01 من بداية كتاب نزهة النظر

الحمدُ للهِ الذي لَمْ يَزَلْ عَليمًا قديرًا حيًّا قيُّومًا سَميعًا بَصيرًا، وأَشهدُ أَنْ لا إِله إِلا اللهُ، وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأُكبِّرُه تَكبيرًا.

وصلّى اللهُ عَلى سَيدِنا مُحَمَّدٍ الذي أَرْسَلَهُ إِلى النَّاسِ كافةً بَشيرًا، ونَذيرًا، وعلى آلِ محمدٍ، وصَحْبِهِ، وسَلَّمَ تَسْليمًا كثيرًا.

أَمَّا بَعْدُ: فإِنَّ التَّصانيفَ في اصْطِلاحِ أهل الحديث قَدْ كَثُرَتْ للأئمةِ في القديمِ والحَديثِ؛ فَمِن أَوَّلِ مَن صَنَّفَ في ذلك القاضي أبو محمَّدٍ الرَّامَهُرْمُزِيّ في كتابه المحدث الفاصل، لكنَّه لم يَسْتَوْعِبْ.

والحاكِمُ أبو عبداللهِ النَّيْسَابوريُّ، لكنَّه لم يُهَذِّبْ، ولم يُرَتِّبْ.

وتلاه أَبو نُعَيْم الأصبهانِيُّ، فعَمِل على كتابهِ مستخرجا، وأَبقى أَشياءَ للمُتَعَقِّبِ.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله، وأصحابه.

أما بعد:

فالمؤلف - رحمه الله - الحافظ ابن حجر جمع هذه الرسالة (النخبة) في المصطلح بحاجة الطلب إلى ذلك، ولطلبهم ذلك منه؛ فلهذا احتسب الأجر، وألف هذا المؤلف المختصر، والمؤلفات مثل ما قال - رحمه الله - قد كثرت في هذا الباب، وانتشرت، ومن أول من صنف في ذلك أبو محمد الرامهرمزي لكنه لم يستوعب، ثم الحاكم - رحمه الله - ولكنه لم يرتب ولم يهذب، ثم أبو نعيم.

المقصود أن التصانيف في هذا كثيرة جدًا، وابن الصلاح كذلك صنف في هذا، والعراقي، والسيوطي، وجماعة، لكن هذا المختصر مختصر جيد من النخبة متنها وشرحها، كتاب جيد جمع المهمات في هذا الباب؛ فلهذا رأينا أن تكون القراءة فيه أنشط وأخصر.

ثمَّ جاءَ بعدَهم الخطيبُ أبو بكرٍ البَغْدَاديُّ، فصنَّفَ في قوانينِ الروايةِ كتابًا سمَّاه «الكفايةَ»، وفي آدابِها كتابًا سمَّاه «الجامعَ لآدابِ الشَّيْخِ والسَّامِع».

وقلَّ فنٌّ مِن فُنونِ الحَديثِ إِلاَّ وقد صَنَّفَ فيهِ كتابًا مُفْرَدًا، فكانَ كما قال الحَافظُ أبو بكرِ بنُ نُقْطَةَ: كلُّ مَن أَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ المحَدِّثينَ بعدَ الخَطيبِ عِيالٌ على كُتُبِهِ.

الشيخ: وما ذلك إلا أنه اعتنى بالمقام - رحمه الله - فاجتهد في التأليف في مصطلح الحديث، فقل فن جمع فيه وألف فيه - رحمه الله - ولهذا صار من بعده كالعيال عليه ينتفعون بكتبه، ويستفيدون منه.

ثمَّ جاءَ بعدَهُم بعضُ مَن تَأَخَّرَ عنِ الخطيبِ فأَخَذَ مِن هذا العلمِ بنَصيبٍ:

فجمَع القاضي عِياضٌ كتابًا لطيفًا سمَّاهُ «الإِلْماع».

وأبو حفْصٍ المَيَّانِجيُّ جُزءًا سمَّاه «ما لا يَسَعُ المُحَدِّثَ جَهْلُه».

وأَمثالُ ذَلك مِنَ التَّصانيفِ الَّتي اشتُهِرَتْ، وبُسِطَتْ ليتوفَّرَ عِلْمُها، واخْتُصِرَتْ ليتيسَّرَ فهْمُها إِلى أَنْ جاءَ الحافِظُ الفقيهُ تقيُّ الدِّينِ أَبو عَمْرٍو عُثْمانُ بنُ الصَّلاحِ عبدالرحمنِ الشَّهْرَزُوريُّ - نزيلُ دمشقَ - فجَمَعَ - لما ولِيَ تدريسَ الحديثِ بالمدرَسَةِ الأشرفيَّةِ - كتابَه المَشهورَ، فهَذَّبَ فنونَهُ، وأَملاهُ شيئًا بعدَ شيءٍ، فلهذا لمْ يَحْصُلْ ترتيبُهُ على الوضعِ المُتناسِبِ، واعتنى بتصانيفِ الخَطيبِ المُتفرِّقةِ، (فجمَعَ شَتاتَ) مقاصِدِها، وضمَّ إِليها مِن غَيْرِها نُخَبَ فوائِدِها، فاجتَمَعَ في كتابِه ما تفرَّقَ في غيرهِ، فلهذا عَكَفَ النَّاسُ عليهِ، وساروا بسَيْرِهِ، فلا يُحْصى كم ناظِمٍ له ومُختَصِر، ومستَدْرِكٍ عليهِ ومُقْتَصِر، ومُعارِضٍ لهُ ومُنْتَصِر.

فسأَلَني بَعْضُ الإِخوانِ أَنْ أُلَخِصَ لهُ المُهِمَّ مِنْ ذَلكَ فلخَّصْتُهُ في أوراقٍ لطيفةٍ سمَّيْتُها «نُخْبَةَ الفِكَر في مُصْطَلحِ أَهلِ الأثَر» على ترتيبٍ ابْتَكَرْتُهُ، وسبيلٍ انْتَهَجْتُهُ، مع ما ضمَمْتُه إِليهِ مِن شوارِدِ الفرائِدِ، وزَوائدِ الفوائدِ.

فرَغِبَ إِليَّ جماعةٌ ثانيًا أَنْ أَضعَ عَليها شرحًا يحُلُّ رموزَها، ويفتحُ كنوزَها، ويوضِحُ ما خَفِيَ على المُبْتَدئ من ذلك، فأَجَبْتُه إِلى سُؤالِهِ؛ رجاءَ الاندِراجِ في تلكَ المسالِكِ.

فبالغتُ في شَرْحِها في الإِيضاحِ والتَّوجيهِ، ونبَّهْتُ عَلى خَبايا زواياها؛ لأنَّ صاحِبَ البَيْتِ أَدْرَى بِما فيهِ، وظَهَرَ لي أَنَّ إِيرادَهُ على صُورةِ البَسْطِ أليقُ، ودَمْجَها ضِمْنَ تَوضيحِها أَوْفَقُ، فسلكْتُ هذهِ الطَّريقَةَ القَليلةَ المسالِكِ.

الشيخ: المقصود أنه مثل ما قال - رحمه الله - اعتنى، جمع فوائد الكتب الكثيرة في هذا المختصر، وشرحها شرحًا جيدًا مفيدًا فجزاه الله خيرًا.

 فأقولُ طالِبًا مِن اللهِ التَّوفيقَ فيما هُنالِك:

الخَبَرُ عند علماء هذا الفن مرادف للحديث.

وقيلَ: الحَديثُ: ما جاءَ عَنِ النَّبيِّ ﷺ، والخَبَرُ ما جاءَ عن غيِره، ومِنْ ثم قيلَ لمَن يشتغلُ بالتَّواريخِ وما شاكَلَها: الإخبارِيُّ، ولمن يشتغلُ بالسُّنَّةِ النبويَّةِ: المُحَدِّثَ.

وقيل: بيْنهما عُمومٌ وخُصوصٌ مُطْلقٌ، فكلُّ حَديثٍ خبرٌ من غيرِ عَكْسٍ.

وعبَّرْتُ هنا بالخبَرِ ليكونَ أشملَ.

الشيخ: الأقرب أن الحديث هو المختص بالنبي ﷺ، والخبر أوسع يقال: يطلق على الحديث، ويطلق على الأخبار عن الماضين، وعن غيرهم، فيقال في الخبر يعني عن النبي ﷺ، إذا قيل عن النبي يعني الحديث، وإذا قيل في الخبر عن بني إسرائيل، في الخبر عن صالح، عن هود، عن نوح، عن كذا، فهذا مقيد، فباب الخبر أوسع.

س: نسبة المؤرخين أخباري؟

الشيخ: نعم.

الطالب: الفتح؟

الشيخ: يحتاج إلى الجمع.

وعبَّرْتُ هنا بالخبَرِ ليكونَ أشملَ، فهو باعتبارِ وصولِهِ إِلينا إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ طُرُقٌ؛ أي: أسانيدُ كثيرةٌ؛ لأنَّ طُرُقًا جمعُ طريقٍ، وفعيلٌ في الكثرةِ يُجْمَعُ على فُعُلٍ - بضمَّتينِ - وفي القلَّةِ على أَفْعِلَةٍ.

والمرادُ بالطُّرُقِ الأسانيدُ، والإِسنادُ حكايةُ طريقِ المَتْنِ.

الشيخ: السند الرجال، والإسناد حكاية السند، حدثنا، أو أخبرنا، أو سمعت، يقال له إسناد، فالسند نفسه هو الرجال، وقد يطلق الإسناد على السند، فيقال إسناده جيد، والمراد سنده.

وتلكَ الكثرَةُ أَحدُ شُروطِ التَّواتُرِ إِذا ورَدَتْ بِلاَ حَصْرِ عَددٍ مُعَيَّنٍ، بل تكونُ العادةُ قد أحالتْ تواطؤهُم على الكذِبِ، وكذا وقوعُه منهُم اتِّفاقًا مِن غيرِ قصدٍ.

فلا مَعْنى لِتعْيينِ العَدَدِ على الصَّحيحِ، ومِنْهُم مَنْ عيَّنَهُ في الأربعةِ، وقيلَ: في الخمْسةِ، وقيل: في السَّبعةِ، وقيل: في العشرةِ، وقيلَ: في الاثنَيْ عَشَر، وقيل: في الأربعينَ، وقيلَ: في السَّبعينَ، وقيلَ غيرُ ذلك.

وتَمَسَّكَ كُلُّ قائل بدليل جاءَ فيه ذِكرُ ذلكَ العَدَدِ، فأفادَ العِلْمَ، وليسَ بلازِمٍ أَنْ يَطَّرِدَ في غَيْرِهِ لاحتمالِ الاخْتِصاصِ.

الشيخ: والصواب عدم التقييد بالعدد، لأن العدد يختلف، قد يكون أربعة من الثقات العدول المبرزين يقوم مقام أربعين، أو خمسين من غيرهم.

الحاصل أنه إذا جاء من طرق جيدة تحيل وقوع الكذب من هؤلاء تواطأ، أو صدفة، فهو المتواتر، فقد يكون أربعة، وقد يكون خمسة، وقد يكون عشرة، قد يكون أكثر من ذلك، فكل ما كانت الصفات أجود قل العدد، وكلما كانت صفات الصدق والحذق والتقوى أكثر قل العدد، كان العدد قليل من أربعة فما فوق يكون متصلًا من أوله إلى آخره بهذا العدد، لا ينقص عن العدد الذي تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، أو وقع منهم اتفاقًا، فكلما كانت صفاتهم أكمل في الصدق، والعدالة، والضبط قل العدد.

الطالب: في حاشيةٌ على قول: (وتمسك كل قائل بدليل) في الحاشية قال: قال شيخنا في حواشيه أي: في نظر من عين ذلك العدد، وإن كان الواقع أنه لا دليل على شيء من تلك الأعداد كما أشار إلى ذلك بقوله المتقدم على الصحيح.

الشيخ: نعم.

س: .....؟

الشيخ: هذا اصطلاح للمحدثين، لا مشاحة في الاصطلاح، هذا اصطلاح لهم.

س: .....؟

الشيخ: على كل حال هذا اصطلاح لأهل العلم لا بأس به.

فإذا ورَدَ الخَبَرُ كذلك، وانْضافَ إليهِ أَنْ يستويَ الأمْرُ فيهِ في الكثرةِ المذكورةِ من ابتدائِهِ إلى انتهائهِ - والمرادُ بالاستواءِ أَنْ لا تَنْقُصَ الكَثْرَةُ المَذكورةُ في بعضِ المَواضِعِ لا أَنْ لا تَزيدَ، إذ الزِّيادَةُ هُنا مطلوبةٌ مِن بابِ أَوْلى - وأَنْ يكونَ مُسْتَنَدُ انتهائِهِ الأمرَ المُشاهَدَ، أو المَسموعَ، لا مَا ثَبَتَ بِقَضِيَّةِ العَقْلِ الصِّرْفِ.

فإِذا جَمَعَ هذهِ الشُّروطَ الأربعةَ، وهي:

أولًا: عَدَدٌ كثيرٌ أَحَالَتِ العادةُ تواطُؤهُمْ و توافُقَهُم على الكَذِبِ.

والثاني: رَوَوْا ذلك عن مِثْلِهِم من الابتداء إلى الانتهاءِ.

والثالث: وكان مُسْتَنَدُ انْتِهائِهِمُ الحِسَّ.

والرابع: وانْضافَ إلى ذلك أَنْ يَصْحَبَ خَبَرَهُمْ إِفَادَةُ العِلْمِ لِسامِعِهِ.

فهذا هو المتواتِرُ.

وما تَخَلَّفَتْ إِفَادَةُ العِلْمِ عنهُ كانَ مَشْهورًا فقَط. فكلُّ متواتِرٍ مشهورٌ، من غيرِ عَكْسٍ.

وقد يُقالُ: إِنَّ الشُّروطَ الأربعةَ إِذا حَصَلَتْ اسْتَلْزَمَتْ حُصولَ العِلْمِ، وهُو كذلك في الغالِبِ، لكنْ قد تَتَخَلَّفُ عنِ البَعْضِ لمانعٍ.

وقد وضَحَ بهذا تَعْريفُ المُتواتِرِ.

الشيخ: والمتواتر مثل ما بينه المؤلف، إذا كان في السند عدد كثير من أوله إلى آخره، من أول المحدث إلى آخره، إلى النبي ﷺ، أو إلى غيره من الناس تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، أو وقع منهم اتفاقًا، وأن يكون المستند الحس من المشاهدة، أو السماع كرأيت كذا، وسمعت كذا، فإنه بهذا يفيد العلم، واشتراط بذلك العلم هو بهذا كله يفيد العلم إذا حصل عدد كثير تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، واتفقوا من أوله إلى آخره، وكان المستند على الحس لا قضية العقل؛ فإنه بهذا يكون مفيدًا للعلم، إذا اضطر من أول السامع الذي استمع هذه الطرق وأحصاها، واعتنى بها، يضطره تأمله لها واعتقاده لهذه المعاني أن يستفيد العلم، وأن يجزم بأن هذا صدر ممن تواتر عنه عن النبي ﷺ، أو عن غيره، ضرورة نعم.

وإذا اختل شيء من الشروط صار من باب المشهور، لا من باب المتواتر.

وخِلافُهُ قدْ يَرِدُ بلا حَصْرٍ أَيضًا لكنْ مع فَقْدِ بعضِ الشُّروطِ، أو مَعَ حَصْرٍ بِما فَوْقَ الاثنيْنِ؛ أي: بثلاثةٍ فصاعِدًا ما لمْ يَجْمَعْ شُروطَ المُتواتِرِ، أو بِهما؛ أي: باثْنَيْنِ فقطْ، أو بواحِدٍ فقَطْ.

والمرادُ بقولِنا: «أَنْ يَردَ باثْنَيْنِ»: أنْ لا يَرِدَ بأَقلَّ مِنْهُما، فإِنْ ورَدَ بأَكْثَرَ في بعضِ المَواضِعِ مِن السَّنَدِ الواحِدِ لا يَضُرُّ، إذ الأقلُّ في هذا العِلْمِ يَقْضي على الأكْثَرِ.

الشيخ: إذا كان الإسناد يدور على اثنين، على صحابيين، أو تابعيين، فهذا يقال: عزيز، ولو كان في بعض المواضع يكثرون، لكن إذا كان مداره على اثنين فهو العزيز، وإذا كان مداره على واحد فهو غريب كحديث عمر الأعمال بالنيات، وإذا كان مداره على ثلاثة، أو أربعة صار مشهورًا.

فالأوَّلُ: المُتواتِرُ، وهو المُفيدُ للعِلْمِ اليَقينِيِّ، فأخرَجَ النَّظريَّ على ما يأْتي تقريرُه بِشروطِهِ التي تَقَدَّمَتْ.

واليَقينُ: هو الاعتقادُ الجازِمُ المُطابِقُ، وهذا هو المُعْتَمَدُ: أَنْ الخَبَرَ المُتواتِرَ يُفيدُ العِلْمَ الضَّروريَّ، وهو الذي يَضْطُّر الإِنْسانُ إليهِ بحيثُ لا يُمْكِنُهُ دفْعُهُ.

وقيلَ: لا يُفيدُ العلمَ إِلاَّ نَظَرِيًّا!

وليس بشيءٍ؛ لأنَّ العِلْم بالتَّواتُرِ حاصِلٌ لمن ليس لهُ أهليَّةُ النَّظرِ كالعامِّيِّ، إذ النَّظرُ: ترتيبُ أُمورٍ معلومةٍ أو مَظْنونةٍ يُتَوَصَّلُ بها إلى عُلومٍ، أو ظُنونٍ، وليس في العامِّيِّ أهلِيَّةُ ذلك، فلو كان نَظَرِيًّا؛ لما حَصَل لهُم.

ولاحَ بهذا التَّقريرِ الفرْقُ بين العِلْمِ الضَّرورِيِّ، والعِلْمِ النَّظَرِيِّ، إِذ الضَّرورِيُّ يُفيدُ العِلْمَ بلا اسْتِدلالٍ، والنَّظريُّ يُفيدُهُ لكنْ مع الاستِدْلالِ على الإِفادةِ، وأنَّ الضَّروريَّ يحْصُلُ لكُلِّ سامعٍ، والنَّظَرِيَّ لا يَحْصُلُ إِلاَّ لِمَنْ فيهِ أهليَّةُ النَّظَرِ.

وإِنَّما أَبْهَمْتُ شُروطَ التواترِ في الأَصْلِ؛ لأنَّهُ على هذهِ الكيفيَّةِ ليسَ مِن مباحِثِ عِلْمِ الإِسْنَادِ، إذ عِلْمُ الإِسْنَادِ يُبْحَثُ فيهِ عن صِحَّةِ الحديثِ أو ضَعْفِهِ؛ لِيُعْمَلَ بِهِ أو يُتْرَكَ، مِن حيثُ صفاتُ الرِّجالِ وصِيَغُ الأداءِ، والمُتواتِرُ لا يُبْحَثُ عَنْ رجالِهِ، بل يجبُ العملُ بهِ مِن غيرِ بَحْثٍ.

الشيخ: ومع هذا يختلف؛ لأن أهل النظر يكون التواتر عندهم بأقله، إذا عندهم بصيرة فيكون عندهم التواتر بعدد قليل أربعة، أو خمسة، لما عندهم من العلم من صفات الرجال، وأخلاق الرجال، فلهذا يثبت عندهم التواتر بأقل، بخلاف من ليس عندهم علم بأحوال الرجال فيحتاج إلى كثرة العدد حتى يضطرهم ذلك إلى اليقين.

سؤال: كيف يتقوى طالب العلم في علم الرجال؟

الشيخ: يراجع كلام أهل العلم، ويدرس.

فائدةٌ: ذَكَرَ ابنُ الصَّلاحِ أَنَّ مِثالَ المُتواتِرِ عَلى التَّفسيرِ المُتَقَدِّمِ يَعِزُّ وجودُهُ؛ إِلاَّ أَنْ يُدَّعَى ذلك في حَديثِ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا؛ فلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.

وما ادَّعَاهُ مِن العِزَّةِ مَمْنوعٌ، وكذا مَا ادَّعاهُ غيرُهُ مِن العَدَمِ؛ لأنَّ ذلك نَشَأَ عَنْ قِلَّةِ الاطِّلاعِ على كَثْرَةِ الطُّرُقِ، وأَحْوالِ الرِّجالِ، وصفاتِهِمُ المُقتَضِيَةِ لإِبعادِ العادَةِ أَنْ يَتَواطَؤوا عَلى كَذِبٍ، أو يَحْصُلَ منهُمُ اتِّفاقًا.

ومِن أَحْسَنَ مَا يُقَرَّرُ بِهِ كونُ المُتواتِرِ مَوجودًا، وجودَ كَثْرةٍ في الأَحاديثِ أَنَّ الكُتُبَ المشهورةَ المُتَداوَلَةَ بأَيدي أَهْلِ العِلْمِ شَرْقًا وغَرْبًا المَقْطوعَ عِنْدَهُم بِصِحَّةِ نِسْبَتِها إلى مُصَنِّفيها، إذا اجْتَمَعَتْ على إِخراجِ حَديثٍ، وتعدَّدَتْ طُرُقُه تعدُّدًا تُحيلُ العادةُ تواطُؤهُمْ على الكَذِبِ إِلى آخِرِ الشُّروطِ؛ أَفادَ العِلْمَ اليَقينيَّ بصحَّتِهِ إِلى قائِلِهِ.

ومِثْلُ ذلكَ في الكُتُبِ المَشْهُورَةِ كَثيرٌ.

الشيخ: وهذا مثل ما قال المؤلف صحيح؛ لأن الصحيحين، والسنن الأربعة، ومسند أحمد، وغيرهم، إذا اجتمعت على أحاديث، أو تكرر إسناده بطرق كثيرة، ولو عند واحد منهم؛ تعدد في المشايخ، فيستحيل العادة تواطؤهم على الكذب.

فالحاصل أن هذا يختلف بحسب صفات الرجال، فإذا جاء حديث مسند من أربعة طرق، أو خمسة طرق مختلفة كلهم ثقات؛ يقطع من علم بأحوالهم بأنه صح عن النبي ﷺ، وأنه متواتر، وهكذا إذا جاء من عشرة، أو ثمانية، أو تسعة، صرح في هذا السيوطي في رسالته المعروفة في الأحاديث المتواترة (القراءة المتناثرة في الأحاديث المتواترة) ذكر فيها ما تعددت طرقه إلى عشرة، المقصود أن هذا موجود، مثل ما قال المؤلف كثير في الصحيحين، وغيرهما، لكن يفهم هذا من عرف أحوال الرجال وصفاتهم، فقد يكون متواترًا من أربعة، وقد يكون من خمسة، وقد يكون من ستة، وقد يكون من عشرة، وقد يكون من ثمانية على حسب أحوالهم في الثقة، والعدالة، والأمانة، والضبط.

ومن هذا حديث: من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار، ومثل حديث شفاعة النبي ﷺ لأهل الموقف يوم القيامة، وشفاعته في العصاة، كلها أحاديث متواترة، وكأحاديث من مات على التوحيد كلها أحاديث متواترة، والأحاديث الدالة على عدم كفر من مات على المعصية إذا كان عنده التوحيد، والرد على الخوارج، كل هذا متواتر.

والثَّاني - وهُو أَوَّلُ أقسام الآحادِ -: ما لَهُ طُرُقٌ مَحْصورةٌ بأَكثرَ مِن اثْنَيْنِ، وهُو المَشْهورُ عندَ المُحَدِّثينَ: سُمِّيَ بذلك لوُضوحِهِ، وهُوَ المُستفيضُ؛ عَلى رأْيِ جماعةٍ مِن أَئمَّةِ الفُقهاء.

الشيخ: فإن بعضهم يسميه المشهور، وبعضهم يسميه المستفيض، وهو الذي تعددت طرقه لكن لم يصل إلى حد المتواتر، تعددت طرقه لكن لم يصل إلى حد المتواتر؛ إما لنقص في العدالة، أو نقص في الضبط، أو ما أشبه ذلك من طرق ثلاثة فأكثر يقال له: مشهور، فإذا أفاد اليقين صار متواترًا.

وهذا يختلف بحسب الرواي الذي روى هذه الطرق من الحفاظ، فزيد قد يكون عنده الحديث متواترًا، يعني عرف من أحوالهم ما لم يعرفه عمرو، وعمرو ليس عنده متواتر؛ لأنه ما عرف من أحوالهم ما عرفه زيد، وهكذا.

سُمِّيَ بذلك لانْتشارِهِ، ومِنْ فاضَ الماءُ يَفيضُ فيضًا.

ومِنْهُم مَن غَايَرَ بينَ المُسْتَفيضِ، والمَشْهورِ؛ بأَنَّ المُسْتَفيضَ يكونُ في ابْتِدائِهِ وانْتِهائِهِ سَواءً، والمَشْهورَ أَعَمُّ مِنْ ذلكَ.

الشيخ: الصواب الأول المستفيض هو المشهور، والمشهور هو المستفيض، يعني استفاض بين العلماء، عرفوه وانتشر بينهم.

ومنهُمْ مَن غايَرَ على كيفيَّةٍ أُخْرى، وليسَ مِن مَباحِثِ هذا الفَنِّ.

الشيخ: يعني ... فاتهم، المهم كونه يقبل، أو ما يقبل، لكن إن استقام أمر رجاله قبلوا، وإلا فلا، تارة يكون حسنًا، تارة يكون صحيحًا، وتارة يكون ضعيفًا، فلو تعددت طرقه من طريق ابن لهيعة من طريق موسى بن عبيدة الربذي من طريق عطية العوفي، وأشباههم، صار ضعيفًا، وإن سمى طريقًا حسنًا إذا تعددت طرقه بهم من طرق متعددة من باب الحسن لغيره.

سؤال: حديث البسملة في الوضوء، طرقه ضعيفة كلها؟

الشيخ: لكن حسنه بعضهم، أي من باب الحسن لغيره كابن الصلاح وجماعة، وكابن كثير - رحمه الله - في التفسير قال: من باب الحسن كما في تفسير سورة المائدة.

س: الضعف الشديد مع تعدد الطرق يتحسن الحديث؟

الشيخ: لا، الضعف الشديد ما يتحسن به الحديث.

س: يكفي فريقان ...؟

الشيخ: طريقان، وأكثر من طريقين فأكثر، إذا كان الضعف خفيفًا يكون حسنًا لغيره.

ثمَّ المَشْهورُ يُطْلَقُ على مَا حُرِّرَ هُنا، وعلى ما اشْتُهِرَ على الألْسِنةِ، فيشْمَلُ ما لَهُ إِسنادٌ واحد فصاعِدًا، بل ما لا يوجَدُ لهُ إِسنادٌ أَصْلًا.

الشيخ: قد يطلق المشهور على حديث لا أصل له، أو مشهور بألفاظ متكررة لكن .... العلة، وقد يطلق على شيء ما يصح بالكلية، يقال: الحديث مشهور، يعني مشهور على ألسنة الناس، ولكن لا أصل له في الرواية.

س: الضعف الخفيف إذا تعددت طرقه، وكان جميع الطرق فيها ضعف، ولكنه ضعف خفيف؟

ج: يعني صاحب هذا ما وصل إلى المتروك، يعني ضعيف لكن ليس متروكا، مثل ابن لهيعة، وعطية العوفي، وأشباهه، لكن إذا كان متروكا ما يعمل به، هذا الضعف ما يعتبر به، المتروك والكذاب ما يعتبر به، وننبه على هذا فيما يأتي إن شاء الله، نبه المؤلف في أول التقرير.

والثَّالِثُ: العَزيزُ وهُو: أَنْ لا يَرْويَهُ أَقَلُّ مِن اثْنَيْنِ عنِ اثْنَيْنِ، وسُمِّيَ بذلك إِمَّا لِقِلَّةِ وجودِهِ، وإِمَّا لكونِهِ عَزَّ - أَي: قَوِيَ - بمَجيئِهِ مِن طَريقٍ أُخْرى.

ولَيْسَ شَرْطًا للصَّحيحِ؛ خِلافًا لمَنْ زعَمَهُ، وهو أَبو عَليٍّ الجُبَّائيُّ مِن المُعْتزلةِ، وإِليهِ يُومِئُ كلامُ الحاكِمِ أَبي عبداللهِ في «علومِ الحديثِ» حيثُ قال: الصَّحيحُ أَنْ يَرْوِيَهُ الصَّحابِيُّ الزَّائِلُ عنهُ اسمُ الجَهالةِ؛ بأَنْ يكونَ لهُ راوِيانِ، ثم يتداوَلَهُ أَهلُ الحَديثِ إِلى وقْتِنِا كالشَّهادَةِ عَلى الشَّهادَةِ.

الشيخ: وهذا النوع الثالث من أنواع الأخبار، الأحاديث المروية عن النبي ﷺ كما تقدم أربعة أنواع: متواتر، والمشهور وهو المستفيض، والثالث العزيز، وهو الذي يدور سنده على اثنين، مداره على اثنين وإن كثروا في بعض الأحيان، لكن مداره على اثنين اجتمع فيه سواء كانا صحابيين، أو تابعيين، أو من أتباع التابعين، فهذا يقال له عزيز إذا كان مداره على اثنين يقال له عزيز، وليس معناه أن لا يزيد في بعض الفقرات، لا بأس لكن يكون مداره على اثنين، وليس شرطًا للصحيح، لكن هذا يسمى عزيزًا، ولعله سمي بهذا لقلته، يقال هذا شيء عزيز يعني قليل، أو سمي بهذا لأن كل سند اعتز بالآخر، أحد السندين عزه الآخر يعني قواه الآخر، فلهذا قيل عزيز على الباب، وليس شرطًا للصحيح، بل الصحيح يكون ولو بالواحد إذا كان السند جيدًا، وكان سنده ثقات، ومتصل، ليس فيه تدليس، ولا انقطاع كان صحيحًا، ولو كان من طريق واحدة، مثل حديث عمر بن الخطاب إنما الأعمال بالنيات رواه عمر عن النبي ﷺ وحده، ثم رواه عن عمر علقة بن الوقاص الليثي وحده، ثم رواه عن علقمة بن الوقاص محمد بن إبراهيم التيمي وحده، ثم رواه عن محمد يحيى بن سعيد الأنصاري وحده، كلها فرد يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن الوقاص الليثي قال: سمعت عمر يخطب، ثم رواه عن يحيى بن سعيد أمم كثيرة، فهو متواتر عن يحيى بن سعيد، غريب عن عمر، فهذا يسمى صحيحًا من أصح الأحاديث مع أن سنده واحد، لكنهم من طريق الأئمة الثقات.

وهكذا حديث عبدالله بن عمر أنه ﷺ «نهى عن بيع الولاء، وعن هبته» في الصحيحين، وهو من أثبت الأحاديث، وهو غريب، وله نظائر كثيرة.

وصَرَّحَ القاضي أَبو بَكْرٍ بنُ العربيِّ في «شَرْحِ البُخاريّ» بأَنَّ ذلك شَرْطُ البُخاريِّ، وأَجاب عمَّا أُورِدَ عليهِ مِنْ ذلك بِجوابٍ فيهِ نَظرٌ؛ لأَنَّهُ قال: فإِنْ قيلَ: حديثُ الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ فَرْدٌ؛ لم يَرْوِهِ عَنْ عُمرَ إِلاَّ عَلْقَمَةُ!

قالَ: قُلْنا: قَدْ خَطَبَ بِهِ عُمَرُ عَلى المِنْبَرِ بحَضْرةِ الصَّحابَةِ، فلولا أَنَّهُمْ يَعْرِفونَهُ لأنْكروهُ! كذا قالَ.

وتُعُقِّبَ بأَنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِم سَكَتُوا عنهُ أَنْ يَكُونوا سَمِعوهُ مِنْ غَيْرِهِ، وبأَنَّ هذا لو سُلِّمَ في عُمَرَ مُنِعَ في تَفَرُّدِ عَلْقَمَةَ عنهُ، ثم تَفَرُّدِ مُحَمَّدِ بنِ إِبْراهيمَ بِه عَنْ عَلْقَمَةَ، ثم تَفَرُّدِ يَحْيَى بنِ سَعيدٍ بهِ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ عَلى ما هُو الصَّحيحُ المُعْروفُ عِنْدَ المُحَدِّثينَ، وقَدْ ورَدَتْ لُهْم مُتابعاتٌ لا يُعْتَبَرُ بِها لِضَعْفِها، وكَذا لا نُسَلِّمُ جَوابَهُ في غَيْرِ حَديثِ عُمَرَ .

قالَ ابنُ رُشَيْدٍ: ولَقَدْ كانَ يَكْفي القاضيَ في بُطْلانِ ما ادَّعَى أَنَّهُ شَرْطُ البُخاريِّ أَوَّلُ حَديثٍ مَذكورٍ فيهِ.

الشيخ: وهذا هو الصواب، قول أبي بكر ابن العربي المالكي أن شرط البخاري ... غلط، ومثله قاله الرشدي: يكفيه أول حديث - حديث عمر - فقد رواه من طريق واحدة، فليس شرطًا للبخاري، بل البخاري يروي الأحاديث الصحيحة ولو كانت من سند واحد.

وادَّعَى ابنُ حِبَّانَ نقيضَ دَعْواهُ، فقالَ: إِنَّ رِوايَةَ اثنَيْنِ عَنِ اثنَيْنِ إِلى أَنْ يَنْتَهِيَ لا تُوجَدُ أَصْلًا.

قُلْتُ: إِنْ أرادَ بهِ أَنَّ رِوايَةَ اثْنَيْنِ فَقَطْ عَنِ اثْنَيْنِ فَقَطْ لا تُوجَدُ أَصْلًا؛ فيُمْكِنُ أَنْ يُسَلَّمَ، وأَمَّا صُورَةُ العَزيزِ الَّتي حَرَّرْناها فمَوْجودَةٌ بأَنْ لا يَرْوِيَهُ أَقَلُّ مِن اثْنَيْنِ عَنْ أَقَلَّ مِنَ اثْنَيْنِ.

الشيخ: يعني في أثناء السند، ما هو شرط. ... عن اثنين اثنين اثنين، قد يزيد، لكن المدار على اثنين بس هذا هو المقصود.

مثالُهُ: ما رَواهُ الشَّيْخانِ مِن حَديثِ أَنَسٍ، والبُخاريُّ مِن حديثِ أَبي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ قالَ: لا يُؤمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِليهِ مِنْ والدِهِ وولَدِهِ ... الحديث.

 ورواهُ عَنْ أَنَسٍ: قَتادَةُ، وعبدالعزيزِ بنُ صُهَيْبٍ، ورواهُ عَنْ قتادَةَ: شُعْبَةُ، وسعيدٌ، ورواهُ عَنْ عبدالعزيزِ: إِسماعيلُ بنُ عُلَيَّةَ، وعبدالوارِثِ، ورواهُ عن كُلٍّ جَماعةٌ.

والرَّابِعُ: الغَريبُ، وهُو: ما يَتَفَرَّدُ بِروايَتِهِ شَخْصٌ واحِدٌ في أَيِّ مَوْضِعٍ وقَعَ التَّفَرُّدُ بِهِ مِنَ السَّنَدِ، عَلى مَا سَيُقْسَمُ إِليهِ الغَريبُ المُطْلَقُ، والغَريبُ النِّسبيُّ.

الشيخ: هذا الغريب الذي يكون مداره على واحد يسمى غريبًا كحديث عمر الأعمال بالنيات غريب، وأشباهه كل حديث مداره على واحد، سواء كان الصحابي، أو التابعي، أو من بعدهم يسمى غريبًا.

س: لو كانت الغرابة في طرف السند؟

الشيخ: ولو، يسمى غريبًا، ما دام مداره على واحد، لكن ما يلزم أن يكون ضعيفًا، ليس كل غريب ضعيفًا.

س: .....؟

الشيخ: يصير غريبًا بالنسبة إلى المصنف، من روى عن المصنف يصير غريبًا بالنسبة إليه، أما إذا كان رواه آخرون فليس بغريب بالنسبة إليهم، لكن بالنسبة إلى من لم يثبت عنده إلا من هذا الطريق مثل من طريق البخاري فقط، أو من طريق أبي داود فقط يكون غريبًا بالنسبة إليه

س: .....؟

الشيخ: هذا اصطلاح له فيه نظر، أقول: فيه نظر.

وكُلُّها أي: الأقسامُ الأرْبَعَةُ المَذْكورةُ سوى الأول وهو المتواتر آحاد، ويقال لكل منها خبر واحد، وخَبَرُ الواحِدِ في اللُّغَةِ: ما يَرويهِ شَخْصٌ واحِدٌ.

وفي الاصطِلاحِ: ما لَمْ يَجْمَعْ شُروط المُتواتِرِ.

الشيخ: هذا خبر الآحاد، خبر الآحاد ما عدا المتواتر يقال له: خبر آحاد، ولو رواه الثلاثة والأربعة والخمسة، يقال خبر آحاد؛ إذا لم يستجمع شروط المتواتر، قد يكون رواه ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة، أو أقل، لكن لم يستجمع شروط المتواتر، يقال له: خبر الواحد، أما في اللغة يقال: خبر واحد يعني ما تكلم إلا واحد، لكن إذا قال المحدثون: خبر آحاد، يعني أنه لم يستوف شروط المتواتر، ولو كان من طريقين، أو من ثلاثة، أو من أربعة.

وفيها؛ أي: في الآحَادِ: المَقْبولُ، وهو: ما يَجِبُ العَمَلُ بِهِ عِنْدَ الجُمْهورِ.

وَفيها المَرْدُودُ، وهُو الَّذي لَمْ يَتَرَجَّحْ صِدْقُ المُخْبِرُ بِهِ؛ لتوقُّفِ الاستدلالِ بها عَلى البَحْثِ عَنْ أحوالِ رواتِها، دُونَ الأوَّلِ، وهو المُتواتِرُ.

فكُلُّهُ مَقْبولٌ لإِفادَتِهِ القَطْعَ بِصِدْقِ مُخْبِرِهِ بِخلافِ غَيْرِهِ مِنْ أَخبارِ الآحادِ.

لكنْ؛ إِنَّما وجَبَ العَمَلُ بالمَقْبولِ مِنها؛ لأَنَّها إِمَّا أَنْ يُوْجَدَ فيها أَصلُ صِفَةِ القَبولِ - وهُو ثُبوتُ صِدْقِ النَّاقِلِ - أو أَصلُ صِفَةِ الرَّدِّ - وهُو ثُبوتُ كَذِبِ النَّاقِلِ – أو لا.

فالأوَّلُ: يَغْلِبُ على الظَّنِّ ثُبوتُ صِدْقِ الخَبَرِ لِثُبوتِ صِدْقِ ناقِلِهِ فيُؤخَذُ بِهِ.

والثَّانِي: يَغْلِبُ على الظَّنِّ كَذِبُ الخَبَرِ لِثُبوتِ كَذِبِ ناقِلِهِ فيُطْرَحُ.

والثَّالِثُ: إِنْ وجِدَتْ قرينَةٌ تُلْحِقُهُ بأَحَدِ القِسْمَيْنِ الْتَحَقَ، وإِلاَّ فَيُتَوَقَّفُ فيهِ، وإِذا تُوُقِّفَ عَنِ العَمَلِ بهِ صارَ كالمَرْدودِ، لا لِثُبوتِ صِفَةِ الرَّدِّ، بل لكَوْنِه لمْ تُوجَدْ فيهِ صفةٌ توجِبُ القَبولَ، واللهُ أعلمُ.

الشيخ: وهذا هو الشاهد، هذا الشاهد في أخبار الآحاد فيها المقبول، والمردود، إذا توافرت شروط الصحة قبل من: صدق الراوي، واتصال السند، وعدم الشذوذ والعلة، قبل سواء كان صحيحًا، أو حسنًا لذاته، أو لغيره، وإذا لم تتوفر شروط القبول ردت، وأصل صفات القبول: الصدق، وأصل صفات الرد: الكذب، والصفات الأخرى كلها توابع لهذا الأمر، فقد يكون السند، واحدًا لكنه مسلسل بالثقات، والاتصال ما يكون مقبولًا محتجًا به كخبر عمر في الأعمال بالنيات، وخبر ابن عمر نهى عن بيع الولاء، وعن هبته، وأحاديث أخرى كثيرة؛ لأنها جاءت من طرق ثابتة فقبلت، وحكم بصحتها، ولو كان الطريق واحدًا، أو طريقين، أو ثلاثة.

أما إذا كان الطريق فيه المجهول، وفيه المشهور، أو فيه انقطاع، أو فيه ما يوجب الحكم بضعفه، فهذا من المردود؛ لأن صفات القبول لم تتوفر فيه، إما لجهالة الراوي، أو لتهمته بالكذب، أو لانقطاع السند وعدم اتصاله، أو لغير هذا من العلل.

والثالث المتوقف فيه، لم تتضح فيه صفات القبول ولا الرد من الآحاد، بل المجتهد توقف لم يتضح له سلامة السند ولا عطبه، فيكون موقوفًا حتى يتبين، هذا بالنسبة إلى الناظر، بالنسبة إلى المحدث المجتهد، قد يتوقف فلا يحكم بالرد ولا بالقبول، فيحتاج إلى تأمل زيادة، فهذا يسمى موقوفًا، وهو في حكم المردود، لا يعمل به حتى يتضح بالنسبة إلى المحدث الذي ينظر فيه، لا يجوز العمل به حتى يتضح له إلحاقه بالمقبول.

وقد يَقعُ فيها؛ أي: في أَخْبارِ الآحادِ المُنْقَسِمَة إِلى مَشْهورٍ، وعَزيزٍ، وغَريبٍ؛ مَا يُفيدُ العِلْمَ النَّظريَّ بالقَرائِنِ عَلى المُختارِ؛ خِلافًا لِمَنْ أَبى ذلك.

والخِلافُ في التَّحْقيقِ لَفْظيٌّ؛ لأنَّ مَنْ جَوَّزَ إِطلاقَ العِلْمِ قَيَّدَهُ بِكونِهِ نَظَريًّا، وهُو الحاصِلُ عن الاسْتِدلالِ، ومَنْ أَبى الإِطلاقَ خَصَّ لَفْظ العِلْمِ بالمُتواتِرِ، وما عَداهُ عِنْدَهُ كُلُّهُ ظَنِّيٌّ، لكنَّهُ لا يَنْفِي أَنَّ ما احْتفَّ بالقرائِنِ أَرْجَحُ ممَّا خَلا عَنها.

الشيخ: والصواب أن يقع فيها ما يريد العلم، مثل قول المؤلف، قد يقع فيها من العلم النظري بالقرائن المختارة بالنسبة إلى المحدث، فإن خبر الآحاد إذا تسلسل بالثقات، واتصل سنده؛ أفاد العلم، واطمأن له المحدث، وجزم بأنه لا شك فيه، ولا ريب بأنه واقع ثابت عنه ﷺ، ليس ظنيًا فقط، وإن كانت الحجة قائمة بالظني لكن إذا احتفت بالصفات العظيمة كالصدق، والعدالة، واتصال السند؛ فإن المحدث الذي يعرف هذه الأمور يجزم ويتقين أنه عنده كحديث الأعمال بالنيات يفيد العلم، وإن كان طريقه واحدًا؛ لأنه مسلسل بالأئمة الثقات، وأحاديث كثيرة أسانيدها صحيحة في الصحيحين، وفي غير الصحيحين تفيد ... رجال العلم إذا رأى أسانيدها، ولهذا قال المؤلف: بالقرائن على المختار، وبعض أهل العلم يطلق على أخبار الآحاد أنها ظنية، لكن ظني يجب العمل به، ولو الصواب أن يقع فيها نشر العلم، تارة بالشواهد وتعدد الأسانيد، وتارة بصفات الرواة وثقتهم وعدالتهم، فإنه إذا جاء من طريقين كما يأتي إن شاء الله كلاهما ثقة صار أشد في إفادة العلم، وإذا كان من ثلاثة كذلك، وإذا كان من أربعة كذلك، كلما زاد عدد الأسانيد مع الاتصال وسلامة الرجال صار العلم أقوى وآكد.

سؤال: شيخ بارك الله فيك، إذا كان في السند رجل مقبول فهل تقبل روايته على الإطلاق، أم لا بدّ من مجيء طرق له؟

الشيخ: يأتي إن شاء الله، لا بدّ من شواهد.

والخَبَرُ المُحْتَفُّ بالقَرائِن أنواعٌ:

مِنْها مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخانِ في صَحيحَيْهِما ممَّا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ المتواتِرِ، فإِنَّهُ احْتفَّتْ بِهِ قرائِنُ؛ منها:

جَلالتُهُما في هذا الشَّأْنِ.

وتَقَدُّمُهُما في تَمْييزِ الصَّحيحِ على غيرِهما.

وتَلَقِّي العُلماءِ كِتابَيْهِما بالقَبُولِ، وهذا التَّلقِّي وحدَهُ أَقوى في إِفادةِ العلمِ مِن مُجَرَّدِ كَثْرَةِ الطُّرُقِ القاصرةِ عَنِ التَّواتُرِ.

إِلاَّ أَنَّ هذا مُخْتَصٌّ بِمَا لَمْ يَنْقُدْهُ أَحدٌ مِنَ الحُفَّاظِ مِمَّا في الكِتابينِ، وبِما لَمْ يَقَعِ التَّجاذُبُ بينَ مَدْلولَيْهِ مِمَّا وَقَعَ في الكِتابينِ، حيثُ لا تَرْجيحَ لاستِحالَةِ أَنْ يُفيدَ المُتناقِضانِ العِلْمَ بصِدْقِهِما من غيرِ ترجيحٍ لأحدِهِما على الآخرِ.

وما عَدا ذلك فالإِجماعُ حاصِلٌ على تَسْليمِ صِحَّتِهِ.

فإِنْ قِيلَ: إِنَّما اتَّفَقوا على وجوبِ العَمَلِ بِهِ لا عَلى صِحَّتِهِ؛ مَنَعْنَاهُ، وسَنَدُ المَنْعِ أَنَّهُمْ مُتَّفِقونَ عَلى وجوبِ العَمَلِ بِكُلِّ مَا صَحَّ، ولوْ لَمْ يُخْرِجْهُ الشَّيْخانِ، فلمْ يَبْقَ للصَّحيحينِ في هذا مَزيَّةٌ، والإِجماعُ حاصِلٌ على أَنَّ لهُما مَزِيَّةً فيما يَرْجِعُ إِلى نَفْسِ الصِّحَّةِ.

ومِمَّن صَرَّحَ بإِفادَةِ مَا خَرَّجَهُ الشَّيْخانِ العِلْمَ النَّظَرِيَّ: الأسْتاذُ أَبو إِسْحاقَ الإِسْفَرايِينِيُّ، ومِن أَئِمَّةِ الحَديثِ: أَبو عبداللهِ الحُمَيْدِيُّ، وأَبو الفَضْلِ بنُ طاهِرٍ، وغيرُهُما.

ويُحْتَمَلُ أَنْ يُقالَ: المَزِيَّةُ المَذْكُورَةُ كَوْنُ أَحادِيثِهِما أَصَحَّ الصَّحيحِ.

الشيخ: هذا مما يفيد العلم مما اتفق عليه الشيخان لما ذكره المؤلف - رحمه الله - فأحاديث الصحيحين تفيد العلم عند من تأمل ونظر، إلا ما حصل فيه اشتباه واختلاف، فهذا كالأشياء التي حصل فيها التعارض فتحتاج إلى تأمل فيها حتى يتبين وجه الجمع، أو وجه الاختلاف، أو شيء انتقده الدارقطني وأشباهه.

المقصود أن هذه الأشياء التي هي محل نظر هذه موقوفة حتى يتضح فيها الجواب.

المقصود أن ما رواه الشيخان هو من الأشياء التي احتفت بها القرائن، وأفادت العلم.

س: كون الرجل أن ... بين شيخين هل يضعف روايته؟

ج: لا ما يضر، إذا كان ثقة ما يضره.

س: والعكس إذا أخرجه الشيخان هل يقويه؟

ج: نعم، إذا أخرج الشيخان له يقويه.

سؤال: في أحد العلماء الكبار في الجرح والتعديل وعلم الرجال يقول: إنه في العصر الحديث، يقول: أن في البخاري ومسلم، أو في أحدهما بعض الأحاديث الضعيفة القليلة؟

الشيخ: هذا شيء قد قاله بعض أهل العلم، لكن ما هو مسلم، والصواب قبول ما فيهما.

س: هل وجد شيء، ولو حديث واحد؟

الشيخ: فيه حديث لمسلم، حديث رواه، وهي فيه بعض الروات حديث: إن الله خلق التربة يوم السبت ... مخلوقاته في سبعة أيام، السبت إلى الجمعة، وهذا مخالف لنص القرآن؛ لأن الله خلق الخلق في ستة أيام، هذا وهم من بعض الرواة، رفعه إلى النبي ﷺ، وإنما هو عن كعب الأحبار، غلط من بعض الرواة في رفعه، رفعه من طريق أبي هريرة، هذا لا شك أنه كما قال البخاري وغيره، رواه مسلم لكنه وهم، رفع إلى النبي ﷺ من طريق أبي هريرة، وإنما الصواب أن أبا هريرة رواه عن كعب، ما هو عن النبي ﷺ، فوهم بعض الرواة ورفعه إلى النبي ﷺ، وإنما هو عن كعب الأحبار.

وفيه بعض موجبات مسلم: إذا ... تكلم عن بعض ما فيها أنه يأخذ السماء بيمينه ... والصواب أنه لا بأس به؛ لأن الأدلة الدالة على اليمين تدل على الشمال، ولكن كلتا يديه يمين مباركة، وليس بالشمال فكأنها في الفضل يمين.

سؤال: التلقي بالقبول مقدم على كثرة الطرق لإفادة العلم اليقيني؟

الشيخ: قد يستفاد بكثرة الطرق أكثر، إذا جاء من طرق جيدة قد يستفاد منها تدل على العلم أكثر، لكن مزية الشيخين كونهما اتفقا عليه، ورأياه صحيحًا، وتلقته الأمة، هذه مزية خاصة.

س: حديث الفتان؟

ج: من أخبار مسلم، ولا بأس به.

ومِنها: «المَشْهورُ» إِذا كانَتْ لهُ طُرُقٌ مُتبايِنَةٌ سالِمَةٌ مِنْ ضَعْفِ الرُّواةِ، والعِلَلِ.

وممَّن صَرَّحَ بإِفادَتِهِ العِلْمَ النَّظَرِيَّ الأسْتاذُ أَبو مَنْصورٍ البَغْدادِيُّ، والأسْتاذُ أَبو بَكْرِ بنُ فُورَكٍ، وغيرُهُما.

الشيخ: نعم، كلها صحيحة، المشهور ما تعددت طرقه إذا سلم من العلل فهو مما يفيد العلم.

ومِنها: «المُسَلْسَلُ» بالأئمَّةِ الحُفَّاظِ المُتْقِنينَ، حيثُ لا يكونُ غَريبًا؛ كالحَديثِ الَّذي يَرْويهِ أَحمَدُ بنُ حَنْبَلٍ مَثلًا، ويُشارِكُهُ فيهِ غَيْرُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، ويُشارِكُهُ فيهِ غيرُهُ عنْ مالِكِ بنِ أَنسٍ؛ فإِنَّهُ يُفيدُ العِلْمَ عندَ سَامِعِهِ بالاستِدْلالِ مِن جِهَةِ جَلالَةِ رُواتِهِ، وأَنَّ فيهِمْ مِنَ الصِّفاتِ اللاَّئِقَةِ المُوجِبَةِ للقَبولِ مَا يقومُ مَقامَ العَدَدِ الكَثيرِ مِنْ غَيْرِهِم.

الشيخ: وهذا صحيح، فالمسلسل بالأئمة يفيد العلم، ولاسيما إذا كان من طريقين فأكثر، فإنه يفيد العلم، قد يفيد العلم ولو من طريق واحد كحديث عمر الأعمال بالنيات، والآن لو جاءنا ناس نعرف ثقتهم، وأخبار فلان عن فلان عن فلان أن المحل الفلاني جاءه السيل، أو المحل الفلاني أصابته كذا، أو فلان قدم من سفر تيقنا ذلك، أفادنا العلم لما نعرفه من صفة الرجل الذي أخبر بذلك، وشيخه إذا كانوا اثنين، أو أكثر، إذا كنا نعرف بالنسبة إلى المخبر على حسب اعتقاد المخبرين.

ولا يَتَشَكَّكُ مَنْ لَهُ أَدْنَى مُمارَسَةٍ بالعِلْمِ وأَخْبارِ النَّاسِ، أَنَّ مالِكًا مَثلًا لو شافَهَهُ بخَبَرٍ أَنَّهُ صادِقٌ فيهِ، فإِذا انْضافَ إِليهِ مَنْ هُو في تِلْكَ الدَّرَجَةِ؛ ازْدَادَ قُوَّةً وبَعُدَ عَمَّا يُخْشَى عليهِ مِنَ السَّهْوِ.

وهذهِ الأنْواعُ الَّتي ذكَرْناها لا يَحْصُلُ العلمُ بصِدْقِ الخَبرِ منها إِلاَّ للعالِمِ بالحَديثِ، المُتَبَحِّرِ فيهِ، العارِفِ بأَحوالِ الرُّواةِ، المُطَّلِعِ عَلى العِلَلِ.

وكَوْنُ غيرِهِ لا يَحْصُلُ لهُ العِلْمُ بصِدْقِ ذلك لِقُصورِهِ عن الأوْصافِ المَذكورَةِ لا يَنْفي حُصولَ العِلْمِ للمُتَبَحِّرِ المَذْكورِ، واللهُ أَعلمُ.

الشيخ: وهذا مثل ما قال المؤلف، إنما هذا على حسب علم الإبان، الناظر في الأمر، وهو المحدث على حسب معلوماته بالرجال، وخبرته في الرجال يتفاوت الناس بهذا، ليس فلان مثل فلان، ليس من عرف أحوالهم وصفاتهم العظيمة كمن جهل ذلك.

ومُحَصّلُ الأنْواعِ الثَّلاَثَةِ الَّتي ذَكَرْناها:

أنَّ الأوَّلَ: يَخْتَصُّ بالصَّحيحينِ.

والثاني: بِما لَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ.

والثَّالِثُ: بِما رواهُ الأئمَّةُ.

ويمكِنُ اجْتماعُ الثَّلاثةِ في حَديثٍ واحد، فلا يَبْعُدُ حينئذٍ القَطْعُ بصِدْقِهِ، واللهُ أَعْلمُ.

س: إذا اختلف النقاد في حديث، وأفاد العلم، فهل يحل لأحد أن يبدع أحدًا، ولو كان أتي ليطوف اللهم ... إلى آخره، هل يحل لأحد أن يضعف هذا الحديث، أن يبدع من فعله؟

الشيخ: لا هذا غلط، الأمر واسع في هذا، حتى لو دعا بشيء ما ورد من الآثار الطيبة، والدعوات الطيبة، فلا بأس، إنما جعل الطواف، والسعي، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله كما جاء في الحديث، لكن في الطواف ما تيسر، ولو من القرآن.

س: لكن الأمر في القضية، هل يحل له أن يبدع بما أمر مختلف في سنده، ليس مسائل فقهية، اجتهادية؟

الشيخ: لا ما يجوز التبديع فيها، التبديع فيمن اعتقد ما لم يشرعه الله وشرعه، يبدع في هذا الشيء المعين فقط، ما هو بإطلاق البدعة، هذه مطلقًا في أشياء معينة ليغالط، إذا شرع شيئًا لم يشرعه الله، ولا فيه شبهة، أما إذا كان فيه شبه، قد يكون عنده حديث رآه صحيحًا، وذاك اشتبه عليه الأمر فهذا يختلف بحسب اجتهاد العالم، المقصود أنه إذا اجتهد ورأى أن الحديث ضعيف، والآخر ما رأى، ينبغي التوقف في مثل هذا وعدم التسرع في التبديع لأن له شبهه، أو اقتدى بإمام فيه بعض البدع المعروفة يخالف أهل السنة، فهؤلاء لهم شأن آخـر، لكن هذه في مسائل معينة.

ثمَّ الغَرابَةُ إِمَّا أَنْ تَكونَ في أَصلِ السَّنَدِ؛ أي: في الموضعِ الَّذي يَدورُ الإِسنادُ عليهِ ويَرْجِعُ، ولو تَعَدَّدَتِ الطُّرقُ إِليهِ، وهو طرَفُهُ الَّذي فيهِ الصحابيُّ، أو لاَ يَكونُ كَذلكَ بأَنْ يَكونَ التَّفَرُّدُ في أَثنائِهِ، كأَنْ يَرْوِيَه عَنِ الصَّحابيِّ أَكثَرُ مِنْ واحد، ثم يتفرَّدُ بروايَتِه عنْ واحد منهُم شَخْصٌ واحِدٌ.

فالأوَّلُ: الفَرْدُ المُطْلَقُ؛ كَحديثِ النَّهْيِ عَنْ بيعِ الوَلاءِ، وعَنْ هِبَتِهِ؛ تفرَّدَ بهِ عبداللهِ بنُ دينارٍ عنِ ابنِ عُمرَ.

وقد يَتَفَرَّدُ بهِ رَاوٍ عَنْ ذلك المُتفرِّدِ؛ كحديثِ شُعَبِ الإِيمانِ؛ تفرَّدَ بهِ أَبو صالحٍ عَنْ أَبي هُريرةَ، وتفرَّدَ بهِ عبداللهِ بنُ دينارٍ عَنْ أَبي صالحٍ.

وقدْ يَسْتَمِرُّ التفرُّدُ في جميعِ رواتِهِ، أو أَكْثَرِهمْ، وفي «مُسْنَدِ البَزَّارِ»، و«المُعْجَم الأوسط» للطَّبرانيِّ أَمثلةٌ كثيرةٌ لذلك.

الشيخ: هذا بحث الغرابة في الأحاديث، بين المؤلف - رحمه الله - تفاصيل ذلك بعبارة موجزة واضحة بينة في المتن، فالغرابة لها حالان: حالة في أصل السند، وحالة في أثناء السند.

فما كان في أصل السند فهو الفرد المطلق، ويقال له غريب أيضًا، يقال فرد مطلق، ويقال غريب، وأما الفرد النسبي فهو بالنسبة إلى أحد رواه السند، قد يكون مشهورًا، وقد يكون عزيزًا، وقد يكون في كثير من حالات السند متواترًا، لكن يدور على واحد، يكون فردًا نسبيًا، يكون بعض طرقه على واحد، فالأول مثل: حديث عبدالله بن عمر: «الرسول ﷺ نهى عن بيع الولاء، وعن هبته» تفرد به عبدالله بن دينار عن ابن عمر فصار فردًا مطلقًا، ومثل حديث عمر: الأعمال بالنيات تفرد به علقمة بن وقاص عن عمر، وقد يستمر الانفراد بعده أيضًا مثل حديث عبدالله بن دينار رواه عنه أبو صالح، وحديث عمر انفرد به: محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص، ثم يحيى بن سعيد انفرد به عن محمد بن إبراهيم التيمي، ثم انتشر وتواتر عن يحيى بن سعيد، فهو فرد مطلق بالنسبة إلى عمر، وعلقمة، ومحمد بن إبراهيم، ثم صار متواترًا بالنسبة إلى يحيى بن سعيد، تواتر عنه، وقد يكون نسبيًا بأن يكون الحديث رواه جماعة عن التابعي، أو عن الصحابي، ثم انفرد به واحد من المشهورين لا يبلغ عنه إلا من طريق واحدة ... مالك من طريق واحدة مالك بن أنس، أو الثوري، أو الأوزاعي برواية واحدة عنه، فيقال: هو غريب بالنسبة إلى رواية مالك، ما رواه عنه إلا واحد، وإلا هو في نفسه لفظ غريب له طرق، لكن مالك ما رواه عنه إلا واحد، فهو غريب بالنسبة إلى رواية مالك، أو الأوزاعي، أو الثوري.

والثَّانِي: الفَرْدُ النِّسْبِيُّ، سُمِّيَ نسبيًّا لكونِ التفرُّدِ فيهِ حصلَ بالنسبةِ إِلى شخصٍ معيَّنٍ، وإِنْ كانَ الحَديثُ في نفسِه مشهورًا.

ويقلُّ إِطلاقُ الفَرْدِيَّةِ عليهِ؛ لأنَّ الغَريبَ والفَرْدَ مُترادِفانِ لغةً واصْطِلاحًا؛ إِلاَّ أَنَّ أَهْلَ هذا الاصطِلاحِ غايَروا بينَهُما من حيثُ كَثْرَةُ الاستِعمالِ وقِلَّتُهُ.

الشيخ: يعني قليل إطلاق الفردية على النسبية يقال له: غريب، فرد مطلق يسمى فردًا، وكلاهما يسمى غريبًا، لكن في الغالب أن الفرد يطلق على الفرد المطلق، وهو الذي ما رواه إلا واحد، بخلاف الفرد النسبي في الغالب يسمى غريب، غريب من رواية فلان، مثل ما قال الترمذي في كثير: وهو حسن غريب من رواية فلان، لا أعرفه إلا من طريق فلان.

فالفرْدُ أَكْثَرُ ما يُطْلِقونَهُ على الفَرْدِ المُطْلَقِ.

والغَريبُ أَكثرُ ما يُطْلِقونَهُ عَلى الفَرْدِ النِّسْبيِّ.

وهذا مِن حيثُ إِطلاقُ الاسمِ عليهِما.

الشيخ: وقد يطلق على الفرد المطلق مثل الحديث الغريب، هو الفرد المطلق، مثل حديث: «نهى عن بيع الولاء، وهبته» قال: غريب، وهو فرد مطلق.

لكن إذا روى الجماعة عن ابن عمر حديثًا، أو عن أبي هريرة، أو عن عمر، ثم رواه واحدًا مشهورًا أيضًا لكن ما رواه عنه إلا واحد فهو غريب بالنسبة إليه.

وأَمَّا مِنْ حيثُ استِعْمالُهم الفِعْلَ المُشْتَقَّ؛ فلا يُفَرِّقونَ، فَيقولونَ في المُطْلَقِ، والنِّسْبيِّ: تَفَرَّدَ بِهِ فُلانٌ، أو أَغْرَبَ بِهِ فُلانٌ.

وقَريبٌ مِن هذا اختِلافُهُم في المُنْقَطِعِ، والمُرْسَلِ هلْ هُما مُتغايِرانِ، أو لاَ؟

فأَكْثَرُ المُحَدِّثين على التَّغايُرِ، لكنَّهُ عندَ إطلاقِ الاسمِ، وأمَّا عندَ اسْتِعمَالِ الفِعْل المُشْتَقِّ فيستَعْمِلونَ الإِرسالَ فقَطْ فيَقولونَ: أَرْسَلَهُ فلانٌ، سواءٌ كانَ ذلكَ مُرْسَلًا، أو مُنْقَطِعًا.

ومِن ثم أَطْلَقَ غيرُ واحد -مِمَّن لم يلاحِظْ مواضِعَ اسْتِعمالِهِ- على كثيرٍ مِن المُحدِّثينَ أَنَّهُم لا يُغايِرونَ بينَ المُرْسَلِ، والمُنْقَطِعِ، وليسَ كذلك؛ لما حَرَّرناهُ، وقلَّ مَن نبَّهَ على النُّكْتَةِ في ذلك، واللهُ أعلمُ.

الشيخ: يبين - رحمه الله - أنهم في الفعل لا يغايرون قال: تفرد به فلان، وأغرب به فلان، وإنما التفريق في الغالب في الاسم: غريب فرد، وأما إذا أراد الإخبار بالفعل قال: أغرب فلان في هذا الحديث، أو تفرد به فلان في هذا الحديث، وهكذا ما يقع من الانقطاع والإرسال، إذا سقط منه واحد سواء في أوله، أو في آخره يسمى منقطعًا، يسمى مرسلًا، وقد يطلق على المرسل منقطع؛ لأنه ما اتصل إلى النبي ﷺ، وهكذا إذا سقط من الرواة واحد فهو منقطع، مثل: عن سعيد بن المسيب عن رسول الله ﷺ، عن أبي صالح عن رسول الله ﷺ ، عن مجاهد عن رسول الله ﷺ، هذا منقطع، والمشهور يسمى مرسلًا غالبًا.

وهكذا لو روى شخص عن صحابي لم يسمع منه، يقولون منقطع لأنه بينه وبين الصحابي شخص ما سماه، ويسمى مرسلًا أيضًا بمعنى الانقطاع يعني، لكن عند الفعل لا، ما يقال قطعه فلان، بل أرسله فلان، أرسله إلى النبي ﷺ يعني قطعه، ما ذكر الصحابي، أو أرسله فلان عن عمر، يعني ما ذكر الواسطة بينه وبين عمر بل أرسله عن عمر، أو عن الصديق، أو عن أبي هريرة، يعني أرسله بدون ذكر الواسطة التي سمعه منه، فهو منقطع، أو مرسل، لكن في الأغلب يطلق المرسل على ما كان منقطعًا إلى النبي ﷺ، قد يتصل بالنبي ﷺ، ... إذا روى التابعي عن النبي ﷺ يسمى مرسلًا، ولا يكون مقطوعًا.

وخبرُ الآحادِ؛ بنقلِ عَدْلٍ تامِّ الضَّبْطِ، مُتَّصِلَ السَّنَدِ، غيرَ مُعَلَّلٍ، ولا شاذٍّ: هو الصَّحيحُ لذاتِهِ.

وهذا أَوَّلُ تقسيمٍ مقبولٍ على أربعةِ أَنواعٍ؛ لأَنَّهُ: إِمَّا أَنْ يشتَمِلَ مِن صفاتِ القَبولِ على أَعْلاها، أو لا.

الأوَّلُ: الصَّحيحُ لذاتِهِ.

والثَّاني: إِنْ وجِدَ ما يَجْبُرُ ذلكَ القُصورَ؛ ككثْرَةِ الطُّرُق؛ فهُو الصَّحيحُ أَيضًا، لكنْ لا لذاتِهِ.

وحيثُ لا جُبْرانَ؛ فهُو الحسنُ لذاتِهِ.

وإِنْ قامَتْ قرينةٌ تُرَجِّحُ جانِبَ قَبولِ مَا يُتَوَقَّفُ فيهِ؛ فهُو الحسنُ أيضًا، لكنْ لا لذاتِهِ.

وقُدِّمَ الكَلامُ على الصَّحيحِ لذاتِهِ لعُلُوِّ رُتْبَتِهِ.

والمُرادُ بالعَدْلِ: مَنْ لهُ مَلَكَةٌ تَحْمِلُهُ على مُلازمةِ التَّقوى، والمُروءةِ.

والمُرادُ بالتَّقوى: اجْتِنابُ الأعمالِ السَّيِّئةِ مِن شِرْكٍ، أو فِسقٍ، أو بِدعةٍ.

والضَّبْطُ: ضَبْطُ صَدْرٍ: وهُو أَنْ يُثْبِتَ ما سَمِعَهُ بحيثُ يتمكَّنُ مِن استحضارِهِ مَتى شاء، وضَبْطُ كِتابٍ: وهُو صيانَتُهُ لديهِ مُنذُ سمِعَ فيهِ، وصحَّحَهُ إِلى أَنْ يُؤدِّيَ منهُ.

وقُيِّدَ بـ «التَّامِّ» إِشارةً إِلى الرُّتبةِ العُليا في ذلكَ.

والمُتَّصِلُ: ما سَلِمَ إِسنادُه مِن سُقوطٍ فيهِ، بحيثُ يكونُ كُلٌّ مِن رجالِه سَمِعَ ذلكَ المَرْوِيَّ مِنْ شيخِهِ.

والسَّنَدُ: تقدَّمَ تعريفُهُ.

والمُعَلَّلُ لُغةً: ما فِيهِ عِلَّةٌ، واصطِلاحًا: ما فيهِ عِلَّةٌ خَفِيَّةٌ قادِحةٌ.

والشَّاذُّ لُغةً: المُنفَرِدُ، واصطِلاحًا: ما يُخالِفُ فيهِ الرَّاوي مَنْ هُو أَرْجَحُ منهُ. ولهُ تفسيرٌ آخرُ سيأْتي.

تنبيهٌ: قولُهُ: «و خبرُ الآحادِ»؛ كالجِنْسِ، وباقي قُيودِهِ كالفَصْلِ.

الشيخ: وهذا واضح في بيان تفصيل أخبار الآحاد، وأنها أقسام أربعة: صحيح لذاته، وصحيح لغيره، وحسن لذاته، وحسن لغيره، فإن توافرت الشروط بأن كان من رواية العدل الضابط الضبط التام، المتصل غير معلل ولا شاذ؛ فهذا يقال له الصحيح لذاته، فهذا في أعلى مراتب الأحاديث، كونه رواه العدول الثقات مع السلامة من الشذوذ، ولا انقطاع، فهذا هو الصحيح لذاته.

فإن كان الضبط ليس بكامل يقال له الحسن لذاته كما يأتي، فإن كثرت الطرق لهذا الذي فيه نقص في الضبط، صار صحيحًا لغيره، لتعدد الطرق، طريقين فأكثر، فإن لم تتعدد الطرق صار حسنًا بسبب خفة الضبط؛ لأنه ليس بكامل الضبط، فإن كان هناك خلل بعض الضعف في الرواة لكثرة الوهم انجبر بالطريق الآخر فصار حسنًا لغيره عند وجود بعض العلل الخفية، والنقص إذا وجد طريقًا ثانيا، أو ثالثا انجبر، وصار حسنًا لغيره.

ما لم يكن معللًا، أو شاذًا، إن كان معللًا بانقطاع، أو بشذوذ لم يكن حسنًا، ولا صحيحًا، ولهذا قال: غير معلل، ولا شاذ.

والشاذ: ما يخالف فيه الثقة من هو أوثق منه، فإذا خالف من هو أوثق منه صار شاذًا، ويعبر بالشذوذ بالرجل الضعيف الذي يخالف الثقات، لكن الأشهر أن الشاذ هو ما خالف الثقة فيمن هو أوثق، هذه أقسام المقبول: صحيح لذاته، وصحيح لغيره، وحسن لذاته، وحسن لغيره.

س: .....؟

الشيخ: ما يصير حسنًا لغيره، صارت علة قوية، والذين خالفوا ثقتهم معروفة، وضبطهم معروف، فهم مقدمون على روايات الطريقين التي فيها الضعف. ويأتي البيان في بحث ...

س: إذا تفرد الثقة بزيادة، ولم يخالف من هو أوثق منه، هل يعتبر شذوذًا هذا؟

الشيخ: لا، ما هو بشذوذ، زيادة الثقة مقبولة كما يأتي إن شاء الله، ما لم يخالفه من هو أوثق منه، إذا جاء الثقة بزيادة قبلت الزيادة الغير مخالفة.

س: .....؟

الشيخ: إذا روى الثقة أن الرسول ﷺ نهى عن هذا الشيء، والثاني يقول: أمر به، قدم قول الثقة، وصار هذا خبرًا شاذًا؛ لأنه مخالف، ولكن إذا روى الثقة الضابط خبرًا فيه جملة واحدة، وجاء من دونه، ورى جملة ثانية زائدة لا يسمى شاذًا، هذا زيادة في الثقة المقبولة؛ لأنه ما خالفه إنما زاد عليه. ويأتي بيان هذا إن شاء الله في الزيادات.

س: حديث: من صلى صلاة الصبح، ثم قعد في مجلسه ... هل من باب ....؟

الشيخ: لا، من باب الحسن لغيره.

وقولُهُ: «بِنَقْلِ عَدْلٍ»؛ احْتِرازٌ عَمَّا يَنْقُلُهُ غيرُ العَدْلِ.

وقوله: «هُو» يسمَّى فَصْلًا يتَوَسَّطُ بينَ المُبتَدَإ والخَبَرِ، يُؤذِنُ بأَنَّ ما بَعْدَهُ خَبرٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وليسَ بِنَعْتٍ لهُ.

الشيخ: ... هو الصحيح لذاته.... حتى يتضح أنه خبر، لقوله: هو خبر العدل.

وقولُهُ: «لذاته».

الشيخ: فإذا قال: زيد هو الكاتب، يعني إيضاح أن زيد هو الكاتب، زيد هو القاضي، زيد هو الذي كلمك، للإيضاح أنه خبر ليس بنعت.

وقولُهُ: «لذاته» يُخْرِجُ ما يسمَّى صحيحًا بأَمرٍ خارِجٍ عنهُ؛ كما تقدَّمَ.

سؤال: أحاديث الصحيحين كلها صحيحة لذاتها ...؟

الشيخ: فيها صحيح لذاته، وفيها صحيح لغيره.

وتتفاوَتُ رُتَبُهُ؛ أي: الصَّحيحُ، بِسببِ تفاوُتِ هذهِ الأوْصافِ المُقْتَضِيَةِ للتَّصحيحِ في القُوَّةِ؛ فإِنَّها لمَّا كانَتْ مُفيدةً لغَلَبَةِ الظَّنِّ الَّذي عليهِ مَدارُ الصِّحَّةِ؛ اقْتَضَتْ أَنْ يكونَ لها دَرجاتٌ بعضُها فَوْقَ بعضٍ بحَسَبِ الأمورِ المُقَوِّيةِ.

الشيخ: وهذا صحيح، لا شك أن الصحيح تتفاوت رتبه بتفاوت صفات الرواة، فتارة تكون درجته في أعلى الدرجات لثقة الرواة وكمال ضبطهم، وتارة وسط، وتارة دون ذلك، فهي متفاوتة على حسب حال الرواة، مالك عن نافع عن ابن عمر، مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة، وأشباه هذا من أعلى الرتب، المقصود أن الأسانيد الصحيحة متفاوتة في هذا على حسب تفاوت الرجال في الضبط، وفي السماع، سماع الرواية، والإتقان.

وإِذا كانَ كذلك فما يَكونُ رُواتُهُ في الدَّرجةِ العُليا مِن العدالَةِ، والضَّبْطِ، وسائِرِ الصِّفاتِ التي تُوجِبُ التَّرجيحَ؛ كانَ أَصحَّ ممَّا دونَهُ.

فَمِنَ المَرْتَبَةِ العُلْيا في ذلك ما أَطْلَقَ عليهِ بعضُ الأئمَّةِ أَنَّهُ أَصحُّ الأسانيدِ:

كالزُّهْريِّ عن سالِمِ بنِ عبداللهِ بنِ عُمَرَ عن أَبيهِ.

وكمحمَّدٍ بنِ سيرينَ عن عَبيدةَ بنِ عَمْروٍ السَّلْمانِيِّ عَن عَليٍّ.

وكَإِبراهيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عن ابنِ مَسعودٍ.

الشيخ: وكذلك عن مالك عن نافع عن ابن عمر.

ودونَها في الرُّتبةِ: كرِوايةِ بُرَيْدِ بنِ عبداللهِ بنِ أَبي بُرْدَةَ عن جَدِّهِ عن أَبيهِ أَبي مُوسى.

وكَحمَّادِ بنِ سَلَمَةَ عن ثابِتٍ عَنْ أَنسٍ.

ودُونَها في الرُّتْبَةِ: كسُهَيْلِ بنِ أَبي صالحٍ عَنْ أَبيهِ عن أَبي هُريرةَ.

وكالعَلاءِ بنِ عبدالرحمن عن أَبيهِ عن أَبي هُريرةَ.

فإِنَّ الجَميعَ يشمَلُهُم اسمُ العَدالَةِ والضَّبْطِ؛ إِلاَّ أَنَّ للمَرْتَبَةِ الأولى مِن الصِّفاتِ المُرَجِّحَةِ ما يقتَضي تقديمَ روايتِهِم على الَّتي تَليها، وفي الَّتي تليها مِنْ قوَّةِ الضَّبْطِ ما يقتَضي تقديمَها على الثَّالِثَةِ، وهِي مُقدَّمةٌ على رِوايةِ مَن يُعَدُّ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ حَسنًا؛ كمحمَّد بنِ إِسحاقَ عن عاصمِ بنِ عُمرَ عن جابرٍ، وعمروِ بنِ شُعَيْبٍ عنْ أَبيهِ عَنْ جَدِّهِ.

الشيخ: وهذا واضح لأنه إذا خف الضبط انتقل من درجة الصحيح إلى درجة الحسن.

الطالب: في الحاشية بعد قول المؤلف كمحمد بن إسحاق عن عاصم، قال: قال شيخنا في حواشيه على النزهة: هو ابن يسار صاحب المغازي، وهو معروف بالتدليس فلا يكون إسناده حسنًا إلا إذا صرح بالتحديث، فلو قال المصنف: حدثنا عاصم بن عمر عن جابر لكان أقرب إلى الصواب فتأمل.

الشيخ: من الذي قال هذا في الحاشية؟

الطالب: علي حسن يذكر عن الألباني.

الشيخ: هذا هو كلام الحافظ إنه يكون حسنًا إذا صرح بالسماع ...

وهِي مُقدَّمةٌ على رِوايةِ مَن يُعَدُّ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ حَسنًا؛ كمحمَّد بنِ إِسحاقَ عن عاصمِ بنِ عُمرَ عن جابرٍ، و عمروِ بنِ شُعَيْبٍ عنْ أَبيهِ عَنْ جَدِّهِ.

وقِسْ على هذهِ المراتِبِ ما يُشبِهُها.

الشيخ: بس تساهل، محمد بن إسحاق عن عاصم إذا صرح بالسماع فات الشارح هذا، زيادة الكلمة (إذا صرح بالسماع).

وقِسْ على هذهِ المراتِبِ ما يُشبِهُها.

المرتَبَةُ الأولي هِيَ الَّتي أَطلَقَ عليها بعضُ الأئمَّةِ أَنَّها أَصحُّ الأسانيدِ، والمُعْتَمَدُ عدمُ الإِطلاقِ لترجَمةٍ معيَّنةٍ منها. نعم؛ يُستَفَادُ مِن مجموعِ ما أَطلقَ الأئمَّةُ عليهِ ذلك أَرجَحِيَّتُهُ على ما لَمْ يُطْلِقوهُ.

ويلْتَحِقُ بهذا التَّفاضُلِ ما اتَّفَقَ الشَّيخانِ على تَخريجِه بالنِّسبةِ إِلى ما انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُما، وما انْفَرَدَ بهِ البُخاريُّ بالنِّسبةِ إلى ما انْفَرَدَ بهِ مُسلمٌ؛ لاتِّفاقِ العُلماءِ بعدِهِما على تلقِّي كِتابَيْهِما بالقَبولِ، واختِلافِ بعضِهِم على أَيِّهِما أَرْجَحُ، فما اتَّفقا عليهِ أَرجَحُ مِن هذهِ الحيثيَّةِ ممَّا لم يتَّفقا عليهِ.

وقد صرَّحَ الجمهورُ بتقديمِ «صحيح البخاري» في الصِّحَّةِ، ولم يوجَدْ عنْ أحدٍ التَّصريحُ بنقيضِهِ.

وأَمّا ما نُقِلَ عَن أبي عليٍّ النَّيْسابوريِّ أَنَّهُ قالَ: ما تحتَ أَديمِ السَّماءِ أَصحُّ مِن كتابِ مُسلمٍ؛ فلمْ يُصرِّحْ بكونِه أَصحَّ مِن صحيحِ البُخاريِّ؛ لأَنَّهُ إِنَّما نَفَى وجودَ كتابٍ أَصحَّ مِن كتابِ مسلم؛ إِذ المَنْفِيُّ إِنَّما هُو ما تَقْتَضيهِ صيغَةُ أَفْعَلَ من زيادَةِ صحَّةٍ في كتابٍ شارَكَ كتابَ مُسلمٍ في الصِّحَّةِ، يمتازُ بتلكَ الزِّيادَةِ عليه، ولم يَنْفِ المُساواةَ.

الشيخ: مع أنه غير مسلم كلام ابن علي، الصواب: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب صحيح البخاري، ثم مسلم، هذا الذي عليه جمهور أهل العلم.

لكن مسلم امتاز بحسن السياق، جمع الأحاديث، وحسن السياق، والضبط، وطرقها، والعناية بها امتاز بهذا، امتاز بحسن السياق مسلم، والبخاري - رحمه الله - كان يتساهل في هذا، كان يقطع الأحاديث، ويفرقها على حسب الحاجة إليها، ومسلم - رحمه الله - كانت له عناية خاصة في جمع الأسانيد وحسن السياق حتى يتضح للقارئ الحديث بالطرق كلها في موضع واحد.

وكذلكَ ما نُقِلَ عنْ بعضِ المَغارِبَةِ أَنَّهُ فَضَّلَ صحيحَ مُسلمٍ على صحيحِ البُخاريِّ؛ فذلكَ فيما يرجِعُ إِلى حُسْنِ السِّياقِ، وجَوْدَةِ الوَضْعِ، والتَّرتِيبِ.

ولم يُفْصِحْ أَحدٌ منهُم بأَنَّ ذلكَ راجِعٌ إِلى الأصحِّيَّةِ، ولو أَفْصَحوا به لردَّهُ عليهِمْ شاهِدُ الوُجودِ، فالصِّفاتُ الَّتي تدورُ عليها الصِّحَّةُ في كتابِ البُخاريِّ أَتمُّ منها في كتابِ مسلمٍ وأَشَدُّ، وشرطُهُ فيها أَقوى وأَسَدُّ.

وأَمَّا رُجْحانُهُ مِن حيثُ الاتصالُ؛ فلاشْتِراطِهِ أَنْ يكونَ الرَّاوِي قَدْ ثَبَتَ لهُ لِقاءُ مَنْ روى عنهُ، ولو مَرَّةً، واكْتَفى مُسْلِمٌ بمُطْلَقِ المُعاصَرَةِ، وأَلْزَمَ البُخاريَّ بأَنَّهُ يحتاجُ إِلى أَنْ لا يقْبَلَ العَنْعَنَةَ أَصلًا!

وما أَلْزَمَهُ بهِ ليسَ بلازِمٍ؛ لأنَّ الرَّاويَ إِذا ثبتَ لهُ اللِّقاءُ مرَّةً؛ لا يجْري في رواياتِهِ احْتِمالُ أَنْ لا يكونَ سمِعَ منهُ؛ لأنَّهُ يلزمُ مِن جَريانِهِ أَنْ يكونَ مُدَلِّسًا، والمسأَلةُ مَفروضَةٌ في غير المُدَلِّسِ.

وأَمَّا رُجْحَانُهُ مِنْ حيثُ العَدالَةُ، والضَّبْطُ؛ فلأنَّ الرِّجالَ الَّذينَ تُكُلِّمَ فيهِم مِن رجالِ مُسلِمٍ أَكثرُ عَددًا مِن الرِّجالِ الَّذينَ تُكُلِّمَ فيهِم مِن رجالِ البُخاريِّ، معَ أَنَّ البُخارِيَّ لم يُكْثِرْ مِن إِخراجِ حَديثِهِمْ، بل غالِبُهُمْ مِن شيوخِهِ الذينَ أَخَذَ عنهُم، ومَارَسَ حَديثَهُم، بخِلافِ مُسلمٍ في الأمْرَينِ.

وأَمَّا رُجْحانُهُ مِن حيثُ عدمُ الشُّذوذِ، والإِعلالِ؛ فلأنَّ ما انْتُقِدَ على البُخاريِّ مِن الأحاديثِ أَقلُّ عددًا مِمَّا انْتُقِدَ على مُسْلِمٍ، هذا مع اتِّفاقِ العُلماءِ على أنَّ البُخاريَّ كانَ أَجلَّ مِن مُسْلِمٍ في العُلومِ، وأَعْرَفَ بصِناعةِ الحَديثِ مِنهُ، وأَنَّ مُسلمًا تِلْميذهُ، وخِرِّيجُهُ، ولم يزَلْ يَسْتَفيدُ منهُ، ويتَتَبَّعُ آثارَهُ حتَّى قالَ الدَّارَقُطنِيُّ: لولا البُخاريُّ لَما راحَ مُسْلِمٌ ولا جَاءَ.

ومن ثم؛ أي: من هذه الحيثيَّةِ -وهي أَرجحيَّةُ شَرْطِ البُخاريِّ على غيرِه- قُدِّمَ «صحيح البخاري» على غيرِه من الكُتُبِ المُصَنَّفةِ في الحديثِ.

ثمَّ «صحيحُ مُسْلِمٍ» لمُشارَكَتِه للبُخاريِّ في اتِّفاقِ العُلماءِ على تَلَقِّي كِتابِهِ بالقَبولِ أَيضًا، سوى ما عُلِّلَ.

ثمَّ يُقَدَّمُ في الأرجحيَّةِ من حيثُ الأصحِّيَّةُ ما وافَقَهُ شَرْطُهُما؛ لأنَّ المُرادَ به رواتُهُما معَ باقي شُروطِ الصَّحيحِ، ورواتُهما قد حَصَلَ الاتِّفاقُ على القَوْلِ بتَعديلِهِمْ بطريقِ اللُّزومِ، فهم مُقَدَّمونَ على غيرِهم في رِواياتِهم، وهذا أَصلٌ لا يُخْرَجُ عنهُ إِلاَّ بدليلٍ.

فإِنْ كانَ الخَبَرُ على شَرْطِهما معًا؛ كانَ دونَ ما أَخرَجَهُ مسلمٌ، أو مثله.

وإِنْ كانَ على شَرْطِ أَحَدِهما؛ فيُقَدَّمُ شَرْطُ البُخاريِّ وحْدَه على شرطِ مُسلمٍ وحدَه تَبَعًا لأصلِ كُلٍّ منهُما.

فخَرَجَ لنا مِن هذا سِتَّةُ أَقسامٍ تتفاوتُ دَرَجاتُها في الصِّحَّةِ.

وثَمَّةَ قسمٌ سابعٌ، وهو ما ليسَ على شرطِهما اجتِماعًا، وانْفرادًا.

الشيخ: وبهذه تكون أقسام الصحيح من هذه الحيثية سبعة: ما اتفق عليه الشيخان هذا الأول، ثم البخاري في الثاني، ثم مسلم هذا الثالث، ثم الرابع ما كان على شرطهما، ثم الخامس ما كان على شرط البخاري، ثم السادس ما كان على شرط مسلم، ثم السابع ما صححه أحد الأئمة، وهو ليس على شرط واحد منهما، كالذي يصححه الدارقطني، وابن خزيمة، وابن حبان، وغيرهم، ولا يكون فيه قادح يكون في المرتبة السابعة.

س: قول الدارقطني: لولا البخاري ما جاء مسلم ولا راح؟

الشيخ: من باب المبالغة - رحمه الله -، مسلم إمام عظيم، لكنه تخرج عن البخاري، واستفاد منه، وتتلمذ عليه فبالغ الدارقطني.

س: أيش الفرق بين شرط البخاري، وشرط الشيخين؟

الشيخ: مثل ما سمعت، شرط البخاري أقوى من العناية بالضبط والاتصال.

س: شرط الشيخين داخل في شرط البخاري؟

الشيخ: لكن فرق بينهما، لكن إذا كان شرط البخاري وحده أقوى من شرط مسلم فإذا اتفقا اجتمع شرطهما، فإذا انفردا أحدهما صار شرط البخاري أقوى من شرط مسلم هذا مقصوده.

س: ما يقال: إن البخاري ألف الصحيح ... ومسلم كان يكتب عند السماع؟

ج: لا هذا ما هو، البخاري ألف جميع الأحاديث، وكتبها، واعتنى بها، جمع، واعتكف عليها، وجمعها من صدور الرجال، واعتنى بها، وتثبت فيها أكثر.

وهذا التَّفاوتُ إِنَّما هو بالنَّظرِ إِلى الحيثيَّةِ المذكورةِ.

أَمَّا لو رُجِّحَ قِسْمٌ على ما فَوْقَهُ بأُمورٍ أُخرى تقتَضي التَّرْجيحَ؛ فإِنَّهُ يُقَدَّمُ على ما فَوْقَهُ -إذ قَدْ يَعْرِضُ للمَفوقِ مَا يجعَلُهُ فائقًا-.

كما لو كان الحديثُ عندَ مُسلم مثلًا وهُو مشهورٌ قاصِرٌ عن دَرَجَةِ التَّواتُرِ، لكنْ حَفَّتْهُ قرينةٌ صارَ بها يُفيدُ العِلْمَ؛ فإِنَّه يُقَدَّمُ على الحديثِ الذي يُخْرِجُهُ البُخاريُّ إِذا كانَ فَرْدًا مُطْلقًا.

وكما لو كانَ الحَديثُ الَّذي لم يُخْرِجَاهُ مِن ترجمةٍ، وصِفَتْ بكونِها أَصَحَّ الأسانيدِ كمالِكٍ عن نافعٍ عن ابنِ عُمرَ؛ فإِنه يُقَدَّمُ على ما انفرَدَ بهِ أَحدُهُما مثلًا، لا سيَّما إِذا كانَ في إِسنادِهِ مَن فيهِ مَقالٌ.