19 من قوله: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..)

قَوْلُهُ تَعَالَى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: خَالِقُهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: وَهُوَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ للشيء المحدث بدعة، كما جاء في صحيح مسلم: فإن كل محدثة بدعة، وَالْبِدْعَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَارَةً تَكُونُ بِدْعَةً شَرْعِيَّةً، كَقَوْلِهِ: فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَتَارَةً تَكُونُ بِدْعَةً لُغَوِيَّةً، كَقَوْلِ أَمِيرِ المؤمنين عمر بن الخطاب عَنْ جَمْعِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَاسْتِمْرَارِهِمْ: نعمت البدعة هذه.
وقال ابن جرير: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُبْدِعُهُمَا، وَإِنَّمَا هُوَ مُفْعِلٌ فَصُرِفَ إِلَى فَعِيلٍ، كَمَا صُرِفَ الْمُؤْلِمُ إِلَى الْأَلِيمِ، وَالْمُسْمِعُ إِلَى السَّمِيعِ، وَمَعْنَى الْمُبْدِعِ الْمُنْشِئُ وَالْمُحْدِثُ، مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَى إِنْشَاءِ مِثْلِهِ وَإِحْدَاثِهِ أَحَدٌ، قَالَ: وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْمُبْتَدِعُ فِي الدِّينِ مُبْتَدِعًا لِإِحْدَاثِهِ فِيهِ مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ غيره، وكذلك كل محدث قولا أو فعلا، لم يتقدم فِيهِ مُتَقَدِّمٌ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّيهِ مُبْتَدِعًا، وَمِنْ ذلك قول أعشى بني ثَعْلَبَةَ فِي مَدْحِ هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ:
يدعا إِلَى قَوْلِ سَادَاتِ الرِّجَالِ إِذَا ... أَبْدَوْا لَهُ الحزم أو ما شاءه ابتدعا
 أَيْ يُحْدِثُ مَا شَاءَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فمعنى الكلام سبحان الله أن يكون له ولد، وهو مالك ما في السموات وَالْأَرْضِ تَشْهَدُ لَهُ جَمِيعُهَا بِدَلَالَتِهَا عَلَيْهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَتُقِرُّ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَهُوَ بَارِئُهَا وَخَالِقُهَا وَمُوجِدُهَا، مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ وَلَا مِثَالٍ احْتَذَاهَا عَلَيْهِ، وهذا إعلام من الله لعباده، أن مما يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ الْمَسِيحُ، الذِي أَضَافُوا إِلَى اللَّهِ بُنُوَّتَهُ، وَإِخْبَارٌ مِنْهُ لَهُمْ، أَنَّ الذِي ابتدع السموات وَالْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، وَعَلَى غَيْرِ مِثَالٍ، هُوَ الذِي ابْتَدَعَ الْمَسِيحَ عِيسَى، مِنْ غَيْرِ وَالدٍ بِقُدْرَتِهِ، وَهَذَا مِنَ ابْنِ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَلَامٌ جَيِّدٌ وَعِبَارَةٌ صَحِيحَةٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يُبَيِّنُ بِذَلِكَ تَعَالَى كَمَالُ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمَ سُلْطَانِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا قَدَّرَ أَمْرًا وَأَرَادَ كَوْنَهُ، فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ، أَيْ: مَرَّةً وَاحِدَةً فَيَكُونُ، أَيْ: فَيُوجَدُ، عَلَى وَفْقِ مَا أَرَادَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ:40]، وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [الْقَمَرِ:50] وقال الشاعر:
إِذَا مَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا فَإِنَّمَا ... يَقُولُ له كن قولة فيكون
ونبه بِذَلِكَ أَيْضًا، عَلَى أَنَّ خَلْقَ عِيسَى بِكَلِمَةِ كُنْ فَكَانَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59].
الشيخ: وهذا مثل ما قال المؤلف رحمه الله دليل ظاهر وحجة قاهرة في الرد على النصارى قاتلهم الله ولعنهم فيما زعموه فيما يتعلق بعيسى وبأنه ولد الله وهكذا رد على اليهود في قولهم عزير ابن الله، وهكذا رد على المشركين الذين قالوا إن الملائكة بنات الله كل هذا من أبطل الباطل ؛ لأنه منزه عن هذا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۝ اللَّهُ الصَّمَدُ ۝ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ۝ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ[الإخلاص:1-4] بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ [الأنعام:101] .
والمقصود أنه جل وعلا يخلق الأشياء بقدرته العظيمة وعيسى من جملة ذلك قال له كن فكان، من أنثى بلا ذكر وهو على كل شيء قدير، فخلقه من مريم الصديقة بالنفخة التي أمر الله بها جبرائيل وانتهى الأمر.
وهكذا آدم قال الله كن فكان، بلا أب ولا أم بل من التراب (.......) وهكذا حواء قال لها كوني فكانت من نفس آدم، وآدم من ذكر كل ذلك من دلائل قدرته العظيمة، فإنه لا يغلبه شيء ولا يمنعه شيء وهو القادر على كل شيء فإذا قال للشيء كن كان (.......) وما ذاك إلا لكمال قدرته وكمال علمه وكمال حكمته فوجب على جميع المكلفين أن يؤمنوا بذلك وأن يعتقدوا ببطلان ما قالته النصارى في عيسى، وما قالته اليهود في عزير، وما قاله غيرهم في نسب الولد إلى الله وهو بمعنى (.......) الإيمان بأنه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وأنه المستحق لأن يعبدويطاع أمره وينتهى عن نهيه وبذلك يستحق المكلف ثوابه وجزيل عطائه والفوز بكرامته.
س: كيف قول عمر: نعمت البدعة هذه؟
الجواب: بمعنى أنها لم تكن على مثال سابق مستمر وإن كان فعله النبي ﷺ عدة ليال لكنه لم يستمر عليها، وعمر استمر هذا أحسن ما قيل فيها، لا يقصد البدعة الشرعية؛ لأنها ليست بدعة بل فعلها ﷺ وحث عليها ورغب فيها، وجاء أنها بدعة من حيث اللغة (.......) وهكذا يقال للشيء الجديد بديع حتى الآن عند العرب، وعند الحضر القرية البديعة غير القرية القديمة، البديعة التي تظهر إنشاؤها، والقديمة العادية هي التي سبق إنشاؤها وجددت فالشيء المبتدع مخترع جديد ليس له مثال سابق في أمور الدنيا والدين. فالبدعة اللغوية من جنس أمور الدنيا وما ابتدعوا فيها من طائرات ومن مركبات فضائية ومن قاطرات وغير هذا مما أحدثه الناس فهي بدعة دنيوية بدعة من جنس ما يبتدعه الناس في صناعتهم وأعمالهم الدنيوية. وهذه لا تضر ولو سميت بدعة لا تضر، إنما البدعة بدعة الدين وهي إحداث شيء يتعبد به الناس ويتقربون به إلى الله جل وعلا ليس لهم أصل في الشرع هذا هو المنكر (.......) والذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة على نهي النبي عنه وإنكاره.
وذهب بعض أهل العلم إلى تقسيم البدعة إلى أقسام خمسة: واجبة، ومستحبة، ومحرمة، ومكروهة، ومباحة، لكن الصواب أن هذا التقسيم ليس بشيء، وأنها من جهة الدين قسم واحد وهو ما قال النبي ﷺ: كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة هذه قاعدة كلية جامعة لا يخرج عنها شيء.
وما سموه بدعة حسنة لأنه جاء به الشرع فليس من البدعة كبناء المدارس وطباعة المصحف، هذا من أمر الله مأمور به (.......) وليس من البدع في الدين لأن الرسول ﷺ أمر بذلك.وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلة لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: يَا مُحَمَّدُ إِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ، فَقُلْ لله فيكلمنا حَتَّى نَسْمَعَ كَلَامَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ.
الشيخ: .............
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ قَالَ: النَّصَارَى تَقُولُهُ.
وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، قَالَ: لِأَنَّ السِّيَاقَ فِيهِمْ. وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ: لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي: يخاطبنا بنبوتك يا محمد.
(قلت): وهو ظاهر السياق، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: هذا قول كفار العرب.
كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، قَالُوا: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ، وَأَنَّ الْقَائِلِينَ ذَلِكَ هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِالآية [الْأَنْعَامِ:124]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء:90] إلى قوله: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ:93]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان:21]، وقوله تعالى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [الْمُدَّثِّرِ:52] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى كُفْرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَعُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ مَا لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِهِ، إِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ وَالْمُعَانَدَةُ، كَمَا قَالَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وغيرهم، كما قال تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النِّسَاءِ:153]، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55].
وقوله تعالى: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أَيْ أَشْبَهَتْ قُلُوبُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ قُلُوبَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَالْعُتُوِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ [الذاريات:52]، وقوله تعالى: قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، أَيْ قَدْ أوضحنا الدَّلَالَاتِ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ، بِمَا لَا يَحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى سُؤَالٍ آخَرَ وَزِيَادَةٍ أُخْرَى لِمَنْ أَيْقَنَ وَصَدَّقَ وَاتَّبَعَ الرُّسُلَ، وَفَهِمَ مَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَأَمَّا مَنْ ختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة، فأولئك قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس:96] .
الشيخ: وفي هذا المعنى وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يونس:101]إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حدثنا أبي أخبرنا عبدالرحمن بن صالح أخبرنا عبدالرحمن بن محمد بن عبداللَّهِ الْفَزَارِيُّ، عَنْ شَيْبَانَ النَّحْوِيِّ، أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قال: أنزلت علي إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً، قَالَ: بَشِيرًا بالجنة ونذيرا من النار.
الشيخ: وهكذا الرسل كلهم أرسلوا مبشرين ومنذرين أرسلهم الله يبشرون من أطاعهم واتبعهم بالجنة والسعادة وحسن العاقبة، وينذرون من خالفهم وتوقف عن قبول ما جاءوا به أو نفر عنهم وصد عنهم بالعذاب الأليم والعواقب الوخيمة نسأل الله العافية.
وهكذا أتباع الرسل من العلماء والدعاة هم هكذا يبشرون وينذرون يبشرون من اتبع الرسل بالجنة والنصر والعاقبة الحميدة وينذرون من خالف الرسل بالعواقب الوخيمة والعذاب الأليم يوم القيامة.
وقوله: وَلا تُسْألُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ قِرَاءَةُ أَكْثَرِهِمْ وَلَا تُسْأَلُ بِضَمِّ التَّاءِ، عَلَى الْخَبَرِ وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمَا تُسْأَلُ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مسعود ولن تسأل عن أصحاب الجحيم، نقلها ابْنُ جَرِيرٍ، أَيْ: لَا نَسْأَلُكَ عَنْ كُفْرِ من كفر بك كَقَوْلِهِ: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرَّعْدِ:40]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:21] الآية، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ[ق:45] وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.الشيخ: وهذا من رحمة الله أن الرسل وأتباعهم ليس عليهم خطر من ظلم من كفر أو ضلال من ضل فليس عليهم من ذلك معتبة لأنهم بلغوا إنما عليهم البلاغ، فهم غير مسؤولين عمن كفر وعمن دخل النار لأنهم بلغوهم فالمسؤولية عليهم والإثم عليهم، أما الرسل وأتباعهم فعليهم البلاغ والبيان ولهذا قال: وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة:119] فالمعنى نحن الذين نتولى عذابهم وجزاءهم.
وَقَرَأَ آخَرُونَ: وَلَا تَسْأَلْ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى النَّهْيِ، أَيْ: لَا تَسْأَلْ عَنْ حَالِهِمْ، كَمَا قَالَ عبدالرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ لَيْتَ شِعْرِي ما فعل أبواي؟ فنزلت: وَلا تسأل عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ فَمَا ذَكَرَهُمَا حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ .الشيخ: هذا ضعيف؛ لأن موسى بن عبيدة هذا ليس بشيء، فقد سأل ربه الاستغفار لأمه فلم يأذن له وسأل ربه أن يزورها فأذن له.
وفي القراءة المتقدمة "ولا تُسأل" يعني لست مسؤولاً عنهم إنما عليك بلاغهم وليس عليكم هداهم ولكن الله يهدي من يشاء.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ بِمِثْلِهِ، وَقَدْ حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا كَمَا يُقَالُ لَا تسأل عَنْ فُلَانٍ، أَيْ: قَدْ بَلَغَ فَوْقَ مَا تَحْسَبُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّذْكِرَةِ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا لَهُ أَبَوَيْهِ حتى آمنا به، وَأَجَبْنَا عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ.
(قُلْتُ): وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي حَيَاةِ أَبَوَيْهِ ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَلَا غَيْرِهَا، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الشيخ: بل هو موضوع لا أساس له من الصحة. فلم يسلما وليس هناك إسلام بعد الموت، والله المستعان.
ومثل ما قال جل وعلا: حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ  [النساء:18] ماتوا على دين الجاهلية ومن هذا في صحيح مسلم: إني أبي وأباك في النار وفي صحيح مسلم أيضاً في قصة استغفاره لأمه فنهي عن ذلك.
ثم قال ابن جرير: وحدثني القاسم أخبرنا الْحُسَيْنُ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ به أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: أَيْنَ أَبَوَايَ؟ فَنَزَلَتْ: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تسْأل عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ، وَهَذَا مُرْسَلٌ كَالذِي قَبْلَهُ.
الشيخ: هو مرسل وضعيف أيضاً؛ لأن الحجاج هو ابن أرطأة وهو ضعيف ومدلس.
 وَقَدْ رَدَّ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ الْمَرْوِيَّ، عن محمد بن كعب وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ، لِاسْتِحَالَةِ الشَّكِّ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ فِي أَمْرِ أَبَوَيْهِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى، وَهَذَا الذِي سَلَكَهُ هَاهُنَا فِيهِ نَظَرٌ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي حَالِ اسْتِغْفَارِهِ لِأَبَوَيْهِ، قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَمْرَهُمَا، فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ تَبَرَّأَ مِنْهُمَا، وَأَخْبَرَ عَنْهُمَا أنهما من أهل النار، كما ثبت هذا فِي الصَّحِيحِ، وَلِهَذَا أَشْبَاهٌ كَثِيرَةٌ وَنَظَائِرُ وَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقال الإمام أحمد: أخبرنا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: لَقِيتُ عبداللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي التَّوْرَاةِ فَقَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِصِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، وَأَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَا فَظٌّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَفْتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ، فَرَوَاهُ فِي الْبُيُوعِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ فُلَيْحٍ بِهِ، وَقَالَ تَابَعَهُ عبدالْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ هِلَالٍ، وقال سعيد بن هِلَالٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عبداللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَرَوَاهُ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ عبداللَّهِ عَنْ عبدالْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ هِلَالٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، بِهِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، فَعبداللَّهِ هَذَا هُوَ ابْنُ صَالِحٍ، كَمَا صَرَّحَ به في كتاب الأدب، وزعم أبو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ أَنَّهُ عبداللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْبَقَرَةِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْبَرَاءِ، عَنِ الْمُعَافَى بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ فُلَيْحٍ بِهِ وَزَادَ: قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ لَقِيتُ كَعْبَ الْأَحْبَارِ فَسَأَلْتُهُ، فَمَا اخْتَلَفَا فِي حَرْفٍ إِلَّا أَنَّ كَعْبًا قَالَ: بِلُغَتِهِ أعينا عمومى، وآذانا صمومى، وقلوبا غلوفا.
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ۝ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ وَلَيْسَتِ الْيَهُودُ يَا مُحَمَّدُ وَلَا النَّصَارَى بِرَاضِيَةٍ عَنْكَ أَبَدًا، فَدَعْ طَلَبَ مَا يُرْضِيهِمْ وَيُوَافِقُهُمْ، وَأَقْبِلْ عَلَى طَلَبِ رِضَا اللَّهِ فِي دُعَائِهِمْ إِلَى مَا بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ.
الشيخ: المعنى أن الطمع في رضا اليهود والنصارى وأشباههم من الكفر عن المسلمين أمر مستحيل؛ لأن الدين مختلف فهم على دين، والمسلمون على دين، ولهذا رضاهم عن المسلمين أمر غير ممكن إلا إذا دخلوا في دين الله وعرفوا الحق وآثروه ولهذا قال سبحانه: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] وإن جاملوا في بعض الأشياء أو داهنوا في بعض الأشياء وما أشبه ذلك فليس ذلك عن رضا، وإنما لقصد لغرض فينبغي لولاة الأمور وللمسلمين عمومًا وللدعاة إلى الله خصوصًا ألا يطمعوا في هذا وأنهم يظهروا ما بعث الله به رسوله من الحق ويدعو الناس إليه من اليهود والنصارى وغيرهم وأن يصبروا على الأذى في ذلك وليعلموا يقينًا أن رضاهم لا يحصل مهما كانت الأحوال وإن جاملوا وإن أعطوا ما يعطون من التأليف فإنهم لن يرضوا عن المسلمين حتى يدع المسلمون دينهم وحتى يوافقهم على دينهم الباطل، فالحزم كل الحزم والواجب المتعين هو الاستمرار في طاعة الله والسير على منهج الله الذي بعث الله به نبيه ﷺ في كل شيء، ومن جملة ذلك دعوتهم إلى الله وإرشادهم إلى الحق فإن أجابوا فالحمد لله، وإن لم يجيبوا فالجزية عليهم أن يبذلوها اليهود والنصارى والمجوس عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا الدخول في الإسلام وأبوا دفع الجزية تعين قتالهم مع القدرة، وإن لم يتيسر القتال ورأى ولي الأمر المصالحة على مال أو على غير مال فلا بأس للمصلحة الإسلامية كما صالح النبي ﷺ قريشًا وهم أهل وثن ليسوا أهل كتاب بل عباد أوثان صالحهم على وضع الحرب عشر سنين عملاً بقوله تعالى سبحانه: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنفال:61] فصالحهم في ذي القعدة من عام ست من الهجرة صالحهم على وضع الحرب من دون مال بذلوه وعلى غضاضة من المسلمين على نوع من الغضاضة للمصلحة العامة فإنهم شرطوا أن من جاءهم مسلمًا إلى النبي ﷺ يردونه إلى الكفار، ومن جاء مرتدًا من المسلمين لا يرده الكفار. وارتضى النبي هذا الشرط للمصلحة العامة وراجعه فيه عمر وبين الرسول ﷺ وجه ذلك، فأما من ذهب إليهم فأبعده الله، وأما من جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجًا، والمقصود أن المصالحة والهدنة مع الكفار للمصلحة الإسلامية لا بأس بها، وأما الجزية فلا تكون إلا مع اليهود والنصارى والمجوس على أرجح أقوال أهل العلم لأنها هي التي جاء بها النص.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذِي بَعَثَنِي بِهِ هُوَ الْهُدَى، يَعْنِي هُوَ الدِّينُ الْمُسْتَقِيمُ الصَّحِيحُ الْكَامِلُ الشَّامِلُ، قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى قَالَ: خُصُومَةٌ عَلِمَهَا اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ وَأَصْحَابَهُ يُخَاصِمُونَ بِهَا أَهْلَ الضَّلَالَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: وَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: لَا تزال طائفة من أمتي يقاتلون عَلَى الْحَقِّ، ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ.
(قُلْتُ): هَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
الشيخ: وروي في هذا المعنى عدة أحاديث عن عبدالله بن عمرو وعن معاوية وعن غيرهم فلا تزال طائفة من أمة محمد ﷺ على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وفي لفظ: حتى تقوم الساعة. والمعنى حتى توجد أشراطها العظام ولهذا في اللفظ الآخر: حتى يأتي أمر الله وأمر الله هنا جاء مفسرًا في الحديث الآخر الذي رواه مسلم في الصحيح وغيره أنه ريح طيبة يرسلها الله في آخر الزمان بعد طلوع الشمس من مغربها، وبعد الدابة، وبعد نزول عيسى، وبعد خروج يأجوج ومأجوج، بعد هذه الآيات العظام ريح طيبة ترسل على أهل الأرض فيقبض الله بها أرواح المؤمنين والمؤمنات ولا يبقى بعد ذلك إلا الأشرار من الكفار فعليهم تقوم الساعة.
والمقصود أن هدى الله هو الهدي الذي يجب التزامه قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [البقرة:120] أي الهدى الكامل الذي يجب التزامه والثبات عليه، وكما تقول للرجل زيد هو الرجل هو الشجاع وفلان هو الإمام يعني الرجل الجيد المتأهل لهذا الأمر والمتصف بصفات الرجولة، وهكذا زيد هو الشجاع وهو المقدام والمقصود أن هذه صفة مبالغة في بيان أن هدى هو الهدى وهو الحق الذي لا ريب فيه وليس هناك هدى سواه، وما عند اليهود ليس بهدى، وما عند النصارى ليس بهدى، وما عند الوثنيين ليس بهدى، وما عند الشيوعيين ليس بهدى، وما عند المجوس ليس بهدى، وهكذا كل طائفة من طوائف الكفر ليس عندهم هدى، فالهدى فيما بعث الله به نبيه عليه الصلاة والسلام وهو دين الحق وهو الهدى إلى طريق السلامة وطريق السعادة وطريق الأخلاق الفاضلة طريق التوحيد طريق الإيمان طريق مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [البقرة:120]. وهو الهدى الذي يجب التزامه وليس هناك هدى غيره.وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ فِيهِ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِلْأُمَّةِ، عَنِ اتِّبَاعِ طَرَائِقِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ مَا عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَالشيخ: إنما قال للأمة لأنه هو المقصود، والخطاب للنبي ﷺ ولئن اتبعت أهواءهم فصرف الحافظ الكلام للأمة لأن المقصود هو الأمة لأن الله قد عصمه أن يتبع أهواءهم وحفظه بما فعله به ولكنه يخاطبه بهذا لتحذير الأمة وتنبيههم أن الرسول ﷺ لو فعل وهو أفضل الخلق لو اتبع أهواء الكفار لهلك فكيف بحالكم أنتم؟ وهذا مثل قوله: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] وهو يعلم سبحانه أنه لن يشرك وأن الله قد عصمه من هذا، وهو لتحذير الأمة من هذا الأمر العظيم وفي هذا أنه ﷺ ولو كان أفضل الخلق ولو كان سيد ولد آدم ولو كان رسول الله ﷺ لو فعل هذا لحبط عمله فكيف بكم أنتم أيها الناس احذروا هذا الأمر الشرك واتباع أهواء الكفار وأن من اتبع أهواءهم هلك وإن كان من كان.
فَإِنَّ الْخِطَابَ مَعَ الرَّسُولِ وَالْأَمْرَ لِأُمَّتِهِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ حَيْثُ أَفْرَدَ الْمِلَّةَ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الْكَافِرُونَ:6] فَعَلَى هَذَا لَا يَتَوَارَثُ الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَرِثُ قَرِينَهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ أَمْ لَا، لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.الشيخ: هذه مسألة فرعية لها بحث خاص في المواريث فالكفار من حيث أنهم كفار وأعداء لله وأنهم على باطل ملة واحدة من هذه الحيثية لأنهم كفار ضلال ملة باطلة دينهم باطل أعداء لله فهذا صحيح وهم ملة واحدة في هذا المعنى، ولكنهم ملل شتى من جهة اعتقاداتهم، فاعتقاد اليهود غير اعتقاد النصارى، واعتقاد النصارى غير المجوس، والمجوس غير الشيوعيين، والشيوعيون غير الوثنيين، فهم في اعتقاداتهم مختلفون لكن يجمعهم الكفر يجمعهم الضلال يجمعهم العداء لدين الإسلام فهم من هذه الحيثية ملة واحدة، وهم من حيث الاعتقادات المتنوعة ملل، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: لا توارث بين أهل ملتين والصواب أن كما أن المسلم لا يرث الكافر، ولا الكافر لا يرث المسلم، كذلك اليهودي لا يرث النصراني ولا النصراني يرث اليهودي ولا يرث المجوسي لأنهم مختلفون هذا هو الصواب، فهم من جهة المواريث ملل ومن جهة الكفر بالله وعدوان الدين وأنهم أعداء المسلمين وأعداء لله فهم بهذا المعنى هم ملل، ولهذا قال ملتهم، وهم طائفتان يهود ونصارى، فأفردها قال: ملتهم، ويجاب عن هذا بجوابين:
أحدهما: أنه إذا أضيف المفرد إلى معرفة عم يعم العدد.
والجواب الثاني: أنهم ملة واحدة من حيث الكفر والضلال لا من حيث (........) هم ملة واحدة من حيث الكفر والضلال وإفساد العقيدة.
وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَرِثُ قَرِينَهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ أَمْ لَا، لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَقَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى كَقَوْلِ مَالِكٍ، إِنَّهُ لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى، كَمَا جَاءَ في الحديث، والله أعلم.
وقوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قَالَ عبدالرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَهُوَ قَوْلُ عبدالرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى وَعبداللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ الأصبهاني، قال: أخبرنا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قَالَ: إِذَا مَرَّ بِذِكْرِ الْجَنَّةِ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَإِذَا مَرَّ بِذِكْرِ النَّارِ تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ،
الشيخ هذا ضعيف، وليس هذا هو المعنى المعنى يتلونه حق تلاوته أي يتبعونه حق اتباعه، والمراد به المؤمنين من أهل الكتاب الذين آمنوا وصدقوا موسى وصدقوا عيسى وصدقوا محمد ﷺ وهكذا من كان مثلهم من أمة محمد ﷺ فهي تعم جميع من كان بهذه المثابة، الذين آتيناهم الكتاب يشمل اليهود والنصارى وهكذا أصحاب محمد فإنهم أوتوا الكتاب وهو القرآن وكل من اتبع حقه الاتباع فهو مؤمن به على الحقيقة يتلونه حق تلاوته يعني يتبعونه حق اتباعه. فالمراد هنا الاتباع والاستقامة على الطريق السليم فهؤلاء هم المؤمنين حقًا.
أما من قرأه ولكنه لا يتبعه فليس من أهله وإنما أهل القرآن وأهل التوراة وأهل الإنجيل هم أتباعها المستقيمين عليها  هم الذين حلوا حلالها وحرموا حرامها وابتدروا أوامرها هؤلاء هم أهلها المتبعون ومن سواهم فهو ليس من أهلها وإن انتسب إليها، فاليهود الآن ليسوا من أهل التوراة، والنصارى ليسوا من أهل التوراة، والكفار من أمة محمد الذين عمتهم الدعوة ولم ينقادوا للقرآن ليسوا من الذين يتلونه حق تلاوته، وإنما يكون يتصف بهذه الصفة من كان متبعًا له مستقيمًا عليه يحل حلاله ويحرم حرامه وينقاد لأوامره ويقف عند حدوده.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أَنْ يُحِلَّ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ، وَيَقْرَأَهُ كَمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ، وَلَا يُحَرِّفَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلَا يَتَأَوَّلَ مِنْهُ شَيْئًا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ عبدالرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَمَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنِ ابن مسعود.
قال السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: يُحِلُّونَ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَلَا يُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بمتشابهه، ويكلون مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ إِلَى عَالِمِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أبي حاتم: أخبرنا أَبُو زُرْعَةَ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قَالَ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ، ثُمَّ قَرَأَ: وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها [الشَّمْسِ:2] يَقُولُ: اتَّبَعَهَا قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي رَزِينٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: أخبرنا زُبَيْدٌ عَنْ مُرَّةَ عَنْ عبداللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قَالَ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَرَوَى نَصْرُ بْنُ عِيسَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي قَوْلِهِ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قَالَ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ ثُمَّ قَالَ فِي إِسْنَادِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمَجْهُولِينَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ إِلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: مَنْ يَتَّبِعُ الْقُرْآنَ يَهْبِطُ بِهِ عَلَى رياض الجنة.
وعن عمر بن الخطاب: هُمُ الَّذِينَ إِذَا مَرُّوا بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلُوهَا مِنَ اللَّهِ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةِ عَذَابٍ اسْتَعَاذُوا مِنْهَا، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ تَعَوَّذَ.
وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أَيْ: مَنْ أَقَامَ كِتَابَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ حَقَّ إِقَامَتِهِ، آمَنَ بِمَا أَرْسَلْتُكَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66]، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الْمَائِدَةِ:68] أَيْ: إِذَا أَقَمْتُمُوهَا حَقَّ الْإِقَامَةِ وَآمَنْتُمْ بِهَا حَقَّ الْإِيمَانِ وَصَدَّقْتُمْ مَا فِيهَا مِنَ الْأَخْبَارِ بِمَبْعَثِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ وَالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ وَنَصْرِهِ ومؤازرته، قَادَكُمْ ذَلِكَ إِلَى الْحَقِّ وَاتِّبَاعِ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الْأَعْرَافِ:157]، وقال تَعَالَى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا [الْإِسْرَاءِ:107] أَيْ: إِنْ كَانَ مَا وَعَدَنَا بِهِ مِنْ شَأْنِ مُحَمَّدٍ ﷺ لَوَاقِعًا، وَقَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [الْقِصَصِ:52-54] وَقَالَ تَعَالَى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ [آلِ عِمْرَانَ:20] وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُون [الْبَقَرَةِ:121] كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هُودٍ:17] وَفِي الصَّحِيحِ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَا يؤمن بي إلا دخل النار.
الشيخ: وهذا يعم الكتاب ويعم محمد ﷺ، فالسياق في أهل الكتاب والمقصود به أهل الكتاب القرآن ولكن الذي جاء به القرآن كذلك من باب أولى من كفر به فهو خاسر، هكذا قوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هُودٍ:17] قيل القرآن، وقيل محمد عليه الصلاة والسلام، والمعنى صحيح، وكلاهما متلازمان فمن كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد ﷺ، ومن كفر بمحمد فقد كفر بالقرآن، ومن كفر بواحد منهما فهو خاسر في الدنيا والآخرة، فإنما الناجح والرابح والسعيد من آمن بمحمد ﷺ وبما جاء به من الهدى هذا هو الرابح والسعيد، ولهذا قال جل وعلا: ومن يكفر به أي بهذا الكتاب العظيم فأولئك هم الخاسرون كاليهود والنصارى وأشباههم، فمن حاد عن القرآن وحاد عن اتباعه وهكذا حاد تصديق نبينا محمد ﷺ وعن اتباعه.
قال تعالى: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ۝ وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ
قَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي صَدْرِ السُّورَةِ وَكُرِّرَتْ هَاهُنَا لِلتَّأْكِيدِ وَالْحَثِّ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الذِي يَجِدُونَ صفته في كتبهم: نعته واسمه وأمره وأمته فحذرهم مِنْ كِتْمَانِ هَذَا، وَكِتْمَانِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَلَا يَحْسُدُوا بَنِي عَمِّهِمْ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ إِرْسَالِ الرَّسُولِ الْخَاتَمِ مِنْهُمْ، وَلَا يَحْمِلُهُمْ ذلك على الحسد على مخالفته وتكذيبه والحيد عَنْ مُوَافَقَتِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدين.
الشيخ: تقدم أن نعم الله على بني إسرائيل كثيرة قد عددها في أول السورة منها إنجاؤهم من فرعون وانفلاق البحر لهم، وتأييدهم على أعدائهم ....... الكتاب العظيم التوراة إلى غير هذا مما أنعم الله عليهم وفضلهم على العالمين يعني على عالمي زمانهم فالواجب أن يشكروا نعم الله ومن شكرها الإيمان بالنبي الجديد الذي بعثه الله فيهم وجعله خاتمًا للأنبياء؛ لأن بالإيمان به تثبت لهم تلك النعم، وقاعدتها وثمرتها وبكفرهم به تكون عليهم وبالاً وحجة عليهم وتكون لهم النار نعوذ بالله، ولا تنفعهم مع ذلك شفاعة ولا فدية لكفرهم وضلالهم، فالكافر لا حيلة فيه ليس له إلا النار، وإذا كان هذا في بني إسرائيل فهكذا الأمة المحمدية يجب عليها أن تنتبه وأن تغتنم هذه النعمة العظيمة وأن تقبل ما جاء به نبيها عليه الصلاة والسلام، وأن تستقيم عليه حتى لا يصيبها ما أصاب غيرها من النقمات والعقوبات، فذكر النعم التي أعطاها الله بني إسرائيل وتأييدهم تذكير لنا ووعيد لنا أيضاً كما قال أهل العلم. كما أن فيه تذكيرًا لبقية بني إسرائيل الذين هم اليهود، وهو أيضاً تذكير للأمة كلها ووعيد لها إذا انحرفت عن الهدى.
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى شَرَفِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ إِمَامًا لِلنَّاسِ يُقْتَدَى به في التوحيد حين قَامَ بِمَا كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَلِهَذَا قَالَ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ أَيْ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَلَيْسُوا عَلَيْهَا وَإِنَّمَا الذِي هُوَ عَلَيْهَا مُسْتَقِيمٌ فَأَنْتَ وَالَّذِينَ مَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اذْكُرْ لِهَؤُلَاءِ ابْتِلَاءَ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ أَيِ: اخْتِبَارُهُ لَهُ بِمَا كَلَّفَهُ بِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَأَتَمَّهُنَّ أَيْ: قَامَ بِهِنَّ كُلِّهِنَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النَّجْمِ:37] أَيْ: وَفَّى جَمِيعَ مَا شَرَعَ لَهُ فَعَمِلَ بِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النَّحْلِ:120-122]، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ:161-162]، وَقَالَ تَعَالَى: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آلِ عِمْرَانَ:67-68].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِكَلِماتٍ أَيْ: بِشَرَائِعَ وَأَوَامِرَ وَنَوَاهٍ، فَإِنَّ الْكَلِمَاتِ تُطْلَقُ، وَيُرَادُ بِهَا الْكَلِمَاتُ الْقَدَرِيَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التَّحْرِيمِ:12] وَتُطْلَقُ، وَيُرَادُ بِهَا الشَّرْعِيَّةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الْأَنْعَامُ:115] أَيْ: كَلِمَاتُهُ الشَّرْعِيَّةُ، وَهِيَ إِمَّا خَبَرُ صِدْقٍ، وَإِمَّا طَلَبُ عَدْلٍ إِنْ كَانَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ أَيْ: قَامَ بِهِنَّ. قَالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً أَيْ: جزاء على ما فعل، لما قَامَ بِالْأَوَامِرِ وَتَرَكَ الزَّوَاجِرَ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ قُدْوَةً، وَإِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ وَيُحْتَذَى حَذْوَهُ.
الشيخ: كذلك من سار على نهجه كهذا النبي محمد ﷺ ومن تبعه فله السعادة ومن حاد عن ذلك فله الخيبة والندامة، والله يبتلي عباده بالسراء والضراء وفي الشدة والرخاء والنعمة والحاجة والفقر كما يبتليهم بالأوامر والنواهي فمن وفى ما عليه فله السعادة والعاقبة الحميدة ومن حاد عن الطريق فله الخيبة والندامة، ومن هذا ما جرى لإبراهيم ابتلاه واختبره وامتحنه بما أوحى إليه من الشرائع فأتم ذلك وكمل ذلك فصار إمامًا يقتدى به وصار أفضل الأنبياء وأكملهم قبل بعثة محمد ﷺ، ثم بعث الله حفيده محمد عليه الصلاة والسلام فكان أكمل الناس وخير الأنبياء ويليه في الفضل جده إبراهيم عليه الصلاة والسلام هذا كله من نعم الله كما قال جل وعلا: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7] الله يبتلي عباده بالضراء والسراء والخير والشر كما يبتليهم بالأوامر والنواهي فالشرائع ابتلاء وامتحان واختبار فيها سعادة المجتمع إن أخذوا بها وفيها هلاكهم إن ضيعوها.
وهكذا الأمراض والغنى والفقر والصحة والمرض والحروب والسلم إلى غير ذلك كلها اختبارات وابتلاءات فمن فعل ما فيها ما يجب عليه صارت له السعادة، ومن حاد فيها عن السبيل باء بالإثم والخيبة والندامة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وَقَدِ اختلف في تعيين الْكَلِمَاتِ التِي اخْتَبَرَ اللَّهُ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ، فَقَالَ عبدالرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْمَنَاسِكِ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ عَنِ التَّمِيمِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ عبدالرَّزَّاقِ أَيْضًا، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ قال: ابتلاه بِالطَّهَارَةِ خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ وَخَمْسٌ فِي الْجَسَدِ، فِي الرَّأْسِ: قَصُّ الشَّارِبِ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَالسِّوَاكُ وَفَرْقُ الرَّأْسِ، وَفِي الْجَسَدِ: تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَالْخِتَانُ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَغَسْلُ أَثَرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْمَاءِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي صَالِحٍ وَأَبِي الْجَلَدِ نَحْوَ ذَلِكَ.
الشيخ: كل هذه وأشباهها متلقاة عن بني إسرائيل فلا يعتمد عليها فليس لها أساس يعتمد، وإنما المعتمد في هذا ما ثبت عن الله وعن الرسول عليه الصلاة والسلام ولكن أبهمها ربنا لتشمل كل ما أمره الله به ونهاه عنه فلم يفرط في شيء عليه الصلاة والسلام "كلمات" كلمة منكَّرة تشمل كل ما يوحى إليه فيدخل فيها ما ذكره (......) ما ذكره المفسرون مما وقع الأمر به ويدخل فيها غير ذلك مما شرع له.
فالحاصل أن "الكلمات" الله نكَّرها لتعم، ولسنا بحاجة إلى أن ننقب عنها يكفينا أن نؤمن بأنه كمل عليه الصلاة والسلام وأن ما شرعه الله له كمله وأتمه في جميع ما شرع له من قول أو فعل أو اعتقاد.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي صَالِحٍ وَأَبِي الْجَلَدِ نَحْوَ ذَلِكَ.
(قُلْتُ): وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللَّحْيَةِ وَالسِّوَاكُ وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء، وَنَسِيَتُ الْعَاشِرَةَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةُ . قَالَ وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء.
وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ  وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَنْبَأَنَا يُونُسُ بْنُ عبدالْأَعْلَى قِرَاءَةً، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنِ ابْنِ هُبَيْرَةَ عَنْ حَنَشِ بْنِ عبداللَّهِ الصَّنْعَانِيِّ عَنِ ابن عباس أنه كان يقول في تفسير هذه الآية: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ: عَشْرٌ، سِتٌّ فِي الْإِنْسَانِ، وَأَرْبَعٌ فِي الْمَشَاعِرِ، فَأَمَّا التِي فِي الْإِنْسَانِ: حَلْقُ الْعَانَةِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَالْخِتَانُ، وَكَانَ ابْنُ هُبَيْرَةَ يَقُولُ: هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ وَاحِدَةٌ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَالسِّوَاكُ، وَغُسْلُ يَوْمِ الْجُمْعَةِ، وَالْأَرْبَعَةُ التِي فِي الْمَشَاعِرِ: الطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَالْإِفَاضَةُ.
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا ابْتُلِيَ بِهَذَا الدِّينِ أَحَدٌ فَقَامَ بِهِ كُلِّهِ إِلَّا إِبْرَاهِيمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قُلْتُ لَهُ: وَمَا الْكَلِمَاتُ التِي ابْتَلَى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِهِنَّ فَأَتْمَهُنَّ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ ثَلَاثُونَ سَهْمًا مِنْهَا عَشْرُ آيَاتٍ في براءة التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ [التَّوْبَةِ:112] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَعَشْرُ آيَاتٍ فِي أول سورة: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]، وسَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج:1] وَعَشْرُ آيَاتٍ فِي الْأَحْزَابِ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ} [الأحزاب:35] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَأَتْمَهُنَّ كُلَّهُنَّ فَكُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَةٌ، قَالَ اللَّهُ: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النَّجْمِ:37] هَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَأَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِأَسَانِيدِهِمْ إِلَى داود بن أبي هند وَهَذَا لَفْظُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ.
الشيخ: وهذا إن صح عن ابن عباس فمراده قبل محمد ﷺ، وإنما محمد كمل أيضاً ما عليه وأتم ما عليه عليه الصلاة والسلام، وهكذا من وفقه الله من الأمة فإن صح عن ابن عباس فمعناه من الأنبياء الماضين والأمة الماضية مهما أتم ذلك على تمام الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ثم هذا فيه نظر أيضاً، فإن ابن عباس قد يكون تلقاه عن بعض بني إسرائيل ولم يذكره عن النبي عليه الصلاة والسلام، لكن المعنى في الجملة صحيح لأن إبراهيم هو أفضل الخلق قبل محمد ﷺ أفضلهم وأكملهم إيمانًا وأتقاهم لله وليس بعده في التمام والكمال سوى حفيده محمد عليه الصلاة والسلام فهو أكمل الناس وهو الذي أتم ما أمره الله به أكمل إتمام ولهذا كان أفضل الخلق ثم يليه في الفضل والمنزلة جده إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَلِمَاتُ التِي ابْتَلَى اللَّهُ بِهِنَّ إِبْرَاهِيمَ فَأَتَمَّهُنَّ، فِرَاقُ قَوْمِهِ فِي اللَّهِ حِينَ أُمِرَ بِمُفَارَقَتِهِمْ، وَمُحَاجَّتُهُ نُمْرُوذَ فِي اللَّهِ حِينَ وَقَفَهُ عَلَى مَا وَقَفَهُ عَلَيْهِ مِنْ خَطَرِ الْأَمْرِ الذِي فِيهِ خِلَافُهُ، وَصَبْرُهُ عَلَى قَذْفِهِ إِيَّاهُ فِي النَّارِ لِيَحْرِقُوهُ فِي اللَّهِ عَلَى هَوْلِ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَالْهِجْرَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ وَطَنِهِ وَبِلَادِهِ فِي اللَّهِ حِينَ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُمْ وَمَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ الضِّيَافَةِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَمَا ابْتُلِيَ بِهِ مِنْ ذَبْحِ ابْنِهِ حِينَ أَمَرَهُ بِذَبْحِهِ فَلَمَّا مَضَى عَلَى ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ كُلِّهِ وَأَخْلَصَهُ لِلْبَلَاءِ، قَالَ اللَّهُ لَهُ: أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [البقرة:131] عَلَى مَا كَانَ مِنْ خِلَافِ النَّاسِ وَفِرَاقِهِمْ.الشيخ: الرب أبهم الكلمات ولم يوضحها قال سبحانه: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124] وفي الآية الأخرى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37] وهو جل وعلا أبهم تلك الكلمات لتعم جميع ما أمره الله وشرعه الله له وهو أتم ذلك، وأكمله عليه الصلاة والسلام في كل شيء، في نصيحة قومه، وفي البراءة من الكفار، وفي ذبحه لابنه، وفي غير هذا من الشؤون التي أمره الله بها ووفى بكل شيء عليه الصلاة والسلام وأتم ما أمره الله به، ولهذا جعله الله إمام الحنفاء، وسيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وهو أكمل الخلق وأفضلهم بعد حفيده خاتم المرسلين عليهم الصلاة والسلام جميعًا، فما ذكره المفسرون فكثير منه بعض ما أراده الله، وبعض منه قد يكون لا دليل عليه، فالحاصل أنه وفى ما أمره الله به وتمم ما أمره الله به ولم يقصر في ذلك، بل اجتهد حتى أتم أمر الله وكمل ما أمره الله به ووصفه الله بقوله: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37]
وقال ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ أخبرنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنِ الْحَسَنِ، يَعْنِي الْبَصْرِيَّ وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ: ابْتَلَاهُ بِالْكَوْكَبِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِالْقَمَرِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِالشَّمْسِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِالْهِجْرَةِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِالْخِتَانِ فَرَضِيَ عَنْهُ، وَابْتَلَاهُ بِابْنِهِ فَرَضِيَ عَنْهُ.
وَقَالَ ابن جرير: أخبرنا بشر بن معاذ أخبرنا يزيد بن زريع، أخبرنا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: أي والله لقد ابْتَلَاهُ بِأَمْرٍ فَصَبَرَ عَلَيْهِ، ابْتَلَاهُ بِالْكَوْكَبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَأَحْسَنَ فِي ذَلِكَ وَعَرَفَ أَنَّ رَبَّهُ دَائِمٌ لَا يَزُولُ، فَوَجَّهَ وَجْهَهُ لِلَّذِي فَطَرَ السموات وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ ابْتَلَاهُ بِالْهِجْرَةِ، فَخَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ وَقَوْمِهِ، حَتَّى لَحِقَ بِالشَّامِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ ابْتَلَاهُ بِالنَّارِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَابْتَلَاهُ بذبح ابنه والختان، فصبر على ذلك.
قَالَ عبدالرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَمَّنْ سَمِعَ الْحَسَنَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ قال: ابتلاه الله بذبح ولده وبالنار وبالكوكب وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: أخبرنا ابن بشار أخبرنا سلم بن قتيبة، أخبرنا أَبُو هِلَالٍ عَنِ الْحَسَنِ وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ، قال: ابتلاه بالكوكب وبالشمس وَالْقَمَرِ، فَوَجَدَهُ صَابِرًا.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ فمنهن قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وَمِنْهُنَّ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ [البقرة:127] وَمِنْهُنَّ الْآيَاتُ فِي شَأْنِ الْمَنْسَكِ وَالْمَقَامِ الذِي جَعَلَ لِإِبْرَاهِيمَ وَالرِّزْقِ الذِي رُزِقَ سَاكِنُو الْبَيْتِ، وَمُحَمَّدٌ بُعِثَ فِي دِينِهِمَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم: أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح، أخبرنا شَبَابَةُ عَنْ وَرْقَاءَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ: إِنِّي مُبْتَلِيكَ بِأَمْرٍ فَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْعَلُنِي لِلنَّاسِ إِمَامًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَمِنْ ذَرِّيَّتِي؟ قَالَ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، قَالَ: تَجْعَلُ الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَأَمْنًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَتَجْعَلُنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسَلَمَةً لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَتَرْزُقُ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله؟ قال: نعم، قال ابن نجيح: سمعته عن عِكْرِمَةَ فَعَرَضْتُهُ عَلَى مُجَاهِدٍ فَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ: ابْتُلِيَ بِالْآيَاتِ التِي بَعْدَهَا إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ قَالَ: الْكَلِمَاتُ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وَقَوْلُهُ: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة:125] وقوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] وقوله: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ [البقرة:125] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ [البقرة:127] الْآيَةَ، قَالَ: فَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْكَلِمَاتِ التِي ابتلي بهن إبراهيم.
وقال السُّدِّيُّ: الْكَلِمَاتُ التِي ابْتَلَى بِهِنَّ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۝ رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:127- 128] رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَةِ:129].
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: إِبْرَاهِيمُ أَوَّلُ مَنِ اخْتَتَنَ وأول من ضاف الضيف، وَأَوَّلُ مَنْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ قَصَّ الشَّارِبَ، وَأَوَّلُ مَنْ شَابَ فَلَمَّا رَأَى الشَّيْبَ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: وَقَارٌ، قَالَ: يَا رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا.
الشيخ: كل هذا الأشياء متلقاة عن بني إسرائيل أو من تلقى عن بني إسرائيل فإبراهيم مثل ما تقدم أن الله جل وعلا ابتلاه بكلمات شرعها له وأمره بها وجعلها هدى له فكملها وأتمها.
وَأَوَّلُ مَنْ شَابَ فَلَمَّا رَأَى الشَّيْبَ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: وَقَارٌ، قَالَ: يَا رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا.الشيخ: كل هذا فيه نظر أنه أول من حف الشارب وأول من شاب كل هذا محل نظر، قد مضى قبله نوح ألف سنة إلا خمسين عامًا فهل يكون نوح ما شاب، المقصود هذا محل نظر، المقصود أن بعض الناس يتلقى عن بني إسرائيل ما هب ودب ما يميز بين الأمور التي لها أهمية، وسعيد وإن كان إمامًا رحمه الله لكن ينقل مثل ما ينقل الناس.
 وَذَكَرَ ابن أبي شيبة عن سعيد بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ عَلَى الْمَنَابِرِ إِبْرَاهِيمُ ، قَالَ غَيْرُهُ: وَأَوَّلُ مَنْ بَرَّدَ  الْبَرِيدَ.الشيخ: كل هذا فيه نظر أيضا فقبله هود وصالح ونوح كلهم وعظوا قومهم وأنذروهم وبلغوا الرسالات (........).وَأَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ بِالسَّيْفِ، وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَاكَ، وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ، وَأَوَّلُ مَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ، وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنْ أَتَّخِذِ الْمِنْبَرَ فَقَدِ اتَّخَذَهُ أَبِي إِبْرَاهِيمُ، وَإِنْ أَتَّخِذِ الْعَصَا فَقَدِ اتَّخَذَهَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ.
(قُلْتُ): هَذَا حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ شَرَعَ الْقُرْطُبِيُّ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ الْمُرَادُ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا بِحَدِيثٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، قَالَ: وَلَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ بِنَقْلِ الْوَاحِدِ وَلَا بِنَقْلِ الْجَمَاعَةِ الذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ.
قَالَ: غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي نَظِيرِ مَعْنَى ذَلِكَ خَبَرَانِ:
 أَحَدُهُمَا: مَا حدثنا به أبو كريب، أخبرنا رشدين بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي زَبَّانُ بْنُ فَائِدٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ، الَّذِي وَفَّى؟ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَكُلَّمَا أَمْسَى: سُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ۝ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:17- 18] إلى آخر الآية
الشيخ: وهذا ضعيف؛ لأن زبان ضعيف. والمقام يقتضي خلاف ذلك لأنه قال كلمات عظيمة وفَّى بها وأتم لأن كلمة فسبحان الله حين تصبحون وحين تمسون ليس فيها كلفة ولا مشقة على أحد.
 قال: والآخر: ما حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كَرَيْبٍ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ عَنْ عَطِيَّةَ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37] قال: أَتُدْرُونَ مَا وَفَّى؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: وَفَّى عَمَلَ يَوْمِهِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ فِي النَّهَارِ.
وَرَوَاهُ آدَمُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَعبدبْنُ حُمَيْدٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِهِ، ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ جَرِيرٍ يُضَعِّفُ هَذَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ: فإنه لا يجوز رِوَايَتُهُمَا إِلَّا بِبَيَانِ ضَعْفِهِمَا، وَضَعْفُهُمَا مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ، فَإِنَّ كُلًّا مِنَ السَّنَدَيْنِ مُشْتَمِلٌ عَلَى غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ مَعَ مَا فِي مَتْنِ الْحَدِيثِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضِعْفِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَ الْقَوْلِ الذي قاله غيرهم كان مذهبا لأن قَوْلَهُ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً وَقَوْلُهُ: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [البقرة:125]، وَسَائِرَ الْآيَاتِ التِي هِيَ نَظِيرُ ذَلِكَ كَالْبَيَانِ عَنِ الْكَلِمَاتِ التِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ ابْتَلَى بِهِنَّ إِبْرَاهِيمَ.
(قُلْتُ): وَالذِي قَالَهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ الْكَلِمَاتِ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ أَقْوَى مِنْ هَذَا الذِي جَوَّزَهُ مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَمَنْ قَالَ مِثْلُهُ لِأَنَّ السِّيَاقَ يُعْطِي غَيْرَ ما قالوه، والله أعلم.
الشيخ: حتى بعض ما قالوه فيه نظر، والصواب أن يقال: الله أعلم بمراده ، فإبراهيم مثل ما قال فيما تقدم ليس هناك خبر صحيح ولا إجماع يبين هذه الكلمات فوجب أن نكل أمرها إلى الله وأنها شرائع وأوامر ونواهي ابتلاه الله بها فكملها، أما تعيينها وأنها كذا وكذا فيحتاج إلى نص أو إجماع، لكن من المعلوم والمقطوع به أنها  أشياء أمر بها وكلف بها عليه الصلاة والسلام فوفى بها وأداها كما أمر عليه الصلاة والسلام .