الحب المحمود 14

قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَوَّلُ حُبٍّ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ حُبُّ النَّبِيِّ ﷺ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَكَانَ مَسْرُوقٌ يُسَمِّيهَا حَبِيبَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ مَوْلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَرْسَلَنِي عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ أَسْأَلُهَا: أَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُقَبِّلُ أَهْلَهُ وَهُوَ صَائِمٌ؟ فَقَالَتْ: لَا، فَقَالَ: إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا رَأَى عَائِشَةَ لَا يَتَمَالَكُ عَنْهَا.

وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَزُورُ هَاجَرَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّامِ عَلَى الْبُرَاقِ مِنْ شَغَفِهِ بِهَا، وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهَا.

وَذَكَرَ الْخَرَائِطِيُّ: أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اشْتَرَى جَارِيَةً رُومِيَّةً، فَكَانَ يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا، فَوَقَعَتْ ذَاتَ يَوْمٍ عَنْ بَغْلَةٍ لَهُ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهَا وَيُقَبِّلُهَا، وَكَانَتْ تُكْثِرُ مِنْ أَنْ تَقُولَ: يَا بَطْرُون أَنْتَ قَالُون، تَعْنِي: يَا مَوْلَايَ أَنْتَ جَيِّدٌ، ثُمَّ إِنَّهَا هَرَبَتْ مِنْهُ، فَوَجَدَ عَلَيْهَا وَجْدًا شَدِيدًا، وَقَالَ:

قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُنِي قَالُونَ فَانْصَرَفَتْ فَالْيَوْمَ أَعْلَمُ أَنِّي غَيْرُ قَالُونَ

قَالَ أَبُو مُحَمَّد ابْنُ حَزْمٍ: وَقَدْ أَحَبَّ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ كَثِيرٌ، وَقَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، رَأَيْتُ امْرَأَةً فَعَشِقْتُهَا، فَقَالَ: ذَلِكَ مَا لَا تَمْلِكُ.

فَالْجَوَابُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْوَاقِعِ وَالْجَائِزِ، وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالذَّمِّ وَالْإِنْكَارِ، وَلَا بِالْمَدْحِ وَالْقَبُولِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَإِنَّمَا يَبِينُ حُكْمُهُ وَيَنْكَشِفُ أَمْرُهُ بِذِكْرِ مُتَعَلِّقِهِ، وَإِلَّا فَالْعِشْقُ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا يُحْمَدُ وَلَا يُذَمُّ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ النَّافِعَ مِنَ الْحُبِّ وَالضَّارَّ، وَالْجَائِزَ وَالْحَرَامَ:

اعْلَمْ أَنَّ أَنْفَعَ الْمَحَبَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَوْجَبَهَا وَأَعْلَاهَا وَأَجَلَّهَا: مَحَبَّةُ مَنْ جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى مَحَبَّتِهِ، وَفُطِرَتِ الْخَلِيقَةُ عَلَى تَأْلِيهِهِ، وَبِهَا قَامَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ، وَعَلَيْهَا فُطِرَتِ الْمَخْلُوقَاتُ، وَهِيَ سِرُّ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي تَأَلَّهَ الْقُلُوبَ بِالْمَحَبَّةِ وَالْإِجْلَالِ، وَالتَّعْظِيمِ وَالذُّلِّ لَهُ وَالْخُضُوعِ وَالتَّعَبُّدِ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ، وَالْعِبَادَةُ هِيَ: كَمَالُ الْحُبِّ مَعَ كَمَالِ الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ، وَالشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ أَظْلَمِ الظُّلْمِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُحَبُّ لِذَاتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَمَا سِوَاهُ فَإِنَّمَا يُحَبُّ تَبَعًا لِمَحَبَّتِهِ.

وَقَدْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ مَحَبَّتِهِ سُبْحَانَهُ جَمِيعُ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَدَعْوَةُ جَمِيعِ رُسُلِهِ، وَفِطْرَتُهُ الَّتِي فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَيْهَا، وَمَا رَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الْعُقُوقِ، وَمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَفْطُورَةٌ مَجْبُولَةٌ عَلَى مَحَبَّةِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا، فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ الْإِحْسَانُ مِنْهُ؟ وَمَا بِخَلْقِهِ جَمِيعِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النَّحْل:53]، وَمَا تَعَرَّفَ بِهِ إِلَى عِبَادِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَا، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آثَارُ مَصْنُوعَاتِهِ مِنْ كَمَالِهِ وَنِهَايَةِ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ.

وَالْمَحَبَّةُ لَهَا دَاعِيَانِ: الْجَمَالُ، وَالْجَلَالُ، وَالرَّبُّ تَعَالَى لَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، بَلِ الْجَمَالُ كُلُّهُ لَهُ، وَالْإِجْلَالُ كُلُّهُ مِنْهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ لِذَاتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ سِوَاهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عِمْرَان:31].

وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۝ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ۝ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [الْمَائِدَة:54- 56].

فَالْوِلَايَةُ أَصْلُهَا الْحُبُّ، فَلَا مُوَالَاةَ إِلَّا بِحُبٍّ، كَمَا أَنَّ الْعَدَاوَةَ أَصْلُهَا الْبُغْضُ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ، فَهُمْ يُوَالُونَهُ بِمَحَبَّتِهِمْ لَهُ، وَهُوَ يُوَالِيهِمْ بِمَحَبَّتِهِ لَهُمْ، فَاللَّهُ يُوَالِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِحَسَبِ مَحَبَّتِهِ لَهُ.

وَلِهَذَا أَنْكَرَ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، بِخِلَافِ مَنْ وَالَى أَوْلِيَاءَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْهُمْ مِنْ دُونِهِ، بَلْ مُوَالَاتُهُ لَهُمْ مِنْ تَمَامِ مُوَالَاتِهِ.

وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الْمَحَبَّةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ أَنْدَادًا يُحِبُّهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [الْبَقَرَة:165].

وَأَخْبَرَ عَمَّنْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْدَادِ فِي الْحُبِّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي النَّارِ لِمَعْبُودِيهِمْ: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ۝ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشُّعَرَاء:97، 98].

وَبِهَذَا التَّوْحِيدِ فِي الْحُبِّ أَرْسَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَمِيعَ رُسُلِهِ، وَأَنْزَلَ جَمِيعَ كُتُبِهِ، وَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِ دَعْوَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَلِأَجْلِهِ خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَجَعَلَ الْجَنَّةَ لِأَهْلِهِ، وَالنَّارَ لِلْمُشْرِكِينَ بِهِ فِيهِ.

وَقَدْ أَقْسَمَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يَكُونَ هُوَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَكَيْفَ بِمَحَبَّةِ الرَّبِّ ؟

وَقَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : لَا، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ أَيْ: لَا تُؤْمِنُ حَتَّى تَصِلَ مَحَبَّتُكَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ.

وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا فِي الْمَحَبَّةِ وَلَوَازِمِهَا، أَفَلَيْسَ الرَّبُّ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ أَوْلَى بِمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟ وَكُلُّ مَا مِنْهُ إِلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ يَدْعُو إِلَى مَحَبَّتِهِ، مِمَّا يُحِبُّ الْعَبْدُ وَيَكْرَهُ: فَعَطَاؤُهُ وَمَنْعُهُ، وَمُعَافَاتُهُ وَابْتِلَاؤُهُ، وَقَبْضُهُ وَبَسْطُهُ، وَعَدْلُهُ وَفَضْلُهُ، وَإِمَاتَتُهُ وَإِحْيَاؤُهُ، وَلُطْفُهُ وَبِرُّهُ، وَرَحْمَتُهُ وَإِحْسَانُهُ، وَسَتْرُهُ وَعَفْوُهُ، وَحِلْمُهُ وَصَبْرُهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَإِجَابَتُهُ لِدُعَائِهِ، وَكَشْفُ كَرْبِهِ، وَإِغَاثَةُ لَهْفَتِهِ، وَتَفْرِيجُ كُرْبَتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهِ، بَلْ مَعَ غِنَاهُ التَّامِّ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، كُلُّ ذَلِكَ دَاعٍ لِلْقُلُوبِ إِلَى تَأْلِيهِهِ وَمَحَبَّتِهِ، بَلْ تَمْكِينُهُ عَبْدَهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَإِعَانَتُهُ عَلَيْهَا، وَسَتْرُهُ حَتَّى يَقْضِيَ وَطَرَهُ مِنْهَا، وَكَلَاءَتُهُ وَحِرَاسَتُهُ لَهُ، وَيَقْضِي وَطَرَهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، يُعِينُهُ وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهَا بِنِعَمِهِ -مِنْ أَقْوَى الدَّوَاعِي إِلَى مَحَبَّتِهِ، فَلَوْ أَنَّ مَخْلُوقًا فَعَلَ بِمَخْلُوقٍ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَمْلِكْ قَلْبَهُ عَنْ مَحَبَّتِهِ، فَكَيْفَ لَا يُحِبُّ الْعَبْدُ بِكُلِّ قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ بِعَدَدِ الْأَنْفَاسِ مَعَ إِسَاءَتِهِ؟ فَخَيْرُهُ إِلَيْهِ نَازِلٌ، وَشَرُّهُ إِلَيْهِ صَاعِدٌ، يَتَحَبَّبُ إِلَيْهِ بِنِعَمِهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ، وَالْعَبْدُ يَتَبَغَّضُ إِلَيْهِ بِالْمَعَاصِي وَهُوَ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، فَلَا إِحْسَانُهُ وَبِرُّهُ وَإِنْعَامُهُ إِلَيْهِ يَصُدُّهُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَلَا مَعْصِيَةُ الْعَبْدِ وَلُؤْمُهُ يَقْطَعُ إِحْسَانَ رَبِّهِ عَنْهُ.

فَأَلْأَمُ اللُّؤْمِ تَخَلُّفُ الْقُلُوبِ عَنْ مَحَبَّةِ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ، وَتَعَلُّقُهَا بِمَحَبَّةِ سِوَاهُ.

وَأَيْضًا فَكُلُّ مَنْ تُحِبُّهُ مِنَ الْخَلْقِ أَوْ يُحِبُّكَ إِنَّمَا يُرِيدُكَ لِنَفْسِهِ وَغَرَضِهِ مِنْكَ، وَاللَّهُ يُرِيدُكَ لَكَ، كَمَا فِي الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ: «عَبْدِي، كُلٌّ يُرِيدُكَ لِنَفْسِهِ، وَأَنَا أُرِيدُكَ لي»، فَكَيْفَ لَا يَسْتَحِي الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ رَبُّهُ لَهُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهُ، مَشْغُولٌ بِحُبِّ غَيْرِهِ، قَدِ اسْتَغْرَقَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ سِوَاهُ؟

الشيخ: المعروف في الأثر: «وأنا أريدك لنفسك»، مصلحة نفسه هو العبد، لكن لها معنًى آخر يمكن، العباد محبَّتهم لأنفسهم، يُحبون مَن أحبُّوا لأنفسهم: إما زوجة، وإما ولد نفعه، وإما إنسان نفعه، أما الله جلَّ وعلا يُحب عباده لأنفسهم، إذا أحبُّوه أحبَّهم لأنفسهم، فأحسن إليهم، وهو غني عنهم جلَّ وعلا.

وَأَيْضًا فَكُلُّ مَنْ تُعَامِلُهُ مِنَ الْخَلْقِ إِنْ لَمْ يَرْبَحْ عَلَيْكَ لَمْ يُعَامِلْكَ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبْحِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى إِنَّمَا يُعَامِلُكَ لِتَرْبَحَ أَنْتَ عَلَيْهِ أَعْظَمَ الرِّبْحِ وَأَعْلَاهُ، فَالدِّرْهَمُ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِوَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَسْرَعُ شَيْءٍ مَحْوًا.

وَأَيْضًا هُوَ سُبْحَانَهُ خَلَقَكَ لِنَفْسِهِ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَمَنْ أَوْلَى مِنْهُ بِاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي مَحَبَّتِهِ، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي مَرْضَاتِهِ؟

وَأَيْضًا فَمَطَالِبُكَ -بَلْ مَطَالِبُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ جَمِيعًا- لَدَيْهِ، وَهُوَ أَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ، وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، أَعْطَى عَبْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ فَوْقَ مَا يُؤَمِّلُهُ، يَشْكُرُ الْقَلِيلَ مِنَ الْعَمَلِ وَيُنَمِّيهِ، وَيَغْفِرُ الْكَثِيرَ مِنَ الزَّلَلِ وَيَمْحُوهُ: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29]، لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، وَلَا تُغَلِّطُهُ كَثْرَةُ الْمَسَائِلِ، وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ، بَلْ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ، وَيُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَيَغْضَبُ إِذَا لَمْ يُسْأَلْ، يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ حَيْثُ لَا يَسْتَحِي الْعَبْدُ مِنْهُ، وَيَسْتُرُهُ حَيْثُ لَا يَسْتُرُ نَفْسَهُ، وَيَرْحَمُهُ حَيْثُ لَا يَرْحَمُ نَفْسَهُ، دَعَاهُ بِنِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ وَأَيَادِيهِ إِلَى كَرَامَتِهِ وَرِضْوَانِهِ، فَأَبَى، فَأَرْسَلَ رُسُلَهُ فِي طَلَبِهِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ مَعَهُمْ عَهْدَهُ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ نَفْسُهُ، وَقَالَ: مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ كَمَا قِيلَ: "أَدْعُوكَ وَلِلْوَصْلِ تَأْبَى، أَبْعَثُ رَسُولِي فِي الطَّلَبِ، أَنْزِلُ إِلَيْكَ بِنَفْسِي، أَلْقَاكَ فِي النَّوْمِ".

وَكَيْفَ لَا تُحِبُّ الْقُلُوبُ مَنْ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَذْهَبُ بِالسَّيِّئَاتِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَيُقِيلُ الْعَثَرَاتِ، وَيَغْفِرُ الْخَطِيئَاتِ، وَيَسْتُرُ الْعَوْرَاتِ، وَيَكْشِفُ الْكُرُبَاتِ، وَيُغِيثُ اللَّهَفَاتِ، وَيُنِيلُ الطَّلَبَاتِ سِوَاهُ؟

فَهُوَ أَحَقُّ مَنْ ذُكِرَ، وَأَحَقُّ مَنْ شُكِرَ، وَأَحَقُّ مَنْ عُبِدَ، وَأَحَقُّ مَنْ حُمِدَ، وَأَنْصَرُ مَنِ ابْتُغِيَ، وَأَرْأَفُ مَنْ مَلَكَ، وَأَجْوَدُ مَنْ سُئِلَ، وَأَوْسَعُ مَنْ أَعْطَى، وَأَرْحَمُ مَنِ اسْتُرْحِمَ، وَأَكْرَمُ مَنْ قُصِدَ، وَأَعَزُّ مَنِ الْتُجِئَ إِلَيْهِ، وَأَكْفَى مَنْ تُوُكِّلَ عَلَيْهِ، أَرْحَمُ بِعَبْدِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، وَأَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ التَّائِبِ مِنَ الْفَاقِدِ لِرَاحِلَتِهِ الَّتِي عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فِي الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةِ إِذَا يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ ثُمَّ وَجَدَهَا.

وَهُوَ الْمَلِكُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْفَرْدُ فَلَا نِدَّ لَهُ، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، لَنْ يُطَاعَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَنْ يُعْصَى إِلَّا بِعِلْمِهِ، يُطَاعُ فَيَشْكُرُ، وَبِتَوْفِيقِهِ وَنِعْمَتِهِ أُطِيعَ، وَيُعْصَى فَيَغْفِرُ وَيَعْفُو، وَحَقُّهُ أُضِيعَ، فَهُوَ أَقْرَبُ شَهِيدٍ، وَأَجَلُّ حَفِيظٍ، وَأَوْفَى بِالْعَهْدِ، وَأَعْدَلُ قَائِمٍ بِالْقِسْطِ، حَالَ دُونَ النُّفُوسِ، وَأَخَذَ بِالنَّوَاصِي وَكَتَبَ الْآثَارَ، وَنَسَخَ الْآجَالَ، فَالْقُلُوبُ لَهُ مُفْضِيَةٌ، وَالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ، وَالْغَيْبُ لَدَيْهِ مَكْشُوفٌ، وَكُلُّ أَحَدٍ إِلَيْهِ مَلْهُوفٌ، وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِنُورِ وَجْهِهِ، وَعَجَزَتِ الْقُلُوبُ عَنْ إِدْرَاكِ كُنْهِهِ، وَدَلَّتِ الْفِطَرُ وَالْأَدِلَّةُ كُلُّهَا عَلَى امْتِنَاعِ مِثْلِهِ وَشِبْهِهِ، أَشْرَقَتْ لِنُورِ وَجْهِهِ الظُّلُمَاتُ، وَاسْتَنَارَتْ لَهُ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ، وَصَلُحَتْ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ، لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، وَلَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ:

مَا اعْتَاضَ بَاذِلُ حُبِّهِ لِسِوَاهُ مِنْ عِوَضٍ وَلَوْ مَلَكَ الْوُجُودَ بِأَسْرِهِ

الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فالمؤلف في هذا رحمه الله العلامة ابن القيم -المتوفى سنة 751 رحمه الله- يُبين في هذا البحث في "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" يُبين أن العشق والحبَّ فيه تفصيل، فلا يُذم كله، ولا يُحمد كله، بل فيه تفصيل وينقسم إلى محمودٍ ومذمومٍ، وطيبٍ وخبيثٍ، فأعظم الحبِّ وأكمله وأوجبه حبّ الله جلَّ وعلا؛ لأنه المنعم المحسن الذي أنعم عليك وأحسن إليك وإلى آبائك وأسلافك، وهداك للإسلام، وأرسل إليك الرسل، وأنزل الكتب، وأسدى لك النعم، وهو غني عنك ، فأعظم الحب حبه، فيجب الحب له وحده، وأن يكون له كمال الحبِّ وكمال الذل؛ لأنه المنعم الحقيقي، ولأنه الملك الكريم، ولأنه المحسن العظيم الذي أحسن إليك وإلى آبائك، ووفقك للخير، وهداك للإسلام، وأعدَّ لك الجنة، فالواجب حبه أكمل حبٍّ، فلا أحد يستحق الحبَّ على الكمال سواه سبحانه، ومَن سواه إنما يُحَبُّ إذا كان تبعًا لمحبَّته: كمحبَّة الرسل، فإنهم يُحبّون لأنهم رسل الله، ومحبَّة المؤمنين، يُحبون لأنهم من أحباب الله ومن أوليائه، ومحبَّة الوالدين والأقارب؛ لأنَّ الله أمر بذلك إذا كانوا على الإسلام والهدى.

فلا يُحَبُّ أحد المحبَّة الصادقة إلا لحبه، ومَن أحبَّ غيره من أجل حظٍّ عاجلٍ عُذِّبَ به، فالحب الصادق والحب الكامل والحب الأساسي لله وحده سبحانه، وهو الذي يجب أن يُحب صدقًا من القلوب، محبةً تُوجب طاعة أوامره، محبة تُوجب ترك نواهيه، محبة تُوجب الإخلاص له بالأعمال، محبة تُوجب الوقوف عند حدوده؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].

فمَن كان يُحب الله صادقًا فليُحقق ذلك، وليُقم البينةَ على ذلك باتباعه شرع الله، هذا إن كان صادقًا، والدليل على صدق المحبَّة لله أن تكون تابعًا لشرع الله، مؤمنًا بالله، مستقيمًا على دين الله، وقال جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ يعني: بدلًا منه إذا كفر، بدلهم مؤمنون: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ [المائدة:54]، ويقول جلَّ وعلا ذامًّا لمن أحبَّ غيره مع محبَّته: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165].

فالواجب على جميع المكلَّفين أن يُحبوا الله المحبة الصادقة، الجميع من الجنِّ والإنس، من الرجال والنساء، من العرب والعجم، من الملوك والعامَّة، الواجب على الجميع أن يُحبوا الله المحبة الصادقة التي تقتضي إخلاص العمل له، وعبادته وحده، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، مقدمًا ذلك على كل أحدٍ، وإذا كان الرسولُ يقول لعمر لما قال عمر للرسول: يا رسول الله، أنت أحب إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي، قال النبي لعمر: لا يا عمر حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك، فإذا كان هذا في حقِّ النبي فكيف بحقِّ الله؟!

يقول ﷺ: لا يُؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين يعني: النبي ﷺ، فإذا كان هكذا فالله أولى وأحق، قال النبي ﷺ: ثلاث مَن كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحب المرء لا يُحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار.

فربك الذي أحسن إليك وإلى آبائك في بطن أمك وبعد ولادتك وإلى أن كبرت واستقللت بالعمل وكنت تعمل وتأخذ وتُعطي هو الذي أنعم عليك: أعطاك السمع والبصر والعقل والقوة، ويسر لك أسباب الرزق، فهو المستحق لأن تعبده، وتُطيع أوامره، وتنتهي عن نواهيه، ويكون له الحب كله، وله الخضوع كله، وله الطاعة كلها، وله جلَّ وعلا الخوف الكامل، قال تعالى: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين [آل عمران:175]، وقال جلَّ وعلا في كتابه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] يعني: الرسل وأتباعهم، وقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57]، ويقول تعالى: فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [البقرة:150].

فالواجب أن يُخشى سبحانه، وأن يُرجى، فالمؤمن يجمع بين المحبة والخوف، لا بد من هذا: يُحب الله ويُطيع أمره، ويخاف الله وينتهي عن نهيه، هذا الواجب على جميع العباد، يقول ابنُ القيم في "النونية" رحمه الله:

وعبادة الرحمن غاية حبِّه مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العباد دائر ما دار حتى قامت القطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان

فالواجب على كل أحدٍ أن تكون محبةُ الله غاية حبه، أن يُحب الله غاية الحب، وأن يخافه غاية الخوف، وأن يعمل بمقتضى ذلك، يعمل بمقتضى هذا الحب والخوف، فيُؤدي ما أوجب الله محبةً لله، وطاعةً له، وخوفًا منه، ويحذر معاصي الله والشرك به محبةً له، وتعظيمًا له، وحذرًا من عقابه.

ثم المحبَّة بعد ذلك للرسل وأتباعهم من أهل الإيمان تبعًا لمحبَّة الله.

كذلك ما يُحبه طبعًا: محبة ما يقوته من الطعام والشراب، محبة النساء، هذه محبة طبيعية لا بأس بها، إذا لم تشغله عن طاعة الله، ولم تُوقعه في معصية الله.

ولما سأل عمرو بن العاص النبيَّ ﷺ قال: أي الناس أحبُّ إليك؟ قال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: أبوها يعني: أبا بكر الصديق، فهو أحب الناس إلى النبي ﷺ؛ لأنه آزره وعاونه واتبعه في الشدة والرخاء .

فالمقصود أنَّ الواجب الحب في الله، والبُغض في الله تبعًا لحبِّ الله، فأنت تُحب أحبابَ الله، وتبغض أعداء الله تبعًا لمحبَّة الله والإيمان به وإيثار حقِّه؛ فلهذا تُحبه أعظم الحبِّ، وتُعادي أعداءه وتبغضهم أعظم بغضاء؛ لأنهم أعداء الله، وتُحب أولياء الله من المؤمنين والرسل وأتباعهم، تُحبهم في الله، وتبغض أعداء الله؛ لأنهم أعداؤه، تبغضهم وتكرههم في الله، ثم بعد هذا إذا أحببت أشياء أخرى تُناسبك من زوجةٍ أو ولدٍ أو أخٍ أو قريبٍ أو صديقٍ فهذه محبَّة خاصة لا تقدح في محبَّة الله، إذا أحببتَه محبةً لا تُوقع في معاصي الله، ولا تعوقه عمَّا أوجب الله، محبة عادية: إما في الله؛ لأنه مطيع لله، وإما لكونه أحسن إليك، أو أعانك على شيء، أو ما أشبه ذلك، أو لأنه يُوافق طبعك، كما تُحب الماء البارد في الصيف، وتحب الطعام المناسب، ونحو ذلك، واللباس المناسب، هذه محبة طبيعية لا تُؤثر في حبِّ العبادة، لا تُؤثر في حبِّ الله وحبِّ رسوله؛ لأنَّ هذه المحابّ طبيعية، محبة ما يُناسبك من الأكل والشرب واللباس والمسكن والمركب هذه محبَّة طبيعية، لكن الذي يجب أن يُلاحظ أن يحب في الله، ويبغض في الله، مَن والى في الله، ومَن عادى في الله، فيُحب أولياء الله لأنهم أحباب الله، ويبغض أعداء الله لأنهم أعداء الله، ويُحب ما أحبَّه الله؛ لأنَّ الله أحبَّه، ويكره ما كرهه الله؛ لأنَّ الله كرهه، هكذا المؤمن.

وفَّق الله الجميع.