مفاسد عشق الصور 09

فَصْلٌ

وَنَخْتِمُ الْجَوَابَ بِفَصْلٍ مُتَعَلِّقٍ بِعِشْقِ الصُّوَرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَضْعَافَ مَا ذَكَرَهُ ذَاكِرٌ، فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْقَلْبَ بِالذَّاتِ، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَتِ الْإِرَادَاتُ وَالْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ، وَفَسَدَ ثَغْرُ التَّوْحِيدِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَمَا سَنُقَرِّرُهُ أَيْضًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَاللَّهُ إِنَّمَا حَكَى هَذَا الْمَرَضَ عَنْ طَائِفَتَيْنِ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ اللُّوطِيَّةُ وَالنِّسَاءُ، فَأَخْبَرَ عَنْ عِشْقِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِيُوسُفَ، وَمَا رَاوَدَتْهُ وَكَادَتْهُ بِهِ، وَأَخْبَرَ عَنِ الْحَالِ الَّتِي صَارَ إِلَيْهَا يُوسُفُ بِصَبْرِهِ وَعِفَّتِهِ وَتَقْوَاهُ، مَعَ أَنَّ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ أَمْرٌ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ صَبَّرَهُ اللَّهُ، فَإِنَّ مُوَاقَعَةَ الْفِعْلِ بِحَسَبِ قُوَّةِ الدَّاعِي وَزَوَالِ الْمَانِعِ، وَكَانَ الدَّاعِي هَاهُنَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: مَا رَكَّبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي طَبْعِ الرَّجُلِ مِنْ مَيْلِهِ إِلَى الْمَرْأَةِ، كَمَا يَمِيلُ الْعَطْشَانُ إِلَى الْمَاءِ، وَالْجَائِعُ إِلَى الطَّعَامِ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَصْبِرُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَا يَصْبِرُ عَنِ النِّسَاءِ، وَهَذَا لَا يُذَمُّ إِذَا صَادَفَ حَلَالًا، بَلْ يُحْمَدُ كَمَا فِي كِتَابِ "الزُّهْدِ" لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ عَطِيَّةَ الصِّفَارِ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، أَصْبِرُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَا أَصْبِرُ عَنْهُنَّ.

الثَّانِي: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ شَابًّا، وَشَهْوَةُ الشَّبَابِ وَحِدَّتُهُ أَقْوَى.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ عَزَبًا، لَيْسَ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَا سُرِّيَّةٌ تَكْسِرُ شِدَّةَ الشَّهْوَةِ.

الرَّابِعُ: أَنَّهُ كَانَ فِي بِلَادِ غُرْبَةٍ، يَتَأَتَّى لِلْغَرِيبِ فِيهَا مِنْ قَضَاءِ الْوَطَرِ مَا لَا يَتَأَتَّى لَهُ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَهْلِهِ وَمَعَارِفِهِ.

الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ ذَاتَ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، بِحَيْثُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ يَدْعُو إِلَى مُوَاقَعَتِهَا.

السَّادِسُ: أَنَّهَا غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ وَلَا آبِيَةٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُزِيلُ رَغْبَتَهُ فِي الْمَرْأَةِ إِبَاؤُهَا وَامْتِنَاعُهَا، لِمَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذُلِّ الْخُضُوعِ وَالسُّؤَالِ لَهَا، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَزِيدُهُ الْإِبَاءُ وَالِامْتِنَاعُ إِرَادَةً وَحُبًّا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

وَزَادَنِي كَلَفًا فِي الْحُبِّ أَنْ مَنَعَتْ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الْإِنْسَانِ مَا منعَا

فَطِبَاعُ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَضَاعَفُ حُبُّهُ عِنْدَ بَذْلِ الْمَرْأَةِ وَرَغْبَتِهَا، وَيَضْمَحِلُّ عِنْدَ إِبَائِهَا وَامْتِنَاعِهَا، وَأَخْبَرَنِي بَعْضُ الْقُضَاةِ أَنَّ إِرَادَتَهُ وَشَهْوَتَهُ تَضْمَحِلُّ عِنْدَ امْتِنَاعِ امْرَأَتِهِ أَوْ سُرِّيَّتِهِ وَإِبَائِهَا، بِحَيْثُ لَا يُعَاوِدُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَضَاعَفُ حُبُّهُ وَإِرَادَتُهُ بِالْمَنْعِ؛ فَيَشْتَدُّ شَوْقُهُ كُلَّمَا مُنِعَ، وَيَحْصُلُ لَهُ مِنَ اللَّذَّةِ بِالظَّفَرِ نظيرها ما يحصل من اللَّذة بالظفر بالضدِّ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ وَنِفَارِهِ، وَاللَّذَّةُ بِإِدْرَاكِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ اسْتِصْعَابِهَا، وَشِدَّةِ الْحِرْصِ عَلَى إِدْرَاكِهَا.

السَّابِعُ: أَنَّهَا طَلَبَتْ وَأَرَادَتْ وَبَذَلَتِ الْجُهْدَ، فَكَفَتْهُ مُؤْنَةَ الطَّلَبِ وَذُلَّ الرَّغْبَةِ إِلَيْهَا، بَلْ كَانَتْ هِيَ الرَّاغِبَةَ الذَّلِيلَةَ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْمَرْغُوبُ إِلَيْهِ.

الثَّامِنُ: أَنَّهُ فِي دَارِهَا، وَتَحْتَ سُلْطَانِهَا وَقَهْرِهَا، بِحَيْثُ يَخْشَى إِنْ لَمْ يُطَاوِعْهَا مِنْ أَذَاهَا لَهُ، فَاجْتَمَعَ دَاعِي الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ.

التَّاسِعُ: أَنَّهُ لَا يَخْشَى أَنْ تَنِمَّ عَلَيْهِ هِيَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ جِهَتِهَا، فَإِنَّهَا هِيَ الطَّالِبَةُ الرَّاغِبَةُ، وَقَدْ غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَغَيَّبَتِ الرُّقَبَاءَ.

الْعَاشِرُ: أَنَّهُ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مَمْلُوكًا لَهَا فِي الدَّارِ، بِحَيْثُ يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَحْضُرُ مَعَهَا وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْأُنْسُ سَابِقًا عَلَى الطَّلَبِ، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الدَّوَاعِي، كَمَا قِيلَ لِامْرَأَةٍ شَرِيفَةٍ مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ: مَا حَمَلَكِ عَلَى الزِّنَى؟ قَالَتْ: قُرْبُ الْوِسَادِ، وَطُولُ السَّوَادِ، تَعْنِي: قُرْبَ وِسَادِ الرَّجُلِ مِنْ وِسَادَتِي، وَطُولَ السَّوَادِ بَيْنَنَا.

الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهَا اسْتَعَانَتْ عَلَيْهِ بِأَئِمَّةِ الْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ، فَأَرَتْهُ إِيَّاهُنَّ، وَشَكَتْ حَالَهَا إِلَيْهِنَّ؛ لِتَسْتَعِينَ بِهِنَّ عَلَيْهِ، وَاسْتَعَانَ هُوَ بِاللَّهِ عَلَيْهِنَّ، فَقَالَ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يُوسُف:33].

الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّهَا تَوَعَّدَتْهُ بِالسِّجْنِ وَالصَّغَارِ، وَهَذَا نَوْعُ إِكْرَاهٍ، إِذْ هُوَ تَهْدِيدُ مَنْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وُقُوعُ مَا هَدَّدَ بِهِ، فَيَجْتَمِعُ دَاعِي الشَّهْوَةِ، وَدَاعِي السَّلَامَةِ مِنْ ضِيقِ السِّجْنِ وَالصَّغَارِ.

الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُظْهِرْ مِنَ الْغَيْرَةِ وَالنَّخْوَةِ مَا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَهُمَا، وَيُبْعِدُ كُلًّا مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، بَلْ كَانَ غَايَةَ مَا قَابَلَهَا بِهِ أَنْ قَالَ لِيُوسُفَ: أَعْرِضْ عَنْ هَذَا، وَلِلْمَرْأَةِ: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [يوسف:29]، وَشِدَّةُ الْغَيْرَةِ لِلرَّجُلِ مِنْ أَقْوَى الْمَوَانِعِ، وَهُنَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ غَيْرَةٌ.

وَمَعَ هَذِهِ الدَّوَاعِي كُلِّهَا فَآثَرَ مَرْضَاةَ اللَّهِ وَخَوْفَهُ، وَحَمَلَهُ حُبُّهُ لِلَّهِ عَلَى أَنِ اخْتَارَ السَّجْنَ عَلَى الزِّنَى: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف:33].

وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُطِيقُ صَرْفَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّ رَبَّهُ تَعَالَى إِنْ لَمْ يَعْصِمْهُ وَيَصْرِفْ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ صَبَا إِلَيْهِنَّ بِطَبْعِهِ، وَكَانَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ مَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ وَبِنَفْسِهِ.

وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْعِبَرِ وَالْفَوَائِدِ وَالْحِكَمِ مَا يَزِيدُ عَلَى الْأَلْفِ فَائِدَةٍ، لَعَلَّنَا إِنْ وَفَّقَ اللَّهُ أَنْ نُفْرِدَهَا فِي مُصَنَّفٍ مُسْتَقِلٍّ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.

أما بعد:

ففي هذا البحث الدلالة على أنَّ مَن رزقه الله الإيمان والبصيرة فإنه يتعفف عمَّا حرم الله عليه، ويبتعد عن الوقوع فيما حرَّم الله عليه، وإن طلبه غيره، وإن راوده غيره، وإن توفرت الأسبابُ في مواقعة الفاحشة، فالله جلَّ وعلا يعصم عبده إذا استقام على دينه، ولجأ إليه، واستجار به، فالله يعصمه ويحوطه ويحميه ، فهو ولي الصالحين: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، هو يكفي عباده المؤمنين، ويقيهم شرَّ الأمور، هذا يوسف عليه الصلاة والسلام ابتُلي بامرأة العزيز، وراودته عن نفسه وهو سجين، وغلَّقت الأبواب، ومع هذا عصمه الله وعافاه، مع كونه شابًّا، مثله يتوق إلى النساء، غريب، مملوك، ومع هذا صانه الله وحماه، وهي امرأة جميلة، وزوجة ملك، ومع ذلك عصمه الله وعافاه.

فالواجب على المؤمن أن يحذر النفس الأمَّارة بالسوء، وإن توافرت أسباب الشرِّ فليحذر، وليكن عنده من القوة والإيمان ما يحجزه عمَّا حرم الله عليه، مهما دُعي إلى ذلك، ومهما تضافرت الأسبابُ، ومهما حصل من خلوةٍ وغيرها، فالواجب الحذر، والواجب أن يتَّقي الله، وأن يبتعد عمَّا حرم الله، وإن وُجدت أسباب تسهيل ما حرَّم الله فليحذر ولا يغترَّ بتسهيل وجود أسباب الفاحشة، أو رضا المرأة، أو رضا أوليائها، أو غير ذلك، فليحذر، وليتَّقِ الله، وليُراقب الله في ذلك كله، يقول جلَّ وعلا: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، ويقول سبحانه: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ۝ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ۝ إِلَّا مَنْ تَابَ [الفرقان:68- 70].

فيوسف عليه الصلاة والسلام أكرمه الله وصانه وحماه، وجعله مُؤهلًا للنبوة والرسالة، وآتاه الله حكمًا وعلمًا بسبب صبره وتقواه وإيمانه وجهاده لنفسه، فالواجب على المسلم والمسلمة كل واحدٍ الواجب عليه أن يتَّقي الله، وأن يتأسَّى بالأخيار، وأن يحذر من صفات الأشرار، وأن يحذر طاعة الشيطان والهوى.

نسأل الله للجميع العافية والسلامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الأسئلة:

السؤال: يقول: عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: مَن قال حين يُصبح وحين يُمسي: سبحان الله وبحمده، مئة مرة، لم يأتِ أحدٌ يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثلما قال أو زاد عليه، فهل عدد التَّسبيح هنا غير توقيفي على المئة أم ماذا؟

الجواب: فيه الفضل العظيم: "سبحان الله وبحمده" مئة مرة صباحًا ومساءً من أسباب مغفرة الذنوب، وإذا زاد وأتى بمئات وآلاف صار أجره أعظم، ولكن هذا مع الاستقامة، هذه الفضائل مقيدة بأداء الفرائض وترك المحارم، كما قال جلَّ وعلا: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]، ويقول النبي ﷺ: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفَّارات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر، فالفضائل مقيدة باجتناب الكبائر، ويمحو الله بذلك الصغائر، أما مَن أصرَّ على المعاصي فهو متوعد بالنار وإن أتى بالتسبيح، وإن أتى بالذكر، هو متوعد بالنار لإصراره على المعاصي، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۝ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:135، 136].

فالواجب على العبد أن يحذر ما حرَّم الله، وأن يبتعد عمَّا يُغضب الله عليه، وأن يستمسك بما أوجب الله عليه، وأن يجتهد في ترك ما حرَّم الله عليه، وأن يلزم التوبةَ مما قد سلف، ويُشرع له الاستكثار من التَّسبيح والتهليل والتحميد والتكبير؛ فإن هذا من وسائل المغفرة، ومن وسائل التوفيق.

السؤال: ما قولكم فيمَن لا يُزوج ابنته لحجَّامٍ أو جزَّارٍ أو حدَّادٍ حتى ولو كان رجلًا مُتدينًا ذا خلقٍ، فهل هذا العمل صحيح بالنسبة لعيب الزواج من جزارٍ أو حجَّامٍ؟

الجواب: يقول الله جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فإذا وجد الأتقى زوَّج، سواء كان من العرب أو من العجم، أو من بني هاشم أو غيرهم، قال النبي للأنصار: يا بني بياضة، أنكحوا إلى أبي هندٍ، وأنكحوا إليه، وكان حجَّامًا.

فالمقصود أن العبرة بالأعمال الصالحة والتقوى، كونه حجامًا أو حدادًا أو خرَّازًا أو نجارًا أو غير ذلك لا يضرّه، كان داود عليه الصلاة والسلام حدادًا يصنع الدروع ويبيعها وهو نبي الله.

فالواجب على المؤمن أن يتحرى لموليته صاحب التقوى، وإذا تيسر من نسبٍ طيبٍ فهذا خيرٌ إلى خيرٍ كما قال ﷺ: تُنكح المرأةُ لأربعٍ: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك، ويقول النبي ﷺ: إذا خطب إليكم مَن ترضون دينَه وخُلقه فزوِّجوه، ما قال: نسبه، مَن ترضون دينَه وخُلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.

وقد زوَّج النبي ﷺ فاطمة بنت قيسٍ أسامة بن زيد عتيقه، ابن عتيقه، وهي من قريش، وزوَّج أبو حذيفة ابن عتبة سالمًا مولى أبي حذيفة بنته.

المقصود أنَّ المؤمن يتحرى العمل الطيب والتقوى والخير، ولا يهمه كونه من بني فلانٍ، أو كونه يعمل كذا، أو يعمل كذا، متى كان كفئًا في دينه: إذا خطب إليكم مَن ترضون دينه وخُلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، زوَّجه بنت أخيه، زوَّجه أبو حذيفة ابنةَ أخيه، نعم، مولى سالم.

السؤال: هل نبش قبور المسلمين مشروعٌ لدفن جنائز أخرى؟

الجواب: لا، يلتمس لهم مقبرةً أخرى، لا ينبشون، بل ينتبش لهم مقابر، أرض الله واسعة.

السؤال: ما صحَّة الحديث الذي رواه أحمد وابن سعدٍ والبغوي في "شرح السنة" عن عائشة رضي الله عنها: قلت: يا رسول الله، كُلْ -جعلني الله فداك- مُتَّكئًا؛ فإنه أهون عليك، فأحنى رأسه حتى كاد أن يُصيب جبهته الأرض وقال: «بل آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد»؟

الجواب: المعروف في الحديث الصحيح: «لا آكل مُتَّكئًا» رواه البخاري، فالسنة ألا يتَّكئ عند الأكل، لا يميل على أحد الجانبين، بل يأكل مُتوركًا أو مُستوفِزًا أو ما أشبه ذلك، والاتكاء هو الميل على أحد الجانبين، أما اللفظ هذا ما أذكر حاله.

السؤال: كيف العصمة من هذا الزمان الذي كثرت فيه المُغريات: من مجلات وأفلام وصور ودشوش وأغاني ونساء مُتبرجات مُتكشفات، وسهولة عمل المُحرَّمات؟ وهل يتعين على الشاب أن يتزوج ويُصبح في حقِّه واجبًا حتى يسلم بإذن الله من المُحرَّمات؟ وهل يُشترط رضا الوالدين في الزواج؟

الجواب: كل ما ذكر يُوجب الحذر، كثرة الشرور والمنكرات تُوجب على المؤمن الحذر، ويسأل ربَّه التوفيق والهداية والعصمة، كلما كثرت الشرور عظم الخوف، كما قال جلَّ وعلا: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14]، وقال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، ولما ذكر أهل الجنة قال: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه [البينة:8]، فكلما زادت الشرور يجب أن يخشى ربه، وأن يحذر، وأن يأخذ بأسباب النَّجاة، وأن يبتعد عن أسباب الهلاك، وأن يصحب الأخيار، ويبتعد عن صحبة الأشرار، ويأخذ بالأسباب: إذا كان ما تزوج يتزوج، يجتهد في الزواج، يقول النبي ﷺ: يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء.

ولا تجوز طاعة الوالد في ترك الزواج: إنما الطاعة في المعروف، فالوالد الذي يأمر بعدم الزواج لا يُطاع، إذا قدر الولدُ على الزواج فليتزوج: إنما الطاعة في المعروف، ولكن يتحرى المرأة الصالحة التي يرضاها والده، يتحرى المرأة الطيبة؛ حتى لا يجمع بين شهوته وهواها وبين غضب والده، يتحرى المرأة الطيبة حتى يرضاها والده، حتى يحصل له الزواج والبرُّ، أما إذا كان والده يمنعه من الزواج بالكلية وهو يستطيع الزواج فلا يُطاع، بل يجب التَّزوج وطلب العفَّة ومخاطبة والده بالتي هي أحسن، وبيان أنَّ هذا شيء يجب عليه، وأنه لا يجوز للوالد في مثل هذا المنع، يتكلم معه بالكلام الطيب، لكن لا يُطيعه في ترك الزواج.

فَصْلٌ

وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمُ الْعِشْقَ: هُمُ اللُّوطِيَّةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ۝ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ ۝ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ ۝ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ۝ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ۝ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْحِجْر:67- 72].

فَهَذِهِ الْأُمَّةُ عَشِقَتْ فَحَكَاهُ سُبْحَانَهُ عَنْ طَائِفَتَيْنِ، عَشِقَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ مِنَ الصُّوَرِ، وَلَمْ يُبَالِ بِمَا فِي عِشْقِهِ مِنَ الضَّرَرِ.

وَهَذَا دَاءٌ أَعْيَا الْأَطِبَّاءَ دَوَاؤُهُ، وَعَزَّ عَلَيْهِمْ شِفَاؤُهُ، وَهُوَ وَاللَّهِ الدَّاءُ الْعُضَالُ، وَالسُّمُّ الْقَتَّالُ، الَّذِي مَا عَلِقَ بِقَلْبٍ إِلَّا وَعَزَّ عَلَى الْوَرَى خَلَاصُهُ مِنْ إِسَارِهِ، وَلَا اشْتَعَلَتْ نَارُهُ فِي مُهْجَةٍ إِلَّا وَصَعُبَ عَلَى الْخَلْقِ تَخْلِيصُهَا مِنْ نَارِهِ.

وَهُوَ أَقْسَامٌ:

تَارَةً يَكُونُ كُفْرًا: لِمَنِ اتَّخَذَ مَعْشُوقَهُ نِدًّا يُحِبُّهُ كَمَا يُحِبُّ اللَّهَ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ مَحَبَّتُهُ أَعْظَمَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ فِي قَلْبِهِ؟! فَهَذَا عِشْقٌ لَا يُغْفَرُ لِصَاحِبِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الشِّرْكِ، وَاللَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَغْفِرُ بِالتَّوْبَةِ الْمَاحِيَةِ مَا دُونَ ذَلِكَ.

وَعَلَامَةُ الْعِشْقِ الشِّرْكِيِّ الْكُفْرِيِّ: أَنْ يُقَدِّمَ الْعَاشِقُ رِضَاءَ مَعْشُوقِهِ عَلَى رَبِّهِ، وَإِذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُ حَقُّ مَعْشُوقِهِ وَحَظُّهُ، وَحَقُّ رَبِّهِ وَطَاعَتُهُ، قَدَّمَ حَقَّ مَعْشُوقِهِ عَلَى حَقِّ رَبِّهِ، وَآثَرَ رِضَاهُ عَلَى رِضَاهُ، وَبَذَلَ لَهُ أَنْفَسَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَبَذَلَ لِرَبِّهِ -إِنْ بَذَلَ- أَرْدَأَ مَا عِنْدَهُ، وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي مَرْضَاةِ مَعْشُوقِهِ وَطَاعَتِهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ لِرَبِّهِ -إِنْ أَطَاعَهُ- الْفَضْلَةَ الَّتِي تَفَضَّلَ مَعْشُوقُهُ مِنْ سَاعَاتِهِ.

فَتَأَمَّلْ حَالَ أَكْثَرِ عُشَّاقِ الصُّوَرِ تَجِدْهَا مُطَابِقَةً لِذَلِكَ، ثُمَّ ضَعْ حَالَهُمْ فِي كِفَّةٍ، وَتَوْحِيدَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ فِي كِفَّةٍ، ثُمَّ زِنْ وَزْنًا يَرْضَى اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَيُطَابِقُ الْعَدْلَ، وَرُبَّمَا صَرَّحَ الْعَاشِقُ مِنْهُمْ بِأَنَّ وَصْلَ مَعْشُوقِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ رَبِّهِ، كَمَا قَالَ الْعَاشِقُ الْخَبِيثُ:

يَتَرَشَّفْنَ مِنْ فَمِي رَشَفَاتٍ هُنَّ فِيهِ أَحْلَى مِنَ التَّوْحِيدِ

وَكَمَا صَرَّحَ الْخَبِيثُ الْآخَرُ أَنَّ وَصْلَ مَعْشُوقِهِ أَشْهَى إِلَيْهِ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ -فعياذًا بك اللهم من هذا الخذلان- فقال:

وصلك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل

ولَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْعِشْقَ مِنْ أَعْظَمِ الشِّرْكِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِ مَعْشُوقِهِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ قَدْ مَلَكَ عَلَيْهِ قَلْبَهُ كُلَّهُ فَصَارَ عَبْدًا مَحْضًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِمَعْشُوقِهِ، فَقَدْ رَضِيَ هَذَا مِنْ عُبُودِيَّةِ الْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ بِعُبُودِيَّةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ: فَإِنَّ الْعُبُودِيَّةَ هِيَ كَمَالُ الْحُبِّ وَالْخُضُوعِ، وَهَذَا قَدِ اسْتَفْرَغَ قُوَّةَ حُبِّهِ وَخُضُوعِهِ وَذُلِّهِ لِمَعْشُوقِهِ فَقَدْ أَعْطَاهُ حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ.

وَلَا نِسْبَةَ بَيْنَ مَفْسَدَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ وَمَفْسَدَةِ الْفَاحِشَةِ، فَإِنَّ تِلْكَ ذَنْبٌ كَبِيرٌ لِفَاعِلِهِ حُكْمُ أَمْثَالِهِ، وَمَفْسَدَةُ هَذَا الْعِشْقِ مَفْسَدَةُ الشِّرْكِ، وَكَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ مِنَ الْعَارِفِينَ يَقُولُ: لَأَنْ أُبْتَلَى بِالْفَاحِشَةِ مَعَ تِلْكَ الصُّورَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فِيهَا بِعِشْقٍ يَتَعَبَّدُ لَهَا قَلْبِي وَيَشْغَلُهُ عَنِ اللَّهِ.

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.

أما بعد:

فهذا البحث كالذي قبله في التَّحذير من عشق الصور المحرمة وما يتعلق باللواط والزنا، وأن هذا قد يسوق أهله إلى الشرك بالله وعبادته غيره بسبب عشقهم الصور فيما حرَّم الله من اللواط والزنا، وأن الواجب على المؤمن أن يحذر ذلك، وأن يبتعد عن كل ما يجره إلى ذلك، فإنَّ العبد قد يُبتلى بالنساء، قد يُبتلى بالغلمان فيقع في الفاحشة التي حرَّمها الله، وقد يجرُّه إلى الشرك بالله وعبادة غيره، فهذا البلاء العظيم الذي وقع فيه قومُ لوطٍ حتى آثروا ما هم فيه من اللواط وعبادة الأوثان والأصنام على طاعة الله واتباع رسوله لوط عليه الصلاة والسلام حتى أهلكهم الله؛ خسف بهم بلادهم، وجعل عاليها سافلها؛ لكفرهم وفسادهم، وقطعهم الطريق، وإتيانهم الفاحشة.

فالواجب على كل مسلمٍ أن يحذر صفات هؤلاء الأشرار، وأن يبتعد عن صفات الأشرار الآخرين عشاق الصور النسائية، كل هذا وهذا، وهذا كله باطل، والواجب عليه أن يتَّقي الله، وأن يستحلَّ ما أحله الله، ويبتعد عمَّا حرَّمه الله، فبما أباح الله من النساء والزوجات الغنية والعافية، وفيما أباح الله من الطعام والشراب واللباس الغنية عمَّا حرم الله.

فعلى المؤمن أن يتَّقي الله، وأن يُراقب الله في فرجه، وفي أكله وشربه، وفي لباسه، وفي صحبته، وفي سفره، وفي إقامته، وفي كل شيء عليه أن يُراقب الله، وأن يقف عند حدود الله، وأن يحذر التَّجاوز لما حرَّمه الله؛ لا في مسألة النساء، ولا في مسألة الرجال، ولا في مسألة المآكل والمشارب والملابس، ولا في غير ذلك، يجب أن يكون حبه لله، وبغضه بالله، وأن يصحب المؤمنين الأخيار، وأن يبتعد عن صحبة الأشرار، وأن يقف عند حدود الله، وأن يحذر شرَّ نفسه وهواها، فقد وقع قومُ لوطٍ في فاحشة اللواط وآثروا شركهم وباطلهم على طاعة الله ورسوله حتى خسف الله بهم بلادهم، وهكذا أصحاب فاحشة الزنا تجرُّهم إلى الشرك بالله والكفر بالله، قد تجره محبَّة الصورة النِّسائية والمرأة إلى كفره بالله، وإلى استحلاله محارم الله. نسأل الله العافية.

نسأل الله للجميع العافية والسلامة والثَّبات.