01 باب حق الله على العباد وحق العباد على الله

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمُرسلين نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: قال الإمامُ المُجدد شيخُ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في كتابه المُفيد؛ كتاب "التوحيد الذي هو حقُّ الله على العبيد":

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وصلَّى الله على محمدٍ وعلى آله وسلم.

باب حقِّ الله على العباد وحقِّ العباد على الله

وقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

وقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ الآية [النحل:36].

وقوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الآية [الإسراء:23].

وقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا الآية [النساء:36].

وقوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا الآيات [الأنعام:151].

قال ابنُ مسعودٍ : مَن أراد أن ينظر إلى وصية محمدٍ ﷺ التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى قوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا الآية [الأنعام:151- 153].

وعن مُعاذ بن جبلٍ قال: كنتُ رديف النبيِّ ﷺ على حمارٍ فقال لي: يا معاذ، أتدري ما حقّ الله على العباد؟ وما حقّ العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنَّ حقَّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا، وحقَّ العباد على الله أن لا يُعذِّب مَن لا يُشرك به شيئًا، قلت: يا رسول الله، أفلا أُبشر الناس؟ قال: لا تُبَشِّرهم فيتَّكلوا أخرجاه في "الصحيحين".

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذا كتاب عظيم، وهو كتاب التوحيد، ألَّفه الإمامُ الكبير والشيخ العلامة أبو عبدالله محمد بن عبدالوهاب بن سليمان بن علي التَّميمي الحنبلي رحمه الله، الإمام المجدد لما اندرس من معالم الإسلام في القرن الثاني عشر في هذه الجزيرة، المولود سنة 1115ه، والمتوفى سنة 1206 هجرية رحمه الله، ألَّف هذا الكتاب وكان يُعلِّمه الناس بحريملاء، ثم في عيينة، ثم انتقل إلى الدرعية، وساعده على الدَّعوة أميرُها محمد بن سعود رحمه الله في عام 1157 من الهجرة، واستمر في الدرعية حتى توفاه الله بها؛ يدعو إلى الله، ويُعلم الناس دينهم، ويُرشدهم إلى الحقِّ في مدة إقامته في الدرعية نحو خمسين عامًا.

وهذا الكتاب من أهم مؤلفاته رحمه الله، وقد هدى الله به الجمَّ الغفير، وأنقذ الله به الجزيرة مما هي فيه من الشرك، ثم انتشرت دعوته رحمه الله إلى مكة والمدينة، ثم إلى الهند والباكستان والشام والعراق وغيرها، ونقل ذلك العلماء رحمة الله عليهم، وانتشرت الدعوة، وصارت دعوته رحمه الله مُشجعةً لغيره من أهل العلم وأهل البصيرة والعقيدة الصالحة في العراق وفي الشام وفي الهند وفي مصر وفي غيرها.

وهذا الكتاب من أهم الكتب؛ لأنه ضمَّنه الآيات والأحاديث الدالة على حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك وجميع ما يتعلق بذلك، بوَّب لذلك أبوابًا كلها في تحقيق الدَّعوة والتَّحذير من ضدِّها، وفي أشياء تتعلق بذلك يأتي بيانها إن شاء الله، رحمه الله.

يقول رحمه الله: "كتاب التوحيد" يعني: هذا كتاب يذكر فيه توحيد الله الذي بعث به الرسل، وأنزل به الكتب، وهو توحيد العبادة؛ لأنَّ توحيد الربوبية قد أقرَّ به المشركون؛ توحيد الربوبية والأسماء والصِّفات قد أقرَّ بذلك المشركون، يعرفون أنه العزيز والحكيم والخلَّاق والرزاق، ولكنَّهم أشركوا بتوحيد العبادة؛ ولهذا يقول جلَّ وعلا: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وقال تعالى: مَنْ يَرْزُقُكُمْ يعني: قل يا محمد للناس: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [يونس:31]، هم يعرفون أنَّ الله هو الخلَّاق الرزاق المحيي الميت، مدبر الأمور، ولكنَّهم أشركوا مع الله آلهةً أخرى يزعمون أنها تُقربهم إلى الله زلفى، وأنها تشفع لهم: من أموات، وأصنام، وأشجار، وأحجار، ذكر الله عنهم أنهم قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، وذكر عنهم أنهم قالوا: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18].

فهم عبدوهم ودعوهم يزعمون أنهم شُفعاء الله؛ أنهم يُقربون إلى الله زلفى، جهلًا منهم وضلالًا، فأنكر الله عليهم ذلك؛ قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، ليس له شريك ، قال تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ۝ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:2- 3] يعني يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، قال الله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ، كذَّبهم بقولهم: يقربونا إلى الله زلفى، وأنهم كذبة في هذا، وأنهم كفرة بهذا العمل.

فدلَّ ذلك على أنَّ دعوة الأموات والاستغاثة بالأموات والنذر لهم والذبح لهم أو للغائبين أو للكواكب أو للأصنام أو للجن هذا هو الشرك الأكبر، هذا دين المشركين، قال تعالى: قُل قل يا محمد إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162- 163]، وقال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ۝ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:1- 2]، وقال النبي ﷺ: لعن الله مَن ذبح لغير الله، وقال جلَّ وعلا: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وقال سبحانه: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]، وقال النبيُّ ﷺ: مَن مات وهو يدعو لله ندًّا دخل النار.

فالواجب على جميع الثَّقلين -الجن والإنس- أن يعبدوا الله وحده، وأن يخصُّوه بالعبادة: بالدعاء والخوف والرجاء والذبح والنذر والصلاة والصوم وغير ذلك، كله لله وحده، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، خلقهم ليعبدوه، وهذه هي العبادة: دعاؤه ورجاؤه وخوفه ومحبته والصلاة له والصوم وغير هذا من طاعته، هذه هي العبادة التي خُلقوا لها، وهي الإسلام: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19]، وهي الإيمان والهدى: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23]، وهي البر والتقوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189].

فالواجب على الجميع أن يعبدوه وحده، وهذه العبادة هي تخصيصه بأفعالهم: من صلاةٍ وصومٍ ودعاءٍ ونذرٍ وخوفٍ وغير ذلك، كله لله وحده، وهذه العبادة تُسمَّى: إسلامًا، وتُسمَّى: دينًا، وتُسمَّى: هدى، وتُسمَّى: إيمانًا، وتُسمَّى: تقوى، وتُسمَّى: برًّا، هذه العبادة التي خلقنا لها: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] يعني: إلا ليخصُّوني بالعبادة دون غيري، قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] يعني: أمر ووصَّى ألا تعبدوا إلا إيَّاه، يعني: أن تخصوه بالعبادة، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وخلق الخلق ليعبدوه، وأرسل الرسل بذلك؛ أرسل الرسل لتأمرهم بهذا، وأنزل الكتب تأمرهم بهذا؛ القرآن نزل بهذا: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، ويقول سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ۝ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2- 3]، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا يعني: وحِّدوا الله، خصُّوه بالعبادة ولا تُشركوا به شيئًا، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] يعني: قل يا محمد للناس: تعالوا، يعني: هلمُّوا وأقبلوا: تَعَالَوْا أَتْلُ يعني: أقصّ عليكم ما حرَّمه الله عليكم، وهو الشرك بالله، حرَّم عليكم أن تُشركوا به سبحانه، وأوجب عليكم أن تخصُّوه بالعبادة: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۝ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:151- 152]، ثم قال بعده: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] يعني: هذه الأوامر والنَّواهي هي صراط الله؛ توحيد الله وترك الإشراك به، وبرّ الوالدين، وعدم قتل الأولاد بغير حقٍّ كما تفعله الجاهلية، كل هذا من دينه الذي شرعه الله لعباده.

والحذر من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإحسان إلى الأيتام، والوفاء بالكيل والميزان، والوفاء بالعهد، والعدل في القول والعمل، كله من دين الله، كله من الإسلام، كله داخل في العبادة التي خُلقوا لها، وهي عشر مسائل.

قال ابن مسعودٍ : "مَن أراد أن ينظر إلى وصية محمدٍ ﷺ التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات" يعني: هذه الآيات من سورة الأنعام: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151]؛ لأنَّ الله أوضح فيها الأوامر والنَّواهي، هذا هو دين الله، وصَّاهم الله بذلك؛ وصَّاهم أن يخصُّوه بالعبادة، وألا يُشركوا به شيئًا، وألا يقتلوا أولادهم من إملاقٍ، يعني: من فقرٍ، الله يرزق الجميع ، وحذَّرهم من الفواحش، وهي المعاصي، ما ظهر منها وما بطن، ونهاهم عن قتل النفوس بغير حقٍّ، وأمرهم بالإحسان إلى الأيتام وعدم قربان أموالهم إلا بالتي هي أحسن: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام:152] يعني: حتى يبلغ الحلم، وحتى يزول عنه السَّفه.

فالواجب على أولياء الأيتام الإحسان إليهم، وعلى غيرهم أيضًا أن يكفُّوا شرَّهم عن الأيتام ومالهم، وأن يُحسنوا إليهم حتى يبلغوا ويرشدوا ثم يُعطوا أموالهم.

قال: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ العدل بالكيل والميزان، وعدم الجور، وعدم الحيف .....: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا يعني: إذا قلتم أمرًا أو نهيًا أو حكمًا فاعدلوا، لا تجوروا في الأحكام، ولا في الأقوال، ولا في الأعمال.

ثم قال: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا يعني: عهد الله الذي عهد إليكم؛ عهد إلى الناس أن نتقيه، وأن نعبده وحده لا شريك له، وأن نُطيع أوامره، وأن ننتهي عن نواهيه، هذا عهد الله: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ قال: تعقلون، ثم تذكرون، إذا عقل الناسُ وتدبروا تذكَّروا.

ثم قال بعد: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] يعني: هذه الأوامر والنَّواهي هي صراط الله، أصلها وأساسها التوحيد والإخلاص لله، ثم فعل الأوامر وترك النواهي، هذا صراط الله المستقيم كما قال تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] يعني: طريق الجنة وطريق الهدى، وهو الإسلام، وهو الطريق إلى الجنة، وهو سبيل السعادة، وهو العلم والعمل؛ العلم بشرع الله، والعمل بذلك، وأساسه ورأسه توحيد الله والإخلاص له، ثم فعل الأوامر من صلاةٍ وغيرها، وترك النواهي من سائر المعاصي، هذا هو صراط الله المستقيم، وهو صراط المنعم عليهم: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، هو صراط المنعم عليهم من الرسل وأتباعهم، صراطهم هو سبيلهم، هو الصراط المستقيم، هو دين الله، وتوحيد الله وطاعته، وترك الإشراك به، والاستقامة على دينه.

فمَن أراد أن ينظر إلى وصية محمدٍ التي أوصى بها فليقرأ هذه الآية، يعني: لو وصَّى لن يُوصي إلا بما وصَّى الله به؛ لأنَّ الله قال: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [الأنعام:151]، والرسول ﷺ يُوصي بما وصَّى الله به، فهذه الآيات وصية الله ووصية الرسول، كما قال ابنُ مسعودٍ .

فالواجب على جميع الثَّقلين -الجن والإنس- العناية بهذه الوصايا، والاستقامة عليها، وأصلها وأساسها توحيد الله والإخلاص له، وترك الإشراك به، ثم فعل الأوامر من صلاةٍ وزكاةٍ وصومٍ وحجٍّ وجهادٍ، وأمرٍ بمعروفٍ، ونهيٍ عن منكرٍ، وغير ذلك، وترك ما نهى الله عنه من سائر المعاصي بعد الشرك، بعد ترك الشرك.

ثم ذكر رحمه الله حديثَ معاذٍ: أنه كان مع النبي ﷺ على حمارٍ فقال: يا معاذ، أتدري ما حقّ الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، هذا فيه الأدب؛ مَن سُئل عمَّا لا يعلم يقول: الله أعلم، في حياة النبي يُقال: الله ورسوله أعلم؛ لأنه يأتيه الوحي عليه الصلاة والسلام، أما بعد وفاته فيُقال: الله أعلم، أو يقول: لا أدري، فلما سأله ﷺ: أتدري ما حقّ الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم، كرر عليه، فقال: الله ورسوله أعلم، فقال ﷺ: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به، وحقّ العباد على الله ألا يُعذِّب مَن لا يُشرك به شيئًا.

هذا أمر عظيم؛ حقَّان عظيمان: حق الله على العباد توحيد الله والإخلاص له، وأن يعبدوه وحده، وأن يُطيعوا أوامره، وينتهوا عن نواهيه، وحقّ العباد على الله إذا أدّوا حقَّه: أن يُدخلهم الجنة، وأن يُنجيهم من النار، إذا عبدوه ووحَّده وأخلصوا له العبادة وأدّوا حقَّه فلهم الجنة والكرامة، كما قال جلَّ وعلا: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [التوبة:72]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ۝ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ الآية [البينة:7- 8]، هذا جزاء عباد الله؛ الجنَّات والكرامات والسَّعادة الأبدية التي ليس فيها موت ولا مرض ولا فقر ولا حاجة ولا مشقة، بل في نعيم دائم وخير دائم، هذا جزاء من عبد الله، واستقام على أمره، وحافظ على حدوده، وابتعد عن مناهيه.

قلت: يا رسول الله، أفلا أُبشر الناس؟ بهذا العلم، قال: لا تُبشرهم فيتَّكلوا يعني: لا يتَّكلوا على مجرد التوحيد ويقعوا في المعاصي، ثم إن معاذًا بيَّن ذلك في آخر حياته تأثمًا؛ تحرجًا من الإثم، والنبي بيَّن هذا في أحاديث أخرى؛ بيَّن ذلك لأمته، وحذَّرهم من الاتكال، حذَّرهم وبيَّن لهم أنه لا بدَّ مع التوحيد من حقِّ الإسلام، قال في الحديث الصحيح: أُمِرْتُ أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، ويُقيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّ الإسلام، فالطاعات كلها من حقِّ الإسلام، وترك المعاصي من حقِّ الإسلام.

ولهذا لما ارتدَّ مَن ارتدَّ من العرب وامتنعوا من أداء الزكاة في عهد الصديق بعد وفاة النبي ﷺ قاتلهم الصديقُ وقال: "إنَّ الزكاة من حقِّ الله"، الزكاة من حقِّ لا إله إلا الله، "والله لو منعوني عناقًا -وفي لفظٍ: عقالًا- كانوا يُؤدُّونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتُهم على منعه"، فقاتلهم هو والصحابةُ حتى خضعوا للحقِّ، ودخلوا في دين الله، وأدّوا الزكاة، والتزموا بأمر الله.

والنبي ﷺ بيَّن هذا في أحاديث كثيرة أنه لا بدَّ من توحيد الله والإخلاص له، ولا بدَّ من أداء حقِّه: ألا وإنَّ حمى الله محارمه، لا بدَّ من أداء ما أوجب الله، والله بيَّن هذا في قوله سبحانه: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۝ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:13- 14]، لكن أصل الدين وأساسه: توحيد الله والإخلاص له، وترك الإشراك به، والمعاصي فروع بعد ذلك، والطاعات فروع.

فمَن مات على التوحيد والإيمان والإخلاص وعنده بعض المعاصي هذا تحت المشيئة؛ قد يُغفر له، وقد يُعذَّب، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فإذا مات وعنده معاصٍ: زنا أو سرقة أو شرب مسكر أو عقوق للوالدين أو غير هذا فهو تحت مشيئة الله إذا مات ولم يتب؛ إن شاء الله عفا عنه بشفاعة الشُّفعاء، أو بمجرد رحمته ، وإن شاء عذَّبه.

وكثير من العُصاة يُعذَّبون، كثير منهم لا تعمّهم الشفاعة، ولا يُمنعون من دخول النار، كثير من العُصاة يدخلون النار بمعاصيهم، ويمكثون فيها ما شاء الله، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا من المعاصي وطهروا أخرجهم الله من النار إلى الجنة، ولا يُخلد في النار إلا الكفرة، لا يُخلد في النار إلا مَن مات كافرًا بالله، نسأل الله العافية، هؤلاء لهم الخلود دائمًا أبدًا؛ قال الله تعالى في حقِّ الكفرة: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، وقال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]، أما العُصاة إذا دخلوها فيُعذَّبون ما شاء الله ثم يُخرجون من النار بعد ذلك، ويُلقون في نهر الحياة، وينبتون كما تنبت الحبَّة في حميل السَّيل، فإذا تم خلقهم وحسن خلقهم أدخلهم الله الجنة.

فالواجب على جميع المؤمنين، الواجب على جميع الثقلين -الجن والإنس- تقوى الله وتوحيده والإخلاص له، والاستقامة على دينه، والحذر من الشرك به، والحذر من سائر المعاصي، هذا هو دين الله، وهذه هي العبادة التي خُلق الناس لها، وهذا هو الإسلام والإيمان والهدى.

أسأل الله أن يُوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يتغمَّدنا وإياكم بالرحمة، وأن يُعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأن يغفر للشيخ محمد ويتغمَّده بالرحمة، وأن يجزيه عن دعوته وجهاده خيرًا، وهكذا أتباعه، نسأل الله لهم المغفرة والعفو وجزيل المثوبة، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه.

باب فضل التوحيد وما يُكفّر من الذنوب

وقول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].

عن عبادة بن الصَّامت قال: قال رسولُ الله ﷺ: مَن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأنَّ عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنةَ على ما كان من العمل أخرجاه.

ولهما في حديث عتبان: فإنَّ الله حرَّم على النار مَن قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله.

وعن أبي سعيدٍ الخدري، عن رسول الله ﷺ قال: قال موسى: يا ربّ، علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله، قال: يا ربّ، كل عبادك يقولون هذا! قال: يا موسى، لو أنَّ السماوات السبع وعامرهنَّ غيري والأرضين السبع في كفَّةٍ، ولا إله إلا الله في كفَّةٍ، مالت بهن لا إله إلا الله رواه ابن حبان والحاكم وصحَّحه.

وللترمذي وحسَّنه عن أنسٍ: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تُشرك بي شيئًا لأتيتُك بقرابها مغفرةً.

الشيخ: يقول رحمه الله: باب فضل التوحيد، باب بيان فضل التوحيد الذي جهله المشركون وأنكروه، وهو توحيد العبادة وما يتضمنه من توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصِّفات، توحيد الله هو أصل الدين، هو أصل العمل، مَن استقام عليه تمَّت له السعادة؛ ولهذا أورده المؤلفُ في هذا الباب ليعرف طالبُ العلم وليعلم كل مسلمٍ فضل التوحيد وعظم شأنه، وقد جحده المشركون، واتَّخذوا مع الله الآلهة والأنداد، وقالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، فأقروا بأن الله خالقهم ورازقهم، وأقرُّوا بأسمائه وصفاته، ولكن جحدوا استحقاقه العبادة وحده، وجعلوا معه الآلهة والشُّفعاء، فكانوا بهذا مشركين؛ استحلَّت الأنبياء دماءهم وأموالهم، واستحلَّ نبينا ﷺ دماءهم وأموالهم حتى يعبدوا الله وحده، حتى يخصُّوه بالعبادة فلا يعبدوا معه ملكًا ولا شجرًا ولا حجرًا ولا صنمًا ولا نبيًّا ولا غير ذلك، كما قال جلَّ وعلا: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]، وقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، وقال سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] يعني: مخلصين له العبادة، وقال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وقال سبحانه: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14].

هذا هو الواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس؛ أن يخصوا الله بالعبادة، ومَن مات على هذا التوحيد والإيمان صادقًا أدخله الله الجنة؛ لأنَّ الصدق في التوحيد يتضمن محي الذنوب، الصادق في التوحيد يكون إيمانه وتوحيده مُزيلًا للذنوب؛ لأنَّ صدقه في إيمانه وصدقه في توحيده يتضمن التوبة والإقلاع والحذر من الذنوب كلها؛ ولهذا في الرواية الأخرى: إذا قالها صدقًا من قلبه، إذا قالها بحقِّها دخل الجنة، فالصادق الذي يقول هذه الشهادة من قلبه، لا يُصرّ على السيئات، بل يتوب إلى الله منها، ويُقلع منها، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] يعني: الذين آمنوا بالله وحده، وخصُّوه بالعبادة، ولم يظلموا يعني: لم يُشركوا؛ لهم الأمن، ولهم الهداية، لما نزلت الآية جاء الصحابةُ إلى النبي ﷺ وقالوا: يا رسول الله، أينا لم يظلم نفسه؟! ظنوا أنَّ الظلم هذا يعمّ الظلم الأصغر والأكبر، فقال: ليس كما تظنون، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح -أي لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؟ فالمراد بالظلم هنا هو الشرك: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا لم يخلطوا، اللبس: الخلط: إِيمَانَهُمْ توحيدهم بِظُلْمٍ بشركٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] لهم الأمن والهداية؛ الأمن من دخول النار إذا صدقوا في إيمانهم، والأمن من الخلود فيها؛ إن ماتوا ولهم ذنوب، فلهم أصل الأمن، ولهم أصل الهداية، أصل الأمن والهداية مع أهل التوحيد، لكن إن ماتوا على التوحيد صادقين تائبين من الذنوب صار أمنهم كاملًا، وهدايتهم كاملةً، ودخلوا الجنة بغير حسابٍ، وإن كان أمنهم ناقصًا وهدايتهم ناقصةً، ومعهم سيئات ومعاصٍ صار أمنهم ناقصًا، وصاروا تحت المشيئة، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

فمَن نقص إيمانه ونقص توحيده باقترافه السيئات وعدم التوبة صار إيمانه ناقصًا، وتوحيده ناقصًا، فيكون تحت المشيئة، لا يُخلد في النار إن دخلها، لكن قد يدخلها بمعاصيه، وبهذا يُعلم أنَّ قوله: لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ يعني: لهم الأمن ولهم الهداية، إن كانوا قد حققوا التوحيد فلهم الأمن الكامل والهداية الكاملة، أما إن كانوا قد نقصوا التوحيد وجرحوه بالمعاصي فإنَّ أمنهم ناقص، وهدايتهم ناقصة، لكن لهم الأمن من الخلود في النار إن دخلوها، فإنهم لا يُخلدون إن دخلوها بذنوبهم وسيئاتهم، وإنما يُخلد فيها الكفرة.

فالأمن التام والهداية التامة لمن حقق توحيده، وسلم من المعاصي، فإن كان معه المعاصي لم يتب فأمنه ناقص، وهدايته ناقصة، وهو على خطرٍ.

ومن هذا حديث عبادة ابن الصامت: أن النبي قال: مَن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل يعني: من صلاحٍ وفسادٍ، من كمالٍ ونقصٍ، وهذا كالذي قبله إن حقق توحيده وإيمانه دخلها من أول وهلةٍ، وإن كان عنده نقص بالسيئات فهو مقيد بالأحاديث الأخرى؛ لأنَّ النصوص يُقيد بعضها بعضًا، والآيات يُقيد بعضها بعضًا.

فهذا الحديث وما جاء في معناه من الأحاديث المطلقة تُقيد بقوله جلَّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فتقيد بقوله ﷺ: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفَّارات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر، وما جاء في معنى هذا، وأحاديث الوعيد على المعاصي تُقيد هذه المطلقات، فيكون على ما كان من عملٍ يعني: إذا كان قد أدَّى الواجبات وترك المحارم، وإن كان عمله ليس كعمل السابق، بل له الجنة إذا كان أدَّى الفرائض وترك المحارم، أو مات على توبةٍ.

وهكذا حديث عتبان: إنَّ الله حرَّم على النار مَن قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله يعني: مَن قالها صادقًا حتى ترك المعاصي، فإنه إذا قالها صادقًا يبتغي وجه الله، لم يصرّ على السيئات، بادر بالتوبة؛ حرَّمه الله على النار كما دلَّت عليه النصوص الأخرى.

وهكذا حديث أبي سعيدٍ في قصة موسى حين قال: يا ربّ، علمني شيئًا أذكرك به وأدعوك به، قال: قل: لا إله إلا الله، قال: يا ربّ، كل عبادك يقولون هذا يعني: وإنما أردتُ شيئًا تخصني به، قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع يعني: وعامرهنَّ غيري في كفةٍ، ولا إله إلا الله في كفَّةٍ مالت بهن لا إله إلا الله رجحت بهن إذا قالها صادقًا مخلصًا، تاركًا للسيئات، تائبًا إلى الله منها، فإن هذه الحسنة ترجح بجميع سيئاته التي تركها، وحقق إيمانه بالتوبة منها، وعدم الإصرار عليها.

وهكذا حديث أنسٍ: يقول الله جلَّ وعلا: يا ابن آدم، لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا بضم القاف على الأشهر، يعني: ملؤها أو ما يُقارب ملأها ثم لقيتني لا تُشرك بي شيئًا يعني: مُوحِّدًا مُحقِّقًا توحيدك أتيتُك بقُرابها مغفرةً غفرتُ لك، فهذا يدل على أنَّ مَن أتى الله بالتوحيد الخالص الصَّادق المتضمن عدم الإصرار على السيئات والتوبة منها لقيه الله بالمغفرة من جميع سيئاته التي صدق في تركها والتوبة منها والإقلاع عنها، كما جاءت النصوص بذلك.

والنصوص يُقيد بعضُها بعضًا، ويُوضح بعضها بعضًا، ويُفسر بعضُها بعضًا، فالآيات المطلقة والأحاديث المطلقة تُقيد بالأحاديث المقيدة والآيات المقيدة، وبهذا لا يكون بين النصوص اختلافٌ، بل يُفسر بعضُها بعضًا، ويدل بعضُها على بعضٍ.

فالواجب على المؤمن أن يحذر السيئات، وأن يحذر جميع المعاصي، وأن يستقيم على توحيد الله والإخلاص له، وأداء فرائضه، وترك محارمه؛ حتى يلقاه الله بالمغفرة الكاملة والجنة والسعادة والكرامة.

وفَّق الله الجميع.

باب مَن حقق التوحيد دخل الجنة بغير حسابٍ

وقول الله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120].

وقال: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:57- 59].

عن حصين بن عبدالرحمن قال: كنتُ عند سعيد بن جبيرٍ فقال: أيُّكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلتُ: أما إني لم أكن في صلاةٍ، ولكني لُدغتُ، قال: فما صنعتَ؟ قلت: ارتقيتُ، قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدَّثناه الشعبي، قال: وما حدَّثكم؟ قلت: حدَّثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رقيةَ إلَّا من عينٍ أو حمةٍ، قال: قد أحسن مَن انتهى إلى ما سمع، ولكن حدَّثنا ابنُ عباسٍ عن النبي ﷺ أنه قال: عُرضت عليَّ الأمم، فرأيتُ النبيَّ ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رُفع لي سوادٌ عظيم فظننتُ أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرتُ فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فنظرتُ فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنةَ بغير حسابٍ ولا عذابٍ، ثم نهض فدخل مَنْزله، فخاض الناسُ في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله ﷺ، وقال بعضُهم: فلعلهم الذين وُلدوا في الإسلام فلم يُشركوا بالله شيئًا، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسولُ الله ﷺ فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه، فقال: هم الذين لا يَسْتَرقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكَّلون، فقام عكاشة بن محصن فقال: ادعُ الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، ثم قام رجلٌ آخر فقال: ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة.

الشيخ: هذا الباب من أبواب كتاب التوحيد، هذا باب عظيم يُبين تحقيق التوحيد ما هو، والمؤلف أبو عبدالله الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله أراد بذلك بيان ما يجب على المؤمن من تحقيق التوحيد، والحذر مما ينقصه ويثلبه، قال رحمه الله: "باب مَن حقق التوحيد دخل الجنة بغير حسابٍ" مع تحقيقه وتخليصه وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، هذا هو تحقيق التوحيد: تخليصه وتنقيته وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي؛ لأنَّ الشرك إن كان أكبر يُنافي التوحيد بالكلية، وإن كان أصغر يُنافي كماله الواجب؛ ولأنَّ البدع تقدح في التوحيد؛ ولأنَّ المعاصي تنقص ثواب أهل التوحيد، فلا يكون العبد مُحققًا لتوحيده إلَّا إذا جاهد نفسه؛ حتى يتباعد عن الشرك كله: دقيقه وجليله، وعن جميع البدع والمعاصي، والمعنى: أن يلقى ربَّه بإيمانٍ كاملٍ، ليس معه معاصٍ قد أصرَّ عليها، بل توبة صادقة، وعمل صادق.

قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120] إبراهيم هو الخليل عليه الصلاة والسلام، هو خليل الرحمن، والد الأنبياء بعده: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني: قد حقق توحيده عليه الصلاة والسلام، فهو أمة، فالأمة هو الثابت على الحقِّ، وهو الداعي إليه، فكان إبراهيم أمةً على الحقِّ وحده، وكان يدعو إليه أيضًا، وينذر من الشرك ويحذر منه، قانتًا لله يعني: عابدًا مُطيعًا لله، القنوت: دوام الطاعة، فالمعنى: أنه مستمر في طاعة الله، مخلص لله ، حنيفًا: هو المقبل على الله، المُعرض عمَّا سواه، يعني: قد أقبل بقلبه وقالبه على الله، وأعرض عما سواه: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بل فارقهم في عقيدته، وفي بدنه أيضًا حتى هاجر من بلاد الشرك عليه الصلاة والسلام، فهو غاية في تحقيق التوحيد، فهو عليه الصلاة والسلام أمة، ليس معه على الحق سوى زوجته سارة لما أسلمت، ثم ابن أخيه لوط لما أوحى الله إليه وهداه، ثم هدى الله بعد ذلك مَن هدى على يديه عليه الصلاة والسلام، وكان حنيفًا قانتًا بعيدًا عن الشرك وأهله، قد أقبل على الله، واجتهد في العبادة، واستقام عليها، فكان إمام الحنفاء، وخليل الرحمن عليه الصلاة والسلام.

قال الله جلَّ وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، ونبينا هو خليل الله أيضًا، هو الخليل الثاني عليه الصلاة والسلام، وهو أيضًا غاية في توحيد الله والإخلاص له وتحقيقه.

فينبغي لكل مؤمنٍ أن يتأسَّى بالخليلين: إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وأن يجتهد في تحقيق توحيده وإخلاصه لله وتنقيته من كل شرٍّ.

قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ، قبلها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ۝ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ۝ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57- 61]، قد حققوا توحيدهم بخشيتهم لله: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، فهم قد خشوا الله ، وراقبوه، وعظَّموه، واستقاموا على الإيمان به، وابتعدوا عن الشرك كله: دقيقه وجليله، ثم مع هذا كله سارعوا في الخيرات، وسبقوا إليها؛ لكمال إيمانهم، وكمال تقواهم وإخلاصهم.

هكذا ينبغي للمؤمن أن يكون قوي الإيمان، بعيدًا عن الشرك: دقيقه وجليله، مسارعًا إلى الخيرات، مسابقًا إليها، كثير الخشية لله، والمراقبة له سبحانه، هكذا يكون تحقيق التوحيد بالخشية لله والمراقبة، والإخلاص في العبادة لله وحده، والحذر من الشرك كله والبدع والمعاصي.

وعن حصين بن عبدالرحمن قال: كنتُ عند سعيد بن جبير. سعيد هو التابعي الجليل المعروف، فقال لهم سعيد يُذكرهم: أيّكم رأى الكوكب الذي انقضَّ البارحة؟ يتبين من هذا أنَّ السلف يتذاكرون في الحوادث؛ لعظم إيمانهم وتقواهم وخشيتهم لله: أيّكم رأى الكوكبَ الذي انقضَّ البارحة؟ يعني: النجم، فقال له حصين: أنا، ثم قال: أما إني لم أكن في صلاةٍ. خشي أن يظنوا أنه كان يُصلي، وأنه يُرائي بعمله، أما إني لم أكن في صلاةٍ، ولكني لُدغتُ. يعني: لدغته حية أو عقرب فاستيقظ، قال: فماذا صنعت؟ يسأله سعيد، قال: استرقيتُ. يعني: طلبتُ مَن يرقيني، قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدَّثناه الشعبي. وهو عامر بن شراحيل الهمداني، تابعي جليل، فقيه ثقة، قلت: وما حدَّثكم؟ قال: حدَّثنا بُريدة بن الحصيب الأسلمي، يعني: عن النبي ﷺ أنه قال: لا رقيةَ إلَّا من عينٍ أو حمةٍ يعني: لا رقيةَ كاملة إلَّا من عينٍ: من النظرة، عين العائن، النفس، أو حمة سمّ من ذوات السّموم؛ فلهذا استرقيتُ لهذا الحديث؛ لأنه أصابته الحمّة، وهي سم من ذوات السموم.

والرقية من كل مرضٍ جائزة؛ لقوله ﷺ: لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا، ولكن الرقية من العين -عين العائن- ومن اللَّدغة أهم وأولى، الله جعلها شفاءً من العين ومن الحمة.

فهذا المطالب بالدليل، السلف كانوا يعتنون بالدليل، إذا عمل إنسانٌ عملًا سألوه: ما دليلك على هذا العمل؟ حتى يُحققوا توحيدهم وإيمانهم بالعمل بالدليل، وعدم الاتكال على الرأي المجرد.

ثم قال لهم سعيد: ولكن حدَّث ابنُ عباسٍ –يعني: بما هو أكمل- عن النبي ﷺ أنه قال: عُرضت عليَّ الأمم يعني: ليلة الإسراء عليه الصلاة والسلام حين أُسري به إلى السماء: فرأيت النبي ومعه الرهط -وفي روايةٍ: الرهيط- والنبي معه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، الرهط: ما بين الثلاثة إلى العشرة، الثلاثة إلى العشرة يُقال لهم: رهط، والرهيط: الثلاثة والأربعة والخمسة يقال لهم: رهيط، ورأيتُ النبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد يعني: رأى الأنبياء بعضهم معه الرهط القليل: الخمسة والستة، وبعضهم معه الرجل والرجلان، وبعضهم ما تبعه أحد، يعني: أمته أبت أن تتبعه، وأن تنقاد لما جاء به، ففي هذا دليل على قلَّة مَن استجاب للأنبياء، وأن أهل الحقِّ هم الأقلون كما قال جلَّ وعلا: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، وقال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، فأتباع الحقّ والمستقيمين عليه هم الأقلون في كل زمانٍ ومكانٍ، قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20]، بل بعض الأنبياء قتله قومه، نسأل الله العافية!

فرُفع لي سواد عظيم، فظننتُ أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه فيه الدلالة على كثرة أتباع موسى من بني إسرائيل عليه الصلاة والسلام.

ثم رُفع لي سواد عظيم فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنةَ بغير حسابٍ ولا عذابٍ فخاض الناسُ -الصحابة المستمعون للحديث- في ذلك؛ في السبعين مَن هم؟ فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله ﷺ. وقال بعضُهم: يعني القدماء، قدماء الصحابة. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يُشركوا بالله شيئًا. وذكروا أشياء، وخاضوا في أشياء، فخرج عليهم رسولُ الله ﷺ فأخبروه، يعني: أخبروه عمَّا حصل بينهم، فقال: هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون يعني: هؤلاء السبعون هم أهل الاستقامة الذين استقاموا على دينه، وحافظوا على ما أوجب الله عليهم، وتركوا ما حرَّم الله عليهم، وتركوا بعض الأشياء المباحة ثقةً بالله، وتوكلًا عليه: كالاسترقاء، الاسترقاء جائز، ولكن تركوه لأنَّ الحاجة إلى الناس تركها أفضل، فالاسترقاء طلب مَن يرقي، طلب الرقية، وتركها أفضل إلا عند الحاجة إليها، إذا احتاج فلا بأس، فقد أمر النبي ﷺ عائشة أن تسترقي، وأمر أم أولاد جعفر أن تسترقي لأولادها، فلا بأس بالاسترقاء، لكن تركه أفضل إذا وجد ما يُغني عنه.

ولا يكتوون الكي جائز، ولكن تركه أفضل؛ ولهذا يقول ﷺ: الشفاء في ثلاثة: كية نار، وشرطة محجم، وشربة عسل، وما أُحب أن أكتوي، فالكي من أسباب الشفاء، والحجامة كذلك من أسباب الشفاء، وكية النار كما تقدم، وشربة العسل، كل هذا من أسباب الشفاء، فالأسباب لا بأس بها، الإنسان يكتوي، يتداوى بشربة العسل، بالحجامة، بأشياء أخرى، لا بأس أن يتداوى، يقول النبي ﷺ: عباد الله، تداووا، ولا تداووا بحرامٍ، التداوي لا بأس به، لكن ترك الاسترقاء والحاجة إلى الناس وطلب الحاجة منهم أفضل، إلا إذا دعت الحاجةُ إليه.

ولا يتطيرون التطير: التَّشاؤم بالمرئيات أو بالمسموعات، وهي ممنوعة، من الشرك كونه يتطير: يتشاءم، إذا خرج لحاجةٍ ورأى شيئًا ما يُعجبه رجع من حاجته، الطيرة ما تصلح، وفي الحديث: مَن ردَّته الطيرةُ عن حاجته فقد أشرك.

فالطيرة: التَّشاؤم بالمرئيات أو المسموعات، إذا ردته عن حاجته، أما إذا لم ترده عن حاجته، بل اتَّكل على الله وسأله العافية فهذا ليس من التَّطير، لكن التطير كونه يتشاءم، مثل: إنسان يخرج إلى السوق لحاجةٍ فيُصادفه رجلٌ لا يُحبه، أو صورة لا يرضاها: كالكلب أو الحمار، فيرجع، هذه تُسمَّى: الطيرة، لا تجوز، النبي ﷺ قال: لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر هذا من دين المشركين: التطير، والنبي عليه الصلاة والسلام حذَّر منه.

فالإنسان إذا رأى ما يكره لا يتطير، ولا يرجع عن حاجته، يمشي في حاجته ويسأل ربه العافية، يقول: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك، كما قال ﷺ لما ذُكرت عنده الطيرة قال: لا ترد مسلمًا، وإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك، وفي اللفظ الآخر: اللهم لا خيرَ إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك.

ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكَّلون هؤلاء هم أهل الاستقامة؛ يبتعدون عن الأسباب المكروهة، ويتوكلون على الله في فعل ما أوجب الله، وترك ما حرَّم الله، والثقة بالله، والاعتماد عليه في كل شيءٍ، هؤلاء هم السبعون ألفًا ومَن سار في ركابهم، هم الذين يستقيمون على طاعة الله، ويُؤدون ما أوجب الله، وينتهون عمَّا حرم الله، ويتركون بعض الأسباب المكروهة إذا استغنوا عنها ثقةً بالله واعتمادًا عليه جلَّ وعلا.

فقال عكاشة: يا رسول الله، ادعُ الله أن يجعلني منهم، قال النبي: اللهم أنت منهم، وفي لفظٍ: أنت منهم.

عكاشة بن محصن الأسدي قُتل يوم الردة شهيدًا.

فقام آخر فقال: ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة سدَّ الباب بهذا الكلام الطيب؛ لئلا يتسلسل الأمر فيقوم مَن لا يستحقها، فقال: سبقك بها عكاشة.

ففي هذا الحديث الدلالة على أنَّ الاستقامة على طاعة الله، والتَّباعد عن محارم الله، والثبات على الحقِّ، وترك الأشياء المشتبهة؛ أنها من أعمال السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حسابٍ ولا عذابٍ، فمَن استقام على أمر الله، وحافظ على حدود الله، وأدَّى ما أوجب الله عليه، ووقف عند الحدود؛ فهو من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنةَ بغير حسابٍ ولا عذابٍ.

نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

باب الخوف من الشرك

وقول الله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

وقال الخليل : وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم:35].

وفي الحديث: أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء رواه أحمد والطبراني والبيهقي.

وعن ابن مسعودٍ : أن رسول الله ﷺ قال: مَن مات وهو يدعو من دون الله ندًّا دخل النار رواه البخاري.

ولمسلم: عن جابرٍ : أن رسول الله ﷺ قال: مَن لقي الله لا يُشرك به شيئًا دخل الجنة، ومَن لقيه يُشرك به شيئًا دخل النار.

الشيخ: هذا الباب له شأن عظيم فيما يتعلق بالشرك، عقده المؤلف للتَّحذير من الشرك الذي وقع فيه الأكثرون، قال المؤلفُ رحمه الله: "باب الخوف من الشرك" يعني: باب وجوب الخوف من الشرك، باب وجوب الخوف منه، والحذر منه ومن وسائله.

وقد وقع في الشرك الأكثرون، ولم ينجُ إلا القليل، كما قال جلَّ وعلا: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].

فيجب على المؤمن أن يحذر الشرك، وأن يفهمه حتى يبتعد عن وسائله وذرائعه، قال الله جلَّ وعلا مُحذِّرًا منه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، فبين سبحانه أن الشرك لا يُغفر، بل مَن مات عليه فله النار -نعوذ بالله- يوم القيامة، قال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وقال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72]، وقال : وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ يعني: إلى النبي ﷺ: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۝ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65- 66].

قال الخليلُ إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، إذا كان الخليل خاف على نفسه وعلى بنيه وهو إمام الحنفاء فكيف بغيره؟ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ يعني: جنبني، أبعدني عن عبادة الأصنام أنا وذُريتي، أما ما دون الشرك من المعاصي فهي تحت المشيئة، كما قال تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

فمَن مات على شيءٍ من المعاصي: كالزنا أو شرب المسكر أو العقوق أو الربا أو ما أشبه ذلك فهو تحت مشيئة الله: إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذَّبه على قدر معاصيه بالنار، ثم بعد التَّطهير والتَّمحيص يُخرجه الله من النار إلى الجنة إذا كان مات على التوحيد والإيمان والإسلام.

فالواجب الحذر من الشرك أكبر الحذر، ثم الحذر من المعاصي أيضًا؛ حتى لا يكون مُعرَّضًا للنار.

وفي الحديث يقول ﷺ: أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، أخوف ما يخاف على الصحابة وعلى أمته الشرك الأصغر؛ لأنَّ النفوس قد تميل إليه، يُزين لها الشيطان ذلك، فسُئل عنه فقال: الرياء، يقول الله يوم القيامة للمُرائين: اذهبوا إلى مَن كنتم تُراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟! كونه يُصلي يُرائي، يتصدق يُرائي، يُجاهد يُرائي، يأمر بالمعروف يُرائي، أو ما أشبه ذلك، كفعل المنافقين، قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142].

فالرياء من عمل المنافقين، والواجب الحذر منه، وهو يُخاف على الصالحين؛ فقد يقرأ يُرائي، قد يُصلي بعض الأحيان يُرائي، قد يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف يُرائي؛ ليمدح، ليُقال أنه جيد، فهذا العمل الذي يقترن معه الرياء يكون باطلًا، صاحبه على خطرٍ، والشرك الأصغر لا يُخرج من الملة، فصاحبه لا يكون كافرًا، لكن يكون نقصًا في إيمانه، ونقصًا في توحيده، وصاحبه على خطرٍ، ويُخشى عليه من العذاب يوم القيامة، إلا أن يعفو الله عنه برجحان حسناته، أو بتوبةٍ.

وفي الحديث يقول ابنُ مسعودٍ : عن النبي ﷺ أنه قال: مَن مات وهو يدعو من دون الله ندًّا دخل النار، مَن مات وهو يتَّخذ لله النِّد؛ يعني: حجرًا أو صنمًا أو ملكًا أو وليًّا يدعوه مع الله، ويستغيث به؛ فقد أشرك، قال سبحانه: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، ويقول سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165].

فالواجب الحذر من ذلك، وعدم اتّخاذ الأنداد، يعني: اتّخاذ الشُّركاء، يعبدهم مع الله، سواء كان صنمًا أو وليًّا أو شجرًا أو حجرًا أو ملكًا أو جنيًّا أو غير ذلك يدعوه مع الله، ويستغيث به، وينذر له، ويذبح له، هذا الشرك الأكبر، كما يفعل عبَّاد القبور الآن؛ يدعون الأموات، ويستغيثون بهم: سيدي فلان اشفني، انصرني، أنا في جوارك، أنا في حسبك. هذا الشرك الأكبر، أو يذبح له، أو ينذر له، هذا الشرك الأكبر، نعوذ بالله، أو يدعو وليًّا من الأولياء الغائبين، أو ملكًا من الملائكة، أو نبيًّا من الأنبياء ولو بعيدًا عنه، ولو بعيدًا عن قبره، يستغيث به يقول: يا فلان، يُنادي، وهو ميت أو غائب، يظن أنه يعلم الغيب، ويستطيع النفع والضر، هذا الشرك الأكبر، أو يدعو الأصنام، أو النجوم، أو الشمس، أو القمر، أو الجن، هذا هو الشرك الأكبر، ينقض لا إله إلا الله؛ يعني يبطل لا إله إلا الله، ولهذا قال ﷺ: مَن مات وهو يدعو من دون الله ندًّا يعني: يتَّخذ مع الله ندًّا، يعني شريكًا يدعوه ويستغيث به؛ فهو في النار.

فالواجب الحذر من الشرك كله: دقيقه وجليله.

ويقول ﷺ في حديث جابر: مَن لقي الله لا يُشرك به شيئًا دخل الجنة، ومَن لقيه يُشرك به شيئًا دخل النار، ففي هذا بيان عظم الشرك وخطره، ووجوب الخوف منه، وفضل التوحيد، وأن مَن مات عليه فهو إلى الجنة، مَن مات على التوحيد سالمًا من الشرك فهو من أهل الجنة، لكن إن لم تكن له ذنوب أصرَّ عليها دخل الجنة من أول وهلةٍ، فإن كانت له ذنوب فهو تحت المشيئة هذا الموحد.

باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

وقوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن رسول الله ﷺ لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي روايةٍ: إلى أن يُوحِّدوا الله- فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أنَّ الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في كل يوم وليلةٍ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أنَّ الله افترض عليهم صدقةً تُؤخذ من أغنيائهم فتُرد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتَّقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب أخرجاه.

ولهما عن سهل بن سعدٍ : أن رسول الله ﷺ قال يوم خيبر: لأُعطينَّ الرايةَ غدًا رجلًا يُحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم: أيّهم يُعطاها، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله ﷺ، كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه فأُتي به، فبصق في عينيه ودعا له فبرأ، كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الرايةَ فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقِّ الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم.

يدوكون أي: يخوضون.

الشيخ: هذا الباب في الدَّعوة إلى الله، لما ذكر المؤلفُ رحمه الله حقيقةَ التوحيد وفضله وتحقيقه، وذكر الخوف من الشرك؛ ذكر بعد ذلك الدَّعوة إلى ذلك؛ تنبيهًا على أن المؤمن متى منَّ الله عليه بالعلم والبصيرة فحقٌّ عليه أن يدعو إلى ذلك، متى عرف التوحيد والإيمان وتفقه في الدين فإنَّ الواجب عليه أن يدعو إلى الله، وأن ينشر العلم كما علَّمه الله، يُنفق مما أعطاه الله، كما قال الله : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وقال سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا [فصلت:33].

فالمؤمن يدعو إلى الله حسب طاقته، حسب علمه، وهذا هو واجب الرسل، وواجب أتباعهم؛ واجب الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو الواجب على أتباعهم من أهل العلم؛ الدَّعوة إلى الله، والتبليغ عن الله، وإرشاد الناس إلى ما خُلقوا له من توحيد الله وطاعته، وتحذيرهم مما يُضاده.

يقول المؤلفُ رحمه الله: "باب الدّعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله" يعني: باب وجوب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ لأنها أختها، الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله دعوة إلى الشهادة بأنَّ محمدًا رسول الله، لا بدَّ منهما جميعًا، فلا إسلام ولا إيمان إلا بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنه لا معبودَ حقّ إلا الله، والشهادة بأنَّ محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله إلى جميع الثَّقلين: الجن والإنس، فلا بدَّ من هذا، فلا إسلام ولا إيمان إلا بهاتين الشَّهادتين، علمًا وعملًا؛ ولهذا قال تعالى: قُلْ يعني: قل يا محمد هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108] يعني: قل للناس: هذه التي أنا عليها، الطريقة التي أسير عليها من دعوة الناس إلى توحيد الله، ومن النَّهي عن الشرك، وأمرهم بطاعة الله، ونهيهم عن المعاصي، هَذِهِ سَبِيلِي يعني: هذه طريقتي ومحجتي التي أنا أسير عليها، وآمر الناس بها، ثم بيَّنها فقال: أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ.

هذه طريقة الرسل؛ بعثهم الله دُعاةً إليه ومُرشدين ومُعلمين، قال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].

أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] هو على بصيرةٍ يدعو إلى الله، وأتباعه كذلك يدعون إلى الله على بصيرةٍ: وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ تنزيهًا لله عمَّا لا يليق به من الشرك وصفات النَّقص: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بل أنا برئ منهم، وهم بُراء مني.

فالواجب على أهل العلم الدَّعوة إلى الله كما دعا الأنبياءُ، وكما دعا خاتمهم وأفضلهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وأن يكونوا على بصيرةٍ، على علمٍ، لا يدعون بالجهل، لا بد أن يكون على بصيرةٍ وعلى علمٍ: قال الله، قال رسوله، ومَن دعا إلى الله فله مثل أجر مَن اهتدوا على يده، يقول النبي ﷺ: مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله نعمة عظيمة.

عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما -هو عبدالله، إذا قيل: ابن عباس فهو عبدالله ، المعروف بالعلم والفضل والفقه في الدين- أن النبي ﷺ لما بعث معاذًا إلى اليمن -النبي بعث معاذًا في آخر حياته ﷺ إلى اليمن داعيًا إلى الله ومُرشدًا ومُعلمًا وأميرًا وجابيًا للزكاة وغير ذلك- قال له: إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب يعني: عندهم علوم، وهم اليهود والنصارى، يعني: كن مُستعدًّا لهم ولكشف شُبههم فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وفي اللفظ الآخر: فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وفي روايةٍ: إلى أن يُوحِّدوا الله المعنى: ادعهم إلى توحيد الله، والشهادة بأني رسول الله، والشهادة بأنَّ الله لا معبودَ بحقٍّ سواه؛ حتى يدعوا ما هم عليه من اليهودية والنصرانية فإن هم أجابوك لذلك يعني: أجابوا إلى توحيد الله والإيمان برسوله محمد ﷺ فادعهم إلى الصَّلوات الخمس يعني: خبرهم أنَّ الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في اليوم والليلة، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام، الركن الأول: الشَّهادتان، والركن الثاني: الصَّلوات الخمس.