30 لا نصدِّق كاهناً ولا عرَّافاً ولا من يدَّعي شيئاً يخالف الكتاب والسُّنَّة وإجماع الأمة

قَوْلُهُ: (وَلَا نُصَدِّقُ كَاهِنًا وَلَا عَرَّافًا، وَلَا مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ).

رَوَى مُسْلِمٌ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.

الشيخ: يعني: وإن لم يُصدِّق، مجرد السؤال فيه هذا الوعيد الشديد؛ لأنه وسيلة إلى إظهار أمره، وإشهار أمره، حتى يقصده الناس، فصار الوعيدُ على مجرد السؤال: مَن أتى عرَّافًا فسأله عن شيءٍ لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا.

وبهذا يُعرف أنَّ ما وقع في بعض نسخ "التوحيد": فصدَّقه أنَّ هذا غلط، ليست في مسلم، وإنما غلط من بعض النساخ، زاد فصدَّقه، فالوعيد مُرتَّب على السؤال فقط، فإذا جاء التَّصديق صار الوعيد أشد، وهو الكفر، نسأل الله العافية، مَن صدَّقه فقد كفر بما أُنزل على محمدٍ ﷺ؛ لأنه صدَّقه بدعوى علم الغيب.

والكهنة والمنجمون والرَّمالون وأشباههم كلهم ممن يدَّعي علم الغيب، ويلبس على الناس ليأكل أموالهم بالباطل؛ ولهذا جاء فيهم الوعيد والتَّحذير: ليس منا مَن سحر أو سُحِرَ له، ليس منا مَن تكهَّن أو تُكُهِّن له، ليس منا مَن تطيَّر أو تُطُيِّر له؛ لأنَّ هذه الأشياء كلها تضرّ العقيدة، وتُفسد أحوال الناس.

س: كفر أكبر؟

ج: نعم، هذا الظاهر؛ لأنه تصديق في علم الغيب.

س: لو صدَّقه في هذه القضية التي سأله عنها التي تتعلق بعلاج مريضٍ أو كذا فهل يكون صدَّقه بدعوى علم الغيب؟

ج: هذه مسألة جزئية لا يلزم عليها الوعيد المذكور، إذا صدَّقه أنَّ هذا يقع فقط، لا أنه يعلم الغيب، أما أن يُصدقه في علم الغيب ولو بسبب قضيةٍ معينةٍ فإنه يعمّه الحديث؛ لأنَّ الغيب لا يعلمه إلا الله.

...............

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ.

وَالْمُنَجِّمُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْعَرَّافِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ فِي مَعْنَاهُ.

الشيخ: والمنجم من أقبح العرَّافين؛ فإنه يدَّعي المعرفة، فنظره في النُّجوم وزعمه بأنَّها إذا اقترنت بكذا وكذا: باسم فلان، واسم أمه، وباسم أبيه، ونحو ذلك، صار كذا، ووقع كذا مما يخرصون، فهو من جملة العرَّافين؛ ولهذا سُمِّي: سحرًا: مَن اقتبس شعبةً من النجوم فقد اقتبس شعبةً من السِّحر، زاد ما زاد رواه أبو داود وغيره بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عباسٍ، فكونه من السحر أبلغ.

فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ حَالَ السَّائِلِ، فَكَيْفَ بِالْمَسْؤُولِ؟

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" وَ"مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ" عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ: لَيْسُوا بِشَيْءٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا أَكْثَرَ مِنْ مِئَةِ كَذْبَةٍ.

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ خَبِيثٌ.

وَحُلْوَانُهُ: الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ: حَلَاوَتَهُ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يُعْطَاهُ الْمُنَجِّمُ.

الشيخ: يعني: ما يُعطاه الكاهن والمنجم والرمال ليُخبر بالمغيبات، وهو خبيث، ومال مكسوب بالباطل، ومكسوب بالكذب، فيكون حرامًا منكرًا، كالبغي وما تُعطاه للتَّمكين من الفاحشة.

س: الشَّياطين والجنّ هم سواء؟

ج: الشياطين مردة الجنِّ، مثل: شياطين الإنس؛ مردتهم.

وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يُعْطَاهُ الْمُنَجِّمُ وَصَاحِبُ الْأَزْلَامِ الَّتِي يُسْتَقْسَمُ بِهَا، مِثْلُ: الْخَشَبَةِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا: "ا ب ج د"، وَالضَّارِبُ بِالْحَصَى، وَالَّذِي يَخُطُّ فِي الرَّمْلِ، وَمَا تَعَاطَاهُ هَؤُلَاءِ حَرَامٌ. وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ: كَالْبَغَوِيِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ وَغَيْرِهِمَا.

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمُ اللَّيْلَةَ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ؛ فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي، كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي، مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ.

وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" وَ"مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ" عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ.

الشيخ: الفخر بالأحساب هكذا الحديث.

وَالنُّصُوصُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَتَّسِعَ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهَا.

وَصِنَاعَةُ التَّنْجِيمِ الَّتِي مَضْمُونُهَا الْإِحْكَامُ وَالتَّأْثِيرُ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ بِالْأَحْوَالِ الْفَلَكِيَّةِ، أَوِ التَّمْريح بَيْنَ الْقُرى الْفَلَكِيَّةِ.

الشيخ: أو؟

الطالب: أو التَّمريح.

الشيخ: بالحاء؟

الطالب: نعم.

الشيخ: بين أيش؟

الطالب: بَيْنَ الْقُرى الْفَلَكِيَّةِ وَالْفَوايِلِ الْأَرْضِيَّةِ.

الشيخ: بالفاء؟

الطالب: نعم.

الشيخ: علَّق عليه بشيءٍ؟

الطالب: لا.

الشيخ: التَّمريح بالحاء؟

الطالب: نعم.

الشيخ: بين؟

الطالب: بَيْنَ الْقُرى الْفَلَكِيَّةِ وَالْفَوايِلِ الْأَرْضِيَّةِ.

الشيخ: حُطَّ عليها إشارة، تُراجع، يُراجع البحث هذا.

الشيخ: والمقصود أنَّ الاستدلال بالنُّجوم له أحوال، وكذلك التَّنجيم له أحوال ثلاثة:

الحال الأول: هو استعمال التنجيم لمعرفة الحوادث ومعرفة أمر الغيب، وزعم أنَّ هذه النجوم في سيرها واجتماعها وافتراقها لها أثر في حياة الناس وموتهم وغير ذلك من شؤون الحياة، هذا كفر أكبر، وكفر بالربوبية، وإذا ادَّعى معه علم الغيب صار كفرًا آخر من جهة دعواه علم الغيب، ومن جهة زعمه أنَّ النجوم مُؤثرة وفاعلة في موتٍ وحياةٍ وغير ذلك، فإن زعم أنَّ هذا بأسبابٍ، وأن المصرف هو الله، صار كفرًا من جهة دعوى علم الغيب، وأنه يعلم بهذا من المغيبات، وأنَّ لها سرًّا في علم الغيب، وكذب على الله في زعمه أنَّ لها سببًا.

الحال الثاني: أن لا يعتقد ذلك، وأن لا يعتقد علم الغيب فيها، ولكن يقول: اقترانها واجتماعها قد جعله الله سببًا لكذا وكذا، فهذا أيضًا باطل ومنكر، وداخل في الذم والنَّهي والتَّحذير.

الحال الثالث: أن لا يعتقد ذلك، وإنما يتعلم سيرها؛ ليعرف أوقات ومواضع البلدان والمياه، من باب علم السير، لا علم التَّأثير، وهو علم التَّسيير؛ تعلم المنازل ليعلم بها جهات البلدان والطُّرقات إليها وإلى المياه، وكذلك القبلة، فهذا لا بأس به على الصحيح، لكن لا يُعبر بالباء، ولا يُقال: علمنا بنوء كذا، أو مُطرنا بنوء كذا، أو سرنا بنوء كذا، أو ما أشبه ذلك، ولكن بعبارةٍ أخرى: بفي، فيقول: إذا كانت الثُّريا في كذا، أو إذا دخل النجمُ الفلاني، أو طلع النجمُ الفلاني في وقت كذا، وفي وقت كذا، أو إذا كان في منزلة كذا في الجهة الفلانية، من باب إظهار العلامات فقط، أما أن يقول: مُطرنا بنوء كذا، أو علمنا كذا بكذا، فهذه الباء نهى عنها الرسولُ ﷺ: مَن قال: مُطرنا بنوء كذا، فهو كافر بي، مؤمن بالكوكب؛ لأنها تُؤذن بالسَّببية، فإبعادها وعدم استعمالها هو الواجب؛ تأدُّبًا مع النص، ولو كان قصده صالحًا، وليس قصده أنَّ لها تأثيرًا، أو أنها سبب علم الغيب وما أشبه ذلك.

..............

الشيخ: انظر: تمريح، مرح.

الطالب: والتَّمريح: تنقية الطعام من العفا بالمكانس، وتدهين الجلد، وملء المزادة الجديدة ماءً ليذهب مرحها، أي: لتنسد عيونها، وأن تصير إلى مرحى الحرب، أخذت من لفظ: المرحى، لا من الاشتقاق. ومرحيا –محركة- للرامي، كمرحى، موضع. وكرم ممرح كمعظم: مثمر، أو معرش. وكزبير: أطم بالمدينة لبني قينقاع. وككتاب: ثلاث شعاب ينظر بعضُها إلى بعضٍ. والمرحة -بالكسر: الأنبار من الزبيب وغيره.

بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى لِسَانِ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ، قَالَ تَعَالَى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:69]، وَقَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النساء:51]، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ: الْجِبْتُ: السِّحْرُ.

وَفِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ، فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: تَدْرِي مِمَّ هَذَا؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي، فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ.

وَالْوَاجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَكُلِّ قَادِرٍ أَنْ يَسْعَى فِي إِزَالَةِ هَؤُلَاءِ الْمُنَجِّمِينَ وَالْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِينَ وَأَصْحَابِ الضَّرْبِ بِالرَّمْلِ وَالْحَصَى وَالْقَرْعِ وَالْقالَاتِ، وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الْحَوَانِيتِ وَالطُّرُقَاتِ، أَوْ يَدْخُلُوا عَلَى النَّاسِ فِي مَنَازِلِهِمْ لِذَلِكَ.

وَيَكْفِي مَنْ يَعْلَمُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ وَلَا يَسْعَى فِي إِزَالَتِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79].

الشيخ: يعني: يكفيه في الذم والتَّحذير والقبح.

وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاعِينُ يَقُولُونَ الْإِثْمَ وَيَأْكُلُونَ السُّحْتَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.

وَثَبَتَ فِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِرِوَايَةِ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ.

الشيخ: علَّق عليه؟

الطالب: قال: صحيح، وهو مخرَّج في "المشكاة".

الشيخ: شعيب؟

الطالب: نعم: وأخرجه أحمد وأصحابُ السنن الأربعة وغيرهم من طرقٍ: عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس ابن أبي حازم: أنه سمع أبا بكرٍ. وإسناده صحيح، وصححه الترمذي وابن حبان وغيرُهما.

س: الفالات؟

الطالب: في تعليق قال في الحاشية: الفالات أو الغالات.

س: قوله: والقرع؟

ج: الظاهر أن المقصود به حبُّ القرع، مثلما يضربون بالحصى والنَّوى، يعني: يلبسون على الناس ويضربون بها ويقولون: إذا كان كذا صار كذا، كله من خدمة الشياطين، مثلما قال غلام أبي بكر: ما أُحْسِنُ الكهانة، ولكني خدعته. بعضهم يضرب بالحصى، وبعضهم يضرب بالنوى، وبعضهم يضرب بحبِّ القرع، كله تلبيس.

وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الْخَارِجَةَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنْوَاعٌ:

  • نَوْعٌ مِنْهُمْ أَهْلُ تَلْبِيسٍ وَكَذِبٍ وَخِدَاعٍ، الَّذِينَ يُظْهِرُ أَحَدُهُمْ طَاعَةَ الْجِنِّ لَهُ، أَوْ يَدَّعِي الْحَالَ مِنْ أَهْلِ الْمُحَالِ مِنَ الْمَشَايِخِ النَّصَّابِينَ، وَالْفُقَرَاءِ الْكَذَّابِينَ، وَالطُّرُقِيَّةِ الْمَكَّارِينَ، فَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ الَّتِي تَرْدَعُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ عَنِ الْكَذِبِ وَالتَّلْبِيسِ.

وَقَدْ يَكُونُ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ: كَمَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْخُزَعْبَلَاتِ، أَوْ يَطْلُبُ تَغْيِيرَ شَيْءٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَنَحْو ذَلِكَ.

  • وَنَوْعٌ يَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى سَبِيلِ الْجِدِّ وَالْحَقِيقَةِ بِأَنْوَاعِ السِّحْرِ.

وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يُوجِبُونَ قَتْلَ السَّاحِرِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ الصَّحَابَةِ: كَعُمَرَ وَابْنِهِ وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمْ. ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ: هَلْ يُسْتَتَابُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُكَفَّرُ بِالسِّحْرِ، أَمْ يُقْتَلُ لِسَعْيِهِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ؟

وَقَالَ طَائِفَةٌ: إِنْ قَتَلَ بِالسِّحْرِ قُتِلَ، وَإِلَّا عُوقِبَ بِدُونِ الْقَتْلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ كُفْرٌ. وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

الشيخ: والصواب أنه متى علم أنه ساحر أنه يُقتل بغير استتابةٍ، ويُقتل كافرًا؛ لقوله جلَّ وعلا: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ [البقرة:102]، فهو لا يعصي إلا بالشرك والكفر وخدمة الشياطين وعبادتهم من دون الله، ثم دعواه التوبة لا تنفع؛ لأنه قد يتظاهر بها وهو كاذب، كحال المنافقين؛ ولأنَّ شرَّه لا يُتدارك إلا بالقتل؛ ولهذا لما علم عمر بوجود بعض السَّحرة أمر بقتلهم ولم يستتبهم، وهكذا حفصةُ لما علمت بسحر جاريةٍ لها قتلتها.

فالمقصود أنَّ شرَّ السَّحرة لا يندفع إلا بالقتل؛ لأنهم يلبسون على الناس، وربما أظهروا التوبةَ خوفًا من السلاح، وهم على شرِّهم وفسادهم.

وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ وَأَنْوَاعِهِ: وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ قَدْ يُؤَثِّرُ فِي مَوْتِ الْمَسْحُورِ وَمَرَضِهِ مِنْ غَيْرِ وُصُولِ شَيْءٍ ظَاهِرٍ إِلَيْهِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَخْيِيلٍ.

وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ دَعْوَةِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، أَوْ غَيْرِهَا، أَوْ خِطَابِهَا، أَوِ السُّجُودِ لَهَا وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهَا بِمَا يُنَاسِبُهَا مِنَ اللِّبَاسِ وَالْخَوَاتِمِ وَالْبَخُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ كُفْرٌ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الشِّرْكِ، فَيَجِبُ غَلْقُهُ، بَلْ سَدُّهُ.

وَهُوَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ وَلِهَذَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ۝ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88- 89].

س: .............؟

ج: كأنَّ لهم خصوصية بهذا في عبادة النُّجوم، وفي عبادة الكواكب، مثل: بعض عُبَّاد الجنِّ، وعباد النِّيران، يدَّخرون لها من الأشياء والخواص والخواتم الخاصَّة وبخور خاصّ لشيوخهم من الجنِّ وساداتهم من الجنِّ.

س: هل هذا عبادة؟

ج: هذا نوع عبادةٍ لهم، هذه الأشياء من أنواع العبادة؛ لأنها تعظيم لهم، التَّقرب لهم بشيءٍ يتعبد به كالطيب عبادة، فالطيب في الأعياد والجمع وإزالة الرَّوائح الكريهة قربة إلى الله.

س: والخواتم كذلك؟

ج: الخواتم لا؛ لأنه من جهة أنَّ هذا لسرٍّ، فيفعلون لسرٍّ خاصٍّ.

س: أصحاب الزَّار يكفرون؟

ج: إذا فعلوا هذه الأشياء التي يتقربون بها إلى الجنِّ، وبعضهم إذا لبس الخاتم جاءه مطلوبُه من الشياطين، وصار يستعمله في كذا، ويستعمله في كذا، عمَّا يقوله الذي يتعاطى الزَّار، وإلا لم أقف على شيءٍ من كلام أهل العلم في هذا الشَّيء.

س: .............؟

ج: لأنهم يتظاهرون بشيءٍ قد لا يرجعون عنه إلا لمجرد الخوف من السلاح؛ ولأنَّ شرَّهم عظيم في الباطن، وإن كان تاب توبةً صادقةً ما ضرَّه القتل، بل عجل إلى الخير والسَّلامة، وإن كانت توبته كاذبةً استراح الناسُ من شرِّه.

س: إذا لم يُقدر عليه وجاء تائبًا؟

ج: هذا يُقبل إذا جاء تائبًا قبل أن يُقبض عليه، وقبل أن يُعرف شرُّه، هذا هو الصَّواب.

وَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:76- 82].

وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ كُلَّ رُقْيَةٍ وَتَعْزِيمٍ أَوْ قَسَمٍ فِيهِ شِرْكٌ بِاللَّهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّكَلُّمُ بِهِ، وَإِنْ أَطَاعَتْهُ بِهِ الْجِنُّ أَوْ غَيْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ كُلُّ كَلَامٍ فِيهِ كُفْرٌ لَا يَجُوزُ التَّكَلُّمُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ لَا يُتَكَلَّمُ بِهِ؛ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شِرْكٌ لَا يُعْرَفُ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا.

وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِعَاذَةُ بِالْجِنِّ، فَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]، قَالُوا: كَانَ الْإِنْسِيُّ إِذَا نَزَلَ بِالْوَادِي يَقُولُ: أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنْ سُفَهَائِهِ، فَيَبِيتُ فِي أَمْنٍ وَجِوَارٍ حَتَّى يُصْبِحَ.

فَزَادُوهُمْ رَهَقًا يَعْنِي: الْإِنْس لِلْجِنِّ بِاسْتِعَاذَتِهِمْ بِهِمْ، رَهَقًا أَيْ: إِثْمًا وَطُغْيَانًا وَجَرَاءَةً وَشَرًّا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ سُدْنَا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ! فَالْجِنُّ تَعَاظَمُ فِي أَنْفُسِهَا وَتَزْدَادُ كُفْرًا إِذَا عَامَلَتْهَا الْإِنْسُ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ۝ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:40-41]، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ وَيُخَاطِبُونَهُمْ بِهَذِهِ الْعَزَائِمِ، وَأَنَّهَا تَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ ضَالُّونَ، وَإِنَّمَا تَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:128]، فَاسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِيِّ بِالْجِنِّيِّ: فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَإِخْبَارِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ: تَعْظِيمُهُ إِيَّاهُ، وَاسْتِعَانَتُهُ بِهِ، وَاسْتِغَاثَتُهُ وَخُضُوعُهُ لَهُ.

الشيخ: وهذا البحث يقع فيه كثيرٌ من الناس بسبب الجهل وقلَّة العلم، وبسبب أنَّ المرضى يتشبثون بكل شيءٍ، ويتعلَّقون بكل شيءٍ، فالاستعاذة بالجنِّ والالتجاء إليهم والذبح لهم والنَّذر لهم كان هذا من عادات الجاهلية ومن أعمال الجاهلية في المشركين الأولين، فجاء الإسلامُ بالنَّهي عن هذا، والتَّحذير من هذا، والأمر بالاستعاذة بالله وحده .

فالواجب على أهل الإسلام أن يحذروا أخلاقَ الجاهلية وأعمال الجاهلية التي ذمَّها الإسلامُ وعابها، ومن جُملتها التَّعلق بالجنِّ، والاستعاذة واللجوء إليهم، والذَّبح لهم، ونحو ذلك مما جرت عليه أعمالُ الجاهلية؛ فلهذا قال الله ذامًّا لهذا الصنف من الناس: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] زادوهم رهقًا فُسِّر بمعنيين:

أحدهما: أنَّ الواو تعود على الإنس، يعني: زاد الإنسُ الجنَّ رهقًا وطغيانًا وتعاظُمًا وتكبرًا عليهم، لما رأوهم يستعيذون بهم تكبَّر سادتهم وأُمراؤهم، وصار شرُّهم يزيد على الإنس إذا لم يستعيذوا بهم، وإذا لم يلجؤوا إليهم، وإذا لم يذبحوا لهم ويُعطوهم مطالبهم، وهذا من أعظم البلاء، فهم أرادوا السَّلامة فجاءهم شرٌّ وبلاءٌ.

والمعنى الثاني الذي فسَّره به أهلُ العلم: أنَّ الواو تعود على الجنِّ: فَزَادُوهُمْ أي: زاد الجنُّ الإنسَ رهقًا، يعني: زادوهم خوفًا وذعرًا، فصاروا يلهجون بدعائهم، والاستعاذة بهم، والتَّعلق بهم؛ خوفًا منهم.

وكلا المعنيين صحيح؛ فإنَّ استعاذة الإنس بالجنِّ تزيدهم طغيانًا وكفرًا، وتزيد الإنسَ رهقًا بمعنى: خوفًا وذعرًا، فالجن يزيدون الإنسَ رهقًا وذعرًا وخوفًا، والإنس يزيدون الجنَّ طغيانًا وكفرًا وتعاظُمًا وشرًّا.

فالواجب الاستعاذة بالله وحده، واللجوء لله وحده، ولا يجوز أبدًا النذر للجنِّ والذبح لهم، أو الاستعانة بهم، بل هذا من الشرك الأكبر؛ لأنه من الإيمان بغير الله، وهذا يُنافي قول: لا إله إلا الله، ويُنافي: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

وقد كان فريقٌ من الجاهلية -وسار على نهجهم كثيرٌ ممن يدَّعون الإسلام- يذبحون للجنِّ إذا استحدثوا أرضًا يزرعونها، أو بئرًا يحفرونها، أو بيتًا يسكنونه؛ ذبحوا لهم، وقالوا: نتَّقي شرَّهم في هذه الأرض، أو في هذا البيت، أو في هذه البئر! وهذا من جهلهم وضلالهم، فإن الاعتصام بالله وحده واللجوء لله وحده هو الطريق للسَّلامة من كلِّ شرٍّ.

وهكذا تعلق الجهلة اليوم في أمصارٍ كثيرةٍ، في دولٍ كثيرةٍ، في أصحاب القبور، ورفع الحاجات إليهم، وهو من جنس هذا، هو من الشرك الأكبر، فإنَّ هذا أيضًا أمر دسَّه الشَّيطان على الناس، وقالوا لهم ما قالوا للأوَّلين من الجاهلية: إنَّ الأولياء وإنَّ العظماء من الإنس إذا ماتوا يكون لهم جاه، ويكون لهم شأن، فإذا دُعوا واستُغيث بهم ونُذر لهم وذُبح لهم شفعوا إلى الله بقضاء الحاجات! وهذا نفس شرك الأوَّلين، الذي فعله الجاهلية، كما قال جلَّ وعلا: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، هم لا يخلقون، ولا يرزقون، فهم يعلمون ذلك من حالهم، ولكن يزعمون أنهم يشفعون لهم عند الله إذا دعوهم واستغاثوا بهم ونذروا لهم وذبحوا لهم.

وهكذا قوله : أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، ولم يقولوا: ما نعبدهم إلا ليخلقوا ويرزقوا ويُعطونا الأولاد. فهم يعلمون أنَّ الله هو الخلَّاق الرزاق ، ولكن أرادوا أنهم يُقربونهم ويشفعون لهم.

وهذا هو نفس ما قصده عُبَّاد البدوي، وعباد الحسين، وعباد علي، وعباد عبدالقادر، وعباد غيرهم ممن يُدْعَى من دون الله، فهو شرك الأولين بقي في الآخرين، وزاده الشيطانُ شدةً، وزادهم فيه تعلقًا حتى صاروا يعبدونهم حتى في الشَّدائد، فالأولون شركهم في الرَّخاء، فإذا جاءت الشَّدائد أخلصوا له العبادة، كما قال سبحانه: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، وقال سبحانه: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [لقمان:32]، فهم في حال الشَّدائد يُخلصون لله، أما عبَّاد البدوي وعباد القبور اليوم وعباد الأشجار والأحجار يزداد شركهم في الشّدة علاوةً على الرخاء، فإذا صاروا في البحار في السفن والبواخر ورأوا شيئًا من اختلال البحر صاروا يصرخون بآلهتهم: يا سيدي البدوي! يا سيدي فلان! يا سيدي فلان! ونسوا الله، نسأل الله العافية، فصاروا بهذا أشد شركًا من الأولين، وأكفر من المشركين الأولين؛ لأنَّ الأولين شركهم في الرَّخاء دون الشّدة، أما هؤلاء المتأخرون فشركهم دائمًا في الرخاء والشّدة جميعًا، بل يزداد شركهم في الشّدة أكثر، نسأل الله العافية.

وَنَوْعٌ مِنْهُمْ بِالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَالْكُشُوفِ وَمُخَاطَبَته رِجَالِ غَيْبٍ، وَأَنَّ لَهُمْ خَوَارِقَ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ! وَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُعِينُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَقُولُ: إِنَّ الرَّسُولَ أَمَرَهُ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ؛ لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَصَوْا! وَهَؤُلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ إِخْوَانُ الْمُشْرِكِينَ.

وَالنَّاسُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْزَابٍ:

حِزْبٌ يُكَذِّبُونَ بِوُجُودِ رِجَالِ الْغَيْبِ، وَلَكِنْ قَدْ عَايَنَهُمُ النَّاسُ، وَثَبَتَ عَمَّنْ عَايَنَهُمْ أَوْ حَدَّثَهُ الثِّقَاتُ بِمَا رَأَوْهُ، وَهَؤُلَاءِ إِذَا رَأَوْهُمْ وَتَيَقَّنُوا وُجُودَهُمْ خَضَعُوا لَهُمْ.

الشيخ: وهؤلاء الذين يدَّعون هم الشياطين الذين يتصورون لهم ويتمثَّلون لهم في صور أناسٍ يُعظمونهم ويُقدِّسونهم، فيأتون إليهم في صور بعض الأولياء أو بعض المؤمنين، وبعضهم يُعظمهم أولئك المشركون، يقولون: هؤلاء رجال الغيب، ويقولون: هم رجال يقضون الحاجات، ويسدون ما يطلبه الإنسان منهم، فهم بين شيطانٍ تمثَّل لهم في صورةٍ لا يعرفونها، أو تمثَّل لهم بأناسٍ يعرفونهم.

حتى قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: لقد حدَّثني أناسٌ أنهم رأوني جئتُهم وقضيتُ لهم بعض الحوائج في حياته. وهي شياطين تمثَّلت بشيخ الإسلام ابن تيمية وجاءت تقضي لهم بعض الحوائج، فظنُّوا أنه نفس شيخ الإسلام جاءهم في أماكن أخرى، وتمثَّل لهم، وأنه لكرامته صارت له أحوال ينتقل بها هاهنا وهاهنا، ويقضي الحوائجَ للذين يدعونه من دون الله، وهذا من الجهل العظيم، والبلاء العظيم، والشر المستطير، نسأل الله العافية، منهم مَن يرى البدوي، ويرى عبد القادر، ويرى الرسول بزعمه، وكله ضلال، وكله شرٌّ وشياطين تضلهم وتغويهم، حتى إنَّ الأصنام قد تُكلمهم، أصنامهم التي صوَّروها على صورة فلانٍ وفلانٍ وفلانٍ، أو صور الملائكة بزعمهم، تدخل بها الشياطين وتُكلمهم منها، أو تُكلمهم حولها، ويظنون أنه منها.

وَحِزْبٌ عَرَفُوهُمْ، وَرَجَعُوا إِلَى الْقَدَرِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ ثَمَّ فِي الْبَاطِنِ طَرِيقًا إِلَى اللَّهِ غَيْرَ طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ!

وَحِزْبٌ مَا أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا وَلِيًّا خَارِجًا عَنْ دَائِرَةِ الرَّسُولِ، فَقَالُوا: يَكُونُ الرَّسُولُ هُوَ مُمِدًّا لِلطَّائِفَتَيْنِ. فَهَؤُلَاءِ مُعَظِّمُونَ لِلرَّسُولِ، جَاهِلُونَ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنَّ رِجَالَ الْغَيْبِ هُمُ الْجِنُّ، وَيُسَمَّوْنَ: رِجَالًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]، وَإِلَّا فَالْإِنْسُ يُؤْنَسُونَ -أَيْ: يظهرون وَيُرَوْنَ- وَإِنَّمَا يَحْتَجِبُ الْإِنْسِيُّ أَحْيَانًا، لَا يَكُونُ دَائِمًا مُحْتَجِبًا عَنْ أَبْصَارِ الْإِنْسِ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُمْ مِنَ الْإِنْسِ فَمِنْ غَلَطِهِ وَجَهْلِهِ.

وَسَبَبُ الضَّلَالِ فِيهِمْ، وَافْتِرَاقِ هَذِهِ الْأَحْزَابِ الثَّلَاثَةِ: عَدَمُ الْفُرْقَانِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ، وَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ: الْفُقَرَاءُ يُسَلَّمُ إِلَيْهِمْ حَالُهُمْ! وَهَذَا كَلَامٌ بَاطِلٌ.

الشيخ: والفقراء هم فقراء الصُّوفية، لا فقراء المال، طائفة من الصوفية يُسمون الفقراء؛ لأنهم بزعمهم زهدوا في الدنيا، وأقبلوا على الآخرة، وتبدت لهم أمور غيبية، وصاروا بها أولياء، وهم فقراء من الدِّين في الحقيقة، قد افتقروا من الدِّين، وذهب عنهم دينُهم، نسأل الله العافية.

وهذا كلام باطل، بَلِ الْوَاجِبُ عَرْضُ أَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ عَلَى الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَمَا وَافَقَهَا قُبِلَ، وَمَا خَالَفَهَا رُدَّ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ.

فَلَا طَرِيقَةَ إِلَّا طَرِيقَةُ الرَّسُولِ ﷺ، وَلَا حَقِيقَةَ إِلَّا حَقِيقَتُهُ، وَلَا شَرِيعَةَ إِلَّا شَرِيعَتُهُ، وَلَا عَقِيدَةَ إِلَّا عَقِيدَتُهُ، وَلَا يَصِلُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ بَعْدَهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ إِلَّا بِمُتَابَعَتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.

وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُصَدِّقًا فِيمَا أَخْبَرَ، مُلْتَزِمًا لِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ، فِي الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ، وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي عَلَى الْأَبْدَانِ؛ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى.

الشيخ: وهذا هو الحق، ليس للناس طريق إلا طريق محمد عليه الصلاة والسلام، ليس للناس طريق إلى الله وإلى الجنة إلا الطريق التي بعث الله بها نبيَّه محمد عليه الصلاة والسلام فقط، أما الطرق الأخرى التي أحدثها عبادُ الشيطان وعباد الجنِّ والمنحرفون عن الحقِّ ومَن ضلَّ سعيُهم في الحياة الدنيا؛ فهذه الطرق كلها طرق فاسدة باطلة، قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، فكلّ ما عدا صراط الله المستقيم فهو من السبل المضلة، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، فلا طريقَ إلا اتِّباعه، ولا صراطَ إلا الصراط الذي بعث به نبيه عليه الصلاة والسلام، وهو الإسلام، وهو الهدى والإيمان، وهو طاعة الله ورسوله، هذا هو الطريق، ما هناك طريق آخر، وهو المراد في قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وهو المراد في قوله: وَإِنَّكَ يعني: يا محمد لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۝ صِرَاطِ اللَّهِ [الشورى:52-53]، وهو توحيد الله، والإخلاص له، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده، وترك ما خالف شرعه، هذا هو الصراط، وهذا هو الطريق، وهذا هو الإسلام، وهذا هو الإيمان، وهذا هو الهدى، وهذا هو الصلاح، وهذا هو الاتباع لما جاء به الرسولُ ﷺ، لا سواه، ليس هناك سواه.

وَلَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ، وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ، وَأَنْفَقَ مِنَ الْغَيْبِ، وَأَخْرَجَ الذَّهَبَ مِنَ الْخَشَبِ، وَلَوْ حَصَلَ لَهُ مِنَ الْخَوَارِقِ مَاذَا عَسَى أَنْ يَحْصُلَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَ تَرْكِهِ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ وَعَملِ الْمَحْظُورِ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ الْمُبْعِدَةِ لِصَاحِبِهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، الْمُقَرِّبَةِ إِلَى سُخْطِهِ وَعَذَابِهِ.

لَكِنْ مَنْ لَيْسَ يُكَلَّفُ مِنَ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينَ قَدْ رُفِعَ عَنْهُمُ الْقَلَمُ، فَلَا يُعَاقَبُونَ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْإِقْرَارِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مَا يَكُونُونَ بِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ، وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ، وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ، لَكِنْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21].

فَمَنِ اعْتَقَدَ فِي بَعْضِ الْبُلْهِ أَوِ الْمُولَعِينَ -مَعَ تَرْكِهِ لِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ- أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَيُفَضِّلُهُ عَلَى مُتَّبِعِي طَرِيقَةِ الرَّسُولِ ﷺ، فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ، مُخْطِئٌ فِي اعْتِقَادِهِ.

............

الشيخ: والمقصود أنَّ بعض الجهلة من عباد القبور -من عباد الأولياء- يزعمون أنَّ البُله والمجانين والصّبيان وأشباههم من أولياء الله الذين يُعتقد فيهم، ويُدعون من دون الله، ويُستغاث بهم، ويُنذر لهم، بزعمهم أنهم ليس عليهم ذنبٌ؛ لأنهم ما بين مجنونٍ، وما بين صغيرٍ، هؤلاء لما كانت الذنوبُ ساقطةً عنهم لعدم تكليفهم زعموا أنَّهم يكونون من الأولياء الذين يُدعون من دون الله، ويُستغاث بهم.

وهذا من فساد العقول وانحرافها، فإنَّ هؤلاء حسبهم أن يكونوا تبعًا لأهلهم في النَّجاة، أما أنهم يكونون من أوليائه المقرَّبين، وممن تعظم حسناتهم عند الله، وممن تُرفع لهم الدَّرجات العُلى، وممن جاهدوا في سبيل الله، وممن لهم الأعمال العظيمة، فهذا ليس كذلك، فهؤلاء حسبهم أن يكونوا تبعًا لآبائهم في الإيمان في دخول الجنَّة.

ثم لو قُدر وفُرض أنَّ شخصًا من المؤمنين بلغ الغايةَ من الإيمان والتَّقوى والصلاح والجهاد ما جاز لأحدٍ أن يعبده من دون الله، فإنه بهذا لا يكون أفضلَ من الأنبياء، والأنبياء أفضل الناس، ومع هذا لا يُعبدون من دون الله، ولا يُستغاث بهم، ولا يُنذر لهم، ولا يُتوكل عليهم، بل هذا حقّ الله وحده: وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:80]، فجعل التَّعلق على الأنبياء والملائكة كفرًا بعد الإسلام، فكيف بحال هؤلاء المجانين والبُلْه والصّبيان؟!

لكنَّ هؤلاء المشركين في أعظم ضلالٍ، وأبعد شيءٍ عن النَّظر في المعقول، فضلًا عن الهدى، كيف لمجنونٍ ومعتوهٍ وأبلهٍ أن يُعبد؟!

وكان في الجزيرة هنا قبل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله أناسٌ من هؤلاء البُله والمجانين يُعبدون من دون الله، في الدرعية، وفي الخرج، وفي الحوطة، وبعض الأماكن، يقولون: هؤلاء أولياء يُستغاث بهم، ويُتبرك بهم، ويُنذر لهم، فلما صارت دعوةُ الشيخ رحمه الله، وبيَّن لهم هذا الضَّلال، وهذا الكفر، وهذا الفساد، انحسم هذا من هذه الجزيرة والحمد لله وانتهى.

ولكن دُعاة الشيطان ودُعاة الشِّرك لا يزالون في كل مكانٍ يدعون إلى الشرك: في مصر والشام والعراق، وفي كل مكانٍ، ومَن جاء إلى هنا من عمال وغير عمال حصل منهم فساد كبير وشرٌّ عظيم؛ لعقائدهم الفاسدة التي نشأوا عليها في البلدان هناك.

ومن ذلك ما يتعلق بدعاء الموتى، والاستغاثة بالأنبياء، سواء كانوا أنبياء أو كانوا ممن يُدَّعى فيهم الولاية، كما فعلوا مع البدوي في مصر، وكما فعلوا مع الحسين في مصر أيضًا، وفي النَّجف، وكما فعلوا مع الشيخ عبد القادر الجيلاني في العراق، وكما فعلوا مع غيرهم بزعمهم أنَّهم أولياء؛ فلهذا يُدعون من دون الله من بعيدٍ، ويُنادونهم: يا سيدي فلان، يا سيدي البدوي، يا سيدي عبد القادر، يا سيدي الحسين، أنا في جوارك، أنا كذا، أنا كذا، اشفِ مريضي، ردَّ غائبي، لك عليَّ كذا، لك من المال كذا، من النقود كذا، من البقر كذا، وهكذا، نسأل الله العافية.

هكذا تكون المصيبةُ العظيمة والانحراف وفساد العقول وفساد الفِطَر، فيتركون الحيَّ القيوم الذي خلقهم وخلق مَن قبلهم، ويعبدون أناسًا مُرتهنين بأعمالهم في القبور، لا يستطيعون الدَّفع عن أنفسهم شيئًا، فكيف بغيرهم؟!

الحسين قُتل ما دفع عن نفسه، عليّ قُتل، وعمر قُتل، وهم من أشرف الصَّحابة وأفضل الصَّحابة بعد الصديق، عمر نفسه وعثمان وعلي كلهم قُتلوا، وهم أشرف الصحابة، ما دفعوا عن أنفسهم، والحسين بن علي كذلك قتله الجيشُ الذي بعثه أميرُ العراق، ما دفعوا عن أنفسهم شيئًا، فكيف يُعبدون من دون الله؟! كيف يُستغاث بهم بعد الموت لما كانوا في التراب وخلوا بأعمالهم؟!

لكن أهلَ الشرك لا يعقلون، قد سُلبت عقولهم، قال الله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، فجعل هؤلاء المشركين أضلّ من الأنعام وأبعد عن الهدى، ووصفهم بالغفلة عن الحقِّ والهدى.

وقال في الآية الأخرى في سورة الفرقان: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، فالذين أعرضوا عن الحقِّ وعن اتِّباع الرسول، وتعلَّقوا بالقبور وبالأصنام والأشجار والأحجار وبالبُلْه وبالمجانين هؤلاء أضلّ وأبعد عن الهدى من البهائم، نسأل الله السلامة.

فالواجب على العاقل أن ينتبه، وأن يحذر مما بُلي به الأكثرون من الضَّلال بأسباب تزيين الشيطان وتلبيسه، نسأل الله العافية.

س: ...............؟

ج: مشهور أن رأسه يقال: نُقل إلى مصر، وهذا ما له حقيقة، لكن أهل الشرك يتعلَّقون بكل شيءٍ، وإلا ما ثبت أنَّ رأسه نُقل إلى مصر، وأغلب ما قيل في ذلك أنه حُفظ في الشام، في خزائن الشام، أو دُفن في أرض الشام لما جيء به إلى يزيد، أو رُدَّ إلى جثته في العراق، على كل حالٍ، أهل الشرك يتعلَّقون بكل خيطٍ، خيط العنكبوت.

فَإِنَّ ذَاكَ الْأَبْلَهَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْطَانًا زِنْدِيقًا، أَوْ زُوكَارِيًّا.

الشيخ: تكلم على زوكاريًّا؟

الطالب: نعم، قال الشيخ أحمد شاكر: هذه لفظة مُولَّدة، وفي شرح القاموس: الزواكرة: مَن يتلبس فيُظهر النُّسك والعبادة، ويُبطن الفسق والفساد. نقله المقري في "نفح الطيب".

مُتَحَيِّلًا، أَوْ مَجْنُونًا مَعْذُورًا، فَكَيْفَ يُفَضَّلُ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّبِعِينَ لِرَسُولِهِ؟! أَوْ يُسَاوَى بِهِ؟! وَلَا يُقَالُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُتَّبِعًا فِي الْبَاطِنِ، وَإِنْ كَانَ تَارِكًا لِلِاتِّبَاعِ فِي الظَّاهِرِ! فَإِنَّ هَذَا خَطَأٌ أَيْضًا، بَلِ الْوَاجِبُ مُتَابَعَةُ الرَّسُولِ ﷺ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

قَالَ مُوسَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ: قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ: إِنَّ صَاحِبَنَا اللَّيْثَ كَانَ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَصَّرَ اللَّيْثُ رَحِمَهُ اللَّهُ، بَلْ إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ، فَلَا تَغْترُّوا بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَاب.

الشيخ: قد صدقا جميعًا: الليث والشافعي رحمة الله عليهما، الليث بن سعد إمام أهل مصر، وفقيه أهل مصر في المئة الثانية، والشافعي رحمه الله فقيه العراق وفقيه مصر في آخر المئة الثانية، وفي أول المئة الثالثة، يقول: لا تغتروا بمَن يدَّعي الولاية، فربما طار في الهواء، ومشى على الماء، مما تفعله معه الشياطين، لا تغتروا بهؤلاء حتى تعرضوا أمرَهم على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وتنظروا مدى استقامتهم على الكتاب والسنة، وهل هم مُستقيمون أو مُنحرفون؟ هل هم دُعاة للحقِّ أو دُعاة للضَّلال؟

فهذه الأشياء التي يفعلها بعضُ الناس بأسباب الشياطين، ومن شعوذة الشياطين، وحملته الشياطين في الهواء، أو مشى على الماء، أو جعل الحجرَ أمامك ذهبًا، أو ما أشبه ذلك من التَّزوير والفساد، لا يغترّ بهؤلاء؛ لأنَّ معهم شياطين تُزَوِّر على الناس، وتُغير أمامهم أشياء كثيرة، من باب التَّزوير والتَّغيير والتَّلبيس، فالعاقل لا يغترّ بهؤلاء، ولا يقول: إنهم أولياء، بل هؤلاء من أولياء الشياطين، حتى يعرض أمرهم على الكتاب والسنة، فإذا كانوا مُستقيمين على ما قاله الله ورسوله ظاهرًا وباطنًا فهؤلاء هم الأولياء الذين قال فيهم سبحانه: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62- 63]، فالولاية تكون بتقوى الله والإيمان بالله، لا بالمعاصي والمخالفات، ولا بالخرافات، ولا بمخارق الشَّياطين.

ثم لو بلغ أعظم ولايةٍ، وكان لا يُخطئ قط، وكان مستقيمًا، لم يكن أفضل من الرسل، ولم يكن أفضل من الأنبياء، والرسل والأنبياء لا يُعبدون من دون الله، فالأولياء من باب أولى.

س: قول الشافعي: قصَّر اللَّيثُ؟

ج: يعني: ما ذكر أنه لو طار في الهواء.

وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: اطَّلَعْتُ عَلَى الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْبُلْهَ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَا يَنْبَغِي نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ إِنَّمَا خُلِقَتْ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ أَرْشَدَتْهُمْ عُقُولُهُمْ وَأَلْبَابُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِأَوْصَافِهِمْ فِي كِتَابِهِ، فَلَمْ يَذْكُرْ فِي أَوْصَافِهِمُ الْبَلَهَ الَّذِي هُوَ ضَعْفُ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا قَالَ ﷺ: اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَلَمْ يَقُلِ: الْبُلْهَ!

الشيخ: علَّق بشيءٍ عندكم؟

الطالب: نعم، قال: الحديث الأول ضعيف، رواه أبو بكر الكلاباذي في "مفتاح المعاني"، وابن عساكر، وقال ابن شاهين: تفرد به مصعب بن ماهان. قلت: وهو صدوق كثير الخطأ، كما في "التقريب". قلت: لكن في الطريق إليه أحمد بن عيسى الخشاب، قال ابن عدي: له مناكير. ثم ساق له هذا الحديث وقال: فهذا باطل بهذا السند. ثم رواه ابنُ عدي وغيره من حديث أنس بن مالك مرفوعًا: "أكثر أهل الجنة البُله"، وقال: "منكر بهذا الإسناد، لم يروه غير سلامة بن روح"، قلت: وهو ضعيف؛ لسوء حفظه, وتابعه سفيان بن عيينة عند أبي موسى المديني في "اللَّطائف"، ولكنه قال: "حديث غريب جدًّا من حديث ابن عُيينة عن الزهري، وإنما يُعرف هذا من رواية سلامة بن روح".

ورُوي مرسلًا من وجهين:

الأول عن محمد بن المنكدر، فقال المعافى بن عمران في "الزهد": حدَّثنا محمد ابن أبي حميد المدني، عن محمد بن المنكدر مرفوعًا به. والمدني هذا ضعيف كما في "التقريب".

والآخر عن عمر بن عبدالعزيز مرسلًا مرفوعًا به، وزاد: "وأعلى عليين لأُولي الألباب". رواه عبد الوهاب الكلابي في "حديثه" بسنده عن عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز، عن أبيه, وعبدالعزيز صدوق يُخطئ كما في "التقريب"، وفيه مَن لم أجد مَن ترجمه, وفي هذه الرواية ردٌّ على مَن قال: إنَّ هذه الزيادة لم يُوجد لها أصلٌ، وأنها مُدرجة من كلام أحمد ابن أبي الحواري. فإنَّ أحمد هذا ليس له ذكر في هذه الرِّواية.

وإنما أطلتُ الكلامَ على هذا الحديث لأني رأيتُ الشيخ أحمد شاكر علَّق عليه بقوله: "ومجموع ما قيل فيه أنه لا أصلَ له"، ولا أعلم أحدًا من العلماء أطلق هذا القولَ على الحديث، وإنما قال ذلك بعضُهم في الزيادة المذكورة كما تقدم، وإذا كان مردودًا فيها فردّه عن أصل الحديث أولى وأحرى، ولا يجوز في اصطلاح المحدثين أن يُقال في حديثٍ له سند واحد أو أكثر ولو كان ضعيفًا: لا أصلَ له. فليُعلم ذلك.

الشيخ: شعيب؟

الطالب: يقول: هذا حديث غريب، أخرجه الكلاباذي في "مفتاح المعاني"، وابن عساكر، وفي سنده مصعب بن ماهان، وهو كثير الخطأ، وأحمد بن موسى الخشاب قال ابن عدي: له مناكير. ثم ساق له هذا الحديثَ وقال: فهذا باطل بهذا السند. وأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار"، والبزار والدَّيلمي في "مسنديهما"، والبيهقي في "الشعب"، والخلعي في "فوائده"، كلٌّ من حديث سلامة بن روح، عن عُقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالكٍ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ الله ﷺ: إنَّ أكثر أهل الجنة البُلْه، وسلامة بن روح قال فيه أبو زرعة: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، محله عندي محل الغفلة، وقد عُدَّ هذا الحديثُ من مُنكراته، ثم هو لم يسمع من جدِّ أبيه، إنما أخذ من كتبه. ونقل أبو جعفر الطحاوي عن أحمد ابن أبي عمران أنَّ البُله المرادين فيه هم البُله عن محارم الله تعالى، لا مَن سواهم ممن به نقص العقل بالبَلَهِ.

الشيخ: المقصود أنَّ الحديث باطل وليس بشيءٍ، لكن لو صحَّ فالمراد أنهم شُغلوا بالعبادة بطاعة الله والإقبال عليها عمَّا يتعلق بالدنيا وشأنها وجمعها ونحو ذلك، سمّوا بهذا المعنى لهذا المعنى، ولكن الحديثَ لا أصلَ له.

س: هذا الشيخ ناصر على قوله: لا ينبغي أن يُطلق لفظ: .........؟

ج: يعني من باب الاصطلاح، هي أهلها أصل ضعيف فيُبين الأصل الضَّعيف، ....... ما لها أصل، ما لها سند بالكلية، هذا يقال: لا أصلَ له ......

وَالطَّائِفَةُ الْمُلَامِيَّةُ: وَهُمُ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا يُلَامُونَ عَلَيْهِ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ مُتَّبِعُونَ فِي الْبَاطِنِ! وَيَقْصِدُونَ إِخْفَاءَ الْمُرَائِينَ، رَدُّوا بَاطِلَهُمْ بِبَاطِلٍ آخَرَ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ بَيْنَ ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يُصْعَقُونَ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَنْغَامِ الْحَسَنَةِ مُبْتَدِعُونَ ضَالُّونَ، وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَدْعِيَ مَا يَكُونُ سَبَبَ زَوَالِ عَقْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَوْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، بَلْ كَانُوا كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23].

وَأَمَّا الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ الْعُلَمَاءُ بِخَيْرٍ مِنْ عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ، فَأُولَئِكَ كَانَ فِيهِمْ خَيْرٌ، ثُمَّ زَالَتْ عُقُولُهُمْ، وَمِنْ عَلَامَةِ هَؤُلَاءِ: أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ فِي جُنُونِهِمْ نَوْعٌ مِنَ الصَّحْوِ، تَكَلَّمُوا بِمَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَيَهْذُونَ بِذَلِكَ فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِمْ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَكَلَّمَ إِذَا حَصَلَ لَهُمْ نَوْعُ إِفَاقَةٍ بِالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَيَهْذُونَ بِذَلِكَ فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِمْ.

وَمَنْ كَانَ قَبْلَ جُنُونِهِ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا لَمْ يَكُنْ حُدُوثُ جُنُونِهِ مُزِيلًا لِمَا ثَبَتَ مِنْ كُفْرِهِ أَوْ فِسْقِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، يَكُونُ مَحْشُورًا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ.

وَزَوَالُ الْعَقْلِ بِجُنُونٍ أَوْ غَيْرِهِ -سَوَاءٌ سُمِّيَ صَاحِبُهُ: مُولَهًا أَوْ وَلِهًا- لَا يُوجِبُ مَزِيدَ حَالٍ، بَلْ حَالُ صَاحِبِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، لَا أَنَّهُ يَزِيدُهُ أَوْ يَنْقُصُهُ، وَلَكِنَّ جُنُونَهُ يَحْرِمُهُ الزِّيَادَةَ مِنَ الْخَيْرِ، كَمَا أَنَّهُ يَمْنَعُ عُقُوبَتَهُ عَلَى الشَّرِّ، وَلَا يَمْحُو عَنْهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَهُ.

الشيخ: وقد يُقال في هذا: إنَّ مسألة الجنون وما يحصل من اختلال العقل يكون من جملة المصائب التي يُكفر بها السّيئات، فإنها مصيبة عظمى، الجنون مصيبة عظمى، والمصائب ثبت بالنصوص أنها يُكفر بها اللهُ الخطايا، وتُحط بها السيئات، فما أصابه من جنونٍ أو ضعفٍ في العقل، أو زوالٍ في العقل من غير أن يُسمَّى: مجنونًا، بل سُمي: أبله، أو سُمي بغير ذلك، فإنَّ هذا يكون من جملة المصائب، يُرجا له بها تكفير الذنوب، لكن لا يجعله بهذا من الأولياء، وهو ليس من الأولياء قبل ذلك، بل كان معروفًا بالمعاصي، فالمقصود أنَّ هذا كله من باب المصائب.

س: .............؟

ج: يعني: بزوال العقل لا تُقام عليه الحدود، ومع ذلك لا تزيده درجات، وإنما يحصل له تكفير للسيئات؛ لأنَّ المصيبة في الأصل تُكفر السّيئات.

س: إن قتل؟

ج: حتى وإن قتل لا يُقتل، والدية على العاقلة.

س: .............؟

ج: أصحاب الخمر تُقام عليهم الحدود؛ لأنهم تعاطوا الخمر باختيارهم، تُقام عليهم الحدود، ويُقتلون بمَن قتلوا.

س: تصرُّفات شارب الخمر محسوبة عليه؟

ج: محسوبة عليه، وإنما الخلاف في الكلام في الطلاق والعتق وأشباه ذلك.

وَمَا يَحْصُلُ لِبَعْضِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَنْغَامِ الْمُطْرِبَةِ مِنَ الْهَذَيَانِ وَالتَّكَلُّمِ ببَعْضِ اللُّغَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلِّسَانِ الْمَعْرُوفِ مِنْهُ، فَذَلِكَ شَيْطَانٌ يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ، كَمَا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَكَيْفَ يَكُونُ زَوَالُ الْعَقْلِ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا أَوْ تَقَرُّبًا إِلَى وِلَايَةِ اللَّهِ، كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ؟! حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ:

هُمْ مَعْشَرٌ حَلُّوا النِّظَامَ وَخَرَّقُوا الـ سِّيَاجَ فَلَا فَرْضٌ لَدَيْهِمْ وَلَا نَفْلُ
مَجَانِينُ إِلَّا أَنَّ سِرَّ جُنُونِهِمْ عَزِيزٌ عَلَى أَبْوَابِهِ يَسْجُدُ الْعَقْلُ

وَهَذَا كَلَامُ ضَالٍّ، بَلْ كَافِرٍ، يَظُنُّ أَنَّ فِي الْجُنُونِ سِرًّا يَسْجُدُ الْعَقْلُ عَلَى بَابِهِ!! لِمَا رَآهُ مِنْ بَعْضِ الْمَجَانِينِ مِنْ نَوْعِ مُكَاشَفَةٍ، أَوْ تَصَرُّفٍ عَجِيبٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، كَمَا يَكُونُ لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ، فَيَظُنُّ هَذَا الضَّالُّ أَنَّ كُلَّ مَنْ خُبِلَ أَوْ خَرَقَ عَادَةً كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ! وَمَنِ اعْتَقَدَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ۝ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:221- 222]، فَكُلُّ مَنْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ كَذِبٌ وَفُجُورٌ.

وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَعَبَّدُونَ بِالرِّيَاضَاتِ وَالْخَلَوَاتِ، وَيَتْرُكُونَ الْجُمَعَ وَالْجَمَاعَاتِ، فَهُمُ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، قَدْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، كَمَا قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَكُلُّ مَنْ عدَلَ عَنِ اتِّبَاعِ سُنَّةِ الرَّسُولِ: إِنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا فَهُوَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ ضَالٌّ.

الشيخ: كما قال تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، فالمغضوب عليهم مَن عرف ولم يعمل، كاليهود وأشباههم، والضَّال مَن تعبد على جهالةٍ من غير علمٍ.

وَلِهَذَا شَرَعَ اللَّهُ لَنَا أَنْ نَسْأَلَهُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّين وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.

الطالب: حديث: مَن ترك ثلاث جمعٍ تهاونًا الحديث صحيح، لكنَّه ليس في الصحيح كما ذكره الشارحُ، قال: أخرجه الترمذي وأبو داود والنَّسائي وابن ماجه من حديث ....... الضمري، وسنده حسن، صححه ابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي، وله شاهد عند ابن ماجه من حديث جابرٍ، وحسَّنه الحاكم، وصححه الترمذي، وآخر عند أحمد من حديث أبي قتادة، وسنده حسن، وصححه الحاكم.

الشيخ: له شاهد أيضًا عند مسلم في الصحيح من حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم، عن النبي ﷺ أنَّه قال: لينتهينَّ أقوامٌ عن ودعهم الجمعات أو ليختمنَّ اللهُ على قلوبهم، ثم ليكوننَّ من الغافلين رواه مسلم، وذكره الحافظُ في "البلوغ" في أول الجمعة، وهذا من شواهد هذا الباب.

المقصود أنَّ مَن ترك الجمعَ لغير عذرٍ شرعي فهو من أسباب الختم على قلبه، وخروجه من دائرة الإسلام، نسأل الله السَّلامة.

س: هل يقع طلاقُ السَّكران؟

ج: فيه خلاف بين أهل العلم، وأنه لا يقع إذا وقع منه، هذا الذي أفتى به عثمانُ ، وهو الصواب، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وجماعة؛ لأنَّ هذا يضرّه ويضرّ غيره جميعًا، بخلاف الحدِّ فهو يُقام عليه إذا كان عليه حدٌّ، وليس إيقاعُ الطلاق عليه من الحدِّ، بل هو شيء زائد، وهكذا لو أعتق عبيدَه لا يعتقون ما دام ثبت أنه أعتقهم في حال زوال عقله، أما إذا قتل أحدًا، أو أخذ ماله، فهذا لا يُعفا عنه؛ لأنَّ هذا يتَّخذ حيلةً بسبب السُّكْر، فيُقام عليه حدُّ السرقة، ويُقتل قصاصًا، إلى غير ذلك.

وَأَمَّا مَنْ يَتَعَلَّقُ بِقِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَجْوِيزِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْوَحْيِ بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ الَّذِي يَدَّعِيهِ بَعْضُ مَنْ عَدِمَ التَّوْفِيقَ؛ فَهُوَ مُلْحِدٌ زِنْدِيقٌ؛ فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إِلَى الْخَضِرِ، وَلَمْ يَكُنِ الْخَضِرُ مَأْمُورًا بِمُتَابَعَتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهُ: أَنْتَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمُحَمَّدٌ ﷺ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ، وَلَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّيْنِ لَكَانَا مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَإِذَا نَزَلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْأَرْضِ إِنَّمَا يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ.

فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مَعَ مُحَمَّدٍ ﷺ كَالْخَضِرِ مَعَ مُوسَى، أَوْ جَوَّزَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ؛ فَلْيُجَدِّدْ إِسْلَامَهُ، وَلْيَشْهَدْ شَهَادَةَ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ مُفَارِقٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مُفَرِّقٌ بَيْنَ زَنَادِقَةِ الْقَوْمِ وَأَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ، وَحَرِّكْ تَرَ.

الشيخ: وهذا الذي قاله المؤلفُ كلام عظيم وكلام جيد، فمَن زعم أنَّ أحدًا من الناس يستغني عن اتباع محمدٍ عليه الصلاة والسلام، ويزعم أنه يأتيه العلمُ من الله رأسًا، ويقول بعضُهم: حدَّثني قلبي عن ربي! مَن زعم هذا وقال: إنَّه بإمكانه الاستغناء عن شريعة محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وأن يستقلَّ بعلمٍ خاصٍّ من الله ، ليس من طريق الأنبياء، بل من طريق أوهامه وما يقع في قلبه من الخواطر، وما يزعم أنه تلقَّاه عن الله؛ فقد أبعد النُّجعة، وقد ضلَّ عن سواء السَّبيل، وقد خرج عن دائرة الإسلام، وصار إلى دائرة الكفر، نعوذ بالله؛ لأنه يلزم جميع الناس أن يتَّبعوا محمدًا عليه الصلاة والسلام: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28].

فمَن زعم أنَّه يجوز له الخروج عن شريعة محمدٍ عليه الصلاة والسلام فقد قال قولًا عظيمًا، وأتى كفرًا بواحًا، نعوذ بالله، وهكذا كفر شنيع، وهذا يدَّعيه كثيرٌ من الصوفية الضَّالين الزنادقة؛ يزعمون أنهم يستغنون بما يتلقونه بزعمهم عن الله من طريق التَّحديث؛ من طريق الحديث الذي يقع في القلب، وأنَّ الله جلَّ وعلا يُحدِّثهم ويأمرهم وينهاهم! وهذا من جهلهم وضلالهم ونفاقهم وبُعدهم عن الهدى، فإنَّ الخضر ليس من بني إسرائيل، وليس موسى مبعوثًا إليه، فالخضر نبي مستقل، ليس له تعلق بموسى، وموسى إنما بُعث إلى بني إسرائيل، وكل نبي قبل نبينا يُبعث إلى قومه خاصَّة، وغيرهم غير مسؤول عنهم، وغير مسؤولين عنه.

أما محمد ﷺ فقد بعثه الله للناس عامَّة من الجنِّ والإنس، والعرب والعجم، والذكور والإناث، والأغنياء والفقراء، والحكام والمحكومين، كلهم مأمورون باتِّباع محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وكلهم مأمورون بإخلاص العبادة لله وحده، فمَن خرج عن طريقة محمدٍ وعن شريعته فقد كفر بالله، وضلَّ عن سواء السَّبيل، فلا يكون من الأولياء كما يزعم هؤلاء الزَّنادقة من الصُّوفية أنهم يستقلُّون بالعلم اللَّدني من عند الله؛ تُحدِّثهم قلوبهم عن ربهم! وأنهم ليسوا بحاجةٍ إلى اتباع الأنبياء! هذا ضلال وزندقة وكفر وإلحاد؛ ولهذا قال الخضرُ لموسى لما سلَّم عليه قال: إنَّك على علمٍ من علم الله علَّمك اللهُ إياه، لا أعلمه أنا، وأنا على علمٍ من علم الله علَّمنيه إياه، لا تعلمه أنت، فالخضر له شأن، وله نبوة، وله وحي من جهة الله، غير ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام.

والأولياء ليسوا أفضل من الأنبياء، والأنبياء والرسل هم أفضل الناس، وهم خير الناس، ثم بعد ذلك طبقات المؤمنين على تفاوتها، فمَن زعم أنَّ الولي أفضل من النبي فقد ضلَّ وزعم قولًا باطلًا، فأولياء الله إنما يكونون محمودين ولهم الثواب العظيم إذا كانوا من أتباع الأنبياء، إذا اتَّبعوا الأنبياء، فكيف يكونون فوق الأنبياء؟! فإنَّ فضلهم وكمال إيمانهم أن يكونوا متَّبعين للأنبياء، سائرين خلف الأنبياء، ليسوا خارجين عن الأنبياء.

فالمؤمنون الخُلص الكُمَّل هم الذين أكملوا اتِّباعهم لأنبيائهم، واجتهدوا في تطبيق ما جاءت به أنبياؤهم، والكُمَّل من المؤمنين في أمة محمدٍ ﷺ هم الذين استقاموا على طريقة نبيهم محمدٍ ﷺ وحافظوا عليها، وجاهدوا أنفسهم في ذلك، حتى أدُّوا ما أوجب الله، وتركوا ما حرَّم الله؛ فصاروا بهذا من المؤمنين، وصاروا من أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، بسبب اتِّباعهم للنبي ﷺ، وبسبب استقامتهم على طريقه، وأدائهم ما أوجب الله عليهم، وتركهم ما حرَّم الله عليهم، وكلما كان خوفُهم من الله أكثر، وكلما كان اتِّباعهم للنبي ﷺ أكمل في الواجبات والمستحبَّات وترك المحرَّمات والمكروهات، وكان اتِّباعهم لها أكمل في الدَّعوة إلى الله، والتَّبليغ عن الله؛ صار إيمانهم أقوى وأكمل، والله المستعان.

وَكَذَا مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْكَعْبَةَ تَطُوفُ بِرِجَالٍ مِنْهُمْ حَيْثُ كَانُوا!! فَهَلَّا خَرَجَتِ الْكَعْبَةُ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ فَطَافَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ أُحْصِرَ عَنْهَا، وَهُوَ يَوَدُّ مِنْهَا نَظْرَةً؟! وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ شَبَهٌ بِالَّذِين وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ يَقُولُ: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [المدثر:52] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.

الشيخ: هذا جنون، هؤلاء الذين يقولون هذه المقالات أصابهم هوس، وأصابهم نوع من الجنون، فيتكلَّمون بكلامٍ لا يقوله إلا المجانين، فإنَّ كون الكعبة تطوف بأحدٍ، أو تخرج من مكانها وتطوف بأحد الأولياء! هذا لا يقوله مَن يعقل، هذا لا يقوله إلا مجنونٌ معتوهٌ قد ضاع عقله، فالكعبة في مكانها لا تخرج لأحدٍ، ولا تطوف بأحدٍ، هي في مكانها مُستقرة، ولم تخرج للنبي ﷺ، ولا لغير النبي ﷺ، وهو أفضل الخلق.

والمقصود أنَّ كلام بعض الصوفية فيه من الهوس والفساد -فساد العقل- وما يدل على أنه ضاعت عقولهم، وتكلَّموا بما يقوله المجانين وأشباه المجانين.

قَوْلُهُ: (وَنَرَى الْجَمَاعَةَ حَقًّا وَصَوَابًا، وَالْفُرْقَةَ زَيْغًا وَعَذَابًا).

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:118- 119]، فَجَعَلَ أَهْلَ الرَّحْمَةِ مُسْتَثْنَيْنَ مِنْ الِاخْتِلَافِ. وَقَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:176].

وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ ﷺ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ افْتَرَقُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً –يَعْنِي: الْأَهْوَاءَ- كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ.

وَفِي رِوَايَةٍ: قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي.

فَبَيَّنَ أَنَّ عَامَّةَ الْمُخْتَلِفِينَ هَالِكُونَ إِلَّا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ.

الشيخ: والمقصود من هذا أنَّ الواجب هو التَّمسك بالحقِّ، والاجتماع على الحقِّ، والتَّعاون على البرِّ والتَّقوى، وترك الخلاف والنزاع والخروج على ولاة الأمور، فإنَّ الله جلَّ وعلا أمر الناس بأن يعتصموا بحبله جميعًا، قال: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159].

فالواجب هو الاجتماع على الحقِّ، والتعاون على البرِّ والتقوى، وعلاج الأمور التي تُوجب الاختلاف والشِّقاق بالحكمة، على ضوء كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وعدم منع يدٍ من طاعةٍ، بل يجب على الجميع أن يكونوا مُنقادين لما جاء به الشرعُ، مُتمسكين به، متعاونين عليه، متعاونين ضدّ خلافه، مُطيعين لولاة أمرهم في المعروف، تاركين للشِّقاق والخلاف الذي يُفضي إلى النزاع والانقسام، حتى يكون الحقُّ بينهم ظاهرًا، وحتى تختفي بينهم الرَّذائل التي حرَّمها الله ؛ ولهذا قال: نرى الجماعة حقًّا وصوابًا، فالجماعة حقّ وصواب، يجب التَّمسك بالجماعة، والحذر من أسباب الشِّقاق والخلاف الذي يضرّ الجميع، ولا يُفيد إلا الأعداء، نسأل الله السلامة.

س: ما عليه أنا وأصحابي؟

ج: هذه رواية الترمذي رحمه الله، والرواية الأخرى: وهي الجماعة، والمعنى واحد، فأهل السنة والجماعة والفرقة الناجية هم أتباع الكتاب والسُّنة.

س: ضعَّف الرواية الثانية وصحح الرواية الأولى؟

ج: فيها ضعف رواية الترمذي، لكن معناها صحيح، فُسّر بالجماعة؛ لأنَّ الجماعة هي المستقيمة على الكتاب والسُّنة.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ، كَذِئْبِ الْغَنَمِ، يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ، فَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ وَالْمَسْجِدِ.

الشيخ: أيش قال؟

الطالب: قال: صحيح الإسناد، وأقول الآن: كلا، ولا أدري كيف وقع هذا؟! فالسند ضعيف كما هو مُبين في "تخريج المشكاة"، ثم في "الأحاديث الضَّعيفة". انتهى.

الشيخ: شعيب؟

الطالب: أخرجه أحمد من طريق روحٍ قال: حدَّثنا سعيد، عن قتادة قال: حدَّثنا العلاء بن زياد، عن معاذ بن جبل. وهذا السند صحيح، إلا أنَّ العلاء بن زياد روايته عن معاذٍ مرسلة، وأخرجه أحمد أيضًا من طريق قتادة، عن العلاء بن زياد، عن رجلٍ حدَّثه يثق به، عن معاذ بن جبلٍ.

الشيخ: شواهده جيدة، أما إسناده فجاء فيه رجلٌ مبهم، وإن وثق به العلاء، لكن معناه صحيح، فإنَّ هذا هو الجماعة، وأما التَّحذير من الشِّعاب فهذا إنما يكون عند الاستقامة وصلاح القُرى والمدن، فأما إذا اختلفت القُرى والمدن وكثر فيها الشرُّ والفساد، وانتشرت فيها أنواع الشرور؛ فإنَّ الإنسان يفرُّ بدينه من الفتن إلى الشِّعاب، كما قال النبيُّ ﷺ في الحديث الصحيح: يُوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفرُّ بدينه من الفتن، وفي اللَّفظ الآخر: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن مجاهد في سبيل الله، قيل: ثم مَن؟ قال: مؤمن في شعبٍ من الشِّعاب يعبد الله ويدع الناسَ من شرِّه رواه البخاري.

فالمقصود أنَّ عند الحاجة إلى الفرار من الفتن يفرُّ من القرى والمدن إلى الشِّعاب وإلى البُعد عن أهل الشرِّ والفساد والدَّعوة إلى الباطل، وإذا استقامت الأحوالُ في المدن والقرى فهي أفضل وأقرب إلى الجماعة، والتَّعاون على الخير، والتَّعلم والتَّفقه في الدِّين.

فهذا الأثر على ما فيه من الضَّعف محمول على ما إذا استقامت الأحوال، فإذا اختلت الأمورُ فلا مانعَ من الخروج إلى الشّعاب والفرار بالدِّين من الفتن إلى الشِّعاب وإلى رؤوس الجبال؛ ليبتعد عن الخطر في بلاده التي وقع فيها الخطر.

..............

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65] قَالَ: هَاتَانِ أَهْوَنُ.

فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا، وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، مَعَ بَرَاءَةِ الرَّسُولِ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ، وَهُمْ فِيهَا فِي جَاهِلِيَّةٍ.

وَلِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُتَوَافِرُونَ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ قَرْحٍ أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ هَدْرٌ، نَزَّلُوهُمْ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِيَّةِ.

الشيخ: وهذا المعنى جاء في حديثٍ آخر: أنه ﷺ سأل ربَّه أن لا يُصابوا من فوقهم ومن تحتهم، وسأل ربَّه أن لا يُهلكهم بسنةٍ عامَّةٍ، وأن لا يُسلط عليهم من سوى أنفسهم فيستبيح بيضَتهم، وسأله أن لا يُذيقَ بعضهم بأس بعضٍ فلم يُجبه، فالخلاف واقع.

الطالب: الأرناؤوط ....... والترمذي وأحمد من حديث جابر بن عبدالله.

الشيخ: كلام شعيب محتمل، يُراجع.

الطالب: العلاء بن زياد بن مطر العدوي، أبو بكر، البصري، أحد العباد، ثقة، من الرابعة، مات سنة (94)، البخاري تعليقًا، وأبو داود في المراسيل، والنسائي، وابن ماجه.

الشيخ: الرابعة، ما أدرك معاذًا.

وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ بِإِسْنَادِهِ الثَّابِتِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: "تَرَكَ النَّاسُ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ" يَعْنِي: قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا اقْتَتَلُوا كَانَ الْوَاجِبُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمَّا لَمْ يُعْمَلْ بِذَلِكَ صَارَتْ فِتْنَةٌ وَجَاهِلِيَّةٌ، وَهَكَذَا تَسَلْسَلَ النِّزَاعُ.

وَالْأُمُورُ الَّتِي تَتَنَازَعُ فِيهَا الْأُمَّةُ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ إِذَا لَمْ تُرَدَّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهَا الْحَقُّ، بَلْ يَصِيرُ فِيهَا الْمُتَنَازِعُونَ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ إِنْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَقَرَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَمْ يَبْغِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ يَتَنَازَعُونَ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، فَيُقِرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَعْتَدِي، وَلَا يُعْتَدَى عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُرْحَمُوا وَقَعَ بَيْنَهُمْ الِاخْتِلَافُ الْمَذْمُومُ، فَبَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ: إِمَّا بِالْقَوْلِ، مِثْلَ: تَكْفِيرِهِ وَتَفْسِيقِهِ. وَإِمَّا بِالْفِعْلِ، مِثْلَ: حَبْسِهِ وَضَرْبِهِ وَقَتْلِهِ.

وَالَّذِينَ امْتَحَنُوا النَّاسَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ كَانُوا مِنْ هَؤُلَاءِ؛ ابْتَدَعُوا بِدْعَةً، وَكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا، وَاسْتَحَلُّوا مَنْعَ حَقِّهِ وَعُقُوبَتِهِ.

فَالنَّاسُ إِذَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرَّسُولَ: إِمَّا عَادِلُونَ، وَإِمَّا ظَالِمُونَ.

فَالْعَادِلُ فِيهِم: الَّذِي يَعْمَلُ بِمَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ.

وَالظَّالِمُ: الَّذِي يَعْتَدِي عَلَى غَيْرِهِ.

وَأَكْثَرُهُمْ إِنَّمَا يَظْلِمُونَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَظْلِمُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران:19]، وَإِلَّا فَلَوْ سَلَكُوا مَا عَلِمُوهُ مِنَ الْعَدْلِ أَقَرَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَالْمُقَلِّدِينَ لِأَئِمَّةِ الْعِلْمِ، الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ، فَجَعَلُوا أَئِمَّتَهُمْ نُوَّابًا عَنِ الرَّسُولِ، وَقَالُوا: هَذَا غَايَةُ مَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ! فَالْعَادِلُ مِنْهُمْ لَا يَظْلِمُ الْآخَرَ، وَلَا يَعْتَدِي عَلَيْهِ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ، مِثْلَ: أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ قَوْلَ مُقَلِّدِهِ هُوَ الصَّحِيحُ بِلَا حُجَّةٍ يُبْدِيهَا، وَيَذُمُّ مَنْ خَالَفَهُ، مَعَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ.

ثُمَّ إِنَّ أَنْوَاعَ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْأَصْلِ قِسْمَانِ: اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ، وَاخْتِلَافُ تَضَادٍّ:

وَاخْتِلَافُ التَّنَوُّعِ عَلَى وُجُوهٍ:

مِنْهُ مَا يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَوِ الْفِعْلَيْنِ حَقًّا مَشْرُوعًا، كَمَا فِي الْقِرَاءَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ ، حَتَّى زَجَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ وَقَالَ: كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ، وَمِثْلُهُ اخْتِلَافُ الْأَنْوَاعِ فِي صِفَةِ الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، وَالِاسْتِفْتَاحِ، وَمَحَلِّ سُجُودِ السَّهْوِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ شُرِعَ جَمِيعُهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ أَرْجَحَ أَوْ أَفْضَلَ.

ثُمَّ تَجِدُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَافِ مَا أَوْجَبَ اقْتِتَالَ طَوَائِفَ مِنْهُمْ عَلَى شَفْعِ الْإِقَامَةِ وَإِيتَارِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ! وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَرَّمِ.

الشيخ: وهذا الذي قاله الشيخُ من الأمور المهمَّة التي يخفى أمرُها على كثيرٍ من الناس، فإنَّ الواجب على المختلفين في أي مسألةٍ كانت هو تحري الحقّ، وردّ ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، والعناية بذلك بإخلاصٍ وصدقٍ، فإذا خفي عليهم الأمرُ عذر بعضُهم بعضًا، ولم يظلمه، ولم يبلغ عليه، حتى يتَّضح الحقّ بالدليل.

ثم تجد صراعات: هل هو محل اختلاف تنوعٍ أو تضادٍّ؟ فإن كان اختلافَ تنوعٍ فالأمر فيه واسع، ولا يجوز لأحدٍ أن يتعدَّى على أحدٍ، ولا أن يُخطِّئ أحدًا في ذلك؛ لأنَّ اختلاف التَّنوع كله جائز؛ فإذا أذَّن بأذان بلال، أو بأذان أبي محذورة، شفع الإقامة أو أوترها، استرجع في الشَّهادة أم لا. كذلك فيما يتعلق بأنواع التَّشهد وأنواع الاستفتاح، كلها بحمد الله جائزة، والله وسَّع فيها ونوَّع وجعلها عبادات، لكن يأتي بهذا تارةً وبهذا تارةً، فلا يجوز تعدي شخص على شخصٍ من أجل ذلك، فيُقال: هذا أرجح، أو هذا هو الحق، أو لا يجوز إلا هذا، فإنَّ هذا نوع ظلم وعدوان وتضييق لما وسَّع الله، ولا مانعَ من أن يُبين الأرجح عنده: أن هذا الأرجح عندي، وهذا الأولى، أما أن يُلزم غيره برأيه، مع أنَّ الله وسَّع ويسَّر، فهذا من الظلم والعدوان.

وأما اختلاف التَّضاد وكون الشَّيئين لا يجمع بينهما، بل هذا ضدّ هذا، فهذا يعرض على الدليل، وينظر في الدليل، فأيّهما رجح الدليلُ فهو الحق، الحق واحد في الأشياء المتضادة، بخلاف التنوع؛ فإنها كلها حقّ، فليس لأحدٍ أن يبغي ويظلم لمجرد هواه بغير حُجَّةٍ ولا برهانٍ.

وَكَذَا تَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْهَوَى لِأَحَدِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْآخَرِ، وَالنَّهْيِ عَنْهُ؛ مَا دَخَلَ بِهِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ.

وَمِنْهُ مَا يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ هُوَ فِي الْمَعْنَى الْقَوْلَ الْآخَرَ، لَكِنِ الْعِبَارَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، كَمَا قَدْ يَخْتَلِفُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي أَلْفَاظِ الْحُدُودِ، وَصَوْغِ الْأَدِلَّةِ، وَالتَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ الْجَهْلُ أَوِ الظُّلْمُ يَحْمِلُ عَلَى حَمْدِ إِحْدَى الْمَقَالَتَيْنِ وَذَمِّ الْأُخْرَى وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى قَائِلِهَا! وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا اخْتِلَافُ التَّضَادِّ: فَهُوَ الْقَوْلَانِ الْمُتَنَافِيَانِ: إِمَّا فِي الْأُصُولِ، وَإِمَّا فِي الْفُرُوعِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ. وَالْخَطْبُ فِي هَذَا أَشَدُّ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ يَتَنَافَيَانِ، لَكِنْ نَجِدُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ الْقَوْلُ الْبَاطِلُ الَّذِي مَعَ مُنَازِعِهِ فِيهِ حَقٌّ مَا، أَوْ مَعَهُ دَلِيلٌ يَقْتَضِي حَقًّا مَا، فَيَرُدُّ الْحَقَّ مَعَ الْبَاطِلِ، حَتَّى يَبْقَى هَذَا مُبْطِلًا فِي الْبَعْضِ، كَمَا كَانَ الْأَوَّلُ مُبْطِلًا فِي الْأَصْلِ، وَهَذَا يَجْرِي كَثِيرًا لِأَهْلِ السُّنَّةِ.

الشيخ: يعني: أنَّ كثيرًا من الناس فيما يتعلق باختلاف التَّضاد قد يحمله هواه أو جهله أو ما في قلبه من الغلِّ على أخيه أن يردَّ حقَّه وباطله، فلا يقبل لا حقَّه ولا باطله، بل يرد الجميع، والواجب التفصيل؛ فأخذ الحقِّ واجب، وردّ الباطل واجب، فإذا كان مع أخيك حقٌّ تأخذ الحقَّ وتلتزم به، وترد الباطل، ولا تردّهما جميعًا، فمن الإنصاف والواجب أن تفصل، كما أنه يفصل هو أيضًا ويقبل الحقَّ ممن جاء به، ويرد الباطل على مَن جاء به، ولا يرد الحقَّ والباطل جميعًا لأجل الهوى أو الجهل أو نحو ذلك، بل الواجب النَّظر والإنصاف وعدم ردّ الحقِّ من أجل أنه قارنه باطل.

وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدْعَةِ فَالْأَمْرُ فِيهِمْ ظَاهِرٌ، وَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ هِدَايَةً وَنُورًا رَأَى مِنْ هَذَا مَا يُبَيِّنُ لَهُ مَنْفَعَةَ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقُلُوبُ الصَّحِيحَةُ تُنْكِرُ هَذَا، لَكِنْ نُورٌ عَلَى نُورٍ.

وَالِاخْتِلَافُ الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ اخْتِلَافُ التَّنَوُّعِ، الذَّمُّ فِيهِ وَاقِعٌ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَى الْآخَرِ فِيهِ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى حَمْدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ بَغْيٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ [الحشر:5]، وَقَدْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الْأَشْجَارِ؛ فَقَطَعَ قَوْمٌ، وَتَرَكَ آخَرُونَ.

الشيخ: يعني: في الحرب، عند الحاجة إلى ذلك في الحرب؛ لأنَّ العدو قد يتّخذ الشجر، وقد يُؤذي المسلمين بسبب الشَّجر؛ أو لأنَّ المسلمين أرادوا إذلالهم وإتلاف بعض أموالهم؛ لئلا يستعينوا بها على المسلمين، ومثل الذين صلَّى بعضهم في الطريق، وبعضهم في بني قُريظة العصر؛ أخذًا بأمر النبي ﷺ، فلم يُعنف طائفةً منهما؛ لأنَّ كلًّا منهما مجتهدٌ طالبٌ للحق.

وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ۝ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:78- 79] فَخَصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمَا بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ.

وَكَمَا فِي إِقْرَارِ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ لِمَنْ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا، وَلِمَنْ أَخَّرَهَا إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ.

وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ.

وَالِاخْتِلَافُ الثَّانِي هُوَ مَا حُمِدَ فِيهِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَذُمَّتِ الْأُخْرَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ [البقرة:253]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ الْآيَاتِ [الحج:19].

وَأَكْثَرُ الِاخْتِلَافِ الَّذِي يَئُولُ إِلَى الْأَهْوَاءِ بَيْنَ الْأُمَّةِ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ.

الشيخ: اختلاف التَّنوع، نعم.

وَكَذَلِكَ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَاسْتِبَاحَةِ الْأَمْوَالِ، وَالْعَدَاوَةِ، وَالْبَغْضَاءِ؛ لِأَنَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لَا تَعْتَرِفُ لِلْأُخْرَى بِمَا مَعَهَا مِنَ الْحَقِّ، وَلَا تُنْصِفُهَا، بَلْ تَزِيدُ عَلَى مَا مَعَ نَفْسِهَا مِنَ الْحَقِّ زِيَادَاتٍ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْأُخْرَى كَذَلِكَ؛ وَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ مَصْدَرَهُ الْبَغْيَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة:213]؛ لِأَنَّ الْبَغْيَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَذُكِرَ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ لِيَكُونَ عِبْرَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ.

وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا خَرَّجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَأَمَرَهُمْ بِالْإِمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ، مُعَلِّلًا بِأَنَّ سَبَبَ هَلَاكِ الْأَوَّلِينَ إِنَّمَا كَانَ كَثْرَةَ السُّؤَالِ ثُمَّ الِاخْتِلَافَ عَلَى الرُّسُلِ بِالْمَعْصِيَةِ.

ثُمَّ الِاخْتِلَافُ فِي الْكِتَابِ مِنَ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِهِ عَلَى نَوْعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافٌ فِي تَنْزِيلِهِ.

وَالثَّانِي: اخْتِلَافٌ فِي تَأْوِيلِهِ.

وَكِلَاهُمَا فِيهِ إِيمَانٌ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ.

فَالْأَوَّلُ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ وَتَنْزِيلِهِ، فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: هَذَا الْكَلَامُ حَصَلَ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ؛ لكَوْنِهِ مَخْلُوقًا فِي غَيْرِهِ، لَمْ يَقُمْ بِهِ. وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: بَلْ هُوَ صِفَةٌ لَهُ، قَائِمٌ بِذَاتِهِ، لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، لَكِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَكُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ جَمَعَتْ فِي كَلَامِهَا بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، فَآمَنَتْ بِبَعْضِ الْحَقِّ، وَكَذَّبَتْ بِمَا تَقُولُهُ الْأُخْرَى مِنَ الْحَقِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ.

وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي تَأْوِيلِهِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ فَكَثِيرٌ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى أَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْقَدَرِ، هَذَا يَنْزِعُ بِآيَةٍ، وَهَذَا يَنْزِعُ بِآيَةٍ، فَكَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ، فَقَالَ: أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ أَمْ بِهَذَا وُكِّلْتُمْ؟ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟ انْظُرُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَاتَّبِعُوهُ، وَمَا نُهِيتُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.

وَفِي رِوَايَةٍ: يَا قَوْمُ، بِهَذَا ضَلَّتِ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ؛ بِاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَضَرْبِهِم الْكِتَابَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ لِتَضْرِبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَلَكِنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، مَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا تَشَابَهَ فَآمِنُوا بِهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّ الْأُمَمَ قَبْلَكُمْ لَمْ يُلْعَنُوا حَتَّى اخْتَلَفُوا، وَإِنَّ الْمِرَاءَ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ. وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ مُخَرَّجٌ فِي الْمَسَانِدِ وَالسُّنَنِ.

وَقَدْ رَوَى أَصْلَ الْحَدِيثِ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" مِنْ حَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ الْأَنْصَارِيِّ: أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: هَجَّرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا، فَسَمِعَ أَصْوَاتَ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ، فَقَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ.

وَجَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ مُخْتَلِفُونَ فِي تَأْوِيلِهِ، مُؤْمِنُونَ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، يُقِرُّونَ بِمَا يُوَافِقُ رَأْيَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا يُخَالِفُهُ: إِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلوه تَأْوِيلًا يُحَرِّفُونَ فِيهِ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: هَذَا مُتَشَابِهٌ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ، فَيَجْحَدُونَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ مَعَانِيهِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْكُفْرِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّفْظِ بِلَا مَعْنًى هُوَ مِنْ جِنْسِ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5]، وَقَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78] أَيْ: إِلَّا تِلَاوَةً مِنْ غَيْرِ فَهْمِ مَعْنَاهُ. وَلَيْسَ هَذَا كَالْمُؤْمِنِ الَّذِي فَهِمَ مَا فَهِمَ مِنَ الْقُرْآنِ فَعَمِلَ بِهِ، وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ بَعْضُهُ فَوَكَلَ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ، كَمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ: فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ، فَامْتَثَلَ مَا أَمَرَ بِهِ ﷺ.

الشيخ: علَّق على حديث عبدالله بن عمرو؟

الطالب: صحيح؛ لإخراج مسلم إياه.

الشيخ: ............

الطالب: مسلم، وكذلك رواه أحمد في "المسند" من هذا الوجه، وهو من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، وكان في المطبوعة هنا: عبدالله بن عمر، وهو خطأ.

الشيخ: فقط؟

الطالب: أخرجه مسلم في أول العلم.