نسأل الله للجميع التوفيق والهداية.
الأسئلة:
س: ذكر المؤلف أن حكمة تأخير الإبراد بالظهر لكسر الحرِّ، لكن في هذه الأيام تكثر المُكيِّفات؟
ج: هذا الأصل، إذا اشتدَّ الحرُّ فأبردوا بالصلاة، فإنَّ شدَّة الحرِّ من فَيح جهنم.
س: كثرت الآن المكيِّفات؟
ج: ولو؛ لأنَّ الطرق يعتريها الحرُّ، وخروجه في الطُّرق والشمس قوية فيتأثَّر؛ حرٌّ بعد بردٍ، وبردٌ بعد حرٍّ؛ يتأثر.
س: لكن يا شيخ من ناحية الأذان: إذا مثلًا أذَّن يُشوش على المساجد؟
ج: على كل حال، إن اتفقوا على تأخير الأذان فهو أفضل، السنة تأخير الأذان، لكن لو ما أخَّروه يُؤخِّرون الإقامة، لكن السنة تأخير الأذان أيضًا؛ لأن الناس إذا سمعوا الأذان تحرَّكوا، فالسنة تأخيره، والنبي ﷺ في السفر لما أراد المؤذنُ أن يُؤذِّن قال: أبرد، أبرد، أبرد، فلم يزل يقول له: أبرد حتى رأينا فَيْءَ التُّلول، ثم أمره بالأذان.
س: وإذا حُددت الأوقات –وقت الأذان- لهم أن يُبردوا؟
ج: لا، إذا حُددت يمتثلون؛ لأنَّ هذا يُسبب الاختلافَ والتنازع، فاتِّفاقهم أولى من التنازع.
س: حديث بأن جهنم تُسَجَّر في هذا الوقت؟
ج: صحيح، وهذه عِلَّة أخرى، تسجير جهنم وما فيه من التيسير على المسلمين وأداء الصلاة بقلبٍ خاشعٍ، فشدَّة الحرِّ من تسجير جهنم، وشدَّة الحرِّ يُعالَج بالإبراد، الإخبار عن أسباب تسجير جهنم إخبار عن أسباب شدَّة الحر.
س: مَن عادته تأخير الصلاة للأكل؟
ج: لا، ما يجوز، الواجب عليه ألا يأكل إلا بعد أو قبل، لا يجعله وقت الصَّلاة، فهذا عازمٌ على ترك الصَّلاة في الجماعة.
س: ما يكفي يا شيخ يقول ...؟
ج: لا يُقدَّم له، يبدأ بالصلاة ولا يُقدَّم له.
س: غيره يا شيخ، أقول: ما سواه؟
ج: إذا حضر الطعام يأكل حاجته حتى يُكمِّل غداءَه أو عشاءَه.
س: حتى لو فاتته الصَّلاة؟
ج: ولو فاتته الصلاة.
س: التورع يا شيخ عن بعض الأطعمة التي تأتي من الخارج؟
ج: تورع طيب، دَعْ ما يريبُك إلى ما لا يريبك.
س: هل آمر بالتورع الآخرين أم أستعمله لنفسي؟
ج: تأمر إخوانك وتوصيهم وتنصحهم.
س: الأصل في الأطعمة الحل؟
ج: نعم، إلا إذا أتت شبهة تقطع ذلك.
س: الجمع بين حديث: ولولا أنا لما كان في ضحضاح من النار، والنهي عن قول: لو؟
ج: محتمل، محتمل؛ لأنَّ هذا من تصرُّف الرواة وغلط بعض الرواة، فيحتمل أنه يجوز؛ لأنَّ بعضَ أهل العلم قال: يجوز، واحتجَّ بهذا الحديث، لولا فلان لهلك فلان، لولا فلان ما نجح فلان، ولكن الذي ينبغي أن يأتي بـ"ثم" عملًا بالأدلة كلها: لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان، وحديث الأبرص والأقرع: فلا بلاغَ لي اليوم إلا بالله ثم بك، فالسنة هكذا، والأحوط للمؤمن هكذا.
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في علامات تعظيم المناهي: (ومن ذلك أنه رُخِّص للمُسافر في الجمع بين الصلاتين عند العذر، وتعذُّر فعل كل صلاةٍ في وقتها؛ لمواصلة السير وتعذُّر النزول، أو تعسُّره عليه، فإذا أقام في المنزل اليومين والثلاثة، أو أقام اليوم، فجمعه بين الصلاتين لا مُوجبَ له؛ لتمكُّنه من فعل كل صلاةٍ في وقتها من غير مشقَّةٍ، فالجمع ليس سنةً راتبةً كما يعتقد أكثر المسافرين: أن سنة السفر الجمع، سواء وُجد عذر أم لم يُوجد، بل الجمع رخصةٌ عارضة، والقصر سنةٌ راتبة، فسنة المسافر قصر الرباعية، سواء كان له عذر أو لم يكن، وأمَّا جمعه بين الصَّلاتين فحاجة ورخصة، فهذا لونٌ وهذا لونٌ.
ومن هذا أن الشِّبَع في الأكل رخصةٌ غير محرَّمةٍ، فلا ينبغي أن يجفو العبدُ فيها حتى يصل به الشِّبعُ إلى حدِّ التُّخمة والامتلاء؛ فيتطلب ما يصرف به الطعام، فيكون همُّه بطنه قبل الأكل وبعده، بل ينبغي للعبد أن يجوع ويشبع، ويدع الطعام وهو يشتهيه، وميزان ذلك قول النبي ﷺ: ثُلُث لطعامه، وثُلُث لشرابه، وثُلُث لنَفَسِه، ولا يجعل الثلاثة الأثلاث كلها للطعام وحده.
وأمَّا تعريض الأمر والنهي للتشديد الغالي فهو كمَن يتوسوس في الوضوء مغاليًا فيه حتى يفوت الوقتُ، أو يُردد تكبيرةَ الإحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءةُ الفاتحة، أو يكاد تفوته الركعة، أو يتشدد في الورع الغالي حتى لا يأكل شيئًا من طعام عامَّة المسلمين؛ خشية دخول الشُّبهات عليه.
ولقد دخل هذا الورعُ الفاسد على بعض العُبَّاد الذين نقص حظُّهم من العلم حتى امتنع أن يأكل شيئًا من بلاد المسلمين، وكان يتقوَّت بما يُحمَل إليه من بلاد النصارى، ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك، فأوقعه الجهلُ المفرطُ والغلوُّ الزائدُ في إساءة الظن بالمسلمين، وحُسن الظن بالنصارى، نعوذ بالله من الخذلان.
فحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يُعارضا بترخُّصٍ جافٍ، ولا يُعارضا بتشديدٍ غالٍ.
فإنَّ المقصود هو الصِّراط المستقيم المُوصِل إلى الله بسالكه، وما أمر الله بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان: إمَّا تقصير وتفريط، وإمَّا إفراطٌ وغلو. فلا يُبالي بما ظفر من العبد من الخطئتين، فإنه يأتي إلى قلب العبد فيشامّه؛ فإن وجد فيه تقصيرًا أو فتورًا أو توانيًا وترخيصًا أخذه من هذه الخطة؛ فثبَّطه وأقعده، وضربه بالكسل والتَّواني والفتور، وفتح له بابَ التأويلات والرجاء وغير ذلك، حتى ربما ترك العبدُ المأمورَ جملةً.
وإن وجد عنده حذرًا وجدًّا وتشميرًا ونهضةً وأَيِسَ أن يأخذه من هذا الباب أمره بالاجتهاد الزائد، وسوَّل له أنَّ هذا لا يكفيك، وهمَّتك فوق هذا، وينبغي لك أن تزيد على العاملين، وأن لا ترقد إذا رقدوا، ولا تُفطِر إذا أفطروا، ولا تقصُر إذا قصروا، وأن لا تفتُر إذا فتروا، وإذا غسل أحدُهم يديه ووجهَه ثلاث مراتٍ فاغسل أنت سبعًا، وإذا توضأ للصلاة فاغتسل أنت لها، ونحو ذلك من الإفراط والتَّعدِّي؛ فيحمله على الغلو والمُجاوزة وتعدي الصِّراط المستقيم، كما يحمل الأولَ على التقصير دونه، وأن لا يقربه، ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم: هذا بأن لا يقربه ولا يدنُوَ منه، وهذا بأن يُجاوزه ويتعدَّاه.
وقد فُتن بهذا أكثر الخلق، ولا يُنجي من ذلك إلا علمٌ راسخٌ، وإيمانٌ، وقوَّةٌ على محاربته، ولزوم الوسط.
والله المستعان).
الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
ذكر المؤلفُ العلامة ابن القيم رحمه الله المتوفى سنة 751، وهو من خُلاصة العلماء، ومن أصحاب البصيرة والنفوذ، ومن أنصح عباد الله لعباد الله رحمه الله، يذكر في هذا البحث أنواعًا من التقصير، وأنواعًا من الغلو، بناءً على ما تقدَّم من وجوب تعظيم أوامر الله، ووجوب تعظيم نواهي الله؛ فإنَّ الواجب على أهل الإسلام أن يُعظِّموا أمر الله ونهيه، وأنَّ الصراط المستقيم أن يسير إلى الله بين الأمر والنهي، كما يسير الطائرُ بين جناحيه، لا يغلو ولا يجفو، بل يسير إلى الله مُعظِّمًا أمره، تاركًا نهيه، مجتهدًا في طاعته، لا مقصِّرًا ومتكاسلًا، ولا غاليًا زائدًا، ولكن الصراط المستقيم أن تسير إلى الله على المنهج الذي سلكه رسولُ الله ﷺ وسلكه أصحابُه في الأوامر والنواهي، من دون زيادةٍ ولا نقصٍ، فالزيادة تُسمَّى غلوًّا وإفراطًا، والنقص يُسمَّى جفاءً وتقصيرًا وتفريطًا.
وقد ابتُلي الناسُ إلا من رحم الله بهذين الأمرين: فأكثر الخلق إمَّا في جفاءٍ وتفريطٍ وتقصيرٍ، وإمَّا في غلوٍّ وزيادةٍ، وما من عملٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان، فالشيطان حريصٌ على إفساد أعمال بني آدم أو نقصها، فله نزغتان: إمَّا إلى التقصير، وإمَّا إلى الزيادة، فهو حريص على هذا، عدو الله: شياطين الإنس والجن، فالشيطان ونوَّابه إذا رأوا من الإنسان ضعفَ إيمانٍ وتساهُلًا جرُّوه إلى الجفاء والتَّقصير حتى لا يُصلي مع الجماعة، أو يدع الصلاةَ بعض الأوقات، أو يُفطر في رمضان، أو يُقصِّر في برِّ والديه، أو يتعاطى الغيبة والنَّميمة، أو غير ذلك مما يجرونه إليه، إمَّا تفريطًا في الأوامر، وإمَّا وقوعًا في المحارم، يجرونه إلى هذا أو هذا: إمَّا إلى أن يقع في تقصيرٍ وتساهُلٍ بأوامر الله، وهذا هو الجفاء، وإمَّا إلى غلوٍّ وزيادةٍ والإفراط والغلو بالزيادة.
كأن يزيد في الوضوء، ولا تكفيه ثلاث غسلات، الناس غسلوا ثلاثًا فيغسل سبع غسلات، أو يُكرر: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، وما يكفيه مرة: كرّر حتى يزداد اليقينُ أنَّك كبَّرتَ. وهكذا في الغُسل كلما غسَّل أعاد الغسل وقال: ما كمَّلتُ. فيجرّه إلى الغلو، وربما أعاد الصلاةَ مرَّات، كل مرةٍ يقول: ترى ما كمَّلتها، تراها ناقصة، ما اطمأننتُ في كذا، أو ما اطمأننتُ في كذا، حتى يلعب به ويجرُّه إلى الغلو.
أو إلى الجفاء والتقصير؛ فلا يبالي: ما يضرك ما دمتَ موحِّدًا، ما عليك لو سرقتَ، لو شربتَ الخمر، لو فعلتَ كذا، لو فعلتَ كذا ما يضرك. حتى يُوقعه في المحارم والجفاء والتقصير: وما يلزم أن تُصلِّي مع الجماعة، صلِّ في بيتك، ربك غفور رحيم. وهكذا يلعب به عدو الله.
فهو مع أهل الإيمان في طرفي نقيض: إمَّا جرّ وسحب إلى الجفاء والتقصير، وإمَّا جرُّهم وسحبهم إلى الغلو والزيادة.
وضرب الأمثلة رحمه الله التي سمعت: تارةً في الوضوء، تارة في الغسل، تارة في المحارم، تارة في الصلاة، تارة في غير ذلك، ومن ذلك: القصر في الصلاة والجمع في السفر، يقول له: أنت مثل الناس لا تجمع ولا تقصر، صلِّ تمام الأربع أحوط، لا تقصر ولا تجمع أبدًا. هذا في فعل الأوامر.
أو يتساهل ويقصر بدون سبب، أو يجمع بدون سبب، والقصر سنة، لكن يجرّه إلى القصر بدون أسباب، بدون سفرٍ حقيقيٍّ، أو يجمع وهو مقيم، فالأفضل للمُقيم النازل ألا يجمع، فالنبي ﷺ لما أقام في منى في حجة الوداع صار يُصلِّي كل صلاةٍ في وقتها؛ لأنَّ الجمع رخصةٌ عارضةٌ، والأفضل تركه إذا كان نازلًا، فيُصلِّي الصلاة في وقتها، لكن لو جمع وهو نازل أجزأ، مثلما جمع النبيُّ ﷺ في تبوك وهو نازل، فكان يخرج من خبائه، ثم يصلي الظهر والعصر جميعًا، ثم يدخل، ثم يخرج وقت المغرب والعشاء ويُصلي المغرب والعشاء جميعًا، ولا سيما إذا دعت الحاجة إلى ذلك: إمَّا برد، أو قلَّة ماء على المسافرين، وغير هذا من المصالح، لكن الأفضل للنَّازلين المقيمين المسافرين أن يُصلوا كلَّ صلاةٍ في وقتها مثلما فعل النبيُّ ﷺ في منى في حجَّة الوداع، فكان يُصلي كل صلاةٍ في وقتها.
ويقول لبعض المارَّة: لا تقصر في السفر، أتم. هذا غلط، هذا غلو في التَّمام وتقصير في السُّنة، فإذا كان مسافرًا يقصر، هذه هي السنة، فلا يجفو، ولا يتم، إذا أتم يكون جفا، بل السنة أن يقصر.
كذلك الشِّبَع: الشِّبع جائز، كونه يشبع ويروى جائزًا، لكن لا يزيد زيادةً تضرُّه وتُسبب له التُّخمة والأمراض، لا، تارةً يشبع، وتارة يُخفف، وتارةً يجوع؛ حتى يسلم من آفات الشبع.
لا بأس من الشبع، فالنبي عليه الصلاة والسلام قد أكل وشبع في بعض الأحيان، قال لأبي هريرة: اشرب، اشرب من اللبن، حتى قال أبو هريرة: والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكًا. فقد يشبع، لكن كونه يُخفف ويغلب عليه عدم الشبع الذي يخشى منه أفضل؛ لقوله ﷺ: ما ملأ ابنُ آدم وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لُقيمات يُقِمْنَ صلبَه، فإن كان لا محالةَ فثلث لطعامه، وثلث لشَرَابه، وثلث لنَفَسِه، لا يجمعها كلها للأكل حتى يتعب في النَّفَس ويتعب في الشُّرب، فعليه أن يُخفف بعض الشيء ويعتاد التخفيف حتى لا يمتلئ بالأمراض والأسقام التي تنشأ عن زيادة التُّخمة.
فالمقصود أنه يُلاحظ الأشياء التي يُخشى منها، فلا يُسرف في المباحات حتى تضرَّه من الأكل والشرب، ولا يُقَتِّر على نفسه كفعل بعض العُبَّاد: يموت من الجوع ويقصر على نفسه حتى يضعف؛ ثم يكسل عن العبادات بسبب الجوع والحاجة، لا، بل يكون بين ذلك: يأكل ويشرب ويشبع بعض الأحيان ويُخفف بعض الأحيان، ويُلاحظ الأشياء التي تنفعه ولا تضرّه.
هكذا ينبغي للمؤمن أن يكون على الصراط المستقيم، يسلك الصراط الوسط، لا جفاء وتفريط وتقصير، ولا غلو وزيادة، بل يتحرَّى سنة الرسول ﷺ والسير عليها في كلِّ أموره.
وفَّق الله الجميع.
الأسئلة:
س: أحسن الله إليك، ما صحة هذا الحديث؟
ج: لا بأس به، حديث جيد، رواه الإمام أحمد وجماعة.
ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يحمل الأمرَ على علَّةٍ تُضعف الانقياد والتَّسليم لأمر الله ، بل يُسلِّم لأمر الله تعالى وحكمه، ممتثلًا ما أمر به، سواء ظهرت له حكمةُ الشرع في أمره ونهيه أو لم تظهر، فإن ظهرت له حكمةُ الشرع في أمره ونهيه حمله ذلك على مزيد الانقياد والبذل والتسليم لأمر الله، ولا يحمله ذلك على الانسلاخ منه وتركه جملةً، كما حمل ذلك كثيرًا من زنادقة الفقراء والمُنتسبين إلى التَّصوف.
فإنَّ الله شرع الصَّلوات الخمس إقامةً لذكره، واستعمالًا للقلب والجوارح واللسان في العبودية، وإعطاء كلٍّ منها قسطه من العبودية التي هي المقصود بخلق العبد، فوُضعت الصلاةُ على أكمل مراتب العبودية.
فإنَّ الله خلق هذا الآدميَّ واختاره من بين سائر البرية، وجعل قلبه محلَّ كنوزه من الإيمان والتوحيد والإخلاص والمحبة والحياء والتعظيم والمُراقبة، وجعل ثوابَه إذا قدم عليه أكمل الثواب وأفضله، وهو النظر إلى وجهه والفوز برضوانه ومجاورته في جنته، وكان مع ذلك قد ابتلاه بالشهوة والغضب والغفلة، وابتلاه بعدوه إبليس، لا يفتر عنه، فهو يدخل عليه من الأبواب التي هي من نفسه وطبعه، فتميل نفسه معه؛ لأنه يدخل عليها بما تُحب، فيتَّفق هو ونفسه وهواه على العبد: ثلاثة مُسلَّطون آمرون، فيبعثون الجوارحَ في قضاء وطرهم، والجوارح آلةٌ مُنقادة، فلا يُمكنها إلا الانبعاث، فهذا شأن هذه الثلاثة وشأن الجوارح، فلا تزال الجوارح في طاعتهم كيف أمروا وأين يَمَّمُوا.
هذا مقتضى حال العبد، فاقتضت رحمةُ ربِّه العزيز الرحيم به أن أعانه بجندٍ آخر، وأمدَّه بمددٍ آخر، يُقاوم به هذا الجند الذي يُريد هلاكه، فأرسل إليه رسولَه، وأنزل عليه كتابَه، وأيَّده بمَلَكٍ كريمٍ يُقابل عدوه الشيطان، فإذا أمره الشيطانُ بأمرٍ أمره الملكُ بأمر ربِّه، وبيَّن له ما في طاعة العدو من الهلاك، فهذا يُلِمُّ به مرةً، وهذا مرةً، والمنصور مَن نصره الله ، والمحفوظ مَن حفظه الله تعالى، وجعل له مقابل نفسه الأمَّارة نفسًا مطمئنة، إذا أمرته النفسُ الأمَّارةُ بالسوء نهته عنه النفسُ المطمئنَّة، وإذا نهته الأمَّارة عن الخير أمرته به النفس المطمئنة، فهو يُطيع هذه مرة وهذه مرة، وهو للغالب عليه منهما، وربما انقهرت إحداهُما بالكليَّة قهرًا لا تقوم معه أبدًا.
وجعل له مقابل الهوى الحامل له على طاعة الشيطان والنفس الأمَّارة نورًا وبصيرةً وعقلًا يرده عن الذهاب مع الهوى، فكلَّما أراد أن يذهب مع الهوى ناداه العقلُ والبصيرةُ والنورُ: الحذر، الحذر، فإنَّ المهالك والمتالف بين يديك، وأنت صيدُ الحرامية وقُطَّاع الطريق، إن سرتَ خلف هذا الدليل. فهو يُطيع الناصحَ مرةً، فيَبِين له رشدُه ونصحُه، ويمشي خلف دليل الهوى مرةً؛ فيُقطع عليه الطريق، ويُؤخذ ماله، وتُسْلَب ثيابه، فيقول: تُرى من أين أتيت؟!
والعجب أنه يعلم من أين أُتِيَ، ويعرف الطريقَ التي قُطعت عليه وأُخذ فيها، ويأبى إلا سلوكها؛ لأنَّ دليلها قد تمكَّن منه وتحكَّم فيه وقَوِيَ عليه.
ولو أضعفه بالمُخالفة له، وزجره إذا دعاه، وحاربه إذا أراد أخذه؛ لم يتمكَّن منه، ولكن هو مكَّنه من نفسه، وهو أعطاه يده، فهو بمنزلة الرجل يضع يده في يد عدوه؛ فياسِره ثم يسومه سوءَ العذاب، فهو يستغيث فلا يُغاث، فهكذا العبد يستأسر للشيطان والهوى ولنفسه الأمَّارة، ثم يطلب الخلاصَ فيعجز عنه.
فلمَّا أن بُلِيَ العبدُ بما بُلِيَ به أُعين بالعساكر والعُدَد والحُصون، وقيل: قاتِلْ عدوك وجاهده، فهذه الجنود خُذْ منها ما شئتَ، وهذه العُدد البس منها ما شئتَ، وهذه الحصون تحصَّن بأي حصنٍ شئتَ منها، ورابط إلى الموت، فالأمر قريب، ومدَّة المُرابطة يسيرة جدًّا، فكأنَّك بالملك الأعظم وقد أرسل إليك رُسُلَه، فنقلوك إلى داره، واسترحتَ من هذا الجهاد، وفرَّق بينك وبين عدوك، وأُطْلِقْتَ في دار الكرامة تتقلَّب فيها كيف شئتَ، وسجن عدوك في أصعب الحبوس، وأنت تراه في السجن الذي كان يُريد أن يُودِعك فيه، قد أُدخله وأُغلقت عليه أبوابُه، وأَيِسَ من الخروج والفرج، وأنتَ فيما اشتهَتْ نفسُك، وقرَّت عينُك، جزاء على صبرك في تلك المدة اليسيرة، ولزومك الثَّغر للرِّباط، وما كانت إلا ساعة ثم انقضت، وكأنَّ الشِّدّة لم تكن.
فإن ضَعُفتْ النفسُ عن ملاحظة قصر الوقت وسرعة انقضائه فليتدبر قوله : كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [الأحقاف:35]، وقوله : كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات:46]، وقوله : قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون:112- 114]، وقوله : يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا [طه:102- 104]).
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أمَّا بعد: فقد سبق بحثٌ مهمٌّ وأدلة كثيرة في وجوب تعظيم الأوامر والنواهي، وأن الواجب على المُكلَّف من الرجال والنساء: العناية بالأوامر والنواهي، وأنه خُلق لذلك، خُلق ليعبد ربه، ولا طريق إلى ذلك إلا باتِّباع الأوامر وترك النَّواهي، ولن يتم له ذلك إلا بتعظيم الأوامر، والحرص على تنفيذها، والمجاهدة في ذلك حتى يؤدي ما أُمر به، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ [العنكبوت:6].
فلا بدّ من تعظيم الأوامر، وعدم حملها على محامل تُوهِن العزم، تُوهِن الاجتهاد، بل يأخذها بظاهرها ويترك التأويل الذي يضرّه ويُضعف اجتهاده، فليأخذ الأوامر على ظاهرها وعلى ما بيَّنتْها النصوص، فيتَّبع ويستقيم، ويترك النواهي ويحذرها غاية الحذر لعله ينجو.
هكذا المؤمن يبتعد عمَّا نهى الله عنه، ويحرص على ما أمر الله به، مُعظِّمًا لذلك، مُتبَصِّرًا في ذلك، يرجو ثوابَ ربه ويخشى عقابه، لكن أغلب الخلق يُبتلى بهواه ونفسه الأمَّارة بالسوء وشيطانه، فيطيع هذه الثلاثة أو أحدها فيهلك، فلا بدّ من حربٍ للنفس الأمَّارة بالسوء والهوى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53]، وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26]، والشيطان: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6].
لا بدّ أن يُحارب والعُدَّة معه دائمًا، فالله أمدَّه بالجنود، وأعطاه النصوص -الكتاب والسنة، وأعطاه ملكًا له لَمَّة، وللشيطان لَمَّة، فالملك لَمَّته وعد بالخير، وتصديق بالحق، والرسل دعوا وبيَّنوا له، وأعطاه عقلًا ضد الهوى، عقل يُميِّز به الضارَّ من النافع، والخير من الشر، وأعطاه نفسًا مُطمئنةً بصيرةً، فليستعمل نفسه المطمئنة المتبصِّرة بالحق، ويستعمل عقله الرشيد ضد الهوى، ضد الشيطان، ضد النفس الأمَّارة بالسوء حتى ينجو، فإن هو تساهل مع نفسه الأمَّارة بالسوء، ومع هواه، ومع شيطانه؛ غلبته هذه الأمور، وصار مع أهلها، وصار أسيرًا في طاعة الشيطان وطاعة الهوى.
فالواجب أن يحذر، وأن يستعين بالله، وأن يتذكَّر مقامه بين يدي الله ولقاءه له، وأن الهوى والنفس الأمَّارة بالسوء والشيطان أعداءه، فلا بدّ من الحذر من هذه الأشياء الثلاثة، والإنسان يُصاب بالغفلة والشهوة والغضب، فربما دخل عليه الشيطان والهوى والنفس الأمَّارة بالسوء من هذه الطرق: من طريق الغضب، ومن طريق الغفلة عن النصوص والأدلة والعاقبة؛ من طريق الغضب: فإذا غضب جاء الشيطان وزيَّن له الباطل، وهكذا إذا غفل، وهكذا إذا اشتهى الشيء المحرَّم جرَّه عدو الله إليه، وقادته النفس الأمَّارة بالسوء.
فالواجب الحذر، وأن يكون في جميع الأوقات حذرًا، مطيعًا للنفس الطيبة المطمئنة، حذرًا من النفس الأمارة بالسوء، ويكون في حال الغضب حذرًا أيضًا، وفي حال الهوى وميل النفس حذر، ينظر: فإن كان ما عُرِض عليه أو دُعِي إليه طيبًا حقًّا أجاب، وإلا تعوَّذ بالله من الشيطان، ومن النفس الأمَّارة بالسوء، وابتعد عن طاعة الهوى والشَّيطان.
وهذه الدار دار مجاهدةٍ، وما هي إلا أيام وتنتهي، فلا بدّ من صبرٍ لجهاد أعداء الله: جهاد عدوك الشيطان، وجهاد الهوى، وجهاد النَّفس الأمَّارة بالسوء، فيوم القيامة يقولون: كأنَّهم ما لبثوا في هذه الدنيا إلا عشيَّةً أو ضحاها، راحت تلك الأعوام والسنين، وعشرات السنين، كأنَّهم ما لبثوا فيها إلا يومًا أو ساعةً من نهار. والمؤمن إذا دخل الجنة قيل له: هل مرَّ بك بُؤسٌ؟ هل مرَّت بك شدَّةٌ؟ يقول: ما مرَّ بي شيء. ينسى كلَّ شيءٍ، بؤس الدنيا وشرّها ذهب ونسيه. والكافر إذا غُمِس في النار غمسةً سُئل: هل مرَّ بك نعيمٌ؟ هل مرَّ بك خيرٌ؟ يقول: لا، ما مرَّ بي شيء، ينسى النعيم الذي في الدنيا كلها.
فالحاصل أن المؤمن والعاقل يُؤْثِر طاعةَ الله، ويُؤْثِر العبادة التي خُلق لها، فهو مخلوقٌ لعبادة الله، شرع الله له الصَّلوات يستعمل فيها قلبَه ولسانَه وجوارحَه، هكذا الزكاة، هكذا الصوم، هكذا الحج، هكذا الجهاد، هكذا الأذكار، يستعمل قلبَه ولسانَه وجوارحَه في طاعة الله، ويحذر استعمالها فيما يُغضب الله، فلا بدّ من جهادٍ، ولا بدّ من صبرٍ، فهي أيام وليالٍ ثم تنتهي.
وفَّق الله الجميع.
الأسئلة:
س: ما ورد في الغضب وما يُطفئه أنه إن كان قائمًا يجلس، وإن كان جالسًا يضطجع؟
ج: نعم كل هذا ورد، وكذلك الوضوء، وإذا غضب يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كلها عليه دليل.
س: صحيحة؟
ج: نعم.
س: قول: مَن عبد الله بالمحبَّة وحدها فقد تزندق؟
ج: لا بدَّ من المحبة والعمل، فالمحبة الصادقة تدعو إلى العمل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، هذه محبة الزَّنادقة، يدَّعون المحبة وهم يكذبون، لو أحبَّ الله لعمل:
أتُحبّ أعداء الحبيب وتدَّعي *** حُبًّا له ما ذاك في الإمكان
فالمقصود أن المحبة تُوجب العمل بطاعة الله وترك معصيته إذا كان صادقًا، وإلا فهو كذَّاب.
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: (وخطب النبيُّ ﷺ أصحابَه يومًا، فلمَّا كانت الشمس على رؤوس الجبال -وذلك عند الغروب- قال: إنَّه لم يبقَ من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه، فليتأمل العاقلُ الناصحُ لنفسه هذا الحديث، وليعلم أيّ شيءٍ حصل له من هذا الوقت الذي قد بقي من الدّنيا بأسرها؛ ليعلم أنه في غرورٍ وأضغاث أحلامٍ، وأنه قد باع سعادةَ الأبد والنعيم المُقيم بحظٍّ خسيسٍ لا يُساوي شيئًا، ولو طلب الله تعالى والدار الآخرة لأعطاه ذلك الحظَّ هنيئًا موفورًا وأكمل منه، كما في بعض الآثار: "ابن آدم، بِعِ الدنيا بالآخرة تربحهما جميعًا، ولا تَبِعِ الآخرةَ بالدنيا تخسرهما جميعًا".
وقال بعضُ السلف: "ابن آدم، أنت محتاجٌ إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأتَ بنصيبك من الدنيا أضعتَ نصيبَك من الآخرة، وكنتَ من نصيب الدنيا على خطرٍ، وإن بدأتَ بنصيبك من الآخرة فُزتَ بنصيبك من الدنيا، فانتظمه انتظامًا".
وكان عمرُ بن عبدالعزيز يقول في خطبته: "أيها الناس، إنَّكم لم تُخلَقوا عبثًا، ولم تُتركوا سُدًى، وإنَّ لكم معادًا يجمعكم الله فيه للحكم فيكم، والفصل بينكم، فخاب وشقي عبدٌ أخرجه الله من رحمته التي وسعت كلَّ شيءٍ، وجنته التي عرضها السَّموات والأرض. وإنما يكون الأمانُ غدًا لمن خاف الله تعالى واتَّقاه، وباع قليلًا بكثيرٍ، وفانيًا بباقٍ، وشقاوةً بسعادةٍ.
ألا ترون أنَّكم في أسلاب الهالكين تتقلَّبون، وسيَخْلُفه بعدكم الباقون؟! ألا ترون أنَّكم في كلِّ يومٍ تُشَيِّعون غاديًا أو رائحًا إلى الله قد قضى نَحْبَه، وانقطع أملُه، فتضعونه في بطن صَدْعٍ من الأرض غير مُوَسَّدٍ ولا مُمَهَّدٍ، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وواجه الحساب؟!).
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أمَّا بعد: فهذا البحث مقصوده أن الدنيا عَرَضٌ زائلٌ، ومدتها قصيرة، وعمر الإنسان منها أقصر وأقصر، فهي متاع قليل: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد:26]، أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38].
وجاء في هذا الحديث أنَّ ما بقي منها في عهد النبي ﷺ مثل ما بقي من يومٍ حين تكون الشمس في رؤوس الجبال وأطراف النَّخيل، يعني: أنَّه مضى معظمها وأكثرها، وما بقي منها إلا اليسير.
فجدير بالعاقل أن يغتنم الفرصة من هذا اليسير، وأن يُقدِّم الآخرة ويعمل لها، حتى لا يُخدع، وحتى لا تفوته الدنيا والآخرة، فيبدأ بحظِّه من الآخرة، ويستعد للآخرة، ويتبعه حظُّه من الدنيا، فإنَّ رزقه مضمون، وله أسباب، فليعمل لآخرته وليجتهد، وليأخذ من الدنيا ما يسَّر الله له، كما قال قوم قارون لقارون: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77].
فمَن باع الآخرة بالدنيا خسرهما جميعًا، ومَن باع الدنيا بالآخرة ربحهما جميعًا، فالعاقل يبتدئ حرثَه من الآخرة ويعمل ويجتهد، فيُعدّ العدَّة، ويتزوَّد من التقوى، ويرضى من الدنيا بما يسَّر الله، ولا يجعلها أكبر همِّه، ولا مبلغ علمه، ولكن يجعلها متاعًا، يجعلها وسيلةً، يجعلها مطِيَّةً؛ حتى يتوجَّه إلى الآخرة.
وكان عمر بن عبدالعزيز رحمه الله -الخليفة الراشد- كثيرًا ما يُعرِّض بهذا الأمر في خطبه، يُزَهِّد في الدنيا، ويُرَغِّب في الآخرة، ويقول: "ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين تتقلَّبون"، فالسَّلَبُ: ما خلعه الإنسان، "أسلاب الهالكين" يعني: ما خلعوه وانتقلوا عنه، من حصونٍ ومدنٍ وقرى ومزارع، وغير ذلك.
"وسيخلفه بعدكم الباقون" بعدكم يستخلفها آخرون.
"ألا ترون أنَّكم تُشيِّعون في كلِّ يومٍ غاديًا أو رائحًا إلى الله" في كل يومٍ: هذا ميتٌ في الصباح، وهذا ميِّتٌ في آخر النهار، أموات يأتون في الصباح وأموات يأتون في آخر النهار تُشاهدونهم، يكون فيهم أسوة ولا بدّ، فأنت صائرٌ إلى ما صاروا إليه.
فالواجب الحذر حتى لا يأتيك الأجلُ وأنت على غِرَّةٍ، فالموت يأتي بغتةً، فالواجب عليك أن تُعد العُدَّة حتى إذا هجم هذا الأجل كنت على أُهبة الاستعداد لآخرتك، وعلى عملٍ يُرضي الله عنك، فكم من مُصبحٍ لا يُمسي، وكم من مُمْسٍ لا يُصبح، فالآجال بيد الله سبحانه، هو الذي يعلمها، فعليك أنت أن تحتاط، وأن تستعِدَّ، حتى إذا هجم الأجلُ إذا أنت على أُهبةٍ واستعدادٍ.
أسأل الله للجميع التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الأسئلة:
س: ما صحة هذا الحديث: أنه لم يبقَ من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا؟
ج: الذي يظهر لي أنه صحيح، وهو ما خرَّجه لكنه معروف.
الطالب: يقول في التخريج: رواه أحمد في "المسند" الجزء الثاني (133) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، والجزء الثالث (13، 19)، والترمذي رقم (2192) في الفتن، باب: ما أخبر النبيُّ ﷺ بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، من حديث أبي سعيد الخدري ، وقال الترمذي: وفي الباب عن حذيفة وأبي مريم وأبي زيد بن أخطب والمغيرة بن شعبة، وذكروا أن النبي ﷺ حدَّثهم بما هو كائنٌ إلى أن تقوم الساعة. وقال: هذا حديثٌ حسنٌ.
الشيخ: رحمه الله، على كل حالٍ تُراجع أسانيده، والذي يظهر لي أنه لا بأس به.
الطالب: قال هنا: وهذا إسنادٌ فيه انقطاع؛ المطلب بن عبدالله لم يسمع من ابن عمر، وله شاهدٌ من حديث أبي سعيد الخدري .
الشيخ: على كل حالٍ تُراجع أسانيده، لكن معناه صحيح، فمعظمها قد ذهب، وما بقي منها إلا القليل.
س: حديث: صلُّوا صلاةَ مُودِّعٍ؟
ج: الحديث لا بأس به، حديث العرباض: "صلَّى بهم"، أمَّا "صلِّ" ما أعرف حاله، لكن: "صلَّى بهم النبيُّ ﷺ صلاةً عظيمةً"، قال: "فكأنَّها صلاةَ مُودِّعٍ"، ووعظهم موعظةً كأنَّها موعظة مُودِّع، أمَّا "صلِّ صلاةَ مُودِّعٍ" ما أعرف سنده، لكن ينبغي للمؤمن في كلِّ صلاةٍ أن يعتني بها؛ لأنَّه لا يدري: هل يُصلِّي بعدها أو لا؟ فيعتني ويُكمِّل.
س: هل يقول الإمامُ للمأمومين: صلُّوا صلاةَ مودعٍ، وما يقول: استووا؟
الشيخ: ما أعرف لها أصلًا، يقول مثلما قال النبيُّ ﷺ: اعتدلوا، استووا، تراصُّوا، تقاربوا، شيء جديد ما أعرفه، وفيما فعله النبيُّ ﷺ الكفاية.
س: الآية: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور:37]، فيها أثبت لهم التجارة أم عدمها؟
ج: يتَّجرون ولا تُلهيهم، يتَّجرون مثلما اتَّجر الصحابة فلم تُلههم، وهكذا المزارعون من الأنصار لم تُلههم.
س: من صفاتهم البيع والشراء؟
ج: كما قال جلا وعلا: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، والنبي عليه الصلاة والسلام سُئِلَ: أيُّ الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، فالبيع والمبرور وعمل الإنسان بيده من الأشياء المطلوبة.
س: إذا كانت الصفوف مستويةً فهل يُسن للإمام أن يقول لهم: استووا، تراصُّوا. فبعضهم يأخذها كأنَّها سُنَّة ثابتة، سواء كانت الصفوفُ معتدلةً ما يُعدِّل فيها شيئًا، أو مُعوجَّةً؟
ج: يُعلِّمهم حتى يعتادوا هذا ويعرفوه، فيلتفت إليهم ويقول: "استووا، تراصُّوا" حتى يهتمُّوا بالأمر، ويعتادوا هذا الشيء، ويعرفوا أنها سنة.
س: يُقبِل عليهم بوجهه يا شيخ؟
ج: نعم.
س: إذا كانوا معتدلين هل يُسن له أن يقول هذا؟
ج: ولو، ولو، حتى يعتادوه، فالنبي ﷺ كان إذا وقف قال هذا للناس.
وقد روى الإمامُ أحمد رحمه الله والترمذي من حديث الحارث الأشعري، عن النبي ﷺ أنه قال: إنَّ الله أمر يحيى بن زكريا ﷺ بخمس كلماتٍ أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وأنه كاد أن يُبطئ بها، فقال له عيسى عليه السلام: إنَّ الله تعالى أمرك بخمس كلماتٍ لتعمل بها، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإمَّا أن تأمرهم وإمَّا أن آمرهم. فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يُخسف بي أو أُعَذَّب. فجمع يحيى الناسَ في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وقعدوا على الشُّرَف، فقال: إنَّ الله تبارك وتعالى أمرني بخمس كلماتٍ أن أعملهن، وآمركم أن تعملوا بهن: أولهن: أن تعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئًا، وإنَّ مثل مَن أشرك بالله كمثل رجلٍ اشترى عبدًا من خالص ماله -بذهبٍ أو وَرِقٍ- فقال له: هذه داري وهذا عملي، فاعمل وأَدِّ إليَّ. فكان يعمل ويُؤدي إلى غير سيده، فأيُّكم يرضى أن يكون عبدُه كذلك؟ وإنَّ الله أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإنَّ الله ينصب وجهَه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت. وأمركم بالصيام، فإنَّ مثل ذلك كمثل رجلٍ في عصابةٍ، معه صُرَّة فيها مسك، فكلهم يُعجب أو يُعجبه ريحها، وإنَّ ريح الصائم أطيبُ عند الله تعالى من ريح المسك. وأمركم بالصدقة، فإنَّ مثل ذلك كمثل رجلٍ أسره العدو، فأوثقوا يديه إلى عنقه، وقدَّموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير. ففدى نفسَه منهم. وأمركم أن تذكروا الله تعالى، فإنَّ مثل ذلك كمثل رجلٍ خرج العدو في أثره سراعًا، حتى إذا أتى على حصنٍ حصينٍ فأحرز نفسَه منهم، كذلك العبد لا يُحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى.
قال النبيُّ ﷺ: وأنا آمركم بخمسٍ، الله أمرني بهن: السمع، والطَّاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة. فإنَّه مَن فارق الجماعة قيد شِبْرٍ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع، ومَن ادَّعى دعوى الجاهلية فإنه من جُثَا جهنم، فقال رجل: يا رسول الله، وإنْ صلَّى وصام؟ قال: وإن صلَّى وصام وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوى الله الذي سمَّاكم المسلمين المؤمنين عباد الله.قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
فقد ذكر ﷺ في هذا الحديث العظيم الشأن، الذي ينبغي لكلِّ مسلمٍ حفظه وتعقُّله: ما يُنجي من الشيطان، وما يحصل للعبد به الفوز والنَّجاة في دُنياه وأُخراه).
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أمَّا بعد: فالله جل وعلا خلق العبدَ لهذه العبادة التي شرعها على أيدي الرسل، أعظمها توحيده والإخلاص له، وصرف العبادة له وحده، وابتلاه بعدوٍّ لا يفتر عن مُعاداته، وشهوةٍ، وغفلةٍ، وغضبٍ، ثم أمَّده بجنودٍ وعُدَدٍ وأمدادٍ كثيرةٍ يتحرز بها من عدوه، ويتخلَّص بها إذا أعسره العدو أو الشهوة أو الغضب.
وهذه الأمداد أنواعٌ: من العبادات، من الأذكار والتعوُّذات الشرعية، من الأعمال الشَّرعية، من الصلاة والصوم والصدقات وغير ذلك، منها ما يقوم بالقلوب: كخوف الله، وتعظيمه، ومراقبته في سائر الأحوال.
فالواجب عليه أن يستعمل هذه العُدد وهذه الأمداد وهذه الجنود ليتحرَّز من عدوه، وليَفُكَّ أسرَه إن أُسِرَ، قال الله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36].
فالواجب على العبد أن يلتزم الذكر القولي والعملي لعله ينجو من شرِّ عدوه؛ فإن بُلِيَ أو وقع في المعصية فليجتهد في التخلُّص والتوبة، إن أسره العدو وطمع فيه فليُبادر بالتوبة حتى يتخلَّص من عدوه.
وهذه الدار دار الابتلاء والامتحان في: الغضب، والهوى، والغفلة، والشيطان وراء ذلك، يُسبب الغفلة، ويُسبب الهوى، ويُسبب الغضب، يدعو إلى ذلك، ويجتهد في أسباب ذلك. فلا بدّ أن تقوم أنت بجهادٍ آخر، وصبرٍ، ومصابرة في محاربة هذه الأمور: محاربة الهوى بالإخلاص لله، والعلم بأنك عبده، وأن الواجب عليك الإخلاص له، والحذر من طاعة الهوى.
وهكذا الشَّهوات: يجب أن تحذر ما حرَّم الله منها، وأن تكتفي بما أباح الله، وتقف عند الحدِّ، فلا بدّ من جهادٍ وصبرٍ.
وهكذا الغضب: إذا غضبت فاحذر أن تزل قدمُك، وتعوَّذ بالله من الشيطان حتى لا يُوقعك الغضبُ فيما حرَّم الله، والغضب من الشيطان فاستعذ بالله من الشيطان، وعالج الغضب بما تستطيع من وضوءٍ وغيره من أسباب إزالته؛ لأنَّ الشيطان قد يتسلَّط عليك بهذه الأشياء، فاحذره حتى تغلبه وتأسره أنت، وحتى تُكفَى شرَّه بالصدق والإخلاص والذكر والأعمال الصالحة، والتوجه إلى الله، وصدق الخوف منه، والرغبة إليه، حتى تسلم من عدوك الذي هو مُلازمك، فكل إنسانٍ معه مَلَكٌ وشيطان، فالملك له لَمَّة، والشيطان له لَمَّة، فلَمَّة الملك: إيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحق، ولَمَّة الشيطان: تكذيب بالحق وإيعاد بالشر.
فعليك يا عبدالله أن تستعمل ما أعطاك الله من القوى والحرس والجنود والعُدة دائمًا، استعملها دائمًا بالقلب واللسان والعمل، وكن على حذرٍ دائمٍ، كن شاكي السلاح دائمًا، لا تغفل، ليكن سلاحُك دائمًا حاضرًا بالقول الطيب والعمل الطيب، وأعمال القلب من الخوف والرجاء والحذر والإخلاص لله والصدق.
وهذا الحديث -حديث الحارث الأشعري- حديثٌ صحيحٌ عظيمٌ، فيه لك عظة وتوجيه وإرشاد، وقد أعطاك جنودًا في هذا الحديث، فالله جل وعلا أوحى إلى يحيى بن زكريا نبي الله ابن نبي الله أن يأمر بني إسرائيل بخمس ويعمل بها، فلمَّا تأخَّر قال له عيسى ابن خالته -وكلاهما نبي ورسول عليهما الصلاة والسلام، وهما ابنا الخالة: إمَّا أن تُبلغهم وإمَّا أن أبلغهم، فقال يحيى: إني أخشى إن بلغتهم ولم أُبلغهم أنا أن يُخسف بي أو أُعَذَّب أنا مأمور، فجمعهم في بيت المقدس حتى قعدوا على الشُّرَف، وامتلأ المسجد، وصاروا فوق الأعطاف والأحذية يسمعون، فقال لهم: إن الله أمرني بخمس يعني: خمس خِصالٍ أن أعمل بها وأن آمركم أن تعملوا بها، وهي: التوحيد، والصلاة، والصيام، والصدقة، والذكر.
خمس: توحيد الله والإخلاص له، والثاني: الصلاة، والثالث: الصدقة، والرابع: الصوم، والخامس: ذكر الله .
ذكر لهم أن الله أمره أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئًا، هذه أهم الأمور، الخمسة، ولهذا خُلِقَ العباد، خُلِقَ العبادُ ليعبدوا الله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، هذه أهمها، أن يعبدوا الله وحده كما شرع لهم، وأن يدعوا الشرك به .
ثم ضرب لهذا مثلًا بإنسانٍ له عبدٌ اشتراه من خالص ماله، من ذهبٍ أو فضَّةٍ، ثم قال له: هذا داري وأعطاه ماله، وقال: تسبَّب واعمل في هذا المال وأدِّ إليَّ. فجعل العبد يبيع ويتصرف ويؤدي إلى غير سيده، يؤدي الأرباح لغير سيده، فأي إنسانٍ يرضا بهذا العبد الخائن، فهكذا العبد إذا عمل لغير الله وصرف نِعَمَ الله في طاعة غير الله، فهو مثل هذا العبد الخائن، فالواجب أن يعمل لله، وأن تكون أعماله كلها لله وحده، في طاعته، وفي سبيل مرضاته، حسبما أمر .
ثم ذكر الصلاة، وأن أمرها عظيم، وأن الله ينصب وجهه إلى وجه عبده المصلي ما لم يلتفت، فالمعنى: الحثّ على الاستقامة في الصلاة، والخشوع فيها، والإقبال عليها، حتى تُنهيها بقلبٍ حاضرٍ وإخلاصٍ وصدقٍ وخشوعٍ.
ثم ذكر الصدقة، وأنَّ الصدقة لها شأنٌ عظيم، ومثَّل صاحب الصَّدقة بمَن قدَّمه العدو ليضربوا عنقه، فجعل يفتدي منهم بالقليل والكثير، هكذا العبد، فينبغي الاهتمام بالصدقة والإنفاق في وجوه الخير؛ لأن الصدقة من أسباب العتق، ومن أسباب السلامة، فالصدقة تُطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار، وفي الحديث الصحيح: اتَّقوا النارَ ولو بشِقِّ تمرةٍ، فالصَّدقات لها شأنٌ عظيمٌ في دفع البلاء، وفي العتق من النار، وفي عظم الأجر، لا سيَّما إذا كانت من كسبٍ طيبٍ.
وذكر الصوم، وأن مثله كمثل إنسانٍ معه صُرَّة في عصابةٍ، كلهم يُعجبهم ريحها، وهكذا الصائم، خلوف فمه أطيب عند الله من ريح المسك، وما ذاك إلا لفضل العبادة، وأنها سرٌّ بين العبد وربه، يرجو رحمته ويخشى عقابه.
ثم بيَّن لهم شأن الذكر، وأن الذكر عظيم، وأن مثل الذاكر كمثل رجلٍ طلبه العدو سراعًا، فتحرَّز منهم في حصنٍ حصينٍ، فهكذا العبد، إنما يُحرز نفسه من الشيطان بذكر الله: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، فالذكر حرزٌ عظيمٌ من الشيطان، فعليك بالذكر القلبي واللساني والعملي، اجتهد في ذكر الله قلبًا ولسانًا وعملًا لعلك تُحرز نفسك من عدو الله الشيطان، فكن ذاكرًا قائمًا وقاعدًا وماشيًا، في جميع الأحوال تذكر ربك، بالتسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، والتعوذ بالله من الشيطان، والدعوات الطيبة، والأعمال الصَّالحة.
هذه ذكرها النبيُّ ﷺ وأقرّها، فكما أن بني إسرائيل مأمورون بها فنحن مأمورون بها أيضًا؛ لأن الرسول ﷺ ذكرها وجاء شرعنا بها، جاء شرعنا بهذه الخمس: بالتوحيد، وتعظيم الصلاة، وتعظيم الصوم، والصدقة، وتعظيم الذكر، كله جاء به شرع محمدٍ عليه الصلاة والسلام.
ثم أخبر النبيُّ ﷺ أن الله أمر بخمسٍ، على الأمة أن يعملوا بها: السمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد، والجماعة.
السمع والطاعة لولاة الأمور في المعروف، وعدم شقِّ العصا.
الثالثة: الجهاد في سبيل الله.
الرابعة: الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام.
والخامسة: الجماعة، لزوم الجماعة على الحق، وعدم الخروج عن الجماعة، وعدم التفرق والاختلاف، تلزم جماعة المسلمين، وتكون معهم في الشدة والرخاء، مع السمع والطاعة لولاة الأمور في المعروف، هذا كله لازم، وبه تستقيم الأمور، وتُقام الحدود، ويُنصر الحق، ويُقهر الباطل، أمَّا إذا كان التفرق والعصيان ومخالفة ولاة الأمور وشقّ العصا ضاع الحق بين الناس، وسُفكت الدماء، واختلَّ الأمن.
وأخبر النبيُّ ﷺ أن مَن صلَّى وصام وزعم أنه مسلم إذا شقَّ العصا وفارق الجماعة فهو من جُثا جهنم -والعياذ بالله- يعني: حطبها. وهذا يُوجب الحذر، وأن يكون المؤمنُ مكتفيًا بالدعوة التي شرعها الله: المسلمون، المؤمنون، عباد الله، مسلم، مؤمن، عبدالله، ويترك التَّحزُّبات التي تشقّ العصا وتُسبب الفُرقة والاختلاف.
وفَّق الله الجميع.
الأسئلة:
س: بالنسبة لمفارقة الجماعة: تكون بالفعل والقول، أم فقط بالفعل؟
ج: تكون بالقول والفعل والعقيدة، لا بدّ أن يكون معهم عقيدةً وقولًا وعملًا، فلا يُخالفهم بالعقيدة ولا بالقول ولا بالعمل، يكون معهم، من أنصارهم.
س: تكون المخالفة في المجمع عليه أو ...؟
ج: في الحقِّ، سواء مجمع عليه أو غير مجمع عليه، ما قام عليه الدليل يجب الثبات عليه.
س: دعوى الجاهلية؟
ج: التَّعصُّب، هذه هي دعوى الجاهلية، التعصب للآباء والأجداد والقبيلة وأهل البلد والعادات، هذه دعوى الجاهلية، ما هو التعصب للكتاب والسنة، وإنما التعصب لقبيلته أو لأبيه أو لأمه أو لأهل بلده أو لآخرين من الناس.
س: بالنسبة للجماعة: في بعض البلدان الأخرى هناك جماعة متمسِّكون بالكتاب والسنة، فئة من الناس، هذه الجماعة مرات الشيطان استحوذ عليهم، ولهم أمير، وفي نفس الوقت يحصل انشقاق فيما بينهم؛ بدل أمير واحد يكون أميرين أو ثلاثة، هل يُعتبر هذا من شقِّ العصا؟
ج: يُنصحون ويُوجَّهون إلى الخير حتى لا يشقوا العصا، وحتى يكونوا شيئًا واحدًا، فكل مَن وقع منه هذا يُنصح ويُوجَّه من إخوانه، ويُقال: الزم الجماعة وعالج الأمور، إذا كان بينكم شيءٌ مُشكِلٌ يُعالَج حتى يجتمع عليه الجميع.
س: الحديث يشملهم؟
ج: نعم إذا كان بينهم تعصُّب، أمَّا إذا كانوا متَّفقين في المعنى -ولو كان هؤلاء لحالهم وهؤلاء لحالهم، فهذا يُدَرِّس وهذا يُدَرِّس، وهذا يعمل وهذا يعمل، لكن يتعاونون وما بينهم شقّ عصا- فما يشملهم.
س: قوله: وإن صام وصلَّى وزعم أنه مسلم؟
ج: هذا من باب الوعيد، يعني: يحصل له هذا الوعيد، فيكون متوعَّدًا بالنار وإن صام وصلَّى، مثل الزاني فهو مُتوعَّد بالنار وإن صام وصلَّى.
س: بالنسبة للجهاد في البوسنة والهرسك رأيك في ذهاب الشباب هناك ومساعدتهم؟
ج: الذي يظهر لنا أنهم يستحقون النصر بالمال والسلاح، وقد كتبنا في هذا مرات كثيرة.
س: وفي البدن؟
ج: إذا تيسر، إن استطاع.
س: بالنسبة للحديث الذي جاء في الدرس الآن، هل هو صحيح يا شيخ؟
ج: نعم، صحيح.
ومعلوم أن العبد من بني آدم لو كان مملوكه كذلك لكان أمقتَ المماليك عنده، وكان أشد شيءٍ غضبًا عليه، وطردًا له وإبعادًا، وهو مخلوق مثله، كلاهما في نعمة غيرهما، فكيف بربِّ العالمين الذي ما بالعبد من نعمةٍ فمنه وحده لا شريكَ له، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، وهو وحده المُنفرد بخلق عبده، ورحمته، وتدبيره، ورزقه، ومعافاته، وقضاء حوائجه، فكيف يليق به مع هذا أن يعدل به غيره في الحب والخوف والرجاء والحلف والنذر والمعاملة، فيُحب غيره كما يُحبه أو أكثر، ويخاف غيره ويرجوه كما يخافه أو أكثر، وشواهد أحوالهم، بل وأقوالهم وأعمالهم ناطقة بأنهم يُحبون أنداده من الأحياء والأموات، ويخافونهم ويرجونهم ويُعاملونهم ويطلبون رضاهم ويهربون من سخطهم أعظم مما يُحبون الله تعالى ويخافونه ويرجونه ويهربون من سخطه، وهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله ، قال الله : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
والظلم عند الله يوم القيامة له دواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله منه شيئًا، وهو الشرك به، فإنَّ الله لا يغفر أن يُشرك به.
وديوان لا يترك الله تعالى منه شيئًا، وهو ظلم العباد بعضهم بعضًا، فإن الله تعالى يستوفيه كله.
وديوان لا يعبأ الله به شيئًا، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه ، فإنَّ هذا الديوان أخفّ الدواوين وأسرعها محوًا، فإنه يُمحى بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المُكفِّرة ونحو ذلك، بخلاف ديوان الشرك فإنه لا يُمحى إلا بالتوحيد، وديوان المظالم لا يُمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها، واستحلالهم منها).
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فقد سبق حديث الحارث الأشعري عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهو حديثٌ عظيمٌ، ذكر فيه أنَّ الله أمر يحيى بن زكريا عليه وعلى أبيه الصلاة والسلام أن يأمر بني إسرائيل بخمس مسائل، وأن يعمل بها، وأنَّ يحيى كاد أن يُبطئ بها عليهم، فقال له عيسى: يا نبي الله، إمَّا أن تُخَبِّرهم وإمَّا أن أُخَبِّرهم، فقال: يا أخي، إني أخشى إن سبقتني بذلك أن يُخسَف بي أو أُعَذَّب، ثم بادر يحيى فأخبرهم، دعاهم وجمعهم في بيت المقدس وخبَّرهم بها.
الأولى: أنَّ الله أمرهم أن يعبدوه وحده ولا يُشركوا به شيئًا، وهذه أهم الأمور، وهذه التي بعث الله بها الرسل جميعًا، بعث الله الرسلَ جميعًا أن يأمروا الناسَ بعبادة الله وحده، فالمعنى أنَّ الله أمر يحيى أن يُؤكِّد عليهم هذا الذي جاء به موسى، والذي جاء به داود، والذي جاء به سليمان، وجاءت به الرسل كلهم، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45] أي: لا، لم نجعل، فالاستفهام للإنكار.
ثم ضرب مثلًا لهذا، قال: مثل المشرك كمثل إنسانٍ اشترى عبدًا من خالص ماله، ثم أعطاه المال، وقال: هذا مالي وهذه داري، فاعمل وأدّ إليّ. فجعل العبدُ يعمل ويُؤدِّي إلى غير سيده، يُعطي الأموال إلى غير سيده، فأيُّكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ ومَن يرضى بهذا؟ ما يرضى به أحد، فكيف بربِّ العالمين الذي خلقك وأوجدك من العدم، وأبداك بالنعم، وأنت مملوكه أنت وما في يدك، كيف تعمل لغيره، وتعبد غيره، وتخافه، وترجوه، وتحبه كحب الله أو أكثر، وتدعوه، وتستغيث به، وتنذر له؟! هذا هو الشرك الأكبر، والله لا يغفره ، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، وقال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وقال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
فالواجب على جميع العباد أن يعبدوا الله وحده في صلاتهم، وصومهم، وذبحهم، ونذرهم، وسائر عباداتهم كلها لله وحده، خوفهم، ورجائهم، ومحبتهم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، فمحبة الله الصادقة تقتضي اتباعه واتِّباع رسوله، والقيام بحقه، وترك ما نهى عنه .
وقد ذمَّ الله المشركين بحبهم آلهتهم كحب الله، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]، الأنداد يعني: أشباه ونُظراء من الملائكة، أو من الأنبياء، أو من الأصنام، أو من الأشجار والأحجار، أو الجن، يعبدونهم، يستغيثون بهم، ينذرون لهم، يستعينون بهم، يتعوَّذون بهم، يذبحون لهم، إلى غير هذا.
فالله عابهم بهذا، وحذَّرهم من مغبَّة شركهم، وبعث الرسلَ تنهاهم عن هذا الشيء، وأن تكون العبادة لله وحده، فالمخلوق الحي لا بأس أن تُعامله بما يليق به -الحي الحاضر- تستعين به في مزرعتك -خادم بالأجرة- يُعينك، هذا لا بأس؛ لأنَّه يسمع ويعقل ويستطيع، فهو يقدر عليها، فلا بأس بهذا. مثلما قال تعالى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القصص:15].
فالاستعانة بالحي الحاضر في الأمور التي يقدر عليها ليس من الشرك، تقول له: ساعدني على المزرعة، على إصلاح السيارة، اعتمل البيت. بأجرةٍ أو بغير أجرةٍ، فهذا بين الناس لا بأس به، أمَّا أن تدعو الميت أو الغائب لأنَّك تعتقد أن له سرًّا، يسمع كلامك وينفعك، فتدعو الغائب أو الجن أو الملائكة أو الأصنام أو الأشجار أو الأحجار، هذا هو الشرك الأكبر، هذا الذي فعله المشركون مع أصنامهم، مع اللات والعُزَّى ومَناة، ومع هُبل، ومع غيرها من الأصنام ومن الأشجار كالعُزَّى، ومع الحجر كمناة، يعتقدون فيها الشرك، وأنها تنفع، وأنها تشفع لهم عند الله، فيدعونها، ويرجونها، ويخافونها، ويذبحون لها، وينذرون لها؛ لتقربهم إلى الله، وتشفع لهم عند الله، كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، وقال سبحانه عنهم أنهم يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].
فمَن اتخذ قبرًا أو شجرةً أو صنمًا أو جنًّا أو نجمًا يعبده بالدعاء أو بالخوف أو بالرجاء أو بالذبح أو بالنذر، يعتقد أنه يُقرِّبه إلى الله، أو يشفع له، هذا دين المشركين، هذا الشرك الأكبر.
فالواجب على أهل الإسلام -على المُكلَّفين- التَّفقُّه في الدين والتبصر، والحذر من الشرك الذي حرَّمه الله وجعله أكبر الذنوب؛ حتى لا تقع فيه وأنت لا تشعر، تفقه في الدين، تعلَّم وتبصَّر حتى تدع الشركَ على بصيرةٍ، وحتى تعبد الله على بصيرةٍ.
والشرك أعظم الظلم كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وقال تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]، فأعظم الظلم هو الشرك بالله جلَّ وعلا.
وهناك ظلمٌ آخر، وهو ظلم العباد في أنفسهم وأموالهم، وظلم ثالث، وهو ظلم النفس بالمعاصي.
فالظلم أنواع ثلاثة:
الظلم الأكبر: الشرك، وهو أعظمها، وهو الذي قال الله فيه: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] يعني: بشركٍ، وقال تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]، هذا الظلم يُحبط الأعمال، ومَن مات عليه فله النار خالدًا فيها أبدًا -نسأل الله العافية.
الظلم الثاني: فيما يتعلَّق بمظالم العباد، وهذا لا يترك الله منه شيئًا، بل يقتصُّ لعباده من خصومهم، ظلم في أنفسهم، وأموالهم، وأعراضهم، فهذا ظلم يُجازي به العباد، إلا أن يسمحوا، أو يُعطيهم حقوقهم قبل الموت؛ وإلا لا بدّ من القصاص في هذا الظلم، فلا بد من إعطائهم حقوقهم.
الثالث: ظلم العباد أنفسهم بالمعاصي، وهذا أسهلها، يُمحى بالتوبة، إن تاب محاه الله، بالمصائب، بالحسنات الماحية، هذا له أسباب كثيرة، أعظمها التوبة، إذا تاب إلى الله وندم عفا الله عنه، ومثل الحسنات، تُمحى كثيرٌ من السيئات بالحسنات العظيمة والأعمال الصالحة، وهكذا المصائب التي تُصيب العبدَ من الأمراض وغيرها، يُكفَّر بها بعض خطاياه، وهكذا استغفار المؤمنين له، ودعاؤهم له، وهكذا الصَّدقات والأعمال الصَّالحات، كلها من أسباب التكفير: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].
نسأل الله للجميع التوفيق.
الأسئلة:
س: هل يُعد من الشرك أنَّ أكثر الناس اليوم يخافون من تعدِّي حدود البشر، ولا يخافون من تعدي حدود الله ؟
ج: الخوف ثلاثة أقسام:
خوف السر: هذا شرك أكبر، أمَّا خوف المخلوق فيما يقدر عليه، وخوف السلطان، وخوف الظالم، وخوف اللصوص؛ هذا لا حرج فيه، يتخذ له الأسباب، مثلما قال الله عن موسى: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:21]، خاف من فرعون، من الظلمة، فإذا خاف الظالم واتَّقى شرَّه بالبعد عن محلِّه أو بالاعتذار إليه، وخاف السُّرَّاق فجعل الحرس وأغلق الباب ونحو ذلك؛ كل هذا لا بأس به.
الخوف الثالث: الخوف الطبيعي، الخوف من البرد، فيتخذ لباسًا جيدًا، الخوف من الحر، فيتخذ مُبَرِّدات، الخوف من العقرب والحيات ونحوها، فيتخذ الأسباب الواقية منها، فهذا لا حرج فيه، ولا بأس به.
س: بعضهم يخاف من انتهاك حدود البشر، ولا يخاف من انتهاك حدود الله؟
ج: المقصود: إذا كان يخاف المخلوق خوفًا طبيعيًّا له أسباب فلا يكون من الشرك، أما الخوف الذي يعتقد في السر أنه يعلم أموره، أو يعلم الغيب، أو أنه ينفع ويضر بقدرته، أو ما أشبه ذلك فهذا هو الشرك، أمَّا خوفٌ له أسباب: إمَّا ظلم الشخص، أو سُرَّاق، أو ما أشبهها فهو مثل قصة موسى: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:21].
س: ترك الصلاة والاستهزاء بها من أي الدواوين؟
ج: ترك الصلاة من الكفر الأكبر، والاستهزاء بها ظلم أكبر.
س: الغيبة هل كفَّارتها الدعاء؟
ج: الغيبة من ظلم العباد، فإذا سمحوا له وعفوا عنه، أو دعا لهم وذكرهم بالأعمال الطيبة التي يعرفها منهم، وتاب إلى الله وندم، وكفَّر عن ذلك بذكر حسناتهم الطيبة وأعمالهم الطيبة، بدلًا من أعمالهم الخبيثة؛ فيُرجا له أن يعفو الله عنه.
س: المُظْهِر للمعاصي أمام الناس هل له غيبة؟
ج: المجاهر لا غيبةَ له: كلُّ أُمَّتي معافًى إلا المجاهرين، فالذي يشرب الخمر في السوق ليس له غيبة، والذي يحلق لحيته ليس له غيبة في اللحية، وأشباه ذلك -نسأل الله العافية.