66 من: (باب فيمن سن سنة حسنة أو سيئة)

 
19- بابٌ فيمَنْ سَنَّ سُنَّةً حسنةً أَوْ سيئةً
قَالَ الله تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاما [الفرقان:74]، وقال تَعَالَى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [الأنبياء:73].
1/171- وعَنْ أَبَي عَمروٍ جَرير بنِ عبدِاللَّه البجلي قال: كُنَّا في صَدْر النَّهارِ عِنْد رسولِ اللَّه ﷺ، فَجاءهُ قوْمٌ عُرَاةٌ مُجْتابي النِّمار، أَو الْعَباءِ، مُتَقلِّدي السُّيوفِ، عامَّتُهمْ من مُضَر، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضرَ، فَتمعَّر وجهُ رسولِ اللَّه ﷺ لِما رَأَى بِهِمْ مِن الْفَاقة، فدخلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمر بِلالًا فَأَذَّن وأَقَامَ، فَصلَّى، ثُمَّ خَطبَ فَقالَ: يَا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى آخِرِ الآية: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وَالآيةُ الأُخْرَى الَّتِي في آخر الْحَشْرِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]، تَصدَّق رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاع بُرِّه، مِنْ صَاعِ تَمرِه، حَتَّى قَالَ: وَلَوْ بِشقِّ تَمْرةٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كادتْ كَفُّهُ تَعجزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجزتْ، ثُمَّ تَتابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعامٍ وَثيابٍ، حتَّى رَأَيْتُ وجْهَ رسولِ اللَّه ﷺ يَتهلَّلُ كَأَنَّهُ مَذْهَبَةٌ، فَقَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: مَنْ سَنَّ في الإِسْلام سُنةً حَسنةً فَلَهُ أَجْرُهَا، وأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ ينْقُصَ مِنْ أُجُورهِمْ شَيءٌ، ومَنْ سَنَّ في الإِسْلامِ سُنَّةً سيِّئةً كَانَ عَليهِ وِزْرُها، وَوِزرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بعْده، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزارهمْ شَيْءٌ رواه مسلم.
2/172- وعن أبي مسعودٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابنِ آدمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لأَنَّهُ كَان أَوَّل مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ متفقٌ عَلَيهِ.

الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أما بعد:
فهذه الآيات -الآيتان والحديثان- فيها الحثّ على إحياء السنن، والدعوة إليها، والتحذير من البدع والمنكرات والدعوة إليها، وأنَّ العبد إذا أحيا سنةً ودعا إليها كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومَن دعا إلى بدعةٍ كان له من الآثام مثل آثام مَن تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا، والله جل وعلا قال في صفات عباد الرحمن: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، فالإنسان يكون إمامًا في الخير، وفي الدعوة إلى الخير، وفي إحياء السنة، وفي الدعوة إلى الجهاد، وإلى حلقات العلم، وإلى إقامة صلاة الجماعة، وإلى برِّ الوالدين، إلى غير هذا من وجوه الخير؛ يكون له مثل أجور مَن تبعه، قال جل وعلا: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [السجدة:24].
فالواجب على المؤمن أن يكون قدوةً في الخير، حذرًا من القدوة في الشر، يدعو الناس إلى الخير، ويسارع إلى العمل به حتى يُقتدى به قولًا وعملًا، ويُحذِّر الناس من الشر ويبتعد عنه، وهذا يحتاج إلى صبرٍ ويقينٍ وثباتٍ، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، فإذا رزق اللهُ العبدَ الصبر على الطاعات، والصبر عن المحارم، مع اليقين، ومع العلم النافع؛ قاده هذا إلى الخير العظيم، وقاده إلى فعل السنن والدعوة إليها، وإلى ترك البدع والتحذير منها.
وفي الحديث الصحيح: أن النبي ﷺ رأى قومًا دخلوا المسجد، وهم فقراء، مجتابي النِّمَار، قد ظهرت عليهم الفاقة والحاجة، فلما رأى ذلك عليه الصلاة والسلام وقد فرغ من الصلاة خطب الناس، وذكَّرهم، وحثهم على الصدقة، قال: تصدَّق رجلٌ من درهمه، من ديناره، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع شعيره، حتى قال: ولو بشقِّ تمرة، فجاء رجل من الأنصار بصُرَّةٍ -أي: من الفضة- كادت كفُّه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس في الصدقة: هذا يجيء بثوبٍ، وهذا يأتي بتمرٍ، وهذا يأتي بأُرْزٍ، وهذا يأتي ببُرٍّ، وهذا يأتي بكذا، قال الراوي: "حتى رأينا كومين من طعامٍ وثيابٍ"، فلما رأى النبيُّ ﷺ ذلك، ومسارعتهم إلى الخير، ومسارعتهم إلى الصدقة على هؤلاء الفقراء؛ سُرَّ بذلك، وصار وجهه كأنه مَذْهَبَةٌ من السرور واللَّمعان والفرح بمسارعة الأخيار إلى الصدقة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: مَن سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً يعني: أحياها وأظهرها كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص من أجورهم شيءٌ، ومَن سَنَّ في الإسلام سُنَّةً سيئةً يعني: بدعة كان عليه وزرها ووزر مَن عمل بها، لا ينقص من أوزارهم شيءٌ.
هذا فيه التَّحذير من الدعوة إلى البدع والمعاصي، وأنَّ على الداعية لذلك والساعي في ذلك مثل أوزار مَن تابعوه، أما مَن دعا إلى الحق والسنة، ودعا إلى ما شرعه الله؛ فهذا يكون له مثل أجور مَن تبعه، وهذا فرقٌ عظيمٌ، فرقٌ بين من يدعو إلى الخير ويكون له من الأجور مثل أجور أتباعه، ومَن يدعو إلى الشر -والعياذ بالله- ويكون له مثل أوزار مَن تبعه.
فعلى المؤمن أن يجاهد نفسه في الله حتى يسارع إلى الخيرات، ويبادر إلى ما يرضي الله ويُقربه لديه، وحتى يبتعد عن الشرور التي تُغضب الله .
كذلك في الحديث الصحيح يقول ﷺ: ما قُتلتْ نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها قسطٌ من دمها؛ لأنَّه كان أول من سَنَّ القتل يعني: قابيل، فإن قابيل وهابيل ابني آدم تنازعا في شيءٍ، قدَّم هذا قُربةً، وهذا قُربةً، فتُقُبِّلَ من هابيل ولم يُتقبل من قابيل، فغضب على أخيه هابيل وقتله -والعياذ بالله- وصارت أول جريمةٍ في الإسلام بعدما خلق الله أبانا آدم، فكل مَن قُتِلَ ظُلمًا كان على ابن آدم الأول قابيل قسطٌ من دمها؛ لأنَّه أول مَن سَنَّ القتل بفعله القبيح.
فهذا يدل على أنَّ مَن دعا إلى الشّرور بأفعاله أو أقواله وتأسَّى به الناسُ في ذلك؛ يكون عليه مثل أوزارهم، كما أنه إذا دعا إلى الخير: كالجهاد، وعمارة المساجد، وتعلّم العلم، وصلة الرحم، وبرّ الوالدين، وتُوبع؛ صار له من الأجور مثل أجور أتباعه، وهذا جاء في عدة أحاديث عن النبي ﷺ.
نسأل الله للجميع التوفيق.

الأسئلة:

س: هل ثبت في تسمية ابني آدم هابيل وقابيل خبرٌ صحيحٌ؟
ج: معروف فيما بلغنا أنَّ قابيل هو القاتل، وهابيل هو المقتول.
س: هل السنة المسنونة تشمل السنة التي أُحييتْ بعدما ماتت سابقًا إحياءً جديدًا؟
ج: عام، السنة التي أحياها هو، أو ماتت ثم أحياها، المقصود كونه في بلدٍ أو قريةٍ أو باديةٍ أو هجرةٍ فيها سنة ميتة فأحياها، مثل: ما يعرفون صلاة الضحى فصار يصلي الضحى، ومثل: ما يصلون قبل العصر فصلى أربع ركعات قبل العصر، ومثل: ما يُعلنون النكاح ولا يحطُّون وليمةً له فأعلن النكاح، وما أشبه ذلك.
س: هل هناك إنسان يُحيي سنةً جديدةً؟
ج: قد يكون في بعض الجهات سنة جديدة، يعني: قد أُميتت، قد يكون في بعض الجهات أناسٌ ما عرفوا مثلًا صلاة الضحى، أو ما عرفوا مثلًا صفة الحج، وأين الحج: في مكة أو في غير مكة؟ فجاء وعلَّمهم وأحيا لهم السنة، أو ما عرفوا برّ الوالدين، أو ما عرفوا صلة الرحم، أو ما عرفوا الوتر، وما أشبه ذلك.
س: هل تُسَمَّى "جديدة"؟
ج: هذا إحياء للسنن.
س: لأنه يقول: "سنة جديدة"؟
ج: المعنى إحياؤها، ما هي بالبدعة، البدعة الجديدة ما تُسمَّى سنة، المقصود مَن سَنَّ في الإسلام سنةً يعني: أحياها وأظهرها، هذا الأمر، وإلا إذا ابتدأها تصير بدعةً.
س: إذا كان المقتولُ قتله القاتلُ على خطإٍ، هل القاتل يدخل في الحكم؟
ج: لا، القاتل ما عليه شيء، إنما عليه الدية والكفَّارة، فالله جل وعلا بيَّن: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [النساء:92]، عليه الدية، وعليه الكفارة، فتعظيمًا لشأن القتل جاءت فيه الكفارة مع أنه خطأ.
س: "فأذَّن وأقام ثم صلَّى" يعني: صلاة الفريضة؟
ج: نعم، المعروف أنها الظهر.
س: مَن سَنَّ سنةً سيئةً وتبعه ناسٌ، ثم تاب وأتباعه لا زالوا يتبعونه، فهل عليه وزر؟
ج: الظاهر أنه إذا تاب توبةً صادقةً ما عليه شيء، إلا إذا كانوا هم قريبين ويستطيع أن يُبلِّغهم؛ فعليه أن يُبَلِّغهم حتى لا يقتدوا به، أما إذا ما استطاع أن يُبَلِّغهم فنرجو أن توبته تكفيه، والشرك أعظم من ذلك، لكن إذا كان يمكنه الحصول على عناوينهم، أو كانوا قريبين منه فعليه أن يُبَلِّغهم: "أني أخطأتُ في هذا الشيء وقد رجعتُ عن خطئي" حتى لا يتأسّوا به.
س: المصاحف التي تُجعل في بيوت الله عز وجل وماء السبيل هل تُعتبر من [إحياء] السّنن؟
ج: نعم، من إحياء السنن، ومن الصَّدقات.
س: إذا كان الشخص مسافرٌ ورفض أن يُصلِّي مع الجماعة بحجة أنه يجمع ويقصر؟
ج: الجماعة واجبة، والقصر سنة، فيُصلِّي مع الجماعة ويُتمّ، هذا الواجب، إلا إذا كانوا جماعةً.
س: عذره أنه يقول: أنا مسافر؟
ج: لا، إذا كان واحدًا يلزمه الجماعة، أما إذا كانوا جماعةً وصلّوا جماعةً فلا بأس، إن شاءوا قصَّروا، وإن شاءوا صلّوا مع الناس وأَتَمُّوا.