13 من قوله: (والمعراج حق)

قَوْلُهُ: (وَالْمِعْرَاجُ حَقٌّ، وَقَدْ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ فِي الْيَقَظَةِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعُلَا، وَأَكْرَمَهُ اللَّهُ بِمَا شَاءَ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11].

الشيخ: وهذا بإجماع المسلمين، أجمع المسلمون على أنَّ الله عرج بنبيه إلى السماء، وأسرى به إلى بيت المقدس بإجماع المسلمين، وفرض عليه الصَّلوات الخمس حين عرج به إلى السماء، وجاوز به السبع الطباق عليه الصلاة والسلام حتى انتهى إلى موضع فوق السماء السابعة.

فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى).

(الْمِعْرَاجُ): مِفْعَالٌ، مِنَ الْعُرُوجِ، أَيِ: الْآلَةِ الَّتِي يُعْرَجُ فِيهَا، أَيْ: يُصْعَدُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السُّلَّمِ، لَكِنْ لَا يُعْلَمُ كَيْفَ هُوَ، وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ، نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَشْتَغِلُ بِكَيْفِيَّتِهِ.

الشيخ: ثبت عنه ﷺ أنَّ الله عرج به على ظهر البراق مع جبرائيل، واستفتح السماوات ومعه جبرائيل على البراق.

وَقَوْلُهُ: (وَقَدْ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ فِي الْيَقَظَةِ) اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْإِسْرَاءِ:

فَقِيلَ: كَانَ الْإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ وَلَمْ يُفْقَدْ جَسَدُهُ. نَقْلَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَنَقَلَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوَهُ.

لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ: كَانَ الْإِسْرَاءُ مَنَامًا، وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ: كَانَ بِرُوحِهِ دُونَ جَسَدِهِ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ عَظِيمٌ؛ فَعَائِشَةُ وَمُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمْ يَقُولَا: كَانَ مَنَامًا، وَإِنَّمَا قَالَا: أُسْرِيَ بِرُوحِهِ وَلَمْ يُفْقَدْ جَسَدُهُ. وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؛ إِذْ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ قَدْ يَكُونُ أَمْثَالًا مَضْرُوبَةً لِلْمَعْلُومِ فِي الصُّورَةِ الْمَحْسُوسَةِ، فَيَرَى كَأَنَّهُ قَدْ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَذُهِبَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَرُوحُهُ لَمْ تَصْعَدْ وَلَمْ تَذْهَبْ، وَإِنَّمَا مَلَكُ الرُّؤْيَا ضَرَبَ لَهُ الْمِثَالَ، فَمَا أَرَادَا أَنَّ الْإِسْرَاءَ مَنَامًا، وَإِنَّمَا أَرَادَا أَنَّ الرُّوحَ ذَاتَهَا أُسْرِيَ بِهَا، فَفَارَقَتِ الْجَسَدَ ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ، وَيَجْعَلَانِ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ.

الشيخ: والحق أنه أُسري بجسده ﷺ وروحه على البراق إلى بيت المقدس، ثم إلى السماء، يقظةً لا منامًا، هذا الذي عليه جمهور أهل العلم، وهو العقيدة الصَّحيحة: أن الله أسرى بجسده يقظةً لا منامًا إلى بيت المقدس، ثم إلى السماء، حتى عرج به إلى السماوات، واستفتح السماوات كلها ومعه جبرائيل، حتى جاوز السابعة، ثم كلَّمه الله جلَّ وعلا وفرض عليه الصَّلوات الخمس خمسين، فلم يزل يُراجع ربَّه حتى جعلها خمسًا سبحانه، فضلًا منه وإحسانًا، ونادى منادٍ في السماء: إني قد أمضيتُ فريضتي وخفَّفتُ عن عبادي.

فَإِنَّ غَيْرَهُ لَا تَنَالُ ذَاتُ رُوحِهِ الصُّعُودَ الْكَامِلَ إِلَى السَّمَاءِ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَقِيلَ: كَانَ الْإِسْرَاءُ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً يَقَظَةً، وَمَرَّةً مَنَامًا.

وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ كَأَنَّهُمْ أَرَادُوا الْجَمْعَ بَيْنَ حَدِيثِ شَرِيكٍ وَقَوْلِهِ: «ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ» وَبَيْنَ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ.

وَكَذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ كَانَ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً قَبْلَ الْوَحْيِ، وَمَرَّةً بَعْدَهُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: مَرَّةً قَبْلَ الْوَحْيِ، وَمَرَّتَيْنِ بَعْدَهُ.

وَكُلَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ لَفْظٌ زَادُوا مَرَّةً لِلتَّوْفِيقِ! وَهَذَا يَفْعَلُهُ ضُعَفَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَإِلَّا فَالَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ النَّقْلِ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً بِمَكَّةَ بَعْدَ الْبِعْثَةِ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، وَقِيلَ: بِسَنَةٍ وَشَهْرَيْنِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.

قَالَ شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ الْقَيِّمِ: يَا عَجَبًا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ مِرَارًا! كَيْفَ سَاغَ لَهُمْ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ تُفْرَضُ عَلَيْهِمُ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ، ثُمَّ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ رَبِّهِ وَبَيْنَ مُوسَى حَتَّى تَصِيرَ خَمْسًا، فَيَقُولُ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي، ثُمَّ يُعِيدُهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ إِلَى خَمْسِينَ، ثُمَّ يَحُطُّهَا إِلَى خَمْسٍ؟!

الشيخ: يعني هذا كله غلط مثلما قال ابنُ القيم - رحمه الله - الصواب أنه مرة واحدة أُسري به إلى بيت المقدس، ثم عُرج به إلى السماء، وفرض الله عليه الصَّلوات الخمس خمسين، ثم لم يزل يتردد بين موسى وبين ربه حتى جعلها خمسًا، هذا هو الحقّ الذي عليه جمهورُ أهل العلم، جمهور أهل النقل وأئمة الحديث أنه مرة واحدة فقط من مكة قبل الهجرة، أُسري به من مكة قبل الهجرة على البراق إلى بيت المقدس، ثم عُرج به إلى السماء، واستفتح له جبرائيل في السَّماوات السبع، وقابل فيها آدم في السماء الدنيا، وعيسى ويحيى في السماء الدنيا، ويوسف في السماء الثالثة، وإدريس في السماء الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة عليهم الصلاة والسلام، وأسمعه الله كلامه - جلَّ وعلا - حتى خفَّف عن أمته وجعلها خمسًا بدل خمسين، رحمةً منه وفضلًا منه ، ومَن أدَّى الخمس واتَّقى ربَّه في ذلك كتب الله له أجر الخمسين، الحسنة بعشر أمثالها وتضاعف.

وَقَدْ غَلَّطَ الْحُفَّاظُ شَرِيكًا فِي أَلْفَاظٍ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، وَمُسْلِمٌ أَوْرَدَ الْمُسْنَدَ مِنْهُ.

الشيخ: في رواية شريك: ثم استيقَظْتُ، وهي وهم من شريك، وإنما عُرج به يقظةً لا منامًا.

وَمُسْلِمٌ أَوْرَدَ الْمُسْنَدَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: فَقَدَّمَ وَأَخَّرَ وَزَادَ وَنَقَصَ، وَلَمْ يَسْرُدِ الْحَدِيثَ، وَأَجَادَ رَحِمَهُ اللَّهُ. انْتَهَى كَلَامُ الشَّيْخِ شَمْس الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ.

وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: أَنَّهُ ﷺ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، رَاكِبًا عَلَى الْبُرَاقِ، صُحْبَةَ جِبْرِيلَ ، فَنَزَلَ هُنَاكَ، صَلَّى بِالْأَنْبِيَاءِ إِمَامًا، وَرَبَطَ الْبُرَاقَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْمَسْجِدِ.

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ نَزَلَ بَيْتَ لَحْمٍ وَصَلَّى فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ.

ثُمَّ عُرِجَ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ لَهُ جِبْرِيلُ، فَفُتِحَ لَهُمَا، فَرَأَى هُنَاكَ آدَمَ أَبَا الْبَشَرِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَحَّبَ بِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ.

الشيخ: رحَّب به وقال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، هكذا آدم رحَّب بابنه محمدٍ: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، والبقية قالوا: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح، ما عدا إبراهيم قال: بالنبي الصالح والابن الصالح، فآدم وإبراهيم: بالابن الصالح والنبي الصالح، وأما عيسى ويحيى ويوسف وإدريس وهارون وموسى فرحَّبوا به قائلين: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح.

س: ............؟

ج: بيَّن أنها فوق الحمار ودون الفرس، خطوه عند منتهى طرفه، سرعة زائدة، الله أكبر.

فَاسْتَفْتَحَ لَهُ، فَرَأَى فِيهَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَلَقِيَهُمَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، فَرَدَّا عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَرَحَّبَا بِهِ، وَأَقَرَّا بِنُبُوَّتِهِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَرَأَى فِيهَا يُوسُفَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَرَحَّبَ بِهِ، وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَرَأَى فِيهَا إِدْرِيسَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَرَحَّبَ بِهِ، وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَرَأَى فِيهَا هَارُونَ بْنَ عِمْرَانَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَرَحَّبَ بِهِ، وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَلَقِيَ فِيهَا مُوسَى، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَرَحَّبَ بِهِ، وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، فَلَمَّا جَاوَزَهُ بَكَى مُوسَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي.

ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَلَقِيَ فِيهَا إِبْرَاهِيمَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَرَحَّبَ بِهِ، وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، ثُمَّ رُفِعَ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ رُفِعَ لَهُ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، فَدَنَا مِنْهُ حَتَّى كَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، وَفَرَضَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً، فَرَجَعَ حَتَّى مَرَّ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قَالَ: بِخَمْسِينَ صَلَاةً، فَقَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَالْتَفَتَ إِلَى جَبْرَائِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَعَلَا بِهِ جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَهُوَ فِي مَكَانِهِ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي "صَحِيحِهِ".

وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ: فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرًا، ثُمَّ نَزَلَ حَتَّى مَرَّ بِمُوسَى فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ مُوسَى وَبَيْنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَتَّى جَعَلَهَا خَمْسًا، فَأَمَرَهُ مُوسَى بِالرُّجُوعِ وَسُؤَالِ التَّخْفِيفِ، فَقَالَ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، وَلَكِنْ أَرْضَى وَأُسَلِّمُ، فَلَمَّا نَفَذَ نَادَى مُنَادٍ: قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي.

وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي رُؤْيَتِهِ ﷺ رَبَّهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ رَآهُ بِقَلْبِهِ.

الشيخ: وهذا هو الصواب؛ أنه رآه بقلبه لا بعينه، أما العين فلا يراه أحدٌ في الدنيا، وإنما هو في الآخرة؛ ولهذا لما سُئل قال عليه الصلاة والسلام: نور أنَّى أراه؟ وقال: رأيتُ نورًا، وصحَّ عنه ﷺ أنه قال: واعلموا أنه لن يرى أحدٌ منكم ربَّه حتى يموت، فهو يُرى يوم القيامة، وفي الجنة يراه المؤمنون، أما في الدنيا فلا يراه أحدٌ، لما طلب موسى الرؤية .......: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا، قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف:143]، ما يقوم لرؤيته في الدنيا أحدٌ .

وَلَمْ يَرَهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ، وَقَوْلُهُ: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13]، صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ هَذَا الْمَرْئِيَّ جِبْرِيلُ، رَآهُ مَرَّتَيْنِ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا.

الشيخ: يعني: جبرائيل: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ۝ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ۝ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ۝ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ۝ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى هذا جبرائيل عليه الصلاة والسلام: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى يعني: جبرائيل فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ۝ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ يعني: إلى عبدالله مَا أَوْحَى ۝ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ۝ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ۝ وَلَقَدْ رَآهُ يعني: رأى جبرائيل نَزْلَةً أُخْرَى ۝ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ۝ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ۝ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ۝ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى كل هذا في جبرائيل، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:1- 18].

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّجْمِ: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:8] فَهُوَ غَيْرُ الدُّنُوِّ وَالتَّدَلِّي الْمَذْكُورَيْنِ فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ، فَإِنَّ الَّذِي فِي سُورَةِ النَّجْمِ هُوَ دُنُوّ جِبْرِيل وَتَدَلِّيهِ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنَّهُ قَالَ: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ۝ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ۝ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ۝ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:5- 8]، فَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى هَذَا الْمُعَلِّمِ الشَّدِيدِ الْقُوَى.

وَأَمَّا الدُّنُوُّ وَالتَّدَلِّي الَّذِي فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: فَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ دُنُوُّ الرَّبِّ تَعَالَى وَتَدَلِّيهِ.

وَأَمَّا الَّذِي فِي سُورَةِ النَّجْمِ: أَنَّهُ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَهَذَا هُوَ جِبْرِيلُ، رَآهُ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً فِي الْأَرْضِ، وَمَرَّةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاءَ بِجَسَدِهِ فِي الْيَقَظَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء:1]، وَالْعَبْدُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.

الشيخ: ومثلما قال سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ [الكهف:1] يعني: محمدًا، فالعبد هو الروح والجسد: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1] يعني: جسده وروحه، وهذا مثل قوله - جلَّ وعلا -: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] يعني: بجسده وروحه، يقظةً لا منامًا.

فَيَكُونُ الْإِسْرَاءُ بِهَذَا الْمَجْمُوعِ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَقْلًا، وَلَوْ جَازَ اسْتِبْعَادُ صُعُودِ الْبَشَرِ لَجَازَ اسْتِبْعَادُ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِنْكَارِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ كُفْرٌ.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي الْإِسْرَاءِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلًا؟

فَالْجَوَابُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ إِظْهَارًا لِصِدْقِ دَعْوَى الرَّسُولِ ﷺ الْمِعْرَاجَ حِينَ سَأَلَتْهُ قُرَيْشٌ عَنْ نَعْتِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَنَعَتَهُ لَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ عِيرِهِمُ الَّتِي مَرَّ عَلَيْهَا فِي طَرِيقِهِ، وَلَوْ كَانَ عُرُوجُهُ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ مَكَّةَ لَمَا حَصَلَ ذَلِكَ، إِذْ لَا يُمْكِنُ اطِّلَاعُهُمْ عَلَى مَا فِي السَّمَاءِ لَوْ أَخْبَرَهُمْ عَنْهُ، وَقَدِ اطَّلَعُوا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَخْبَرَهُمْ بِنَعْتِهِ.

وَفِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ صِفَةِ الْعُلُوِّ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الشيخ: وأدلة العلو لا تُحصى كثرةً، لا تُحصى من القرآن والسنة، كلها دالَّة على علو الله - جلَّ وعلا - وأنه فوق العرش، والعروج من الأرض إلى السماء دليل على العلو، وأنه فوق جلَّ وعلا، كما قال تعالى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ۝ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا [المعارج:4- 5]، وهكذا قوله - جلَّ وعلا -: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، وقوله في قصة عيسى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، وقوله - جلَّ وعلا -: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر:12]، "سبحان ربي الأعلى"، سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1] شيء لا يُحصر، وقوله - جلَّ وعلا -: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، إلى غير هذا.

وقد أجمع أهلُ السنة والجماعة على علوه وفوقيته، وهم أصحاب النبي ﷺ وأتباعهم بإحسانٍ، كما جاءت بهذا الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهو فوق العرش، فوق جميع الخلق - جلَّ وعلا.

قَوْلُهُ: (وَالْحَوْضُ الَّذِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ غِيَاثًا لِأُمَّتِهِ حَقٌّ).

الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذِكْرِ الْحَوْضِ تَبْلُغُ حَدَّ التَّوَاتُرِ، رَوَاهَا مِنَ الصَّحَابَةِ بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ صَحَابِيًّا، وَلَقَدِ اسْتَقْصَى طُرُقَهَا شَيْخُنَا الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ ابْنُ كَثِيرٍ - تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ - فِي آخِرِ تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ الْمُسَمَّى بِـ"الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ".

الشيخ: وهذا الحوض في عرصات القيامة، ترده أمته، يرده المؤمنون، طوله شهر، وعرضه شهر، يرده المؤمنون، ويصب فيه ميزابان من الجنة.

فَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى صَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ، وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الْأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ.

وَعَنْهُ أَيْضًا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي، حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمُ اخْتَلَجُوا دُونِي، فَأَقُولُ: أُصَيْحَابِي! فَيَقُولُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَغْفَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِغْفَاةً، فَرَفَعَ رَأْسَهُ مُبْتَسِمًا، إِمَّا قَالَ لَهُمْ، وَإِمَّا قَالُوا لَهُ: لِمَ ضَحِكْتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّهُ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ، فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: هُوَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّي فِي الْجَنَّةِ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدَ الْكَوَاكِبِ، يَخْتَلِجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ.

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ: هُوَ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْبَاقِي مِثْلُهُ.

وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَشْخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنْ ذَلِكَ الْكَوْثَرِ إِلَى الْحَوْضِ، وَالْحَوْضُ فِي الْعَرَصَاتِ قَبْلَ الصِّرَاطِ؛ لِأَنَّهُ يُخْتَلَجُ عَنْهُ وَيُمْنَعُ مِنْهُ أَقْوَامٌ قَدِ ارْتَدُّوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ لَا يُجَاوِزُونَ الصِّرَاطَ.

الشيخ: وهذا دليل على أنَّ المرتدين ليسوا من أمته، خرجوا عن أمته وعن دينه، الذين ارتدوا بعد وفاته ﷺ وقاتلهم الصحابةُ منهم مَن أسلم، ومنهم مَن قُتل على ردَّته، يُذادون عن حوضه ولا يشربون لردَّتهم؛ ولهذا يُقال له: إنهم لم يزالوا مُرتدين منذ فارقتهم، ويُذادون عن حوضه عليه الصلاة والسلام، ولا يرده إلا المؤمنون.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، وَالْفَرَطُ: الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى الْمَاءِ.

الشيخ: يعني: يتقدمهم ﷺ، أول مَن يرد على الماء، وبعده أمته ترد عليه، وهذا الحوض طوله شهر، وعرضه شهر في الأرض، يصب فيه ميزابان من الكوثر من الجنة، الله يجعلنا وإياكم ممن يرده.

س: ..............؟

ج: نعم، إلا مَن ارتدَّ، إلا المرتدين.

س: ..............؟

ج: أمة الدَّعوة، كل الدنيا أمته، كل بني آدم أمته الذين بعد مبعثه ﷺ، الذين يُذادون من أمة الدَّعوة، يُذاد من أمته يعني: أمة الدَّعوة الذين لم يقبلوا الهدى وارتدُّوا.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَنِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ.

قَالَ أَبُو حَازِمٍ: فَسَمِعَنِي النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ وَأَنَا أُحَدِّثُهُمْ هَذَا، فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتَ مِنْ سَهْلٍ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَزِيدُ: فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنْ أُمَّتِي، فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَقَالَ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي.

سُحْقًا: أَيْ بُعْدًا.

وَالَّذِي يَتَلَخَّصُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ: أَنَّهُ حَوْضٌ عَظِيمٌ، وَمَوْرِدٌ كَرِيمٌ، يُمَدُّ مِنْ شَرَابِ الْجَنَّةِ، مِنْ نَهْرِ الْكَوْثَرِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الِاتِّسَاعِ، عَرْضُهُ وَطُولُهُ سَوَاءٌ، كُلُّ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ مَسِيرَةُ شَهْرٍ.

وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: أَنَّهُ كُلَّمَا شُرِبَ مِنْهُ وَهُوَ فِي زِيَادَةٍ وَاتِّسَاعٍ، وَأَنَّهُ يَنْبُتُ فِي حَالٍ مِنَ الْمِسْكِ وَالرَّضْرَاضِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ قُضْبَانَ الذَّهَبِ، وَيُثْمِرُ أَلْوَانَ الْجَوَاهِرِ، فَسُبْحَانَ الْخَالِقِ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ: إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا، وَإِنَّ حَوْضَ نَبِيِّنَا ﷺ أَعْظَمُهَا وَأَحْلَاهَا وَأَكْثَرُهَا وَارِدًا. جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ أَبُو عَبْدِاللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي "التَّذْكِرَةِ": وَاخْتُلِفَ فِي الْمِيزَانِ وَالْحَوْضِ: أَيُّهُمَا يَكُونُ قَبْلَ الْآخَرِ؟ فَقِيلَ: الْمِيزَانُ. وَقِيلَ: الْحَوْضُ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَوْضَ قَبْلُ.

الشيخ: هذا هو الظاهر؛ لأنهم يردونه، يخرجون عطاشًا، الناس يخرجون من قبورهم عطاشًا إلى الماء، في حاجةٍ، فيرده المؤمنون حتى يطمئنوا ويرتاحوا بهذا الشرب العظيم قبل الميزان، وقبل أن تُوزع الكتب.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْمَعْنَى يَقْتَضِيهِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَخْرُجُونَ عِطَاشًا مِنْ قُبُورِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيُقَدَّمُ قَبْلَ الْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ.

قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ "كَشْفِ عِلْمِ الْآخِرَةِ": حَكَى بَعْضُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ التَّصْنِيفِ أَنَّ الْحَوْضَ يُورَدُ بَعْدَ الصِّرَاطِ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ كَمَا قَالَ. ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِكَ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، بَلْ فِي الْأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ، أَرْضٍ بَيْضَاءَ كَالْفِضَّةِ، لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ، وَلَمْ يُظْلَمْ عَلَى ظَهْرِهَا أَحَدٌ قَطُّ، تَظْهَرُ لِنُزُولِ الْجَبَّارِ جَلَّ جَلَالُهُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ. انْتَهَى.

فَقَاتَلَ اللَّهُ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ الْحَوْضِ، وَأَخْلِقْ بِهِمْ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ وُرُودِهِ يَوْمَ الْعَطَشِ الْأَكْبَرِ.