بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
فقد ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم هذا الحديث الصحيح يدلنا على أن محل النظر والاعتبار القلب والعمل، أما المال والجسم فليس محل الاعتبار وليس محل النظر من الله ؛ لأن المال يعطاه الكافر والمسلم، والجسم يكون قويًّا ويكون ضعيفا، ويكون جميلا ويكون دميما للمسلم والكافر، وإنما الاعتبار بقلبك وعملك، متى صلح قلبك وصلح عملك فزت بالنجاة والسلامة، وكنت في المنزلة العالية عند ربك ، ومتى خبث قلبك وخبث عملك بؤت بالعاقبة الوخيمة وصارت منزلتك عند الله شر منزلة.
فجدير بالمؤمن جدير بمن تعز عليه نفسه أن يعنى بقلبه وعمله، وأن يجتهد في طهارة قلبه وصلاحه، وفي صلاح عمله واستقامته حتى يفوز بالكرامة والعاقبة الحميدة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إن لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. فالإنسان قد يكون جميلا وقد يكون عظيم القوة لكن لا قيمة له لأنه صرف قوته وأعماله في معاصي الله ، وفيما يباعد من رحمته .
وقد يكون كثير المال فيضره ماله لأنه صرف ذلك المال في معاصي الله واتباع الهوى، أما من استعان بالمال والبدن على طاعة الله ورسوله فإنه ينفعه ماله وينفعه بدنه وتنفعه قوته، وهكذا المؤمن يستعين بأمواله وبما أعطاه الله من القوة في طاعة الله واتباع سبيله ونفع عباده فيفوز في العاجل والآجل بالخير العظيم والعاقبة الحميدة.
وطهارة القلب وصلاحه وصلاح العمل له أسباب، فمن أعظم الأسباب العناية بالقرآن الكريم والتدبر لمعانيه والاستفادة منه لأنه أنزل للعمل والاستفادة، لم ينزل ليحفظ في الرفوف والدواليب أو في الصدور فقط، ولكنه أنزل للعمل ليستفاد منه ليتخذ منهجا في هذه الحياة علما وعملا، وهو يدعو إلى كل خير ويهدي إلى الطريق الأقوم كما قال : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، وقال : قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، وقال سبحانه: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]، وقال سبحانه: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155] فكتاب الله فيه الهدى والنور.
فجدير بالمؤمن وجدير بالمؤمنة العناية بهذا الكتاب العظيم والإقبال عليه وتدبر معانيه، ولاسيما في الأوقات المناسبة كآخر الليل وأول النهار وأشباه ذلك من الأوقات المناسبة، يقرأ من المصحف أو عن ظهر قلب ويتدبر ويتعقل حتى يعرف مراد ربه فيبادر بفعل ما أمر الله جل وعلا وينتهي عما نهى الله عنه ، ويقف عند حدود الله يرجو ثوابه ويخشى عقابه.
ومن أعظم أسباب طهارة القلب وصلاحه الإكثار من ذكر الله كالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والاستغفار، هذه من أسباب صلاح القلب أيضا، وهكذا التوبة إلى الله من المعاصي من أعظم أسباب صلاح القلب، فإن المعاصي تمرض القلب وتضعفه وتقسيه، فإذا أكثر العبد من ذكر الله ومن قراءة القرآن وبادر بالتوبة طهر القلب وصلح واستقام أمره، وإذا تابع السيئات أظلم القلب وساءت حاله وقسا، وربما طبع عليه فلا يعقل بعد ذلك معروفا ولا منكرا، نسأل الله العافية، والقلب هو الأساس متى صلح صلح العمل وصلحت الجوارح، ومتى فسد فسد كل شيء، نسأل الله السلامة.
ولهذا في الحديث الصحيح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب فالقلب هو الأساس في صلاحك وفسادك، فمتى أصلح الله قلبك بالعمل الصالح والتقوى والإيمان والتوبة الصادقة والخوف من الله وتعظيمه والشوق إليه جل وعلا والأنس بمناجاته وذكره استقامت أحوالك وصلحت أعمالك، ومتى خبث القلب بالنفاق والشرك والكبر والخيلاء والإعراض عن الله والغفلة عن دينه ساءت الحال وخبثت الأعمال.
يروى عن لقمان الحكيم أنه كان عبدا مملوكا وأن سيده أمره أن يذبح شاة ويأتيه بأخبث ما فيها فذبحها وأتاه بالقلب واللسان، ثم أمره في وقت آخر أن يذبح شاة ويأتيه بأصلح ما فيها فذبحها وأتاه بالقلب واللسان، فقال له سيده: قلت لك أعطني أخبث ما في الحيوان فأتيت بالقلب واللسان، وقلت لك أعطني أحسن ما فيها فأتيت لي بالقلب واللسان، فقال له لقمان: نعم يا سيدي، إن القلب واللسان هما أصلح شيء وهما أخبث شيء، فهما أصلح شيء في الإنسان إذا صلحا، وأخبث شيء في الإنسان إذا خبثا، وقد صدق لقمان، فالحديث الصحيح يدل على ما قال، واللسان تابع للقلب فمتى صلح القلب استقام اللسان واستقامت الجوارح، ومتى خبث القلب خبث اللسان وخبثت الجوارح.
فالواجب على كل عاقل وعلى كل مسلم بالأخص أن يعنى بقلبه ولسانه وسائر أعماله، وأن يحرص كل الحرص على أسباب طهارة القلب وصلاحه من تدبر القرآن الكريم والإكثار من ذكر الله والتوبة إليه كما تقدم، ومن صحبة الأخيار الذين يعينونه على طاعة الله ويحذر صحبة الأشرار، ومن الاستكثار من طاعة الله من الصلوات والصدقات وسائر وجوه الخير، فإنها من أعظم أسباب صلاح القلب وطهارته، وعليه أن يحذر غاية الحذر ما يفسد القلب ويمرضه ويسبب قسوته وظلمته وهي المعاصي والسيئات، فالمعاصي من أسباب ظلمة القلب وانتكاسه وفساده.
فالواجب عليك أيها العاقل أيها الرجل، وهكذا أيها النساء الواجب على الجميع العناية بالقلب واللسان والعمل والصدق في ذلك، فمتى صلح القلب بمحبة الله والثناء عليه وخوفه ورجائه والإخلاص له وإيثار الآخرة صلحت الأعمال واستقام اللسان، ومتى انحرف القلب عن محبة الله وعن طاعته وعن ذكر الآخرة وعمر بالكبر والخيلاء والشرك والنفاق والعياذ بالله انحرف اللسان وانحرفت الجوارح.
والله المسؤول سبحانه أن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يهدينا وسائر المسلمين صراطه المستقيم، وأن يعيذنا وسائر إخواننا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه سميع قريب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وأصحابه وأتباعه بإحسان.