باب قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]
وقوله: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة:24].
عن أنسٍ: أنَّ رسول الله ﷺ قال: لا يُؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين أخرجاه.
ولهما عنه قال: قال رسولُ الله ﷺ: ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوةَ الإيمان: أن يكون اللهُ ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحب المرءَ لا يُحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار. وفي روايةٍ: لا يجد أحدٌ حلاوةَ الإيمان حتى .. إلى آخره.
وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: "مَن أحبَّ في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تُنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبدٌ طعمَ الإيمان وإن كثرت صلاتُه وصومُه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامَّة مُؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يُجدي على أهله شيئًا" رواه ابن جرير.
وقال ابنُ عباسٍ في قوله تعالى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة:166]، قال: "المودة".
الشيخ: هذا الباب في بيان إثبات محبَّة الله، وأنها من أهم المهمات، ومن أفضل العبادات، وأنها أساس لهذا الدين، فإنَّ حبَّه يقتضي إخلاص العبادة له، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده؛ ولهذا قال المؤلفُ رحمه الله: (باب قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ الآية [البقرة:165]) يُبين سبحانه وتعالى أنَّ بعض الناس يتَّخذ أندادًا من دون الله: من أصنامٍ، وأشجارٍ، وأحجارٍ، وأنبياء، وملائكة، وجنّ، وغير ذلك، يُحبونهم كحبِّ الله، يعني: يُحبونهم محبَّة العبادة، كحبِّ الله يعني: كحبِّهم إلى الله، أو كحبِّهم الله، على أحد التفسيرين.
والمقصود من هذا بيان أنَّ هؤلاء المشركين ضلوا هذا السَّبيل، حيث أحبُّوا مع الله غيره محبَّة عبادةٍ، فخضعوا لهم، وعبدوهم بالنُّذور والذَّبائح والدُّعاء وغير ذلك، والواجب عليهم أن تكون محبَّتهم لله واحدة، خالصة؛ لأنها محبَّة عبادةٍ تقتضي إيمانهم به، وتقتضي إخلاص العبادة له، وتقتضي طاعة أوامره، وترك نواهيه، إلى غير ذلك، أما محبَّة غيره فتكون تابعةً لمحبَّته، يُحب الرسل لله؛ لأنه رسول الله، يُحب المؤمنين لله؛ لأنهم أولياء يُطاعون، وهذه المحبَّة لله، وفي الله، أما حبُّ العبادة فهذا خاصٌّ بالله، وهي محبَّة الخضوع والذُّلِّ والاستكانة والطاعة والامتثال، هذا خاصٌّ به جلَّ وعلا، لا يكون لغيره، يجب على العبد أن يُحب الله محبَّةً صادقةً تقتضي إخلاص العبادة له، واتِّباع شريعته، وطاعة أوامره التي جاء بها رسله، وترك نواهيه.
بخلاف أهل الشِّرك؛ فإنهم أحبّوا أندادهم كحبِّ الله، كما أحبُّوا الله، بل بعضهم زاد حبُّه لأنداده أكثر من حبِّ الله، فصاروا يعبدون أندادهم، ويُخلصون لهم الدعاء، وينذرون لهم، ويسجدون إلى قبورهم، ويتقربون إليهم بالذبائح والنُّذور، ولو قيل لهم: افعلوا هذا لله، كسلوا، وضعفوا، فصارت محبَّتهم لأندادهم أشدّ، وبعضهم يتجرأ على الحلف بالله كاذبًا، ولا يتجرأ على الحلف بشيخه ومعبوده من دون الله كاذبًا، ويقول: إنه أسرع انتقامًا من الله لي، وما أشبه ذلك مما يقوله أعداء الله الذين ابتُلوا بالشِّرك بالله وتعظيم محبَّة الغير على محبَّة الله .
قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165] المؤمنون أشدّ حبًّا لله من حبِّ هؤلاء لأندادهم؛ لأنهم أخلصوا لله العبادة، وعرفوا حقَّه ، فصاروا يُحبونه محبَّةً عظيمةً فوق محبَّة هؤلاء الضَّالين لأندادهم؛ ولهذا أخلصوا له العبادة، ودعوه وحده، وسجدوا له وحده، وصرفوا له العبادة كلها ، وخضعوا لأوامره، ووقفوا عند حدوده، ونفذوا أوامره، ولم يعصوه ، وتابعوا رسله، وعرفوا أنَّ الرسل إنما هم مُبلغون، دُعاة، ليسوا آلهةً معبودين، وإنما هم مُبلغون عن الله، تجب طاعتهم، واتِّباعهم، وتعظيم أمرهم ونهيهم، ومحبَّتهم في الله تبعًا لمحبَّة الله ؛ ولهذا قال بعده: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: المشركين إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة:165]، إذا رأوا ذلك واستحضروه لأحبُّوا الله أكثر، ولعظَّموه أكثر، ولأخلصوا له العبادة، ولكن لجهلهم بالله وقلَّة بصيرتهم أوقعتهم في الشِّرك بالله : إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة:166]، فالذين اتُّبعوا من أولياء الله من المؤمنين ومن الرسل تبرَّؤوا من عابديهم الذين تبعوهم وعبدوهم بالشِّرك، وقلَّدوهم في الشِّرك، هؤلاء المؤمنون يتبرؤون منهم يوم القيامة، كما يتبرأ الرسلُ من عابديهم يوم القيامة ويقولون: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ [القصص:63].
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ يعني: أولئك المتَّبِعون لأئمَّتهم في الباطل ولأعداء الله وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة:166] لم يبقَ لهم سببٌ يتعلقون به؛ لأنهم أشركوا بالله فبطلت أسبابهم، وصاروا إلى النار، نعوذ بالله من ذلك: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كرةً أي: رجعة إلى الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا، قال الله تعالى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]؛ لأنهم تابعوا أهلَ الباطل، تابعوا أهلَ الشِّرك، وتركوا عبادةَ الله وحده، وتركوا اتِّباع الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ فلهذا هلكوا، وأراهم اللهُ أعمالهم حسرات عليهم، وما هم بخارجين من النار بسبب شركهم وكفرهم واتِّباعهم الباطل الذي نهاهم اللهُ عنه، ونهتهم الرسلُ عنه عليهم الصلاة والسَّلام.
والمقصود من هذا أنَّ الواجب إخلاص العبادة لله وحده، ومحبَّته سبحانه المحبَّة الصَّادقة التي تقتضي إخلاص العبادة له، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، ويجب أيضًا البراءة من عبادة غيره، وإنكاره، واعتقاد بطلانها، وأنَّ العبادة حقُّ الله وحده، كما قال سبحانه: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2- 3]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب إخلاص العبادة له وحده سبحانه وتعالى، وأنَّ الواجب محبَّته المحبَّة الصَّادقة الخاصَّة المقتضية لطاعته، واتِّباع شريعته، وتعظيم أمره ونهيه، وإخلاص العبادة له .
أما محبَّة الغير فلا بدَّ أن تكون تابعةً لمحبَّة الله، فيُحب الرسلَ لأنهم بلَّغوا عن الله، وأدُّوا الحقَّ الذي عليهم، فيُحبون في الله محبةً تقتضي اتِّباعهم وطاعة أوامرهم، وتقديم هديهم على غيرهم، وهكذا المؤمنون يُحبون في الله بطاعتهم لله، وإيمانهم بالله، ولا يُعبدون، ولكن يحبون محبَّة الولاية، والمحبَّة التي أوجب الله لهم؛ لأنهم أطاعوا الله؛ ولأنهم عبدوا الله، فنُحبهم لله؛ لأنهم إخواننا أطاعوا الله، فنُحبهم في ذلك، لا محبَّة عبادةٍ، ولكن محبَّة موالاة لهم، ورضا بأعمالهم الطيبة التي عبدوا بها ربَّهم .
أما المحبَّة الطبيعية التي طبع اللهُ الناسَ عليها: كمحبة ما يُناسب الإنسان من أكلٍ وشربٍ، أو نساء، أو أولاد، فهذه محبَّة لا تقدح في حبِّ الله، ولا تضرّ محبَّة الله إذا لم يُؤثرها على محبَّة الله، إذا كانت لم تضرّ محبّة الله، ولم تضرّ محبة أوليائه، ولكنها محبّة طبيعية تقتضي مُوجباتها من الإحسان إلى الأولاد، والإحسان إلى الزوجات: من قضاء الوطر، من إنفاقٍ، إلى غير ذلك، فإذا زادت محبَّةُ الأولاد والأهل ونحو ذلك حتى صارت قادحةً في محبَّة الله ومُضرة بها: بأن أطاع أهله أو ولده أو إخوته أو أصدقاءه، أطاعهم في معصية الله، كانت هذه المحبَّة مؤثرة على في حبِّ الله، ومنقصة للإيمان، ومُضعفة للإيمان بقدر ما آثرها على محبَّة الله ؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ: إنما الطاعةُ في المعروف.
فهذه المحبَّة للأهل والأولاد لا بدَّ أن تكون مُقيدةً بطاعة الله ورسوله، لا تزيد على ذلك، ولا تخرج عن ذلك، فإذا خرج في حبِّه لزوجته أو لأبيه أو لأمه أو لأصدقائه عن ذلك حتى أطاعهم في معاصي الله؛ صارت هذه المحبَّة قادحةً في إيمانه، ومُضعفةً لإيمانه، وقادحةً في محبَّته لله .
وعن أنسٍ رضي الله تعالى عنه، عن النبي ﷺ أنه قال: لا يُؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، هذا يدل على وجوب محبَّة الرسول ﷺ محبَّةً تليق به عليه الصلاة والسلام، وتقتضي اتِّباعه، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، هذا هو الواجب، وليست محبَّةَ عبادةٍ، العبادة حقّ الله وحده، ولكنها محبَّة طاعةٍ وامتثالٍ وإيمانٍ بما جاء به من الرسالة، واتِّباعًا لشريعته التي جاء بها عليه الصلاة والسلام، فتكون محبَّةُ الرسول ومحبَّةُ الرسل جميعًا والمؤمنين كلها تابعةً لمحبَّة الله ؛ لأنهم أولياؤه؛ ولأنهم رسله؛ ولأنهم بلَّغوا، فنحن نُحبهم لذلك، ونُطيعهم فيما جاءوا به، ونترك ما ينهون عنه؛ لأنهم رسل الله، فيُبلغون عن الله، ولا نعبدهم لأنهم آلهةٌ نعبدهم مع الله، وندعوهم مع الله، ونذبح لهم، وننذر لهم، لا، فذلك حقّ الله وحده سبحانه.
وهكذا الحديث الثاني: ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجد بهن حلاوةَ الإيمان: أن يكون اللهُ ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحبَّ المرء لا يُحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار.
وفي الرواية الثانية: لا يجد أحدُكم حلاوةَ الإيمان حتى يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وحتى يُحبَّ المرء لا يُحبه إلا لله، وحتى يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار.
وهكذا الآية الكريمة التي في سورة براءة: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24]، فهي تدل على وجوب تقديم محبَّة الله ومحبَّة رسوله على هؤلاء: الآباء والأبناء والإخوة والأزواج والعشيرة والتِّجارة وغير ذلك، فيجب أن تُقدم هذه المحبَّة على هؤلاء، ويكون حبُّ الله مُقدَّمًا بحيث يُطيع أمر الله، وينتهي عن نهي الله، ويقف عند حدود الله، ولو خالف هوى أبيه، أو أمه، أو أخيه، أو ابنه، أو زوجته، أو نحو ذلك.
وهكذا الجهادُ في سبيله يجب أن يُقدم هذا الجهاد على هوى النفس، وهوى زيد وعمرو، إذا وجب الجهادُ أو جاء النَّفير وجب أن يُقدم ذلك على هوى النفس، وعلى هوى زيد، أو عمرو، أو الأب، أو الأم، أو الجدّ، أو الخال، أو ما أشبه ذلك؛ ولهذا قال: فَتَرَبَّصُوا يعني: مَن قدَّم هذه الأشياء على محبَّة الله ورسوله والجهاد في سبيله فهو متوعد؛ لأنَّ الله قال: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، فدلَّ ذلك على أنَّ إيثار هذه الثَّمانية المذكورة على حبِّ الله ورسوله حتى يدع ما أوجب الله، أو يفعل ما حرَّم الله من أجل ذلك: فسق، وصاحبه يستحق الوعيد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهكذا ما جاء في حديث أنسٍ: لا يكمل الإيمانُ ولا يتم الإيمانُ إلا بأن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحب المرء لا يُحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار، فلا يتم إيمانه إلا بهذا، يعني: يكون حبُّه لله هو أكمل حبٍّ، وأتم حبٍّ، وأن يُحب المرء لا يُحبه إلا لله، لا لأجل أمرٍ آخر من نسبٍ أو مالٍ، بل يُحبه لله، وفي الله، هذا من كمال الإيمان، ومن تمام الإيمان: أن تُحب إخوانك في الله من أجل الله؛ لأجل طاعتهم لله، هذا واجب؛ ولهذا أخبر النبيُّ ﷺ: سبعة يُظلهم اللهُ في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظله: .. ورجلان تحابَّا في الله، اجتمعا على ذلك، وتفرَّقا عليه.
وكذلك يجب أن يكره العودةَ في الكفر، والوقوع في الكفر، كما يكره أن يُقذف في النار، يجب بغض الكفر والبراءة منه ومن أهله، كما قال : قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4].
فيجب على المؤمن أن يتبرأ من الكفر، وأن يعتقد بطلانه، وأن يتبرأ من أهله، وألا يُواليهم، وألا يتَّخذهم أصحابًا وأخدانًا وأولياء، بل يبغضهم في الله، ويكرههم في الله، ويتبرأ من الكفر بالله، ويعتقد بطلانه حتى يؤمن أولئك، ويدخل في دين الله .
وهكذا قول ابن عباس: "مَن أحبَّ في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تُنال ولاية الله بذلك"، يعني: إنما تُنال ولاية الله كاملةً بحبِّه في الله، وبُغضه في الله، ومُوالاته في الله، ومُعاداته في الله، لا من أجل أمرٍ آخر، إذا أحبَّ العبدُ لله، وأبغض لله، ووالى في الله، وعادى في الله، فهذا هو كمال الإيمان، وهذا هو تمام الإيمان.
ثم قال بعده: "ولن يجد عبدٌ طعمَ الإيمان -حلاوته- ولو كثرت صلاته وصومه -ولو كان عابدًا- حتى يكون كذلك" يعني: حتى يُحب في الله، ويبغض في الله، ويُوالي في الله، ويُعادي في الله.
ثم قال ابنُ عباس: "وقد صارت عامَّةُ مُؤاخاة الناس على أمر الدنيا"، هذا في زمانه في القرن الأول، فكيف بحالنا؟!
"وقد صارت عامَّةُ مُؤاخاة الناس على أمر الدنيا" يعني: غلب على الناس الحبّ في الدنيا، والبغض في الدنيا، وهذا أمر خطير، "وقد صارت عامَّةُ مُؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يُجدي على أهله شيئًا"، لا يُجدي عليهم: لا ينفعهم، بل يضرّهم إذا ثبَّطهم عن الحقِّ، وصدَّهم عن الهدى، أما إذا اشتغلوا بالدنيا: بالبيع والشِّراء وطلب الرزق على وجهٍ لا يضرّ إيمانهم، ولا يُوقعهم في المعاصي، ولا يُوقعهم فيما حرَّم الله عليهم من الربا، ولكنَّهم يتعاطون ما أباح الله، ويستعينون بنعم الله على طاعة الله، ولا يصدّهم ذلك عن حقِّ الله، ولا يُوقعهم في محارم الله، فهذا لا حرجَ فيه.
قال تعالى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة:166] قال: "المودة"، يعني: مودتهم التي كانت بينهم في الدنيا على غير دين الله انقطعت بهم يوم القيامة، وخانتهم يوم القيامة، كما قال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، فالمحبَّة التي بين الناس للدنيا على الشَّهوات وعلى المعاصي والمخالفات هذه لا تنفعهم، بل تضرّهم يوم القيامة، وإنما ينفعهم يوم القيامة حبُّهم في الله، وبُغضهم في الله، ومُوالاتهم في الله، ومُعاداتهم في الله؛ لأنه عمل صالح فيُحسب لهم من أعمالهم الصَّالحة، ويُوضع في موازين أعمالهم الصَّالحة فينفعهم، أما ما يتعلق بالدنيا وشهواتها والتَّحابّ فيها فقط فهذا لا يُجدي على أهله شيئًا ولا ينفعهم، بل يخذلهم ذلك اليوم، يعني: يوم القيامة، فلا يجدون له فائدة، بل يضرهم إذا كان ذلك الحبُّ أوقعهم في معاصي الله، أو ثبَّطهم عمَّا أوجب الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفَّق الله الجميع.
باب قول الله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175].
وقوله: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18].
وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10].
عن أبي سعيدٍ مرفوعًا: إنَّ من ضعف اليقين أن تُرضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمَّهم على ما لم يُؤتك الله. إنَّ رزق الله لا يجره حرص حريصٍ، ولا يردّه كراهية كارهٍ.
وعن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ رسول الله ﷺ قال: مَن التمس رضى الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومَن التمس رضى الناس بسخط الله؛ سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس رواه ابن حبان في "صحيحه".
الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: (باب قول الله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]) أراد المؤلفُ بهذه الترجمة بيان وجوب خوف الله ، وأنَّ الواجب على العبد أن يخاف ربَّه خوفًا يحمله على إخلاص العبادة له سبحانه، ويحمله على أداء ما فرض عليه، ويحمله على الكفِّ عمَّا حرَّم الله عليه، ويحمله على الوقوف عند حدوده ، هذه الفائدة من الخوف: أن يكون خوفًا حقيقيًّا يحمله على أداء الفرائض، وترك المحارم، والوقوف عند حدود الله، والإخلاص له في العمل.
والخوف أقسام ثلاثة:
أحدها: الخوف من الله ، وهو أوجبها وأعظمها، يجب إخلاصه لله وحده ، هذا صرفه لغير الله شركٌ، فمَن خاف غير الله من الأصنام والأوثان، أو الأشجار أو الأحجار يعتقد فيها أنها تتصرف، ويخاف شرَّها، فهذا من الشِّرك الأكبر: كخوف عُبَّاد القبور وعُبَّاد الأصنام منها، وعُبَّاد الكواكب، فهذا يُقال له: خوف السِّر، فهذا يجب إخلاصه لله، ويجب الحذر من صرفه لغير الله .
القسم الثاني: خوف يحمل على فعل معصيةٍ، أو ترك واجبٍ من المخلوقين، خوف المخلوقين على هذا الوجه فهذا لا يجوز، وفيه نزل قوله تعالى: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، أو يحمله الخوفُ على عدم الجهاد، أو على عدم أداء الواجب، إلى غير ذلك، بل يجب عليه أن يخاف الله ، وأن يُراقب الله، وإذا خاف المخلوقَ فليكن خوفُه من المخلوق بالحدود الشَّرعية، خوفًا يحمله على ما شرع الله، وعلى ما أباح الله فقط، ولا يحمله على المعاصي.
فالخوف من المخلوق من الأشياء الطبيعية والأسباب الحسية جائز: كخوفه من اللصوص فيُغلق بابه، أو يضع حارسًا عند بابه، أو في مزرعته، أو نحو ذلك، هذا خوفٌ فطر اللهُ عليه الناس، وهو خوفٌ جائزٌ، يجب أن يُوجد مُقتضاه من الحراسة وضبط الأمور ونحو ذلك، أو خوفه من التُّخمة فلا يأكل ما يضرّه، أو خوفه من السم فيبتعد عمَّا يضرّه، أو من السباع فيأخذ السلاحَ إذا سار في الطريق الذي فيه السِّباع، وما أشبه ذلك من الخوف الذي شرع الله فيه التَّحرز والبُعد عمَّا يضرّ الإنسان، لكن لا يجوز أن يحمله هذا الخوفُ على فعل المعاصي، أو ترك الواجبات، إذا خاف من المخلوق خوفًا يحمله على أن يدع الجهاد الواجب، أو على أن يعصي بظلم الناس، أو بسبِّ الناس، أو بترك ما أوجب الله، أو بركوب الفواحش، صار خوفًا مُحرَّمًا؛ لأنه جرَّه إلى ما حرَّم الله .
النوع الثالث: نوع طبيعي، عادي، لا يحمل على فعل مُحرَّمٍ، ولا على ترك واجبٍ: كخوفه من الحية والعقرب وأشباه ذلك، فيتجنب ذلك، وخوفه من اللص فيُغلق بابه، وما أشبه ذلك، هذا يُقال له: خوف جائز، لا محذور فيه، إذا لم يحمله على ما حرَّم الله، ولم يحمله على ترك ما أوجب الله؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175]، هذا في النوع الثاني، وهو ما وقع عليه يوم أحدٍ من بثِّ الشيطان الترهيب من الكفَّار، والتَّثبيط عن الجهاد، فنهاهم الله عن ذلك وقال: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وأمرهم بجهاد أعداء الله، فنفر إليهم النبيُّ ﷺ بمَن معه من الصحابة بعد وقعة أحد، فشرَّد المشركين إلى بلادهم، ورجع النبي ﷺ يوم حمراء الأسد ولم يكن شيء؛ لأنَّ المشركين قد انشمروا وذهبوا إلى بلادهم بعد الوقعة.
وهذا ليس خاصًّا بهذه الوقعة، بل هو عامٌّ، كل خوفٍ يحمل على فعل معصيةٍ أو ترك واجبٍ فهو مذموم، منهيٌّ عنه.
وهكذا قوله جلَّ وعلا: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ [التوبة:18] يعني: أفرده بالخوف، وهذا خوف السر الذي أوجبه الله، وهكذا الخوف الذي يحمل على المعاصي، أو ترك الواجبات يجب تركه.
فيجب على المؤمن أن يخشى الله وحده خشيةً عظيمةً كاملةً، يخصّ الله بها ، كما يحمله أيضًا خوف الله على فعل ما أوجب الله، وترك ما حرَّم الله، وكما يُوجب عليه ذلك تقواه سبحانه، والمسارعة إلى ما أوجب، وترك ما حرَّم، فإنَّ هذا كله مما أوجب الله عليه، وهذا خوفٌ مشروعٌ له، ومأمور به، إنما المنهي عنه أن تخاف من المخلوق خوفًا يحملك على فعل ما حرَّم الله عليك، وترك ما أوجب الله عليك؛ ولهذا قال: وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ يعني: في أموره كلها، بل أفرده بالخوف، وخصَّه بالخوف الذي أوجبه عليه سبحانه وتعالى، وليس داخلًا في ذلك الخوف الطبيعي كما عرفت، بل هو مُستثنًى من ذلك، إلا إذا حمل على فعل محرَّم، أو ترك واجب.
وهكذا قوله جلَّ وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10]، هذا ذمٌّ لهم، بعض الناس إذا أُوذي لم يصبر ولم يتحمل، بل يحمله ذلك على فعل ما حرَّم الله، وترك ما أوجب الله، وهذا مذمومٌ، بل يجب عليه أن يتَّقي الله، وأن يُراقب الله، وإذا أُوذي في الله أخذ الأمور من وجهها الشَّرعي: بالمحاكمة، بالقصاص، بالشكوى إلى ولاة الأمور، أما أن يحمله ذلك على ترك ما أوجب الله عليه، وفعل ما حرَّم الله عليه، فهذا غير جائزٍ له، بل يجب عليه الحذر من ذلك، وأن يدفع الأذى بالطرق الشَّرعية، أذى الناس يُدفع بالطرق الشرعية: من المحاكمة، من القصاص، من الرفع إلى ولاة الأمور، إلى غير هذا من الطرق الجائزة التي يجوز له فعلها ليدفع الأذى.
وفي حديث أبي سعيدٍ يقول ﷺ: إنَّ من ضعف اليقين من ضعف الإيمان، اليقين هو الإيمان كله، إنَّ من ضعف اليقين أن تُرضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمَّهم على ما لم يُؤتك الله، هذا من ضعف الإيمان: إرضاء الناس بسخط الله بالمعاصي، هذا من ضعف الإيمان، كذلك حمدهم على رزق الله الذي ساقه الله إليك، احمد الله واشكره ، فإذا فعلوا لك معروفًا هم يُشكرون على معروفهم ويُجازون، لكن الحمد كله لله وحده، هو الذي هداهم، وهو الذي جعلهم يبذلون المعروف، فتشكر الله أولًا وتحمده ، وتخصّه بذلك، وتشكر المخلوقين على قدر إحسانهم: مَن لا يشكر الناس لا يشكر الله، فيُشكرون على قدر إحسانهم، ويُثنى عليهم ويُكافؤون، لكن يكون في قلبك حمد الله أعظم، وشكر الله أعظم؛ لأنه المسبب، هو الذي هداهم، هو الذي حرَّك قلوبهم حتى ساقوا إليك هذا الخير: من شفاعةٍ في دفع مظلمتك، من إحسانٍ إليك، من قضاء دَينِك، من مُواساة النَّفس، تشكرهم على ذلك، وتدعو لهم، لكن الشكر الحقيقي الذي يجب أن يستقرَّ في القلب يكون لله وحده؛ لأنه هو الذي ساق إليك هذا الخير.
كذلك ذمّهم على ما لم يُؤتك الله: ما أعطاني فلان، ما فعل بي فلان، ما أحسن إليَّ فلان، ما واساني فلان، لا، اسأل الله ، إن كان لك حقٌّ عندهم فلن يُضيعه الله لك، سوف يجزيك عنه يوم القيامة إذا جحدوك، ولكن هذا لا يمنع من طلب الحقِّ الذي عليهم، تطلب دَينك، تطلب حقَّك من الزكاة إن كنت من أهل الزكاة، لا مانع من ذلك، لكن لا تذمّهم على ذلك من أجل أنهم لم يُعطوك، لا، تذمّ مَن ذمَّه الله، وتحمد مَن حمد الله، تذمُّهم لأنهم عصوا الله ورسله بترك الزكاة، بترك الواجب، بترك تسليم دَينك، تذمّهم على ما حرَّم الله عليهم، لكن لا من أجل نفسك، بل من أجل أنهم فعلوا ما لا ينبغي، فلست ممن ينتقد .....، ولكنك تذمّ مَن ذمَّه الله، وتُثني على مَن أثنى الله عليه.
ثم قال: إنَّ رزقَ الله لا يجره حرصُ حريصٍ، ولا يرده كراهية كارهٍ يعني: الرزق الذي لم يُقدر لك لا يجره حرصٌ، إنما عليك الأسباب، كما قال النبيُّ ﷺ: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، عليك أن تعمل الأسباب، ولكن لا تجزع إذا لم يحصل المطلوب، فهذا من أمر الله ، كلٌّ قدر الله، وما شاء فعل.
وكذلك تعلم أنه لا يرده كراهية كارهٍ، ما قدَّره اللهُ لك من الأرزاق سوف يأتيك ولو كره زيد وعمرو، ولو كره الناس، فعليك أن تُؤمن بهذا، وأن تأخذ بالأسباب، وأن تعلم أنَّ رزق الله الذي كتبه لك سوف يأتي، وأنَّ ما لم يُكتب لك سوف لا يأتي، وإن اجتمع الناسُ على أن يأتوا به لا يستطيعون.
وهكذا قوله ﷺ في حديث عائشة: مَن التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومَن التمس رضى الناس بسخط الله سخط اللهُ عليه وأسخط عليه الناس.
هذا حديثٌ عظيمٌ، يجب على المؤمن أن يلتمس رضى الله، وأن يعتني برضى الله، وأن يأخذ بأسباب رضى الله؛ لأنه الذي إذا رضي حصل لك به كل خيرٍ، وإذا سخط حصل لك كل شرٍّ، فعليك بالتماس رضاه، وطاعة أمره، وإن غضب الناس، لكن لا يمنع ذلك من مُداراتهم، واتِّقاء شرِّهم بالأسباب التي شرعها الله، ولكن ليس ذلك يُوجب لك أو يُجيز لك أن تُرضيهم بسخط الله، بل عليك أن تُؤدي حقّ الله، وتدع معصية الله، وإن سخط الناسُ، وعليك أن تدفع شرَّهم بالطرق التي شرعها الله .
ومَن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، وقد جاء عن عائشةَ رضي الله عنها أنها قالت: "مَن التمس رضى الله بسخط الناس كفاه الله مُؤنة الناس، ومَن التمس رضى الناس بسخط الله لم يُغنوا عنه من الله شيئًا"، .....
فعلى المؤمن أن يأخذ بالحزم، وعليه بالجدّ، فيلتمس رضى الله وإن سخط الناس، ويبتعد عن رضى الناس بسخط الله، ولو رجا معروفهم أو إحسانهم، فالأمر إلى الله ، فليلتمس الخير من عند الله، وليأخذ بالأسباب الشرعية في طلب الرزق، ولا يضرّه كونهم سخطوا أو رضوا، بل الواجب أن يُقدم حقَّ الله، ويلتمس رضاه، وأن يبتعد عن إرضاء الناس بسخطه ، مع الأخذ بالأسباب التي شرعها اللهُ في جلب الرزق ودفع الضَّرر، وفي أخذ حقِّك من الناس بالطرق الشرعية التي ليس منها إرضاؤهم بسخط الله، وليس منها ترك ما أوجب الله عليك، أو فعل ما حرَّم الله عليك من أجل مُراعاتهم، بل عليك أن تأخذ بالحزم، وأن تأخذ بمُقتضى الإيمان، فتلتمس رضى الله بسخط الناس، ولو سخطوا، وتمتنع عن إرضائهم بسخط الله ولو قطعوا راتبك، أو فعلوا، أو فعلوا، فالرزق عند الله ، هو الذي بيده كل الأمور .
رزق اللهُ الجميعَ التوفيق والهداية.
..............
باب قول الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]
وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
وقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64].
وقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيمُ ﷺ حين أُلقي في النار، وقالها محمدٌ ﷺ حين قالوا له: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]". رواه البخاري والنَّسائي.
الشيخ: هذا الباب في قوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وما جاء في معناها، أراد المؤلفُ بهذه الترجمة بيان وجوب التَّوكل على الله، والاعتماد عليه في جميع الأمور: في أمور الدنيا والدِّين جميعًا.
والتوكل هو: التَّفويض إلى الله، والثِّقة به سبحانه، والإيمان بأنه مُسبب الأسباب، وأنَّ كل شيءٍ بيده، وأنَّ ما شاءه كان، وما لم يشأ لم يكن ، فالمؤمن يثق بربه، ويعتمد عليه، ويعلم أنه قد سبق قضاؤه وقدره بكل شيءٍ، وأنَّ ما شاءه كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه مُصرف الأمور، ومُسبب الأسباب، فيُؤمن بهذا، ويتعاطى مع ذلك ما شرعه الله وما أباحه من أسبابٍ .
فالتوكل: الثِّقة بالله، والاعتماد عليه، هذا واجبٌ على المؤمنين: أن يعتمدوا على الله، وأن يعلموا أنه مُسبب الأسباب، ومُدبر الأمور، ومُصرف الأشياء، وأنَّ ما شاءه كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ليس للعبد قُدرة على أي شيءٍ لم يشأه ربُّه .
وهكذا قوله جلَّ وعلا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، وهكذا قوله سبحانه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، وقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64]، كل هذا يدل على وجوب التَّوكل.
فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الأنفال:62] أي: كافيك الله، وكافي أتباعك من المؤمنين، وهذا كقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ يعني: كافيه عن كل أحدٍ، ومَن كفاه الله ما أهمَّه لم يحتج إلى أحدٍ.
فالواجب على المؤمن أن يتوكل على الله ويضرع إليه، لكن لا يمنعه هذا من تعاطي الأسباب، فيعمل بطاعة الله، ويدع معاصي الله؛ لأنَّ هذه أسباب الجنة، ويأكل ويشرب، يعني: أسباب حياة، ويتجنب المؤذيات التي تضره: كوقوعه في النار، أو إلقائه نفسه في الآبار، أو تعرضه للسباع، أو أخذه ما يُهلكه: كالسموم، أو ما أشبه ذلك، فعليه أن يتعاطى الأسباب النافعة، وأن يحذر الأسباب الضَّارة، كل هذا مع التوكل، فالتوكل يجمع الأمرين:
الأمر الأول: الثقة بالله، والاعتماد عليه، والإيمان بأنه مُسبب الأسباب، ومُصرف الأمور، وأنَّ كل شيءٍ بيده سبحانه وتعالى.
والأمر الثاني: تعاطي الأسباب، والأخذ بالأسباب التي شرعها الله: من أسباب دخول الجنة، وأسباب السَّلامة من النار، وذلك بأداء ما أوجب الله من الطاعات، وترك ما حرَّم الله من المعاصي، هذه أسباب دخول الجنة، كذلك تعاطي ما ينفعه في الدنيا: من الأكل والشُّرب واللباس والزِّراعة والتِّجارة والنِّجارة، وغير هذا من الأسباب التي يحتاج إليها، فيفعل الأسباب التي بها نظام حياته، وبها سلامته، ويتعاطى الأسباب التي تنفعه في هذه العاجلة، وتُعينه على طاعة الله ورسوله، ويتباعد عن الأسباب الضَّارة التي تضره في دينه أو دنياه، فالمعاصي تضرّه في دينه، وهكذا تضرّه في دنياه، وهكذا ما يضرّه في بدنه: من طعنه نفسه، أو بالسلاح، أو إحراقه نفسه بالنار، أو إلقاء نفسه في المهلكات، كل هذه الأشياء ممنوعة، يجب عليه أن يمتنع منها؛ لأنَّ الله منعه منها.
فعرفت بذلك أنَّ التوكل ليس هو مجرد كما يظنّ بعض الصوفية، مجرد أن يعتمد على الله، ويدع الأسباب، وينام في بيته، أو يجلس في المسجد، لا، هذا غلط، بل يتوكل على الله بثقته به، واعتماده عليه، وإيمانه بأنه مُصرف الأمور، وأنَّ أسبابك أيُّها العبد وأعمالك لا تنفعك إذا لم يشأها الله سبحانه وتعالى.
ثم يُضيف إلى ثقته بالله واعتماده عليه: أخذه بالأسباب: أسباب الدِّين، وأسباب الدنيا، أسباب النَّجاة يوم القيامة بطاعة الله ورسوله، وترك معاصي الله، وأسباب الدنيا: من الطلب الحلال، طلب الرزق من طريق الزراعة، من طريق البيع والشراء، من طريق النجارة، من طريق الحدادة، من طريق الخياطة، من طريق العمل في البناء، من الطرق المباحة الأخرى التي يستعين بها الناسُ، يعمل ويعتمد على الله، ويطلب منه جلَّ وعلا التوفيق والإعانة، ويستعين به على الرزق الحلال، ويبتعد عن الحرام؛ حتى يلقى ربَّه ، هذا هو التَّوكل.
وهكذا حديث ابن عباسٍ، يقول ابنُ عباسٍ رضي الله تعالى عنهما: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام حين أُلقي في النار، وقالها أصحابُ محمدٍ -أو محمد- عليه الصلاة والسلام لما قالوا له: إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم -يعني يوم أحدٍ- فزادهم إيمانًا وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل".
فإبراهيم عليه الصلاة والسلام أُلقي في النار، ألقاه النَّمرود لما دعاهم إلى الله، ودعاهم إلى توحيد الله، وكسر أصنامهم، غضبوا عليه، وأمر نمرودهم الخبيث أن يجمعوا له حطبًا عظيمًا، فجمعوا له حطبًا عظيمًا، وأوقدوا نارًا عظيمةً، ثم أمر أن يُلقى في النار، فلما أُلقي في النار قال عند ذلك: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأطفأها الله وقال: كوني بردًا وسلامًا قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فأطفأها الله عنه، وكفاه شرَّها وشرَّهم، وأنجاه من باطلهم، وصارت آيةً من الآيات، ومُعجزةً من المعجزات الدالة على صدقه، وأنه رسول الله حقًّا عليه الصلاة والسَّلام.
وهكذا محمد عليه الصلاة والسلام لما جرى ما جرى يوم أحدٍ من غزوة كفَّار أهل مكة واجتماعهم عند المدينة وحصارهم المدينة، ثم خروج النبي إليهم عليه الصلاة والسلام، وحصول الوقعة، وقُتل فيها مَن قُتل من الصحابة، وجُرح مَن جُرح، ثم انشمر الكفَّارُ إلى بلادهم، فقال المشركون: "إنهم قد جمعوا لكم"، وجاء بعضُ المرجفين وقالوا: إنهم قد جمعوا لكم، وأنهم ما انشمروا، بل هم يجمعون ويعدّون العدّة ليعودوا. فقال النبيُّ عند ذلك: حسبنا الله ونعم الوكيل، فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].
فهكذا ينبغي لأهل الإيمان أن يقولوها عند الشَّدائد، لكن لا تمنعهم من إعداد الأسباب، فالنبي ﷺ قالها ومع ذلك أعدَّ العُدَّة، وأمر المسلمين أن ينهضوا لقتال عدوهم على ما بهم من الجراح والتَّعب، أمرهم أن ينهضوا، وأن يُقاتلوا عدوهم، لكن عدوهم أُلقي بقلبه الرعب، وانشمر إلى مكة، ولم يعد إليهم.
المقصود أنَّ هذا يُوجب على المؤمنين الأمرين جميعًا: الثقة بالله والاعتماد عليه، مع الأخذ بالأسباب والعناية بالأسباب: كإعداد السلاح، وإعداد القوت من الطعام والشراب، وفعل ما ينفعهم؛ ولهذا لما كان يوم الأحزاب، ولما رجع الكفَّارُ يوم الأحزاب بعد أحدٍ بسنتين، أخذوا عدةً عظيمةً، وأعدوا لعدوهم، وحفروا الخندقَ حول المدينة؛ لأنه من أسباب تعويق الكفرة من دخول المدينة، فهذه من الأسباب التي فعلها الرسولُ ﷺ: لبس درعين يوم أحد: "ظاهر بين درعين يوم أحد"، وحمل السلاح، وجعل البيضة فوق رأسه تقيه السلاح، وهكذا الصحابة حملوا السلاح وقاتلوا، كل هذه الأسباب مأمورٌ بها؛ ولهذا قال : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، هذا كله من الأسباب، مع الثِّقة بالله، والتوكل عليه.
وفَّق الله الجميع.
باب قول الله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]
وقوله: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56].
وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله ﷺ سُئل عن الكبائر، فقال: الشِّرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله.
وعن ابن مسعودٍ قال: "أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله". رواه عبدُالرزاق.
الشيخ: هذا الباب في بيان تحريم الأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، وبيان بعض هذه الكبائر.
يقول: (باب قول الله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ، وقوله سبحانه: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ).
قصد المؤلف -وهو الشيخ محمد رحمه الله- بهذا التَّنبيه على أنَّ هذه الكبائر يجب الحذر منها، فالأمن من مكر الله من الكبائر، وهو يُفضي إلى التَّساهل بأمر الله، وركوب محارمه؛ لأنَّ مَن أمن مكره ساءت أعماله، وساءت أخلاقه، وساءت تصرفاته لأمنه من مكر الله .
والقنوط ضد ذلك، وهو اليأس من رحمة الله ، فيسوء ظنِّه بالله جلَّ وعلا، ويحصل له من القنوط وانكساف النفس وسُوء ظنِّها وتحرجها ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فالله حرَّم هذا وهذا: فلا قنوط، ولا يأس، ولا أمن من مكر الله ، بل يجب أن يكون بين الأمرين: يرجو ويخاف. يرجو ربَّه، ويخاف ذنوبه وسيئاته، هكذا يكون المؤمن، هكذا يكون كل مُكلفٍ: بين الرجاء والخوف، بين الأمن والقنوط، فلا يأمن مكر الله ويلجأ إلى معاصيه والسيئات ويخلد إلى أرض البطالة، ولا يقنط وييأس من رحمة الله ويُسيئ ظنّه بالله ويقول: إنه لا يغفر له ولو فعل ما فعل. كل هذا باطلٌ.
فالواجب على كل مُكلَّفٍ أن يكون خائفًا من ربه، راجيًا لرحمته، يسير إلى ربه كالطير بين الجناحين: خائفًا، راجيًا، حسن الظنّ بربه، خائفًا من ذنوبه، حتى يصل إلى الله على هذا الطريق. فهذا هو سبب طريق الأمن، وطريق السعادة.
وفضَّل بعضُ أهل العلم أن يفضل جانب الخوف في حال الصحة، وجانب الرجاء في حال المرض؛ لأنه في حال المرض يضعف عمله، فينبغي أن يحسن ظنّه بالله أكثر، وفي حال الصحة هو أقدر على المعاصي، فينبغي أن يغلب جانب الخوف والحذر، لعله ينجو.
والأصل والأساس أن يكون بين الأمرين: يكون بين الخوف والرجاء، فيخاف الله ويرجوه، ويحسن ظنّه به فيُسارع إلى مراضيه، ويحذر بطشه فيُسارع إلى ترك محارمه ، هكذا يكون بين الأمرين: راجيًا، خائفًا: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49- 50]، وقال في الصَّالحين: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57].
هكذا يكون المؤمنون راجين، خائفين، فلا قنوط ويأس، ولا أمن وإخلاد، ولكن بين ذلك؛ ولهذا في حديث ابن عباسٍ يقول عليه الصلاة والسلام: أكبر الكبائر: اليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، يُروى مرفوعًا وموقوفًا، والموقوف في حكم المرفوع؛ لأنَّ هذه الأمور لا يُدركها باجتهاده، فيحتمل أن يكون قاله ابنُ عباس برواية الوقف استنباطًا من الآيات والأدلة الأخرى، وبكل حالٍ فالكلام صحيح، سواء مرفوعًا أو موقوفًا، فالشِّرك بالله أكبر الكبائر، ثم الأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله من أكبر الكبائر أيضًا.
وهكذا قول ابن مسعودٍ : "أكبر الكبائر: الإشراك بالله، واليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله"، كله صحيح.
فهذه كلها من الكبائر يجب الحذر منها، ولكن الشِّرك أكبرها وأعظمها، وهو أعظم الذنوب، فلا حسنةَ معه، ولا عملًا صالحًا معه، بل جميع الأعمال كلها حابطة مع الشِّرك، نسأل الله العافية.
أما الكبائر الأخرى فإنها لا تُحبط الأعمال، ولكنها خطيرة: فاليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، كلها من أكبر الكبائر، فيجب على المؤمن الحذر منها، وأن يكون راجيًا ربَّه، لا آمنًا، وأن يكون خائفًا، لا قانطًا.
والقنوط أشدّ اليأس، قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56] يعني: لا يقنط إلا الضَّال، "مَن" استفهام بمعنى النَّفي، المعنى: لا يقنط من رحمة ربِّه إلا الضَّالون عن الهدى، نسأل الله العافية، قال تعالى: وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87]، ففي هذا التَّحذير من اليأس والقنوط، وأن المؤمن يكون راجيًا لربه، محسنَ الظنِّ به، لا آمنًا، ولا يائسًا، ولا قانطًا، ولكن بين ذلك.
وفَّق الله الجميع.
باب من الإيمان بالله: الصبر على أقدار الله
وقوله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن:11].
قال علقمة: هو الرجل تُصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويُسلم.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة : أنَّ رسول الله ﷺ قال: اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطَّعن في النَّسب، والنِّياحة على الميت.
ولهما عن ابن مسعودٍ مرفوعًا: "ليس منَّا مَن ضرب الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية".
وعن أنسٍ : أنَّ رسول الله ﷺ قال: إذا أراد اللهُ بعبده الخيرَ عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشَّر أمسك عنه بذنبه حتى يُوافي به يوم القيامة.
وقال ﷺ: إنَّ عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإنَّ الله تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمَن رضي فله الرضى، ومَن سخط فله السّخط حسنه الترمذي.
الشيخ: يقول شيخُ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمة الله عليه: (باب من الإيمان بالله: الصبر على أقدار الله) أراد المؤلفُ بهذه الترجمة بيان أن الصبر على المصائب من واجبات الإيمان، وأن الواجب على المؤمن ألا يجزع إذا أصابته مصيبة في نفسه، أو في ماله، أو في ولده، أو غيره من أقاربه، فيتحمل ويتصبر ولا يجزع، قال الله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155]، قبلها قوله سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155- 157]، ويقول : وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، ويقول سبحانه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
ويقول النبيُّ ﷺ: ومَن يتصبر يُصبره الله، وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر، فمن الصبر الإيمان بالله، هذا واجب، والصبر على أقدار الله وعدم الجزع، قال الله جلَّ وعلا: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن:11].
قال علقمةُ -يعني: ابن قيس النَّخعي، أحد التَّابعين- هو الرجل -يعني: في تفسير الآية- هو الرجل تُصيبه المصيبة -يعني: في نفسه، أو في ماله، أو في ولده- فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويُسلم. هذا معنى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11] يعني: يؤمن بأنَّ الله قضى هذه القضية وقدَّرها عليه فيحتسب ويصبر ولا يجزع، فإنَّ الله يهدي قلبه للخير، ويطمئنه، ويُثبته بسبب عمله الطيب، وهكذا جميع القضايا.
هكذا يجب على المؤمن، سواء كان في نفسه، أو في جماعته، أو في بلده، أو في المسلمين، لا يجزع، بل يتصبر ويتحمَّل ويسأل ربَّه العافية، ويدعو الله بما يُحب من الدَّعوات الطيبة، ولإخوانه المسلمين، ولا يجزع .....
في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي ﷺ أنه قال: اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطَّعن في النَّسب، والنياحة على الميت، الطعن في النَّسب: تنقص الأنساب، وعيب الأنساب تكبُّرًا وتعاظمًا وازدراءً للناس واحتقارًا لهم، هذا من أنواع الكفر المنكر، يعني: من أنواع القبائح والمنكرات.
وقوله: كفر يعني: شعبة من شعب الكفر، وهذا كفرٌ دون كفرٍ، ليس من الكفر الأكبر، بل هو من الكفر الأصغر الذي يقع في الناس، فكثيرٌ من الناس يتنقص أنساب الناس، ويطعن فيهم تفاخرًا أو تكبُّرًا أو حقدًا منه على آل فلانٍ، أو آل فلانٍ، وهذا لا يجوز، بل يجب على المؤمن أن يُنَزِّه لسانه عن ذلك؛ ولهذا قال ﷺ في الحديث الآخر: أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية لا يكفّون عنهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت، هذا كله من أعمال الجاهلية، أما إذا كان على سبيل التَّعريف: هذا من بني تميم، فلان من سبيع، فلان من بني هاشم، فلان من كذا، يُبين أنساب الناس، لا من قبيل الطعن، ولا من قبيل التنقص، بل من باب الخبر، هذا لا بأس به، وليس داخلًا في هذا.
والثانية: النياحة، وهي المقصود هنا: النياحة تدل على الجزع، فلا تجوز النياحة، وهي رفع الصوت بالصياح: واكاسياه، واعوداه، وانكسار ظهراه، وانقطاع ظهراه. وما يحصل من الصياح هذا لا يجوز، أما دمع العين والبكاء فلا بأس به، كما قال ﷺ: العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون، فدمع العين لا يأخذ اللهُ به ، ولكن رفع الصوت والنياحة هذا هو الممنوع، وهو نوعٌ من الجزع، ضدّ الصبر، والواجب الصبر.
وهكذا حديث ابن مسعودٍ: ليس منا مَن ضرب الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية؛ لأنَّ هذا نوعٌ من الجزع: ضرب الخدود، وشقّ الجيوب، أو غير الجيب، لكن الغالب أنها ..... المرأة من شدة الجزع، والدعاء بدعاء الجاهلية، يفعلها الجاهليون: وانقطاع ظهراه، وانكسار ظهراه، واكاسياه، وانصراه، و..، و..، ما يفعله الجهَّال هذا كله منكر، يجب التَّحمل والتَّصبر والثَّبات، والعلم بأنَّ الله قدَّر هذه الأقدار وقسمها، ولا بدَّ من الموت، الموت لا بدَّ منه، وهكذا المصائب الأخرى: إذا أصابه فقر، أو مرض، أو مات ولدٌ له، أو أصابه شيء من آفات الدنيا، فالواجب الصبر والتَّحمل، وعدم الجزع، وعدم عمل الجاهلية، ولكن يتحمل ذلك ويصبر، ولا يقول إلا ما يُرضي الرب، ويسأل ربَّه العافية، ويستعين به على أمور دينه ودنياه، ويتعاطى الأسباب التي شرعها الله جلَّ وعلا: من صلاةٍ، ومن قوله: "إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل"، وتعاطي الأسباب التي شرعها الله جلَّ وعلا.
وهكذا قوله في حديث أبي موسى عند الشيخين: يقول ﷺ: أنا بريء من الصَّالقة والحالقة والشَّاقَّة.
فالصَّالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة التي تحلق شعرها، والشَّاقَّة التي تشقّ ثوبها. وكل هذا من أمر الجاهلية.
ويقول عليه الصلاة والسلام: إذا أراد اللهُ بعبده الخيرَ عجَّل له العقوبة في الدنيا، إذا أراد أن تُكفَّر سيئاته قد تُعجل له العقوبة: إما بفقر، وإما بمرض، وإما بتلف مال، وإما بهلاك زراعة، وإما بغير هذا من أنواع المصائب، فيصبر ويحتسب فيُكفر بها خطاياه وسيئاته.
وإذا أراد بعبده الشَّر أمسك عنه بذنبه وبقي مُعافًى في بدنه، مُعافًى في ماله، مُعافًى في كل شيءٍ حتى يُوافى بذنوبه كاملةً كلها يوم القيامة، نسأل الله العافية، فتكون العقوبةُ أشدَّ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والمعنى أنَّ مصائب الدنيا تُكفر بها الذنوب والعقوبات، وقد يُمحى بها جميع ما على العبد من سيئاته بسبب كثرة ما أصابه من المصائب.
فعلى المؤمن ألا يجزع، بل يحتسب ويصبر ويرجو من الله أن يُكفر بها خطاياه، وأن يحطّ بها سيئاته، هكذا يكون المؤمن.
وفي الحديث الآخر يقول: إنَّ عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإنَّ الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمَن رضي فله الرضا، ومَن سخط فله السّخط يعني: كلما عظم البلاء عظم الجزاء، إذا اشتدَّ المرضُ صار الأجرُ أكثر، وإذا اشتدَّت المصيبةُ في المال، أو في الولد، أو غير ذلك، صار الجزاءُ أعظم، وصار الثوابُ أكبر، وصار التَّكفير أكثر.
إنَّ عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، يبتليهم ليُمحصهم ويُزيل خطاياهم؛ حتى يلقوه وهم نقيون من الذنوب، سالمون، فيدخلون الجنةَ من أول وهلةٍ.
وفي هذا المعنى يقول ﷺ: أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى المرءُ على قدر دينه.
وفي روايةٍ أخرى: أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى المرء على قدر دينه، فإذا كان في دينه صلابة شُدد عليه في البلاء.
فالمقصود أنَّ ما يُصيب العبد من أنواع البلايا، إذا كان مؤمنًا، إذا كان طيبًا فإنَّ الله يُكفر بها عن خطاياه، ويحطّ بها عن سيئاته، وقد تكون عقوبةً عاجلةً يسلم بها من عقوبة الآخرة، فينبغي له أن يرضى ويحتسب ويُسلم ويصبر، وأن يحذر الجزع.
وفَّق الله الجميع.
باب ما جاء في الرِّياء
وقول الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].
وعن أبي هريرة مرفوعًا: قال تعالى: أنا أغنى الشُّركاء عن الشِّرك، مَن عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه رواه مسلم.
وعن أبي سعيدٍ مرفوعًا: ألا أُخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الشِّرك الخفي؛ يقوم الرجلُ فيُصلي، فيُزين صلاته لما يرى من نظر رجلٍ إليه رواه أحمد.
الشيخ: هذا الباب في الرياء، عقده المؤلفُ لبيان الحذر من الرياء، والرياء مصدر: راءى، يُرائي، رياءً، ومُراءاةً. يعني: راءى بعمله، يعني: أظهر عمله رياءً ليمدحه الناس، أو ليُثنوا عليه، أو ليحصل له شيء من المادة الدنيوية، هذا هو الرياء، الرياء معناه: أن يُرائي بعمله: كالصلاة، ونحو ذلك، أو يُسمع، وهو أيضًا من الرياء، فيُسمع بقراءته، أو تسبيحه وتهليله، أو أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ ليسمعه ناسٌ يريد أن يُسمعهم؛ حتى يمدحوه، أو يُثنوا عليه، أو يُعطوه كذا وكذا؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: يقول النبيُّ ﷺ: مَن يُرائي يُرائي اللهُ به، ومَن يُسمع يُسمع الله به يعني: يفضحه، وفي اللفظ الآخر: مَن راءى راءى اللهُ به، ومَن سمَّع سمَّع اللهُ به، فالجزاء من جنس العمل، فمَن راءى فضحه الله، نسأل الله السلامة والعافية.
والواجب على المؤمن في عباداته كلها أن يُخلص لله، وأن يعملها لله، يرجو ثوابه، ويخشى عقابه، سواء كانت شرعيةً: كالصلاة، أو مسموعةً: كالقراءة والتَّسبيح ونحو ذلك، هكذا يُصلي لله، يصوم لله، يُجاهد لله، يتصدق لله، يأمر وينهى لله، يذكر الله، يقرأ لله، كل أعماله تكون لله، هذا هو الإخلاص؛ ولهذا قال : فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].
فالعمل الصَّالح هو المشتمل على أمرين:
أحدهما: مُوافقته للشريعة في الظاهر.
والأمر الثاني: مُوافقته للإخلاص في القلب لله وحده، ليس فيه شركٌ.
هذا هو العمل الصالح الذي ينفع صاحبه: أن يكون لله، ليس فيه شركٌ، وأن يكون مُوافقًا للشريعة، ليس بدعة، بل مُوافق للشريعة؛ ولهذا قال : فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ يعني: مَن كان يرجو لقاءه رجاءً صادقًا فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا يعني: مُوافقًا للشريعة وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] يعني: لا يجعل لله شريكًا في العبادة، بل يخصّه بها : من صلاةٍ، وذبحٍ، ونذرٍ، وصدقةٍ، وصيامٍ، وغير ذلك، وحجٍّ، وعمرةٍ، وغير هذا.
الحديث الأول حديث أبي هريرة : يقول النبيُّ ﷺ: يقول الله : أنا أغنى الشُّركاء عن الشِّرك، مَن عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه، رواه مسلم.
هذا بيانٌ لبراءة الله من الأعمال التي فيها الشِّرك، وأنه بريءٌ منها، وأنه لا يقبلها ، بل هي لمن أشركه مع الله .
وفي اللفظ الآخر: أنا بريءٌ منها، بل هي لمن أشركه، فهذا يدل على وجوب إخلاص العمل لله وحده، وألا يكون لله فيه شريك، بل يجب أن يكون لله وحده جلَّ وعلا.
وقد صحَّ عن رسول الله أنه قال: أخوف ما أخاف عليكم الشِّرك الأصغر، فسُئل عنه فقال: الرياء، يقول اللهُ يوم القيامة للمُرائين: اذهبوا إلى مَن كنتم تُراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاءٍ، فالأمر خطيرٌ على العباد؛ ولهذا قال في الحديث الثالث -حديث أبي سعيدٍ- ألا أُخبركم ما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ خاف على الصحابة وهم أفضل الناس؛ لأنَّ الرياء يقع للصَّالحين ويُبتلون به كما يُبتلى به غيرهم، ويتساهلون به.
فالواجب الحذر من الرياء في قولك وفي عملك؛ ولهذا قال: ألا أُخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ وفي الحديث الأول: أخوف ما أخاف عليكم الشِّرك الأصغر، فسُئل عنه فقال: الرياء، وهنا قال: ألا أُخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ الدجال معروف، وله علامات يعرفها المؤمنون، ويحذرونه، قال هنا: بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك الخفي، سمَّاه: خفيًّا لأنه يكون في القلوب، ما يطَّلع عليه الناس، الرياء محله القلوب، فالناس لا يطَّلعون عليه، لكن يُعرف بالأمارات من صاحبه.
ثم قال: يقوم الرجلُ فيُصلي فيُزين صلاته لما يرى من نظر رجلٍ إليه، رأى عنده واحدًا ينظر إليه فجعل يُحسنها من أجل أنه يُثني عليه، أو يمدحه، أو يرفع أمره إلى كذا، أو إلى كذا، وهكذا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأنه رأى أناسًا يسمعون كلامه؛ حتى يقولوا: إنه فعل، وإنه فعل، فلم يفعله لله، ولكن ليقول هؤلاء أنه فعل كذا، أو ليُعطوه، أو ليرفعوا أمره إلى كذا، وهكذا في قراءته، وهكذا في تسبيحه وتحميده، وهكذا في غير ذلك، يجب أن تكون لله هذه الأعمال، وأن يفعلها بقلبه لله، لا لأجل فلان وفلان.
وفَّق اللهُ الجميعَ، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمدٍ.
س: مُناداة الرسول بعد موته، يقول: يا رسول الله كذا وكذا، هل تصحّ؟
ج: إن كان من باب الاحترام: السلام عليك يا رسول الله، أما على وجه أنه يدعوه ويُناجيه .....
بابٌ من الشِّرك: إرادة الإنسان بعمله الدُّنيا
وقوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15- 16].
في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: تعس عبدُ الدينار، تعس عبدُ الدِّرهم، تعس عبدُ الخميصة، تعس عبدُ الخميلة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شِيك فلا انتقش، طوبى لعبدٍ أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مُغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في السَّاقة كان في السَّاقة، إن استأذن لم يُؤذن له، وإن شفع لم يُشفَّع.
الشيخ: يقول: (بابٌ من الشِّرك: إرادة الإنسان بعمله الدنيا) الشرك شركان: أكبر وأصغر، وإرادة الإنسان بعمله الدنيا تارةً تكون شركًا أكبر، وتارةً تكون شركًا أصغر، فإن أراد بإسلامه ودخوله في الدين الدنيا كان شركًا أكبر: كالمنافقين في الدِّرك الأسفل من النار، فإنهم ما أرادوا بإسلامهم إلا الدنيا، وما آمنوا بالله واليوم الآخر، فكان كفرهم وشركهم كفرًا أكبر، ونفاقًا أكبر، نعوذ بالله.
وتارةً يكون الشِّرك الأصغر: كالذي يقرأ يُرائي، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يُرائي، وهو مسلم، مؤمن بالله واليوم الآخر، لكن تعرض له هذه الأمور في بعض أعماله الدّنيوية، أو يُجاهد للغنيمة، ما جاهد للإخلاص، هذا من الشرك الأصغر.
قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ يعني: لا يُنقصون أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ هذا وعيدٌ عظيمٌ، وهذه الآية في الكفَّار الذين عبدوا الله لأجل الدنيا: كالمنافقين، وعمومها يُوجب الحذر من إرادة الدنيا بعمله لو كان ذلك في بعض الأمور.
وهكذا قوله جلَّ وعلا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20]، وهكذا قوله : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ يعني: الدنيا عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:18- 19]، ففي هذه الآية قيَّد، وفي الآيتين السَّابقتين أطلق، وهذه الآية المقيدة تُقيد ما تقدم، وأنه ليس كل مَن أراد الدنيا تحصل له الدنيا، لا، قد يحصل له بعض ما أراد، وقد لا يحصل له بعض ما أراد؛ ولهذا قال : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ يعني: الدنيا عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ بهذا القيد، فبعض الناس يُريدها ويتعب لها ولا تحصل له، وبعض الناس يحصل له بعض ما أراد بمشيئة الله : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا نعوذ بالله.
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فالإرادة لا تكفي بدون عملٍ، وبدون إيمانٍ، لو أراد الآخرة وقال: أنا أريد الآخرة، ولكن لا يعمل، ولا يؤمن، ما تنفع هذه الإرادة، فلا بدَّ من سعيٍ، لا بدَّ من عملٍ بتوحيد الله، وأداء حقه، وترك معصيته، ولا بدَّ أن يكون هذا عن إيمانٍ بالله واليوم الآخر، وعن توحيدٍ، وعن إخلاصٍ؛ ولهذا قال سبحانه: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا يعني: عمل لها عملها وَهُوَ مُؤْمِنٌ يعني: عن إيمانٍ، لا عن رياءٍ، ولا عن نفقةٍ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا يشكره الله، ويشكره المؤمنون؛ لأنهم أخلصوا لله، وعملوا بطاعته .
ففي هذا دلالة على أنَّ الواجب على العبد أن يُخلص عمله لله، وألا يقصد به حظًّا عاجلًا، وأنه متى أراد بعمله الحظَّ العاجل بطل هذا العمل ولم ينفعه: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88].
في الصحيح -في "صحيح البخاري" رحمه الله- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي ﷺ أنه قال: تعس عبدُ الدينار، تعس عبدُ الدِّرهم، تعس عبدُ الخميصة، تعس عبدُ الخميلة، الدينار من الذهب، والدرهم من الفضة، والخميصة: كساء له أعلام، كساء جميل له أعلام ونقوش، والخميلة: كساء سادة، يعني: ليس فيه نقوش، والمعنى: تعس مَن كان هذا قصده، مَن كان بعمله يقصد هذه الأمور، مَن كان بعمله ودخوله في الإسلام، أو عمله ما أظهر من الإسلام إنما عمله لأجل الدينار، أو للدِّينار، أو للدِّرهم، أو للخميصة، أو للخميلة، يعني: تعس مَن كانت أعماله للنُّقود، أو للمتاع، لا للآخرة، كالمنافقين وأشباههم، وهكذا مَن فعل ذلك في بعض الأعمال للدنيا تعس أيضًا؛ لأنه يذهب ثوابه، ويحصل له الوزر والإثم، تعس وانتكس هذا دعاء عليه أيضًا بالتَّعاسة في أموره، والانتكاس في أموره، وإذا شِيك إذا أصابته شوكةٌ فلا انتقش يعني: فلا وجد مَن يأخذها ويُخرجها، المقصود أنه دعاء عليه بتعسير الأمور وسُوء العاقبة -نعوذ بالله- بسبب نيَّته الخبيثة، وإرادته الفاسدة.
ثم قال: طوبى لعبدٍ آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مُغبرة قدماه من شدة عنايته بالجهاد غير مُتفرغ لترجيل الرأس وتحسينه ودهنه ونحو ذلك، وغير مُتفرغ لنظافة بدنه، فهو أشعث الرأس، مُغبر القدمين، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في السَّاقة كان في السَّاقة يعني أنه يعمل جادًّا: إن كان في الحراسة حفظها وقام بها حقَّ القيام وحرس إخوانه وحماهم من عدوهم، وإن كان في السَّاقة كذلك يحميهم ويعتني بعمله، ليس بمُترسم فقط، بل هو يعمل ويجدّ، وهو إن كان في الخيرات ..... على الحقيقة، لا على الدَّعوى، وإن كان في السَّاقة كان فيها على الحقيقة؛ لأنه رجلٌ عاملٌ ثابتٌ، إن استأذن على الملوك لم يأذنوا له، وإن شفع لم يُشفع، يعني: مغمور في الناس، غير معروف؛ ولهذا لو شفع لم يُشفع، ولو استأذن لم يُؤذن له؛ لأنه غير معروفٍ.
وهذا من كمال إخلاصه، وكمال صدقه، لا يتحرى مناصب الأمور، ولا معالي الأمور من جهة الدنيا، ولا التقدم عند الملوك والأمراء، بل هو مُخلص لله في عمله؛ ولهذا لا تعرفه الملوك، ولا يعرفه الأمراء، وهو صادق العمل، جاد في العمل، ناصح في العمل، هذا هو الذي له الجنة والكرامة، وله السَّعادة في يوم القيامة، بخلاف المرائي الذي يُرائي بأعماله، ليس قصده إلا الدنيا، وبخلاف المنافق الذي آمن للدنيا، ولم يُؤمن بالله واليوم الآخر، فهذا هالكٌ وتاعسٌ وباطلُ العمل: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ [النساء:142- 143]، ليسوا مع المؤمنين الصَّادقين، وليسوا مع الكفَّار، بل تارة مع هؤلاء، وتارة مع هؤلاء، مَن جاء الطمع معه صاروا إليه، هذه حال المنافقين الذين ليس عندهم إيمانٌ بالله واليوم الآخر، فلهم نصيبهم من هذا الوعيد الشديد، وهكذا مَن كان عمله -وإن كان غير نفاقٍ- مَن كان عمله للدنيا في أمره بالمعروف، أو في نهيه عن المنكر، أو في جهاده، أو في غير هذا من شؤون الدين، إذا عمل ذلك للدنيا حبط ذلك العمل.
وفَّق اللهُ الجميع.
باب مَن أطاع العلماء والأُمراء في تحريم ما أحلَّ الله
أو تحليل ما حرَّم الله فقد اتَّخذهم أربابًا من دون الله
وقال ابن عباس: "يُوشك أن تَنْزل عليكم حجارةٌ من السماء؛ أقول: قال رسولُ الله ﷺ، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!".
وقال الإمامُ أحمد: عجبتُ لقومٍ عرفوا الإسنادَ وصحَّته، ويذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشِّرك؛ لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيءٌ من الزَّيغ فيهلك.
عن عدي بن حاتم: أنه سمع النبيَّ ﷺ يقرأ هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31] فقلتُ له: إنا لسنا نعبدهم! قال: أليس يُحرِّمون ما أحلَّ الله فتُحرِّمونه؟ ويُحلون ما حرَّم الله فتُحلونه؟ فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم رواه أحمد والترمذي وحسَّنه.
الشيخ: يقول رحمه الله: (باب مَن أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحلَّ الله، أو تحليل ما حرَّم الله فقد اتَّخذهم أربابًا من دون الله) مراده بهذه الترجمة رحمه الله تحقيق التوحيد، واتِّباع الشريعة، وتعظيم أمر الله ونهيه، والحذر من تقليد الشيوخ والآراء في خلاف شرع الله؛ لأنَّ كتابه هذا وُضع في بيان توحيد العبادة، وبيان ما يُنافيه أو يُنافي كماله الواجب، أو يقدح فيه، أو ينقص ثواب أهله.
فأراد أن يُبين تحريم التقليد الأعمى للأشياخ والعلماء والمعظمين، بخلاف شرع الله جلَّ وعلا؛ ولهذا قال: (باب مَن أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحلَّ الله، أو تحليل ما حرَّم الله فقد اتَّخذهم أربابًا من دون الله) معناه: أنَّ الواجب على أهل العلم والإيمان أن يُعظموا أمر الله ونهيه، وأن يُحلوا ما أحلَّه الله ورسوله، وأن يُحرِّموا ما حرَّمه الله ورسوله، وألا يُطيعوا أحدًا بخلاف ذلك، فالعلماء والأمراء إنما يُطاعون في طاعة الله: إنما الطاعةُ في المعروف، فإذا أمر العالمُ أو الأميرُ أو السلطانُ أو أبوك أو زوج المرأة أو غير ذلك بفعل ما حرَّم الله لم يجز، أو ترك ما أوجب الله لم يجز: إنما الطاعةُ في المعروف، فكيف إذا حلل ذلك؟! تحليل ما حرَّم الله، أو تحريم ما أحلَّ الله هذا أكبر وأعظم: إنما الطاعة في المعروف، لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق؛ ولهذا مَن أطاع العلماء والأمراء والرهبان وغيرهم في تحريم ما أحلَّه الله، أو تحليل ما حرَّمه الله فقد اتَّخذهم آلهةً مع الله -والعياذ بالله- كما يأتي في حديث عدي.
قال ابنُ عباسٍ رضي الله تعالى عنهما، وهو عبدالله، إذا أُطلق ابن عباسٍ فهو عبدالله، العباس له أولاد عدة ، أشرفهم وأفضلهم وأكثرهم علمًا وفضلًا هو عبدالله بن عباس رضي الله عن الجميع.
"يوشك" يعني: يقرب، يقال: أوشك على كذا، يعني: قرب منه، "يوشك" يعني: يقرب "أن تنزل عليكم حجارةٌ من السماء" يعني: عقوبةً، "أقول: قال رسولُ الله" يعني: أقول لكم في الأمر الذي أحتجّ عليكم به وأذكره لكم: قال رسولُ الله، وتحتجُّون عليَّ تقولون: قال أبو بكر وعمر، يعني: تردون عليَّ بخلاف أمر الله ورسوله، بقول أبي بكر وعمر.
فهذا ابن عباس، معناه أنه لا يجوز للمسلم إذا عرف شرعَ الله، وأنَّ الله أمر بهذا، والرسول أمر بهذا أن يُخالف ذلك، ولو قال ذلك أبو بكر وعمر، ومعلومٌ حال أبي بكر وعمر وفضلهما، وأنهما أفضل الصحابة، وخير الناس بعد الأنبياء، ومع ذلك لا يجوز أن يُطاعوا بخلاف شرع الله، فإذا غلط أبو بكر، أو غلط عمر في شيءٍ لم يجز أن يُطاعا في ذلك إذا خالفا شرع الله سبحانه وتعالى، فإذا كان هذا في أبي بكر وعمر، فكيف بحال مَن دونهم من الناس؟!
المعنى من باب أولى أنه لا يجوز، بل الواجب تقديم طاعة الله ورسوله؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا قال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59]، وقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، ويقول سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، ويقول : فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
هذا من ابن عباس معناه الحثّ على الشريعة، وعلى طاعة الله ورسوله، وتعظيم أمر الله ورسوله، والحذر من تعظيم الرجال حتى يُخالف شرع الله من أجلهم.
وقال أحمدُ رحمه الله، الإمام أحمد، الإمام المشهور: أحمد بن محمد الشَّيباني، أحد الأئمة الأربعة المشهورين، المتوفى سنة 241 من الهجرة في وسط القرن الثالث.
يقول رحمه الله: "عجبتُ لقومٍ عرفوا الإسنادَ وصحَّته" يعني: عرفوا الإسنادَ أنه صحيح إلى النبي ﷺ، إلى الصحابة إلى النبي ﷺ، "يذهبون إلى رأي سفيان" يعني: ابن سعيد الثوري، الإمام المشهور المتوفى سنة 161، وهو شيخ مشايخ أحمد رحمه الله، "يذهبون إلى رأي سفيان" يعني: وهو مخالفٌ لما جاء به النص.
فهذا من أحمد رحمه الله يُبين إنكاره لهذا الأمر، وأنه لا يليق بالعالم أن يفعل ذلك، ثم قال: والله يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63]، يخالفون: يحيدون ويتركون أمره عليه الصلاة والسلام أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
ثم قال: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردَّ بعضَ قوله أن يقع في قلبه شيءٌ من الزَّيغ فيهلك"، يعني: يُخشى عليه أن يُفتن ويقع في الشِّرك والردة.
فهذا معناه الحذر من مخالفة النص، إذا جاء النص عن رسول الله ﷺ فليس للعلماء أن يُخالفوا ذلك، ليس لأهل العلم أن يُخالفوا نصَّ الرسول ﷺ ويُفتوا الناس بخلافه، بل عليهم أن يتبعوا ما قاله الرسول، وأن يدعوا ما خالفه من أقوال الناس، وإن كان مَن خالفه عظيمًا وعالـمًا كبيرًا، لكنه قصاراه أن يكون تابعًا للرسول ﷺ، فإذا خالف النَّصَّ وجب اطِّراح قوله ورأيه، والأخذ بالنصِّ.
وهكذا قال العلماء جميعًا، قال الصحابة، وقال العلماء كلهم، يقولون: إذا خالف قولُنا قولَ الرسول فالواجب ترك قولنا لقول رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم يعلمون أنَّ الرسول هو المتبع، وهو المطاع، والمشرع، والمبلِّغ عن الله، فليس لأحدٍ أن يُخالف أمره عليه الصلاة والسلام، بل يجب أن يُطاع ويُتبع بما جاء به، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].
وقال عدي لما قدم على النبيِّ ﷺ، قال له ﷺ في شأن أحبارهم ورُهبانهم: إنكم تعبدونهم، وتلا قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، قال: يا رسول الله، لسنا نعبدهم! ظنَّ عديٌّ أنَّ عباداتهم معناها السجود لهم، أو الركوع لهم، أو نحو ذلك، قال: أليسوا يُحلون ما حرَّم الله فتُحلونه، ويُحرِّمون ما أحلَّ الله فتُحرمونه؟ قال: بلى، قال: فتلك عباداتهم.
فالمعنى أنَّ طاعة العلماء في تحريم الحلال، وفي تحليل الحرام، واعتقاد أنَّ هذا جائز ..... يكون عبادةً لهم، أما إذا قاس على ذلك جهلًا منه ما يكون عبادةً لهم، إنما هذا إذا اعتقد ذلك واستحلَّ ذلك، فإنه يكون عابدًا لهم، ويكون كافرًا، نسأل الله العافية.
أما ما يقع من الناس جهلًا من غير بصيرةٍ، فيتبع العلماء في شيءٍ يظنه حقًّا، ويظنه دينًا، ولا يعلم أنه مخالفٌ لشرع الله، فهذا لا يكون من هذا الباب، ولا يكون عبادةً لهم؛ لأنَّ الإنسان يُخطئ ويُصيب، مَن يتبع عالـمًا في فتواه ويأخذ بفتواه يظنّ أنها صواب، ويعتقد أنها صواب، فلا يدخل في هذا الوعيد، إنما هذا الوعيد فيمَن استحلَّ محارم الله بفتوى زيدٍ أو عمرو، هذا الذي يدخل في هذا الوعيد، ويكون عابدًا لمن قلَّده في ذلك واتَّبعه في ذلك؛ لأنه قدَّمه على شرع الله وهو يعلم، وهو عامد؛ فلهذا استحقَّ هذا الوعيد، نعوذ بالله.
رزق اللهُ الجميع التوفيق والهداية، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله.
باب قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا [النساء:60- 62].
وقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11].
وقوله: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].
وقوله: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله ﷺ قال: لا يُؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به.
قال النَّووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب "الحُجَّة" بإسنادٍ صحيحٍ.
وقال الشَّعبي: "كان بين رجلٍ من المنافقين ورجلٍ من اليهود خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمدٍ؛ لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود؛ لعلمه أنهم يأخذون الرشوة. فاتَّفقا أن يأتيا كاهنًا في جُهينة فيتحاكما إليه، فنَزلت: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الآية".
وقيل: "نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدُهما: نترافع إلى النبي ﷺ، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف. ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدُهما القصة، فقال للذي لم يرضَ برسول الله ﷺ: أكذلك؟ قال: نعم. فضربه بالسيف فقتله".
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فيقول المؤلفُ الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمة الله عليه في "كتاب التوحيد": (باب قوله جلَّ وعلا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء:60]) أراد المؤلفُ بهذه الترجمة بيان التَّحذير من التحاكم إلى غير الله، وأن الواجب التحاكم إلى شريعة الله في كل الأمور، كما قال جلَّ وعلا: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وكما قال سبحانه: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة:49]، وكما قال : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47]، هذه الآيات وما جاء في معناها كلها دالَّة على وجوب التَّحاكم إلى شريعة الله، وأنه لا يجوز التَّحاكم إلى غير الله، كائنًا مَن كان.
فأراد المؤلفُ بهذه الترجمة بيان هذا الأساس العظيم، والأصل المجمع عليه، وبيَّن ربنا في هذه الآية أنَّ بعض الناس يدَّعي الإسلام، ويدَّعي الإيمان، وهو ليس كذلك، من المنافقين، فإذا جاءت الحوادث وجاءت الخصومات طلب التَّحاكم إلى غير الله، قال: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ، والطاغوت: كل ما عُبد من دون الله، وكل مَن حكم بغير ما أنزل الله عن عمدٍ، وعن هوى، فهو طاغوت.
فالمنافقون يُريدون مَن يُوافق أهواءهم، ومَن يقبل منهم الرشوة حتى يحكم لهم، وهذا دليلٌ على نفاقهم وضلالهم؛ ولهذا قال: وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء:60- 61]، فهذا شأنهم: الإعراض عن الحقِّ، والصدود عن الحقِّ، واتِّباع الهوى، فالواجب على أهل الإسلام أن يحذروا صفاتهم وأخلاقهم الذَّميمة.