الشيخ: هذا هو الواجب؛ تحكيم الكتاب والسنة، والأخذ بالدليل، وما خالف ذلك من الآراء والاقتراحات وغير ذلك يُنظر فيه ويفصل، فما وافق الحقَّ قُبِلَ، وما لا فلا؛ لأنَّ آراء الرجال -ولا سيما آراء المتكلمين واصطلاحاتهم- فيها الحقُّ والباطل، فما وافق الحقَّ قُبِلَ، وما خالفه رُدَّ على قائله، كما قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، وقال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10].
وَهَذَا مِثْلُ لَفْظِ: الْمُرَكَّبِ وَالْجِسْمِ وَالْمُتَحَيِّزِ وَالْجَوْهَرِ وَالْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ وَالْعَرَضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَمْ تَأْتِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُرِيدُهُ أَهْلُ الِاصْطِلَاحِ، بَلْ وَلَا فِي اللُّغَةِ، بَلْ هُمْ يَخْتَصُّونَ بِالتَّعْبِيرِ بِهَا عَنْ مَعَانٍ لَمْ يُعَبِّرْ غَيْرُهُمْ عَنْهَا بِهَا، فَتُفَسَّرُ تِلْكَ الْمَعَانِي بِعِبَارَاتٍ أُخَرَ، وَيُنْظَرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ، وَإِذَا وَقَعَ الِاسْتِفْسَارُ وَالتَّفْصِيلُ تَبَيَّنَ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ.
مِثَالُ ذَلِكَ فِي التَّرْكِيبِ، فَقَدْ صَارَ لَهُ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: التَّرْكِيبُ مِنْ مُتَبَايِنَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَيُسَمَّى: تَرْكِيبَ مَزْجٍ: كَتَرْكِيبِ الْحَيَوَانِ مِنَ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ وَالْأَعْضَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَنْفِيٌّ عَنِ اللَّهِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعُلُوِّ وَنَحْوِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا بِهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ.
وَالثَّانِي: تَرْكِيبُ الْجِوَارِ: كَمِصْرَاعَيِ الْبَابِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا مِنْ ثُبُوتِ صِفَاتِهِ تَعَالَى إِثْبَاتُ هَذَا التَّرْكِيبِ.
الثَّالِثُ: التَّرْكِيبُ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَمَاثِلَةِ، وَتُسَمَّى: الْجَوَاهِرَ الْمُفْرَدَةَ.
الرَّابِعُ: التَّرْكِيبُ مِنَ الْهَيُولَى وَالصُّورَةِ: كَالْخَاتَمِ مَثَلًا، هَيُولَاهُ الْفِضَّةُ، وَصُورَتُهُ مَعْرُوفَةٌ.
وَأَهْلُ الْكَلَامِ قَالُوا: إِنَّ الْجِسْمَ يَكُونُ مُرَكَّبًا مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ، وَلَهُمْ كَلَامٌ فِي ذَلِكَ يَطُولُ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّهُ: هَلْ يُمْكِنُ التَّرْكِيبُ مِنْ جُزْأَيْنِ، أَوْ مِنْ أَرْبَعَةٍ، أَوْ مِنْ سِتَّةٍ، أَوْ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ؟
وَلَيْسَ هَذَا التَّرْكِيبُ لَازِمًا لِثُبُوتِ صِفَاتِهِ تَعَالَى وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْجِسْمَ غَيْرُ مُرَكَّبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنَّمَا قَوْلُهُمْ مُجَرَّدُ دَعْوَى، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.
الْخَامِسُ: التَّرْكِيبُ مِنَ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، هُمْ سَمَّوْهُ تَرْكِيبًا لِيَنْفُوا بِهِ صِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ مِنْهُمْ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ، وَلَا فِي اسْتِعْمَالِ الشَّارِعِ، فَلَسْنَا نُوَافِقُهُمْ عَلَى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ وَلَا كَرَامَةَ، وَلَئِنْ سَمَّوْا إِثْبَاتَ الصِّفَاتِ تَرْكِيبًا فَنَقُولُ لَهُم: الْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ، سَمُّوهُ مَا شِئْتُمْ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّسْمِيَةِ بِدُونِ الْمَعْنَى حُكْمٌ! فَلَوِ اصْطُلِحَ عَلَى تَسْمِيَةِ اللَّبَنِ خَمْرًا، لَمْ يَحْرُمْ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ.
السَّادِسُ: التَّرْكِيبُ مِنَ الْمَاهِيَّةِ وَوُجُودِهَا.
الشيخ: والمقصود من هذا أنَّ الواجب تنزيه الله عن كلِّ ما يُشابه المخلوقين، وأن الألفاظ المجملة المحتملة لا يجوز إطلاقها على الله ، بل يجب أن يُوصَف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله ﷺ، أما ما يتعاطاه أصحابُ الكلام من الإجمالات في الألفاظ فهذا هو عين الباطل؛ لأن الله جلَّ وعلا مُنَزَّهٌ عن مُشابهة خلقه في كل شيءٍ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، والألفاظ التي ما جاء بها الشرعُ يجب تركها، واستعمال ما جاء به الشرع من الألفاظ، فهو سبحانه وصف نفسه بالصِّفات التي تليق به، ونزَّه نفسه عن مُشابهة المخلوقين، فيجب أن يُستعمل ما وصف به نفسه.
الشيخ: وأما إذا قيل: مُنزَّه عن الجسم أو عن الحيز أو عن الجوهر أو عن كذا أو كذا فهذا يُفضي إلى التَّعطيل، لكن يُنزَّه عن مُشابهة المخلوقين، هو ذات قائمة بنفسها، له الأسماء الحسنى، وله الصِّفات العُلا، مُنَزَّه عن جميع ما يختص به المخلوق.
الشيخ: لأنَّ الله سبحانه موصوفٌ بالذات والصِّفات، فهو سبحانه موصوف بالذات والصِّفات، فهو ذات قائمة بنفسها، مُنَزَّه عن مشابهة المخلوقين، لها صفاتها من العلم والحكمة والبصر والقوة والقدرة والكمال، يغضب ويرضى، ويأمر وينهى، فيجب أن تثبت له الصِّفات التي بيَّنها في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ على وجهٍ لا يُشابه فيها أحدًا من خلقه جلَّ وعلا.
فَتَرَى أَهْلَ الْكَلَامِ يَقُولُونَ: هَلْ ذَاتُ الرَّبِّ وُجُودُهُ أَمْ غَيْرُ وُجُودِهِ؟ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ خَبْطٌ كَثِيرٌ، وَأَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً رَأْيُ الْوَقْفِ وَالشَّكِّ فِي ذَلِكَ، وَكَمْ زَالَ بِالِاسْتِفْسَارِ وَالتَّفْصِيلِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَضَالِيلِ وَالْأَبَاطِيلِ.
وَسَبَبُ الْإِضْلَالِ: الْإِعْرَاضُ عَنْ تَدَبُّرِ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِكَلَامِ الْيُونَانِ وَالْآرَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَؤُلَاءِ: أَهْلَ الْكَلَامِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفِيدُوا عِلْمًا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا، وَإِنَّمَا أَتَوْا بِزِيَادَةِ كَلَامٍ قَدْ لَا يُفِيدُ، وَهُوَ مَا يَضْرِبُونَهُ مِنَ الْقِيَاسِ لِإِيضَاحِ مَا عُلِمَ بِالْحِسِّ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقِيَاسُ وَأَمْثَالُهُ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمَعَ مَنْ يُنْكِرُ الْحِسَّ.
وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِرَأْيِهِ وَذَوْقِهِ وَسِيَاسَتِهِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، أَوْ عَارَضَ النَّصَّ بِالْمَعْقُولِ فَقَدْ ضَاهَى إِبْلِيسَ، حَيْثُ لَمْ يُسَلِّمْ لِأَمْرِ رَبِّهِ، بَلْ قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، وَقَالَ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80].
الشيخ: سمّوا أهل الكلام لكثرة كلامهم، فليس عندهم إلا الكلام، أعرضوا عن النصوص، وابتُلوا بالكلام، فقيل لهم: أهل الكلام؛ لأنهم شُغلوا بالكلام والقيل والقال، وضيَّعوا الأصول فحُرموا الوصول، والله سبحانه أوجب على عباده أن يتقيَّدوا بشرعه وكتابه وسنة رسوله ﷺ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، ويقول جلَّ وعلا: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف:3]، ويقول: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:155].
فهؤلاء الكلاميون حادوا عن هذا، وجاءوا بكلامٍ من عند أنفسهم يزعمون أنهم يُنَزِّهون به الله، وهم في الحقيقة يُعطلون به صفاته، ويلزم من كلامهم العدم، نسأل الله العافية.
الشيخ: وهذا هو طريق النَّجاة، وهو سبيل السَّعادة لو فقهوا، لو عقلوا: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ويقول سبحانه: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، نصوص الكتاب والسنة واضحة في الرد عليهم، وبيان باطلهم، وقد دخل على كثيرٍ ممن كتب في العقائد كثيرٌ من أباطيلهم، كما دخل على السَّفاريني وغيره في قصيدته النونية المعروفة: "وليس ربنا بجوهرٍ ولا جسم ولا عضو تعالى ذا العلا"، وهذا من الأغلاط التي دخلت عليه.
قَوْلُهُ: (فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، مُوَسْوِسًا تَائِهًا، شَاكًّا، لَا مُؤْمِنًا مُصَدِّقًا، وَلَا جَاحِدًا مُكَذِّبًا).
يَتَذَبْذَبُ: يَضْطَرِبُ وَيَتَرَدَّدُ.
وَهَذِهِ الْحَالَةُ الَّتِي وَصَفَهَا الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ حَالُ كُلِّ مَنْ عَدَلَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَى عِلْمِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعِنْدَ التَّعَارُضِ يَتَأَوَّلُ النَّصَّ وَيَرُدُّهُ إِلَى الرَّأْيِ وَالْآرَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَيَئُولُ أَمْرُهُ إِلَى الْحَيْرَةِ وَالضَّلَالِ وَالشَّكِّ، كَمَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ -وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِمَذَاهِبِ الْفَلَاسِفَةِ وَمَقَالَاتِهِمْ- فِي كِتَابِهِ "تَهَافُتِ التَّهَافُتِ": "وَمَنِ الَّذِي قَالَ فِي الْإِلَهِيَّاتِ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ؟".
وَكَذَلِكَ الْآمِدِيُّ -أَفْضَلُ أَهْلِ زَمَانِهِ- وَاقِفٌ فِي الْمَسَائِلِ الْكِبَارِ حَائِرٌ.
وَكَذَلِكَ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ انْتَهَى آخِرُ أَمْرِهِ إِلَى الْوَقْفِ وَالْحَيْرَةِ فِي الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْ تِلْكَ الطُّرُقِ وَأَقْبَلَ عَلَى أَحَادِيثِ الرَّسُولِ ﷺ، فَمَاتَ وَالْبُخَارِيُّ عَلَى صَدْرِهِ.
وَكَذَلِكَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ، قَالَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي أَقْسَامِ اللَّذَّاتِ:
نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ | وَغَايَةُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ |
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا | وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ |
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا | سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ: قِيلَ وَقَالُوا |
الشيخ: هذه النِّهاية، نسأل الله العافية، هكذا جمعوا قيل وقالوا، هذه النهاية: "نهاية إقدام العقول عقال، وأكثر سعي العالمين ضلال، وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا" هذا كله من أسباب إعراضهم عن الكتاب والسنة، لو استقاموا على الكتاب والسنة صاروا في راحةٍ، وأرواحهم في راحةٍ وفي نعمةٍ، وثبتوا على الحقِّ، وقرَّت عيونهم بذلك، لكن استفادوا قيل وقال، هذا حاصل البحث، نسأل الله العافية.
فَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ رِجَالٍ وَدَوْلَةٍ | فَبَادُوا جَمِيعًا مُسْرِعِينَ وَزَالُوا |
وَكَمْ مِنْ جِبَالٍ قَدْ عَلَتْ شُرُفَاتِهَا | رِجَالٌ، فَزَالُوا وَالْجِبَالُ جِبَالُ |
لَقَدْ تَأَمَّلْتُ الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ، وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ، فَمَا رَأَيْتُهَا تَشْفِي عَلِيلًا، وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا، وَرَأَيْتُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ، اقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، وَاقْرَأْ فِي النَّفْيِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110].
الشيخ: هكذا بعد التَّعب الكثير العاقل يرجع إلى النصوص، إلى الراحة والطُّمأنينة: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ، تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4]، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، إلى غير هذا مما يدل على كماله وعلوه ، وأنه فوق العرش، فوق جميع الخلق، تصعد إليه أعمالنا، وتُرفع إليه أيدينا، وهو على كل شيءٍ قدير، وبكل شيءٍ عليم، ولكن هؤلاء أضلَّهم الشيطانُ عن هذه النصوص، وأرادوا أن يأتوا بشيءٍ من كيسهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الشيخ: هذا حقيقة، مَن جرَّب مثل تجربته عرف، يعني: مَن خاض في هذا ونظر في كلام المتكلمين عرف هذه الحقيقة، والله المستعان.
وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِاللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِالْكَرِيمِ الشَّهْرسْتَانِيُّ: إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَّا الْحَيْرَةَ وَالنَّدَمَ، حَيْثُ قَالَ:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا | وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ |
فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ | عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ |
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ: يَا أَصْحَابَنَا، لَا تَشْتَغِلُوا بِالْكَلَامِ، فَلَوْ عَرَفْتُ أَنَّ الْكَلَامَ يَبْلُغُ بِي إِلَى مَا بَلَغَ مَا اشْتَغَلْتُ بِهِ.
وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: لَقَدْ خُضْتُ الْبَحْرَ الْخِضَمَّ، وَخَلَّيْتُ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَعُلُومَهُمْ، وَدَخَلْتُ فِي الَّذِي نَهَوْنِي عَنْهُ، وَالْآنَ فَإِنْ لَمْ يَتَدَارَكْنِي رَبِّي بِرَحْمَتِهِ فَالْوَيْلُ لِابْنِ الْجُوَيْنِيِّ، وَهَا أَنَا ذَا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي. أَوْ قَالَ: عَلَى عَقِيدَةِ عَجَائِزِ نَيْسَابُورَ.
وَكَذَلِكَ قَالَ شَمْسُ الدِّينِ الْخُسْرَوْشَاهِيُّ -وَكَانَ مِنْ أَجَلِّ تَلَامِذَةِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ- لِبَعْضِ الْفُضَلَاءِ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا، فَقَالَ: مَا تَعْتَقِدُ؟ قَالَ: مَا يَعْتَقِدُهُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ: وَأَنْتَ مُنْشَرِحُ الصَّدْرِ لِذَلِكَ مُسْتَيْقِنٌ بِهِ؟ أَوْ كَمَا قَالَ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: اشْكُر اللَّهَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، لَكِنِّي وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَعْتَقِدُ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَعْتَقِدُ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَعْتَقِدُ، وَبَكَى حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ.
وَلِابْنِ أَبِي الْحَدِيدِ الْفَاضِلِ الْمَشْهُورِ بِالْعِرَاقِ:
فِيكَ يَا أُغْلُوطَةَ الْفِكَرِ | حَارَ أَمْرِي وَانْقَضَى عُمُرِي |
سَافَرَتْ فِيكَ الْعُقُولُ فَمَا | رَبِحَتْ إِلَّا أَذَى السَّفَرِ |
فَلَحَى اللَّهُ الْأُلَى زَعَمُوا | أَنَّكَ الْمَعْرُوفُ بِالنَّظَرِ |
كَذَبُوا إِنَّ الَّذِي ذَكَرُوا | خَارِجٌ عَنْ قُوَّةِ الْبَشَرِ |
وَقَالَ الْخَوْنَجِيُّ عِنْدَ مَوْتِهِ: مَا عَرَفْتُ مِمَّا حَصَّلْتُهُ شَيْئًا سِوَى أَنَّ الْمُمْكِنَ يَفْتَقِرُ إِلَى الْمُرَجّحِ.
ثُمَّ قَالَ: الِافْتِقَارُ وَصْفٌ سَلْبِيٌّ، أَمُوتُ وَمَا عَرَفْتُ شَيْئًا.
وَقَالَ آخَرُ: أَضْطَجِعُ عَلَى فِرَاشِي وَأَضَعُ الْمِلْحَفَةَ عَلَى وَجْهِي، وَأُقَابِلُ بَيْنَ حُجَجِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ وَلَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدِي مِنْهَا شَيْءٌ.
وَمَنْ يَصِل إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَإِلَّا تَزَنْدَقَ، كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ، وَمَنْ طَلَبَ الْمَالَ بِالْكِيميَاءِ أَفْلَسَ، وَمَنْ طَلَبَ غَرِيبَ الْحَدِيثِ كَذَبَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ، وَيُقَالُ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ.
الشيخ: رحمه الله، هكذا ينبغي عقابهم، هو هذا، لكن الله المستعان؛ لأنهم ضيَّعوا الأصول فحُرموا الوصول، فليس لهم إلا هكذا؛ أن يُطاف بهم بالعشائر والبلدان ويُقام عليهم التَّعزير الشَّرعي.
س: ما المقصود بغريب الحديث في قول أبي يوسف؟
ج: يعني الغرائب التي ما هي بصحيحةٍ، ما لها أصل يعني.
وَقَالَ: لَقَدِ اطَّلَعْتُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ عَلَى شَيْءٍ مَا ظَنَنْتُ مُسْلِمًا يَقُولُهُ، وَلَأَنْ يُبْتَلَى الْعَبْدُ بِكُلِّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ -مَا خَلَا الشِّرْكَ بِاللَّهِ- خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُبْتَلَى بِالْكَلَامِ. انْتَهَى.
وَتَجِدُ أَحَدَ هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْمَوْتِ يَرْجِعُ إِلَى مَذْهَبِ الْعَجَائِزِ، فَيُقِرُّ بِمَا أَقَرُّوا بِهِ، وَيُعْرِضُ عَنْ تِلْكَ الدَّقَائِقِ الْمُخَالِفَةِ لِذَلِكَ الَّتِي كَانَ يَقْطَعُ بِهَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُهَا، أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ صِحَّتُهَا، فَيَكُونُونَ فِي نِهَايَاتِهِمْ -إِذَا سَلِمُوا مِنَ الْعَذَابِ- بِمَنْزِلَةِ أَتْبَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَعْرَابِ.
وَالدَّوَاءُ النَّافِعُ لِمِثْلِ هَذَا الْمَرَضِ مَا كَانَ طَبِيبُ الْقُلُوبِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ يَقُولُهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
الشيخ: وهذا يقوله في صلاة الليل، وهذا دعاء عظيم، خرَّجه مسلم في الصحيح: اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحقِّ بإذنك، إنك تهدي مَن تشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ، دعاء عظيم جامع، وكان يستفتح به في صلاة الليل في بعض الأحيان عليه الصلاة والسلام.
الشيخ: يعني: هؤلاء الملائكة مُوكَّلون بأسباب الحياة: جبريل أشرفهم مُوكَّل بالوحي الذي فيه حياة القلوب والحياة السعيدة، وإسرافيل بالنَّفخ في الصور الذي فيه حياة الأبدان وقيام الناس من قبورهم، وميكائيل مُوكَّل بالقطر، هذا فيه حياة العباد والشَّجر والدَّواب، والله المستعان.
قال: اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنك فيه إشارة إلى أنَّ هذه الهداية هي الحياة السعيدة، هي الحياة المثمرة التي بها العاقبة الحميدة والحياة الدائمة في غاية النَّعيم، والله المستعان.