31 أنواع الافتراق والاختلاف

قَوْلُهُ: (وَدِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَاحِدٌ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19]، وَقَالَ تَعَالَى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3].

وَهُوَ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ، وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَبَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَبَيْنَ الْأَمْنِ وَالْإِيَاسِ).

ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] عَامٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَلَكِنَّ الشَّرَائِعَ تَتَنَوَّعُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48].

الشيخ: وهذا أمر معلوم بالنصوص وبالإجماع، قد دلَّت النصوص من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم على أنَّ دين الله واحد، وهو دين الإسلام، ليس هناك دينٌ آخر، وهو الذي بعث اللهُ به الرسلَ، وأنزل به الكتب، وهو في الحقيقة إفراد الله بالعبادة، والاستسلام لأمره، والانقياد لشرعه، كما مضى في عهد آدم، وعهد نوح، وعهد صالح، ومَن بعدهم إلى محمدٍ ﷺ.

فدين الله استسلام لله بطاعته وتوحيده والإخلاص له، وترك لما نهى عنه، فأصله هو إفراد الله بالعبادة، وتخصيصه بالعبادة والانقياد لشرعه الذي جاءت به الرسل، في كل أمةٍ بحسب رسولها، فإن الشَّرائع مختلفة: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا.

فالإسلام في عهد آدم هو توحيد الله وإفراده بالعبادة، وأداء الشَّريعة التي أمر بها آدم، والالتزام بها، وفي عهد نوح الإسلام هو دين الله وتوحيده والإخلاص له، والالتزام بالشريعة التي جاء بها نوح، وفي عهد هود كذلك هو تخصيص الله بالعبادة، وإخلاص الوجه له، والالتزام بالشَّريعة التي جاء بها هود، وهكذا في زمن صالح وزمن إبراهيم، وهكذا من بعده إلى أن جاء محمدٌ ﷺ خاتم الأنبياء.

فالإسلام إفراد الله بالعبادة، هو الاستسلام لما يأمر به وينهى عنه، والانقياد لذلك، والرضا به، والانشراح به، مع الالتزام بالشرع الذي هو الأوامر والنَّواهي، فمَن أبى هذا الدّين ولم يرضَ به صار من الكافرين؛ ولهذا قال سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3]، فرضيه للأمة المحمدية كما رضيه لمن قبلها من الأمم.

وقال في آية آل عمران: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19]، سُمي دين الله: إسلامًا؛ لما يتضمنه من الانقياد لله، والامتثال لشرعه، والوقوف عند حدوده، فمادة سلم وأسلم يتضمنان إخلاصًا لله وانقيادًا، فمَن أسلم لله، وأخلص عمله لله وحده، واستسلم لأمره وشرعه، وانقاد يرجو ثوابه، ويخشى عقابه ، فمَن خرج عن هذا السَّبيل وهذا الطريق واتَّبع سوى ذلك فليس من الإسلام في شيءٍ.

س: ..............؟

ج: تكون الشَّرائعُ مختلفةً نعم: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا؛ لما قد تكون الصلاةُ عند بعض الرسل والزكاة والصيام غير ما عند الرسول الآخر، كذلك المعاملات والمحرَّمات.

فَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَأُصُولُ هَذَا الدِّينِ وَفُرُوعُهُ مَوْرُوثَةٌ عَنِ الرُّسُلِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ غَايَةَ الظُّهُورِ، يُمْكِنُ كُلُّ مُمَيِّزٍ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَفَصِيحٍ وَأَعْجَمِيٍّ، وَذَكِيٍّ وَبَلِيدٍ -أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ بِأَقْصَرِ زَمَانٍ، وَإِنَّهُ يَقَعُ الْخُرُوجُ مِنْهُ بِأَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ إِنْكَارِ كَلِمَةٍ، أَوْ تَكْذِيبٍ، أَوْ مُعَارَضَةٍ، أَوْ كَذِبٍ عَلَى اللَّهِ، أَوِ ارْتِيَابٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ رَدٍّ لِمَا أَنْزَلَ، أَوْ شَكٍّ فِيمَا نَفَى اللَّهُ عَنْهُ الشَّكَّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ.

الشيخ: يعني: الدخول فيه ميسر، والخروج منه أسرع وأكثر، نسأل الله العافية، فالدّخول فيه بالشَّهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، عن إيمانٍ وصدقٍ وعلمٍ ويقينٍ وإخلاصٍ ومحبَّةٍ لله ، والخروج منه يكون تارةً بكلمةٍ، تارةً بفعلٍ، تارةً باعتقادٍ، تارةً بشكٍّ، هذه أنواع الخروج، قد يخرج بقولٍ، قد يخرج بفعلٍ، قد يخرج بشكٍّ، قد يخرج باعتقادٍ جازمٍ.

فمن الكلمات: سبّ الله، أو سبّ الدِّين، أو سبّ الرسول ﷺ، أو ما أشبه ذلك.

ومن الأفعال: السُّجود لغير الله، امتهان المصحف: البول عليه، تنجيسه، وغير هذا من الأفعال القبيحة المنكرة، الذبح لغير الله.

ومن الشُّكوك: أن يشكَّ: هل الله موجود أو غير موجود؟ هل الصلاة واجبة أو غير واجبة؟ هل الزكاة واجبة أو غير واجبة؟ هل الصوم واجب أو غير واجب؟ هل الحج مع الاستطاعة واجب أو غير واجب؟ هذا الشك كفر أكبر مُستقل.

ومن الاعتقاد: أن يعتقد أنَّ لله شريكًا في العبادة، أو أنَّ الرسول محمدًا ﷺ أو غيره من الرسل ليس بصادقٍ، أو يعتقد أنَّ الجنةَ ليست بحقٍّ، أو ما هناك بعث، أو ما هناك نشور، أو يشكّ في ذلك، كل هذه أنواع من الكفر الأكبر والردة عن الإسلام، نعوذ بالله.

فالخروج من الإسلام بأقلّ شيءٍ يُخالف ما جاءت به الرسلُ عليهم الصلاة والسلام، هذا يُبين لك أن الأمر خطير، وأن الواجب على المكلَّف أن يتحفظ ويحذر من شرِّ لسانه، وشرِّ فعاله، وشرِّ قلبه، ويسأل ربَّه الثبات على الحقِّ، وأن لا يزيغ قلبه عن الهدى، فكم من زائغٍ، وكم من هالكٍ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى ظُهُورِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَسُهُولَةِ تَعَلُّمِهِ، وَأَنَّهُ يَتَعَلَّمُهُ الْوَافِدُ ثُمَّ يُوَلِّي فِي وَقْتِهِ.

الشيخ: يعني: تفد الوفودُ على النبي ﷺ ويسألونه عن الإسلام، ثم يرجعون دعاةً إلى قومهم في الحال، يفدون إليه جلسةً واحدةً يسألونه فيُعلِّمهم الشَّهادتين والصلاة والزكاة وما بعد ذلك، ثم يذهب أحدُهم إلى قومه مُعلِّمًا ومُرشدًا وداعيًا وهاديًا.

س: .............؟

ج: ولما ذهب موسى وجاء محمد، شرط الإسلام هو الإيمان بمحمدٍ ﷺ، لا بدَّ منه، ولما جاء عيسى شرط الإسلام الإيمان بعيسى، فلما كفروا بعيسى صاروا كفَّارًا، وهكذا، فلا بدَّ من التوحيد مع الإيمان بالرسول الحاضر، الرسول المرسل في الوقت الحاضر، ولما جاء محمدٌ وجب عليهم الإيمانُ بمحمدٍ ﷺ، فمَن لم يُؤمن به صار كافرًا، ولو عمل بكل عملٍ جاء به موسى وعيسى، حتى يؤمن بمحمدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام.

وَاخْتِلَافُ تَعْلِيمِ النَّبِيِّ ﷺ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ بِحَسَبِ مَنْ يَتَعَلَّمُ، فَإِنْ كَانَ بَعِيدَ الْوَطَنِ -كَضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ النَّجْدِيِّ وَوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ- عَلَّمَهُمْ مَا لَا يَسَعُهُمْ جَهْلُهُ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ دِينَهُ سَيَنْتَشِرُ فِي الْآفَاقِ، وَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ مَنْ يُفَقِّهُهُمْ فِي سَائِرِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ قَرِيبَ الْوَطَنِ يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ كُلَّ وَقْتٍ، بِحَيْثُ يَتَعَلَّمُ عَلَى التَّدْرِيجِ، أَوْ كَانَ قَدْ عَلِمَ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ؛ أَجَابَهُ بِحَسَبِ حَالِهِ وَحَاجَتِهِ عَلَى مَا تَدُلُّ قَرِينَةُ حَالِ السَّائِلِ، كَقَوْلِهِ: قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ.

وَأَمَّا مَنْ شَرَّعَ دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ أُصُولَهُ الْمُسْتَلْزِمَةَ لَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْقُولَةً عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ هُوَ بَاطِلٌ، وَمَلْزُومُ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ، كَمَا أَنَّ لَازِمَ الْحَقِّ حَقٌّ.

وَقَوْلُهُ: (بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِير) قَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ [المائدة:77]، وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۝ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة:87- 88].

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سَأَلُوا أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا وَكَذَا؟! لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَنَامُ وَأَقُومُ، وَآكُلُ اللَّحْمَ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي.

وَفِي غَيْرِ "الصَّحِيحَيْنِ": سَأَلُوا عَنْ عِبَادَتِهِ فِي السِّرِّ، فَكَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا.

الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ دين الله -وهو الإسلام- بين الغلو وبين التَّقصير، وسط ما بين الغلو والتَّقصير، بين الزيادة والجفاء، فلا غلو ولا جفاء، فالغلو الزيادة في الدِّين والبدع وعدم الرضا بما شرعه الله، هذا غلو، والله نهى عن الغلو في الدِّين، وقال ﷺ: إياكم والغلو في الدِّين، فإنما أهلك مَن كان قبلكم الغلو في الدِّين، مثلما قال هؤلاء، أحدهم يقول: لا أنام على الفراش. والثاني يقول: لا آكل اللحم. وآخر يقول: لا أتزوج النساء. والآخر يقول: أُصلي ولا أنام. والآخر يقول: أصوم ولا أُفطر. وهذه زيادة ومشقة وغلو في الدِّين وتشديد.

والجفاء: عدم الوقوف عند الحدود، بل يجفو وينقص، ويتعاطى المحرَّمات من الزنا والسَّرقة وشرب المسكرات والعقوق، وغير هذا مما حرَّم الله، هذا جفاء ونقص، هؤلاء لم يُعطوا العبادة حقَّها كما أمر الله، فهذا من الجفاء.

والوسط: أن تُؤدَّى العبادات على وجهها، وأن يُوقف عند الحدود كما حدَّها الله، وأن تحذر المحارم فلا تُقترف، هذا هو التَّوسط.

الطالب: وقد وهم الحافظُ ابن كثير فذكره في تفسيره، وذكر أنه في "الصحيحين" عن عائشة، وقلَّده في وهمه تلميذُه الشارح هنا، وما وجدتُه من حديث عائشة قط: لا في "الصَّحيحين"، ولا في غيرهما.

الشيخ: ..........

الطالب: قال: أخرجه بهذا اللفظ مسلم في أول النكاح، وأحمد، وهو في البخاري في أول النكاح بنحوه، وأخرجه البخاري ومسلم وأحمد من حديث عائشةَ، قالت: صنع رسولُ الله ﷺ شيئًا فترخَّص فيه، فبلغ ذلك ناسًا من أصحابه، فكأنَّهم كرهوه وتنزَّهوا عنه، فبلغه ذلك، فقام خطيبًا فقال: ما بال أقوامٍ بلغهم عني أمرٌ ترخَّصْتُ فيه فكرهوه وتنزَّهوا عنه، والله لأنا أعلمهم بالله، وأشدهم له خشيةً.

الشيخ: والمعنى: أنَّ اللفظ الذي عن عائشةَ، والمتن غير المتن الذي عن أنسٍ.

وَذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ، وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَسَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ فِي أَصْحَابِهِ تَبَتَّلُوا، فَجَلَسُوا فِي الْبُيُوتِ، وَاعْتَزَلُوا النِّسَاءَ، وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ، وَحَرَّمُوا طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ، إِلَّا مَا يَأْكُلُ وَيَلْبَسُ أَهْلُ السِّيَاحَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَمُّوا بِالِاخْتِصَاءِ، وَأَجْمَعُوا لِقِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ، فَنَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة:87]، يَقُولُ: لَا تَسِيرُوا بِغَيْرِ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ، يُرِيدُ مَا حَرَّمُوا مِنَ النِّسَاءِ وَالطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ، وَمَا أَجْمَعُوا لَهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ، وَمَا هَمُّوا بِهِ مِنَ الِاخْتِصَاءِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ فِيهِمْ بَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: إِنَّ لِأَنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَعْيُنِكُمْ حَقًّا، صُومُوا وَأَفْطِرُوا، وَصَلُّوا وَنَامُوا، فَلَيْسَ مِنَّا مَنْ تَرَكَ سُنَّتَنَا، فَقَالُوا: اللَّهُمَّ سَلَّمْنَا وَاتَّبَعْنَا مَا أَنْزَلْتَ.

...............

وَقَوْلُهُ: (وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ) تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُوصَفَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ، فَلَا يُقَالُ: سَمْعٌ كَسَمْعِنَا، وَلَا بَصَرٌ كَبَصَرِنَا، وَنَحْوُهُ، وَمِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ، فَلَا يُنْفَى عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ أَعْرَفُ النَّاسِ بِهِ: رَسُولُهُ ﷺ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَعْطِيلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَعْنَى.

وَنَظِيرُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ)، وَهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، فَقَوْلُهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ رَدٌّ عَلَى الْمُشَبِّهَةِ، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ.

الشيخ: وهذا معنى كون أهل السنة والجماعة وسط بين أهل التَّشبيه والتَّمثيل، وبين أهل التَّعطيل والتَّحريف، كما أنهم وسط فيما تقدم في أبوابٍ كثيرةٍ بين الطَّرفين: الغالي والجافي، فهم وسط في باب أسماء الإيمان والدِّين بين الخوارج والمعتزلة، وبين الجفاة من المرجئة وأشباههم، فأهل السنة والجماعة يقولون بإثبات الصِّفات، وأنها حق، وأنها لائقة بالله ، وأنه لا شبيهَ له، ولا كفء له، ولا ندَّ له.

أما المشبِّهة فغلوا في الإثبات؛ فأثبتوها إثباتًا جعلوه فيها مُشابهًا لخلقه، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا. والمعطلة نفوها وأبطلوها فرارًا من التَّشبيه، وقالوا: متى أثبتناها شبَّهناه، فضلوا عن سواء السَّبيل.

فالصواب ما عليه أهلُ السنة والجماعة، وهم أصحاب الرسول ﷺ وأتباعهم، فإنَّهم ساروا على نهج الرسول ﷺ، وعلى نهج الرسل جميعًا، فأثبتوا ما أثبته الله ورسوله، ونفوا ما نفاه الله ورسوله، وقالوا في الإثبات: إنه إثبات بريء من التَّمثيل والتَّشبيه. وقالوا في التَّنزيه: إنه تنزيه بريء من التَّعطيل والتَّحريف. هذا قول أهل السنة والجماعة في آيات الصِّفات وأحاديثها، يمرونها كما جاءت، مع الإيمان بها وإثباتها على ما دلَّت عليه على وجهٍ يليق بالله، مع تنزيهه وتقديسه عن مُشابهة خلقه ، هذا هو الحق، وهذا هو المستفاد من قوله جلَّ وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ردٌّ على المشبهة الذين شبَّهوا الله بخلقه، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ردٌّ على المعطلة الذين عطَّلوا صفات الله ونفوها ولم يُثبتوها، فالله ردَّ عليهم بقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:107]، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [إبراهيم:4]، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120]، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، إلى غير ذلك، هذا ردٌّ على المعطلة، فالله أثبت لنفسه الأسماء والصِّفات، ونفى عن نفسه مُشابهة المخلوقات، هذا هو الحق، وهكذا قوله تعالى: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، كله ردٌّ على المشبهة.

وَقَوْلُهُ: (وَبَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَى أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ حَرَكَاتِ الْمُرْتَعِشِ وَحَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ بِالرِّيَاحِ وَغَيْرِهَا، وَلَيْسَتْ مَخْلُوقَةً لِلْعَبْدِ، بَلْ هِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَكَسْبُهُ وَخَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى.

الشيخ: وهذا هو قول أهل السنة والجماعة، بين الجبر والقدر، وأهل البدع انقسموا في هذا ما بين غالٍ، وما بين جافٍ، والحق بين الغلو والجفاء، فالمجبرة غلوا وقالوا: العبد مجبور ليس له فعل ولا إرادة. وشبَّهوه بالمرتعش الذي أصابته مصيبة في يده فصار يرتعش ولا يستطيع إمساكها، أو كأغصان الأشجار التي تُحركها الرياح هكذا وهكذا، وهذا من أبطل الباطل، فالعبد له اختيار، وله إرادة، وليس مجبورًا، قال تعالى: وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [المدثر:56]، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ۝ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 28- 29]، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [الأنفال:67]، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153]، إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل:88]، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، فلهم أفعال، ولهم صنع، ولهم عمل، ولهم إرادة، ولهم مشيئة، فليسوا مجبورين، ولا مقهورين في أفعالهم، بل يأتي ما يريد مختارًا، ويدع ما يريد مختارًا، فيكلم هذا باختياره، ويدع هذا باختياره، ويُصافح هذا باختياره، ويدع هذا باختياره، ويأكل ويشرب باختياره، ويدع ذاك الطعام وذاك الشراب باختياره، وهكذا مما هو أمر معلوم بالضَّرورة، لا يُنكره إلا مُكابر.

وليسوا يخلقون أفعالهم، ومستغنين عن الله، كما تقوله القدرية النُّفاة، فإنهم يقولون: إنَّ العبد يخلق فعله، وأنه ليس لله في أفعاله قدر ولا فعل، وهذا أيضًا باطل، فالله قدَّر الأشياء وعلمها وأحصاها، والعبد ليس له مشيئة ولا اختيار إلا بمشيئة الله واختياره ، فلو شاء الله أن يجعله كذا وكذا لفعل، فهو يُضل مَن يشاء، ويهدي مَن يشاء : وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، فالعبد له مشيئة، وله اختيار، وله فعل، وله إرادة، ولكن بعد مشيئة الله، وبعد إرادة الله، وقد سبق في علم الله ما يفعله العباد، ولا يخرجون عمَّا سبق في علم الله، مهما أرادوا، ومهما شاءوا، فهم تحت مشيئة الله، وتحت إرادة الله .

وَقَوْلُهُ: (وَبَيْنَ الْأَمْنِ وَالْإِيَاسِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ خَائِفًا مِنْ عَذَابِ رَبِّهِ، رَاجِيًا رَحْمَتَهُ، وَأَنَّ الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْجَنَاحَيْنِ لِلْعَبْدِ فِي سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ.

الشيخ: وهكذا أهل السنة والجماعة يقولون: يجب أن يكون العبدُ بين الأمن والإياس، فلا يكون آمنًا، ولا يكون قانطًا يائسًا، بل بين هذا وهذا، يرجو رحمة الله، ويُحسن به الظنَّ ، ولا يقنط، ولا ييأس، قال تعالى: وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87]، وقال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] يعني: للتائبين، فليس لنا أن نقنط ونيأس، بل هذا سوء ظنٍّ بالله، وليس لنا أن نأمن مكر الله ونُغلب جانب الرجاء ونُعرض عن الخوف، بل نخاف الله ونرجوه، نخاف ونعمل ما يجب، ونرجوه سبحانه، ونُسارع إلى مراضيه، فلا آمنين، ولا يائسين، قال تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].

والأمن من مكر الله معناه الخلود إلى أرض الشَّهوات وأرض المعاصي والسَّيئات، وعدم الخوف من الله، وعدم المبالاة بوعيده ، وهذا منكر عظيم، وخطر كبير، ومن صفات الخاسرين، قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ۝ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ۝ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97- 99]، ولكن يجب على العبد المؤمن أن يخاف الله ويرجوه، فيحمله الخوفُ من الله والحذر من وعيده على الحذر من المعاصي والسيئات، والمبادرة إلى الطَّاعات، ويحمله الرجاء وحُسن الظن بالله على عدم القنوط، وأنه يعمل راجيًا حُسن الظن بالله ، فيُؤدي ما أوجب، ويدع ما حرَّم الله عليه، مع حُسن الظن، ومع الرجاء في أنَّ الله جلَّ وعلا يُعطيه ما وعده من الجنة والكرامة إذا أدَّى حقَّه.

قَوْلُهُ: (فَهَذَا دِينُنَا وَاعْتِقَادُنَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَنَحْنُ بُرَآءُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ مَنْ خَالَفَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَيَخْتِمَ لَنَا بِهِ، وَيَعْصِمَنَا مِنَ الْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْآرَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الرَّدِيَّةِ، مِثْل: الْمُشَبِّهَةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَالْجَهْمِيَّةِ، وَالْجَبْرِيَّةِ، وَالْقَدَرِيَّةِ، وَغَيْرِها مِنَ الَّذِينَ خَالَفُوا السُّنَّةَ والْجَمَاعَةَ، وَحَالَفُوا الضَّلَالَةَ، وَنَحْنُ مِنْهُمْ بُرَآءُ، وَهُمْ عِنْدَنَا ضُلَّالٌ وَأَرْدِيَاءُ، وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ).

الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (فَهَذَا) إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ إِلَى هُنَا.

وَالْمُشَبِّهَةُ: هُمُ الَّذِينَ شَبَّهُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِالْخَلْقِ فِي صِفَاتِهِ، وَقَوْلُهُمْ عَكْسُ قَوْلِ النَّصَارَى، شَبَّهُوا الْمَخْلُوقَ -وَهُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْخَالِقِ، وَجَعَلُوهُ إِلَهًا، وَهَؤُلَاءِ شَبَّهُوا الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ، كَدَاوُدَ الْجَوَارِبِيِّ وَأَشْبَاهِهِ.

وَالْمُعْتَزِلَةُ: هُمْ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَوَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ الْغَزَّالُ، وَأَصْحَابُهُمَا، سُمُّوا بِذَلِكَ لَمَّا اعْتَزَلُوا الْجَمَاعَةَ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي أَوَائِلِ الْمِئَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَانُوا يَجْلِسُونَ مُعْتَزِلِينَ، فَيَقُولُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: أُولَئِكَ الْمُعْتَزِلَةُ.

وَقِيلَ: إِنَّ وَاصِلَ بْنَ عَطَاءٍ هُوَ الَّذِي وَضَعَ أُصُولَ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَتَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ تِلْمِيذُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ صَنَّفَ لَهُمْ أَبُو الْهُذَيْلِ كِتَابَيْنِ، وَبَيَّنَ مَذْهَبَهُمْ، وَبَنَى مَذْهَبَهُمْ عَلَى الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ الَّتِي سَمَّوْهَا: الْعَدْلَ، وَالتَّوْحِيدَ، وَإِنْفَاذَ الْوَعِيدِ، وَالْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ.

الشيخ: وهذا من التَّلبيس، فإنَّ العدل معناه: القول بأنَّ الله جلَّ وعلا لم يخلق أفعالَ العباد حتى يكون عدلًا.

والتوحيد معناه: نفي الصِّفات، وتعطيل الله من صفاته جلَّ وعلا؛ لأنَّ إثبات الصِّفات عندهم نوع تشبيه، وتعدد للآلهة، نسأل الله العافية.

وإنفاذ الوعيد يعني: أن العُصاة مخلدون في النار، ويستوجب فيهم وعيد الله، فمَن مات على معصيته فهو مخلد في النار، السارق والزاني والقاتل إذا لم يتوبوا فهم مخلدون في النار، هذا معنى إنفاذ الوعيد، وهذا من أبطل الباطل، بل هم تحت مشيئة الله، إن شاء غفر لهم، وإن شاء عذَّبهم على قدر معاصيهم، ثم مصيرهم إلى الجنة بعد ذلك إذا كانوا قد ماتوا على التوحيد والإسلام.

والمنزلة بين المنزلتين حكم العُصاة في الدنيا؛ لا كفار، ولا مسلمون، ولكن منزلة بين المنزلتين، وفي الآخرة من أهل النار.

والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر معناه: الخروج على ولاة الأمور، إذا عصى ولي الأمر وجب الخروجُ عليه وقتاله وإن لم يكن كافرًا، كما فعل الخوارجُ، فالخوارج والمعتزلة شيء واحد في هذه الأمور؛ ولهذا خرج الخوارج على عليٍّ، وعلى معاوية، وعلى الخلفاء بعدهم بوجود معصيةٍ اعتقدوا أنها معصية، فخرجوا عليهم بسبب ذلك، وشقُّوا العصا، وأفسدوا في البلاد.

هذه أصول فاسدة، ووافقهم فيها الرافضة إلا في بعض الشيء، وزاد الرافضة عليهم: الإمامة، فجعلوا الإمامة ركنًا من أركان الدين، وقد ضلوا وأخطأوا في ذلك أيضًا.

س: .............؟

ج: هم يخرجون من الإسلام بمكفِّرات كثيرة، مثل: عبادتهم أهل البيت، واعتقادهم أنَّ أئمتهم يعلمون الغيبَ، فهم أقسام، فالشيعة كلهم أقسام كثيرة، فيهم الكافر المرتد، وفيهم دون ذلك، نسأل الله العافية، على حسب عقائدهم.

وَلَبَّسُوا فِيهَا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، إِذْ شَأْنُ الْبِدَعِ هَذَا؛ اشْتِمَالُهَا عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ.

وَهُمْ مُشَبِّهَةُ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهُمْ قَاسُوا أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَفْعَالِ عِبَادِهِ، وَجَعَلُوا مَا يَحْسُنُ مِنَ الْعِبَادِ يَحْسُنُ مِنْهُ، وَمَا يَقْبُحُ مِنَ الْعِبَادِ يَقْبُحُ مِنْهُ! وَقَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، وَلَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ! فَإِنَّ السَّيِّدَ مِنْ بَنِي آدَمَ لَوْ رَأَى عَبِيدَهُ تَزْنِي بِإِمَائِهِ وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ لَعُدَّ إِمَّا مُسْتَحْسِنًا لِلْقَبِيحِ، وَإِمَّا عَاجِزًا، فَكَيْفَ يَصِحُّ قِيَاسُ أَفْعَالِهِ عَلَى أَفْعَالِ عِبَادِهِ؟! وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.

فَأَمَّا الْعَدْلُ فَسَتَرُوا تَحْتَهُ نَفْيَ الْقَدَرِ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ الشَّرَّ وَلَا يَقْضِي بِهِ، إِذْ لَوْ خَلَقَهُ ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ يَكُونُ ذَلِكَ جَوْرًا! وَاللَّهُ تَعَالَى عَادِلٌ لَا يَجُورُ.

وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ، فَيُرِيدُ الشَّيْءَ وَلَا يَكُونُ، وَلَازِمُهُ وَصْفُهُ بِالْعَجْزِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.

وَأَمَّا التَّوْحِيدُ فَسَتَرُوا تَحْتَهُ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، إِذْ لَوْ كَانَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ لَزِمَ تَعَدُّدُ الْقُدَمَاءِ! وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْفَاسِدِ أَنَّ عِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ وَسَائِرَ صِفَاتِهِ مَخْلُوقَةٌ.

الشيخ: وهم يقولون ذلك، ينفون سائر الصِّفات، كما نفوا الكلام فإنهم ينفون الصِّفات.

أَوِ التَّنَاقُضُ.

وَأَمَّا الْوَعِيدُ فَقَالُوا: إِذَا أَوْعَدَ بَعْضَ عَبِيدِهِ وَعِيدًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ وَيُخْلِفَ وَعِيدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَلَا يَعْفُو عَمَّنْ يَشَاءُ، وَلَا يَغْفِرُ لِمَنْ يُرِيدُ عِنْدَهُمْ!

الشيخ: وهذا من جهلهم وعُجمتهم، فإنَّ إنفاذ الوعد هذا مما يُثنى على صاحبه ويُحمد عليه، فالله ينفذ وعده، لا يُخلف الميعاد ، فما وعد به أهلَ الجنة وما وعد به أهلَ الإيمان منفذ وحاصلٌ. أما إنفاذ الوعيد فتركه مما يُحمد عليه إن تركه، فإذا عفا وغفر فإنَّ هذا صفة كمال، فإذا أوعدهم بالعقوبات ثم عفا عنهم وتاب عليهم فهذا من فضله وإحسانه، وهكذا في الدنيا، فالعبد إذا أوعد غلامه أو أوعد غيره ثم عفا وصفح وأسقط حقَّه لما رأى من الفائدة في ذلك والمصلحة في ذلك؛ فهذا مشكور وغير مذموم إذا كان العفو في محلِّه.

وَأَمَّا الْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ: فَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ!

وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ فَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: عَلَيْنَا أَنْ نَأْمُرَ غَيْرَنَا بِمَا أُمِرْنَا بِهِ، وَأَنْ نُلْزِمَهُ بِمَا يَلْزَمُنَا، وَذَلِكَ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَضَمَّنُوهُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَى الْأَئِمَّةِ بِالْقِتَالِ إِذَا جَارُوا!

وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُ هَذِهِ الشُّبَهِ الْخَمْسِ فِي مَوَاضِعِهَا.

وَعِنْدَهُمْ أَنَّ التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ مِنَ الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ صِحَّةُ السَّمْعِ إِلَّا بَعْدَهَا، وَإِذَا اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ سَمْعِيَّةٍ إِنَّمَا يَذْكُرُونَهَا لِلِاعْتِضَادِ بِهَا، لَا لِلِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا.

الشيخ: وهذه أصول المعتزلة، تقدم أنَّ أصولهم خمسة اخترعوها من كيسهم وعهدتهم، ومن آرائهم الفاسدة التي ليس لها برهان، وخالفوا فيها أهل السنة والجماعة، أخذوا أسماء بعضها طيب وموافق في الظاهر لما جاءت به النصوص: كالتوحيد، والعدل، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، هذه أسماء صحيحة، لكن فسَّروها بغير معناها الذي جاءت به الأدلة الشَّرعية، وبغير معناها الذي درج عليه سلفُ الأمة.

فأصولهم الخمسة وهي: التوحيد، والعدل، وإنفاذ الوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، هذه أصولهم الخمسة، أحدثوا منها اثنين لا أساسَ لهما: إنفاذ الوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، هذان أصلان لا أساسَ لهما، باطلان، وأما الأصول الثلاثة: التوحيد، والعدل، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، فهذه أصول لها أصل من جهة اللفظ، من جهة الأسماء، ولكن المعاني غير المعاني التي أرادوها هم، فالتوحيد عندهم نفي الصِّفات وإبطال الصِّفات، وزعموا أنا إذا أثبتنا الصِّفات فقد جعلنا لله شركاء، هذا من الجهل العظيم، فإنَّ الصِّفات ليست شريكةً للموصوف، بل هي شيء منه، فكونه عليمًا وسميعًا وبصيرًا وحيًّا وقيومًا ليست شريكةً له، وليست أضدادًا له، وليست خارجةً عنه، بل هي صفاته قائمة به، والمراد بها هو الله وحده .

وهكذا العدل، العدل اسم محبوبٌ للنفوس، والله أمر به: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [النحل:90]، ولكن فسَّروا العدل بغير معناه، فسَّروا العدل بأن قالوا: إنَّ العباد يخلقون أفعالهم، والله ليس خالقًا لأفعال العباد، وزعموا أنَّ هذا هو مقتضى العدل، وهذا باطل، بل الله خلق الناس، وخلق أفعالهم، الله خالقهم وخالق أفعالهم، ولا يكون في ملكه ما لا يريد، فجميع المخلوقات كلها خلقه سبحانه، فالموجودات خلقه وإيجاده، والله خالق العباد، وخالق أفعالهم، أعطاهم القُدرة، وأعطاهم اختيارًا ومشيئةً وإرادةً، فهم يتصرَّفون مشيئةً وقدرةً واختيارًا، لكنَّها لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته .

وإنفاذ الوعيد شيء اخترعوه وقالوا: معناه: أنَّ ما توعد الله به العُصاة فهو نافذ، لا يمكن العفو عنه، فما توعد به العُصاة فهو نافذ، وهم مخلَّدون في النار! نسأل الله العافية، وهذا غلط، بل الله يعفو عمَّن يشاء ، ولا يلزم إثبات الوعيد، فمن صفات الكمال ومن صفات الجود والكرم: العفو وعدم إنفاذ الوعيد.

وهكذا اخترعوا المنزلة بين المنزلتين، وقالوا: العاصي لا مؤمن ولا كافر، بل في منزلةٍ بين منزلتين، وهذا غلط، فالعاصي مسلم مؤمن ناقص الإيمان، حتى يفعل ما يُخرجه عن الإسلام، وليس في منزلةٍ بين منزلتين، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن ضعيف الإيمان، ليس في عداد الكفرة، وليس في مرتبةٍ بين الإسلام والكفر، إذ ليس هناك شيء بين الإسلام والكفر، إما كفر، وإما إسلام.

والخامس: الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وهذا حقّ، الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر حقّ، قد أوجب الله على عباده الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وهو من صفات أهل الإيمان، لكن أدخلوا فيه أن الولاة والأمراء إذا عصوا وجب أن يُزالوا، وأن يُخرج عليهم بالسلاح، وخالفوا في هذا أهل السنة والجماعة، وخالفوا فيها النصوص، فقد قال النبيُّ ﷺ: مَن رأى من أميره شيئًا من معصيةٍ فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنَّ يدًا من طاعةٍ، والأحاديث التي جاءت في هذا المعنى.

فالمقصود أنَّ هذه الأصول كلها مدخولة، كلها مخالفة لأهل السنة والجماعة وللنصوص الشَّرعية، وأصلان منها لا أساسَ لهما، وهما: إنفاذ الوعيد، والمنزلة بين المنزلتين. هذان أصلان اخترعوهما، لا أساسَ لهما.

فَهُمْ يَقُولُونَ: لَا نُثْبِتُ هَذِهِ بِالسَّمْعِ، بَلِ الْعِلْمُ بِهَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعِلْمِ بِصِحَّةِ النَّقْلِ!

فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَذْكُرُهَا فِي الْأُصُولِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهَا عِنْدَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُهَا لِيُبَيِّنَ مُوَافَقَةَ السَّمْعِ لِلْعَقْلِ، وَلِإِينَاسِ النَّاسِ بِهَا، لَا لِلِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا! وَالْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ فِيهِ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشُّهُودِ الزَّائِدَيْنِ عَلَى النِّصَابِ! وَالْمَدَدِ اللَّاحِقِ بِعَسْكَرٍ مُسْتَغْنٍ عَنْهُمْ! وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَاتَّفَقَ أَنَّ الشَّرْعَ مَا يَهْوَاهُ! كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَتَّبِعُ الْحَقَّ إِذَا وَافَقَ هَوَاهُ، وَيُخَالِفُهُ إِذَا خَالَفَ هَوَاهُ. فَإِذًا أَنْتَ لَا تُثَابُ عَلَى مَا وَافَقْتَهُ مِنَ الْحَقِّ، وَتُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكْتَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّكَ إِنَّمَا اتَّبَعْتَ هَوَاكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.

الشيخ: والواجب على المؤمن أن يتَّبع الحقَّ وإن خالف هواه، وإن خالف شهوته، عليه اتِّباع الحق، ويُؤثره طاعةً لله، وتعظيمًا لله، ورغبةً في ثوابه، كما قال : وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40- 41]، وقد حُفَّت الجنةُ بالمكاره، وأما كثير من الناس فهو مع الحقِّ إذا وافق الهوى، وضده إذا خالف هواه، فهو في الحقيقة ما اتَّبع إلا هواه.

وَكَمَا أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَالْعَمَلُ يَتْبَعُ قَصْدَ صَاحِبِهِ وَإِرَادَتَهُ، فَالِاعْتِقَادُ الْقَوِيُّ يَتْبَعُ أَيْضًا عِلْمَ ذَلِكَ وَتَصْدِيقَهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ تَابِعًا لِلْإِيمَانِ كَانَ مِنَ الْإِيمَانِ، كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إِذَا كَانَ عَنْ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَانَ صَالِحًا، وَإِلَّا فَلَا، فَقَوْلُ أَهْلِ الْإِيمَانِ التَّابِعُ لِغَيْرِ الْإِيمَانِ، كَعَمَلِ أَهْلِ الصَّلَاحِ التَّابِعِ لِغَيْرِ قَصْدِ أَهْلِ الصَّلَاحِ.

وَفِي الْمُعْتَزِلَةِ زَنَادِقَةٌ كَثِيرَةٌ، وَفِيهِمْ مَنْ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا.

وَالْجَهْمِيَّةُ: هُمُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ السَّمَرْقَنْدِيِّ، وَهُوَ الَّذِي أَظْهَرَ نَفْيَ الصِّفَاتِ وَالتَّعْطِيلَ، وَهُوَ أَخَذَ ذَلِكَ عَنِ الْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ الَّذِي ضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ الْقَسْرِيُّ بِوَاسِطَ، فَإِنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، ضَحُّوا، تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ، فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ؛ إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا! تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا، ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ. وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِفْتَاءِ عُلَمَاءِ زَمَانِهِ، وَهُمُ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.

الشيخ: وقد أحسن في هذا رحمه الله، قد أحسن خالد أمير العراق في وقته حين قتل الجعد الذي دعا إلى تعطيل الصِّفات ونفيها، وتابع في هذا اليهود، فإنه قد أخذ مقالته عن اليهود وأظهرها في الناس، واغترَّ به جمٌّ غفيرٌ، فأنكر عليه السلفُ الصالحُ، وصاحوا به، وبيَّنوا بدعته وخطأه وضلاله؛ فلهذا أفتوا أمير العراق بأن يقتله، قال ابنُ القيم رحمه الله في هذا:

شكر الضَّحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان

فالمقصود أنه ضحَّى به، يعني: قتله في ذلك اليوم نقمةً وغيرةً لله، وتعظيمًا لأمره ونهيه، ونصرًا لدينه، وإحقاقًا للحقِّ، وإبطالًا للباطل، وتحذيرًا من أن يسلك ضُعفاء البصائر من أتباعه هذا المسلك الخبيث.

وَكَانَ الْجَهْمُ بَعْدَهُ بِخُرَاسَانَ، فَأَظْهَرَ مَقَالَتَهُ هُنَاكَ، وَتَبِعَهُ عَلَيْهَا نَاسٌ، بَعْدَ أَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا شَكًّا فِي رَبِّهِ! وَكَانَ ذَلِكَ لِمُنَاظَرَتِهِ قَوْمًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهُمُ: السُّمَنِيَّةُ، مِنْ فَلَاسِفَةِ الْهِنْدِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ مِنَ الْعِلْمِ مَا سِوَى الْحِسِّيَّاتِ، قَالُوا لَهُ: هَذَا رَبُّكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ، هَلْ يُرَى أَوْ يُشَمُّ أَوْ يُذَاقُ أَوْ يُلْمَسُ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالُوا: هُوَ مَعْدُومٌ! فَبَقِيَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يَعْبُدُ شَيْئًا، ثُمَّ لَمَّا خَلَا قَلْبُهُ مِنْ مَعْبُودٍ يُؤَلِّهُهُ نَقَشَ الشَّيْطَانُ اعْتِقَادًا نَحَتَهُ فِكْرُهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ! وَنَفَى جَمِيعَ الصِّفَاتِ، وَاتَّصَلَ بِالْجَعْدِ.

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْجَعْدَ كَانَ قَدِ اتَّصَلَ بِالصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ، وَأَنَّهُ أَيْضًا أَخَذَ شَيْئًا عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ الْمُحَرِّفِينَ لِدِينِهِمُ الْمُتَّصِلِينَ بِلَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ السَّاحِرِ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقُتِلَ جَهْمٌ بِخُرَاسَانَ، قَتَلَهُ سَلْمُ بْنُ أَحْوَزَ، وَلَكِنْ كَانَتْ قَدْ فَشَتْ مَقَالَتُهُ فِي النَّاسِ، وَتَقَلَّدَهَا بَعْدَهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَلَكِنْ كَانَ الْجَهْمُ أَدْخَلَ فِي التَّعْطِيلِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْأَسْمَاءَ حَقِيقَةً، وَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ الْأَسْمَاءَ، بَلِ الصِّفَاتِ.

وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَهْمِيَّةِ: هَلْ هُمْ مِنَ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَمْ لَا؟ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ.

الشيخ: يعني: أنهم كفَّار خارجون عن جنس الأمة، من جنس اليهود والنَّصارى، ليسوا من الفرق التَّابعة للنبي ﷺ، والمنتسبة إلى الإسلام، فإنَّ كفرهم وضلالهم يُخرجهم من الثِّنتين والسَّبعين فرقة؛ لأنَّ هذه الفِرق هي مُنتسبة للإسلام على ما فيها من البدع والمعاصي والشُّرور، لكن هؤلاء خرجوا عنها، وصاروا من جنس اليهود والنصارى والمجوس وأشباههم، الذين ليسوا مُنتسبين للإسلام، وليسوا مُنتسبين للنبي ﷺ، هذا وجه هذا القول.

..............

س: الثِّنتان والسَّبعون فرقة هل هم مُخلَّدون في النار أم لا؟

ج: هذا فيه تفصيل، منهم مَن بدعته كفَّرته، ومنهم مَن دون ذلك.

وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً عَبْدُاللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ.

وَإِنَّمَا اشْتَهَرَتْ مَقَالَةُ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ حِينِ مِحْنَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ، فَإِنَّهُ مِنْ إِمَارَةِ الْمَأْمُونِ قَوُوا وَكَثُرُوا، فَإِنَّهُ قَدْ أَقَامَ بِخُرَاسَانَ مُدَّةً وَاجْتَمَعَ بِهِمْ، ثُمَّ كَتَبَ بِالْمِحْنَةِ مِنْ طَرَسُوسَ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمِئَتَيْنِ، وَفِيهَا مَاتَ، وَرَدُّوا الْإِمَامَ أَحْمَدَ إِلَى الْحَبْسِ بِبَغْدَادَ إِلَى سَنَةِ عِشْرِينَ، وَفِيهَا كَانَتْ مِحْنَتُهُ مَعَ الْمُعْتَصِمِ، وَمُنَاظَرَتُهُ لَهُمْ بِالْكَلَامِ، فَلَمَّا رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَيْهِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ طَلَبَهُمْ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُوَافِقُوهُمْ، وَامْتِحَانَهُمْ إِيَّاهُمْ؛ جَهْلٌ وَظُلْمٌ، وَأَرَادَ الْمُعْتَصِمُ إِطْلَاقَهُ، أَشَارَ عَلَيْهِ مَنْ أَشَارَ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ ضَرْبُهُ؛ لِئَلَّا تَنْكَسِرَ حُرْمَةُ الْخِلَافَةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ! فَلَمَّا ضَرَبُوهُ قَامَتِ الشَّنَاعَةُ فِي الْعَامَّةِ، وَخَافُوا، فَأَطْلَقُوهُ. وَقِصَّتُهُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ.

وَمِمَّا انْفَرَدَ بِهِ الْجَهْمُ: أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ تَفْنَيَانِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ فَقَطْ، وَالْكُفْرَ هُوَ الْجَهْلُ فَقَطْ، وَأَنَّهُ لَا فِعْلَ لِأَحَدٍ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ.

الشيخ: يعني: هم جبرية ومُرجئة جميعًا، نسأل الله العافية، يقول ابنُ القيم في هذا:

ولقد تقلَّد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عن هم بل حكاه قبله الطبراني

يعني: قال بكفرهم من القدماء خمسمئة عالم من علماء السَّلف الصَّالح؛ لضلالهم وإنكارهم لما هو معلوم من الدِّين بالضَّرورة، ولا شكَّ أنَّ مَن قال هذه المقالة في إنكار أسماء الله وصفاته، وزعم أنَّ الإيمان هو مجرد المعرفة، والكفر هو مجرد الجهل؛ أنَّ هذا كفر وضلال وزندقة.

وَأَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا تُنْسَبُ إِلَيْهِمْ أَفْعَالُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، كَمَا يُقَالُ: تَحَرَّكَتِ الشَّجَرَةُ، وَدَارَ الْفَلَكُ، وَزَالَتِ الشَّمْسُ! وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:

عَجِبْتُ لِشَيْطَانٍ دَعَا النَّاسَ جَهْرَةً إِلَى النَّارِ وَاشْتُقَّ اسْمُهُ مِنْ جَهَنَّمَ

وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْأَجْسَامِ، فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ، هُوَ فَتَحَ عَلَى النَّاسِ الْكَلَامَ فِي هَذَا.

وَالْجَبْرِيَّةُ: أَصْلُ قَوْلِهِمْ مِنَ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ طُولِهِ وَلَوْنِهِ! وَهُمْ عَكْسُ الْقَدَرِيَّةِ نُفَاةِ الْقَدَرِ، فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ إِنَّمَا نُسِبُوا إِلَى الْقَدَرِ لِنَفْيِهِمْ إِيَّاهُ، كَمَا سُمِّيَتِ الْمُرْجِئَةُ لِنَفْيِهِمُ الْإِرْجَاءَ، وَأَنَّهُ لَا أَحَدَ مُرْجَأٌ لِأَمْرِ اللَّهِ؛ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ، وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ.

الشيخ: وهذا أحد المعنيين، والمعنى الثاني: أنهم سمّوا: مرجئة، لإرجائهم الأعمال، وعدم إدخالها في الإيمان، وتغليبهم جانب الرَّجاء.

وَقَدْ تُسَمَّى الْجَبْرِيَّةُ "قَدَرِيَّةً"؛ لِأَنَّهُمْ غَلَوْا فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَكَمَا يُسَمَّى الَّذِينَ لَا يَجْزِمُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، بَلْ يَغْلُونَ فِي إِرْجَاءِ كُلِّ أَمْرٍ حَتَّى الْأَنْوَاع، فَلَا يَجْزِمُونَ بِثَوَابِ مَنْ تَابَ، كَمَا لَا يَجْزِمُونَ بِعُقُوبَةِ مَنْ لَمْ يَتُبْ، وَكَمَا لَا يُجْزَمُ لِمُعَيَّنٍ.

وَكَانَتِ الْمُرْجِئَةُ الْأُولَى يُرْجِئُونَ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا، وَلَا يَشْهَدُونَ بِإِيمَانٍ وَلَا كُفْرٍ!

الشيخ: هذه فرق الضَّلالة التي نشأت في الناس، وصارت سبب شرٍّ على الناس، ابتلاء وامتحان، نسأل الله العافية.

وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَمِّ الْقَدَرِيَّةِ أَحَادِيثُ فِي السُّنَنِ: مِنْهَا مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي "سُنَنِهِ" مِنْ حَدِيثِ عَبْدِالْعَزِيزِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ.

الطالب: قال: حسن، وقد تقدَّم.

الشيخ: شعيب؟

الطالب: أخرجه أبو داود، وفيه انقطاع؛ لأنَّ أبا حازم سلمة بن دينار لم يسمع من ابن عمر.

طالب آخر: شاكر: رواه أبو داود، وروى أحمد نحوه بمعناه في "المسند" من وجهٍ آخر عن ابن عمر، وفصلنا القول فيه هناك.

الشيخ: ظاهر كلام أهل العلم في هذا أنه بتعدد طرقه ومخارجه من باب الحسن لغيره، ويحتمل أن يُلحق بالصحيح؛ ولهذا جزم به أبو العباس ابن تيمية في كتبه، قال في "الواسطية": "ولهذا سمَّاهم النبيُّ ﷺ مجوس هذه الأمة". سمَّاهم مجوس هذه الأمة لزعمهم أنَّ العبد يخلق فعله، فشابهوا المجوس القائلين بالأصلين.

وهو مثلما قال الشيخ ناصر؛ بضم بعض طرقه إلى بعضٍ يرتقي إلى الحسن أو الصحة، ولكن نحتاج إلى جمع طرقه.

وَرُوِيَ فِي ذَمِّ الْقَدَرِيَّةِ أَحَادِيثُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ، تَكَلَّمَ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّةِ رَفْعِهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ، بِخِلَافِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَمِّ الْخَوَارِجِ، فَإِنَّ فِيهِمْ فِي الصَّحِيحِ وَحْدَهُ عَشَرَةُ أَحَادِيثَ، أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْهَا ثَلَاثَةً، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ سَائِرَهَا. وَلَكِنَّ شَبَهَهُمْ لِلْمَجُوسِ ظَاهِرٌ، بَلْ قَوْلُهُمْ أَرْدَأُ مِنْ قَوْلِ الْمَجُوسِ؛ فَإِنَّ الْمَجُوسَ اعْتَقَدُوا وُجُودَ خَالِقَيْنِ، وَالْقَدَرِيَّةَ اعْتَقَدُوا وجود خَالِقين!

الشيخ: وأمر آخر؛ وهو أن المجوس أخضعوا الظلمة للنور، فصاروا في الحقيقة يرجعون إلى خالقٍ واحدٍ، فزعموا أنَّ العبد مستقل بأفعاله: إما مطلقًا، وإما بأفعاله السَّيئة، وهذا شرٌّ من قول المجوس من وجوهٍ كثيرةٍ، نسأل الله العافية.

وَهَذِهِ الْبِدَعُ الْمُتَقَابِلَةُ حَدَثَتْ مِنَ الْفِتَنِ الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، كَمَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ الْأُولَى –يَعْنِي: مَقْتَلَ عُثْمَانَ- فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ أَحَدًا، ثُمَّ وَقَعَتِ الثَّانِيَةُ فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَابِ الْحُدَيْبِيَةِ أَحَدًا، ثُمَّ وَقَعَتِ الثَّالِثَةُ فَلَمْ تَرْتَفِعْ وَلِلنَّاسِ طَبَاخٌ. أَيْ: عَقْلٌ وَقُوَّةٌ.

فَالْخَوَارِجُ وَالشِّيعَةُ حَدَثُوا فِي الْفِتْنَةِ الْأُولَى، وَالْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ فِي الْفِتْنَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْجَهْمِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ بَعْدَ الْفِتْنَةِ الثَّالِثَةِ. فَصَارَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا يُقَابِلُونَ الْبِدْعَةَ بِالْبِدْعَةِ، أُولَئِكَ غَلَوْا فِي عَلِيٍّ، وَأُولَئِكَ كَفَّرُوهُ! وَأُولَئِكَ غَلَوْا فِي الْوَعِيدِ حَتَّى خَلَّدُوا بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ.

الشيخ: يعني: في النار.

وَأُولَئِكَ غَلَوْا فِي الْوَعْدِ حَتَّى نَفَوْا بَعْضَ الْوَعِيدِ، أَعْنِي: الْمُرْجِئَةَ! وَأُولَئِكَ غَلَوْا فِي التَّنْزِيهِ حَتَّى نَفَوُا الصِّفَاتِ.

الشيخ: يعني الجهمية.

وَهَؤُلَاءِ غَلَوْا فِي الْإِثْبَاتِ حَتَّى وَقَعُوا فِي التَّشْبِيهِ، وَصَارُوا يَبْتَدِعُونَ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْمَسَائِلِ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، وَيُعْرِضُونَ عَنِ الْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ، وَفِيهِمْ مَنِ اسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْأَوَائِلِ: الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ، فَإِنَّهُمْ قَرَأُوا كُتُبَهُمْ، فَصَارَ عِنْدَهُمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ مَا أَدْخَلُوهُ فِي مَسَائِلِهِمْ وَدَلَائِلِهِمْ، وَغَيَّرُوهُ فِي اللَّفْظِ تَارَةً، وَفِي الْمَعْنَى أُخْرَى!

الشيخ: يعني: وطريق العصمة وطريق النَّجاة هو ما درج عليه أصحابُ الرسول ﷺ، واستقاموا عليه، وتبعهم عليه أهلُ الحق من العمل بجميع ما جاءت به النصوص، فنصوص الوعيد لا تُخالف نصوص الوعد، والرجاء والخوف قرينان يجب على المؤمن أن يسير إلى الله بينهما، فلا يُغلب جانب الرجاء فيكون مع أهل الوعد الذين مالوا إلى الأمن وأنكروا الوعيد، ولا يكون مع أهل اليأس والقنوط الذين مالوا مع الوعيد وأعرضوا عن جانب الرجاء والوعد، ولكن بينهما، فهو يرجو للمُحسن، ويخاف على المسيء، ويسير بين الرجاء والخوف إلى الله، ليس بآمنٍ ولا قانطٍ، بل يرجو الله ويخاف ذنوبه وسيئاته، ويعلم أنَّ الله جلَّ وعلا هو الخالق لكل شيءٍ، وهو الموفق لمن يشاء، والهادي لمن يشاء، والمضلّ لمن يشاء، فليس مع القدرية المجبرة، ولا مع القدرية النُّفاة.

فهو معتدل في أصحاب رسول الله ﷺ، فليس مع الشيعة، وليس الخوارج، بل هو يُحب أصحابَ رسول الله ﷺ، ولا يغلو فيهم، ولا يُكفِّرهم، ولا يُفسِّقهم، بل يعلم أنهم خيرة هذه الأمة، وأنهم أفضل هذه الأمة، ولا يغلو في أحدٍ منهم، لا بعليٍّ، ولا بغيره، بل يُنزلهم منازلهم، ويعلم أنهم عبيد مربوبون مخلوقون، أكرمهم الله باتِّباع رسول الله ﷺ وصُحبته، فلا غلو، ولا جفاء.

أما الخوارج فقد جفوا وضلوا عن سواء السَّبيل، وأما الرافضة فجفوا في جانب غالب الصحابة، وغلوا في جانب أهل البيت، فجمعوا بين الشَّرين: بين الجفاء والغلو جميعًا؛ ولهذا باءوا بالصفقة الخاسرة.

س: ..............؟

ج: الوعد ما يتعلق بالخير، والوعيد ما يتعلق بالنار، الوعد ما يتعلق بالجنة والرجاء، مثلما جاء في أخبار التوحيد ودخول الجنة، وما رتَّب اللهُ على أعمالٍ صالحةٍ وأذكارٍ وغيرها من غفران الذنوب ودخول الجنة والنَّجاة من النار. وأخبار الوعيد ما يتعلق بالنار وما جاء من وعيدٍ في المعاصي.

فَلَبَّسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَكَتَمُوا حَقًّا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُمْ، فَتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا، وَتَكَلَّمُوا حِينَئِذٍ فِي الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ وَالتَّجْسِيمِ، نَفْيًا وَإِثْبَاتًا.

وَسَبَبُ ضَلَالِ هَذِهِ الْفِرَقِ وَأَمْثَالِهِمْ: عُدُولُهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، فَوَحَّدَ لَفْظَ "صِرَاطِهِ" وَ"سَبِيلِهِ"، وَجَمَعَ "السُّبُلَ" الْمُخَالِفَةَ لَهُ.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطًّا وَقَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، وَقَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.

الشيخ: وهذا هو الحق؛ فإنَّ صراط الله واحد، وسبيله واحد، ودينه واحد: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19]، وهو طاعة الله ورسوله، واتِّباع شرعه، والتَّمسك بكتابه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، هذا هو دين الله، ولا يقع في البدع والضَّلالات والشُّرور إلا مَن حاد عن هذا السَّبيل، وهذا السَّبيل سلكه رسولُ الله ﷺ، وسلكه أصحابه، فالواجب على مَن بعدهم أن يسلكوه، وأن يستقيموا عليه، فلا يردوا كتابَ الله بعضه ببعضٍ، ولا سنة الرسول بعضها ببعضٍ، فأحاديث الرجاء تُقبل على العين والرأس، ويأخذها المؤمنُ راجيًا حُسن الظنِّ بالله ، ولكن لا يترك جانب الوعيد، ويُعرض عن جانب الوعيد، ويأمن مكر الله، بل يرجو رحمته، ويستبشر بأحاديث الرجاء وما جاء في معناها، ويخاف نقمته، ويحذر عقوبته؛ فيأخذ بأحاديث الوعيد، ويبتعد عن معاصي الله ، حتى يجمع بين الأمرين: بين خوف الله وخوف غضبه، وبين رجائه وحُسن الظنِّ به .

وهكذا النصوص الواردة في بقية الأقسام: فيأخذ بها كلها، ولا يرد بعضها في بعضٍ، بل يؤمن بقضاء الله وقدره، ويؤمن بأنَّ العبد مختار، وله إرادة ومشيئة، فيعمل بطاعة الله، ويحذر معصية الله، ويؤمن بقضاء الله وقدره.

وهكذا في أصحاب الرسول: يعرف فضلَهم، ويعرف سابقتهم، ويعرف أنهم خير الأمة، وأفضل الأمة، فلا يجفو في حقِّهم، ولا يسبّ أحدًا منهم، بل يترضَّى عنهم، ويحمل ما قد جاء من بعضهم مما قد يُوهم شرًّا ونقصًا على أحسن المحامل، وأنه مجتهدٌ طالبٌ للحق، وإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر.

ويُحب أهلَ بيت رسول الله ﷺ، ويعرف لهم فضلهم، ويترضى عنهم، ولكن لا يغلو فيهم، ولا يعتقد فيهم أنهم يُعبدون من دون الله، أو أنهم يعلمون الغيب، أو أنهم معصومون، لا، بل هم في جملة المؤمنين في حقِّ مَن استقام منهم، وهداه الله منهم: كعلي والحسن والحسين ومحمد ابن الحنفية والعباس، وغيرهم من أهل البيت المستقيمين، لهم فضلهم، ولهم منزلتهم عند الله، لكن ليس لأحدٍ أن يغلو فيهم، فيدَّعي فيهم ما ليس لهم من العصمة، أو علم الغيب، أو أنهم يُعبدون من دون الله: فيُستغاث بهم، ويُنذر لهم، كما فعل الرافضةُ، كل هذا شرّ وبلاء، نسأل الله العافية.

والمقصود أنَّ الاعتدال هو سلوك المنهج الوسط، فلا غلو ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، ولا تكفير لأهل الإيمان، ولا غلو في الرجاء فيأمن مكر الله، لكن بين ذلك، يسير إلى الله بين الجناحين: بين الخوف والرجاء، وبين الجفاء والإفراط، فلا غلو وإفراط، ولا تفريط وجفاء، وهكذا في كل الأبواب يسير على الوسط، فلا مع المتطرفين في الغلو، ولا مع المتطرفين في الجفاء، ولكن بين ذلك.

الشيخ: علَّق على حديث ابن مسعودٍ؟

الطالب: قال: صحيح، رواه الحاكم وغيره.

طالب آخر: يقول: أخرجه الدَّارمي في المقدمة، وأحمد، والطبري .......، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.

وَمِنْ هَاهُنَا يُعْلَمُ أَنَّ اضْطِرَارَ الْعَبْدِ إِلَى سُؤَالِ هِدَايَةِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ؛ وَلِهَذَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الصَّلَاةِ قِرَاءَةَ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، إِمَّا فَرْضًا أَو إِيجَابًا، عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ؛ لِاحْتِيَاجِ الْعَبْدِ إِلَى هَذَا الدُّعَاءِ الْعَظِيمِ الْقَدْرِ، الْمُشْتَمِلِ عَلَى أَشْرَفِ الْمَطَالِبِ وَأَجَلِّهَا، فَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُولَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6- 7]، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ.

الطالب: أخرجه الترمذي وأحمد من حديث عدي بن حاتم، وسنده حسن.

وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟!.

الشيخ: والمقصود من هذا أمران:

الأمر الأول: التَّحذير من أخلاقهم.

والأمر الثاني: إخبار بأنَّ هذا الواقع، ولا بدَّ منه، فإنَّ الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فالرسول يُبين لنا بأمر ربِّه أن هذا واقع، وأن الأمة ستنحرف ويقع فيها الشرُّ والفساد باتِّباع مَن قبلها من اليهود والنَّصارى والمجوس وغيرهم من الكفرة، وهذا واقع.

والأمر الثاني -وهو الأعظم- التَّحذير من سلوك مسلكهم، والسير في منهاجهم، وأنه إن وقع فإياكم أن تأخذوا بمنهجهم وسيرهم، فهو واقع ولا بدَّ منه، ولكن احذروا أن تأخذوا به، وأن تميلوا إليه، وأن تكونوا مع مَن سار في ركابهم.

قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: مَنِ انْحَرَفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَمَنِ انْحَرَفَ مِنَ الْعُبَّادِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى.

الشيخ: وجه ذلك أنَّ اليهود عندهم علم ولم يعملوا، فمَن انحرف من العلماء فقد شابههم، والنَّصارى عندهم عبادة، ولكنها على غير هدى، فمَن انحرف من العباد وتعبد على غير بصيرةٍ شابه النَّصارى.

فَلِهَذَا تَجِدُ أَكْثَرَ الْمُنْحَرِفِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْيَهُودِ، حَتَّى إنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ يَقْرَأُونَ كُتُبَ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيَسْتَحْسِنُونَ طَرِيقَتَهُمْ، وَكَذَا شُيُوخُ الْمُعْتَزِلَةِ يَمِيلُونَ إِلَى الْيَهُودِ، وَيُرَجِّحُونَهُمْ عَلَى النَّصَارَى.

وَأَكْثَرُ الْمُنْحَرِفِينَ مِنَ الْعُبَّادِ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ وَنَحْوِهِمْ فِيهِمْ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى؛ وَلِهَذَا يَمِيلُونَ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَشُيُوخُ هَؤُلَاءِ يَذُمُّونَ الْكَلَامَ وَأَهْلَهُ، وَشُيُوخُ أُولَئِكَ يَعِيبُونَ طَرِيقَةَ هَؤُلَاءِ، وَيُصَنِّفُونَ فِي ذَمِّ السَّمَاعِ وَالْوَجْدِ وَكَثِيرٍ مِنَ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا هَؤُلَاءِ.

وَلِفِرَقِ الضُّلَّالِ فِي الْوَحْيِ طَرِيقَتَانِ: طَرِيقَةُ التَّبْدِيلِ، وَطَرِيقَةُ التَّجْهِيلِ.

أَمَّا أَهْلُ التَّبْدِيلِ فَهُمْ نَوْعَانِ: أَهْلُ الْوَهْمِ وَالتَّخْيِيلِ، وَأَهْلُ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ.

فَأَهْلُ الْوَهْمِ وَالتَّخْيِيلِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَخْبَرُوا عَنِ اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِأُمُورٍ غَيْرِ مُطَابِقَةٍ لِلْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ! لَكِنَّهُمْ خَاطَبُوهُمْ بِمَا يَتَخَيَّلُونَ بِهِ وَيَتَوَهَّمُونَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ شَيْءٌ عَظِيمٌ كَبِيرٌ، وَأَنَّ الْأَبْدَانَ تُعَادُ، وَأَنَّ لَهُمْ نَعِيمًا مَحْسُوسًا، وَعِقَابًا مَحْسُوسًا، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْجُمْهُورِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا فَهُوَ كَذِبٌ لِمَصْلَحَةِ الْجُمْهُورِ! وَقَدْ وَضَعَ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ قَانُونَهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ.

الشيخ: وهذا القول -والعياذ بالله- أشنع قولٍ وأخبثه، قول شنيع، نسأل الله العافية، معناه: أن الرسل كذبوا وافتروا ولم يقولوا الحقَّ، وهذا يُخالف الفِطَر والعقول، ويُخالف ما جاءت به الرسل، فهو أشنع قولٍ وأفسده؛ لمخالفة الفِطَر السَّليمة، والعقول الصحيحة، والنقول الثابتة، وما جاءت به الرسل، فالرسل أخبروا عن أمرٍ واضحٍ، وعن حقٍّ، عن صفات ربهم سبحانه، وعن أسمائه، وعن أعماله، وعن خلقه، وعن حكمه ، وأخبروا بمنتهى هذا العالم من جنةٍ ونارٍ، وحسابٍ وجزاءٍ، فقد قالوا الحقَّ، وأمروا بالصدق، وليس هناك من الخلق أصدق من الرسل عليهم الصلاة والسلام، وليس هناك أحد أكمل منهم أمانةً، وأصدق منهم لهجةً وقولًا وعبادةً، فهم أصدق الناس، وخير الناس، وأعلم الناس بالله .

وَأَمَّا أَهْلُ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ فَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يَقْصِدُوا بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ مَا هُوَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ مَا عَلِمْنَاهُ بِعُقُولِنَا! ثُمَّ يَجْتَهِدُونَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ إِلَى مَا يُوَافِقُ رَأْيَهُمْ بِأَنْوَاعِ التَّأْوِيلَاتِ.

الشيخ: ثم على أي عقلٍ وعلى أي رأيٍ؟! هم طوائف وأمم وخلائق لا يُحصيهم إلا الله، فعلى أي عقلٍ تُؤول هذه النصوص، وعلى أي رأيٍ؟! آراء متناقضة، وعقول متناقضة فاسدة، لو كانوا يعقلون.

فالمقصود أنَّ هؤلاء المحرِّفين والمعطلين قد قالوا مثل قول الآخرين في المعنى، فالمعنى أنَّ الرسل ما قالوا بالحقيقة، ولا أخبروا بالحقيقة، وإنما وكلوا الناسَ إلى عقولهم حتى يتأوَّلوا هذه النصوص، وحتى يصرفوها على ما يُريدون بأسماء الله وصفاته، وما أخبروا به عن نفسه ، فأولئك قالوا عن الجميع، وهؤلاء قالوا عن الصِّفات والأسماء، فكلاهما ضلَّ عن سواء السَّبيل، وكلاهما باء بالخسران المبين، والكفر البواح، نسأل الله العافية.

وأهل السنة والجماعة -وهم أصحاب الرسول ﷺ، وهم أتباع الرسل أينما كانوا، وكذلك أتباعهم بإحسانٍ- هم الذين وُفِّقوا للحقِّ وثبتوا عليه، وهداهم الله إليه؛ فصدَّقوا الرسل، وآمنوا بما جاءت به الرسل، وأمروا النصوص على ما جاءت عليه، ولم يُؤوِّلوا، ولم يُحرِّفوا في الأسماء والصِّفات، ولم يقنطوا، ولم يفسقوا في الأوامر والنَّواهي، بل أثبتوا الحقَّ، وقالوا بالحقِّ، وأخبروا عن الله بما أخبر به عن نفسه، وبما أخبرت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، لا فيما يتعلق بالأوامر والنَّواهي، ولا بما يتعلق بالآخرة وأخبار الآخرة، ولا بما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وقول أهل السنة هو الحق في ذلك كله، وهو الذي يُطابق ما جاء به كتابُ الله، وما جاءت به سنةُ رسوله عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يُطابق ما جاءت به الرسل من أولهم إلى آخرهم.

وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ لَا يَجْزِمُونَ بِالتَّأْوِيلِ، بَلْ يَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ كَذَا. وَغَايَةُ مَا مَعَهُمْ إِمْكَانُ احْتِمَالِ اللَّفْظِ.

وَأَمَّا أَهْلُ التَّجْهِيلِ وَالتَّضْلِيلِ الَّذِينَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ جَاهِلُونَ ضَالُّونَ، لَا يَعْرِفُونَ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْآيَاتِ وَأَقْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ!

وَيَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّصِّ تَأْوِيلٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، لَا يَعْلَمُهُ جَبْرَائِيلُ وَلَا مُحَمَّدٌ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَضْلًا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ كَانَ يَقْرَأُ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَ هَذِهِ الْآيَاتِ! بَلْ مَعْنَاهَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى!

الشيخ: وهذا أيضًا من جنس ما قال هؤلاء الضَّالون المجرمون الجاهلون المتجاهلون، فالرسل هم أعلم الناس بما أخبروا به عن الله، وهم أصدق الناس، وهم أبصر الناس بما جاءوا به، وهكذا مَن تلقَّاه عنهم من الصَّحابة وأتباعهم بإحسانٍ هم أعلم بالناس بذلك بعد الرسل.

وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ السَّلَفِ!

ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا خِلَافُ مَدْلُولِهَا الظَّاهِرِ الْمَفْهُومِ، وَلَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ، كَمَا لَا يُعْلَمُ وَقْتُ السَّاعَةِ!

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ تُجْرَى عَلَى ظَاهِرِهَا، وَتُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا اللَّهُ. فَيَتَنَاقَضُونَ حَيْثُ أَثْبَتُوا لَهَا تَأْوِيلًا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا، وَقَالُوا مَعَ هَذَا: إِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا!

وَهَؤُلَاءِ يَشْتَرِكُونَ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبَيِّنِ الْمُرَادَ بِالنُّصُوصِ الَّتِي يَجْعَلُونَهَا مُشْكِلَةً أَوْ مُتَشَابِهَةً.

الشيخ: ولهذا قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: إنَّ قول المفوضة شرٌّ من قول الجهمية؛ لأنَّ معناه: أنَّ الرسل أخبروا بما لا يعلمون، وأنهم بلغوا الناسَ ما لا يعلمون. وهذا غاية في الجهالة والضَّلالة، بل الله أخبر الناسَ بما يعلمون وبما يفهمون، فالرسل بلَّغتهم ما يعلمون ويفهمون، وأوضحت لهم الحقائق على ما هي عليه، وأمر جلَّ وعلا بأن يتدبر كتابه، وبأن يتعقل كتابه، فلولا أنه يفهم ويعقل بلغة العرب التي نزل بها لما قال سبحانه: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الأنعام:155]، وقال: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]، وقال: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الصافات:155]، أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة:44]، هذا كله واضح في أنه أنزل كتابه ليُعقل ويُفهم ويُعلم؛ ولهذا قال بعد ذلك في آيات: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74]، فدلَّ على أنه أراد هذه المعاني التي أخبر بها على الوجه اللائق به .

..............

الطالب: وتُحمل على ظاهرها! ومع هذا فلا يعلم تأويلها إلا الله. فيتناقضون حيث أثبتوا لها تأويلًا يُخالف ظاهرها، وقالوا مع هذا: إنها تُحمل على ظاهرها!

وَلِهَذَا يَجْعَلُ كُلُّ فَرِيقٍ الْمُشْكِلَ مِنْ نُصُوصِهِ غَيْرَ مَا يَجْعَلُهُ الْفَرِيقُ الْآخَرُ مُشْكِلًا.

ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَمْ يَعْلَمْ مَعَانِيَهَا أَيْضًا! وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَلِمَهَا وَلَمْ يُبَيِّنْهَا، بَلْ أَحَالَ فِي بَيَانِهَا عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَعَلَى مَنْ يَجْتَهِدُ فِي الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ تِلْكَ النُّصُوصِ!

فهم مُشتركون في أنَّ الرسولَ لم يَعْلَم، أو لم يُعْلِم، بل نحن عرفنا الحقَّ بعقولنا، ثم اجتهدنا في حمل كلام الرسول على ما يُوافق عقولنا، وأن الأنبياء وأتباعهم لا يعرفون العقليات! ولا يفهمون السَّمعيات! وكل ذلك ضلال وتضليل عن سواء السَّبيل.

الشيخ: وبهذا يُعلم فساد أقوال أهل الكلام ومضرتهم على الناس، وأن الركونَ إليهم ركون إلى غير شيء، وركون إلى الباطل، وإلى الجهالة، وإلى الفساد، وإلى التَّشكيك؛ ولهذا قال الشَّافعي رحمه الله في حقِّهم: إنَّ حُكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنِّعال، وأن يُطاف بهم في الأسواق ويقال: هذا جزاء مَن ترك الكتابَ والسنةَ، وأقبل على علم الكلام.

فالمقصود أنَّ كلامهم وخوضهم كله شرّ، وكله باطل، وكله يُفضي إلى الشك والريب وعدم البصيرة، وسُوء الظن بالرسل، وسوء الظن بالله .

وَكُلُّ ذَلِكَ ضَلَالٌ وَتَضْلِيلٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.

نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْوَاهِيَةِ الْمُفْضِيَةِ بِقَائِلِهَا إِلَى الْهَاوِيَةِ.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وجد في نهاية الأصل المخطوط ما يلي:

قد تمَّ تحريرها على يد الفقير خادم العلماء الأعلام والمحرري الكتب في جامع مدرسة مرجان عليه الرحمة والرضوان: عبد المحيي بن عبد الحميد ابن الحاج محمد مكي، الشيخلي، البغدادي, يوم الاثنين التاسع من شهر رجب الأصم، من شهور سنة اثنتين وعشرين وثلاثمئة بعد الألف.

الشيخ: وغالب ما في الشرع أخذه المؤلفُ من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وشيخه ابن كثير، وقد ذكر جملةً من هذا أبو العباس ابن تيمية في "الحموية" وفي "التدمرية" وفي غيرهما، وقد أحسن في نقله وفي تلخيصه رحمه الله، وجزاه الله خيرًا.

................