بَابُ فَضْلِ الْقُعُودِ فِي الْفِتْنَةِ عَنِ الْخَوْضِ فِيهَا
وَتَخَوُّفِ الْعُقَلَاءِ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَنْ تَهْوَى مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَلُزُومِ الْبُيُوتِ وَالْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى
73- حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الْحُلْوَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ يَسْتَشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْ لَهُ، وَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ.
74- حَدَّثَنَا الْفِرْيَابِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: أخبرنا خَالِدٌ – يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِاللَّهِ - الْوَاسِطِيُّ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: تَكُونُ فِتَنٌ كَرِيَاحِ الصَّيْفِ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، مَنِ اسْتَشْرَفَ لَهَا اسْتَشْرَفَتْهُ.
حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ قَالَ: حدَّثنا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ رَجُلٍ كَانَ مَعَ الْخَوَارِجِ ثُمَّ فَارَقَهُمْ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: وَحَدَّثَنِي جَدِّي وَأَبُو خَيْثَمَةَ قَالَا: أخبرنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَ مَعَ الْخَوَارِجِ ثُمَّ فَارَقَهُمْ، قَالَ: دَخَلُوا قَرْيَةً، فَخَرَجَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ ذُعْرًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ، فَقَالُوا: لَمْ تُرَعْ، لَمْ تُرَعْ، مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رُعْتُمُونِي، قَالُوا: أَنْتَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: فَهَلْ سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ حَدِيثًا يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تُحَدِّثنَاهُ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إِنَّهُ ذَكَرَ فِتْنَةً، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، قَالَ: فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا فَكُنْ عَبْدَاللَّهِ الْمَقْتُولَ، قَالَ أَيُّوبُ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: وَلَا تَكُنْ عَبْدَاللَّهِ الْقَاتِلَ.
الشيخ: والمعنى أنها تكون فتن تشتبه فيها الأمور، يختلط فيها الناس، ولا تكون واضحةً بسبب دخول الجهلة وعدم البصيرة، فتكون هذه الفتن خطرًا على المسلمين؛ لقيام مَن لا يُحسن القيام، ولدخول مَن لا يعرف الحقَّ، ولحصول التَّشويش وعدم البصيرة، فالقاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من الساعي، مَن يستشرف لها تستشرفه، فمَن وجد معاذًا أو ملاذًا فليَعُذْ به، ولا يُشارك فيها عند خفاء الأمور والتباس الأمور، وإنما يكون الجهادُ على بصيرةٍ لقتال أعداء الله، أما الفتنة التي تكون بين الناس فيما بينهم فهذه هي الفتنة التي خشيها النبيُّ ﷺ وحذرها، أو تكون على ولاة الأمور على غير بصيرةٍ، فالواجب فيها الحذر، وأن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي؛ ولهذا أمر النبي ﷺ مَن وجد معاذًا أن يعوذ به، وأن يلوذ به، وأن يحذرها، نسأل الله السلامة.
قَالُوا: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ أَبِيكَ يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَدَّمُوهُ عَلَى ضَفَّةِ النَّهَرِ، فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَسَالَ دَمُهُ كَأَنَّهُ شِرَاكٌ مَا ابذَقرَّ، يَعْنِي: مَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ الدَّمُ، وَبَقَرُوا أُمَّ وَلَدِهِ عَمَّا فِي بَطْنِهَا.
76- حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَيْضًا قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُالْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: أخبرنا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي كَبْشَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُمْ.
77- وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُالْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ خَالِدِ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ: أَنَّ الْحَكَمَ بْنَ مَسْعُودٍ النَّجْرَانِيَّ حَدَّثَهُ: أَنَّ أَنَسَ ابْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْأَنْصَارِيَّ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: سَتَكُونُ فِتْنَةٌ بَكْمَاءُ صَمَّاءُ عَمْيَاءُ، الْمُضْطَجِعُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَاعِدِ، وَالْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، وَمَنْ أَبَى فَلْيَمْدُدْ عُنُقَهُ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا أُسَيْدُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: أَخْبَرَنَا قَيْسٌ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، وَعَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: تَتَقَارَبُ الْفِتَنُ، وَلَا يَنْجُو مِنْهَا إِلَّا مَنْ كَرِهَهَا، وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ، فَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ فَهُوَ شَرِيكُهُمْ فِي الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: قَدْ ذَكَرْتُ هَذَا الْبَابَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْتُ هَاهُنَا طَرَفًا مِنْهَا؛ لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ الْعَاقِلُ يَحْتَاطُ لِدِينِهِ، فَإِنَّ الْفِتَنَ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ مَضَى مِنْهَا فِتَنٌ عَظِيمَةٌ، نَجَا مِنْهَا أَقْوَامٌ، وَهَلَكَ فِيهَا أَقْوَامٌ بِاتِّبَاعِهِمُ الْهَوَى.
الشيخ: وأولها فتنة عثمان، والخوارج وعلي، وما جرى بين معاوية وعلي، ثم جرت فتن كثيرة، فالواجب على المؤمن وعلى طالب العلم الحذر، وألا يقدم على شيءٍ إلا على بصيرةٍ، وعلى علمٍ.
نَجَا مِنْهَا أَقْوَامٌ، وَهَلَكَ فِيهَا أَقْوَامٌ بِاتِّبَاعِهِمُ الْهَوَى، وَإِيثَارِهِمْ لِلدُّنْيَا، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا فَتَحَ لَهُ بَابَ الدُّعَاءِ، وَالْتَجَأَ إِلَى مَوْلَاهُ الْكَرِيمِ، وَخَافَ عَلَى دِينِهِ، وَحَفِظَ لِسَانَهُ، وَعَرَفَ زَمَانَهُ، وَلَزِمَ الْمَحَجَّةَ الْوَاضِحَةَ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ، وَلَمْ يَتَلَوَّنْ فِي دِينِهِ، وَعَبَدَ رَبَّهُ تَعَالَى، فَتَرَكَ الْخَوْضَ فِي الْفِتْنَةِ، فَإِنَّ الْفِتْنَةَ يَفْتَضِحُ عِنْدَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ مُحَذِّرٌ أُمَّتَهُ الْفِتَنَ؟ قَالَ: يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا.
79- حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُاللَّهِ بْنُ الصَّقْرِ السُّكَّرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حدَّثنا الْوَلِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي السَّائِبِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: سَتَكُونُ فِتَنٌ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، إِلَّا مَنْ أَحْيَاهُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ.
80- حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ الْمُجَدَّرِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خِرَاشٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ، سَتَكُونُ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ الرَّجُلُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا.
81- حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِالْحَمِيدِ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُالْوَهَّابِ الْوَرَّاقُ قَالَ: أخبرنا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنِ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ - يَعْنِي الثَّوْرِيَّ - عَنْ أَبِي سِنَانٍ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ لِي رَاهِبٌ: يَا سَعِيدُ، فِي الْفِتْنَةِ يَتَبَيَّنُ لَكَ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَمَنْ يَعْبُدُ الطَّاغُوتَ.
الشيخ: نعم، الفتنة تُميز الناس، الفتنة تُميز الناس وتُوضح علمهم وجهلهم، والله المستعان.
الشيخ: في الفتنة يعني، يعني: الذي على بصيرةٍ، ويعبد الله على بصيرةٍ عند الفتن كهجرةٍ إليه؛ لأن الله مَنَّ عليه بالبصيرة والهداية حتى صار على بصيرةٍ، يعبد الله على بصيرةٍ عند اختلاف الناس، وعند جهلهم، والله المستعان.