06 من قوله: (والحق: أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن من كلام الله حقيقة)

وَالْحَقُّ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْقُرْآنَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَنَاهَى، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَا شَاءَ إِذَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ.

الشيخ: هذا هو الحق، كلام الله التوراة والإنجيل والزبور، كلام الله - جلَّ وعلا  -يتكلم إذا شاء، وكلامه يليق به ، ولا يُشابه كلام البشر - جلَّ وعلا.

وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27].

وَلَوْ كَانَ مَا فِي الْمُصْحَفِ عِبَارَةً عَنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ، لَمَا حَرُمَ عَلَى الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ مَسُّهُ، وَلَوْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ الْقَارِئُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ لَمَا حَرُمَ عَلَى الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ قِرَاءَتُهُ، بَلْ كَلَامُ اللَّهِ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ، مَقْرُوءٌ بِالْأَلْسُنِ، مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا حَقِيقَةٌ.

الشيخ: هو كلام الله مكتوبًا ومحفوظًا ومقروءًا، هو كلام الله مكتوبًا في الصحف، ومحفوظًا في الصدور، ومقروءًا باللسان، ومسموعًا، هو كلام الله فيما يسمعه السَّامعون، وفيما يحفظه الحافظون، وفيما يُكتب في الصحف، كله هو كلام الله جلَّ وعلا في جميع الأحوال، أما الصوت فهو صوت القارئ، لكن الملفوظ به والمتكلم به إذا قرأ القرآن هو كلام الله، المقروء هو القرآن، والمحفوظ في الصدور هو القرآن، والمسموع الذي يسمعه من القُراء هو القرآن، هو كلام الله مقروءًا ومسموعًا ومحفوظًا في الصدور، ومكتوبًا في المصاحف.

س: ...........؟

ج: هذه ما تُؤمن؛ لأنه جرى فيها من التَّحريف والتَّصحيف، ما يُؤمنون؛ لأنهم حرَّفوا الكلام عن مواضعه.

وَإِذَا قِيلَ: المكتوب في المصحف كلام الله، فُهِمَ مِنْهُ مَعْنًى صَحِيحٌ حَقِيقِيٌّ، وَإِذَا قِيلَ: فيه خطُّ فلانٍ وكتابته فُهم منه معنًى صحيح حقيقي، وإذا قيل: فِيهِ مِدَادٌ قَدْ كُتِبَ بِهِ، فُهِمَ مِنْهُ مَعْنًى صَحِيحٌ حَقِيقِيٌّ، وَإِذَا قِيلَ: الْمِدَادُ فِي الْمُصْحَفِ، كَانَتِ الظَّرْفِيَّة.

الشيخ: كل هذا واضح، الكتابة لها معنى، المداد له معنى، الصوت له معنى، نعم، المقصود هو الكلام نفسه مكتوبًا أو مقروءًا أو مسموعًا، هو كلام الله، أما المداد والحبر – حبرنا - والصوت - صوت القارئ - والسطر فمخلوق، الذي فيه مخلوق، وهكذا، نعم.

وَإِذَا قِيلَ: الْمِدَادُ فِي الْمُصْحَفِ، كَانَتِ الظَّرْفِيَّةُ فِيهِ غَيْرَ الظَّرْفِيَّةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: فِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَفِيهِ مُحَمَّدٌ وَعِيسَى، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ مُغَايِرَانِ لِمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: فِيهِ خَطُّ فُلَانٍ الْكَاتِبِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ مُغَايِرَةٌ لِمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: فِيهِ كَلَامُ اللَّهِ. وَمَنْ لَمْ يَتَنَبَّهْ لِلْفُرُوقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي ضَلَّ وَلَمْ يَهْتَدِ لِلصَّوَابِ، وَكَذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ الَّتِي هِيَ فِعْلُ الْقَارِئِ، وَالْمَقْرُوءِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْبَارِي، مَنْ لَمْ يَهْتَدِ لَهُ فَهُوَ ضَالٌّ أَيْضًا، وَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا وَجَدَ فِي وَرَقَةٍ مَكْتُوبًا: "أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ .." مِنْ خَطِّ كَاتِبٍ مَعْرُوفٍ، لَقَالَ: هَذَا مِنْ كَلَامِ لَبِيدٍ حَقِيقَةً، وَهَذَا خَطُّ فُلَانٍ حَقِيقَةً، وَهَذَا كُلُّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، وَهَذَا حبرٌ حَقِيقَةً، وَلَا تَشْتَبِهُ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ بِالْأُخْرَى.

الشيخ: نعم، مثل شعر الشعراء وغيرهم، مثلما يقال في شعر الشعراء: "ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل" هذا من كلام لبيد، وهو شعره، والحبر الحبر، والورقة الورقة، والكاتب الكاتب، غير بيت الشاعر.

وَالْقُرْآنُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ، فَتَارَةً يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْقِرَاءَةُ، قَالَ تَعَالَى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وَقَالَ ﷺ: زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ، وَتَارَةً يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَقْرُوءُ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204].

وَقَالَ ﷺ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.

الشيخ: ومقصود المؤلف من هذا الرد على المعتزلة والجهمية الذين شبَّهوا على الناس وقالوا: القرآن ليس كلام الله، بل هو مخلوق! هذا من أبطل الباطل، ومن الكفر والضَّلال، فالقرآن كلام الله، وإن كان يُحفظ في الصدور، ويُكتب في المصاحف، فهذا لا يُخرجه عن كونه كلام الله، مثلما أن شعر زيدٍ أو عمرو وكلام فلانٍ وفلانٍ ما يخرج عن كونه كلامه، إذا كُتب أو حُفظ فهو كلامه، وهو مخلوق، فكلام الله هو كلامه وإن حفظناه في الصدور، وإن كتبناه في الصحف، وإن سمعناه من القارئ، لا يخرج بهذا عن كونه كلام الله.

فَالْحَقَائِقُ لَهَا وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَذِهْنِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ، وَلَكِنَّ الْأَعْيَانَ تُعْلَمُ، ثُمَّ تُذْكَرُ، ثُمَّ تُكْتَبُ، فَكِتَابَتُهَا فِي الْمُصْحَفِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُصْحَفِ وَاسِطَةٌ، بَلْ هُوَ الَّذِي يُكْتَبُ بِلَا وَاسِطَة ذهنٍ وَلَا لِسَانٍ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِهِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ، أَوْ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ: وَاضِحٌ.

فَقَوْلُهُ عَنِ الْقُرْآنِ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء:196]، أَيْ: ذِكْرَهُ وَوَصْفَهُ وَالْإِخْبَارَ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ، إِذِ الْقُرْآنُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، لَمْ يُنْزِلْهُ عَلَى غَيْرِهِ أَصْلًا، وَلِهَذَا قَالَ: فِي الزُّبُرِ، وَلَمْ يَقُلْ: فِي الصُّحُفِ، وَلَا فِي الرَّقِّ؛ لِأَنَّ الزُّبُرَ جَمْعُ زَبُورٍ، وَالزُّبُرَ هُوَ الْكِتَابَةُ وَالْجَمْعُ، فَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَيْ: مَزْبُورِ الْأَوَّلِينَ، فَفِي نَفْسِ اللَّفْظِ وَاشْتِقَاقِهِ مَا يُبَيِّنُ الْمَعْنَى الْمُرَادَ، وَيُبَيِّنُ كَمَالَ بَيَانِ الْقُرْآنِ وَخُلُوصِهِ مِنَ اللَّبْسِ.

وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ [الأعراف:157] أَيْ: ذِكْرَهُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3] أوَ لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:22] أوَ كِتَابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:78]؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الظَّرْفِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْعَامَّةِ، مِثْلَ: الْكَوْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالْحُصُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ يُقَدَّرُ: مَكْتُوبٌ فِي كِتَابٍ، أَوْ فِي رَقٍّ.

وَالْكِتَابُ: تَارَةً يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ مَحَلُّ الْكِتَابَةِ، وَتَارَةً يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ الْمَكْتُوبُ.

وَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كِتَابَةِ الْكَلَامِ فِي الْكِتَابِ، وَكِتَابَةِ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ فِيهِ، فَإِنَّ تِلْكَ إِنَّمَا يُكْتَبُ ذِكْرُهَا، وَكُلَّمَا تَدَبَّرَ الْإِنْسَانُ هَذَا الْمَعْنَى وَضَحَ لَهُ الْفَرْقُ.

وَحَقِيقَةُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْخَارِجِيَّةُ: هِيَ مَا يُسْمَعُ مِنْهُ أَوْ مِنَ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ، فَإِذَا سَمِعَهُ السَّامِعُ عَلِمَهُ وَحَفِظَهُ، فَكَلَامُ اللَّهِ مَسْمُوعٌ لَهُ، مَعْلُومٌ، مَحْفُوظٌ، فَإِذَا قَالَهُ السَّامِعُ فَهُوَ مَقْرُوءٌ لَهُ مَتْلُوٌّ، فَإِنْ كَتَبَهُ فَهُوَ مَكْتُوبٌ لَهُ مَرْسُومٌ.

وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ، وَالْمَجَازُ يَصِحُّ نَفْيُهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ، وَلَا: مَا قَرَأَ الْقَارِئُ كَلَامَ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة:6]، وَهُوَ لَا يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يَسْمَعُهُ مِنْ مُبَلِّغِهِ عَنِ اللَّهِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: أَنَّ الْمَسْمُوعَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ: حَتَّى يَسْمَعَ مَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ. وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ، وَمَنْ قَالَ: "إِنَّ الْمَكْتُوبَ فِي الْمَصَاحِفِ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ، أَوْ حِكَايَةُ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَيْسَ فِيهَا كَلَامُ اللَّهِ" فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَسَلَفَ الْأُمَّةِ، وَكَفَى بِذَلِكَ ضَلَالًا.

الشيخ: والمقصود بذلك الرد على مَن قال: إنه معنى قائم بالله، وإلا فهذا حكاية أو عبارة هذا باطل؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - في "الواسطية" - الشيخ تقي الدين: ولا يجوز أن يُقال: إنه عبارة أو حكاية عن كلام الله، بل هو نفس كلام الله القرآن مقروءًا ومحفوظًا ومكتوبًا، فالذي يُسمع من القارئ هو كلام الله، والذي يُكتب هو كلام الله، والذي يُحفظ هو كلام الله؛ ولهذا قال: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة:6]، وقال: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [الفتح:15]، نفس القرآن المسموع هو كلام الله، واللفظ لفظ القارئ.

س: .............؟

ج: هذا كلام ابن كلاب وجماعة، وهذا غلط هذا.

س: ............؟

ج: أنكروا كلام الله في الحقيقة؛ لأنَّ معناه أنَّ هذا الذي بين أيدينا ما هو بكلام الله، يعني: كلام في نفسه فقط، وأن هذا عبارة عنه، وهذا باطل، بل هذا هو نفس كلام الله القرآن.

س: الحكم فيمَن نفى صفة الكلام لله؟

ج: حكمه الكفر، مُكذِّب لله؛ وصفه بأنه لا يتكلم، وصفه بأنه أبكم، نسأل الله العافية.

س: مَن قال أنه مجاز؟

ج: كذلك كله باطل، هو كلام الله حقيقةً.

س: الأشاعرة يقولون ذلك؟

ج: يقال أنهم يقولون ذلك، يقولون أنه حكاية عن كلام الله وعبارة، وابن كلاب يقول: إنه معنى قائم بالله، كله باطل، هو كلام الله: حروفه ومعانيه.

وَكَلَامُ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يُتَصَوَّرُ سَمَاعُهُ مِنْهُ، وَأَنَّ الْمَسْمُوعَ الْمُنَزَّلَ الْمَقْرُوءَ الْمَكْتُوبَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ، فَإِنَّ الطَّحَاوِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ -: كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَا. وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ، وَيَقُولُونَ: مِنْهُ بَدَا، وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَإِنَّمَا قَالُوا: مِنْهُ بَدَا؛ لِأَنَّ الْجَهْمِيَّةَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ خَلَقَ الْكَلَامَ فِي مَحَلٍّ، فَبَدَا الْكَلَامُ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ. فَقَالَ السَّلَفُ: مِنْهُ بَدَا، أَيْ: هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ، فَمِنْهُ بَدَا، لَا مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ.

الشيخ: وهذا هو الحق، منه بدأ وإليه يعود، لم يخلق في غيره، لو خُلق في غيره صار كلام غيره، ما صار كلامه، الكلام يُنسب إلى مَن صدر منه، وإذا خلقه في حيوانٍ أو في صخرةٍ أو في كذا صار كلامه، ما صار كلام الله، فهو كلام الله منه بدأ وإليه يعود سبحانه وتعالى، خاطب به نبيَّه عليه الصلاة والسلام: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ [ص:29].

كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1]، وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة:13]، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل:102].

الشيخ: "من" للابتداء: مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ يعني: ابتدأ منه سبحانه وتعالى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت:2] بدأ منه جلَّ وعلا.

وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: "وَإِلَيْهِ يَعُودُ" يُرْفَعُ مِنَ الصُّدُورِ وَالْمَصَاحِفِ، فَلَا يَبْقَى فِي الصُّدُورِ مِنْهُ آيَةٌ وَلَا فِي الْمَصَاحِفِ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ آثَارٍ.

الشيخ: يعني في آخر الزمان يُرفع القرآن من الصحف والصدور، وهو من علامات الساعة؛ رفع القرآن من صدور الناس ومن صُحفهم، فلا يبقى في الصدور شيء، ولا في الصحف شيء.

وقَوْلُهُ: "بِلَا كَيْفِيَّةٍ" أَيْ: لَا تُعْرَفُ كَيْفِيَّةُ تَكَلُّمِهِ بِهِ قَوْلًا لَيْسَ بِالْمَجَازِ، وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا، أَيْ: أَنْزَلَهُ إِلَيْهِ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ، فَسَمِعَهُ الْمَلَكُ جِبْرِيلُ مِنَ اللَّهِ، وَسَمِعَهُ الرَّسُولُ محمد ﷺ مِنَ الْمَلَكِ، وَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا [الإسراء:106]، وَقَالَ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ۝ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ۝ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:193- 195]، وَفِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ صِفَةِ الْعُلُوِّ لِلَّهِ تَعَالَى.

وَقَدْ أُورِدَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ نَظِيرُ إِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَإِنْزَالِ الْحَدِيدِ، وَإِنْزَالِ ثَمَانِيَةِ أَزْوَاجٍ مِنَ الْأَنْعَامِ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ فِيهِ مَذْكُورٌ أَنَّهُ إِنْزَالٌ مِنَ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: حم ۝ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غافر:1- 2]، وَقَالَ تَعَالَى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1]، وَقَالَ تَعَالَى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت:2]، وَقَالَ تَعَالَى: تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ۝ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ۝ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان:3- 5]، وَقَالَ تَعَالَى: فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [القصص:49]، وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام:114]، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل:102].

وَإِنْزَالُ الْمَطَرِ مُقَيَّدٌ بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّمَاءِ، قَالَ تَعَالَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [الأنعام:99]، وَالسَّمَاءُ: الْعُلُوُّ. وَقَدْ جَاءَ فِي مَكَانٍ آخَرَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ الْمُزْنِ، وَالْمُزْنُ: السَّحَابُ. وَفِي مَكَانٍ آخَرَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ الْمُعْصِرَاتِ.

وَإِنْزَالُ الْحَدِيدِ وَالْأَنْعَامِ مُطْلَقٌ، فَكَيْفَ يَشْتَبِهُ هَذَا الْإِنْزَالُ بِهَذَا الْإِنْزَالِ، وَهَذَا الْإِنْزَالُ بِهَذَا الْإِنْزَالِ؟!

فَالْحَدِيدُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْمَعَادِنِ الَّتِي فِي الْجِبَالِ، وَهِيَ عَالِيَةٌ عَلَى الْأَرْضِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ مَعْدِنُهُ أَعْلَى كَانَ حَدِيدُهُ أَجْوَدَ.

وَالْأَنْعَامُ تُخْلَقُ بِالتَّوَالُدِ الْمُسْتَلْزِمِ إِنْزَالَ الذُّكُورِ الْمَاءَ مِنْ أَصْلَابِهَا إِلَى أَرْحَامِ الْإِنَاثِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: أَنْزَلَ، وَلَمْ يقل: "نَزَّلَ"، ثُمَّ الْأَجِنَّةُ تَنْزِلُ مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ إِلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَنْعَامَ تَعْلُو فُحُولُهَا إِنَاثَهَا عِنْدَ الْوَطْءِ، وَيَنْزِلُ مَاءُ الْفَحْلِ مِنْ عُلْوٍ إِلَى رَحِمِ الْأُنْثَى، وَتُلْقِي وَلَدَهَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ.

الشيخ: المقصود من هذا أمر واضح؛ نزول القرآن هو كلام الله، أخبر أنه كلامه، ونزل منه - جلَّ وعلا -: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1]، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت:2]، فهو كلامه - جلَّ وعلا، وأخبر أنه كلامه، أما نزول الحديد ونزول الأنعام ونزول المطر فهذا بأمره - جلَّ وعلا -: أنزل المطر على العباد مخلوقًا لهم، وأنزل الحديد من الجبال مخلوقًا لهم، وأنزل الأنعام مما يحصل من نزو الذكور على الإناث، وعبَّر بعضُهم بمعنى خلقها، والمعنى واحد، فالناس يُشاهدونها مخلوقة موجودة، فليس هذا من جنس إنزال القرآن، فالقرآن كلامه، نزل منه، منه بدأ وإليه يعود: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت:2]، فالقرآن كلامه، نزل منه - جلَّ وعلا - ابتداءً، وإليه ينتهي في آخر الزمان، يُنزع من الصحف ومن الصدور.

والله - جلَّ وعلا - بيَّن أنه كلامه: قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة:6]، يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [الفتح:15]، ويقول ﷺ في أحاديثه لما بايع الأنصارَ: أنه يريد الهجرة إليهم؛ لأنَّ قريشًا منعته أن يُبلغ كلام ربه، فالله - جلَّ وعلا - أبان أنه كلامه، وأنه صادر منه، كما أنه موصوف بالرحمة والعزة والسمع والبصر والعلو، إلى غير ذلك، فهكذا الكلام هو كلامه سبحانه وتعالى، كلَّم محمدًا ﷺ، وكلَّم موسى، وأنزل الكتب على الأنبياء، وآخرهم وأفضلهم هذا الكتاب العظيم: القرآن.

وَعَلَى هَذَا فَيحْتَملُ قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ [الزمر:6] وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِبَيَانِ الْجِنْسِ.

الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ.

وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ يُحْتَمَلَانِ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا [الشورى:11].

وَقَوْلُهُ: (وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا) الْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّكَلُّمِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَإِنْزَالِهِ، أَيْ: هَذَا قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَهُمُ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَأَنَّ هَذَا حَقٌّ وَصِدْقٌ.

الشيخ: وهكذا درج المسلمون على ذلك، وأنه كلام الله، خلافًا للجهمية والمعتزلة ومَن سار في ركابهم ممن أنكر صفات الله وزعم أنَّ القرآن مخلوقٌ، وأن الله لا يتكلم، هذا من أبطل الباطل، وهذا معناه نسبة الله إلى الخرس، وأنه لا يتكلم، هذا من أقبح التنقص، نسأل الله العافية، والله - جلَّ وعلا - وصف نفسه بصفات الكمال: الرحمن الرحيم، العزيز الحكيم، السميع البصير، الرزاق، ذو القوة المتين، فله الصفات الكاملة، وله الأسماء الحسنى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، فهو سبحانه ذو الصِّفات العظيمة، والأسماء الحسنة الكريمة، ومن ذلك صفة الكلام.

وَقَوْلُهُ: (وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ، لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلَامِ الْبَرِيَّةِ) رَدُّهُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ بِهَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ.

وَفِي قَوْلِهِ: (بِالْحَقِيقَةِ) رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَامَ بِذَاتِ اللَّهِ، لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ الْكَلَامُ النَّفْسَانِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ النَّفْسَانِيُّ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ: أَنَّ هَذَا كَلَامٌ حَقِيقَةً.

الشيخ: وهذا هو الحق؛ أنه كلام نزل منه، ليس هو الكلام النفسي المعنوي .....، بل هو كلام يتكلم الله به، وسمعه نبيه ﷺ، وألقاه إلى الناس، وبلَّغه الناس، كما سمع موسى كلامه، وسمع منه التَّوراة.

وَإِلَّا لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْأَخْرَسُ مُتَكَلِّمًا، وَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هُوَ الْقُرْآن وَلَا كَلَام اللَّهِ، وَلَكِنْ عِبَارَة عَنْهُ، لَيْسَتْ هِيَ كَلَامَ اللَّهِ، كَمَا لَوْ أَشَارَ أَخْرَسُ إِلَى شَخْصٍ بِإِشَارَةٍ فَهِمَ بِهَا مَقْصُودَهُ، فَكَتَبَ ذَلِكَ الشَّخْصُ عِبَارَتَهُ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَخْرَسُ، فَالْمَكْتُوبُ هُوَ عِبَارَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَهَذَا الْمَثَلُ مُطَابِقٌ غَايَةَ الْمُطَابَقَةِ لِمَا يَقُولُونَهُ.

الشيخ: ولهذا قال أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله - في "الواسطية": ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة، بل هو كلام الله حقيقةً: حروفه ومعانيه، ليس كلام الله حروفًا دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف، بل هو كلام الله حرفًا ومعنًى، لفظًا ومعنًى، ومَن قال من الخوارج أو المعتزلة أو الكلابية أو غيرهم ممن سار على هذا المنهج الضَّال فقد غلط وضلَّ عن السبيل وكفر بإنكاره كلام الله ، نسأل الله العافية.

وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُسَمِّيهِ أَحَدٌ: أَخْرَسَ، لَكِنْ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَلَكَ فَهِمَ مِنْهُ مَعْنًى قَائِمًا بِنَفْسِهِ، لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ حَرْفًا وَلَا صَوْتًا، بَلْ فَهِمَ مَعْنًى مُجَرَّدًا، ثُمَّ عَبَّرَ عَنْهُ، فَهُوَ الَّذِي أَحْدَثَ نَظْمَ الْقُرْآنِ وَتَأْلِيفَهُ الْعَرَبِيَّ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ - كَالْهَوَاء الَّذِي هُوَ دُونَ الْمَلَكِ - هَذِهِ الْعِبَارَةَ.

وَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ "إِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ": هَلْ سَمِعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَمِيعَ الْمَعْنَى أَوْ بَعْضَهُ؟ فَإِنْ قَالَ: سَمِعَهُ كُلَّهُ، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ جَمِيعَ كَلَامِ اللَّهِ، وَفَسَادُ هَذَا ظَاهِرٌ.

الشيخ: وقد ردَّ الله عليهم بقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، أكَّد ذلك: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا للتأكيد ونفي الشبهة والرد على المبطلين.

وَإِنْ قَالَ: بَعْضَهُ، فَقَدْ قَالَ: يَتَبَعَّضُ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ أَوْ أَنْزَلَ إِلَيْهِ شَيْئًا مِنْ كَلَامِهِ.

وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، وَلَمَّا قَالَ لَهُمْ. اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة:34]، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ: هَلْ هَذَا جَمِيعُ كَلَامِهِ أَوْ بَعْضُهُ؟ فَإِنْ قَالَ: إِنَّهُ جَمِيعُهُ، فَهَذَا مُكَابَرَةٌ، وَإِنْ قَالَ: بَعْضُهُ، فَقَدِ اعْتَرَفَ بِتَعَدُّدِهِ.

وَلِلنَّاسِ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا، كَمَا يَتَنَاوَلُ لَفْظُ "الْإِنْسَانِ" الرُّوحَ وَالْبَدَنَ مَعًا، وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ.

الثَّانِي: اسْمٌ لِلَفْظٍ فَقَطْ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ، بَلْ هُوَ مَدْلُولُ مُسَمَّاهُ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَعْنَى فَقَطْ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّفْظِ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ كِلَابٍ وَمَنِ اتَّبَعَهُ.

الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْكِلَابِيَّةِ، وَلَهُمْ قَوْلٌ خَامِسٌ يُرْوَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ: أَنَّهُ مَجَازٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ، حَقِيقَةٌ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ؛ لِأَنَّ حُرُوفَ الْآدَمِيِّينَ تَقُومُ بِهِمْ، فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ قَائِمًا بِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ، بِخِلَافِ كَلَامِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ عِنْدَهُ بِاللَّهِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَهُ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.

وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الْأَخْطَلِ:

إِنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلَا

فَاسْتِدْلَالٌ فَاسِدٌ، وَلَوِ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ بِحَدِيثٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَقَالُوا: هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ! وَيَكُونُ مِمَّا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَصْدِيقِهِ وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَكَيْفَ وَهَذَا الْبَيْتُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأَخْطَلِ، وَلَيْسَ هُوَ فِي دِيوَانِهِ؟! وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ: "إِنَّ الْبَيَانَ لَفِي الْفُؤَادِ"، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الصِّحَّةِ.

وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ عَنْهُ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، فَإِنَّ النَّصَارَى قَدْ ضَلُّوا فِي مَعْنَى الْكَلَامِ، وَزَعَمُوا أَنَّ عِيسَى نَفْسُ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَاتَّحَدَ اللَّاهُوتُ بِالنَّاسُوتِ! أَيْ: شَيْءٌ مِنَ الْإِلَهِ بِشَيْءٍ مِنَ النَّاسِ! أَفَيُسْتَدَلُّ بِقَوْلِ نَصْرَانِيٍّ قَدْ ضَلَّ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى الْكَلَامِ، وَيُتْرَكُ مَا يُعْلَمُ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ؟!

وَأَيْضًا فَمَعْنَاهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ إِذْ لَازِمُهُ أَنَّ الْأَخْرَسَ يُسَمَّى: مُتَكَلِّمًا؛ لِقِيَامِ الْكَلَامِ بِقَلْبِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ، وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنَّمَا أُشِيرُ إِلَيْهِ إِشَارَةً.

وَهُنَا مَعْنًى عَجِيبٌ، وَهُوَ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَهُ شَبَهٌ قَوِيٌّ بِقَوْلِ النَّصَارَى الْقَائِلِينَ بِاللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: كَلَامُ اللَّهِ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِذَاتِ اللَّهِ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ سَمَاعُهُ، وَأَمَّا النَّظْمُ الْمَسْمُوعُ فَمَخْلُوقٌ، فَإِفْهَامُ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ بِالنَّظْمِ الْمَخْلُوقِ يُشْبِهُ امْتِزَاجَ اللَّاهُوتِ بِالنَّاسُوتِ الَّذِي قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الشَّبَهِ مَا أَعْجَبَهُ!

وَيَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْكَلَامَ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ: قَوْلُهُ ﷺ: إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَامِدًا لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ تَصْدِيقٍ بِأُمُورٍ دُنْيَوِيَّةٍ وَطَلَبٍ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَإِنَّمَا يُبْطِلُهَا التَّكَلُّمُ بِذَلِكَ، فَعُلِمَ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَلَامٍ.

وَأَيْضًا فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ.

الشيخ: وهذا من لطفه سبحانه: إنَّ الله تجاوز لأمتي عمَّا حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم، فالإنسان قد يُوسوس ويقع في قلبه شيء، فالله - جلَّ وعلا - عفا عن هذا ما لم يتكلم أو يعمل، وهو دليل على أنَّ ما يكون في النفوس ما يُسمَّى: كلامًا، الكلام: ما يتكلم به الإنسان وينطق به، أما في النفوس فليس بكلامٍ، إنما هو وساوس وعزم، والله سمَّى كتابه: كلامًا، وسمَّى وحيَه لنبيه: كلامًا، فهو كلام الله: حروفه ومعانيه، فهو سبحانه الحكيم العليم يتكلم من أمره بما يشاء جلَّ وعلا؛ ولهذا يقول في آخر الليل - جلَّ وعلا -: هل من سائلٍ فيُعطى سُؤله؟ هل من مُستغفرٍ فيُغفر له؟ هذا كلامه - جلَّ وعلا -: هل من تائبٍ فيُتاب عليه؟، وهو القائل: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] .

فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ إِلَّا أَنْ تَتَكَلَّمَ، فَفَرَّقَ بَيْنَ حَدِيثِ النَّفْسِ وَبَيْنَ الْكَلَامِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ بِهِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهِ، وَالْمُرَادُ: حَتَّى يَنْطِقَ بِهِ اللِّسَانُ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

الشيخ: والمعنى: لو جاء في خاطره أنه يُطلق أو يعتق أو يتكلم بشيءٍ: غيبة أو غيرها، ما يُؤخذ بها حتى ينطق، فلو جاء في نفسه شيء: عزم أنه يُطلق، أو عزم أن يُطلق عبيده، أو عزم أن يغتاب فلانًا، أو يسبَّ فلانًا، ولكن لم يتكلم؛ لم يُؤاخذ بهذا حتى ينطق بما في قلبه، أو يعمل عملًا يدل على ما في قلبه، وإلا فالله - جلَّ وعلا  -يتجاوز عمَّا في النفوس، وهذا من فضله - جلَّ وعلا -، ومن إحسانه سبحانه وتعالى: إنَّ الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت بها أنفسها ما لم تعمل أو تكلم، ما دام وسواسًا، أما إذا كان عمل: كالخوف والرجاء والمحبَّة والإخلاص؛ فهذا يُؤجر عليه العبد، كما أن الضدَّ من النِّفاق يأثم به العبد بقلبه، أعمال القلب مُؤاخذ بها، أما الوسواس لا.

فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا خَاطَبَنَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ.

وَأَيْضًا فَفِي السُّنَنِ: أَنَّ مُعَاذًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ بِاللِّسَانِ، فَلَفْظُ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُمَا مِنْ فِعْلٍ مَاضٍ وَمُضَارِعٍ وَأَمْرٍ وَاسْمِ فَاعِلٍ - إِنَّمَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَسَائِرِ كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا كَانَ لَفْظًا وَمَعْنًى.

وَلَمْ يَكُنْ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ نِزَاعٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَإِنَّمَا حَصَلَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْبِدَعِ، ثُمَّ انْتَشَرَ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُسَمَّى الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَنَحْوِهِمَا لَيْسَ هُوَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى قَوْلِ شَاعِرٍ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَكَلَّمَ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَعَرَفُوا مَعْنَاهُ، كَمَا عَرَفُوا مُسَمَّى الرَّأْسِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ تَعَالَى، وَإِنَّ الْمَتْلُوَّ الْمَحْفُوظَ الْمَكْتُوبَ الْمَسْمُوعَ مِنَ الْقَارِئِ حِكَايَةُ كَلَامِ اللَّهِ، وَهُوَ مَخْلُوقٌ. فَقَدْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فِي الْمَعْنَى وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء:88]، أَفَتُرَاهُ يُشِيرُ إِلَى مَا فِي نَفْسِهِ أَوْ إِلَى الْمَتْلُوِّ الْمَسْمُوعِ؟!

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِنَّمَا هِيَ إِلَى هَذَا الْمَتْلُوِّ الْمَسْمُوعِ، إِذْ مَا فِي ذَاتِ اللَّهِ غَيْرُ مُشَارٍ إِلَيْهِ، وَلَا مُنَزَّلٍ، وَلَا مَتْلُوٍّ، وَلَا مَسْمُوعٍ.

وَقَوْلُهُ: لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أَفَتُرَاهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِ مَا فِي نَفْسِي مِمَّا لَمْ يَسْمَعُوهُ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ؟! وَمَا فِي نَفْسِ الْبَارِي لَا حِيلَةَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَلَا إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ.

فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا أَشَارَ إِلَى حِكَايَةِ مَا فِي نَفْسِهِ وَعِبَارَتِهِ، وَهُوَ الْمَتْلُوُّ الْمَكْتُوبُ الْمَسْمُوعُ، فَأَمَّا أَنْ يُشِيرَ إِلَى ذَاتِهِ فَلَا. فَهَذَا صَرِيحُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، بَلْ هُمْ فِي ذَلِكَ أَكْفَرُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّ حِكَايَةَ الشَّيْءِ مِثْلُه وَشَبَهه، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ مَحْكِيَّةٌ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ التِّلَاوَةُ حِكَايَةً لَكَانَ النَّاسُ قَدْ أَتَوْا بِمِثْلِ كَلَامِ اللَّهِ، فَأَيْنَ عَجْزُهُمْ؟! وَيَكُونُ التَّالِي - فِي زَعْمِهِمْ - قَدْ حَكَى بِصَوْتٍ وَحَرْفٍ مَا لَيْسَ بِصَوْتٍ وَحَرْفٍ.