قَوْلُهُ: (وَنُثْبِتُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَوَّلًا لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، تَفْضِيلًا لَهُ وَتَقْدِيمًا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ).
اخْتَلَفَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ : هَلْ كَانَتْ بِالنَّصِّ أَوْ بِالِاخْتِيَارِ؟
فَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّهَا ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ الْخَفِيِّ وَالْإِشَارَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بِالنَّصِّ الْجَلِيِّ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا ثَبَتَتْ بِالِاخْتِيَارِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى إِثْبَاتِهَا بِالنَّصِّ أَخْبَارٌ:
مِنْ ذَلِكَ مَا أَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ ﷺ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، قَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ فَلَمْ أَجِدْكَ؟ كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْتَ، قَالَ: إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ. وَذَكَرَ لَهُ سِيَاق الحديث، وَأَحَادِيث أُخَرَ. وَذَلِكَ نَصٌّ عَلَى إِمَامَتِهِ.
وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ.
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَنْ أَبِيهَا، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْيَوْمِ الَّذِي بُدِئَ فِيهِ، فَقَالَ: ادْعِي لِي أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا، ثُمَّ قَالَ: يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا يَطْمَعْ فِي هَذَا الْأَمْرِ طَامِعٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: ادْعِي لِي عَبْدَالرَّحْمَنِ ابْنَ أَبِي بَكْرٍ لِأَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا لَا يُخْتَلَفُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُؤْمِنُونَ فِي أَبِي بَكْرٍ.
الشيخ: علَّق عليه؟
الطالب: قال: صحيح، وهو مخرَّج في "الأحاديث الصحيحة" رقم كذا.
الشيخ: شعيب؟
الطالب: قال: أخرجه الترمذي في "المناقب" باب "في مناقب أبي بكر وعمر"، وابن ماجه في المقدمة باب "فضل أبي بكر"، وأحمد، وسنده حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذَّهبي، وصححه ابن حبان من طريقٍ آخر.
س: ...............
ج: ..............
وَأَحَادِيثُ تَقْدِيمِهِ فِي الصَّلَاةِ مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَهُوَ يَقُولُ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ.
وَقَدْ رُوجِعَ فِي ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَصَلَّى بِهِمْ مُدَّةَ مَرَضِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ، عَلَيْهَا دَلْوٌ، فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، فَنَزَعَ مِنْهَا ذَنُوبًا أَو ذَنُوبَيْنِ، وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، ثُمَّ اسْتَحَالَتْ غَرْبًا، فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ، حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ.
الشيخ: ولا منافاةَ عند أهل السنة والجماعة، فإنها بالنصِّ وبالاتفاق جميعًا، لا منافاةَ بين هذا وهذا، فإنها بالنصِّ الجلي عند قومٍ، وبالخفي عند آخرين، وبالإشارة وبالاختيار، وقد أشار إلى هذا وأوصى بما يدل عليه، لكن ليس هناك النص القطعي الذي وجَّه فيه المؤمنين: بأني استخلفتُ عليكم فلانًا. ولكن فيه الدلائل الكثيرة الدالة على أنه مقدمهم وأفضلهم، وأنه أولى الناس بهذه المسألة. ثم الاختيار، فقد اختاره المؤمنون، واجتمعوا عليه، وبايعوه، فتمَّ له الأمر بهذا وهذا، بالأمرين جميعًا، اللهم ارضَ عنه....
س: اجتمع الأمران: النص والاتِّفاق؟
ج: نعم.
س: مَن قال أنَّه بالنص، يقول: استندوا للنصِّ؟
ج: الاختيار يكون بالنصِّ، ويكون بالصفات الحميدة، ويكون بأسبابٍ أخرى، فالاختيار استند إلى هذه الأمور الكثيرة، والفضل العظيم، والسابقة العظيمة.....، فالاختيار لا يكون عبثًا، بل تكون له أسباب.
الشيخ: علَّق عليه؟
الطالب: قال: صحيح، رواه أبو داود من طريقين عن أبي بكرة، واللفظ الذي في الكتاب هو عنده من طريق الأشعث الذي ذكره المؤلف، لكن ليس فيها قوله في آخره: خلافة، وهذه الزيادة عنده من الطريق الأخرى، وفيها علي بن زيد، وهو ابن جدعان، وفيه ضعف.
الشيخ: شعيب؟
الطالب: أخرجه أبو داود من طريقين عن أبي بكرة، وهو صحيح دون قوله: خلافة نبوة، ثم يُؤتي الله الملك مَن يشاء فإنها ضعيفة؛ لتفرد علي بن زيد بن جدعان بها، وهو ضعيف.
فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّ وِلَايَةَ هَؤُلَاءِ خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مُلْكٌ.
وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ عَلِيٍّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعِ النَّاسُ فِي زَمَانِهِ، بَلْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ، لَمْ يَنْتَظِمْ فِيهِ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ وَلَا الْمُلْكُ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ : أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: رَأَى اللَّيْلَةَ رَجُلٌ صَالِحٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ نِيطَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ونِيطَ عُمَرُ بِأَبِي بَكْرٍ، وَنِيطَ عُثْمَانُ بِعُمَرَ، قَالَ جَابِرٌ: فَلَمَّا قُمْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قُلْنَا: أَمَّا الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأَمَّا الْمَنُوطُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَهُمْ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ».
الشيخ: أيش قال عليه؟
الطالب: قال: صحيح. فقط.
الشيخ: شعيب؟
الطالب: قال: أخرجه أبو داود في "السنة" باب "في الخلفاء"، ورجاله ثقات.
الطالب: علَّق عليه، قال: ضعيف؛ فيه عبدالرحمن الجرمي، فيه جهالة، ومن طريقه أيضًا أخرجه أحمد. والعراقي جمع: عرقوة، وهي أعداد يُخالف بينها ثم تشدّ في عرى الدلو ويُعلق بها الحبل. انتهى.
الشيخ: ..........
الطالب: نفس الكلام يا شيخ.
س: أعداد أو أعواد؟
ج: الظاهر أنها أعواد.
س: ما فيه وجهان عفا الله عنك؟
ج: هذا الذي أحفظ منها: جيم ثم ميم، والجيم مضمومة .........
الطالب: هكذا صححه أحمد شاكر: "جُمْهان" بضم الجيم، وسكون الميم، بعدها هاء. وفي المطبوعة: "جهمان" بتقديم الهاء، وهو خطأ.
الشيخ: ..............
الطالب: قال: حسن، يشهد له ما قبله بحديثين.
طالب آخر: يقول: أخرجه أبو داود، والطحاوي في "مشكل الآثار"، وأحمد، وسنده حسن، وحسَّنه الترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم، ووافقه الذهبي، وزاد الترمذي وغيره: قال سفينة: أمسك خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه سنتين، وخلافة عمر رضي الله تعالى عنه عشر سنين، وخلافة عثمان رضي الله تعالى عنه اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي رضي الله تعالى عنه ست سنين. انتهى.
الشيخ: ............
الطالب: سعيد بن جمهان: بضم الجيم، وإسكان الميم، الأسلمي، أبو حفص، البصري، صدوق، له أفراد، من الرابعة، مات سنة ستٍّ وثلاثين. الأربعة.
س: خلافة الحسن هل تُعدّ اختلافًا؟
ج: تبعًا لأبيه .....
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: لَمْ يَسْتَخْلِفْ بِالْخَبَرِ الْمَأْثُورِ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: "إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي –يَعْنِي: أَبَا بَكْرٍ- وَإِنْ لَا أَسْتَخْلِفْ فَلَمْ يَسْتَخْلِفْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي –يَعْنِي: رَسُولَ اللَّهِ ﷺ".
قال عبدُالله: فعرفتُ أنه حين ذكر رسولَ الله ﷺ غير مُستخلفٍ.
وبما رُوي عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّها سُئلت: مَن كان رسولُ الله ﷺمُستَخْلِفًا لو استخلفَ؟
الشيخ: علَّق عليه؟
الطالب: يقول: أخرجه مسلم وغيره، وقد تقدم تخريجه صفحة (140).
يقول: أخرجه مسلم في "فضائل الصحابة" باب "من فضائل أبي بكر"، وأخرجه أحمد بنحوه، وأخرجه البخاري في ..
الشيخ: .............
الطالب: في "الصحيحين" عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسولُ الله ﷺ في اليوم الذي بُدِئ فيه، فقال: ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتبَ لأبي بكرٍ كتابًا، ثم قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، وفي روايةٍ: فلا يطمع في هذا الأمر طامع.
الشيخ: ............
الطالب: رواه بنحوه الإمام أحمد في "المسند"، وأبو داود. ورواه مسلم مطولًا من وجهين. وقد صححناه من إحدى روايتي مسلم. وفي المطبوعة: "مَن هو خير –يَعْنِي: رَسُولَ اللَّهِ ﷺ- مُستخلفًا لو استخلف"، وهو كلام مُضطرب ناقص.
الطالب: ذكره في لفظٍ عند البخاري: يأبى الله ويدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبى المؤمنون.
الشيخ: ............
وَالظَّاهِرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَخْلِفْ بِعَهْدٍ مَكْتُوبٍ، وَلَوْ كَتَبَ عَهْدًا لَكَتَبَهُ لِأَبِي بَكْرٍ، بَلْ قَدْ أَرَادَ كِتَابَتَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ، وَقَالَ: يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، فَكَانَ هَذَا أَبْلَغَ مِنْ مُجَرَّدِ الْعَهْدِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَلَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى اسْتِخْلَافِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ بِأُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَأَخْبَرَ بِخِلَافَتِهِ إِخْبَارَ رَاضٍ بِذَلِكَ، حَامِدٍ لَهُ، وَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بِذَلِكَ عَهْدًا، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، فَتَرَكَ الْكِتَابَ اكْتِفَاءً بِذَلِكَ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَرَضِهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، ثُمَّ لَمَّا حَصَلَ لِبَعْضِهِمْ شَكٌّ: هَلْ ذَلِكَ الْقَوْلُ مِنْ جِهَةِ الْمَرَضِ، أَوْ هُوَ قَوْلٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ؟ تَرَكَ الْكِتَابَةَ اكْتِفَاءً بِمَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَخْتَارُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ.
فَلَوْ كَانَ التَّعْيِينُ مِمَّا يَشْتَبِهُ عَلَى الْأُمَّةِ لَبَيَّنَهُ بَيَانًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، لَكِنْ لَمَّا دَلَّهُمْ دَلَالَاتٍ مُتَعَدِّدَة عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الْمُتَعَيِّنُ، وَفَهِمُوا ذَلِكَ -حَصَلَ الْمَقْصُودُ؛ وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ فِي خُطْبَتِهِ الَّتِي خَطَبَهَا بِمَحْضَرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: "أَنْتَ خَيْرُنَا وَسَيِّدُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: إِنَّ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ مِنْهُ. وَلَمْ يُنَازِعْ أَحَدٌ فِي خِلَافَتِهِ إِلَّا بَعْضُ الْأَنْصَارِ؛ طَمَعًا فِي أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ أَمِيرٌ وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَمِيرٌ، وَهَذَا مِمَّا ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بُطْلَانُهُ.
ثُمَّ الْأَنْصَارُ كُلُّهُمْ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ، إِلَّا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ؛ لِكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي كَانَ يَطْلُبُ الْوِلَايَةَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ قَطُّ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَصَّ عَلَى غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ، لَا عَلِيٌّ، وَلَا الْعَبَّاسُ، وَلَا غَيْرُهُمَا، كَمَا قَدْ قَالَ أَهْلُ الْبِدَعِ!
وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِالْعَزِيزِ بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيَّ إِلَى الْحَسَنِ، فَقَالَ: هَلْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ: أَوَفِي شَكٍّ صَاحِبُكَ؟! نَعَمْ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، اسْتَخْلَفَهُ، لَهُوَ كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَتَوَثَّبَ عَلَيْهَا.
س: المقصود: الحسن أو أبو بكر؟
ج: أبو بكر.
الطالب: عندنا قال: هذا أثر ضعيف الإسناد جدًّا؛ محمد بن الزبير الحنظلي قال البخاري في كتاب "الضعفاء" (ص31): "منكر الحديث".
الشيخ: ...........
وَفِي الْجُمْلَةِ: فَجَمِيعُ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ طَلَبَ تَوْلِيَةَ غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يَذْكُرْ حُجَّةً دِينِيَّةً شَرْعِيَّةً، وَلَا ذَكَرَ أَنَّ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْهُ، أَوْ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنَّمَا نَشَأَ مِنْ حُبِّ قَبِيلَتِهِ وَقَوْمِهِ فَقَطْ، وَهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ فَضْلَ أَبِي بَكْرٍ ، وَحُبَّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَهُ.
فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ: فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَةُ، قُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ، قَالَ: أَبُوهَا، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: عُمَرُ، وَعَدَّ رِجَالًا.
وَفِيهِمَا أَيْضًا: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: يا رسول الله، إِنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ، ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ: أَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لَا، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ يَتَمَعَّرُ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ. مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي؟ مَرَّتَيْنِ، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا.
وَمَعْنَى غَامَرَ: غَاضَبَ وَخَاصَمَ. وَيَضِيقُ هَذَا الْمُخْتَصَرُ عَنْ ذِكْرِ فَضَائِلِهِ.
الطالب: قال هنا: البخاري عن أبي الدَّرداء، ولم أره عند مسلم، ولم يعزه إليه في "الذَّخائر".
الشيخ: شعيب؟
الطالب: يقول: ولم يُخرجه مسلم، وأخرجه البخاري في "فضائل أصحاب النبي ﷺ" باب "قول النبي ﷺ: لو كنتُ مُتَّخذًا خليلًا"، وفي تفسير سورة الأعراف، باب: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، ولم يُخرجه مسلم.
الشيخ: شاكر؟
الطالب: الحديث كان في المطبوعة مُحَرَّفًا وناقصًا بعض ألفاظه، فصححناه من رواية البخاري من "الفتح"، وقد أوهم الشارحُ رحمه الله في نسبته للصحيحين؛ فإنَّ مسلمًا لم يروه في صحيحه، وقد نصَّ الحافظ في "الفتح" على أنه من أفراد البخاري.
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ. فَذَكَرَتِ الْحَدِيثَ، إِلَى أَنْ قَالَتْ: وَاجْتَمَعَتِ الْأَنْصَارُ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالُوا: مِنَّا أَمِيرٌ، وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ! فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ الصديق، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ ابْنُ الْجَرَّاحِ، فَذَهَبَ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ، فَأَسْكَتَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِلَّا أَنِّي هَيَّأْتُ فِي نَفْسِي كَلَامًا قَدْ أَعْجَبَنِي، خَشِيتُ أَنْ لَا يَبْلُغَهُ أَبُو بَكْرٍ! ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَتَكَلَّمَ أَبْلَغَ النَّاسِ، فَقَالَ فِي كَلَامِهِ: نَحْنُ الْأُمَرَاءُ، وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ. فَقَالَ حُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ، مِنَّا أَمِيرٌ، وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا، وَلَكِنَّا الْأُمَرَاءُ، وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ، وَأَعَزُّهُمْ أَحْسَابًا، فَبَايِعُوا عُمَرَ، أَوْ أَبَا عُبَيْدَةَ ابْنَ الْجَرَّاحِ. فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ نُبَايِعُكَ، فَأَنْتَ سَيِّدُنَا وَخَيْرُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ، فَبَايَعَهُ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ، فَقَالَ قَائِلٌ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بنَ عُبادة! فَقَالَ عُمَرُ: "قَتَلَهُ اللَّهُ".
وَالسُّنْحُ: الْعَالِيَةُ، وَهِيَ حَدِيقَةٌ بِالْمَدِينَةِ مَعْرُوفَةٌ بِهَا.
الطالب: علَّق عليه شعيب، يقول: أخرجه البخاري في "فضائل أصحاب النبي ﷺ" باب "قول النبي ﷺ: لو كنتُ مُتَّخذًا خليلًا"، ولم يُخرجه مسلم.
س: سعد بن عُبادة في عدم مُبايعته، هل بقي على هذا إلى أن مات؟
ج: الظاهر ما بقي على هذا ........
طالب: حديث عمر هذا ذكره ابنُ تيمية في المجلد (25)، يقول: أخرجه في "الصَّحيحين".
قَوْلُهُ: (ثُمَّ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ).
أَيْ: وَنُثْبِتُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَذَلِكَ بِتَفْوِيضِ أَبِي بَكْرٍ الْخِلَافَةَ إِلَيْهِ، وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ عَلَيْهِ.
وَفَضَائِلُهُ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُنْكَرَ، وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ.
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ، مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَوَمَا تَعْرِفُ؟ فَقُلْتُ: لَا. قَالَ: أَبُو بَكْرٍ. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: عُمَرُ. وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ: ثُمَّ عُثْمَانُ، فَقُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ ﷺ: اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: وُضِعَ عُمَرُ عَلَى سَرِيرِهِ، فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ وَيُثْنُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ، وَأَنَا فِيهِمْ، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا بِرَجُلٍ قَدْ أَخَذَ بِمَنْكِبِي مِنْ وَرَائِي، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ، فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ، وَقَالَ: مَا خَلَّفْتُ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَايْمُ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ؛ وَذَلِكَ أَنِّي كُنْتُ كَثِيرًا مَا أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: جِئْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَإِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو -أَوْ لَأَظُنُّ- أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَهُمَا.
الشيخ: والأمَّة قد أجمعت على أنَّ الخلافة بعد رسول الله ﷺ في أربعةٍ، وهم: أبو بكر الصديق ، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي جميعًا، وقد تكاثرت الأدلةُ على تقديم الصّديق، وأنه أرجحهم إيمانًا، وأعظمهم قدرًا، وأفضلهم عملًا وسابقةً؛ ولهذا أجمعوا عليه، وأنه المقدم في الخلافة والفضل على جميع الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام؛ لأعماله العظيمة، وسابقته العظيمة، وجهاده العظيم، وتقديم النبي عليه الصلاة والسلام له في الإمامة في الصلاة في حياته، وحين مرضه، وفي صحته كذلك إذا ذهب لحاجةٍ.
ثم بعد ذلك عهد الصديقُ إلى عمر، وجعله ولي الأمر بعده، فأجمعت الأمَّة على ذلك، وكان هذا من أعظم الفراسة التي حصلت لأبي بكرٍ الصديق؛ حيث خلَّف عمر وأوصى أنَّ الخلافةَ من بعده له، وكان هذا أيضًا من أعظم حسناته ، فإنه رأى أنَّ عمر هو أولى الناس بعده في هذا الأمر؛ لما عرف من فضل سابقته وعلمه وفضله وقوته في الله .
ثم جعل عمر الشورى في الستة كما سيأتي، فأجمع المسلمون بعد ذلك على عثمان، ثم بايع الناسُ عليًّا رضي الله عنه، فصارت الخلافةُ بعده ﷺ ثلاثين سنة، ثم تولى بعد ذلك معاويةُ رضي الله عنه وأرضاه، بعدما جرت الفتنةُ الكبيرة بعد مقتل عثمان، وما جرى بين عليٍّ ومعاوية، وأهل الشام والعراق من الفتنة، ثم جمعهم الله على معاوية، واستقرت الأمور، وهدأت الأحوال من عام واحدٍ وأربعين إلى عام ستين، ثم تُوفي معاوية رضي الله عنه وأرضاه في عام ستين، ثم صارت الولايةُ ليزيد بعد ذلك، وجرى بعد ذلك ما جرى من الفتن.
فالمقصود أنَّ الخلافة النبوية بعد الرسول ﷺ كانت في هؤلاء الأربعة بما جاءت به الأدلةُ العظيمة الكثيرة، وبما وفَّق اللهُ له المسلمين من الإجماع على بيعة الصديق، ثم عهده لعمر، ثم ما حصل من الاتِّفاق على عثمان، ثم البيعة لعليٍّ رضي الله عنه وأرضاه؛ لكونه أفضل الباقين بعد الثلاثة؛ لفضله وسابقته وقرابته رضي الله عنهم جميعًا.
وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَنَزْعِهِ مِنَ الْقَلِيبِ، ثُمَّ نَزْعِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ اسْتَحَالَتِ الدَّلْوُ غَرْبًا، فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ، حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ.
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِيه يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ.
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَيْضًا: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهُمْ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: تَفْسِيرُ "مُحَدَّثُونَ": مُلْهَمُونَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ لِعُثْمَانَ ).
أَيْ: وَنُثْبِتُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ عُمَرَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَدْ سَاقَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قِصَّةَ قَتْلِ عُمَرَ ، وَأَمْر الشُّورَى وَالْمُبَايَعَةِ لِعُثْمَانَ فِي صَحِيحِهِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَسْرُدَهَا كَمَا رَوَاهَا بِسَنَدِهِ: عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بن الخطاب قَبْلَ أَنْ يُصَابَ بِأَيَّامٍ بِالْمَدِينَةِ، وَوَقَفَ عَلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، فَقَالَ: كَيْفَ فَعَلْتُمَا؟ أَتَخَافَانِ أَنْ تَكُونَا قَدْ حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ؟
الشيخ: يعني: أرض العراق، أرض السَّواد؛ لأنها أرض خراجية لولي الأمر، فعمر ضرب عليها خراجًا مُعينًا يُؤدَّى كل سنةٍ، وكان حُذيفة وعثمان هما القائمان بذلك، فخاف أن يكونا حمَّلاها شيئًا زائدًا، فأمرهما أن يتحريا ألا يُحملاها إلا ما تطيق، وأن يفضلا لأهل الأرض ما يكفيهم ويقوم بحالهم بعد الأُجرة، والخراج هو الأجرة في بيت المال.
قَالَا: حَمَّلْنَاهَا أَمْرًا هِيَ لَهُ مُطِيقَةٌ، مَا فِيهَا كَثِيرُ فَضْلٍ. قَالَ: انْظُرَا أَنْ تَكُونَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ؟ قَالَا: لَا. فَقَالَ عُمَرُ: لَئِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ لَأَدَعَنَّ أَرَامِلَ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَا يَحْتَجْنَ إِلَى رَجُلٍ بَعْدِي أَبَدًا. قَالَ: فَمَا أَتَتْ عَلَيْهِ إلَّا أَرْبَعَةٌ حَتَّى أُصِيبَ.
قَالَ: إِنِّي لَقَائِمٌ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ غَدَاةَ أُصِيبَ، وَكَانَ إِذَا مَرَّ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ قَالَ: اسْتَوُوا، حَتَّى إِذَا لَمْ يَرَ فِيهِنَّ خَلَلًا تَقَدَّمَ فَكَبَّرَ، وَرُبَّمَا قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ، أَوِ النَّحْلِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى؛ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ كَبَّرَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَتَلَنِي –أَوْ: أَكَلَنِي- الْكَلْبُ. حِينَ طَعَنَهُ، فَطَارَ الْعِلْجُ بِسِكِّينٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ، لَا يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ يَمِينًا وَشِمَالًا إِلَّا طَعَنَهُ، حَتَّى طَعَنَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، مَاتَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، طَرَحَ عَلَيْهِ بُرْنُسًا، فَلَمَّا ظَنَّ العلجُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ نَحَرَ نَفْسَهُ.
وَتَنَاوَلَ عُمَرُ يَدَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ، فَمَنْ يَلِي عُمَرُ فَقَدْ رَأَى الَّذِي أَرَى، وَأَمَّا نَوَاحِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَدْ فَقَدُوا صَوْتَ عُمَرَ، وَهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! سُبْحَانَ اللَّهِ! فَصَلَّى بِهِمْ عَبْدُالرَّحْمَنِ صَلَاةً خَفِيفَةً، فَلَمَّا انْصَرَفُوا قَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، انْظُرْ مَنْ قَتَلَنِي؟ فَجَالَ سَاعَةً، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: غُلَامُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: الصّنعُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ! لَقَدْ أَمَرْتُ بِهِ مَعْرُوفًا! الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مَنِيَّتِي عَلَى يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ، قَدْ كُنْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ تُحِبَّانِ أَنْ تَكْثُرَ الْعُلُوجُ بِالْمَدِينَةِ. وَكَانَ الْعَبَّاسُ أَكْثَرَهُمْ رَقِيقًا، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَعَلْتُ؟ أَيْ: إِنْ شِئْتَ قَتَلْنَا؟ قَالَ: كَذَبْتَ! بَعْدَمَا تَكَلَّمُوا بِلِسَانِكُمْ، وَصَلُّوا قِبْلَتَكُمْ، وَحَجُّوا حَجَّكُمْ؟!
فَاحْتُمِلَ إِلَى بَيْتِهِ، فَانْطَلَقْنَا مَعَهُ، وَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ قَبْلَ يَوْمَئِذٍ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: لَا بَأْسَ عَلَيْهِ. وَقَائِلٌ يَقُولُ: أَخَافُ عَلَيْهِ. فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ فَشَرِبَهُ، فَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ، فَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ، فَعَرَفُوا أَنَّهُ مَيِّتٌ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، وَجَاءَ النَّاسُ يُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ لَكَ؛ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَدَمٍ فِي الْإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ شَهَادَةٌ. قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَفَاف، لَا عَلَيَّ، وَلَا لِيَ. فَلَمَّا أَدْبَرَ إِذَا إِزَارُهُ يَمَسُّ الْأَرْضَ، قَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الْغُلَامَ. قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، ارْفَعْ ثَوْبَكَ، فَإِنَّهُ أَنْقَى لِثَوْبِكَ، وَأَتْقَى لِرَبِّكَ.
الشيخ: وهو في هذه الحالة الشَّديدة أنكر المنكر، اللهم ارضَ عنه، في هذه الحالة الشَّديدة بعد الطعن وما أصابه من المصيبة الكبرى وخطر الموت، لما رأى الشابَّ يمس ثوبُه الأرضَ قال: ردُّوه عليَّ. قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك.
هذا يدل على أنَّ المؤمن يُنكر المنكر مطلقًا في أي حالٍ؛ في حالة مرضه، وصحته، وسفره، وإقامته، في جميع الأحوال، وهذا فرض المؤمنين جميعًا: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71]، وهذا من الدلائل على كمال فضله، وعظيم عنايته، وغيرته لله رضي الله عنه وأرضاه، وكان رحمةً على المسلمين، رحم الله به العباد، ونشر الله به العدل، وأقام به سوق الجهاد، وانتشر به الإسلام في شرق الأرض وغربها، وجاهد المسلمون في الله جهادًا عظيمًا للروم وفارس وغير ذلك في خلافته رضي الله عنه وأرضاه، حتى أظهر الله به الحقَّ، وأظهر به العدل، وسار الناسُ في غايةٍ من الأمن والعافية والاستقامة ورغد العيش، رحمة الله عليه، ورضي عنه وعن أصحابه جميعًا.
يَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ، انْظُرْ مَا عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ؟ فَحَسَبُوهُ، فَوَجَدُوهُ سِتَّةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا وَنَحْوَهُ، قَالَ: إِنْ وَفَى لَهُ مَالُ آلِ عُمَرَ، فَأَدِّهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَإِلَّا فَسَلْ فِي بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَإِنْ لَمْ تَفِ أَمْوَالُهُمْ، فَسَلْ فِي قُرَيْشٍ، وَلَا تَعْدُهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، فَأَدِّ عَنِّي هَذَا الْمَالَ، انْطَلِقْ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَقُلْ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلَامَ، وَلَا تَقُلْ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ الْيَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا، وَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ.
فَسَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي، فَقَالَ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السَّلَامَ، وَيَسْتَأْذِنُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ. فَقَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، وَلَأُوثِرَنَّ بِهِ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي. فَلَمَّا أَقْبَلَ قِيلَ: هَذَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَدْ جَاءَ. قَالَ: ارْفَعُونِي. فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِ، قَالَ: مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَذِنَتْ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنَا قَضَيْتُ فَاحْمِلُونِي، ثُمَّ سَلِّمْ فَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَأَدْخِلُونِي، وَإِنْ رَدَّتْنِي فَرُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ.
وَجَاءَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةُ وَالنِّسَاءُ يَسْتُرْنَهَا، فَلَمَّا رَأَيْنَاهَا قُمْنَا، فَوَلَجَتْ عَلَيْهِ، فَبَكَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، وَاسْتَأْذَنَ الرِّجَالُ، فَوَلَجْتُ دَاخِلًا لَهُمْ، فَسَمِعْنَا بُكَاءَهَا مِنَ الدَّاخِلِ، فَقَالُوا: أَوْصِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اسْتَخْلِفْ. قَالَ: مَا أَجِدُ أَحَقَّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ -أَوِ الرَّهْطِ- الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ. فَسَمَّى: عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَالرَّحْمَنِ، وَقَالَ: يَشْهَدُكُمْ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ -كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ- فَإِنْ أَصَابَتِ الْإِمْرَةُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ.
الشيخ: أي: ما دام أميرًا.
فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ مِنْ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ.
وَقَالَ: أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ؛ أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَيَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ. وَأُوصِيهِ بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا، الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ: أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وأن يُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ. وَأُوصِيهِ بِأَهْلِ الْأَمْصَارِ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ رِدْءُ الْإِسْلَامِ، وَجُبَاةُ الْأَمْوَالِ، وَغَيْظُ الْعَدُوِّ، وَأَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُمْ إِلَّا فَضْلُهُمْ عَنْ رِضَاهُمْ. وَأُوصِيهِ بِالْأَعْرَابِ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ أَصْلُ الْعَرَبِ، وَمَادَّةُ الْإِسْلَامِ: أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ، وتُرَدَّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ. وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلَا يُكَلَّفُوا إِلَّا طَاقَتَهُمْ.
الشيخ: يعني: أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى والمجوس الذين لهم الجزية.
س: ما أُمِرَ؟
ج: يعني: ما دام آمِرًا.
فَلَمَّا قُبِضَ خَرَجْنَا بِهِ، فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي، فَسَلَّمَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ؟ قَالَتْ: أَدْخِلُوهُ. فَأُدْخِلَ، فَوُضِعَ هُنَالِكَ مَعَ صَاحِبَيْهِ.
فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ دَفْنِهِ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ: اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْكُمْ. قَالَ الزُّبَيْرُ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَلِيٍّ. فَقَالَ طَلْحَةُ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عُثْمَانَ. وَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. فَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ: أَيُّكُمَا تَبَرَّأَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَنَجْعَلُهُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ عَلَيْهِ وَالْإِسْلَامُ لَيَنْظُرَنَّ أَفْضَلَهُمْ فِي نَفْسِهِ؟ فَأُسْكِتَ الشَّيْخَان، فَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ: أَفَتَجْعَلُونَهُ إِلَيَّ، وَاللَّهُ عَلَيَّ أَنْ لَا آلُوَ عَنْ أَفْضَلِكُمْ؟ قَالَا: نَعَمْ. فَأَخَذَ بِيَدِ أَحَدِهِمَا، فَقَالَ: لَكَ قَرَابَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَالْقَدَمُ فِي الْإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، فَاللَّهُ عَلَيْكَ لَئِنْ أَمَّرْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ؟ وَلَئِنْ أَمَّرْتُ عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ؟ ثُمَّ خَلَا بِالْآخَرِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ قَالَ: ارْفَعْ يَدَكَ يَا عُثْمَانُ. فَبَايَعَهُ، فَبَايَعَ لَهُ عَلِيٌّ، وَوَلَجَ أَهْلُ الدَّارِ فَبَايَعُوهُ.
وَعَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ: أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ الرهط الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عُمَرُ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا، قَالَ لَهُمْ عَبْدُالرَّحْمَنِ: لَسْتُ بِالَّذِي أُنَافِسُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمُ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ؟ فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَالرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ، مَالَ النَّاسُ إِلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ، حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلَا يَطَأُ عَقِبَهُ، وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِيَ.
الشيخ: لأنها ثلاثة أيام ولياليها يُشاور الناس ويتأمّل وينظر، وتعب في هذا رضي الله عنه وأرضاه.
حَتَّى إِذَا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَصْبَحْنَا فِيهَا فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ.
قَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: طَرَقَنِي عَبْدُالرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَضَرَبَ الْبَابَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ، فَقَالَ: أَرَاكَ نَائِمًا؟! فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ الثَّلَاثَ بِكَبِيرِ نَوْمٍ، انْطَلِقْ فَادْعُ لِيَ الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا. فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ، فَشَاوَرَهُمَا، ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ: ادْعُ لِي عَلِيًّا. فَدَعَوْتُهُ، فَنَاجَاهُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ عَلَى طَمَعٍ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُالرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي عُثْمَانَ. فَدَعَوْتُهُ، فَنَاجَاهُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ.
فَلَمَّا صَلَّى النَّاسُ الصُّبْحَ، وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فأَرْسَلَ إِلَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ -وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ الْحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ- فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، يَا عَلِيُّ، إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ، فَلَا تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا. فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ. فَبَايَعَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ، وبايعه الناسُ، وَالْمُهَاجِرُونَ، وَالْأَنْصَارُ، وَأُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ، وَالْمُسْلِمُونَ.
س: الأخير أخرجه البخاري؟
ج: أثر المسور الظاهر أنه تبع القصة، كأنه تبع البخاري.
الطالب: "وعن حميد بن عبدالرحمن قال" وهذا رواه البخاري أيضًا.
وَمِنْ فَضَائِلِ عُثْمَانَ الْخَاصَّةِ: كَوْنُهُ خَتْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى ابْنَتَيْهِ.
وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِهِ، كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ -أَوْ سَاقَيْهِ- فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَسَوَّى ثِيَابَهُ، فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ! ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهَشَّ وَلَمْ تُبَالِهِ! ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ؟! فَقَالَ: أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ.
الشيخ: تكلَّم عليه؟
الطالب: قال: صحيح.
الشيخ: المحفوظ في الرواية: "كاشفًا عن ركبتيه"، أما الفخذ فالصحيح أنه عورة، كما جاءت به عدة أخبارٍ.
س: قوله هنا على فخذيه، هنا شاذَّة؟
ج: شكَّ الراوي، والصواب ركبتيه، أما ظهور فخذه فهذا في قصة خيبر فقط، وهذه مُحتملة أن تكون بغير قصدٍ، بسبب حركة الدابة، أو أنه منسوخ .......، وجاءت الأحاديثُ الدالة على أنَّ العورة من السرة إلى الركبة، وكلها يشدّ بعضُها بعضًا.
وَفِي الصَّحِيحِ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَأَنَّ عُثْمَانَ كَانَ قَدْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَمَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ، فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: هَذِهِ لِعُثْمَانَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ).
أَيْ: وَنُثْبِتُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ عُثْمَانَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَبَايَعَ النَّاسُ عَلِيًّا صَارَ إِمَامًا حَقًّا وَاجِبَ الطَّاعَةِ، وَهُوَ الْخَلِيفَةُ فِي زَمَانِهِ خِلَافَةَ نُبُوَّةٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَفِينَةَ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ؛ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ.
الشيخ: تقدم: الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يُؤتي اللهُ الملكَ مَن يشاء، ولا بأس بإسناده.
وَكَانَتْ خِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَخِلَافَةُ عُمَرَ عَشْرَ سِنِينَ وَنِصْفًا، وَخِلَافَةُ عُثْمَانَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَخِلَافَةُ عَلِيٍّ أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَخِلَافَةُ الْحَسَنِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ.
وَأَوَّلُ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ مُعَاوِيَةُ ، وَهُوَ خَيْرُ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنَّهُ إِنَّمَا صَارَ إِمَامًا حَقًّا لَمَّا فَوَّضَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخِلَافَةَ، فَإِنَّ الْحَسَنَ بَايَعَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، ثُمَّ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَظَهَرَ صِدْقُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ فِي مَوْضِعِهَا.
الشيخ: وهذ تُعدُّ من مناقبه عند أهل السنة، وتُعدُّ من معايبه عند الرَّافضة، ولكنَّها من مناقبه الكريمة وأعماله الجليلة، حيث أصلح الله به بين الفئتين، وحقق به ما قاله النبيُّ ﷺ: إنَّ ابني هذا سيِّد، ولعلَّ الله أن يُصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، فوقع ذلك؛ فإنَّ الناس قد بايعوا الحسنَ على القتال بعد أبيه، وتجمَّعت الجيوشُ ضد الشام، ومعاوية كذلك قد جيَّش الجيوشَ ضد العراق، فلولا الله سبحانه ثم هذا الصلح لكانت ملاحم وفتن لا يعلم مداها إلا الله، ولكن سبق في علم الله أن يُسهل هذا الصلح، وأن يُقدره على يد الحسن، فتمَّ ذلك بحمد الله في ربيع الأول من عام واحدٍ وأربعين من الهجرة، وصار يُسمَّى: عام الجماعة؛ لأنَّ الله جمع به شمل المسلمين وكلمتهم على رجلٍ واحدٍ بعد الفتنة العظيمة، بعد مقتل عثمان في آخر عام خمسٍ وثلاثين، وصارت الأعوامُ الخمسة فيها من القتال والفتن ما لا يُحصيه إلا الله : عام ستٍّ وثلاثين، وسبع وثلاثين، وثمانٍ وثلاثين، وتسعٍ وثلاثين، وأربعين.
فَالْخِلَافَةُ ثَبَتَتْ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ عُثْمَانَ بِمُبَايَعَةِ الصَّحَابَةِ، سِوَى مُعَاوِيَةَ مَعَ أَهْلِ الشَّامِ.
وَالْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ ؛ فَإِنَّ عُثْمَانَ لَمَّا قُتِلَ كَثُرَ الْكَذِبُ وَالِافْتِرَاءُ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلَى مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ: كَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَعَظُمَتِ الشُّبْهَةُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْحَالَ، وَقَوِيَتِ الشَّهْوَةُ فِي نُفُوسِ ذَوِي الْأَهْوَاءِ وَالْأَغْرَاضِ مِمَّنْ بَعُدَتْ دَارُهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَيَحْمِي اللَّهُ عُثْمَانَ أَنْ يَظُنَّ بِالْأَكَابِرِ ظُنُونَ سُوءٍ، وَيَبْلُغهُ عَنْهُمْ أَخْبَارٌ: مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُحرَّف، وَمِنْهَا مَا لَمْ يُعْرَفْ وَجْهُهُ. وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَهْوَاءُ أَقْوَامٍ يُحِبُّونَ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ.
وَكَانَ فِي عَسْكَرِ عَلِيٍّ مِنْ أُولَئِكَ الطُّغَاةِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ قَتَلُوا عُثْمَانَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِعَيْنِهِ، وَمَنْ تَنْتَصِرُ لَهُ قَبِيلَتُهُ، وَمَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ بِمَا فَعَلَهُ، وَمَنْ فِي قَلْبِهِ نِفَاقٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِظْهَارِهِ كُلِّهِ، وَرَأَى طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُنْتَصَرْ لِلشَّهِيدِ الْمَظْلُومِ، وَيُقْمَعْ أَهْلُ الْفَسَادِ وَالْعُدْوَانِ، وَإِلَّا اسْتَوْجَبُوا غَضَبَ اللَّهِ وَعِقَابَهُ؛ فَجَرَتْ فِتْنَةُ الْجَمَلِ عَلَى غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْ عَلِيٍّ، وَلَا مِنْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَإِنَّمَا أَثَارَهَا الْمُفْسِدُونَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ السَّابِقِينَ.
ثُمَّ جَرَتْ فِتْنَةُ صِفِّينَ لِرَأْيٍ؛ وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ لَمْ يُعْدَلْ عَلَيْهِمْ، أَوْ لَا يُتَمَكَّنْ مِنَ الْعَدْلِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ كَافُّونَ حَتَّى يجْتَمِعَ أمرُ الْأُمَّةِ، وَأَنَّهُمْ يَخَافُونَ طُغْيَانَ مَنْ فِي الْعَسْكَرِ، كَمَا طَغَوْا عَلَى الشَّهِيدِ الْمَظْلُومِ، وَعَلِيٌّ هُوَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ الْمَهْدِيُّ الَّذِي تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونوا مُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ، فاعْتَقَدَ أَنَّ الطَّاعَةَ وَالْجَمَاعَةَ الْوَاجِبَتَيْنِ عَلَيْهِمْ تَحْصُلُ بِقِتَالِهِمْ بطلب الواجب عليهم بما اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ التَّأْلِيفَ لَهُمْ كَتَأْلِيفِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ مِمَّا يَسُوغُ، فَحَمَلَهُ مَا رَآهُ -مِنْ أَنَّ الدِّينَ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، وَمَنْعُهُمْ مِنَ الْإِثَارَةِ، دُونَ تَأْلِيفِهِمْ- عَلَى الْقِتَالِ، وَقَعَدَ عَنِ الْقِتَالِ أَكْثَرُ الْأَكَابِرِ؛ لِمَا سَمِعُوهُ مِنَ النُّصُوصِ فِي الْأَمْرِ بِالْقُعُودِ فِي الْفِتْنَةِ، وَلِمَا رَأَوْهُ مِنَ الْفِتْنَةِ الَّتِي تَرْبُو مَفْسَدَتُهَا عَلَى مَصْلَحَتِهَا.
وَنَقُولُ فِي الْجَمِيعِ بِالْحُسْنَى: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
الشيخ: وهذا هو قول أهل السنة والجماعة؛ لأنَّ الذين ظلموا عثمانَ وتعدّوا عليه قد أساءوا وأخطأوا والتبس أمرهم، وصار طائفة من الناس يُؤيدون مَن قام لنصر الشَّهيد والانتقام له ممن ظلمه، كأهل الشام، وصار آخرون مع عليٍّ رضي الله عنه؛ لأنه واجب الطاعة، والخليفة الراشد، وحصل من هذه الشُّبهة فتنٌ وشرورٌ، مع اختلاط أناسٍ فيهم شرٌّ كثير وفسادٌ وانحرافٌ عن سواء السَّبيل، دخل بعضُهم مع هؤلاء، وبعضهم مع هؤلاء، وصارت الفتنة.
والصواب الذي عليه أهلُ السنة والجماعة: أنَّ الصحابة الذين مع عليٍّ والصحابة الذين مع معاوية مجتهدون، فمَن كان مع عليٍّ وأصحابه فله أجران؛ لأنهم أصابوا الحقَّ في القيام بجهاد وقتال مَن بغى، والذين مع معاوية من الصحابة -كعمرو بن العاص وغيره- لهم شُبهة الانتصار للمظلوم، وقصد طلب القضاء على الظلمة، والانتقام منهم، والانتصاف منهم، فلهم شُبهة بهذا، فلهم أجر اجتهادهم، وإن فاتهم أجر الصواب، وهذه هي القاعدة؛ فالمجتهدون في طلب الحقِّ بين أمرين:
أحدهما: مصيب فله أجران: أجر الإصابة، وأجر الاجتهاد.
والثاني: أخطأ، فيفوته أجرُ الصواب، ولكن لا يفوته أجرُ الاجتهاد.
والواجب كفّ اللسان عمَّا جرى بين الصَّحابة، وأن لا يُقال فيهم إلا بالحُسنى، كما ذكره الشارحُ، وكما هو معلومٌ عند أهل السنة والجماعة في هذا الباب وغيره، والأصل في هذا قوله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]، فعلي قام بهذا عملًا بالآية وما جاء في معناها، وظنًّا منه أن الأمر ينتهي بسرعةٍ، وأن الفتن يُقضى عليها، والآخرون قاموا بالانتصار للمظلوم، وأنَّ المظلوم يجب نصره، وأن يُنتقم ممن ظلمه، ويُقضى على مَن ظلمه، وظنّوا أنَّ الأمر ينتهي بسهولةٍ، وأن أصحاب القتل والظلم يمكن إمساكهم والقضاء عليهم وقتلهم، فلم يتم ذلك، فتطورت الحالُ إلى ما جرى، ونسأل الله حُسن العاقبة، وأن يغفر لأصحاب الرسول ﷺ ومَن له قصد صالح من أتباعهم، وأن يعفو عمَّن أخطأ.
الشيخ: وفي هذا الباب صحَّ الحديثُ عن رسول الله ﷺ في "الصحيحين": تمرق مارقةٌ من أمتي على حين فرقةٍ من المسلمين، تقتلهم أولى الطَّائفتين بالحقِّ، وهذه المارقة هم الخوارج، مرقوا على حين فرقةٍ، فقتلهم عليٌّ وأصحابه، فتبين أنَّ عليًّا وأصحابه هم أولى الطَّائفتين بالحقِّ، وهم المبغي عليهم.
وفي حديث الخوارج الحكم على الطائفتين بأنهما مسلمتان: تمرق مارقةٌ على حين فرقةٍ من المسلمين، فهم مسلمون، وأهل الشام وأهل العراق اختلفوا بسبب الشُّبهة التي وقعت في قتلة عثمان، والمارقة هي الخوارج الذين مرقوا وكفَّروا مَن عصى بزعمهم، وكفَّروا جمهور الصَّحابة الذين حضروا في هذا الأمر، وزعموا أنَّهم في قتالهم بينهم قد خرجوا من الإسلام، وهذا من جهل الخوارج وظلمهم وقلَّة بصيرتهم وغلوهم في الدين، كما قال النبيُّ ﷺ، فإنَّ هؤلاء قال فيهم النبيُّ ﷺ: إنه يكون قوم حُدثاء الأسنان، سُفهاء الأحلام، يحقر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامَه مع صيامهم، وقراءتَه مع قراءتهم، يمرقون من الإسلام، ثم لا يعودون إليه.
وَمِنْ فَضَائِلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : مَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَلِيٍّ: أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي.
وَقَالَ ﷺ يَوْمَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: فَتَطَاوَلْنَا لَهَا، فَقَالَ: ادْعُوا لِي عَلِيًّا، فَأُتِيَ بِهِ أَرْمَدَ، فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ، وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيْهِ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ [آل عمران:61] دَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي.
قَوْلُهُ: (وَهُمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَالْأَئِمَّةُ الْمَهْدِيُّونَ).
تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.
الشيخ: أيش قال عليه؟
الطالب: يقول: أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وابن ماجه والدارمي، وإسناده صحيح، صححه ابن حبان.
وَتَرْتِيبُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَجْمَعِينَ فِي الْفَضْلِ كَتَرْتِيبِهِمْ فِي الْخِلَافَةِ، وَلِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنَ الْمَزِيَّةِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَلَمْ يَأْمُرْنَا فِي الِاقْتِدَاءِ فِي الْأَفْعَالِ إِلَّا بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَفَرْقٌ بَيْنَ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِم وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، فَحَالُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَوْقَ حَالِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَجْمَعِينَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَقْدِيمُ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ، وَلَكِنْ ظَاهِر مَذْهَبِهِ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ، وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ.
وَقَالَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ: مَنْ لَمْ يُقَدِّمْ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَيٌّ: أَفْضَلُ أُمَّةِ النَّبِيِّ ﷺ بَعْدَهُ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ.
الشيخ: قال عليه شيئًا؟
الطالب: قال: صحيح، أخرجه أبو داود بسندٍ صحيحٍ عنه، وعند البخاري بنحوه، ولم يُخرجه مسلم.
الشيخ: شعيب؟
الطالب: أخرجه البخاري في "الفضائل" باب "فضل أبي بكرٍ بعد النبي ﷺ"، وليس هو في مسلمٍ.
الشيخ: في زيادة؟
الطالب: هذا الحديث رواه البخاري بلفظين آخرين، وهو من أفراده، لم يروه مسلمٌ في صحيحه، كما نصَّ على ذلك الحافظُ. وأما اللَّفظ الذي هنا فهو لفظ أبي داود، من رواية سالم، عن ابن عمر. ورواه أيضًا بنحوه من غير هذا الوجه: أحمد في "المسند"، وأبو داود، والترمذي. فقد تساهل الشارحُ كثيرًا.
س: .............؟
ج: كأنَّ الشارح يرى أن الاقتداء في القول والعمل، وإلا فالأظهر والله أعلم أنَّه من باب التأكيد على أهمية الصديق وعمر، وإلا فقوله: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين يعمّ القول والعمل، فليس واضحًا ما قاله الشارح.
س: ...............؟
ج: يعمّ سنتهما، ويعمّ الاقتداء بهما؛ فإنَّ سنتهما تشمل القول والعمل.
س: سنة الخلفاء الراشدين إذا اجتمعوا وإلا لو انفرد أحدٌ منهم بقولٍ؟
ج: مجتمعين ومُنفردين، إذا خفيت السنةُ –سنة النبي ﷺ- عند خفاء سنة النبي ﷺ، أما إذا كانت السنةُ واضحةً فالسنة مقدمة على كلِّ أحدٍ.
..............
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ": أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَمَعَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ: ارْمِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي.
وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ الَّتِي وَقَى بِهَا النَّبِيَّ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ قَدْ شُلَّتْ.
الشيخ: يُقال: شَلَّت. الأفصح فيها الفتح، ويقال: شُلَّت، لكن الأفصح عند أئمة اللغة: شَلَّت، يعني: تعطلت.
وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهَا النَّبِيُّ ﷺ غَيْرُ طَلْحَةَ وَسَعْدٍ.
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" -وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: نَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ النَّاسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ، وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ.
الشيخ: هذه منقبة للزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، يلقب: بأسد قريش، وهو ابن عمَّة رسول الله ﷺ صفية، ومعنى انتدبه يعني قال: مَن يذهب إلى هؤلاء فيأتينا بخبرهم؟ خبر قريش، فانتدب الزبير وقال: أنا يا رسول الله، وكان يومًا باردًا شديد البرودة، هذا يدل على شجاعةٍ وإيمانٍ رضي الله عن الجميع.
وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنِ الزُّبَيْرِ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ يَأْتِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَيَأْتِيَنِي بِخَبَرِهِمْ؟ فَانْطَلَقْتُ، فَلَمَّا رَجَعْتُ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَبَوَيْهِ فَقَالَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي.
وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ: أَبُو عُبَيْدَةَ ابْنُ الْجَرَّاحِ.
الشيخ: أيش قال عليه؟
الطالب: صحيح، وأخرجه البخاري أيضًا.
الشيخ: ذلك فضل الله يُؤتيه مَن يشاء، رضي الله عنه وأرضاه.
الشيخ: مَن رواه؟
الطالب: رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
الشيخ: .............
الطالب: جمع المؤلفُ لفظه من روايتين لأبي داود، ورواه أحمد في "المسند" نحوه، مُطولًا.
..............
الشيخ: النبي في الجنَّة يعني: جنس الأنبياء، ليس خاصًّا بمحمدٍ ﷺ، بل جنس الأنبياء، جميعهم في الجنَّة عليهم الصَّلاة والسلام، فهو لم يقل: أنا.
فهم عشرة غير النبي: الخلفاء الأربعة، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبدالرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وأبو عبيدة.
وَقَالَ: لَمَشْهَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَغْبَرُّ مِنْهُ وَجْهُهُ، خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ وَلَوْ عُمِّرَ عُمُرَ نُوحٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
وَعَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بن عمرو بن نُفيل فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ.
الشيخ: .................
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ"، وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَقَدَّمَ فِيهِ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى حِرَاءٍ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اهْدَأْ، فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ.
..............
الشيخ: وهم الرافضة قبَّحهم الله، يكرهون العشرة.
وَهُمُ الْعَشَرَةُ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَهُمْ يَسْتَثْنُونَ مِنْهُمْ عَلِيًّا ! فَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ يُوَالُونَ لَفْظَ التِّسْعَةِ! وَهُمْ يُبْغِضُونَ التِّسْعَةَ مِنَ الْعَشَرَةِ! وَيُبْغِضُونَ سَائِرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِئَةٍ، وَقَدْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18].
وَثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.
الشيخ: ويُشبه عمل الرَّافضة ما يقع عند بعض الجهلة في غامدٍ وزهران؛ كان عندهم عادة سيئة، وهي الخوف من السبعة؛ سبع شياطين معروفة عندهم، وكانوا يقولون دائمًا: خذوه يا سبعة، اقتلوه يا سبعة، افعلوا به يا سبعة، هذا في كلامٍ كثيرٍ من سُفهائهم وجهلتهم، وإذا أخذوا يعدون الحسابَ لا يقولون: سبعة، وإنما يقولون: سمحة، سمحة ثمانية، لا يُحبون أن ينطقوا: سبعة؛ لأنهم يخافون من شياطينهم، وهذا من الجهل الذي وقع فيه بعضُ الناس في هذا العصر، يقولون: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سمحة ثمانية، لا يذكرون اسم: سبعة، ويقولون إذا غضبوا: خذوه يا سبعة، افعلوا به يا سبعة، اقضوا عليه، اقتلوه، وهذا من جهلهم وضلالهم، ودعوة السَّبعة من الشرك الأكبر.
س: .............؟
ج: قد كتبنا في هذا كتابًا قديمًا ووُزِّع، ووجهنا إلى جهة غامد وزهران في هذه المسألة، أخبرنا بها الشيخ عبدالله بن زيد الغامدي قديمًا، ولا تزال في بقية منهم هذا الشيء، كما أخبرنا جماعةٌ منهم هذه الأيام، نسأل الله العافية.
س: ............؟
ج: لا، السبعة .....، لكن لو قال: أخذك السبعة، أو قتلك السبعة، لكان أسهل من قولهم: خذوه، فخذوه وافعلوا به هذا دعوة لهم ونداء لهم، يدعونهم بأن يفعلوا، أما الدعاء بأن يأخذوه: أخذك السبعة، أو أخزاك الشيطان، مثلما يقوله الناس: قاتلك العدو، قاتلك الله، من باب الدّعاء، ومن باب السَّب يعني.
............
وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" أَيْضًا: عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ غُلَامًا لحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كَذَبْتَ، لَا يَدْخُلُهَا؛ فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ.
وَالرَّافِضَةُ يتبرؤون مِنْ جُمْهُورِ هَؤُلَاءِ، بَلْ يَتَبَرَّؤونَ مِنْ سَائِرِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إِلَّا مِنْ نَفَرٍ قَلِيلٍ نَحْو بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ فِي الْعَالَمِ عَشَرَةٌ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ، لَمْ يُهْجَرْ هَذَا الِاسْمُ لِذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ [النمل:48] لَمْ يَجِبْ هَجْرُ اسْمِ التِّسْعَةِ مُطْلَقًا.
الشيخ: بل لا يُشرع، لا يجوز هجره لهذا الشَّيء.
بَلِ اسْمُ الْعَشَرَةِ قَدْ مَدَحَ اللَّهُ مُسَمَّاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:196]، وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [الأعراف:142]، وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1- 2].
وَكَانَ ﷺ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَكَانَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يقول: الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَالَ: مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ يَعْنِي: عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ.
وَالرَّافِضَةُ تُوَالِي بَدَلَ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، الِاثْنَيْ عَشَرَ إِمَامًا: أَوَّلُهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ وَصِيُّ النَّبِيِّ ﷺ، دَعْوَى مُجَرَّدَةً عَنِ الدَّلِيلِ، ثُمَّ الْحَسَنُ ، ثُمَّ الْحُسَيْنُ ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ -زَيْنُ الْعَابِدِينَ- ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ، ثُمَّ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ، ثُمَّ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ الْكَاظِمُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرَّضِيُّ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوَادُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَادِي، ثُمَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْعَسْكَرِيُّ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
الشيخ: وهذا الأخير هو صاحب السِّرداب، يقولون: دخل السِّرداب وهو ابن خمس سنين أو ستّ سنين، ولم يخرج إلى الآن.
وقد ادَّعى الخُميني الرافضي الخبيث أنه نائبٌ لمحمد بن الحسن العسكري، وأنه يدعو إلى أهل البيت، وإلى تعظيم الاثني عشر، ويقول: إنَّهم يعلمون الغيبَ، وإنهم معصومون، فيعبدونهم مع الله، نسأل الله العافية، تبًّا لهم، ما أسفه عقولهم! وما أضلهم! وما أجهلهم!
والذي يظهر والله أعلم أن هذه المقالات من رؤسائهم تلبيس، وإلا فهم على مجوسيَّتهم وكفرهم وضلالهم الخبيث، وهم يلبسون على الناس بحبِّ أهل البيت، وأما العامَّة فهم أشباه الأنعام؛ لا يعرفون شيئًا، نسأل الله العافية.
...............
وَيُغَالُونَ فِي مَحَبَّتِهِمْ، وَيَتَجَاوَزُونَ الْحَدَّ، وَلَمْ يَأْتِ ذِكْرُ الْأَئِمَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ إِلَّا عَلَى صِفَةٍ تَرُدُّ قَوْلَهُمْ وَتُبْطِلُهُ، وَهُوَ مَا خَرَّجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا يَزَالُ أَمْرُ النَّاسِ مَاضِيًا مَا وَلِيَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، ثُمَّ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ ﷺ بِكَلِمَةٍ خَفِيَتْ عَلَيَّ، فَسَأَلْتُ أَبِي: مَاذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ؟ قَالَ: كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ.
وَفِي لَفْظٍ: لَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً.
وَفِي لَفْظٍ: لَا يَزَالُ هذا الأمرُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً.
وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ، وَالِاثْنَا عَشَرَ: الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْأَرْبَعَةُ، وَمُعَاوِيَةُ، وَابْنُهُ يَزِيدُ، وَعَبْدُالْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَأَوْلَادُهُ الْأَرْبَعَةُ، وَبَيْنَهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ، ثُمَّ أَخَذَ الْأَمْرُ فِي الِانْحِلَالِ.
الشيخ: وهذا الواقع، فإنَّ الإسلام عزيز في زمن هؤلاء: الأربعة الخلفاء، ثم معاوية ، ثم يزيد مدّة قليلة، ثم تولى بعده عبدالملك وأولاده الأربعة، خمسة من بعده، هؤلاء أحد عشر، وبينهم عمر بن عبدالعزيز، هؤلاء اثنا عشر.
ثم جاءت الطامَّة والبلايا والمحن بعدما تولى الوليدُ بن يزيد الفاسق، وقامت الفتنُ على بني أمية والشّرور، حتى سُلبوا الملك، وتولَّى بعدهم بنو العباس، وصارت فتن طويلة عريضة في آخر بني أمية، وفي أول خلافة بني العباس، ثم استقرَّ الأمرُ لبني العباس، واختلَّ النظامُ، وذهبت قطعةٌ من الملك لما تولاها بنو أمية في المغرب، في الأندلس.
فالمقصود أنَّ هذا الحديث من علامات النبوة، والرافضة تتأوَّل هذا الحديثَ لها، وهو حُجَّة عليها، لا لها، فإنَّ هؤلاء الذين قالوا ما تولوا شيئًا سوى عليٍّ فقط، تولَّى مدةً يسيرةً مع خلافٍ بينه وبين أهل الشَّام، ولم تستقر له الأمور، والحسن ما تولى إلا مدة يسيرة؛ ستة أشهر تقريبًا، ثم تنازل لمعاوية، أما الباقون كلهم ما تولوا شيئًا، ولم يكن لهم ولاية ولا قسر لأهل الإسلام بالسيف، بل ما بين عالم، وبين عابدٍ، وبين مَن لم تُعرف لهم أعمال لها أهمية، ولكن الرافضةَ قوم بُهت، وقوم شرٍّ، وقوم فسادٍ.
الشيخ: ...............
قَوْلُهُ: (وَمَنْ أَحْسَنَ الْقَوْلَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ، وَذُرِّيَّاتِهِ الْمُقَدَّسِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ؛ فَقَد بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ).
تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى: خُمًّا، بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيب، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ، فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي ثَلَاثًا.
الشيخ: وهذا فعله ﷺ منصرفه من حجّة الوداع، لما رجع من حجَّة الوداع في آخر ذي الحجّة عام عشرٍ من الهجرة، خطب الناسَ في موضعٍ يُقال له: خم، قريب من رابغ، فذكَّرهم وحثَّهم على تقوى الله جلَّ وعلا، وأخبرهم أنه بشر مثل بقية الرسل، يُوشك أن يأتي رسولُ ربي فأُجيب، يعني: يوشك أن يأتي ملكُ الموت، فيُجيب إلى ذلك وينتهي الأمر.
ثم قال: إني تاركٌ فيكم ثقلين: أوَّلهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: وأهل بيتي يعني: تارك فيكم الثِّقل الثاني: أهل بيتي، أُذكِّركم الله في أهل بيتي يعني: في الإحسان إليهم، والرِّفق بهم، ومعرفة منزلتهم، وعدم إيذائهم، ومنهم فاطمة، ومنهم علي ، ومنهم أولاد عليٍّ، وأولاد العباس، وأولاد عقيل بن أبي طالب، وأولاد جعفر بن أبي طالب، وغيرهم من بني هاشم، ومنهم أزواج النبيِّ ﷺ، رضي الله عنهن وأرضاهن، فأوصى بالجميع خيرًا.
وقد امتثل الصحابةُ ومَن بعدهم ذلك؛ فاعتنى بهم الصديقُ، واعتنى بهم عمر، واعتنى بهم عثمان، وعلي، ومَن بعدهم رضي الله عنهم جميعًا.
والمقصود من هذا كله أنَّ أصحاب النبيِّ ﷺ وأزواجه وأهل بيته يجب على ولاة الأمور أن يعتنوا بهم، ويُحسنوا إليهم، وأن يمنعوا مَن تكلَّم فيهم بسوءٍ أو آذاهم أو قدح فيهم؛ لأنَّ ولاة الأمور هم النّواب بعده ﷺ في إلزام الناس بالحقِّ، وزجرهم عن الباطل، والأخذ على أيدي السَّفيه، ومن ذلك: إلزام الناس بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، والسير عليهما، والاستضاءة بنورهما، والحذر مما خالفهما، ثم العناية بأصحاب النبي ﷺ، والتَّرضي عنهم، والكفّ عن مساويهم، وعن أزواج النبي ﷺ وأهل بيته.
كل هذا مما يجب على ولاة الأمور من الأمراء والعلماء وأعيان الناس؛ أن يكونوا شيئًا واحدًا في هذا الباب، ضدّ أهل الباطل، وضد أهل الشرِّ.
س: متى كانت الخطبة هذه؟
ج: يمكن ستة عشر أو سبعة عشر ذي الحجة؛ لأنه صار من مكة يوم أربعة عشر، والإبل في السير المتوسط ما بين مكة والمدينة سبعة أيام ......، ذكر بعضُ الناس أنه موضع قريب من رابغ.
وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: ارْقُبُوا مُحَمَّدًا فِي أَهْلِ بَيْتِهِ.
وَإِنَّمَا قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (فَقَد بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ) لِأَنَّ أَصْلَ الرَّفْضِ إِنَّمَا أَحْدَثَهُ مُنَافِقٌ زِنْدِيقٌ قَصْدُهُ إِبْطَالُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالْقَدْحُ فِي الرَّسُولِ ﷺ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، فَإِنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ سَبَأٍ لَمَّا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ أَرَادَ أَنْ يُفْسِدَ دِينَ الْإِسْلَامِ بِمَكْرِهِ وَخُبْثِهِ، كَمَا فَعَلَ بُولِسُ بِدِينِ النَّصْرَانِيَّةِ؛ فَأَظْهَرَ التَّنَسُّكَ، ثُمَّ أَظْهَرَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى سَعَى فِي فِتْنَةِ عُثْمَانَ وَقَتْلِهِ، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ عَلى الْكُوفَةِ أَظْهَرَ الْغُلُوَّ فِي عَلِيٍّ وَالنَّصْرَ لَهُ؛ لِيَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِهِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا، فَطَلَبَ قَتْلَهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى قرقيس، وَخَبَرُهُ مَعْرُوفٌ فِي التَّارِيخِ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ مَنْ فَضَّلَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ جَلَدَهُ جَلْدَ مُفْتَرٍ.
وَبَقِيَتْ فِي نُفُوسِ الْمُبْطِلِينَ خَمَائِرُ بِدْعَةِ الْخَوَارِجِ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ وَالشِّيعَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الرَّفْضُ بَابَ الزَّنْدَقَةِ، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ ابْنُ الطَّيِّبِ عَنِ الْبَاطِنِيَّةِ وَكَيْفِيَّةِ إِفْسَادِهِمْ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَقَالُوا لِلدَّاعِي: يَجِبُ عَلَيْكَ إِذَا وَجَدْتَ مَنْ تَدْعُوهُ مُسْلِمًا أَنْ تَجْعَلَ التَّشَيُّعَ عِنْدَهُ دِينَكَ وَشِعَارَكَ، وَاجْعَلِ الْمَدْخَلَ مِنْ جِهَةِ ظُلْمِ السَّلَفِ لِعَلِيٍّ وَقَتْلِهِمُ الْحُسَيْنَ، وَالتَّبَرِّي مِنْ تَيْمٍ وَعَدِيٍّ، وَبَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي الْعَبَّاسِ، وَأَنَّ عَلِيًّا يَعْلَمُ الْغَيْبَ! يُفَوَّضُ إِلَيْهِ خَلْقُ الْعَالَمِ!! وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَعَاجِيبِ الشِّيعَةِ وجهلهم، فإذا أنستَ من بعض الشيعة عِنْدَ الدَّعْوَةِ إِجَابَةً وَرشدًا أَوْقَفْتَهُ عَلَى مَثَالِبِ عَلِيٍّ وَوَلَدِهِ رضي الله عنهما. انْتَهَى.
وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ مِنْ سَبِّ الصَّحَابَةِ إِلَى سَبِّ أَهْلِ الْبَيْتِ، ثُمَّ آلِ الرَّسُولِ ﷺ؛ إِذْ أَهْلُ بَيْتِهِ وَأَصْحَابُهُ مِثْلُ هَؤُلَاءِ الْفَاعِلِينَ الضَّالِّينَ.
.............
الشيخ: ولا شكَّ أنَّ الرافضة شرّهم عظيم، وهم الباطنية وأشباههم؛ لأنهم دخلوا من هذا الباب، فسبّوا أصحابَ النبي ﷺ، ثم تطرَّقوا إلى أهل البيت وذكر مثالبهم، شاءوا أم أبوا، فهم شرٌّ عظيم على المسلمين، وفتنهم عظيمة.
وعبدالله بن سبأ ذكر الذهبي أنه ممن حُرِّق بالنار، لكن المشهور أنه هرب ولم يكن مع المحرقين، وظاهر كلام الذهبي أنه ممن حرَّقه عليٌّ، وأن أمره انتهى، ولكن بعضَهم ذكر أنه سلم.