فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْتُمْ آفَاتِ الْعِشْقِ وَمَضَارَّهُ وَمَفَاسِدَهُ، فَهَلَّا ذَكَرْتُمْ مَنَافِعَهُ وَفَوَائِدَهُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا: رِقَّةُ الطَّبْعِ، وَتَرْوِيحُ النَّفْسِ وَخِفَّتُهَا، وَزَوَالُ ثِقَلِهَا وَرِيَاضَتهَا، وَحَمْلُهَا عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ: مِنَ الشَّجَاعَةِ، وَالْكَرَمِ، وَالْمُرُوءَةِ، وَرِقَّةِ الْحَاشِيَةِ، وَلُطْفِ الْجَانِبِ.
وَقَدْ قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيِّ: إِنَّ ابْنَكَ قَدْ عَشِقَ فُلَانَةً، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَيَّرَهُ إِلَى طَبْعِ الْآدَمِيِّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعِشْقُ دَوَاءُ أَفْئِدَةِ الْكِرَامِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعِشْقُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِذِي مُرُوءَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَخَلِيقَةٍ طَاهِرَةٍ، أَوْ لِذِي لِسَانٍ فَاضِلٍ، وَإِحْسَانٍ كَامِلٍ، أَوْ لِذِي أَدَبٍ بَارِعٍ، وَحَسَبٍ نَاصِعٍ.
وَقَالَ آخَرُ: الْعِشْقُ يُشَجِّعُ جَنَانَ الْجَبَانِ، وَيُصَفِّي ذِهْنَ الْغَبِيِّ، وَيُسَخِّي كَفَّ الْبَخِيلِ، وَيُذِلُّ عِزَّةَ الْمُلُوكِ، وَيُسَكِّنُ نَوَافِرَ الْأَخْلَاقِ، وَهُوَ أَنِيسُ مَنْ لَا أَنِيسَ لَهُ، وَجَلِيسُ مَنْ لَا جَلِيسَ لَهُ.
وَقَالَ آخَرُ: الْعِشْقُ يُزِيلُ الْأَثْقَالَ، وَيُلَطِّفُ الرُّوحَ، وَيُصَفِّي كَدَرَ الْقَلْبِ، وَيُوجِبُ الِارْتِيَاحَ لِأَفْعَالِ الْكِرَامِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
سَيَهْلِكُ فِي الدُّنْيَا شَفِيقٌ عَلَيْكُم | إِذَا غَالَهُ مِنْ حَادِثِ الْحُبِّ غَائِلُهُ |
كَرِيمٌ يُمِيتُ السِّرَّ حَتَّى كَأَنَّهُ | إِذَا اسْتَفْهَمُوهُ عَنْ حَدِيثِكَ جَاهِلُهُ |
يَوَدُّ بِأَنْ يُمْسِي سَقِيمًا لَعَلَّهَا | إِذَا سَمِعَتْ عَنْهُ بِشَكْوَى تُرَاسِلُهُ |
وَيَهْتَزُّ لِلْمَعْرُوفِ فِي طَلَبِ الْعُلَا | لِتُحْمَدَ يَوْمًا عِنْدَ لَيْلَى شَمَائِلُهُ |
فَالْعِشْقُ يَحْمِلُ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْعِشْقُ يُرَوِّضُ النَّفْسَ، وَيُهَذِّبُ الْأَخْلَاقَ، وَإِظْهَارُهُ طَبِيعِيٌّ، وَإِضْمَارُهُ تَكْلِيفِيٌّ.
وَقَالَ الْآخَرُ: مَنْ لَمْ يُهَيِّجْ نَفْسَهُ بِالصَّوْتِ الشَّجِيِّ، وَالْوَجْهِ الْبَهِيِّ، فَهُوَ فَاسِدُ الْمِزَاجِ، يَحْتَاجُ إِلَى عِلَاجٍ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى | فَمَا لَكَ فِي طِيبِ الْحَيَاةِ نَصِيبُ |
وَقَالَ آخَرُ:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى | فَأَنْتَ وَعِيرٌ فِي الْفَلَاةِ سَوَاءُ |
وَقَالَ آخَرُ:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى | فكن حجرًا من جانب الصخر جلمدا |
وقال آخر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى | فقم فاعتلف تبنًا فأنت حمار |
وَقَالَ بَعْضُ الْعُشَّاقِ أُولُو الْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ: عِفُّوا تَشْرُفُوا، وَاعْشَقُوا تَظْفَرُوا.
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْعُشَّاقِ: مَا كُنْتَ تَصْنَعُ لَوْ ظَفِرْتَ بِمَنْ تَهْوَى؟ فَقَالَ: كُنْتُ أُمَتِّعُ طَرْفِي بِوَجْهِهِ، وَأُرَوِّحُ قَلْبِي بِذِكْرِهِ وَحَدِيثِهِ، وَأَسْتُرُ مِنْهُ مَا لَا يُحِبُّ كَشْفَهُ، وَلَا أَصِيرُ بِقَبِيحِ الْفِعْلِ إِلَى مَا يَنْقُضُ عَهْدَهُ، ثُمَّ أَنْشَدَ:
أَخْلُو بِهِ فَأَعِفُّ عَنْهُ تَكَرُّمًا | خَوْفَ الدِّيَانَةِ لَسْتُ مِنْ عُشَّاقِهِ |
كَالْمَاءِ فِي يَدِ صَائِمٍ يَلْتَذُّهُ | ظَمَأً فَيَصْبِرُ عَنْ لَذِيذِ مَذَاقِهِ |
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ ابْنُ راهويه: أَرْوَاحُ الْعُشَّاقِ عَطِرَةٌ لَطِيفَةٌ، وَأَبْدَانُهُمْ رَقِيقَةٌ خَفِيفَةٌ، نُزْهَتُهُمُ الْمُؤَانَسَةُ، وَكَلَامُهُمْ يُحْيِي مَوَاتَ الْقُلُوبِ، وَيَزِيدُ فِي الْعُقُولِ، وَلَوْلَا الْعِشْقُ وَالْهَوَى لَبَطَلَ نَعِيمُ الدُّنْيَا.
وَقَالَ آخَرُ: الْعِشْقُ لِلْأَرْوَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ لِلْأَبْدَانِ، إِنْ تَرَكْتَهُ ضَرَّكَ، وَإِنْ أَكْثَرْتَ مِنْهُ قَتَلَكَ، وَفِي ذَلِكَ قِيلَ:
خَلِيلَيَّ إِنَّ الْحُبَّ فِيهِ لَذَاذَةٌ | وَفِيهِ شَقَاءٌ دَائِمٌ وَكُرُوبُ |
عَلَى ذَاكَ مَا عَيْشٌ يَطِيبُ بِغَيْرِهِ | وَلَا عَيْشَ إِلَّا بِالْحَبِيبِ يَطِيبُ |
وَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ صَبَابَةٍ | وَلَا فِي نَعِيمٍ لَيْسَ فِيهِ حَبِيبُ |
وَذَكَرَ الْخَرَائِطِيُّ عَنْ أَبِي غَسَّانَ قَالَ: مَرَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بِجَارِيَةٍ وَهِيَ تَقُولُ:
وَهَوَيْتُهُ مِنْ قَبْلِ قَطْعِ تَمَائِمِي | مُتَمَايِلًا مِثْلَ الْقَضِيبِ النَّاعِمِ |
فسَأَلَهَا: أَحُرَّةٌ أَنْتِ أَمْ مَمْلُوكَةٌ؟ قَالَتْ: بَلْ مَمْلُوكَةٌ، فَقَالَ: مَنْ هَوَاكِ؟ فَتَلَكَّأَتْ، فَأَقْسَمَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ:
وَأَنَا الَّتِي لَعِبَ الْهَوَى بِفُؤَادِهَا | قُتِلَتْ بِحُبِّ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ |
فَاشْتَرَاهَا مِنْ مَوْلَاهَا، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ وَاللَّهِ فَتَنَّ الرِّجَالَ، وَكَمْ وَاللَّهِ مَاتَ بِهِنَّ كَرِيمٌ، وَعَطِبَ بِهِنَّ سَلِيمٌ.
وَجَاءَتْ جَارِيَةٌ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ تَسْتَعْدِي عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهَا عُثْمَانُ: مَا قِصَّتُكِ؟ فَقَالَتْ: كَلِفْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِابْنِ أَخِيهِ، فَمَا أَنْفَكُّ أُرَاعِيهِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إِمَّا أَنْ تَهَبَهَا إِلَى ابْنِ أَخِيكَ، أَوْ أُعْطِيَكَ ثَمَنَهَا مِنْ مَالِي، فَقَالَ: أُشْهِدُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا لَهُ.
وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ فَسَادَ الْعِشْقِ الَّذِي مُتَعَلِّقُهُ فِعْلُ الْفَاحِشَةِ بِالْمَعْشُوقِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْعِشْقِ الْعَفِيفِ مِنَ الرَّجُلِ الظَّرِيفِ، الَّذِي يَأْبَى لَهُ دِينُهُ وَعِفَّتُهُ وَمُرُوءَتُهُ أَنْ يُفْسِدَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْشُوقِهِ بِالْحَرَامِ، وَهَذَا عِشْقُ السَّلَفِ الْكِرَامِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ، فَهَذَا عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ -أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ- عَشِقَ حَتَّى اشْتُهِرَ أَمْرُهُ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَعَدَّ ظَالِمًا مَنْ لَامَهُ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
كَتَمْتَ الْهَوَى حَتَّى أَضَرَّ بِكَ الْكَتْمُ | وَلَامَكَ أَقْوَامٌ وَلَوْمُهُم ظُلْمُ |
فَنَمَّ عَلَيْكَ الْكَاشِحُونَ، وَقَبْلَهُمْ | عَلَيْكَ الْهَوَى قَدْ نَمَّ لَوْ يَنْفَعُ الْكَتْمُ |
فَأَصْبَحْتَ كَالْهِنْدِيِّ إِذْ مَاتَ حَسْرَةً | عَلَى إِثْرِ هِنْدٍ أَوْ كَمَنْ شَفَّهُ سُقْمُ |
تَجَنَّبْتَ إِتْيَانَ الْحَبِيبِ تَأَثُّمًا | أَلَا إِنَّ هُجْرَانَ الْحَبِيبِ هُوَ الْإِثْمُ |
فَذُقْ هَجْرَهَا قَدْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّهُ | رَشَادٌ أَلَا يَا رُبَّمَا كَذَبَ الزَّعْمُ |
وَهَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ وَعِشْقُهُ مَشْهُورٌ لِجَارِيَةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِالْمَلِكِ، وَكَانَتْ جَارِيَةً بَارِعَةَ الْجَمَالِ، وَكَانَ مُعْجَبًا بِهَا، وَكَانَ يَطْلُبُهَا مِنِ امْرَأَتِهِ، وَيَحْرِصُ عَلَى أَنْ تَهَبَهَا لَهُ، فَتَأْبَى، وَلَمْ تَزَلِ الْجَارِيَةُ فِي نَفْسِ عُمَرَ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ، أَمَرَتْ فَاطِمَةُ بِالْجَارِيَةِ فَأُصْلِحَتْ، وَكَانَتْ مَثَلًا فِي حُسْنِهَا وَجَمَالِهَا، ثُمَّ دَخَلَتْ عَلَى عُمَرَ، وَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ كُنْتَ مُعْجَبًا بِجَارِيَتِي فُلَانَةَ، وَسَأَلْتَهَا، فَأَبَيْتُ عَلَيْكَ، وَالْآنَ قَدْ طَابَتْ نَفْسِي لَكَ بِهَا، فَلَمَّا قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ؛ اسْتَبَانَ الْفَرَحُ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ: عَجِّلِي عَلَيَّ بِهَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ بِهَا عَلَيْهِ ازْدَادَ بِهَا عَجَبًا، وَقَالَ لَهَا: أَلْقِي ثِيَابَكِ، فَفَعَلَتْ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: عَلَى رِسْلِكِ، أَخْبِرِينِي لِمَنْ كُنْتِ؟ وَمِنْ أَيْنَ صِرْتِ لِفَاطِمَةَ؟ فَقَالَتْ: أَغْرَمَ الْحَجَّاجُ عَامِلًا لَهُ بِالْكُوفَةِ مَالًا، وَكُنْتُ فِي رَقِيقِ ذَلِكَ الْعَامِلِ، فَأَخَذَنِي وَبَعَثَ بِي إِلَى عَبْدِالْمَلِكِ، فَوَهَبَنِي لِفَاطِمَةَ، قَالَ: وَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الْعَامِلُ؟ قَالَتْ: هَلَكَ، قَالَ: وَهَلْ تَرَكَ وَلَدًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا حَالُهُمْ؟ قَالَتْ: سَيِّئَةٌ، فَقَالَ: شُدِّي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ، وَاذْهَبِي إِلَى مَكَانِكِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ عَلَى الْعِرَاقِ: أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ عَلَى الْبَرِيدِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ لَهُ: ارْفَعْ إِلَيَّ جَمِيعَ مَا أَغْرَمَهُ الْحَجَّاجُ لِأَبِيكَ، فَلَمْ يَرْفَعْ إِلَيْهِ شَيْئًا إِلَّا دَفَعَهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْجَارِيَةِ فَدُفِعَتْ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِيَّاكَ وَإِيَّاهَا، فَلَعَلَّ أَبَاكَ قَدْ أَلَمَّ بِهَا، فَقَالَ الْغُلَامُ: هِيَ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهَا، قَالَ: فَابْتَعْهَا مِنِّي، قَالَ: لَسْتُ إِذًا مِمَّنْ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَلَمَّا عَزَمَ الْفَتَى عَلَى الِانْصِرَافِ بِهَا قَالَتْ: أَيْنَ وَجْدُكَ بِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: عَلَى حَالِهِ، وَلَقَدْ زَادَ، وَلَمْ تَزَلِ الْجَارِيَةُ فِي نَفْسِ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَهَذَا أَبُو بَكْرِ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيُّ الْعَالِمُ الْمَشْهُورُ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ: مِنَ الْفِقْهِ، وَالْحَدِيثِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالْأَدَبِ، وَلَهُ قَوْلُهُ فِي الْفِقْهِ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ، وَعشقُهُ مَشْهُورٌ.
قَالَ نِفْطَوَيْهِ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَقَالَ: حُبُّ مَنْ تَعْلَمُ أَوْرَثَنِي مَا تَرَى؟ فَقُلْتُ: وَمَا يَمْنَعُكَ مِن الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: الِاسْتِمْتَاعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النَّظَرُ الْمُبَاحُ، وَالْآخَرُ: اللَّذَّةُ الْمَحْظُورَةُ، فَأَمَّا النَّظَرُ الْمُبَاحُ فَهُوَ الَّذِي أَوْرَثَنِي مَا تَرَى، وَأَمَّا اللَّذَّةُ الْمَحْظُورَةُ فَيَمْنَعُنِي مِنْهَا مَا حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّات، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -يَرْفَعُهُ: «مَنْ عَشِقَ وَكَتَمَ وَعَفَّ وَصَبَرَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ».
ثُمَّ أَنْشَدَ:
انْظُرْ إِلَى السِّحْرِ يَجْرِي مِنْ لَوَاحِظِهِ | وَانْظُرْ إِلَى دَعَجٍ فِي طَرْفِهِ السَّاجِي |
وَانْظُرْ إِلَى شَعَرَاتٍ فَوْقَ عَارِضِهِ | كَأَنَّهُنَّ نِمَالٌ دَبَّ فِي عَاجِ |
ثُمَّ أَنْشَدَ:
مَا لَهُمْ أَنْكَرُوا سَوَادًا بِخَدَّيْهِ | وَلَا يُنْكِرُونَ وَرْدَ الْغُصُونِ؟ |
إِنْ يَكُنْ عَيْبُ خَدِّهِ بالشَّعْرِ | فَعَيْبُ الْعُيُونِ شَعْرُ الْجُفُونِ |
فَقُلْتُ لَهُ: نَفَيْتَ الْقِيَاسَ فِي الْفِقْهِ، وَأَثْبَتَّهُ فِي الشّعرِ؟ فَقَالَ: غَلَبَةُ الْوَجْدِ وَمَلَكَةُ النَّفْسِ دَعَتْ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَبِسَبَبِ مَعْشُوقِهِ صَنَّفَ كِتَابَ "الزَّهْرَةِ"، وَمِنْ كَلَامِهِ فِيهِ: "مَنْ يَئِسَ مِمَّنْ يَهْوَاهُ، وَلَمْ يَمُتْ مِنْ وَقْتِهِ سَلَاهُ، وَذَلِكَ أَوَّلُ رَوْعَاتِ الْيَأْسِ تَأْتِي الْقَلْبَ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ لَهَا، فَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَتَأْتِي الْقَلْبَ وَقَدْ وَطَّأَتْهُ لَهَا الرَّوْعَةُ الْأُولَى".
وَالْتَقَى هُوَ وَأَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي مَجْلِسِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْوَزِيرِ، فَتَنَاظَرَا فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْإِيلَاءِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَنْتَ بِأَنْ تَقُولَ: مَنْ دَامَتْ لَحَظَاتُهُ كَثُرَتْ حَسَرَاتُهُ، أَحذَقُ مِنْكَ بِالْكَلَامِ عَلَى الْفِقْهِ، فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ فَإِنِّي أَقُولُ:
أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ الْمَحَاسِنِ مُقْلَتَيَّ | وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا |
وَأَحْمِلُ مِنْ ثِقَلِ الْهَوَى مَا لَوْ انَّهُ | يُصَبُّ عَلَى الصَّخْرِ الْأَصَمِّ تَهَدَّمَا |
وَيَنْطِقُ طَرْفِي عَنْ مُتَرْجَمِ خَاطِرِي | فَلَوْلَا اخْتِلَاسِي وُدَّهُ لَتَكَلَّمَا |
رَأَيْتُ الْهَوَى دَعْوَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِم | فَلَسْتُ أَرَى وُدًّا صَحِيحًا مُسَلَّمًا |
فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ سُرَيْجٍ: بِمَ تَفْخَرُ عَلَيَّ؟ وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ:
وَمَطَاعِمُهُ كَالشَّهْدِ فِي نَغَمَاتِهِ | قَدْ بِتَّ أَمْنَعُهُ لَذِيذَ سِنَاتِهِ |
بِصَبَابَةٍ وَبِحُسْنِهِ وَحَدِيثِهِ | وَأُنَزِّهُ اللَّحَظَاتِ عَنْ وَجَنَاتِهِ |
حَتَّى إِذَا مَا الصُّبْحُ لاحَ عَمُودُهُ | وَلَّى بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاتِهِ |
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْفَظُ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ مَا أَقَرَّ بِهِ حَتَّى يُقِيمَ شَاهِدًا عَلَى أَنَّهُ وَلَّى بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاءَتِهِ، فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَلْزَمُنِي فِي هَذَا مَا يَلْزَمُكَ فِي قَوْلِكَ:
أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ الْمَحَاسِنِ مُقْلَتِي |
وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا |
وَجَاءَتْهُ يَوْمًا فُتْيَا مَضْمُونُهَا:
يَا ابْنَ دَاوُدَ يَا فَقِيهَ الْعِرَاقِ | أَفْتِنَا فِي قَوَاتِلِ الْأَحْدَاقِ |
هَلْ عَلَيْهَا بِمَا أَتَتْ مِنْ جُنَاحٍ | أَمْ حَلَالٌ لَهَا دَمُ الْعُشَّاقِ |
فَكَتَبَ الجوابَ بِخَطِّهِ تَحْتَ الْبَيْتَيْنِ:
عِنْدِي جَوَابُ مَسَائِلِ الْعُشَّاقِ | فَاسْمَعْهُ مِنْ قَرِحِ الْحَشَا مُشْتَاقِ |
لَمَّا سَأَلْتَ عَنِ الْهَوَى هَيَّجْتَنِي | وَأَرَقْتَ دَمْعًا لَمْ يَكُنْ بِمُرَاقِ |
إِنْ كَانَ مَعْشُوقًا يُعَذِّبُ عَاشِقًا | كَانَ الْمُعَذَّبُ أَنْعَمَ الْعُشَّاقِ |
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فقد بيَّن المؤلفُ رحمه الله العلامة ابن القيم ما في العشق من الخير والشرِّ، وتقدم أصناف الشرِّ التي في العشق وما فيه من البلاء، إلا مَن رحم الله وكفَّ وعفَّ وسلم وجاهد نفسه لله، وهنا يُبين أن العشق الذي يتعلق بمحابِّ الله ومراضيه، وأنه يعشق اتباع الخير وأهله، ويعشق ما أباح الله وما شرع، ويتباعد عمَّا حرَّم الله؛ أن هذا لا لومَ فيه، فإذا أحبَّ أهل الخير، وأحبَّ أهل العلم والتقى، واشتاق إليهم، وعشق مجالسهم والسفر إليهم، والتأسي بأقوالهم وأعمالهم، كل ذلك أمر مطلوب، وهو من الحبِّ الذي شرعه الله، فكون المؤمن يُحب في الله ويشتدّ حبُّه حتى يكون عشقًا لمماراتهم، والسهر معهم، والسير على طريقهم وسبيلهم الطيب، ومشاركته في أعمالهم الطيبة، فكل هذا عشق ممدوح، وهو من الحبِّ في الله، وحبّ ما أحبَّه الله .
وهكذا مَن عشق ثم عفَّ وصبر، وثبت على الحقِّ، وجاهد نفسه حتى يسلم؛ فله أجر السلامة والعافية التي وفَّقه الله لها، فكثير من الناس قد يعشق بعض الصور، ويُذكر له فلانة أو فلانة أو فلانة، ويُحب أن يشتريها إن كانت جاريةً، أو يتزوجها إن كانت غير جاريةٍ، ثم يصبر ويتعفف ويتحمل المشقة حتى يتوفَّاه الله سالمًا؛ فيكون له أجر مَن صبر واحتسب وكفَّ نفسه عمَّا حرم الله وعن الهوى المحرم.
فأنت يا عبدالله بين أمرين: إما أن تتبع الهوى، وتتبع النفس الأمارة بالسوء فتهلك، وقد تُهلك غيرك أيضًا، وإما أن تصون نفسك، وتتبع ما أحبَّه الله، وتشتاق لأمر المحبين الأخيار، وتشتاق لمجالستهم والسير معهم، وتشتاق إلى أعمالهم الطيبة، فهذا عمل المحبين، وعمل الأخيار من الصحابة ومَن بعدهم من السلف الصالح الذين عشقوا العلمَ والفضلَ وأحبُّوه وأحبّوا أهله، وسافروا إليهم، وجالسوهم، وأخذوا عنهم العلم، وأحبُّوهم حبًّا صادقًا.
فهذا شأن المؤمنين: الحب في الله، والبُغض في الله، وشدة الموالاة في الله، والبغض في الله جلَّ وعلا، فالمؤمن هكذا يكون عنده الحبّ في الله، والصدق في ذلك، وعنده البغض في الله، والصدق في ذلك.
ومن الحبِّ في الله: متابعة الأحباب، والسير على منهاجهم الطيب، والتَّفقه في الدين، والحرص على كل ما يُرضي الله ويُقرب لديه.
ومن العشق المحرم أن تعشق ما حرَّم الله، وأن تطلب ما حرَّم الله، هذا هو الذي حرَّمه الله عليك، فعليك مُجانبته، وعليك الحذر منه، وبالصبر والاحتساب والحذر يكون لك الأجر العظيم، ولو متّ على ذلك وأنت صابر محتسب فأنت على خيرٍ عظيمٍ؛ لأنك جاهدت الهوى، ومنعت الهوى، وصبرت على الحقِّ، وثبتَّ على الحقِّ حتى أتاك اليقين وأنت على صبرٍ، ترجو ثواب الله، وتخشى عقاب الله، وتحارب الهوى الذي يقودك إلى محارم الله.
وفَّق الله الجميع، وثبَّت الجميع على الهدى، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه.