آثار المحبة 08

فَصْلٌ

وَالْمَحَبَّةُ لَهَا آثَارٌ وَتَوَابِعُ وَلَوَازِمُ وَأَحْكَامٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْمُودَةً أَوْ مَذْمُومَةً، نَافِعَةً أَوْ ضَارَّةً، مِنَ الْوَجْدِ وَالذَّوْقِ وَالْحَلَاوَةِ، وَالشَّوْقِ وَالْأُنْسِ، وَالِاتِّصَالِ بِالْمَحْبُوبِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، وَالِانْفِصَالِ عَنْهُ وَالْبُعْدِ عَنْهُ، وَالصَّدِّ وَالْهُجْرَانِ، وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَالْبُكَاءِ وَالْحُزْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهَا وَلَوَازِمِهَا.

وَالْمَحَبَّةُ الْمَحْمُودَةُ هِيَ الْمَحَبَّةُ النَّافِعَةُ الَّتِي تَجْلِبُ لِصَاحِبِهَا مَا يَنْفَعُهُ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ عُنْوَانُ سعادته، وَالضَّارَّةُ هِيَ الَّتِي تَجْلِبُ لِصَاحِبِهَا مَا يَضُرُّهُ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَهِيَ عُنْوَانُ شقاوته.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَيَّ الْعَاقِلَ لَا يَخْتَارُ مَحَبَّةَ مَا يَضُرُّهُ وَيُشْقِيهِ، وَإِنَّمَا يَصْدُرُ ذَلِكَ عَنْ جَهْلٍ وَظُلْمٍ، فَإِنَّ النَّفْسَ قَدْ تَهْوَى مَا يَضُرُّهَا وَلَا يَنْفَعُهَا، وَذَلِكَ مِنْ ظُلْمِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ؛ إِمَّا بِأَنْ تَكُونَ جَاهِلَةً بِحَالِ مَحْبُوبِهَا بِأَنْ تَهْوَى الشَّيْءَ وَتُحِبَّهُ غَيْرَ عَالِمَةٍ بِمَا فِي مَحَبَّتِهِ مِنَ الْمَضَرَّةِ، وَهَذَا حَالُ مَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ.

وَإِمَّا عَالِمَةً بِمَا فِي مَحَبَّتِهِ مِنَ المضرة، لَكِنْ تُؤْثِرُ هَوَاهَا عَلَى عِلْمِهَا، وَقَدْ تَتَرَكَّبُ مَحَبَّتُهَا عَلَى أَمْرَيْنِ: اعْتِقَادٍ فَاسِدٍ، وَهُوَ مَذْمُومٌ، وَهَذَا حَالُ مَنِ اتَّبَعَ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ، فَلَا تَقَعُ الْمَحَبَّةُ الْفَاسِدَةُ إِلَّا مِنْ جَهْلٍ أَوِ اعْتِقَادٍ فَاسِدٍ أَوْ هَوًى غَالِبٍ، أَوْ مَا تَرَكَّبَ مِنْ ذَلِكَ فَأَعَانَ بَعْضُهُ بَعْضًا فَتَنْفُقُ شُبْهَةً وَشَهْوَةً: شُبْهَةً يَشْتَبِهُ بِهَا الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَتُزَيِّنُ لَهُ أَمْرَ الْمَحْبُوبِ، وَشَهْوَةً تَدْعُوهُ إِلَى حُصُولِهِ، فَيَتَسَاعَدُ جَيْشُ الشُّبْهَةِ وَالشَّهْوَةِ عَلَى جَيْشِ الْعَقْلِ وَالْإِيمَانِ، وَالْغَلَبَةُ لِأَقْوَاهُمَا.

وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَتَوَابِعُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَحَبَّةِ لَهُ حُكْمُ مَتْبُوعِهِ، فَالْمَحَبَّةُ النَّافِعَةُ الْمَحْمُودَةُ الَّتِي هِيَ عُنْوَانُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ وَتَوَابِعُهَا كُلُّهَا نَافِعَةٌ لَهُ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَتْبُوعِهَا، فَإِنْ بَكَى نَفَعَهُ، وَإِنْ حَزِنَ نَفَعَهُ، وَإِنْ فَرِحَ نَفَعَهُ، وَإِنِ انْقَبَضَ نَفَعَهُ، وَإِنِ انْبَسَطَ نَفَعَهُ، فَهُوَ يَتَقَلَّبُ فِي مَنَازِلِ الْمَحَبَّةِ وَأَحْكَامِهَا فِي مَزِيدٍ وَرِبْحٍ وَقُربةٍ.

وَالْمَحَبَّةُ الضَّارَّةُ الْمَذْمُومَةُ تَوَابِعُهَا وَآثَارُهَا كُلُّهَا ضَارَّةٌ لِصَاحِبِهَا، مُبْعِدَةٌ لَهُ مِنْ رَبِّهِ، كَيْفَمَا تَقَلَّبَ فِي آثَارِهَا وَنَزَلَ فِي مَنَازِلِهَا فِي خَسَارَةٍ وَبُعْدٍ.

وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ فِعْلٍ تَوَلَّدَ عَنْ طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، فَكُلُّ مَا تَوَلَّدَ مِنَ الطَّاعَةِ فَهُوَ زِيَادَةٌ لِصَاحِبِهَا وَقُرْبَةٌ، وَكُلُّ مَا تَوَلَّدَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ خُسْرَانٌ لِصَاحِبِهِ وَبُعْدٌ، قَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ۝ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [التَّوْبَة:120، 121].

فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: أَنَّ الْمُتَوَلِّدَ عَنْ طَاعَتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ يُكْتَبُ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَأَخْبَرَ فِي الثَّانِيَةِ: أَنَّ أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ الَّتِي بَاشَرُوهَا تُكْتَبُ لَهُمْ أَنْفُسُهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَإِنَّمَا تَوَلَّدَ عَنْهُ فَكُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَالثَّانِي نَفْسُ أَعْمَالِهِمْ فَكُتِبَ لَهُمْ.

فَلْيَتَأَمَّلْ قَتِيلُ الْمَحَبَّةِ هَذَا الْفَصْلَ حَقَّ التَّأَمُّلِ؛ لِيَعْلَمَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ.

سَيَعْلَمُ يَوْمَ الْعَرْضِ أَيَّ بِضَاعَةٍ أَضَاعَ وَعِنْدَ الْوَزْنِ مَا كَانَ حَصَّلَا

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فهذا بحثٌ نفيسٌ كالذي قبله من البحوث العظيمة التي أوردها المؤلفُ في كتابه "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي"، وهو العلامة ابن القيم رحمه الله.

وهذا الكتاب فيه نفائس وعجائب وغرائب وأنواع من البحوث الحسنة، وبيان آثار الذنوب وما تُفضي إليه من الشرور، وبيان آثار الطاعات وما تُفضي إليه من الخيرات.

فالمحبَّة محبتان: محبَّة الحقِّ؛ فما ينشأ عنها كله خير: محبَّة الله، ومحبة رسوله، ومحبة دينه، ما ينشأ عنها من حزنٍ أو خوفٍ من الله، أو رغبةٍ فيما عنده، أو مسارعةٍ إلى الطاعات، أو كفٍّ عن المعاصي كله خير لصاحبه، فالمحبُّ يحرص على فعل ما يُحبه محبوبه، والله يُحب من عباده أن يُطيعوه ويمتثلوا أوامره، وأن ينتهوا عن نواهيه، وأن يدعوا ما يُغضبه، فالمحبُّ هكذا، المحب لله الصادق يجتهد في أداء ما أوجب الله، وفي الحرص على الاشتغال بمحابِّ الله، وفي الحذر مما يكره الله، وبهذا تحصل له السعادة، كما أن المجاهدين في سبيل الله لما كان عملهم صالحًا ناشئًا عن محبة الله صار ما يُصيبهم من ظمأ أو نصبٍ أو مخمصةٍ أو غير ذلك يُكتب لهم عمل صالح؛ لأنه نشأ عن عملهم الصالح وهو الجهاد، فهكذا الإنسان الذي يعمل الصالحات طاعةً لله: من صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وحجٍّ وقراءةٍ وتعليمٍ وغير ذلك، كل ما ينشأ عن هذا من تعبٍ أو مشقةٍ فالله يأجره عليه، ويُثيبه عليه، مع ثوابه على العمل الصالح.

فالحازم هو الذي يجتهد في محبَّة الله ومحبَّة محابِّه، وترك ما نهى عنه، والمسارعة إلى مراضيه، والبعد عن مناهيه، هذا هو المحب الصادق، يقف عند حدود الله، ويُسارع إلى مراضي الله، ويبتعد عن مناهي الله، يرجو ثوابه، ويخشى عقابه، وبهذا تكون له السعادة والعاقبة الحميدة.

وفَّق الله الجميع.

فَصْلٌ

وَكَمَا أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْإِرَادَةَ أَصْلُ كُلِّ فِعْلٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَهِيَ أَصْلُ كُلِّ دِينٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، فَإِنَّ الدِّينَ هُوَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، وَالْمَحَبَّةُ وَالْإِرَادَةُ أَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالدِّينُ هُوَ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ وَالْخُلُقُ، فَهُوَ الطَّاعَةُ اللَّازِمَةُ الدَّائِمَةُ الَّتِي صَارَتْ خُلُقًا وَعَادَةً؛ وَلِهَذَا فُسِّرَ الْخُلُقُ بِالدِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَم:4].

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَعَلَى دِينٍ عَظِيمٍ.

وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ".

وَالدِّينُ فِيهِ مَعْنَى الْإِذْلَالِ وَالْقَهْرِ، وَفِيهِ مَعْنَى الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالطَّاعَةِ؛ فَلِذَلِكَ يَكُونُ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ، كَمَا يُقَالُ: دِنْتُهُ فَدَانَ، أَيْ: قَهَرْتُهُ فَذَلَّ.

قَالَ الشَّاعِرُ:

هُوَ دَانَ الرَّبَابَ إِذْ كَرِهُوا الدِّ ينَ فَأَضْحَوْا بِعِزَّةٍ وَصِيَالِ

وَيَكُونُ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، كَمَا يُقَالُ: دِنْتُ اللَّهَ، وَدِنْتُ لِلَّهِ، وَفُلَانٌ لَا يَدِينُ اللَّهَ دِينًا، وَلَا يَدِينُ اللَّهَ بِدِينٍ، فَدَانَ اللَّهَ: أَيْ أَطَاعَ اللَّهَ وَأَحَبَّهُ وَخَافَهُ، وَدَانَ اللَّهَ: تَخَشَّعَ لَهُ وَخَضَعَ وَذَلَّ وَانْقَادَ.

وَالدِّينُ الْبَاطِنُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْحُبِّ وَالْخُضُوعِ، كَالْعِبَادَةِ سَوَاءً، بِخِلَافِ الدِّينِ الظَّاهِرِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُبَّ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ انْقِيَادٌ وَذُلٌّ فِي الظَّاهِرِ.

وَسَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "يَوْمَ الدِّينِ"؛ فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي يَدِينُ فِيهِ النَّاسُ فِيهِ بِأَعْمَالِهِمْ: إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ جَزَاءَهُمْ وَحِسَابَهُمْ، فَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ وَيَوْمِ الْحِسَابِ.

وَقَالَ تَعَالَى: فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ۝ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الْوَاقِعَة:86، 87] أَيْ: هَلَّا تَرُدُّونَ الرُّوحَ إِلَى مَكَانِهَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَرْبُوبِينَ ولا مَقْهُورِينَ وَلَا مَجْزِيِّينَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، فَإِنَّهَا سِيقَتْ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْحِسَابَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ مُسْتَلْزِمًا لِمَدْلُولِهِ؛ بِحَيْثُ يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ مِنْهُ إِلَى الْمَدْلُولِ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّلَازُمِ، فَيَكُونُ الْمَلْزُومُ دَلِيلًا عَلَى لَازِمِهِ، وَلَا يَجِبُ الْعَكْسُ.

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّهُمْ إِذَا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ فَقَدْ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَأَنْكَرُوا قُدْرَتَهُ وَرُبُوبِيَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ، فَإِمَّا أَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّ لَهُمْ رَبًّا قَاهِرًا مُتَصَرِّفًا فِيهِمْ، كَمَا سَيُمِيتُهُمْ إِذَا شَاءَ، وَيُحْيِيهِمْ إِذَا شَاءَ، وَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ، وَيُثِيبُ مُحْسِنَهُمْ، وَيُعَاقِبُ مُسِيئَهُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُقِرُّوا بِرَبٍّ هَذَا شَأْنُهُ، فَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ آمَنُوا بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَالدِّينِ الْأَمْرِيِّ وَالْجَزَائِيِّ، وَإِنْ أَنْكَرُوهُ كَفَرُوا بِهِ، فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ غَيْرُ مَرْبُوبِينَ، وَلَا مَحْكُومٍ عَلَيْهِمْ، وَلَا لَهُمْ رَبٌّ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَمَا أَرَادَ، فَهَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ الْمَوْتِ عَنْهُمْ إِذَا جَاءَهُمْ، وَعَلَى رَدِّ الرُّوحِ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ.

وَهَذَا خِطَابٌ لِلْحَاضِرِينَ وَهُمْ عِنْدَ الْمُحْتَضِرِ، وَهُمْ يُعَايِنُونَ مَوْتَهُ، أَيْ: فَهَلَّا تَرُدُّونَ الرُّوحَ إِلَى مَكَانِهَا إِنْ كَانَ لَكُمْ قُدْرَةٌ وَتَصَرُّفٌ، وَلَسْتُمْ بِمَرْبُوبِينَ وَلَا بِمَقْهُورِينَ لِقَاهِرٍ قَادِرٍ تَمْضِي عَلَيْكُمْ أَحْكَامُهُ، وَتَنْفُذُ أَوَامِرُهُ؟

وَهَذِهِ غَايَةُ التَّعْجِيزِ لَهُمْ؛ إِذْ بَيَّنَ عَجْزَهُمْ عَنْ رَدِّ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى مَكَانِهَا، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَى ذَلِكَ الثَّقَلَانِ، فَيَا لَهَا مِنْ آيَةٍ دَالَّةٍ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَصَرُّفِهِ فِي عِبَادِهِ، وَنُفُوذِ أَحْكَامِهِ فِيهِمْ، وَجَرَيَانِهَا عَلَيْهِمْ.

وَالدِّينُ دِينَانِ: دِينٌ شَرْعِيٌّ أَمْرِيٌّ، وَدِينٌ حِسَابِيٌّ جَزَائِيٌّ، وَكِلَاهُمَا لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَالدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ أَمْرًا أَوْ جَزَاءً، وَالْمَحَبَّةُ أَصْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الدِّينَيْنِ، فَإِنَّ مَا شَرَعَهُ وَأَمَرَ بِهِ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَمَا نَهَى عَنْهُ فَإِنَّهُ يَكْرَهُهُ وَيُبْغِضُهُ؛ لِمُنَافَاتِهِ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، فَهُوَ يُحِبُّ ضِدَّهُ، فَعَادَ دِينُهُ الْأَمْرِيُّ كُلُّهُ إِلَى مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ.

وَدِينُ الْعَبْدِ لِلَّهِ بِهِ إِنَّمَا يُقْبَلُ إِذَا كَانَ عَنْ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ رَسُولًا، فَهَذَا مَدِينٌ قَائِمٌ بِالْمَحَبَّةِ وَبِسَبَبِهَا شُرِعَ، وَلِأَجْلِهَا شُرِعَ، وَعَلَيْهَا أُسِّسَ، وَكَذَلِكَ دِينُهُ الْجَزَائِيُّ؛ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مُجَازَاةَ الْمُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مَحْبُوبٌ لِلرَّبِّ، فَإِنَّهُمَا عَدْلُهُ وَفَضْلُهُ، وَكِلَاهُمَا مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ صِفَاتِهِ وَأَسْمَاءَهُ، وَيُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدِّينَيْنِ فَهُوَ صِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ۝ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ۝ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هُود:54- 56].

وَلَمَّا عَلِمَ نَبِيُّ اللَّهِ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ رَبَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَمَنْعِهِ وَعَطَائِهِ، وَعَافِيَتِهِ وَبَلَائِهِ، وَتَوْفِيقِهِ وَخِذْلَانِهِ، لَا يَخْرُجُ فِي ذَلِكَ عَنْ مُوجِبِ كَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ: مِنَ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ، وَوَضْعِ الثَّوَابِ مَوَاضِعَهُ، وَالْعُقُوبَةِ فِي مَوْضِعِهَا اللَّائِقِ بِهَا، وَوَضْعِ التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ، كُلُّ ذَلِكَ فِي أَمَاكِنِهِ وَمِحَالِّهِ اللَّائِقَةِ بِهِ، بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَالَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ؛ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ الْعِلْمَ وَالْعِرْفَانَ، إِذْ نَادَى عَلَى رُؤُوسِ الْمَلَأ مِنْ قَوْمِهِ بِجَنَانٍ ثَابِتٍ، وَقَلْبٍ غَيْرِ خَائِفٍ، بَلْ مُتَجَرِّدٍ لِلَّهِ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ۝ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ۝ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هُود:54- 56].

ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ عُمُومِ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، وَذُلِّ كُلِّ شَيْءٍ لِعَظَمَتِهِ، فَقَالَ: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَكَيْفَ أَخَافُ مَنْ نَاصِيَتُهُ بِيَدِ غَيْرِهِ، وَهُوَ فِي قَهْرِهِ وَقَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ دُونَهُ؟! وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ أَجْهَلِ الْجَهْلِ وَأَقْبَحِ الظُّلْمِ؟

ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ في كُلِّ مَا يَقْضِيهِ وَيُقَدِّرُهُ، فَلَا يَخَافُ الْعَبْدُ جَوْرَهُ وَلَا ظُلْمَهُ، فَلَا أَخَافُ مَا دُونَهُ، فَإِنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِهِ، وَلَا أَخَافُ جَوْرَهُ وَظُلْمَهُ، فَإِنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَاضٍ فِي عَبْدِهِ حُكْمُهُ، عَدْلٌ فِيهِ قَضَاؤُهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَلَا يَخْرُجُ فِي تَصَرُّفِهِ فِي عِبَادِهِ عَنِ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ، إِنْ أَعْطَى وَأَكْرَمَ وَهَدَى وَوَفَّقَ فَبِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَإِنْ مَنَعَ وَأَهَانَ وَأَضَلَّ وَخَذَلَ وَأَشْقَى فَبِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي هَذَا وَهَذَا.

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: مَا أَصَابَ عَبْدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ: أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَتَعَلَّمُهُنَّ؟ قَالَ: بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ.

وَهَذَا يَتَنَاوَلُ حُكْمَ الرَّبِّ الْكَوْنِيَّ وَالْأَمْرِيَّ، وَقَضَاءَهُ الَّذِي يَكُونُ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَكِلَا الْحُكْمَيْنِ مَاضٍ فِي عَبْدِهِ، وَكِلَا الْقَضَاءَينِ عَدْلٌ فِيهِ، فَهَذَا الْحَدِيثُ مُشْتَقٌّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، بَيْنَهُمَا أَقْرَبُ نَسَبٍ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فيُبين هنا كما تقدم أنَّ أصل الدين سواء كان صحيحًا أو باطلًا أصله الإرادة والمحبَّة، فكلما تشبث إنسانٌ بشيءٍ محبَّة وإرادة فإن كان صادقًا مُوافقًا للحقِّ فهذا يُثاب على ذلك، وله أجر ذلك، كمحبَّة الله، ومحبة أوليائه، ومحبة ما شرعه لعباده، ولزوم ذلك وإرادته، وإن كان تشبه بغير ذلك: كمحبة الأنداد والأصنام والشرك والمعاصي كان على حسب ذلك.

فالواجب على المؤمن أن تكون محبَّته وإرادته تبعًا لشرع الله، وأن يُجاهد نفسه حتى يكون هواه تابعًا لما جاء به النبيُّ ﷺ، كما في الحديث: لا يُؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به، فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [المائدة:50].

فالواجب على كل مؤمنٍ بل على كل مكلفٍ أن تكون إرادته ومحبَّته وتصرفاته تحت شرع الله؛ يُحب مَن أحبَّه الله، ويُوالي مَن والاه الله، ويكره مَن كرهه الله، ويأمر بما أمر الله به، وينتهي عمَّا نهى الله عنه، ويقف عند حدوده، يرجو ثوابه، ويخشى عقابه، هكذا حتى يلقى ربه، هكذا تكون الإرادة الصادقة والمحبة الصادقة، وهكذا كان نبينا ﷺ؛ كان على خلقٍ عظيمٍ، كانت محبَّته وتصرفاته وأمره ونهيه وكل شيءٍ تابعًا لما يرضاه الله؛ ولهذا قال فيه سبحانه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، قالت عائشة رضي الله عنها: "كان خلقه القرآن"، وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "كان على دينٍ قويمٍ".

فكل مؤمنٍ يستقيم على الهدى فله نصيبه من هذه الآية، ومن تأسيه بنبيه ﷺ، فالخلق العظيم والهدى المستقيم والصراط المستقيم كل ذلك في اتباع شرعه، والعناية بما جاء في القرآن، والاستقامة على ما دلَّ عليه القرآن: أمرًا ونهيًا، وفعلًا وتركًا، ومحبةً وبُغْضًا، إلى غير ذلك، هكذا تكون أحوال المؤمن مع ربِّه، ومع رسوله عليه الصلاة والسلام؛ يرضى ما يرضاه الله، ويريد ما يريده الله شرعًا، ويبغض ما أبغضه الله، ويكره ما كرهه الله، وينقاد لشرع الله أينما كان، ويتباعد عن محارم الله أينما كان، يرجو ثوابه، ويخشى عقابه، مع توكله على الله، واعتماده عليه في كل الأمور، كما قال هود عليه الصلاة والسلام: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56]، وقبلها يقول: فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ۝ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ [هود:55، 56].

فمَن اعتصم بالله، وتوكل عليه، ودان بحقٍّ، واجتهد وثبت عند قوله، ووقف عند الحدود؛ فرَّج الله له همَّه، ويسَّر له أمره، وهداه لصراطه المستقيم: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال:29]، فالخير كله في تقوى الله ومحبَّته، وإرادة ما شرع، وبُغض ما نهى عنه وكراهة ذلك، والاستمرار في هذا، والصدق في هذا.