الفرق بين القدر والقضاء

وسئل الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن - رحمة الله تعالى عليهم أجمعين -: عن الفرق بين القدر والقضاء؟

فأجاب: القدر في الأصل مصدر قدر، ثم استُعمل في التقدير الذي هو التَّفصيل والتَّبيين، واستُعمل أيضًا بعد الغلبة في تقدير الله للكائنات قبل حدوثها.

وأما القضاء: فقد استُعمل في الحكم الكوني بجريان الأقدار وما كُتب في الكتب الأولى، وقد يُطلق هذا على القدر الذي هو التفصيل والتَّمييز.

ويُطلق القدر أيضًا على القضاء الذي هو الحكم الكوني بوقوع المُقدرات.

ويُطلق القضاء على الحكم الديني الشرعي، قال الله تعالى: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ [النساء:65].

ويُطلق القضاء على الفراغ والتمام، كقوله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ [الجمعة:10]، ويُطلق على نفس الفعل، قال تعالى: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [طه:72].

ويُطلق على الإعلام والتقدم بالخبر، قال تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [الإسراء:4].

ويُطلق على الموت، ومنه قولهم: قضى فلان، أي: مات، قال تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77].

ويُطلق على وجود العذاب، قال تعالى: وَقُضِيَ الأَمْرُ [البقرة:210].

ويُطلق على التَّمكن من الشيء وتمامه، كقوله: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه:114].

ويُطلق على الفصل والحكم، كقوله: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزمر:69].

ويُطلق على الخلق، كقوله تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [فصلت:12].

ويُطلق على الحتم، كقوله تعالى: وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم:21].

ويُطلق على الأمر الديني، كقوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23].

ويُطلق على بلوغ الحاجة، ومنه: قضيتُ وطري.

ويُطلق على إلزام الخصمين بالحكم، ويُطلق بمعنى الأداء، كقوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200].

والقضاء في الكل مصدر، واقتضى الأمر الوجوب: دلَّ عليه، والاقتضاء هو: العلم بكيفية نظم الصيغة، وقولهم: لا أقضي منه العجب، قال الأصمعي: يبقى ولا ينقضي.

الشيخ: المقصود أنَّ القضاء كلمة مُشتركة؛ تُطلق على القدر وعلى الأشياء التي ذكرها المؤلفُ، يقال: قدر الله هذه الأشياء، وقضى الله هذه الأشياء، يعني: قدرها، معناها، فالقضاء والقدر مُترادفان، بمعنى القدر، والقضاء أوسع؛ يُطلق على معانٍ كثيرةٍ.

وسُئل أيضًا رحمه الله عن قوله: أسألك بمعقد العزّ من عرشك، ما معناه؟

فأجاب: لا يخفى أنَّ هذا ليس من الأدعية المشروعة؛ ولذلك اختلف الناسُ فيه: فكره أبو حنيفة المسألة بمعقد العزّ، وأجازها صاحبُه أبو يوسف؛ لأنه قد يُراد بهذه الكلمة المحلّ، أي: محل المعقد وزمانه، كمذهب يُطلق على محلّ الذهاب وزمانه، وربما أُريد بها المفعول، كمركوب، ويكون هنا اسم مصدر، من: عقد يعقد عقدًا، والاسم: معقد؛ ويكون صفة ذاتٍ؛ ولهذا قال أبو يوسف: معقد العزّ هو الله، وأما أبو حنيفة فنظر إلى اللفظ، محتمل لمعانٍ متعددة، فلذلك كره المسألةَ به، وبهذا يتبين المعنى.

الشيخ: وهذا هو الصواب، مثلما قال أبو حنيفة، قد يقول: اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، أما الكلمات المشتبهة فلا حاجة إلى السؤال بها: اللهم إني أسألك بمعقد العز، ما هو معنى واضح، فالسؤال بغيره أولى: اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى، اللهم إني أسألك بصفاتك، اللهم إني أسألك بأنك المالك لكل شيءٍ، بأنك الخلَّاق، بأنك ربي لا إله إلا أنت. يسأله بصفاته - جلَّ وعلا.

وهكذا التوسل بالأعمال والإيمان: اللهم إني أسألك بإيماني بك، ومحبَّتي لك. لا بأس كما سأله .....

وسئل - رحمه الله تعالى -: عن قوله ﷺ في الدعاء المشهور: إلى مَن تكلني؟ إلى بعيدٍ يتجهَّمني.

فأجاب: اعلم أنَّ التَّجهم: الغلظة والعبوس والاستقبال بالوجه الكريه؛ قال بعضُ علماء اللُّغة: الجهم الغليظ المُجتمع، وجهم ككرم، جهامة وجهومة، استقبله بوجهٍ كريهٍ، كتجهمه، والجهمة: آخر الليل، أو بقية سوادٍ من آخره، وأجهم: دخل فيه. انتهى. وبه يظهر أنَّ التَّجهم يقع على الاستقبال بوجهٍ مظلمٍ عبوسٍ. والله أعلم.

وقال الشيخ إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن - رحمهم الله تعالى.

الشيخ: إسحاق هو أخو عبداللطيف، عبداللطيف وإسحاق أخوان، أبناء الشيخ عبدالرحمن بن حسن - رحمة الله على الجميع.

بسم الله الرحمن الرحيم،

الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المُهتدون، وبعدله ضلَّ الضَّالون: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، أحمده سبحانه حمد عبدٍ نزَّه ربَّه عما يقول الظَّالمون.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسبحان الله ربّ العرش عما يصفون.

وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، الصادق المأمون صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين هم بهديه مُتمسكون، وسلم تسليمًا كثيرًا.

الشيخ: وكانت وفاته رحمه الله في رجب سنة سبعة عشر من القرن الرابع عشر، إسحاق بن عبدالرحمن بن الحسن بن محمد بن عبدالوهاب - رحمهم الله، توفي في رجب سنة 1317هـ.

أما بعد: فإنه ابتُلي بعضُ مَن استحوذ عليه الشيطان بعداوة شيخ الإسلام الشيخ: محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله تعالى، ومسبَّته، وتحذير الناس عنه وعن مُصنَّفاته؛ لأجل ما قام بقلوبهم من الغلو في أهل القبور، وما نشئوا عليه من البدع التي امتلأت بها الصدور، فأردتُ أن أذكر طرفًا من أخباره وأحواله؛ ليعلم الناظرُ فيه حقيقةَ أمره، فلا يروج عليه الباطلُ، ولا يغترّ بحائدٍ عن الحقِّ مائل، مُستنده ما ينقله أعداؤه الذين اشتهرت عداوتهم له في وقته، وبالغوا في مسبَّته والتَّأليب عليه وتهمته، وكثيرًا ما يضعون من مقداره، ويغيضون ما رفع الله من مناره؛ مُنابذةً للحق الأبلج، وزيغًا عن سواء المنهج.

والذي يقضي به العجب قلَّة إنصافهم، وفرط جورهم واعتسافهم؛ وذلك أنَّهم لا يجدون زلَّة من المُنتسبين إليه ولا عثرةً إلا نسبوها إليه، وجعلوا عارها راجعًا عليه، وهذا من تمام كرامته، وعظم قدره وإمامته، وقد عُرف من جهالهم، واشتُهر من أعمالهم أنه ما دعا إلى الله أحد، وأمر بمعروفٍ، ونهى عن منكرٍ في أي قطرٍ من الأقطار إلا سمّوه: وهَّابيًّا، وكتبوا فيه الرسائل إلى البلدان بكل قول هائل يحتوي على الزور والبُهتان.

ومَن أراد الإنصاف، وخشي مولاه وخاف، نظر في مصنفات هذا الشيخ التي هي الآن موجودة عند أتباعه؛ فإنها أشهر من نارٍ على علم، وأبين من نبراسٍ على ظلم، وسأذكر لك بعض ما وقفتُ عليه من كلامه، خوفًا أن تخوض من مسبَّته في مهامه، فأقول:

قد عرف واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومُراسلاته ومُصنفاته المسموعة المقروءة عليه، وما ثبت بخطه، وعُرف واشتهر من أمره ودعوته، وما عليه الفضلاء النُّبلاء من أصحابه وتلامذته: أنه على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الدين؛ أهل الفقه والفتوى، في باب معرفة الله، وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحَّت بها الأخبار النبوية، وتلقاها أصحابُ رسول الله ﷺ بالقبول والتَّسليم، يُثبتونها ويُؤمنون بها، ويُمرونها كما جاءت، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ.

وقد درج على هذا من بعدهم من التابعين من أهل العلم والإيمان من سلف الأمة: كسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبدالله، وسليمان بن يسار، وكمجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، وأمثالهم: كعلي بن الحسين، وعمر بن عبدالعزيز، ومحمد بن مسلم الزهري، ومالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وكحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض، وابن المبارك، وأبي حنيفة النعمان بن ثابت، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والبخاري، ومسلم، ونظرائهم من أهل الفقه والأثر؛ لم يُخالف هذا الشيخ ما قالوه، ولم يخرج عما دعوا إليه واعتقدوه.

وأما توحيد العبادة والإلهية فقد حقَّقه غاية التَّحقيق، ووضَّح فيه المنهج والطريق، وقال: إن حقيقة ما عليه أهل الزمان، وما جعلوه هو غاية الإسلام والإيمان، من طلب الحوائج من الأموات، وسؤالهم في المهمات، وحجّ قبورهم للعكوف عندها والصَّلوات، هو بعينه فعل الجاهلية الأولى، من دعاء اللات والعزى ومناة؛ لأن اللات - كما ورد في الأحاديث - رجل يلت السويق للحاج، فمات، فعكفوا على قبره يرجون شفاعته في مُجاوريه.

الشيخ: وإنما عاداه أناسٌ عاشوا على الشرك، واستمروا على الشرك، فعادوا كلَّ مَن دعا إلى التوحيد، أو جُهَّال صدَّقوا مَن نشأ على الشرك، وصدَّقوا مَن دعا إلى الشرك ومَن تكلم في دُعاة التوحيد، فالذين يتكلمون في دعاة التوحيد ما بين مشركٍ وما بين مُقلدٍ للمشرك، أما أهل البصائر فهم يعرفون أهل الحقِّ بأدلته، كما عرفوا السلف الصالح عرفوا أيضًا مَن دعا إلى الحقِّ، ولا شك أن الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - ممن دعا إلى التوحيد، ودعا إلى العقيدة السلفية، وكتبه واضحة في ذلك، ولكن أهل الشرك في ضلالٍ وعمى، وهكذا مَن قلَّدهم وصدَّقهم لجهله سبَّ أهل التوحيد، وتنقص أهل التوحيد من أجل جهله أو شركه، نسأل الله العافية، وليس هذا مع الشيخ محمد فقط، بل مع غيره: مع ابن القيم، ومع شيخ الإسلام ابن تيمية، ومع ابن كثير، ومع مَن قبلهم ومَن بعدهم من السلف، عاداهم أهلُ الشرك والبدع لجهلهم وضلالهم، أو تقليدهم مَن ضلَّ في ذلك، نسأل الله العافية.

فالواجب على المؤمن هو النظر في الدليل، والأخذ بالدليل، وعدم تقليد الناس الذين قد يكونون من الضَّالين، وقد يكونون ممن قلَّد الضَّالين ولم يعرف ضلالهم، نسأل الله العافية.

فمات، فعكفوا على قبره يرجون شفاعته في مُجاوريه، والتَّقرب به إلى الله في زائريه، لم يقولوا: إنه يُدبر الأمر ويرزق، ولا أنه يُحيي ويميت ويخلق، كما نطق بذلك الكتابُ، فكان مما لا شكَّ فيه ولا ارتياب، قال الله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [يونس:31].

قال العماد ابن كثير - رحمه الله -: أي: أفلا تتقون الشرك في العبادة؛ لأنهم لا يطلبون إلا الشفاعة والقرب، كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].

قال الشيخ - رحمه الله -: يُوضِّح ذلك أنَّ أصل الإسلام وقاعدته: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي أصل الإيمان بالله وحده، وهي أفضل شعب الإيمان، وهذا الأصل لا بدَّ فيه من العلم والعمل والإقرار، بإجماع المسلمين؛ ومدلوله: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من عبادة ما سواه، كائنًا مَن كان؛ وهذا هو الحكمة التي خُلقت لها الجنّ والإنس، وأُرسلت لها الرسل، وأُنزلت بها الكتب، وهي تضمن كمال الذل والحب، وتتضمن كمال الطاعة والتَّعظيم؛ وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينًا سواه، لا من الأولين، ولا من الآخرين.

الشيخ: وهي العبادة التي خُلق لها الناس كما بيَّن المؤلف: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وهي التي أمر بها: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، وبعث الله بها الرسل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، هي توحيد الله والإخلاص له، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، هذه هي العبادة التي خُلق الناس لها؛ توحيد الله وطاعته والإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم، والإيمان بكلِّ ما أخبر الله به ورسوله، مع الاستقامة على أداء فرائض الله، وترك محارم الله، هذه العبادة التي خُلق الناس لها هي دين الإسلام، هي الهدى والعلم، هي البر والتَّقوى.

قال - رحمه الله -: وقد جمع ذلك في سُورتي الإخلاص، أي: العلم، والعمل، والإقرار. وقد اكتفى بعضُ أهل زماننا بالإقرار وحده، وجعلوه غاية التوحيد، وصرفوا العبادة التي هي مدلول لا إله إلا الله للمقبورين، وجعلوها من باب التَّعظيم للأموات، وأن تاركها قد هضمهم حقَّهم، وأبغضهم وعقَّهم؛ ولم يعرفوا أنَّ دين الإسلام هو الاستسلام لله وحده، والخضوع له وحده، وأن لا يُعبد بجميع أنواع العبادة سواه.

وقد دلَّ القرآنُ على أنَّ مَن استسلم لله ولغيره كان مشركًا؛ قال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:54]، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وقال تعالى عن الخليل: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ۝ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ۝ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:26- 28]، وقال: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4]، وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]. وذكر عن رسله نوح، وهود، وشعيب، وغيرهم أنهم قالوا لقومهم: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59].

قال - رحمه الله -: والشرك المُراد به في هذه الآيات ونحوها يدخل فيه شرك عباد القبور، وعباد الأنبياء والملائكة والصَّالحين، فإنَّ هذا هو شرك جاهلية العرب الذين بُعث فيهم عبدالله ورسوله محمد ﷺ؛ فإنَّهم كانوا يدعونها، ويلتجئون إليها، ويسألونها على وجه التَّوسل بجاهها وشفاعتها؛ لتُقربهم إلى الله، كما نبَّه تعالى على ذلك في آيتي يونس والزمر.

الشيخ: في يونس: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، ما قالوا أنهم يخلقون ويرزقون، وفي الزمر يقول سبحانه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] يعني يقولون: ما نعبدهم لأنهم يخلقون أو يضرون أو ينفعون، لا، نعبدهم ليُقربونا إلى الله زُلفى؛ ولهذا استغاثوا بهم، ونذروا لهم، وذبحوا لهم، وقالوا: إنهم وسائط.

قال - رحمه الله -: ومعلوم أنَّ المشركين لم يزعموا أنَّ الأنبياء والأولياء والصَّالحين شاركوا الله في خلق السَّماوات والأرض، واستقلوا بشيءٍ من التدبير والتأثير والإيجاد، ولو في خلق ذرةٍ من الذَّرات، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38]، فهم مُعترفون بهذا، مُقرون به، لا يُنازعون فيه؛ ولذلك حسن موقع الاستفهام، وقامت الحُجَّة بما أقروا به من هذه الجمل، وبطلت عبادة مَن لا يكشف الضرَّ، ولا يُمسك الرحمة، ولا يخفى ما في التَّنكير من العموم والشُّمول المُتناول لأقل شيءٍ وأدناه من ضرٍّ أو رحمةٍ؛ قال تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106]، ذكر فيه السلف - كابن عباسٍ وغيره - أنَّ إيمانهم هنا بما أقروا به من ربوبيته وملكه، وفسَّر شركهم المذكور بعبادة غير الله.