الحج

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فقد سبق لنا أيها المستمعون درس معكم فيما يتعلق بالعمرة، وفيما يتعلق أيضا بالإحرام بالحج، سبق أن السنة لمن كان حلالا في مكة أو جاء قاصدا الحج فقط أنه يحرم بالحج فقط، يقول: لبيك حجا بعد الاغتسال والطيب، فإن الغسل والطيب مستحبان مشروعان إذا تيسر ذلك، وإن كان في المحل -في مكة- سواء كان آفاقيا أو من أهلها فإنه يستحب له الإحرام يوم الثامن من ذي الحجة كما أحرم الصحابة بأمر النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك بعد الغسل والطيب كما يفعل المحرم من الميقات، وهذا كله إذا تيسر، فلو أحرم ولم يغتسل ولم يتطيب فلا حرج عليه.

ثم يتوجه من مكانه سواء كان من الحرم أو من غير الحرم من مكة، أو من غيرها يتوجه إلى منى ملبيا يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وليس عليه وداع، إذا أراد الخروج من مكة لمنى ما في وداع، بل يمشي من منزله إلى منى، فإذا أتى منى صلى بها الظهر يوم الثامن ركعتين، والعصر ركعتين، والمغرب ثلاثا، والعشاء ركعتين، والفجر بسنتها.

ثم بعد طلوع الشمس يشرع له التوجه إلى عرفات كما توجه النبي ﷺ والمسلمون إلى عرفات، ويلبي في طريقه، وإن كبر وسبح وهلل كله طيب، لأن بعض الصحابة كانوا يلبون في طريقهم إلى عرفات، وبعضهم يكبر ويهلل ولا ينكر أحد على أحد، فدل ذلك على التوسعة، وأن من لبى فلا بأس وهو أفضل، ومن كبر وهلل فلا بأس.

وينبغي للمؤمن في هذه المواضع أن يعتني بالتوبة إلى الله، والاستغفار من الذنوب، وأن يصدق في ذلك، ويتحرى الندم على ما مضى من ذنوبه، والعزم ألا يعود فيها، مع الإقلاع منها غاية الإقلاع، فإن هذه المشاعر ينبغي فيها الخضوع لله ، والتوبة إليه والاستكثار من أنواع الطاعات والقربات، لأنها مشاعر عظيمة ومفضلة.

فإذا أتى عرفات نزل بها وصلى بها الظهر والعصر قصرا وجمعا بأذان واحد وإقامة بعد الزوال مبكرا، هذا هو الأفضل، وإن صلى مع الإمام في مسجد نمرة فهو أفضل إذا تيسر له ذلك، فإن لم يتيسر صلى بجماعته، كل إنسان يصلي بجماعته وأصحابه، يصلي بهم الظهر ركعتين والعصر ركعتين جمعا وقصرا، بأذان واحد وإقامتين كما فعله النبي ﷺ، ثم يتوجه إلى القبلة ذاكرا داعيا، يسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة في مكانه من عرفات، لأنها كلها موقف، النبي ﷺ لما وقف في أسفل الجبل عند الصخرات قال: وقفت ها هنا، وعرفة كلها موقف هذا من تيسير الله جل وعلا.

فأنت أيها الحاج تقف في أي مكان من عرفة، في غربها، أو شرقها، أو جنوبها، أو شمالها، حول الجبل أو بعيدا عنه، لا تشق على نفسك، في أي مكان وقفت فقد أصبت السنة، إذا كنت في عرفات وعلاماتها معروفة، لها علامات وأمارات معروفة تبين عرفة، فاسأل عنها إذا لم تعرف، وتبصر في ذلك، وأقم في عرفات حتى تغيب الشمس، أقم فيها حتى تغيب الشمس يوم التاسع وأنت مشغول بذكر الله وطاعة الله، مشغول بالدعاء. 

ومن أفضل الذكر والدعاء أن تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن.

وهذا اليوم يوم عظيم، يوم عرفة يوم عظيم لم ير الشيطان في يوم هو فيه أدحر ولا أحقر ولا أذل من هذا اليوم، إلا ما كان منه يوم بدر لما رأى من ظهور الدين ونصر الدين، فهذا اليوم يوم ينبغي فيه الإكثار من ذكر الله، والإكثار من الاستغفار، والإكثار من الدعاء، وقد جاء عنه ﷺ أنه قال: ما من يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة، وإن الله ليدنو فيباهي بأهله الملائكة فهو يوم عظيم ينبغي لك فيه يا عبدالله الخشوع والإقبال على الله، والاستكثار من الدعاء والذكر في هذا الموقف العظيم إلى أن تغيب الشمس. 

ومن الدعاء الحسن أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم إني أسألك رضاك والجنة، وأعوذ بك من سخطك والنار، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني، وما أشبه من هذه الدعوات، اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر، اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إني أسألك الهدى والسداد، إلى غير هذا من الدعوات الطيبة، تسأل ربك خير الدنيا والآخرة مع خضوع.

وإذا حصل لك البكاء من خشية الله فاحرص على ذلك، اذكر الموقف بين يدي الله، واذكر الجنة والنار، واذكر الخطر العظيم في هذه الدنيا لعلك تبكي من خشية الله، لعل عينيك تدمع، واحرص على رفع يديك في الدعاء، وتقرب إلى الله جل وعلا بالذل والانكسار بين يديه ، فهو يوم عظيم، يوم تعتق فيه الرقاب من النار، تجاب فيه الدعوات، تقال فيه العثرات، تغفر فيه السيئات، فأكثر من الذكر والدعاء لعلك تجاب، ولعلك تعتق من النار.

فإذا غابت الشمس فانصرف ملبيا إلى مزدلفة تقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، ولا تخرج من عرفات أبدا حتى تغيب الشمس، هكذا فعل النبي ﷺ، ومن تأخر عن عرفات وأتاها في الليل كفاه ذلك، من تأخر عن عرفات أو شغل عن ذلك فأتاها بالليل وذكر الله فيها ثم انصرف إلى مزدلفة كفاه ذلك والحمد لله، لكن من وقف نهارا فليستمر كما وقف النبي ﷺ حتى تغيب الشمس.

ثم إذا أتيت مزدلفة تبدأ بالمغرب والعشاء تصليهما بأذان واحد وإقامتين، المغرب ثلاثًا والعشاء ثنتين، ركعتين بأذان واحد وإقامتين كما فعل النبي ﷺ، ثم تبيت بها إلى الفجر وتصلي بها الفجر ركعتين مع سنتها ركعتين كما فعله النبي عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك تستقبل القبلة في مزدلفة وتذكر الله وتدعو رافعا يديك حتى تسفر كما فعله النبي ﷺ، تكثر من الدعاء والذكر حتى تسفر، فإذا أسفرت جدا انصرفت إلى منى قبل طلوع الشمس، لأن الرسول ﷺ انصرف من منى إلى مزدلفة قبل طلوع الشمس بعدما أسفر، هكذا السنة.

ويجوز للضعفاء أن ينصرفوا من مزدلفات في آخر الليل، الرسول ﷺ رخص للضعفة: كالنساء، وكبار السن، والصبيان، ومن معهم ممن يحتاجون إليه، ومن ركب معهم ينصرفون إلى منى في أثناء الليل بعد نصف الليل، لأن الرسول رخص لهم في ذلك عليه الصلاة والسلام، ومن صبر وبقي حتى يصلي الفجر فهو أفضل، ولكن لا بأس أن ينصرف الضعفاء من النساء والصبيان والكبار ومن معهم ممن هو معهم في السيارات، لا حرج أن ينصرفوا إلى منى في آخر الليل، والأفضل بعد غروب القمر، هذا هو الأفضل، وبكل حال إذا انصرف في آخر الليل فلا حرج عليه إن شاء الله، كما رخص النبي ﷺ للضعفة في ذلك، ولو انصرف غير الضعفة من الكبار أجزأه ذلك، لكنه ترك الأفضل وترك السنة، السنة للأقوياء أن يصبروا حتى يصلوا الفجر، وحتى يقفوا في المشعر بعض الشيء، يدعون الله ويذكرونه حتى يسفروا، هذه السنة، لكن لو أن بعض الأقوياء انصرف مع الضعفاء في أثناء الليل يعني في آخر الليل فلا حرج في ذلك إن شاء الله.

ثم إذا أتى الضعفة منى فلا بأس أن يرموا الجمرة في آخر الليل، جمرة العقبة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ولا بأس أن يتوجهوا إلى مكة للطواف، ولاسيما إذا كان معهم نساء لئلا يحدث بهم حادث يمنعهم من الطواف، فإذا توجهوا إلى مكة في آخر الليل وطافوا بالكعبة وسعوا سعي الحج فلا حرج في ذلك، والأفضل البداءة بالرمي في آخر الليل، يبدؤون بالرمي سبع حصيات جمرة العقبة يكبر مع كل حصاة، ثم يتوجهوا إلى مكة إذا أرادوا ذلك، ومن بقي في منى حتى يذبح هديه ويحلق رأسه أو يقصره ثم يتوجه إلى مكة في النهار فهذا أفضل إذا تيسر ذلك، ومن توجه في آخر الليل بعد رمي الجمرة من الضعفة ونحوهم إلى مكة للطواف والسعي فلا حرج في ذلك.

وإذا رمى وحلق أو قصر تحلل التحلل الأول، وهكذا لو رمى أو طاف تحلل التحلل الأول، فيلبس المخيط إذا كان رجلا ويغطي رأسه ويتطيب، والمرأة كذلك إذا رمت الجمرة يوم العيد أو في آخر الليل وطافت أو قصرت من رأسها هذا التحلل الأول، لها أن تتطيب، لها أن تقلم أظفارها، لكن لا يحل لها الزوج، لا يحل النكاح حتى يكمل الأمور الثلاثة: الرمي والحلق أو التقصير والطواف والسعي لمن عليه سعي، فإذا كملها هؤلاء حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام، إذا رمى الجمرة يوم العيد وحلق أو قصر وطاف طواف الحج وسعى إن كان عليه سعي بهذا يحل التحلل كاملا من النساء وغير النساء، أما إذا بقى عليه واحد من هذه الثلاثة بأن رمى وحلق، أو رمى وطاف، أو طاف وحلق، فهذا يتحلل التحلل الأول، يلبس المخيط ويتطيب ويقلم أظفاره لا بأس، لكن يبقى عليه تحريم النساء كما جاءت به السنة، وإذا رمى الجمرة فقط وتحلل أجزأ ذلك بالتحلل الأول، ولكن صبره حتى يحلق أو يقصر أو يطوف يكون أفضل وأكمل وأحوط خروجا من خلاف العلماء رحمة الله عليهم.

ثم بعد ذلك يبقى عليه رمي الجمار في اليوم الحادي عشر والثاني عشر لمن تعجل، والثالث عشر لمن لم يتعجل، يرمي الجمار الثلاث كل واحدة بسبع حصيات بعد الزوال في اليوم الحادي عشر والثاني عشر، ويكبر مع كل حصاة كما فعل النبي ﷺ، ويستحب له أن يقف بعد رمي الجمرة الأولى عندها، بعد الرمي يدعو ربه ويرفع يديه جاعلا لها عن يساره، يقف طويلا مستقبل القبلة رافعا يديه يدعو ويسأل ربه كل خير. 

وهكذا بعد الثانية يجعلها عن يمينه ويقف ويدعو ويرفع يديه طويلا كما فعله النبي ﷺ، أما الجمرة الثالثة فيرميها ولا يقف عندها، بل يرميها وينصرف في اليوم الحادي عشر والثاني عشر، ومن لم يتعجل وأحب أن يقيم رماها أيضا في اليوم الثالث عشر، رمى الجمرات الثلاث مثلما رماها في الحادي عشر والثاني عشر، ويستحب له الوقوف عند الأولى والثانية للدعاء والضراعة مع رفع اليدين واستقبال القبلة، هذا لمن لم يتعجل. 

أما من تعجل في اليوم الثاني عشر فلا بأس بعد الجمرات يتوجه إلى مكة ويطوف طواف الوداع إذا أراد الخروج والسفر، وإلا أقام بمكة حتى يعزم على السفر، فإذا عزم على السفر طاف للوداع سبعة أشواط ليس فيها سعي، هذا طواف الوداع.

أما طواف الحج فالأفضل أن يكون يوم العيد، هذا هو الأفضل، أو في آخر الليل لمن انصرف من مزدلفة في آخر الليل، هذا هو المشروع، ويبيت في منى أيضًا ليلة الحادي عشر والثاني عشر، يجب عليه المبيت في منى في هاتين الليلتين، ومن لم يتعجل بات الليلة الثالثة أيضا كما فعله النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا رمى الجمار يوم الثاني عشر للمتعجل أو الثالث العشر لمن لم يتعجل بعد ذلك انتهى حجه إذا كان قد طاف طواف الإفاضة وسعى، انتهى حجه والحمد لله، ما بقي عليه إلا طواف الوداع، يطوف الوداع عند خروجه، يعني عند عزمه على السفر يطوف سبعة أشواط بالبيت، ثم يسافر، والحائض والنفساء ليس عليهما وداع.

ونسأل الله للجميع التوفيق وصلاح النية والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه.