............

الطالب: نسبه إلى أحمد، وقال في الحاشية: صحيح.

وَمِنَ الْأَرْوَاحِ مَنْ يَكُونُ مَحْبُوسًا عَلَى بَابِ الْجَنَّة، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: رَأَيْتُ صَاحِبَكُمْ مَحْبُوسًا عَلَى بَابِ الْجَنَّة.

الشيخ: كل هذه أشياء عارضة، والأصل هو الأول.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مَحْبُوسًا في قَبْرِه.

وَمِنْهُمْ مَنْ فِي الْأَرْضِ.

وَمِنْهَا أَرْوَاحٌ فِي تَنُّورِ الزُّنَاة وَالزَّوَانِي، وَأَرْوَاحٌ فِي نَهْرِ الدَّمِ تَسْبَحُ فِيهِ وَتُلْقَمُ الْحِجَارَة، كُلُّ ذَلِكَ تَشْهَدُ لَهُ السُّنَّةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا الْحَيَاة الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا الشَّهِيدُ وَامْتَازَ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ [البقرة:154] فَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِالله بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ –يَعْنِي: يَوْمَ أُحُدٍ- جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّة، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إلى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُظلَّلَة فِي ظِلِّ الْعَرْشِ. الْحَدِيثَ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَبِمَعْنَاه فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الشيخ: قال عليه شيئًا؟

الطالب: نعم، قال: صحيح، وأخرجه الحاكم، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذَّهبي.

............

الطالب: أخرجه أحمد وأبو داود في "الجهاد" باب "فضل الشهادة"، وتمامه: فلما وجدوا طيبَ مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: مَن يُبلغ إخواننا عنا أنَّا أحياء في الجنة نُرزق؛ لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عند الحرب؟ فقال الله سبحانه: أنا أُبلغهم عنكم، قال: فأنزل الله: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلى آخر الآية.

وأخرجه من حديث ابن مسعودٍ: مسلم في "الإمارة" باب "بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون" ......

الشيخ: ............

فَإِنَّهُمْ لَمَّا بَذَلُوا أَبْدَانَهَمْ لِلَّهِ حَتَّى أَتْلَفَهَا أَعْدَاؤُه فِيهِ، أَعَاضَهُمْ مِنْهَا فِي الْبَرْزَخِ أَبْدَانًا خَيْرًا مِنْهَا، تَكُونُ فِيهَا إلى يَوْمِ الْقِيَامَة، وَيَكُونُ نَعِيمُهَا بِوَاسِطَة تِلْكَ الْأَبْدَانِ أَكْمَلَ مِنْ تَنَعُّمِ الْأَرْوَاحِ الْمُجَرَّدَة عَنْهَا؛ وَلِهَذَا كَانَتْ نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ فِي صُورَة طَيْرٍ، أَوْ كَطَيْرٍ، وَنَسَمَةُ الشَّهِيدِ فِي جَوْفِ طَيْرٍ.

وَتَأَمَّلْ لَفْظَ الْحَدِيثَيْنِ؛ فَفِي الْمُوَطَّأِ: أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ نَسَمَةَ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلَقُ في شَجَرِ الْجَنَّة، حَتَّى يُرْجِعَه اللَّهُ إِلَى جَسَدِه يَوْمَ يَبْعَثُه.

الشيخ: علَّق عليه؟

الطالب: قال: صحيح، وقد مضى.

طالب آخر: علَّق عليه، قال: أخرجه النَّسائي في "الجنائز" باب "أرواح المؤمنين"، وابن ماجه في "الزهد" باب "ذكر القبر والبلى"، ومالك في "الجنائز" باب "جامع الجنائز"، وأحمد من طريق عبدالرحمن بن كعب، عن أبيه كعب بن مالك، بلفظ: إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يُرجعه اللهُ إلى جسده يوم يبعثه، وإسناده صحيح.

فَقَوْلُهُ: نَسَمَة الْمُؤْمِنِ تَعُمُّ الشَّهِيدَ وَغَيْرَهُ، ثُمَّ خَصَّ الشَّهِيدَ بِأَنْ قَالَ: هِيَ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ صَدَقَ عَلَيْهَا أَنَّهَا طَيْرٌ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، فَنَصِيبُهُمْ مِنَ النَّعِيمِ فِي الْبَرْزَخِ أَكْمَلُ مِنْ نَصِيبِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَمْوَاتِ عَلَى فُرُشِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، فَلَهُ نَعِيمٌ يَخْتَصُّ بِهِ لَا يُشَارِكُه فِيهِ مَنْ هُوَ دُونَه، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا رُوِي فِي السُّنَنِ، وَأَمَّا الشُّهَدَاءُ فَقَدْ شُوهِدَ مِنْهُمْ بَعْدَ مُدَدٍ مِنْ دَفْنِه كَمَا هُوَ لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَيُحْتَمَلُ بَقَاؤُه كَذَلِكَ فِي تُرْبَتِه إِلَى يَوْمِ مَحْشَرِه، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَبْلَى مَعَ طُولِ الْمُدَّة، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَكَأَنَّه وَاللَّهُ أَعْلَمُ كُلَّمَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ أَكْمَلَ، وَالشَّهِيدُ أَفْضَلَ، كَانَ بَقَاءُ جَسَدِه أَطْوَلَ.

الشيخ: هذه الأمور ليس لها ضابط معروف من جهة السنة، وهي بقاء الأجساد في القبور، هذا ليس له ضابط معروف من جهة السنة، قد تبقى طويلًا، وقد تبقى قليلًا أجساد الشُّهداء وغيرهم، إنما جاء الحديثُ من حديث أوس بن أوس، عن النبي ﷺ أنه قال: إنَّ الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، هذا الذي رواه أهلُ السنن، ولا بأس بإسناده في الجملة، ولا يُستغرب أن يختص الأنبياءُ بهذا الشيء، وأما غيرهم فقد يبقى مدةً طويلةً، وقد يبلى، والقاعدة أنَّ ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب: كل شيءٍ من ابن آدم يبلى إلا عجب الذَّنب، هذا الحديث معروف بالنصوص، وهو الواقع أيضًا، وقد تتأخّر بعض الأجساد ولا تبلى، كما في قصة الشُّهداء الذين عُثر عليهم في أول خلافة معاوية سنة ثلاث وأربعين، فوُجدوا على حالهم، أجسادهم باقية على حالهم، لم يتغير منها شيء، مثل: قصة عبدالله بن عمرو والد جابر، لما نقله من محلِّه ولم يتغير منه إلا شعيرات حول أذنه، وأخبرني مَن لا أتَّهم أنه شاهد أجسادًا باقيةً على حالها في قبورها لم تتغير بعد دفنٍ طويلٍ، وهذا لله فيه حكمة .

والمهم أنَّ المؤمنين أرواحًا وأجسادًا مُنعمون تنعيمًا لا يعقله مَن يُشاهده، والكفار مُعذَّبون وإن لم يطلع الناسُ على عين عذابهم، وقد أخفاه الله عنهم، هذا هو الأمر المقطوع به، المعلوم من الدين بالضَّرورة، فأولياء الله ورسوله وأهل طاعته في نعيمٍ في الدنيا والآخرة، وأعداؤهم في شقاءٍ وشرٍّ وعذابٍ في الدنيا والآخرة، وإن لم يشعر بذلك مَن جاورهم في مساكنهم وقبورهم.

الشيخ: علَّق عليه؟

الطالب: يقول: أخرجه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن ماجه من حديث أوس بن أوس، وإسناده صحيح؛ صححه ابنُ خزيمة وابن حبان والحاكم، ووافقه الذهبي، وحسنه المنذري والحافظ ابن حجر، وصححه النووي في "الأذكار"، وله شاهد من حديث أبي الدَّرداء عند ابن ماجه، وآخر من حديث أبي أمامة عند البيهقي. انتهى.

قَوْلُهُ: (وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَالْعَرْضِ وَالْحِسَابِ، وَقِرَاءَة الْكِتَابِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ).

الْإِيمَانُ بِالْمَعَادِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَالْعَقْلُ وَالْفِطْرَة السَّلِيمَة، فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ فِي كِتَابِه الْعَزِيزِ، وَأَقَامَ الدَّلِيلَ عليه، وَرَدَّ على مُنْكِرِيه فِي غَالِبِ سُوَرِ الْقُرْآنِ.

الشيخ: ............

وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عليهم السلام كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِالرَّبِّ عَامٌّ فِي بَنِي آدَمَ، وَهُوَ فِطْرِي، كُلُّهُمْ يُقِرُّ بِالرَّبِّ، إِلَّا مَنْ عَانَدَ كَفِرْعَوْنَ، بِخِلَافِ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَإِنَّ مُنْكِرِيه كَثِيرُونَ، وَمُحَمَّدٌ ﷺ لَمَّا كَانَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَ قَدْ بُعِثَ هُوَ وَالسَّاعَة كَهَاتَيْنِ، وَكَانَ هُوَ الْحَاشِر الْمُقَفِّي -بَيَّنَ تَفْصِيلَ الْآخِرَة بَيَانًا لَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ؛ وَلِهَذَا ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَة وَنَحْوِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يُفْصِحْ بِمَعَادِ الْأَبْدَانِ إِلَّا مُحَمَّدٌ ﷺ، وَجَعَلُوا هَذا حُجَّةً لَهُمْ فِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّخْيِيلِ وَالْخِطَابِ الْجُمْهُورِي!

وَالْقُرْآنُ بَيَّنَ مَعَادَ النَّفْسِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَمَعَادَ الْبَدَنِ عِنْدَ الْقِيَامَة الْكُبْرَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.

وَهَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ الْقِيَامَة الْكُبْرَى، وَيُنْكِرُونَ مَعَادَ الْأَبْدَانِ، وَيَقُولُ مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ: إِنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ إِلَّا مُحَمَّدٌ ﷺ عَلَى طَرِيقِ التَّخْيِيلِ! وَهَذَا كَذِبٌ، فَإِنَّ الْقِيَامَةَ الْكُبْرَى هِيَ مَعْرُوفَة عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ آدَمَ إِلَى نُوحٍ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.

وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ حِينِ أُهْبِطَ آدَمُ، فَقَالَ تَعَالَى: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ۝ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف:24- 25]، وَلَمَّا قَالَ إِبْلِيسُ اللَّعِينُ: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ۝ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ۝ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [الحجر:36- 38].

وَأَمَّا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ۝ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا [نوح:17- 18].

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82] إِلَى آخِرِ الْقِصَّة، وَقَالَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41]، وَقَالَ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى الآية [البقرة:260].

وَأَمَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَاجَاه: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ۝ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:15- 16].

بَلْ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ كَانَ يَعْلَمُ الْمَعَادَ، وَإِنَّمَا آمَنَ بِمُوسَى، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ۝ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ إلى قوله: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ إِلَى قَوْلِهِ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:32- 46]، وَقَالَ مُوسَى: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156].

وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي قِصَّة الْبَقَرَة: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73].

وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ أَنَّهُمْ إِذَا قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر:71]، وَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْ أَصْنَافِ الْكُفَّارِ الدَّاخِلِينَ جَهَنَّمَ أَنَّ الرُّسُلَ أَنْذَرَتْهُمْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا، فَجَمِيعُ الرُّسُلِ أَنْذَرُوا بِمَا أَنْذَرَ به خَاتَمُهُمْ مِنْ عُقُوبَاتِ الْمُذْنِبِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فَعَامَّة سُوَرِ الْقُرْآنِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ يُذْكَرُ ذَلِكَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.

وَأَمَرَ نَبِيَّه أَنْ يُقْسِمَ بِهِ عَلَى الْمَعَادِ، فَقَالَ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ الآيات [سبأ:3]، وَقَالَ تَعَالَى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس:53]، وَقَالَ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7].

وَأَخْبَرَ عَنِ اقْتِرَابِهَا فَقَالَ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1]، سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ۝ لِلْكَافِرِينَ إِلَى أَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ۝ وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج:1- 7].

وَذَمَّ الْمُكَذِّبِينَ بِالْمَعَادِ فَقَالَ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام:31]، أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [الشورى:18]، بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [النمل:66]، وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا إِلَى أَنْ قَالَ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ [النحل:38- 39]، إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [غافر:59]، وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ۝ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ۝ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء:97- 99]، وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ۝ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ۝ أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ۝ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:49- 52].

فَتَأَمَّلْ مَا أُجِيبُوا بِهِ عَنْ كُلِّ سُؤَالٍ على التَّفْصِيلِ:

فَإِنَّهُمْ قَالُوا أَوَّلًا: أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا!

فَقِيلَ لَهُمْ فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ: إِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا خَالِقَ لَكُمْ وَلَا رَبَّ لَكُمْ، فَهَلَّا كُنْتُمْ خَلْقًا لَا يُفْنِيهِ الْمَوْتُ، كَالْحِجَارَة وَالْحَدِيدِ وَمَا هُوَ أَكْبَرُ فِي صُدُورِكُمْ مِنْ ذَلِكَ؟!

فَإِنْ قُلْتُمْ: كُنَّا خَلْقًا عَلَى هَذِهِ الصِّفَة الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْبَقَاءَ. فَمَا الَّذِي يَحُولُ بَيْنَ خَالِقِكُمْ وَمُنْشِئِكُمْ وَبَيْنَ إِعَادَتِكُمْ خَلْقًا جَدِيدًا؟!

وَلِلْحُجَّة تَقْدِيرٌ آخَرُ، وَهُوَ: لَوْ كُنْتُمْ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ خَلْقٍ أَكْبَرَ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُفْنِيَكُمْ وَيُحِيلَ ذَوَاتَكُمْ وَيَنْقُلَهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الْأَجْسَامِ مَعَ شِدَّتِهَا وَصَلَابَتِهَا بِالْإِفْنَاءِ وَالْإِحَالَة؛ فَمَا الَّذِي يُعْجِزُه فِيمَا دُونَهَا؟!

الشيخ: مثلما قال : لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر:57]، فالذي خلق السَّماوات وخلق الأرض هو القادر من باب أولى على خلق هذا الحيوان، ثم الفِطَر السَّليمة والعقول الصَّحيحة الصَّريحة تُؤمن بالبعث والنُّشور، وتعتقد أنه لا بدَّ منه؛ لأنَّ الله هو الحكم العدل، وكثير من هؤلاء الناس يظلمون ويجورون ويتعدّون الحدود، ويموتون على حالهم، فلا بدَّ لهم من جزاءٍ، لا بدَّ لهم من جزاءٍ إزاء ما فعلوا في الدنيا، وما ظلموا في الدنيا، والآخرون يعملون الصَّالحات، ويجتهدون في الخيرات، ويفوتهم أشياء مما يُعطاه المنعمون في هذه الدنيا، فلا بدَّ لهم من جزاءٍ في الآخرة على تلك الأعمال الطيبة واجتهادهم في سبيل الحقِّ، فلا بدَّ لهم من جزاءٍ عظيمٍ عند ربهم بما قدَّموا من عملٍ صالحٍ.

فالإيمان بالبعث والنُّشور والجنة والنار والحساب والجزاء كما أجمعت عليه الرسلُ، وأجمعت عليه الكتبُ، وجاء به أفضلُها، وهو الكتاب العزيز، وأفضل الرسل وهو محمد عليه الصلاة والسلام، فقد دلَّت الفِطَر السليمة والعقول الصَّحيحة التي لم يعتريها في هذا لبس ولا ريب لمن تدبر وتعقل؛ ولهذا الصحيح أن الإيمان بالبعث والنُّشور والمعاد أمر تشهد له الفِطر السليمة والعقول الصحيحة، كما جاءت به النصوص والأدلة القطعية والبراهين الكثيرة التي قد تواترت نقلًا بالإجماع.

ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ سُؤَالًا آخَرَ بِقَوْلِهِمْ: مَنْ يُعِيدُنَا [الإسراء:51] إِذَا اسْتَحَالَتْ جُسُومُنَا وَفَنِيَتْ؟

فَأَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الْحُجَّةُ، وَلَزِمَهُمْ حُكْمُهَا، انْتَقَلُوا إِلَى سُؤَالٍ آخَرَ يَتَعَلَّلُونَ بِهِ بِعِلَلِ الْمُنْقَطِعِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: مَتَى هُوَ؟ فَأُجِيبُوا بِقَوْلِهِ: عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا.

وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.

فَلَوْ رَامَ أَعْلَمُ الْبَشَرِ وَأَفْصَحُهُمْ وَأَقْدَرُهُمْ عَلَى الْبَيَانِ: أَنْ يَأْتِيَ بِأَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ الْحُجَّة، أَوْ بِمِثْلِهَا بِأَلْفَاظٍ تُشَابِه هذه الْأَلْفَاظَ في الْإِيجَازِ وَوَضَحِ الْأَدِلَّة وَصِحَّةِ الْبُرْهَانِ؛ لَمَا قَدَرَ.

الطالب: الوَضَح –بفتحتين- الضوء والبيان .....، وفي المطبوعة: ووضع الأدلة، وهو فيما أرى تحريف.

فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ افْتَتَحَ هَذِهِ الْحُجَّة بِسُؤَالٍ أَوْرَدَه مُلْحِدٌ اقْتَضَى جَوَابًا، فَكَانَ فِي قَوْلِهِ: وَنَسِيَ خَلْقَهُ مَا وَفَى بِالْجَوَابِ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ، وَأَزَالَ الشُّبْهَةَ؛ لما أَرَادَ سُبْحَانَهُ مِنْ تَأْكِيدِ الْحُجَّة وَزِيَادَة تَقْرِيرِهَا، فَقَالَ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَاحْتَجَّ بِالْإِبْدَاءِ عَلَى الْإِعَادَة، وَبِالنَّشْأَة الْأُولَى عَلَى النَّشْأَة الأخرى، إِذْ كلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ علمًا ضَرُورِيًّا أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى هَذِهِ قَدَرَ عَلَى هَذِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الثَّانِيَة لَكَانَ عَنِ الْأُولَى أَعْجَزَ وَأَعْجَزَ.

وَلَمَّا كَانَ الْخَلْقُ يَسْتَلْزِمُ قُدْرَةَ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَعِلْمَه بِتَفَاصِيلِ خَلْقِه؛ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79]، فَهُوَ عَلِيمٌ بِتَفَاصِيلِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَجُزْئِيَّاتِه، وَمَوَادِّه وَصُورَتِه، فَكَذَلِكَ الثَّانِي، فَإِذَا كَانَ تَامَّ الْعِلْمِ، كَامِلَ الْقُدْرَة، كَيْفَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟!

ثُمَّ أَكَّدَ الْأَمْرَ بِحُجَّةٍ قَاهِرَةٍ، وَبُرْهَانٍ ظَاهِرٍ، يَتَضَمَّنُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ مُلْحِدٍ آخَرَ يَقُولُ: الْعِظَامُ إِذَا صَارَتْ رَمِيمًا عَادَتْ طَبِيعَتُهَا بَارِدَةً يَابِسَةً، وَالْحَيَاة لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَادَّتُهَا وَحَامِلُهَا طَبِيعَتُه حَارَّة رَطْبَة؛ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرِ الْبَعْثِ، فَفِيهِ الدَّلِيلُ وَالْجَوَابُ، فَقَالَ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:80]، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِإِخْرَاجِ هَذَا الْعُنْصُرِ الَّذِي هُوَ فِي غَايَة الْحَرَارَة وَالْيُبُوسَة مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ الْمُمْتَلِئِ بِالرُّطُوبَة وَالْبُرُودَة، فَالَّذِي يُخْرِجُ الشَّيْءَ مِنْ ضِدِّه، وَتَنْقَادُ لَهُ مَوَادُّ الْمَخْلُوقَاتِ وَعَنَاصِرُهَا، وَلَا تَسْتَعْصِي عَلَيْهِ -هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا أَنْكَرَه الْمُلْحِدُ وَدَفَعَه مِنْ إِحْيَاءِ الْعِظَامِ وَهِيَ رَمِيمٌ.

ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا بِأَخْذِ الدَّلَالَة مِنَ الشَّيْءِ الْأَجَلِّ الْأَعْظَمِ عَلَى الْأَيْسَرِ الْأَصْغَرِ، فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْعَظِيمِ الْجَلِيلِ فَهُوَ عَلَى مَا دُونَه بِكَثِيرٍ أَقْدَرُ وَأَقْدَرُ، فَمَنْ قَدَرَ على حَمْلِ قِنْطَارٍ كان عَلَى حَمْلِ أُوقِيَّةٍ أَشَدّ اقْتِدَارًا، فَقَالَ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس:81]؟

فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي أَبْدَعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ عَلَى جَلَالَتِهِمَا، وَعِظَمِ شَأْنِهِمَا، وَكِبَرِ أَجْسَامِهِمَا، وَسَعَتِهِمَا، وَعَجِيبِ خَلْقِهِمَا -أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يُحْيِي عِظَامًا قَدْ صَارَتْ رَمِيمًا، فَيَرُدَّهَا إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى.

كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر:57]، وَقَالَ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس:81].

ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ وَبَيَّنَه بِبَيَانٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ فِعْلُه بِمَنْزِلَة غَيْرِهِ الَّذِي يَفْعَلُ بِالْآلَاتِ وَالْكُلْفَة، وَالنَّصبِ وَالْمَشَقَّة، وَلَا يُمْكِنُه الِاسْتِقْلَالُ بِالْفِعْلِ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ آلَةٍ وَمُعِينٍ، بَلْ يَكْفِي فِي خَلْقِه لِمَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَه وَيُكَوِّنه نَفْسُ إِرَادَتِه، وَقَوْلُهُ لِلْمُكَوَّنِ: "كُنْ"، فَإِذَا هُوَ كَائِنٌ كَمَا شَاءَه وَأَرَادَه.

ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ الْحُجَّةَ بِإِخْبَارِه أَنَّ مَلَكُوتَ كُلِّ شَيْءٍ بِيَدِه، فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ بِفِعْلِه وَقَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:83].

وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ۝ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ۝ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ۝ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ۝ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:36- 40].

فَاحْتَجَّ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتْرُكُه مُهْمَلًا عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْي، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَأَنَّ حِكْمَتَه وَقُدْرَتَه تَأْبَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِبَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] إِلَى آخرِ السُّورَةِ، فَإِنَّ مَنْ نَقَلَه مِنَ النُّطْفَة إِلَى الْعَلَقَة، ثُمَّ إِلَى الْمُضْغَة، ثُمَّ شَقَّ سَمْعَه وَبَصَرَه، وَرَكَّبَ فِيهِ الْحَوَاسَّ وَالْقُوَى، وَالْعِظَامَ وَالْمَنَافِعَ، وَالْأَعْصَابَ وَالرِّبَاطَاتِ الَّتِي هِيَ أَشَدُّه، وَأَحْكَمَ خَلْقَه غَايَة الْإِحْكَامِ، وَأَخْرَجَه عَلَى هَذَا الشَّكْلِ وَالصُّورَة الَّتِي هِيَ أَتَمُّ الصُّوَرِ وَأَحْسَنُ الْأَشْكَالِ -كَيْفَ يَعْجِزُ عَنْ إِعَادَتِه وَإِنْشَائِه مَرَّةً ثَانِيَةً؟! أَمْ كَيْفَ تَقْتَضِي حِكْمَتُه وَعِنَايَتُه أَنْ يَتْرُكَه سُدًى؟! فَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِحِكْمَتِه، وَلَا تَعْجِزُ عَنْهُ قُدْرَتُه.

فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الِاحْتِجَاجِ الْعَجِيبِ بِالْقَوْلِ الْوَجِيزِ الَّذِي لَا يَكُونُ أَوْجَزَ مِنْهُ، وَالْبَيَانِ الْجَلِيلِ الَّذِي لَا يُتَوَهَّمُ أَوْضَحُ مِنْهُ، وَمَأْخَذه الْقَرِيب الَّذِي لَا تَقَعُ الظُّنُونُ عَلَى أَقْرَبَ مِنْهُ.

الشيخ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ۝ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ۝ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى إلى آخره، لا ريب أنَّ الذي عُني بهذا الأمر، وركَّب فيه ما ركَّب، وجعل فيه ما جعل من القوى؛ هو القادر على أن يجعله مُكلَّفًا صالحًا عاملًا بما أُمِرَ به، تاركًا لما نُهِيَ عنه، أو ضدّ ذلك إذا لم ينقد لهذا الأمر، وسار على الهوى.

فالمقصود أنَّه جلَّ وعلا على كلِّ شيءٍ قدير، وهو القادر على إضلاله، وعلى هدايته، وعلى رشده، وعلى ضد ذلك؛ لأنه القادر على كل شيءٍ، مَن قدر على هذه الأمور البديعة الخفية الدَّقيقة كيف يعجز عمَّا هو أسهل منها؟!

والذي ابتدأه وأوجده من العدم، وغذاه بالنِّعَم، وركَّب فيه ما ركَّب، وجعل فيه ما جعل، هو على الإعادة أقدر .

وَكَمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الِاحْتِجَاجِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:5- 7]، وقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:12- 16].

وَذَكَرَ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَكَيْفَ أَبْقَاهُمْ مَوْتَى ثَلَاثَمِئَة سَنَةٍ شَمْسِيَّة، وَهِيَ ثَلَاثُمِئَة وَتِسْعُ سِنِينَ قَمَرِيَّة، وَقَالَ فِيهَا: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا [الكهف:21].

وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَة مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَة -لَهُمْ فِي الْمَعَادِ خَبْطٌ وَاضْطِرَابٌ، وَهُمْ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: تُعْدَمُ الْجَوَاهِرُ ثُمَّ تُعَادُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: تُفَرَّقُ الْأَجْزَاءُ ثُمَّ تُجْمَعُ.

فَأُورِدَ عَلَيْهِمُ الْإِنْسَانُ الَّذِي يَأْكُلُه حَيَوَانٌ، وَذَلِكَ الْحَيَوَانُ أَكَلَه إِنْسَانٌ، فَإِنْ أُعِيدَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ مِنْ هَذَا، لَمْ تُعَدْ مِنْ هَذَا؟

وَأُورِدَ عَلَيْهِمْ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَحَلَّلُ دَائِمًا، فَمَاذَا الَّذِي يُعَادُ؟ أَهُوَ الَّذِي كَانَ وَقْتَ الْمَوْتِ؟ فَإِنْ قِيلَ بِذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يُعَادَ عَلَى صُورَةٍ ضَعِيفَةٍ، وَهُوَ خِلَافُ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بَعْضُ الْأَبْدَانِ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ!

فَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي الْإِنْسَانِ أَجْزَاءً أَصْلِيَّةً لَا تَتَحَلَّلُ، وَلَا يَكُونُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ الَّذِي أَكَلَه الثَّانِي!

وَالْعُقَلَاءُ يَعْلَمُونَ أَنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ نَفْسَه كُلَّهُ يَتَحَلَّلُ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ بَاقٍ، فَصَارَ مَا ذَكَرُوه فِي الْمَعَادِ مِمَّا قَوَّى شُبْهَةَ الْمُتَفَلْسِفَة فِي إِنْكَارِ مَعَادِ الْأَبْدَانِ.

وَالْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ: أَنَّ الْأَجْسَامَ تَنْقَلِبُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَتَسْتَحِيلُ تُرَابًا، ثُمَّ يُنْشِئُهَا اللَّهُ نَشْأَةً أُخْرَى، كَمَا اسْتَحَالَ فِي النَّشْأَة الْأُولَى: فَإِنَّهُ كَانَ نُطْفَةً، ثُمَّ صَارَ عَلَقَةً، ثُمَّ صَارَ مُضْغَةً، ثُمَّ صَارَ عِظَامًا وَلَحْمًا، ثُمَّ أَنْشَأَه خَلْقًا سَوِيًّا. كَذَلِكَ الْإِعَادَة: يُعِيدُه اللَّهُ بَعْدَ أَنْ يَبْلَى كُلُّهُ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَبْلَى إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، مِنْهُ خُلِقَ ابْنُ آدَمَ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ.

الشيخ: وهو عُظَيم صغير جدًّا في المقعدة، منه يُرَكَّب الإنسان، وهو يبلى إلا هذا الشيء، والله على كل شيءٍ قدير .

والمقصود أنَّ الله جلَّ وعلا خلق هذا الإنسانَ، وخلق هذه الحيوانات، وهو يُنشئها كما يشاء ، ويُعيدها كما يشاء: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم:27]، وله القُدرة الكاملة في كيفية هذه الإعادة، فالذي أنشأهم من عدمٍ يُعيدهم كما يشاء ، ويردهم كما يشاء، ويُجازيهم بما يستحقون من خيرٍ وشرٍّ، هؤلاء المكلَّفون، وأما الحيوانات الأخرى فإنها تُعاد للقصاص، ثم تكون ترابًا. علَّق عليه عندك؟

الطالب: نعم، قال: العَجْب -بفتح المهملة وسكون الجيم بعدها مُوحَّدة- عظم لطيف في أصل الصلب، وهو رأس العصعص، وهو مكان رأس الذَّنب من ذوات الأربع. قاله الحافظ في "الفتح". وعلَّق على الحديث، قال: البخاري ومسلم وأحمد واللفظ له، وفي بعض رواياته زاد: "ويأكله التراب"، وسنده جيد.

طالب آخر: تعليق شاكر: ليس هذ اللفظ في "الصحيحين" تمامًا، ومعناه ثابت في البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وأقرب لفظٍ إلى ما ذكره الشارحُ إحدى روايات مسلم: كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذَّنب، منه خُلِقَ، ومنه يُرَكَّب، والعَجْب -بفتح المهملة وسكون الجيم .. إلخ.

الشيخ: سبحان القادر على كل شيءٍ!

الطالب: يقول: مسلم بهذا اللَّفظ.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: إِنَّ السَّماء تُمْطِرُ مَطَرًا كَمَنِي الرِّجَالِ، يَنْبُتُونَ فِي الْقُبُورِ كَمَا يَنْبُتُ النَّبَاتُ.

الطالب: قال: ضعيف؛ أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" في حديثٍ طويلٍ عن أبي الزَّعراء، قال: ذكروا عند عبدالله الدَّجال، فقال. فذكره بطوله موقوفًا، وله حكم المرفوع، لكنَّه منقطع بين أبي الزَّعراء، واسمه يحيى بن الوليد، ولم يروِ عن أحدٍ من الصحابة، بل عن بعض التَّابعين، ثم إنَّ في الحديث فقرةً لم تُذكر هنا مخالفة لحديثٍ صحيحٍ نبَّه عليه الهيثمي، وقد أخرجه الحاكم وصححه على شرطهما، وردَّه الذَّهبي بأنهما ما احتجَّا بأبي الزَّعراء، وفاته أنه منقطع كما بيَّنَّا.

الشيخ: يُراجع .......

الطالب: يحيى بن الوليد الطَّائي، أبو الزَّعراء -بفتح الزاي وسكون الألف المهملة- كوفي، لا بأس به، من السابعة. (أبو داود والنَّسائي وابن ماجه).

الشيخ: يُراجع "التقريب".

فَالنَّشْأَتَانِ نَوْعَانِ تَحْتَ جِنْسٍ، يَتَّفِقَانِ وَيَتَمَاثَلَانِ مِنْ وَجْهٍ، وَيَفْتَرِقَانِ وَيَتَنَوَّعَانِ مِنْ وَجْهٍ. وَالْمُعَادُ هُوَ الْأَوَّلُ بِعَيْنِه، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ لَوَازِمِ الْإِعَادَة وَلَوَازِمِ الْبَدَاءَة فَرْقٌ، فَعَجْبُ الذَّنَبِ هُوَ الَّذِي يَبْقَى، وَأَمَّا سَائِرُه فَيَسْتَحِيلُ، فَيُعَادُ مِنَ الْمَادَّة الَّتِي اسْتَحَالَ إِلَيْهَا.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ رَأَى شَخْصًا وَهُوَ صَغِيرٌ، ثُمَّ رَآه وَقَدْ صَارَ شَيْخًا؛ عَلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ ذَاكَ، مَعَ أَنَّهُ دَائِمًا فِي تَحَلُّلٍ وَاسْتِحَالَةٍ.

وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَات، فَمَنْ رَأَى شَجَرَةً وَهِيَ صَغِيرَة، ثُمَّ رَآهَا كَبِيرَة، قَالَ: هَذِهِ تِلْكَ.

وَلَيْسَتْ صِفَةُ تِلْكَ النَّشْأَة الثَّانِيَة مُمَاثِلَةً لِصِفَة هَذِهِ النَّشْأَة حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ الصِّفَاتِ هِيَ الْمُغَيَّرَة، لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْجَنَّة إِذَا دَخَلُوهَا، فَإِنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا عَلَى صُورَة آدَمَ، طُولُه سِتُّونَ ذِرَاعًا، كَمَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" وَغَيْرِهِمَا، وَرُوِي: أَنَّ عَرْضَه سَبْعَة أَذْرُعٍ. وَتِلْكَ نَشْأَة بَاقِيَة غَيْرُ مُعَرَّضَة لِلْآفَاتِ، وَهَذِهِ النَّشْأَة فَانِيَة مُعَرَّضَة لِلْآفَاتِ.

الشيخ: والأمر كما قال الشارحُ، فإنَّ نشأتهم يوم القيامة لها حال أخرى، فأهل النار يعظمون في النار كما في الحديث، نسأل الله العافية، وتكون لهم أجسام تتحمل بقاءهم في النار وعذابهم فيها أبد الآباد، غير أجسامهم الضَّعيفة هذه، وأهل الجنة كذلك أجسامهم غير أجسامهم في الدنيا، أجسامهم عظيمة طويلة، ثم لا تتأثر بما تتأثر به في الدنيا من الغائط والبول والبصاق والمخاط والحيض، يأكلون ويشربون ويتمتعون بنعيم الجنة، ولكن ليس لهم ما في الدنيا من النَّقص والضَّعف، بل طعامهم وشرابهم كله يذهب عرقًا وجشاءً، لا يكون له فضلات، ولا يكون له بول، ولا غائط، ولا شيء من النَّواقص، هذا شيء آخر يدل على أنَّ الحال غير الحال، وأنهم أُنشئوا نشأةً أخرى غير نشأتهم السَّابقة، سبحان الحكيم العليم!

............

س: رواية: أنَّ عرضه سبعة أذرع؟

ج: فيها ضعف؛ لأنها من رواية علي بن زيد بن جدعان، ولا أعلم لها طريقًا غير طريقه، مع أنني ما تتبعتُها، لكن الذي أعلم أنه رواه الترمذي بإسنادٍ فيه علي، وعلي بن زيد يُحسن له الترمذي وجماعة، والجمهور على تضعيفه، ولا نعلم طريقًا آخر ......، هو رواه الترمذي من طريق علي بن زيد: "وعرضه سبعة أذرع" العرض، أما الطول فثابتٌ في "الصحيحين" وغيرهما، وليس فيه نزاع ولا إشكال، فكل إنسانٍ طوله ستون ذراعًا في السماء، طول أبيه آدم، أما العرض فقد جاء في روايةٍ: أنه سبعة أذرع، وهو شيء مناسب للطول، فالطول مع دقَّة الجسم هذا في الدنيا غير ظاهر والله أعلم، لا بدَّ أن يكون كما أنه طويل في الطول لا بدَّ والله أعلم أن يكون طويلًا في العرض.

الطالب: هو أشار إلى تضعيفه: ورُوِيَ.

الشيخ: ....... المحشي ما اعتمد عليه.

س: الإيرادات التي أُوردت على مَن قال بأنَّ الأجساد مُركَّبةٌ من الجواهر المُفردة؟

ج: ذكر العلماء أنه ليس لها أصل الجواهر المفردة هذه، الله خلقه من ترابٍ، وهو أعلم بما أنزله في هذا التراب، والجواهر المفردة معناها: أنها جواهر لا تنقسم، يعني: أنها في غايةٍ من الصَّلابة، فلا تتحلل، وكلامهم غير معقولٍ، ما هناك شيء إلا ويتحلل ولو صلب، يعني في النِّهاية الذي لا يتحلل كلام باطل، كل جزءٍ مهما دقَّ ومهما صلب فلا بدَّ أن يتحلل.

وَقَوْلُهُ: (وَجَزَاء الْأَعْمَالِ) قَالَ تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:25]، وَالدِّينُ: الْجَزَاءُ، يُقَالُ: كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، أَيْ: كَمَا تُجَازِي تُجَازَى، وَقَالَ تَعَالَى: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ:26]، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ۝ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:89- 90]، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [القصص:84]، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.

الشيخ: وهذا من الأمور المعلومة من الدِّين بالضَّرورة، ومن المعلومة بالأدلة من كتاب الله، ومن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وهو أنَّ الله جلَّ وعلا يُجازي عباده: إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرّ، وهذا الإيمان العظيم كلما قوي في القلب أوجب لصاحبه الاستعداد للآخرة، والأهبة للآخرة، والعناية بأعمال الآخرة، والحذر مما يضرُّه في الآخرة، وكلما ضعف الإيمانُ باليوم الآخر والجزاء والحساب ضعف الإعدادُ للآخرة، وضعف الحذر من المعاصي والسَّيئات، وضعف النَّشاط في الأعمال الصَّالحة، وهل جرَّأ مَن جرَّأ على الفسوق إلا عدم إيمانهم بالآخرة؟

فإنَّ أكثر العالم لا تُؤمن بالآخرة، وليس عندها بصيرة في هذا الأمر العظيم، ..... شرّهم وظلمهم وعدوانهم، فالإيمان بالآخرة والجزاء والحساب أمره عظيم، ومن أركان الإيمان، وأصول الإيمان العظيمة التي مَن أنكرها كفر إجماعًا.

وهذه الأدلة التي ذكرها المؤلفُ وأمثالها كثير في القرآن العظيم، كلها تدل على وجوب الإيمان بالآخرة والجزاء والحساب والجنة والنار، ووجوب الإعداد لهذا اليوم العظيم، ومن هذا قوله سبحانه: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7- 8]، والعباد مجزيون بأعمالهم خيرها وشرِّها، وهو سبحانه يُجازي على الحسنات بأضعافٍ مضاعفةٍ، ويُجازي على السيئة بمثلها، فيجب على ذي العقل أن يتبصَّر، وأن ينتبه لهذا الأمر، وأن تكون له عناية كاملة بالإعداد للآخرة، والحذر مما يضرّه في الدنيا والآخرة، والله المستعان.

وَقَالَ ﷺ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّه مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِي : يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَه.

وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ زِيَادَة بَيَانٍ عَنْ قَرِيبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.