08 من (باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول)

باب مَن هزل بشيءٍ فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول

وقول الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65].

عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة -دخل حديثُ بعضهم في بعضٍ- أنه قال رجلٌ في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قُرائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء. يعني رسول الله ﷺ وأصحابه القُرَّاء، فقال له عوف بن مالك: كذبتَ، ولكنك منافق، لأُخبرنَّ رسول الله ﷺ. فذهب عوفٌ إلى رسول الله ﷺ ليُخبره، فوجد القرآنَ قد سبقه، فجاء ذلك الرجلُ إلى رسول الله ﷺ وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه مُتعلِّقًا بنسعة ناقة رسول الله ﷺ، وإنَّ الحجارة تنكب رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. فيقول له رسولُ الله ﷺ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ۝ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65- 66]، ما يلتفت إليه، وما يزيده عليه.

الشيخ: فهذا الباب في بيان حكم المستهزئين بالله وبالقرآن وبالرسول، أو بشيءٍ من الدِّين، وأنَّ حكمهم أنهم مُرتدون، إذا كانوا مسلمين حكمهم أنهم مُرتدون عن دين الإسلام -نسأل الله العافية- وأنَّ الاستهزاء ردَّة عن الإسلام، وكفر بواح.

يقول المؤلفُ رحمه الله تعالى: (باب مَن هزل بشيءٍ فيه ذكر الله أو الرسول أو القرآن) حذف الجواب، والجواب معناه: فقد كفر، (مَن هزل) هذا شرطٌ، (مَن) شرطية، وحذف فعلها، والجواب: فقد كفر، وهذا هو الجواب؛ لأنه معلوم، قال الله تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ.

قال المؤلفُ: (عن ابن عمر) يعني: عبدالله بن عمر بن الخطاب، (ومحمد بن كعب) يعني: القرظي، (وزيد بن أسلم) يعني: العدوي، مولى عمر، (وقتادة) يعني: ابن دعامة السَّدوسي، التابعي المعروف، (دخل حديثُ بعضهم في بعضٍ) يعني: امتزج حديثُهم، واختلط حديثُهم، (أنَّ ناسًا في غزوة تبوك قالوا: ما رأينا مثل قُرَّائنا هؤلاء) يعنون الرسول وأصحابه، (أرغب بطونًا) يعني: أكثر أكلًا، (ولا أكذب ألسنًا) جمع لسان، (ولا أجبن عند اللقاء) يعني: ليسوا بشجعان عند اللقاء.

فسمعه عوف بن مالك الأشجعي، سمع عوف بن مالك هذا الرجل يقول هذا الكلام، فقال له عوف: (كذبتَ، ولكنك منافق) هذا فيه إنكار المنكر على مَن سمعه، وأنَّ مَن سمعه يُنكره ويُبلغ المسؤولين عنه، ولا سيما مثل هذا المنكر العظيم الذي فيه سبٌّ لله ولرسوله، وسبٌّ لدينه.

(لأخبرنَّ الرسول ﷺ بذلك، فذهب عوف إلى النبي ﷺ ليُخبره، ووجد القرآن قد سبقه) نزلت الآيةُ فيهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ۝ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:65- 66].

هذا يُبين لنا أنَّ المستهزئ بالقرآن أو بالسنة أو بشيءٍ من دين الله، ولو زعم أنه يخوض ويلعب، ولو زعم أنه يتحدث حديث الركب يقطع الطريق، ولو زعم أنه ما تعمد ذلك؛ يكون كافرًا بذلك؛ لأنَّ التلاعب بهذا لا يجوز: لا في الطريق، ولا في غير الطريق، وهو يدل على نفاقٍ في القلب، ومرضٍ في القلب، وخُبْثٍ في القلب، وأنَّ هذا الرجل ليس مسلمًا، ولكنه منافق يتظاهر بالإسلام، وقلبه مملوء من الحقد عليه وعلى أهله.

وهل يستطيع المسلمُ أن يقول هذا الكلام: ما رأينا مثل قُرائنا هؤلاء -يعني: الرسول وأصحابه- أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء؟! وشرّها قوله: "ولا أكذب ألسنًا"؛ فإنَّ هذا تكذيبٌ للرسول ﷺ والصحابة، ثم رمي لهم بالجبن وعدم الشَّجاعة، مع رميهم بأنهم حريصون على الأكل، كثيرو الأكل، وهو يدل على الرغبة في الدنيا والحرص عليها.

فجاء ذاك الرجلُ يعتذر يقول: ما فعلنا هذا إلا لنتحدث حديث الركب نقطع به عناء الطريق، ما قصدنا شيئًا. فلم يلتفت إليه النبيُّ ﷺ، ولم يُبالِ به، بل كان يقول: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ؟! ما يلتفت إليه، ولا يزيده على هذا الكلام.

معنى ذلك أنه لم يقبل منه هذا الاعتذار، وبيَّن له أنه كافر بهذا العمل؛ ولهذا أجابه بقوله: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ۝ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ.

هذا يُبين لنا أنَّ المستهزئ بالشِّرع كافر بعد الإيمان، إذا تنقص الرسول، أو قال: إنه جبان، أو قال: إنه كذَّاب، أو قال: إنه لم يُبلغ الرسالة، أو ما أشبه ذلك مما يدل على التَّنقص؛ فإنه يكون كافرًا.

وهكذا مَن قال: إنَّ القرآن مُتناقض، أو القرآن لم يستوفِ ما يحتاجه الناس، أو الشريعة لم تستوفِ ما يحتاجه الناس، أو ما أشبه ذلك. يعني: على سبيل الذَّم والعيب.

أما إذا قال: "جاءت السنةُ ببيان أشياء ليست من القرآن" هذا حقٌّ، لكن إذا كان كلامُه على سبيل الذَّم، وأن الناس بحاجة إلى القوانين، بحاجة إلى تشريع جديد، وأن النصوص لا تكفي ولا تفي بالمطلوب، وما أشبه ذلك، أو أنَّ الجنة ليست حقًّا، أو النار ليست حقًّا، أو هذا شيء خيال لا حقيقةَ له، كما يقوله بعضُ الفلاسفة، أو ما أشبه ذلك مما يدل على الاستهزاء والتَّنقص والحيرة ونحو ذلك؛ فإنَّ هذا يكون كفرًا وردَّةً عن الإسلام، نعوذ بالله من ذلك.

رزق اللهُ الجميع التَّوفيق والهداية.

...............

 

باب قول الله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [فصلت:50].

قال مجاهد: "هذا بعملي، وأنا محقوقٌ به".

وقال ابن عباس: "يريد من عندي".

وقوله: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص:78].

قال قتادة: "على علمٍ مني بوجوه المكاسِب".

وقال آخرون: "على علمٍ من الله أني له أهل"، وهذا معنى قول مجاهد: "أوتيتُه على شرفٍ".وعن أبي هريرة: أنه سمع رسولَ الله ﷺ يقول:

إنَّ ثلاثةً من بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، فأراد اللهُ أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكًا، فأتى الأبرصَ فقال: أي شيءٍ أحبُّ إليك؟ قال: قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناسُ به. قال: فمسحه فذهب عنه قذره، فأُعطي لونًا حسنًا، وجلدًا حسنًا. قال: فأيّ المال أحبُّ إليك؟ قال: الإبل أو البقر -شكَّ إسحاق- فأُعطي ناقةً عُشراء، وقال: بارك الله لك فيها.

قال: فأتى الأقرع فقال: أي شيءٍ أحبّ إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناسُ به. فمسحه فذهب عنه قذره، وأُعطي شعرًا حسنًا، فقال: أي المال أحبُّ إليك؟ قال: البقر أو الإبل. فأُعطي بقرةً حاملًا، قال: بارك الله لك فيها.

فأتى الأعمى فقال: أي شيءٍ أحبّ إليك؟ قال: أن يردَّ اللهُ إليَّ بصري فأُبصر به الناس. فمسحه فردَّ اللهُ إليه بصره، قال: فأي المال أحبُّ إليك؟ قال: الغنم، فأُعطي شاةً والدًا.

فأنتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم.

قال: ثم إنه أتى الأبرصَ في صورته وهيئته، فقال: رجلٌ مسكينٌ قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلوغَ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرًا أتبلَّغ به في سفري. فقال: الحقوق كثيرة. فقال: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناسُ، فقيرًا، فأعطاك اللهُ المالَ؟ فقال: إنما ورثتُ هذا المالَ كابرًا عن كابرٍ. فقال: إن كنتَ كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنتَ.

وأتى الأقرع في صورته فقال له مثلما قال لهذا، وردَّ عليه مثلما ردَّ عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنتَ.

قال: وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجلٌ مسكينٌ وابن سبيلٍ، قد انقطعت بي الحبالُ في سفري، فلا بلاغَ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي ردَّ عليك بصرك شاةً أتبلَّغ بها في سفري. فقال: قد كنتُ أعمى فردَّ الله إليَّ بصري، فخذ ما شئتَ، ودع ما شئتَ، فوالله لا أجهدك اليوم بشيءٍ أخذته لله. فقال: أمسك مالك فإنما ابتُليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك

 أخرجاه.

 

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلِّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.

أما بعد: هذا الباب عقده المؤلفُ الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في كتاب "التوحيد" في بيان ما بلغ على النفوس من إنكار النعم وجحدها، وكُفرانها وعدم الاعتراف بها لمسديها ، كما قال جلَّ وعلا: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي [فصلت:50]، فهذا من طبيعة ابن آدم -إلا مَن عصم الله- إنكار النعم، ونسبتها إلى نفسه، وعدم الاعتراف بها لربه .

قال مجاهد: "هذا بعملي، وأنا محقوقٌ به".

وقال ابن عباس: "أوتيتُه من عندي".

هَذَا لِي يعني: هذا من عملي، أو من عندي، أو من أسبابي، فهو مثلما قال قارون، على علمٍ بوجوه المكاسب، والآخر قال: ..... إني له أهلٌ، والآخر قال: لقد أوتيتُه على شرف آبائي وأسلافي. هذا من شأن بني آدم، ليس من شأنهم الشِّرك، ولكن من شأنهم الكفر للنِّعَم وإنكارها، إلا مَن رحم الله وعصم .

والمقصود من هذا الحثّ على شُكر الله، إذا عرفت قول الناس: هذا يقول: هذا من عندي، هذا من كسبي، هذا من كذا، هذا ورثتُه كابرًا عن كابرٍ، هذا أُعطيتُه على شرفٍ، هذا من حرصي، أو ما أشبه ذلك، عرفت أنَّ الأكثرين حادوا عن الصواب، وأنَّ الواجب على المؤمن إذا رزقه اللهُ المالَ وأعطاه الخير أن يكون شكورًا، مُعترفًا بنعم ربه سبحانه، وإن كانت له أسباب، وإن كان قد باع واشترى، وإن كان قد زرع، وإن كان قد فعل، لكن كله من فضل الله ، هو الذي علَّمك، هو الذي أنبت له النبات، هو الذي يسَّر له السلع، هو الذي أربحه فيها، ولم يجعله خاسرًا، إلى غير ذلك.

فالواجب عند النِّعَم الشكر لله ، والاعتراف بفضله، وأنه جلَّ وعلا المنعم، المحسِن، فيقول: أشكر الله، الشكر لله، الحمد لله، هذا من فضل الله، أحمد الله على ذلك، وما أشبه ذلك، ولا مانع أن يقول أنَّ هذا من الله ثم من كسبي، أو مما يسَّر اللهُ لي من أبي، أو مما حصل من فلان، لكن يُبين أنَّ الأصل من الله، يقول: من الله ثم من فلان، والشكر لله، الحمد لله، وما أشبه هذا من الكلمات الطيبة، ولا مانع من بيان الأسباب، لكن كونه يُسند لأسبابه أو لآبائه، أو ينسى الله ، هذا هو المنكر، نعوذ بالله.

وفي قصة الثلاثة عبرة: الأبرص والأقرع والأعمى، حكاها النبيُّ ﷺ وقصَّها علينا لبيان العبر، وهو حديثٌ صحيحٌ رواه الشَّيخان: البخاري ومسلم في "الصحيحين".

النبي ﷺ يذكر بعضَ أخبار الماضين للعبر وللتَّذكر؛ حتى ينتبه المؤمنُ، وحتى لا يُصيبه ما أصاب أولئك الماضين، مثلما ذكر قصة الأبرص والأقرع والأعمى، وقصة الذين آواهم الغار، وغيرها من القصص المعروفة التي فيها عبر وذكرى لأهل الإيمان.

هذا رجلٌ أبرص ممن كان قبلنا، وآخر أقرع، وآخر أعمى، ابتلاهم اللهُ بالضَّراء والسَّراء، ابتلاهم الله أولًا بالضَّراء: فأصاب هذا برص، وهذا قرع، وهذا عمى، هذه ضراء، ثم ابتلاهم بالنَّعماء والإحسان: فأزال ما في الأبرص من اللون السيئ، وأعطاه اللون الحسن، والجلد الحسن، وهكذا الأقرع: أعطاه الله الشعر الحسن، وهكذا الأعمى ردَّ اللهُ عليه بصره، فكفر اثنان بنِعَم الله، وأقرَّ واحدٌ، وهذا شاهدٌ لقوله : وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، قليل، ثلاثة: واحد يعترف، واثنان يكفران، ثم ذكرا.

أتاهم الملكُ أولًا قال: أي شيءٍ أحبّ إليك؟ يقول الأبرص: الجلد الحسن، واللون الحسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناسُ به. يعني: عابوني، قال: فمسحه فذهب عنه برصه، وأعطاه الله الجلد الحسن، واللون الحسن. قال: أي مالٍ أحبّ إليك؟ قال: الإبل أو البقر -شكَّ الراوي- فأعطاه اللهُ ناقةً عُشراء، يعني: حامل، في بطنها ولد، وقال له: بارك الله لك فيها. دعا له.

ثم أتى الأقرع وقال: أي شيءٍ أحبّ إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناسُ به وعابوني، فمسح رأسه فأزال اللهُ عنه ما به، وأعطاه الله شعرًا حسنًا، وذهب عنه قذره، قال: أي مالٍ أحبّ إليك؟ قال: البقر أو الإبل -شكَّ الراوي- فأعطاه الله بقرةً عُشراء -حاملًا- قال: بارك الله لك فيها.

ثم أتى الأعمى فقال: أي شيءٍ أحبّ إليك؟ قال: أن يردَّ اللهُ إليَّ بصري فأُبصر به الناس. فمسح على عينيه وردَّ الله إليه بصره، ثم قال: أي مالٍ أحبّ إليك؟ قال: الغنم، فأُعطي شاةً والدًا -يعني: وليدة، من شأنها أن تلد- فقال له: بارك الله لك فيها.

قال: "فأنتج هذان" يعني: الأبرص والأقرع أنتجا ما في بطون ناقة هذا وبقرة هذا .....، ثم انتشرت الذُّرية، وجعل اللهُ فيها البركة، وهكذا شاة هذا جاء لها أولاد، حتى صار للأبرص وادٍ من إبلٍ، والأقرع وادٍ من البقر، والأعمى وادٍ من الغنم.

ثم ابتُلوا بعد ذلك، جاءتهم بليةٌ أخرى بهذا السؤال، هل يشكرون أم يكفرون؟ تمت النعمة في البدن، وتمت النعمة في المال، فابتُلوا بهذه النِّعمة: هل يشكروها أم لا؟ فجاءهم الملكُ بصورة أبرص، وبصورة أعمى، وبصورة الأقرع؛ حتى يتذكروا حالهم الأولى، لعلهم ينتبهون، لعلهم يستفيدون، فلم يستفد الأبرص والأقرع، فذكره قال: ألم تكن أبرص؟ ألم تكن أقرع؟ ألم تكن فقيرًا؟ كل واحد ذُكِّر فأنكر وقال: إنما ورثتُ هذا المال كابرًا عن كابرٍ. يعني: أبًا عن جدٍّ، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنتَ.

الأقرب والله أعلم أنَّ الله أجاب دعوة الملك، فعادا إلى حالهما الأولى؛ ابتلاءً وامتحانًا وعقوبةً عاجلةً، نسأل الله العافية.

أما الأعمى فاعترف بنعم الله، قال: قد كنتُ أعمى فردَّ اللهُ عليَّ بصري، وفقيرًا فأعطاني اللهُ المالَ، فخذ ما شئتَ، ودع ما شئتَ، فوالله لا أجهدك شيئًا أخذته لله. فقال عند ذلك: إنما ابتُليتم، ليس لي حاجة فيها، إنما ابتُليتم، أمسك عليك مالك، ما أنا بحاجةٍ، وإنما هو ابتلاء وامتحان من الله، فقد رضي اللهُ عنك بسبب الشُّكر والاعتراف بالنِّعَم، وسخط على صاحبيك بسبب كُفرانهم النِّعمة، وإنكارهم النعمة، نسأل الله العافية.

وفي هذا من الفوائد:

الحثّ على شُكر النِّعَم والاعتراف بها لله.

والأدب في السؤال، قال: لا بلاغَ لي اليوم إلا بالله ثم بك. ما قال: إلا بك، أو إلا بالله وبك، بل أتى بالعبارة المشروعة: إلا بالله ثم بك.

وأيضًا بيان قُدرة الله ، وأنه يقول للشيء: كن فيكون، بينما هو أبرص وأقرع وكفيف في الحال أزال اللهُ برصَه وقرعَه وردَّ عليه بصره في الحال على يد هذا الملك: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

ثم إنزال البركة في هذا المال: فأصاب هذا واديًا، وهذا واديًا، وهذا واديًا؛ ابتلاءً وامتحانًا.

فينبغي للمؤمن أن يأخذ حذره، وأن يكون دائمًا على حذرٍ من الله، وعلى حذرٍ من عقوبته ، وأن يكون شكورًا على نِعَم الله، مُعترفًا بحقِّه سبحانه، صارفًا لها في مرضاته وطاعته جلَّ وعلا؛ حتى تنفعه، وحتى يُبارك له فيها، وحتى يسلم من تبعتها ومضرّتها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وفَّق اللهُ الجميعَ.

س: إذا وضعنا (فليت) يُؤذي المصلين، أتينا بجهاز كهربائي يحرق مباشرةً، فقال بعضُ المصلين أنه لا يجوز؟

ج: تركه أحسن، شبهة، إذا استعملتم شيئًا آخر أحسن، حطُّوا هذا الدَّواء، ما هو في وقت الصلاة؟

س: لا، هم يقولون: ما يجوز للبعوض، الناموس.

ج: يحطّ هذا الدَّواء قبل الصلاة بوقتٍ.

 

باب قول الله تعالى: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:190]

قال ابنُ حزمٍ: اتَّفقوا على تحريم كلِّ اسمٍ معبدٍ لغير الله: كعبدعمرو، وعبدالكعبة، وما أشبه ذلك، حاشى عبدالمطلب.

وعن ابن عباسٍ في الآية قال: "لما تغشَّاها آدمُ حملت، فأتاهما إبليسُ فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتُكما من الجنَّة، لتُطيعاني أو لأجعلنَّ له قرني أيلٍ، فيخرج من بطنك فيشقّه، ولأفعلنَّ، ولأفعلنَّ -يُخوِّفهما- سمياه: عبدالحارث. فأبيا أن يُطيعاه فخرج ميتًا. ثم حملت فأتاهما فقال مثل قوله، فأبيا أن يُطيعاه فخرج ميتًا. ثم حملت فأتاهما فذكر لهما، فأدركهما حبُّ الولد فسمياه: عبدالحارث، فذلك قوله: جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا". رواه ابن أبي حاتم.

وله بسندٍ صحيحٍ عن قتادة قال: "شُركاء في طاعته، ولم يكن في عِبادته".

وله بسندٍ صحيحٍ عن مجاهدٍ في قوله: لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا [الأعراف:189] قال: "أشفقا أن لا يكون إنسانًا". وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما.

 

الشيخ: يقول رحمه الله: (باب ما جاء في قوله تعالى: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أراد المؤلفُ بهذه الترجمة بيان تحريم التَّعبيد لغير الله، وأنه لا يجب أن يُعبد أحدٌ لغير الله، فلا يقال: عبدالنبي، ولا عبدالكعبة، ولا عبدالحسين، ولا عبدعمر، ولا شبه ذلك، بل التَّعبيد يكون لله وحده: عبدالله، عبدالرحمن، عبدالعزيز، عبدالكريم، عبدالقدوس، إلى غير ذلك؛ لأنَّ الله ذمَّ مَن فعل ذلك: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هذا ذمٌّ وعيبٌ لمن فعل ذلك.

الآية سياقها في آدم وحواء عليهما الصلاة والسلام، وهذه على ما قاله السلفُ: زلَّة من آدم وحواء، حيث أطاعا فيها الشيطان بعبدالحارث.

وقال الآخرون: إنَّ المراد بالآية جنسٌ من بني إسرائيل، وقع في بني إسرائيل، فعلوا هذا الفعل.

ولكن ظاهر السياق يأبى ذلك، ظاهر السياق هو مثلما قال ابنُ عباسٍ وغيره من السلف: أنَّ هذا وقع لآدم بسبب موت الأول والثاني من أولادهما، فأدركهما حبُّ الولد، وزيَّن لهما الشيطان هذه الوسوسة وهذا الاسم: عبدالحارث، وظنَّا أنه يعيش بسبب ذلك، فوقعا في المعصية.

وقال العلماء: والمعصية قد تقع من الأنبياء إذا كانت صغيرةً، ويحتمل أنهما حين فعلا ذلك يعتقدان أنه جائز لهما؛ فلهذا فعلا، ولم يعلما أنه منكر، وإنما كرهاه أولًا، ثم خضعا لوسوسته وما أراد؛ ظنًّا منهما أنه جائز، وقد خفي عليهما الحكم الشَّرعي؛ فلهذا فعلا ذلك.

وبيَّن سبحانه فيما أنزل على رسوله محمدٍ ﷺ أنَّ هذا لا يجوز، وأنه لا يجوز التَّعبيد لغير الله، أما آدم وحواء فلم يعلما ذلك، وأطاعا الشيطان في وسوسته جهلًا منهما بالحكم الشرعي، أو لأمرٍ آخر وهو: أن الأمر الذي قاله الشيطان في آدم وحواء لم يثبت أنه قال لهما، وإنما وقع في بني إسرائيل كما قال بعضُ السلف، فالأمر محتمل، لكن السياق يقتضي ما قاله ابن عباسٍ وجماعة، والله جلَّ وعلا أعلم، والحكم يُناط بشريعة محمدٍ ﷺ؛ فإنها الشريعة العامَّة، فمَن كان من قبلنا فله ما فيه من إباحةٍ في بعض المسائل، ومنعٍ في بعض المسائل التي في شرائع مَن قبلنا، وأما هذه المسألة فبين الله فيها الحكم، وأنه لا يجوز التَّشريك في الاسم لغير الله ، بل يجب أن يكون ذلك لله وحده؛ لأنه ذمَّ مَن فعل ذلك فقال: فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:190]، فعُلم بذلك أنه لا يجوز التَّعبيد لغير الله؛ ولهذا قال ابنُ حزم: اتَّفق العلماءُ على تحريم كلِّ اسمٍ مُعبَّدٍ لغير الله: كعبدعمر وعبدالكعبة ونحو ذلك، حاشا عبدالمطلب؛ لأنَّ الرسول أقرَّ ذلك، فدلَّ على أنَّ عبدالمطلب مُستثنًى، ففي الصحابة: عبدالمطلب بن ربيعة، ولم يُغير اسمه عليه الصلاة والسلام، فدلَّ على استثنائه؛ لأنَّ أصل التَّعبيد بالرقِّ، كان عبدُالمطلب سُمي بذلك لأنهم ظنُّوه عبدًا للمطلب، ظنُّوا سيده هو المطلب، فظنُّوه عبدًا لعمه المطلب بن عبدمناف، فقالوا: عبدالمطلب من جهة الرقِّ، وهو ليس كذلك، لكن لما رأوا وجهه تغير بسبب الشمس والسَّفر ظنُّوه مولًى لهم، ثم أُقرَّ في الإسلام عبدالمطلب، أما بقية الأسماء المعبدة لغير الله فإنه يُمنع: كعبدعمر، وعبدالكعبة، وعبدالنبي، ونحو ذلك.

قال قتادة: "شُركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته"، يعني: أطاعوه في هذا الاسم عن غير علمٍ، فنبّها على ذلك كما بيَّن الله جلَّ وعلا في كتابه العظيم.

والحاصل من هذا كله أنَّ القضية وقعت من آدم، أو من بعض بني إسرائيل، فبيَّن الله في كتابه العظيم أنَّ هذا لا يجوز، وأنَّ الواجب التَّعبير بالله وحده، وأنه لا يُقتدى بمَن فعل ذلك: لا من الأولين من بني إسرائيل، ولا لو وقع من آدم -إن كان وقع من آدم كما هو ظاهر السياق- بل يجب أن تكون التَّسمية والتَّعبيد لله وحده، وما وقع في بني إسرائيل أو في عهد آدم وحواء لا يُفعل في شريعة محمدٍ عليه الصلاة والسلام، بل اللهُ منع من ذلك في شريعة محمدٍ عليه الصلاة والسلام، وهذا كله من باب كمال التوحيد، وكمال الإيمان، وكمال العبادة لله وحده، وكمال الخضوع له ، وشريعة محمدٍ ﷺ جاءت بغاية الكمال للتوحيد، وغاية الكمال لتعظيم الربوبية، وغاية الكمال في البُعد عن وسائل الشِّرك ووسائل التَّعبد لغير الله ، فهي أكمل الشَّرائع وأعظمها وأتمّها وأبعدها عن كلِّ شركٍ، هذه الشريعة المحمدية التي جاء بها نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.

وفَّق الله الجميع.

..............

باب قول الله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180]

ذكر ابنُ أبي حاتم: عن ابن عباسٍ: "يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ يُشركون".

وعنه: "سمّوا اللات من الإله، والعُزَّى من العزيز".

وعن الأعمش: "يُدخلون فيها ما ليس منها".

 

الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: (باب قول الله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يُبين سبحانه أنَّ له الأسماء الحسنى التي لا يعتريها نقصٌ، بل هي كاملة: كالحكيم والعزيز والرؤوف والقدير والله والقدوس والملك، ونحو ذلك، كلها أسماء حسنى دالَّة على معانٍ عظيمةٍ موصوف بها ربنا على الوجه اللائق به ، فيُدعا بها فيقال: يا رحمن، يا رحيم، يا عزيز، يا حكيم، اغفر لنا، ارحمنا، أنجنا من النار، فهو يُدعا بها .

وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ الإلحاد فيها هو الميل بها عن الحقِّ، والإشراك مع الله فيها ، كمَن جعل لغير الله شيئًا من العبادة: كاللات والعزَّى والأصنام، قد أشرك فيها مع الله غيره، وجعله إلهًا له ولغيره، فصار كافرًا بذلك.

وهكذا مَن ألحد فيها بأن أمالها عن الحقِّ، وزعم أنه لا معنى لها: كالجهمية والمعتزلة الذين نفوا صفات الله، أو نفوا أسماءه وصفاته جميعًا، فقد ألحدوا في ذلك، يعني: مالوا عن الحقِّ، الإلحاد هو: الميل عن الحقِّ، ومنه اللَّحد في القبر؛ لأنه جعل في جانبه مائلًا.

فالملحد هو المائل عن الحقِّ، الذي صدف عنه وأعرض عنه، فيدخل فيه الكفَّار جميعهم، فإنهم مُلحدون، وهكذا أهل البدع من نُفاة الصِّفات والأسماء، وغيرهم من أهل البدع، قد ألحدوا.

لكن الإلحاد قسمان: إلحاد كامل، وهو ما يقع من الكفرة. وإلحاد ناقص، وهو ما يقع من بعض المسلمين في عدم انقيادهم إلى الحقِّ على التمام والكمال، فيكون له نوع إلحادٍ وميل عن الحقِّ، فيفوتهم من الإيمان ويفوتهم من الإسلام بقدر ما عندهم من الإلحاد.

فالواجب على المؤمن أن يكون مُنقادًا للحقِّ، ثابتًا عليه، مُتَّصفًا به، مُلتزمًا به؛ حتى لا يميل عنه يمينًا ولا شمالًا.

قال الأعمش: "يُدخلون فيها ما ليس منها" يعني: يُدخلون في أسماء الله ما ليس منها، هذا نوعٌ من الإلحاد: كونه يُسمي الله بأسماء ما أنزل الله بها من سلطانٍ هذا نوعٌ من الإلحاد، أي نوعٌ من الباطل، فلا يُسمَّى سبحانه إلا بما سمَّى به نفسه.

وكذلك قول بعضهم في اللات: أنها من الإله، والعُزَّى من العزيز، هذا نوعٌ من الإلحاد؛ ولهذا سمّوا إلههم في الطائف: اللات، قالوا: إنه مُؤنث الإله، وسموا العُزَّى من العزيز، اشتقُّوها من ذلك، وكله باطل، فالعزَّى لا وجهَ لها، وهي شجرة لا زوجَ لها، ولا حقَّ لها، وإنما زيَّن لهم الشيطانُ عبادتها، وهكذا اللَّات: صخرة أو ميت انقطعت أسبابه، لكن الجُهَّال جعلوه إلهًا لهم وعبدوه من دون الله، وهكذا مناة: صخرة معروفة بالمثلث عند قديد، عبدها الأوس والخزرج وجماعة معهم، وكله ضلال وإلحاد.

والواجب أن يُعبد الله وحده ، يخصّ بالعبادة، فتسمية آلهة المشركين: بآلهةٍ إلحاد، ونفي الصِّفات وتأويلها إلى غير معناها إلحاد، ونفي الأسماء بالكلية إلحاد، ونفي بعضها أو تأويل بعضها إلحاد، فالإلحاد يتفاوت ويختلف: بعضه أشدّ من بعضٍ.

وهكذا الميل عن الحقِّ في تعاطي المعاصي والسَّيئات، والميل عن العدالة نوعٌ من الإلحاد، لكنه إلحاد أصغر، غير الإلحاد الأكبر الذي يقع من الكفرة بعبادتهم غير الله، وفي إنكارهم ما أخبر الله به على ألسنة الرسل، فمَن كذَّب الله أو عبد معه غيره فقد ألحد إلحادًا يجعله من الكافرين، وهكذا مَن نفى أسماء الله وصفاته -كالجهمية ونحوهم- ألحد إلحادًا يُلحقه بالكافرين عند أهل السنة والجماعة.

ومَن ألحد في بعض الشيء، أو أوَّل بعض الصِّفات صار له نصيبٌ من الباطل، وعليه وزره في ذلك، ولكن لا يُخرجه ذلك عن دائرة الإسلام، بل هو مسلم عنده نقص بسبب ما تأوَّله من بعض الصِّفات، والله المستعان.

وفَّق الله الجميع.

باب لا يُقال: السلام على الله

في الصحيح عن ابن مسعودٍ قال: كنا إذا كنا مع النبي ﷺ في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النبيُّ ﷺ: لا تقولوا: السلام على الله، فإنَّ الله هو السَّلام.

 

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلم على رسول الله.

يقول المؤلفُ رحمه الله: (باب لا يُقال: السلام على الله)، وهذا من كتاب "التوحيد"، أي: صدر من كتاب "التوحيد" الذي ألَّفه في مبدأ دعوته رحمه الله، وهو كتابٌ عظيمٌ لا نعلم أنه سبق له نظير في التأليف؛ لما احتوى عليه من التراجم المفيدة، جمعها من كتب الحديث، وكتب العقيدة رحمه الله، وهو كتاب جيد، مفيد.

(باب لا يُقال: السلام على الله)؛ لأنَّ الله هو السلام ، كان الصحابةُ في أول الأمر يقولون إذا جلسوا للتَّحيات: السلام على الله من عباده، السلام على جبرائيل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، وفلان، فقال لهم النبيُّ ﷺ: لا تقولوا: السلام على الله؛ فإنَّ الله هو السلام، ولكن قولوا: التَّحيات لله، والصَّلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به رواه الشيخان من حديث ابن مسعودٍ .

هذا هو الذي يُقال: التحيات، ما يقال: السلام على الله؛ لأنَّ الله هو السلام، وكان يقول إذا سلَّم من صلاته واستغفر ثلاثًا قال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام، فالله هو السلام، معناه: أنه السالم من كل نقصٍ وعيبٍ ، ومعناه: أنه مسلم لعباده.

صيغة السلام لها معنيان:

أحدهما: أنه يسلم لعباده، أنه الذي يُعطي السلام.

والمعنى الثاني: أنه الكامل والسَّالم من كل نقصٍ وعيبٍ، فله الكمال المطلق من كل الوجوه: في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فلا يسلم عليه، لا يقال: على الله السلام؛ لأنَّ السلام دعاء، فلا يقال: على الله السلام؛ لأنه غنيٌّ عن كل أحدٍ ، ليس في حاجةٍ إلى دعاء الناس، وإنما المشروع تعظيمه وتقديسه والإيمان بأنه موصوفٌ بصفات الكمال، والإيمان بأنه المسلم لعباده، النافع، الضَّار، المعطي، المحسن، هذا هو الذي يليق به ، أما أن يُقال: على الله السلام، أو عليك يا ربّ السلام، فهذا نوعٌ من الدعاء لا يليق بالله، وإنما يُسلم على المخلوق، يُقال: السلام على فلان، يعني له السلامة، له العافية؛ لأنه محتاجٌ إليها، أما الله فهو الكامل في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، الغني بذاته عن كلِّ ما سواه، فهو الذي يُعطي السلام، ويمنّ بالسلام، ويجود بالسلام على عباده، وهو ليس في حاجةٍ إلى شيءٍ من عباده يمدونه به، أو ينفعونه به، فهو غنيٌّ بذاته عن كلِّ ما سواه ، هذا معنى الكلام.

وفَّق الله الجميع.

س: إذا أسلم رجلٌ وامرأته هل يُعيدا العقد؟

ج: لا، يبقون على حالهم، يبقون على عقدهم، الذين أسلموا على عهد النبي ﷺ أقرَّهم النبيُّ ﷺ.

س: التوبة تكفي؟

ج: هم على عقدهم.

س: صلاة الرجل إذا فاتته الجماعةُ الأفضل أن تكون في بيته؟

ج: لا، يُصلي مع الجماعة في المسجد إن حصل له أحدٌ، وأما إن لم يحصل أحدٌ هو بالخيار: إن صلَّاها في المسجد، أو صلَّاها في بيته، إذا تيسر أحدٌ يُصلي معه، فالأفضل أن يُصلي .....

س: إذا تصدَّق على أخيه وكان يُصلي المغرب، هل يُصلي معه ثلاثًا أو يأتي برابعةٍ؟

ج: ثلاث، لا يزيد.

س: ما يُقال أنه وتر؟

ج: لا يزيد.

س: مَن عليه أقساط للبنك هل يخصمها مما عليه من الزكاة؟

ج: لا، يُزكي، الزكاة على حالها، والدَّين على حاله، الدَّين لا يمنع الزكاة، هذا الصحيح، ولكن إذا كان يحتاج إلى أن يُقدم الدَّين قدَّم الدَّين قبل إتمام الحول، لا يتكلف بعد ذلك، يُقدم الدَّين ثم يُزكي الباقي.

س: ..............؟

ج: إذا كان لتحليلٍ ما يضرّ، الحجامة فقط هي التي تضرّ.

س: عندها ذهب، ووجب عليها زكاته، تُعطي الزكاة لأُختها؟

ج: إذا كان أختُها فقيرةً، ما عندها زوج من أقاربه ولا أحد .....

س: قول البعض: لولا رسول الله ما اهتدينا؟

ج: المعنى صحيح، لكن الأولى أن يقول: لولا الله ثم دعوة الرسول وبيانه؛ لأنه أدركه ناسٌ ما اهتدوا، الرحمة من الله، هو الذي هدى مَن هدى ، الأولى أن يقول: لولا الله ثم ما بعث به رسوله من الإسلام، فإذا أراد لولا هداية الله وما جاء به من الهداية التي بعث بها رسوله، ما هو بقصده ذات الرسول، قصده ما بُعث به من الهدى، صحيح.

س: لو خاطب الرسول يقول: يا رسول الله، لو ترى حال الأمة لأشفقتَ عليها، أو لدعوتَ لها، أو كذا؟

ج: ما يجوز هذا؛ لأنَّ معناه أنه يسمع كلامه، يعني: يعي ما يقول النبي ﷺ ..... انقطع عمله إلا من ثلاثٍ يقال له يوم القيامة: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك .....

س: ..............؟

ج: تخطبهم من وراء جدارٍ.

.............

باب قول: اللهم اغفر لي إن شئتَ

في الصحيح عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله ﷺ قال: لا يقل أحدُكم: اللهم اغفر لي إن شئتَ، اللهم ارحمني إن شئتَ، ليعزم المسألة؛ فإنَّ الله لا مُكره له.

ولمسلم: وليعظم الرغبة، فإنَّ الله لا يتعاظمه شيء أعطاه.

 

الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: (باب لا يقول: اللهم اغفر لي إن شئتَ)، اللهم ارحمني إن شئتَ، أراد المؤلفُ بهذا أنَّ من كمال الإيمان وكمال التوحيد: العزم على المسألة، وعدم التَّردد، وأنَّ المؤمن إذا دعا ربَّه يعزم ولا يتردد، فإنَّ جوده عظيم، وهو الغني الحميد، فلا يليق بالمؤمن أن يستثني، إنما يستثني إذا طلب من المخلوق الذي قد يعجز، فيقول: أعطني كذا إن شئتَ، أو إن استطعتَ، هذا في حقِّ المخلوق، أما الرب فهو الغني الكامل، والقادر على كل شيءٍ، فلا يليق بالعبد الفقير أن يستثني في سؤاله فيقول: اللهم اغفر لي إن شئتَ، اللهم أدخلني الجنةَ إن شئتَ، كأنه غير محتاجٍ، كأنه ليس بمُضطرٍّ إلى هذا المسؤول، ولكن يعزم المسألة، وليجزم؛ ولهذا يقول ﷺ: لا يقولنَّ أحدُكم: اللهم اغفر لي إن شئتَ، اللهم ارحمني إن شئتَ، وليعزم المسألة؛ فإنَّ الله لا مُكره له، لا أحدَ يُكره الله على فعلٍ حتى يقول: إن شئتَ، وليس بعاجزٍ حتى يُقال: إن شئتَ، فلا يليق هذا بالله .

وفي اللفظ الآخر: وليعظم الرغبة؛ فإنَّ الله لا يتعاظمه شيء أعطاه، وهو جلَّ وعلا العظيم الشَّأن، الغني الحميد، ولا يتعاظمه شيء أعطاه عباده، وجاد به على عباده، فكلها عنده قليلة ويسيرة، وإن أعطاهم الشيء العظيم .

فالمشروع للمؤمن أن يكون عظيم الرغبة بما عند الله، شديد التَّعلق بالله، شديد اللجوء إليه، .....، فإذا سأله سأله سؤال المضطر، سؤال الراغب، فلا يستثنِ، ولا يقل: اللهم اغفر لي إن شئتَ، أو اللهم ارحمني إن شئتَ، أو اللهم اشفني إن شئتَ، أو اللهم أدخلني الجنةَ إن شئتَ، لا.

وهكذا الإخوان لا يقل: غفر الله لك إن شاء الله، أو رحمك الله إن شاء الله، لا، يجزم: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، رحمك الله يا أخي، ولا يقل: إن شاء الله، لا يستثنِ، ويكون دعاؤه دعاء الراغب، دعاء الجازم، دعاء الملحِّ.

وفَّق الله الجميع.

.............

س: البسملة في الوضوء إذا نسيها يُعيد الوضوء؟

ج: ما يضرّ.

باب لا يقول: عبدي وأمتي

في الصحيح عن أبي هريرة : أنَّ رسول الله ﷺ قال: لا يقل أحدُكم: أطعم ربك، وضِّئ ربك، وليقل: سيدي ومولاي. ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغُلامي.

 

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.

أما بعد: يقول المؤلفُ رحمه الله: (باب لا يقول: عبدي وأمتي)، المؤلف في كتابه "كتاب التوحيد" ذكر التوحيد، وذكر ما يكون من كماله وتمامه، وذكر ما يُنافيه، فهو كتابٌ جامعٌ، ذكر التوحيد وضدّه، وذكر ما يُكمله، وذكر ما يُنافي كماله، وهذا الباب مما يُنافي كمال التوحيد؛ فلهذا ذكره.

قال: (لا يقول: عبدي وأمتي)، يعني: لا يقول العبدُ عندما يُخاطب جاريته أو غلامه: جاء عبدي وأمتي؛ تأدبًا مع الله ، بل يقول: فتاي، وفتاتي، وغلامي، وخادمي، ونحو ذلك؛ لأنَّ العبيد عبيدالله، والإماء إماء الله، هذا من باب الكمال والتَّأدب مع الله ، والاعتراف بأنه سبحانه هو المالك لكل شيءٍ، وهو ربّ كل شيءٍ ، بخلاف ذات العبد فلان، أو إماء فلان، فهذا ليس من باب الإضافة إلى نفسه، بل من باب الإخبار، فهو أسهل.

عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي ﷺ أنه قال: لا يقلن أحدُكم: أطعم ربك، ووضئ ربك، وفي اللفظ الآخر: اسقِ ربَّك، وليقل: سيدي، ومولاي، وهذا من باب أيضًا التَّأدب؛ لأنَّ ربَّ الجميع هو الله ، فلا يليق هذا الإطلاق: أطعم ربك، والله جلَّ وعلا لا يطعم، فهو الغني عن كلِّ ما سواه ، وهكذا الوضوء، وهكذا السّقي، كله لا يليق في حقِّه سبحانه؛ لأنه له الكمال المطلق، فليس في حاجةٍ إلى طعامٍ وشرابٍ، وغير ذلك، هو الغني عن كلِّ ما سواه ، فلا يُناسب هذا التَّعبير: أطعم ربك، ووضئ ربك، الله ربُّ الجميع، وهو يريد سيدك، يجعل أمره الذي هو مالك، ولكن يقول عبارتها: أطعم سيدك، أطعم مولاك، عمّك؛ لأن هذه العبارات المعروفة لا تشتبه بالربوبية.

والسيد هو المالك والرئيس، فإذا قال: أطعم سيدك؛ يعني: مالكك، رئيسك، وهكذا المولى له معانٍ كثيرة، ومنها: السيد، والمالك، والقريب، والناصر، وجاء في بعض الرِّوايات الأخرى: لا يقولن: مولاي؛ فإنَّ مولاكم الله، لكن المحفوظ عند أهل العلم رواية الإذن؛ لأنَّ كلمة "مولى" مُشتركة، فقوله جلَّ وعلا: وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:11] يعني: لا ناصرَ لهم، بل هم مخذولون بالنسبة إلى مَن استقام على دين الله، ونصر دين الله، فلا حرج أن يقول: مولاي، أو قريبي، أو عتيقي، أو مُعتقي، أو سيدي، كما في الحديث هذا.

وليقل: سيدي، ومولاي ..... فيُقال: عمِّي، ويُقال: سيدي، ويُقال: مولاي، ويُقال ما أشبه ذلك مما اصطلحوا عليه، وتراضوا به، بدلًا من "ربي"، وليقل: فتاي، وفتاتي، وغلامي، ولا يقل: عبدي، وأمتي، كما تقدم.

كل هذا من باب الأدب مع الله في عدم إطلاق الربِّ على السيد، وفي عدم قوله: عبدي، وأمتي، وليستعمل الألفاظ البعيدة عن المشابهة، والبعيدة عن سوء الأدب، فيقول: غلامي، فتاي، جاريتي، ولا يقل: عبدي، وأمتي.

وكذلك لا يقل: أطعم ربك، وضِّئ ربك، أطع ربك، ويقصد به السيد، ولكن يقول: سيدي، مولاي، عمي، رئيسي، العبارات التي يصطلحون عليها، غير هذه العبارات.

وفَّق الله الجميع، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

باب لا يردّ مَن سأل بالله

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله ﷺ: مَن سأل بالله فأعطوه، ومَن استعاذ بالله فأعيذوه، ومَن دعاكم فأجيبوه، ومَن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تُكافئونه فادعوا له حتى تروا أنَّكم قد كافأتموه رواه أبو داود والنَّسائي بسندٍ صحيحٍ.

 

الشيخ: هذا الباب في النَّهي عن ردِّ مَن سأل بالله، ذكره المؤلفُ في كتاب "التوحيد" لما فيه من تعظيم الله وإجلاله بإعطاء مَن سأل به، قال: (باب لا يردّ مَن سأل بالله).

عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي ﷺ أنه قال: مَن سأل بالله فأعطوه، ومَن استعاذ بالله فأعيذوه، ومَن دعاكم فأجيبوه، ومَن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تُكافئوه فادعوا له حتى تروا بفتح التاء، بمعنى: تعلموا. ويُروى بضمِّهما: حتى تُروا يعني: حتى تظنوا أنَّكم قد كافأتموه.

هذه الكلمات من جوامع الكلم التي أُوتيها عليه الصلاة والسلام، فالمشروع لأهل الإيمان أن يُعطوا مَن سأل بالله؛ تعظيمًا لله، وإجلالًا له .

وقد جاءت عدةُ أحاديث تدل على كراهة السؤال بالله؛ لما فيه من التَّشديد على الناس، ولكن متى سأل حقًّا له -كالزكاة- أو من بيت المال، أو كان مُضطرًّا، وجب أن يُعطى، وأما إن كان على غير ذلك فالأفضل أن يُعطى، ولا ينبغي له أن يسأل بالله؛ عملًا بالأحاديث الأخرى الدالة على كراهة ذلك.

ومَن استعاذ بالله شرع أن يُعاذ؛ ولهذا لما استعاذت عمرة الجونية بالرسول ﷺ قال: لقد عُذْتِ بمُعاذٍ، وفي اللفظ الآخر: لقد عُذت بالعظيم، الحقي بأهلك فلم يتزوجها.

والمقصود أنه مَن استعاذ فإنه يُشرع أن يُعاذ إذا كان ليس حقًّا عليه، أما إذا كان يستعيذ بالله في إسقاط حقٍّ عليه فلا؛ لأنَّ الله أمر بأداء الحقوق، ولا يجوز أن يُستعاذ بالله في ترك الحقوق، فلا يقل: أعوذ بالله أن تُلزموني بالصلاة، أو أن تُلزموني بأداء الزكاة، أو أن تُلزموني بأداء الحقوق التي عليَّ: كالدَّين والكفَّارات ونحو ذلك.

أما مَن استعاذ بالله من أمرٍ لا يلزمه فلا بأس، ويُشرع أن يُعاذ تقديرًا لما استعاذ به: كأن يستعيذ بالله أن يُولى القضاء، وهناك مَن يقوم مقامه، أو استعاذ بالله أن يُولى الإمارة، وهناك من يقوم مقامه، وما أشبه ذلك من الأشياء التي فيها الخطر.

كما يُروى عن ابن عمر أنه لما أمره عثمانُ بالقضاء استعاذ بالله أن يُولَّى القضاء، فأعاذه عثمان، وهذا وإن صحَّ فمحمولٌ على أنَّ هناك والحمد لله مَن يقوم بالواجب، وكان الصَّالحون في عهد عثمان كثيرين.

ومَن دعاكم فأجيبوه يعني: مَن دعا إلى وليمةٍ يُجاب؛ لما في إجابة الدَّعوة من المصالح والتَّآلف والتَّواصل والتَّقارب؛ ولهذا شرع اللهُ إجابةَ الدَّعوة، سواء كانت لعرسٍ أو لغير عرسٍ، وأهمّها وأعظمها دعوة العرس؛ ولهذا في الحديث الصحيح: مَن لم يُجب الدَّعوة فقد عصى الله ورسوله رواه مسلم.

فالواجب أن تُجاب الدَّعوة إلا أن يكون بها مانعٌ، أو يكون له مانعٌ: كأن يكون مريضًا، أو بعيدًا عن محل الدَّعوة، يشقّ عليه المجيء إليها، ولا يتيسر له الركوب، أو كانت الدَّعوة فيها منكر: كالأغاني، والملاهي، وشرب الخمر، ونحو ذلك، فإذا كانت الدَّعوةُ سليمةً، والمدعو مُستطيعًا وجب عليه أن يُجيب، أو تأكّد على الأقل أن يُجيب؛ لقوله ﷺ: مَن دعاكم فأجيبوه، وفي الحديث: من حقِّ المسلم على أخيه أن يُجيب دعوته؛ ولعموم: مَن لم يُجب الدَّعوة فقد عصى الله ورسوله.

قال: ومَن صنع إليكم معروفًا فكافئوه هذا من مكارم الأخلاق، ومن شمائل الإيمان: المكافأة على المعروف بما استطاع، إن كان ماليًّا بالمال، وإن كان غير ماليٍّ بالكلام الطيب والدُّعاء.

فإن لم تجدوا ما تُكافئوه فادعوا له إذا عجز عن المكافأة دعا له حتى يغلب على ظنِّه أو يعلم أنه قد كافأه بكثرة دعائه وثنائه عليه.

والمعروف يتنوع: قال النبيُّ ﷺ: كل معروفٍ صدقة، فمَن صنع معروفًا: من إنقاذك من ظالمٍ، من تفريج كُربةٍ بقضاء دَينٍ، من تفريج كُربةٍ بإنقاذك من هلكةٍ، إلى غير هذا من أنواع التَّفريج وأنواع المعروف؛ شُرع لك مكافأته بما يُناسب المقام: من مالٍ، أو غيره حسب أحوال الناس، حسب أحوال المعروف، فمَن عجز عن ذلك فالدعاء يقوم مقام المكافأة.

وفَّق الله الجميع.

..............

س: بعض الناس إذا طلب يقول: بوجه الله أن تفعل كذا؟

ج: ينبغي ترك ذلك.

س: ...............؟

ج: الحديث فيه ضعف، لكن ينبغي ترك ذلك.

س: هو ما يقول: أسألك، يقول: بوجه الله أن تفعل: أن تأكل، أن تشرب؟

ج: هو بمعناه.

س: السؤال بالله هل هذا توسل بالله ؟

ج: توسل عند السَّائل، يعظم عنده الأمر، مثلما قال الأقرعُ والأبرصُ والأعمى، لما بعثوا إلى الأبرص والأعمى: أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والمال. حديث الثلاثة.

س: ................؟

ج: ما يُدعا، الصِّفات ما تُدعا، ما يقال: يا وجه الله افعل بي كذا، أو يا سمع الله، أو يا عين الله، إنما يُدعا هو سبحانه: يا ربّ، يا رحمن، يا رحيم، الصِّفات يُتوسل بها ولا تُدعا، حكى شيخُ الإسلام ابن تيمية الإجماعَ على ذلك، ولكن يتوسل بها: أسألك بعلمك العظيم، أسألك برحمتك، أعوذ برضاك من سخطك، وبرضاك من عقوبتك.

باب لا يُسأل بوجه الله إلا الجنَّة

عن جابرٍ قال: قال رسولُ الله ﷺ: لا يُسأل بوجه الله إلا الجنَّة رواه أبو داود.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلِّم على رسول الله.

يقول المؤلفُ رحمه الله: (باب لا يُسأل بوجه الله إلا الجنَّة) ثم ذكر حديث جابرٍ، ورواه أبو داود، وما ذاك إلا لأنَّ الجنَّة هي أعلى المطالب، وفيها النظر إلى وجه الله ، وفيها النَّعيم المقيم، ووجه الله له شرفه العظيم، فلا يُسأل بوجه الله إلا الجنَّة، يعني: وما يُقرِّب إليها، كأن يقول: اللهم إني أسألك بوجهك الكريم إدخالي الجنة، ونجاتي من النار، أو اللهم إني أسألك بوجهك أن تُوفقني للاستقامة على طاعتك، أو للإخلاص لك، فما يُقرب إلى الجنَّة هو من جنس طلب الجنة.

لكن الحديثَ في سنده بعض اللِّين أو الضَّعف.

والمؤلف أراد بذلك أنَّ هذا من الكمال: كمال التوحيد، ومن كمال الإيمان ألا يسأل بوجه الله إلا الجنة؛ لأنها أعلى المطالب، وهكذا ما يُقرب إليها: من سؤال الله الثبات على الإيمان، وسؤال الله الفقه في الدِّين، وسؤال الله صلاح القلب والعمل، وسؤال الله العافية من مُضلات الفتن، كل هذه تُقرب إلى الجنة، وتُباعد من النار.

والحديث وما فيه من اللِّين ينجبر بما جاء في روايةٍ أخرى من النَّهي عن السؤال بوجه الله، فيكون هذا خاصًّا في سؤال الله بوجهه الكريم الجنة وما يُقرب إليها، وما يدعو إليها، والله أعلم.

وفَّق الله الجميع.

................

باب ما جاء في اللو

وقول الله تعالى: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154].

وقوله: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168].

في الصحيح عن أبي هريرة : أنَّ رسول الله ﷺ قال: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزنَّ، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أنني فعلتُ لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان.

الشيخ: باب ما جاء في كلمة "لو"، يعني كلمة "لو" هل تجوز أو ما تجوز؟

المقصود من هذا بيان أنه لا ينبغي استعمالها لمعارضة القدر، بل يجب التَّسليم، والصبر، وعدم المعارضة للقدر بقوله "لو" عند مرضٍ، أو موت قريبٍ، أو غير ذلك، بل يجب التَّسليم، والصبر، والاحتساب، قال الله ذامًّا للمنافقين: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا، هذا قاله ذمًّا لهم، وعيبًا لهم، وقال سبحانه: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا، كل هذا على سبيل الذَّم؛ فدلَّ ذلك على أنه لا يجوز استعمالها عند معارضة القدر في مرضٍ، أو هزيمةٍ، أو غير ذلك، وأنَّ هذا من شأن المنافقين، فإنَّ قدر الله ماضٍ، وأمره نافذٌ ، وإنما شرع الأسباب لحكمةٍ بالغةٍ، فالأسباب إذا تعاطاها المؤمنُ فإذا نزل القضاءُ فليس له أن يعترض بعد ذلك.

ولهذا في الصحيح عن أبي هريرة ، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزنَّ، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلتُ لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل يعني: هذا قدر الله، وما شاء فعل، وبعضهم ضبطه: قدَّر الله -يعني: هذا الشيء الواقع- وما شاء فعل، قدَّر: فعل ماضٍ، والله: فاعل، والمعنى الأول أظهر، يعني: هذا الواقع قدر الله، يعني: مقدور الله، وما شاء الله فعله .

فإن "لو" تفتح عمل الشيطان يعني: تفتح على العبد عمل الشيطان، ووسواسه، وتشكيكه، فينبغي للمؤمن ألا يستعملها؛ حتى لا يقع في حبائل الشيطان، ووساوسه، وتشريكه، وإملائه ما لا ينبغي، فإنَّ الأمور التي بيد الله هو الذي قدَّرها جلَّ وعلا، فإذا فعل المؤمنُ ما شرع الله: من العلاج، من السفر، من الإقامة، من الأكل، من غير ذلك من الأسباب التي تعاطاها، ثم غلبه القدر فليقل: قدر الله، وما شاء فعل، إنا لله وإنا إليه راجعون، فليس الأمرُ بيده، بل بيد الله ؛ ولهذا قال : وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۝ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155- 157]، وقال النبي ﷺ: ما من عبدٍ يُصاب بمصيبةٍ فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مُصيبتي، واخلف لي خيرًا منها، إلا آجره الله في مُصيبته، وأخلف له خيرًا منها.

فالمؤمن هكذا تحت القدر، لكن لا يمنعه القدرُ من تعاطي الأسباب، يفعل الأسباب التي يستطيعها، فإذا قدر أنَّ الأسباب لن تنفع فلا يجزع، ولا يقل: لو، لو. بل يقول: قدر الله، وما شاء فعل، إنا لله وإنا إليه راجعون، مثلًا: ذهب بالمريض إلى الطَّبيب الفلاني، أو المستشفى الفلانية، أو المستوصف الفلاني، فلم يقدر نفع الأسباب، فلا يقل بعد موته: لو أني سافرتُ به إلى الخارج، لو أني ذهبتُ إلى المستشفى الآخر، لو أني ذهبتُ إلى فلانٍ، هذا ما ينفع، قد مضى الأمرُ، والله لو شاء ذلك لوقع، لكن هذه المنية انتهت، والأجل قد تمَّ، فلا ينبغي الاعتراض بقول: لو، لو.

أما إذا كان "لو" لبيان ما ينبغي، مثلما قال ﷺ: لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما أهديتُ، هذا ليس للاعتراض، ولكن لبيان الأفضل، مثل: لو علمتُ أنَّ هذا واقعٌ لفعلتُ كذا وكذا مما يُبين للناس أنه الأفضل، وأنه الأحرى، ولو علمتُ أنَّ فلانًا موجود لزرته، ولو علمتُ أنَّ فلانًا مريض لعُدته، أو ما أشبه ذلك من أسفه على ما فات عليه، ليس على سبيل الاعتراض، لا خلافَ في هذا الباب، وإنما الممنوع هو الاعتراض على القدر، وأما إخباره أنه لو كان كذا لفعل كذا، لو كان فلان موجودًا لقرأتُ عليه، لو كان العالم موجودًا لقرأتُ عليه، لو علمتُ أنَّ فلانًا مريض لزرته، لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما سافرتُ إلى كذا، وما أشبه ذلك، ليس هذا من باب الاعتراض.

وفَّق اللهُ الجميعَ، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.

باب النَّهي عن سبِّ الريح

عن أُبي بن كعبٍ : أنَّ رسول الله ﷺ قال: لا تسبُّوا الريح، فإذا رأيتُم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أُمِرَتْ به، ونعوذ بك من شرِّ هذه الريح، وشرِّ ما فيها، وشرِّ ما أُمِرَتْ به صححه الترمذي.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه.

أما بعد: فهذا الباب فيما يتعلق بسبِّ الريح، لما كان سبُّ الريح وسبُّ غيرها من المخلوقات نقصًا في الإيمان، وضعفًا في التوحيد، نبَّه المؤلفُ على ذلك، وجعله في كتاب "التوحيد"؛ ليعلم المؤمنُ أن سائر المعاصي مما ينقص توحيده، وينقص إيمانه، ويُضعف إيمانه، فالإيمان يزيد وينقص، والتوحيد يكمل وينقص، فالمعاصي تُضعف الإيمان، وتُنقص كمال التوحيد، والطاعة تزيد الإيمان، وتزيد كمال التوحيد، وسبّ الريح من جملة المعاصي؛ لأنها مخلوقٌ مُدَبَّرٌ تُرسَل بالخير والشَّر، فلا يجوز سبُّها، ولا يُقال: لعن اللهُ الريحَ، أو قاتل اللهُ الريحَ، أو لا بارك الله في هذه الريح، أو ما أشبه ذلك، بل يعمل المؤمنُ ما أرشد إليه النبيُّ ﷺ، فإذا رأى منها ما يكره لشدَّتها قال: "اللهم إني أسألك خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أُرسلت به، وأعوذ بك من شرِّها، وشرِّ ما فيها، وشرِّ ما أُرسلت به".

وهكذا جاء في "الصحيحين" عن عائشة: أن النبي ﷺ أرشد بهذا، أمر أن يُقال: اللهم إني أسألك خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أُرسلت به، وأعوذ بك من شرِّها، وشرِّ ما فيها، وشرِّ ما أُرسلت به.

وجاء في المعنى أيضًا الدُّعاء: «اللهم اجعلها رياحًا، ولا تجعلها ريحًا، واجعلها رحمةً، ولا تجعلها عذابًا»، هذا هو المشروع للمؤمن عند هبوب الرياح وشدَّتها: يسأل الله خيرها، ويعوذ بالله من شرِّها، ويسأله أن يجعلها رياحًا، ولا يجعلها ريحًا؛ لأنَّ الله أرسل الريحَ ..... قوم هود، أما الرياح فجعلها الله مُبشرات: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [الروم:46]، وقد تكون رحمةً لقومٍ و..... لهم، وقد تكون عذابًا لآخرين كما جرى لعادٍ.

فالمؤمن يسأل الله خيرها، الذي دبَّرها وأرسلها يسأله من خيرها، ويستعيذ بالله من شرِّها، هذا هو الواجب عند هذا الأمر، وهذا هو من كمال التوحيد وكمال الإيمان: أن يمتثل أمر النبي ﷺ في ذلك، وألا يسبَّ الريح، كما لا يسبّ غير ذلك من المخلوقات التي لم يشرع الله سبَّها.

وفَّق الله الجميع.

.............

س: قطع الصلاة بين المصلي وسترته هل يُبطل الصلاة؟

ج: إذا مرَّ الكلبُ الأسود أو الحمار أو المرأة انقطعت.

..............

باب قول الله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154].

وقوله: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح:6].

قال ابنُ القيم في الآية الأولى: فسّر هذا الظنّ بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأنَّ أمره سيضمحل. وفسّر بأنَّ ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته. ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمرُ رسوله، وأن يُظهره الله على الدِّين كله. وهذا هو ظنّ السّوء الذي ظنَّ المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا الظنّ السّوء لأنه ظنٌّ غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصَّادق.

فمَن ظنَّ أنه يُديل الباطل على الحقِّ إدالةً مُستقرَّةً يضمحل معها الحقّ، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمةٍ بالغةٍ يستحقّ عليها الحمد، بل زعم أنَّ ذلك لمشيئةٍ مجردةٍ، فذلك ظنّ الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النَّار.

وأكثر الناس يظنون بالله ظنَّ السّوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا مَن عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده.

فليعتنِ اللَّبيب النَّاصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله، وليستغفره من ظنِّه بربه ظنّ السّوء، ولو فتشتَ مَن فتشتَ لرأيتَ عنده تعنتًا على القدر وملامةً له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا؛ فمُستقلٌّ ومُستكثرٌ.

وفتش نفسك، هل أنت سالم؟

فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمةٍ وإلا فإني لا إخالك ناجيا

الشيخ: يقول رحمه الله: (باب قول الله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154]، وقوله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا [آل عمران:168]، وقوله سبحانه: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح:6]).

ثم ذكر كلامَ ابن القيم رحمه الله في هذا الباب، والمقصود من هذا الباب بيان أنَّ كثيرًا من الناس لا يُسلم لله حكمته، ولا يُسلم لله قدره السَّابق، ولا يُسلم لله ما أراده سبحانه من تنبيه العباد على أغلاطهم وأخطائهم؛ حتى يستعدوا، وحتى ينتبهوا، بل أساءوا الظنَّ بالله من وجوهٍ كثيرةٍ: منهم مَن يظنّ أنَّ ما يقع من الأشياء التي تُخالف هواه أنه لم يكن عن حكمةٍ، ولا عن قدرٍ سابقٍ. ومنهم مَن يظنّ أنه بمجرد المشيئة، لا عن حكمةٍ فقط. ومنهم مَن يظنّ أنَّ الله جار على عباده وظلمهم حتى فعل كذا وفعل كذا: ظلم فلانًا، وأخَّر فلانًا، وأصحَّ فلانًا، وأمرض فلانًا، لماذا؟

فهذه أمور الناس الكثيرة؛ ولهذا قال في المنافقين: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ [آل عمران:154] في قصة أحد، لما وقعت وقعةُ أحدٍ وجرى على المسلمين ما جرى من الهزيمة والجراح، وقُتل سبعون منهم يوم أحد؛ نجم النِّفاق، تكلم المنافقون بما تكلموا به، وظنُّوا بالله غير الحقِّ، فيقولون: هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟ هل لنا تصرف في هذا الأمر؟ ويقولون: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا يعني: أننا مجبورون، وليس لنا أمرٌ، ولكن قادنا محمدٌ إلى هذا الأمر حتى وقع ما وقع. وهذا كله من جهلهم وضلالهم، وقلَّة بصيرتهم، وعمى قلوبهم؛ فلهذا ظنوا بالله ظنَّ السوء، وظنوا أنَّ ما وقع لم يكن عن حكمةٍ بالغةٍ، وظنوا أنَّ الله لا ينصر رسوله، وأنَّ هذا النبي سيضمحل أمره، وستكون الدَّائرة عليه، وظنوا أنَّ ما وقع لم يكن إلا بمجرد المشيئة.

فصار ظنُّهم هذا يجمع بين سوء الظنِّ بالله من جهة أنه لا ينصر أولياءه، ولا ينصر رسوله. ومن جهة أنه لا يعمل عن حكمةٍ، ولا تقع أفعاله عن حكمةٍ، بل لمجرد المشيئة المجردة.

فهذا كله باطل؛ ولهذا بيَّن الله في كتابه العظيم حكمه وأسراره فيما يفعله، وفيما يقضيه، وفيما يشرعه ، وأنه يبتلي عباده بالسَّراء والضَّراء، والشِّدة والرَّخاء؛ ليبتليهم، وليُمحص ما في قلوب المؤمنين، ويمحق الكافرين، وليتوب المؤمنون إليه ويستغفروه، وليعدّوا أنفسهم إعدادًا عظيمًا للقائه والقيام بحقِّه .

قال جلَّ وعلا في كتابه العظيم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:165- 167].

فله الحكمة البالغة في ابتلاء هؤلاء وهؤلاء، فالمؤمنون ابتُلوا ليتمحض إيمانهم، وتُكفر سيئاتهم، وليعدّوا العُدَّة من جديدٍ للقاء ربهم، والاستقامة على دينه، وليُحاسبوا أنفسهم بترك المعاصي والمخالفات، وليُبادروا بالتوبة إلى الله ، والكفَّار يُمحقوا ويُدمَّروا ويقطع دابرهم، والمنافقون ليُفضحوا ويظهر خزيهم وباطلهم.

فله الحكمة البالغة في كل شيءٍ ، وربك هو الأحكم والأعلم جلَّ وعلا، فمَن ظنَّ أنه سبحانه يُديل الباطلَ على الحقِّ إدالةً مُستقرةً؛ فيضمحل معها الحقّ، فقد أساء بالله الظنَّ، أما كون المسلمين قد يقع عليهم هزيمة، قد يُبتلون بقتل بعضهم، قد يُبتلون بجراحات، هذا واقعٌ؛ ليبتليهم، ليرفع درجاتهم، وليُكفر سيئاتهم، ويضرعوا إليه، وليعدّوا العدّة، ويجتنبوا أسباب الهزيمة؛ ولهذا جرى عليهم ما جرى يوم أحد، لكن ما استقرَّ ذلك، بل نصرهم الله بعد ذلك، وأعزَّهم، وقضى على عدوهم وهزمهم يوم الأحزاب، وهزمهم يوم فتح مكة، وصارت الدَّائرة للمسلمين، والعاقبة للمُتقين.

ولكن أعداء الله من المنافقين قد فسدت قلوبهم فلم يعقلوا الحقَّ، ولم يفهموه، وأساءوا الظنَّ بالله جلَّ وعلا، وبرسوله، وبالمؤمنين، وصارت الدَّائرةُ على أعداء الله، والهزيمة على أعداء الله، والنصر والتوفيق لأولياء الله، كما قال : وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، وقال : وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ۝ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:40- 41]، وهذا الوعد لا يقدح فيه ما قد يقع من هزيمةٍ في بعض الأحيان، ومن قتل بعض المؤمنين؛ ليتَّخذهم شُهداء ، وليُمحص ما في قلوب المؤمنين، فهذا من حكمته سبحانه، ومن فضله على أوليائه أن يُمحصهم ويعدّهم إعدادًا أكمل، ويتَّخذهم شُهداء، ويرفع درجاتهم في الآخرة، إلى غير هذا من حكمته .