24 من قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا..)

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّمَا حَوَّلْنَاكُمْ إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ ، واخترناها لكم لَنَجْعَلَكُمْ خِيَارَ الْأُمَمِ لِتَكُونُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُهَدَاءَ عَلَى الْأُمَمِ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ مُعْتَرِفُونَ لَكُمْ بِالْفَضْلِ، وَالْوَسَطُ هَاهُنَا الْخِيَارُ وَالْأَجْوَدُ كَمَا يُقَالُ: قُرَيْشٌ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا، أَيْ خَيْرُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَسَطًا فِي قَوْمِهِ، أَيْ أَشْرَفُهُمْ نَسَبًا، وَمِنْهُ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى التِي هِيَ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ وَهِيَ الْعَصْرُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا. وَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَسَطًا، خَصَّهَا بِأَكْمَلِ الشَّرَائِعِ وَأَقْوَمِ الْمَنَاهِجِ وَأَوْضَحِ الْمَذَاهِبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الْحَجِّ:78] .الشيخ: وهذا من فضل الله وكرمه جل وعلا أن جعل هذه الأمة خير الأمم وأكرمها على الله  وجعلها وسطًا يعني عدلاً خيارًا تقبل شهادتها على الناس يوم القيامة تشهد هذه الأمة لجميع الرسل الذين قد بلغوا رسالات ربهم وبلغوا أممهم وقامت الحجة ولهذا قال سبحانه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] يعني عدلاً خيارًا  تقبل شهادتهم على الناس، ويعرف الناس فضلكم ولهذا قال: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] وفي الآية الأخرى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ [الحج:78] أي اصطفاكم واختاركم فجدير بهذه الأمة أن تحقق الصفات التي اختيرت لأجلها وأن تكون مثالاً عاليًا، مثالاً جميلاً، مثالاً طيبًا في الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة حتى تكون من جملة هؤلاء الشهداء ومنزلة هؤلاء الأخيار كما قال سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بالله  [آل عمران:110] فليست خير أمة من جهة النسب ولا من جهة المال ولكن من جهة العمل من جهة الإيمان والتقوى واتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي الحديث: أنتم توفون سبعون أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله وكل مؤمن جدير به أن يتخلق بالأخلاق العظيمة التي بها يكون لبنة من لبنات هذه الأمة وفردًا من أفرادها وشهيدًا من شهدائها في إبلاغ  الرسل ما أرسلوا به، وقيامهم بما فرض الله عليهم وفي قيامه بما شرع الله له وما جاء به نبيه عليه الصلاة والسلام من أخلاق وأعمال.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ، فَيُقَالُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، قَالَ فَذَلِكَ قوله: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً قال: والوسط الْعَدْلُ، فَتُدْعَوْنَ فَتَشْهَدُونَ لَهُ بِالْبَلَاغِ ثُمَّ أَشْهَدُ عَلَيْكُمْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ الأعمش.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ  أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَجِيءُ النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَيُدْعَى قَوْمُهُ، فيقال: هَلْ بَلَّغَكُمْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا فَيُقَالُ لَهُ: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيقال: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَيُدْعَى محمد وَأُمَّتِهِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَ هَذَا قَوْمَهُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُقَالُ: وَمَا عِلْمُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جَاءَنَا نبينا فَأَخْبَرَنَا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً قَالَ: عَدْلًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.
الشيخ: وهذا من باب إظهار الحجة ومن باب قطع الخصم وبيان بطلان إنكاره على رؤوس الأشهاد؛ فإنه سبحانه يعلم أن الرسل بلغوا، والرسل صادقون مقبولون على أممهم وليسوا مكذبين، ولكن من باب إعلان بطلان هذه الدعوى ومن باب إعلان فضيحتهم على رؤوس الأشهاد حيث قالوا: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ [المائدة:19]، فيدعى محمد وأمته فيشهدون أن الرسل قد بلغوا وإنما شهدوا لأن القرآن جاء بذلك، وقد أنزل على محمد وفيه أن الرسل بلغوا والنبي بين ذلك فالأمة مع نبيها عليه الصلاة والسلام تشهد بذلك على خبر الله سبحانه وتعالى والله أخبر محمدًا وأمته أن الرسل قد بلغوا وجعلهم يوم القيامة شهداء على الناس يشهدون بأن الرسل قد بلغت حين ينكرون، حين تنكر الأمم تقوم هذه الأمة مع نبيها يشهدون بأن الرسل قد بلغوا نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وغيرهم من الرسل إلى آخرهم عيسى عليه الصلاة والسلام.
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً قَالَ عَدْلًا.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ عبدالْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عُتَيْبَةَ بْنِ نَهَّاسٍ، حَدَّثَنِي مكاتب لَنَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عبداللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: أَنَا وَأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى كَوْمٍ مُشْرِفِينَ عَلَى الْخَلَائِقِ، مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا وَدَّ أَنَّهُ مِنَّا، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ إِلَّا وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ
الشيخ: وفي رواية أخرى على "حل" يعني على محل مرتفع، ولكن السند هذا ضعيف لأن مكتِّب هذا أو مكاتب مجهول. لكن الأحاديث السابقة كافية في أن هذا النبي وأمته هم الشهداء على الناس كما هو نص القرآن.
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا، وَاللَّفْظُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جِنَازَةً في بني سلمة وَكُنْتُ إِلَى جَانِبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَنِعْمَ الْمَرْءُ كَانَ، لَقَدْ كَانَ عَفِيفًا مُسْلِمًا وَكَانَ.. وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَنْتَ بِمَا تقول فقال الرجل: الله أعلم بِالسَّرَائِرِ، فَأَمَّا الذِي بَدَا لَنَا مِنْهُ فَذَاكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ : وَجَبَتْ وَجَبَتْ ثُمَّ شَهِدَ جِنَازَةً فِي بَنِي حَارِثَةَ وَكُنْتُ إِلَى جَانِبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِئْسَ الْمَرْءُ كَانَ إِنْ كَانَ لَفَظًّا غَلِيظًا فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ شَرًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِبَعْضِهِمْ: أَنْتَ بِالذِي تَقُولُ فَقَالَ الرَّجُلُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ، فَأَمَّا الذِي بَدَا لَنَا مِنْهُ فَذَاكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَجَبَتْ.الشيخ: معنى أنت بالذي تقول، يعني أنت مأخوذ به مسؤول عنه يوم القيامة هل أنت صادق أم كاذب!
قَالَ مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ: فَقَالَ لَنَا عِنْدَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ قَرَأَ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ثم قال الحاكم: هذا حديث صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.الشيخ: وهذا جاء معناه في عدة أحاديث صحيحة وفيها أنتم شهداء الله في أرضه لما مروا عليه بالجنائز فأثنوا على بعضها شرًا، وعلى بعضها خيرًا، فقال: وجبت فالجنة لمن أثنوا عليها خيرًا، والنار لمن أثنوا عليها شرًا، وقال: أنتم شهداء الله في أرضه فالواجب التثبت في الأمور والحذر، فمن شهد له الأخيار بالخير فهو من علامات أنه من أهل الجنة، ومن شهد له الأخيار بالشر فهو من علامات أنه من أهل النار، أنتم شهداء الله في أرضه، نسأل الله العافية.
وهذا مما احتج به على أن المعلن لا غيبة له، ولهذا ما أنكر عليهم حين شهدوا عليه بالشر، فمن أعلن الشر والفساد فلا مانع من الشهادة عليه بذلك، ولهذا يطلب من المدعين تزكية الشهود ومن المعارضين الجرح فالجرح للشهود وللرواة أمر مطلوب فيما ظهر من أعمالهم وأحوالهم وليس من الغيبة  الغيبة ذكرك أخاك بما يكره بما هو غير معلن، مما اطلعت عليه أنت وليس مما أعلنه للناس، فمن أعلن للناس خبثه وشره وتركه للصلاة أو شربه للخمور أو غير هذا من الفواحش الظاهرة والمنكرات الظاهرة فيشهد عليه بذلك عند الحاجة إلى التجريح عند الحاجة إلى الشهادة عند الحاجة إلى الرواية وليس ذلك من الغيبة في شيء فهذا من النصح لله ولعباده.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَوَافَقْتُهَا وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ فَهُمْ يَمُوتُونَ مَوْتًا ذَرِيعًا، فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فمرت به جنازة فأثني على صاحبها خيرا، فَقَالَ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأُثْنِيَ عليها شرا، فقال عمر: وَجَبَتْ. فَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: مَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ، قُلْتُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ قال: فقلنا وثلاثة قال: فقال وَثَلَاثَةٌ قَالَ: فَقُلْنَا وَاثْنَانِ: قَالَ وَاثْنَانِ. ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ. وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ بِهِ.الشيخ: وفي هذا الحذر من إظهار الشر والحرص على الاستتار بما يبتلى به الإنسان وأن يتقي الله ويحذر فإذا كان ولا بدّ فليستتر بستر الله وليتب إلى الله وليعلن توبته ويظهر عمله الصالح حتى لا يفضح على رؤوس الأشهاد لا في الدنيا ولا في الآخرة نسأل الله العافية.
................. 
وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو قِلَابَةَ الرَّقَاشِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنِي أُمِّيَّةُ بْنُ صَفْوَانَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِالنَّبَاوَةِ  يَقُولُ: يُوشِكُ أَنْ تَعْلَمُوا خِيَارَكُمْ مِنْ شِرَارِكُمْ قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِالثَّنَاءِ الحسن والثناء السيء أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَرَ وَشُرَيْحٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ................... 
الطالب: فيه خطأ أيضًا أن يزيد بن هارون لم يكن شيخًا لأحمد في هذا الحديث أبدًا.... من المسند ليس فيها يزيد بن هارون على الإطلاق، وعبد الملك هو ابن عمرو أبو عامر العقدي شيخ أحمد فيه، وشريح خطأ وهو سريج بن يونس، وكذلك عن نافع عن ابن عمر خطأ أيضاً عن نافع بن عمر وهو الجمحي.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَرَ
الشيخ: صلحها عبد الملك بن عمرو بالواو.
..................وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عمرو وَشُرَيْحٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو قِلَابَةَ الرَّقَاشِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنِي أُمِّيَّةُ بْنُ صَفْوَانَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِالنَّبَاوَةِ  يَقُولُ: يُوشِكُ أَنْ تَعْلَمُوا خِيَارَكُمْ مِنْ شِرَارِكُمْ قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِالثَّنَاءِ الحسن والثناء السيء أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ
الشيخ: وهذا مثل ما تقدم في قوله: وجبت وجبت وجبت، أنتم شهداء الله في الأرض فالأخيار يعرفون بالثناء الحسن من أهل الخير والذكر الحسن من أهل الخير، والأشرار يعرفون بالثناء السوء وبالذم من أهل الخير لهم؛ ولهذا يعرف هؤلاء من هؤلاء ولا حول ولا قوة إلا بالله.
 وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عمرو وَسريج عَنْ نَافِعٍ ابْنِ عُمَرَ بِهِ.
 قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ، وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّمَا شَرَعْنَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ التَّوَجُّهَ أَوَّلًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ صَرَفْنَاكَ عَنْهَا إِلَى الْكَعْبَةِ لِيَظْهَرَ حَالُ مَنْ يَتَّبِعُكَ وَيُطِيعُكَ، وَيَسْتَقْبِلُ معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبه، أَيْ مُرْتَدًّا عَنْ دِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً، أَيْ هَذِهِ الْفَعْلَةُ وَهُوَ صَرْفُ التَّوَجُّهِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، أَيْ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ عَظِيمًا فِي النُّفُوسِ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَأَيْقَنُوا بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ الذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ فَلَهُ أَنْ يُكَلِّفَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ وَيَنْسَخَ مَا يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَإِنَّهُ كلما حدث أَمْرٌ أَحْدَثَ لَهُمْ شَكًّا كَمَا يَحْصُلُ لِلَّذِينِ آمَنُوا إِيقَانٌ وَتَصْدِيقٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَةِ:124-125]، وقال تعالى قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44].
الشيخ: وهذا من حكمة الله ومن عدله في عباده وفضله على أوليائه فالآيات كلما زادت زاد إيمان المؤمنين وسروا بذلك وانشرحت صدورهم، وهكذا إذا نسخ الله شيئًا بشيء انشرحت صدورهم وقبلوا الحق وانقادوا له بخلاف أصحاب القلوب المريضة؛ فإنهم يزدادون شكًا إلى شكهم وشرًا إلى شرهم وبلاء إلى بلائهم كما قال جل وعلا: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] فالاستعانة بالصبر والصلاة وأداء الصلاة والاستقامة على الأعمال الصالحات؛ شاق على أكثر الخلق؛ ولكنه ميسر لأولياء الله وأهل طاعته الذين هداهم الله فهم يستحضرون أوامر الله بالانشراح والنشاط والقبول والمحبة والتلذذ بذلك، ولهذا قال هنا في نفس القبلة وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة:143] يعني شاقة عظيمة إلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143] من شرح الله صدره قبلها بانشراح ومحبة ومزيد إيمان لأن الله يفعل ما يشاء ويصرف ما يشاء ويوجه عباده إلى ما يشاء سبحانه وتعالى.
 وَقَالَ تَعَالَى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الْإِسْرَاءِ:82]الشيخ: هذا القرآن العظيم ينفع الله به المؤمنين إلى كل خير ومع هذا لا يزيد الظالمين إلا خسارًا ! نعوذ بالله، واستكبار وتكذيب ولهذا قال: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ يعني ثقل وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44] كأنهم لا يسمعونه ولا يعقلونه ولا يبصرونه نعوذ بالله من هذه الحال.
وَلِهَذَا كَانَ مَنْ ثَبَتَ عَلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ ﷺ وَاتِّبَاعِهِ فِي ذَلِكَ وَتَوَجَّهَ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ من المهاجرين والأنصار هم الذين صلوا إلى الْقِبْلَتَيْنِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ  فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَا النَّاسُ يُصَلُونَ الصُّبْحَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ  فَقَالَ: قَدْ أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، فَتَوَجَّهُوا إِلَى الْكَعْبَةِ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَعِنْدَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا رُكُوعًا فَاسْتَدَارُوا كَمَا هُمْ إِلَى الْكَعْبَةِ وَهُمْ رُكُوعٌ، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ مِثْلَهُ، وَهَذَا يدل على كمال طاعتهم لله ولرسوله وَانْقِيَادِهِمْ لِأَوَامِرِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
الشيخ: يعني أنهم بادروا إلى قبول النسخ والاستدارة إلى الكعبة ولم يكن في صدورهم حرج ولا توقف.
وَقَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أَيْ صَلَاتُكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ ذلك ما كان يَضِيعُ ثَوَابُهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: مَاتَ قَوْمٌ كَانُوا يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ النَّاسُ: مَا حَالُهُمْ فِي ذَلِكَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَحَّحَهُ.الشيخ: وسمى هذه الصلاة إيمانًا؛ لأنهم فعلوها عن إيمان وتصديق ولهذا قال أهل السنة والجماعة: الإيمان قول وعمل وعقيدة يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وهو سبحانه لا يضيع إيمانهم في القبلة التي كانوا عليها إلى الشام، ولا يضيع صلاتهم إليها بل لهم أجورهم كاملة لأنهم امتثلوا أمر الله ثم جاء النسخ بعدهم.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أَيْ بِالْقِبْلَةِ الْأُولَى وَتَصْدِيقَكُمْ نَبِيَّكُمْ وَاتِّبَاعَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ الْأُخْرَى، أَيْ لِيُعْطِيُكُمْ أَجْرَهُمَا جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ مُحَمَّدًا ﷺ وَانْصِرَافَكُمْ مَعَهُ حيث انصرف إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى امْرَأَةً مِنَ السَّبْيِ قَدْ فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا فَجَعَلَتْ كُلَّمَا وَجَدَتْ صَبِيًّا مِنَ السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِصَدْرِهَا وهي تدور على ولدها، فما وَجَدَتْهُ ضَمَّتْهُ إِلَيْهَا وَأَلْقَمَتْهُ ثَدْيَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أن لا تَطْرَحَهُ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فو الله لله أرحم بعباده من هذه بولدها.
الشيخ: هو الرؤوف الرحيم وهو الرحمن ذو الرحمة الواسعة، والرحيم ذو الرحمة الخاصة لعباده أهل الإيمان وترون يحتمل الضم والفتح، ترون تعلمون- تعتقدون وترون.......
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ أَوَّلُ ما نسخ من القرآن القبلة، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، لما هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَكْثَرُ أَهْلِهَا الْيَهُودَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ فَكَانَ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ إِلَى قَوْلِهِ: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فارتابت مِنْ ذَلِكَ الْيَهُودُ وَقَالُوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:142] وَقَالَ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ:115] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [البقرة:143].
وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ الْعُمَرِيِّ عَنْ عَمِّهِ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عمر عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَفَعَ رَأْسَهَ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْكَعْبَةِ إِلَى الْمِيزَابِ يَؤُمُّ بِهِ جِبْرَائِيلُ .
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ قَطَّةَ
الشيخ: ....
الطالب: قمطة، قاف ميم طاء.....
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ قَمْطَةَ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بإزاء الميزاب فتلى هَذِهِ الْآيَةَ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها قَالَ: نَحْوَ مِيزَابِ الْكَعْبَةِ. ثُمَّ قَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ بن عرفة عن هشام عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ بِهِ..........
عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ بِهِ. وَهَكَذَا قَالَ غيره وهو أحد قولي الشافعي : إِنَّ الْغَرَضَ إِصَابَةُ عَيْنِ الكعبة، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّ الْمُرَادَ الْمُوَاجَهَةَ، كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عمير بن زياد الكندي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قَالَ شَطْرَهُ: قِبَلَهُ، ثُمَّ قَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِمْ. وَكَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ.الشيخ: وهذا هو نص القرآن، المقصود الجهة جهة الكعبة ولكن قبلة النبي ﷺ أصابت عين الكعبة لأنها ..... ولهذا قال جمع من أهل العلم أنها أصابت عين الكعبة وهو في المدينة، ..... كله هو الجهة حيث قال: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] والمدينة معلوم أنها جهة الشام شمال فتكون قبلتها الجنوب ما يقابل الميزاب من الجدار الشمالي ويكون في حق جميع الناس شطر إلا من كان قريبًا منها يراها فإنه يستقبل عينها، ومن كان بعيدًا عنها لا يراها يستقبل الجهة وكفى، ولهذا قال: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].
...................
الطالب: يقول يا شيخ عمير بن زياد هذا ماله ترجمة ووجدت صوابه عميرة بن زياد الكندي.
الشيخ: راجعت الحاكم؟
الطالب: راجعت الحاكم مكتوب فيه عمير بن زياد لكن تعبت فيه وما لقيت إلا عميرة بن زياد والثاني عميرة بن سعد. وهو من رجال الكتب الستة.
الشيخ: شوف التقريب.
الطالب: قال في التهذيب: عميرة بن سعد الهمداني اليماني أبو السكن الكوفي روى عن علي وأبي هريرة في بضع عشر رجلا من الصحابة وأبي سعيد وأنس روى عنه الزبير بن عدي وطلحة بن مصرف وعرار بن عبدالله بن سعيد اليمامي. قال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد القطان: لم يكن ممن يعتمد عليه، وذكره ابن حبان في الثقات. قلت: ذكر البخاري أن بعضهم سماه عميرا، قال: ولا يصح. وقال في التقريب: مقبول من الثالثة روى له النسائي.
الشيخ: ذكر أن بعضهم سماه عميرًا؟
الطالب: نعم.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : رَوَى ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: البيت قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْحَرَمِ وَالْحَرَمُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ فِي مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا مِنْ أُمَّتِي.

وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ وَأَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْعَصْرِ وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يُصَلِّي مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ مَكَّةَ فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحِبُّ أَنْ يُحَوَّلَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَنَزَلَتْ قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَصُرِفَ إِلَى الْكَعْبَةِ.
وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَى قَالَ: كُنَّا نَغْدُو إِلَى الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَنُصَلِّي فِيهِ فَمَرَرْنَا يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَاعِدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقُلْتُ: لَقَدْ حَدَثَ أَمْرٌ فَجَلَسْتُ، فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ، فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: تَعَالَ نَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَنَكُونَ أَوَّلَ من صلى، فتوارينا فصليناهما. ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ وصلّى لِلنَّاسِ الظُّهْرَ يَوْمَئِذٍ.
وَكَذَا رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رسول الله ﷺ إلى الْكَعْبَةِ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَأَنَّهَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَاهَا إِلَى الْكَعْبَةِ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَلِهَذَا تَأَخَّرَ الْخَبَرُ عَنْ أَهْلِ قُبَاءَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ.

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، حَدَّثَنَا رَجَاءُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّقَطِيُّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِدْرِيسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ أَبِيهِ نُوَيْلَةَ بِنْتِ مُسْلِمٍ قَالَتْ: صَلَّيْنَا الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ فِي مَسْجِدِ بَنِي حَارِثَةَ فَاسْتَقْبَلْنَا مَسْجِدَ إِيلِيَاءَ فَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ مَنْ يُحَدِّثُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدِ اسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ فَتَحَوَّلَ النِّسَاءُ مَكَانَ الرِّجَالِ وَالرِّجَالُ مَكَانَ النِّسَاءِ، فَصَلَّيْنَا السَّجْدَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ وَنَحْنُ مُسْتَقْبِلُونَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، فَحَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: أُولَئِكَ رِجَالٌ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.
وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النَّهْدِيُّ حَدَّثَنَا قيس عن زياد بن علاقة عَنْ عُمَارَةَ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الصَّلَاةِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَنَحْنُ رُكُوعٌ إذ نادى مُنَادٍ بِالْبَابِ: أَنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَ فَأَشْهَدُ عَلَى إِمَامِنَا أَنَّهُ انْحَرَفَ فَتَحَوَّلَ هُوَ وَالرِّجَالُ وَالصِّبْيَانُ وَهُمْ رُكُوعٌ نَحْوَ الكعبة.
وقوله: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أَمَرَ تَعَالَى بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْأَرْضِ شَرْقًا وَغَرْبًا وَشَمَالًا وَجَنُوبًا، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا شَيْءٌ سِوَى النَّافِلَةِ فِي حَالِ السَّفَرِ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا حَيْثُمَا تَوَجَّهَ قَالَبُهُ وَقَلْبُهُ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، وَكَذَا فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ فِي الْقِتَالِ يُصَلِّي عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَكَذَا مَنْ جَهِلَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ يُصَلِّي بِاجْتِهَادِهِ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.

الشيخ: ويلحق بهذا حال الرابعة وهي ما إذا كان عاجزًا عن القبلة كالمصلوب والمريض الذي ليس عنده من يوجهه إلى القبلة فإنه يصلي على حسب حاله؛ لقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] هذه الأحوال الأربع يصلي فيها الإنسان إلى غير القبلة.
الحالة الأولى: المسافر إذا تنفل يصلي إلى جهة الطريق، يصلي على راحلته إلى جهة طريقه كما فعل النبي ﷺ.
الحالة الثانية: عند شدة القتال والمسايفة يصلي حيثما كان وجهه فإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239].
الحالة الثالثة: إذا اشتبهت عليه القبلة واجتهد وتحرى ثم بان أنه مخطئ وأنه صلى إلى غير القبلة فصلاته صحيحة لاجتهاده، كما أنه لما صلوا أول الصلاة إلى الشام ثم تحولت القبلة فصحت صلاتهم؛ لأنهم لم يعلموا إلا في أثناء صلاتهم.
الحالة الرابعة: من عجز عن القبلة كالمربوط الأسير الذي ربط على خشبة أو على غيرها إلى غير القبلة، لا يستطيع أن يصلي إلى القبلة، أو مريض على سريره عاجز على سريره ليس عنده من يوجهه إلى القبلة؛ فإنه يصلي على حسب حاله ولا يترك الصلاة بل يصليها في الوقت على حسب حاله لأن الله يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:  إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم.
..............
[مَسْأَلَةٌ] وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْظُرُ أَمَامَهُ لَا إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وأحمد وأبو حنيفة، قال المالكية بقوله: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَلَوْ نَظَرَ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ لَاحْتَاجَ أَنْ يَتَكَلَّفَ ذَلِكَ بِنَوْعٍ مِنَ الِانْحِنَاءِ وَهُوَ يُنَافِي كَمَالَ الْقِيَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْظُرُ الْمُصَلِّي فِي قِيَامِهِ إِلَى صَدْرِهِ.
وَقَالَ شَرِيكٌ الْقَاضِي: يَنْظُرُ فِي حَالِ قِيَامِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ كَمَا قَالَ جُمْهُورُ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْخُضُوعِ وَآكَدُ فِي الْخُشُوعِ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَأَمَّا فِي حَالِ رُكُوعِهِ فَإِلَى مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ، وَفِي حَالِ سُجُودِهِ إِلَى مَوْضِعِ أَنْفِهِ وَفِي حَالِ قُعُودِهِ إِلَى حِجْرِهِ.
الشيخ: وهذا الذي قاله المؤلف في موضع النظر حال القيام هو الذي عليه الجمهور أنه ينظر في مكان سجوده وليس في الآية حجة على أنه ينظر أمامه، المقصود الاستقبال هذا المقصود فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] معناها استقبلوا الجهة التي فيها الكعبة وليس المراد أن يكون نظره إلى الجهة التي أمامه بل السنة أن يكون نظره إلى موضع السجود؛ لأنه أقرب إلى الخشوع وأجمع للقلب.
وأما قوله وفي حال الركوع إلى موضع قدميه فهذا فيه نظر! لأن حال الركوع مثل حال القيام ينظر إلى موضع سجوده لا إلى موضع قدميه؛ لأنه إذا نظر إلى موضع قدميه صار غير مستو مع ظهره، والسنة أن يكون رأسه حيال ظهره .... موضع سجوده حتى في حال الركوع، ولا نعلم أصلاً لهذا القول أنه ينظر إلى موضع قدميه حال الركوع الراكع كالقائم ينظر إلى موضع سجوده، والجالس ينظر إلى موضع إشارته يعني يديه.
الحاصل أنه في حال الركوع والقيام ينظر إلى موضع سجوده وفي حال السجود على كل حال ينظر موضع سجوده وفي حال جلوسه ينظر إلى إشارته موضع يديه.
وكل هذا أقرب إلى الخشوع وليس واجبًا لكنه من باب الحماية والعناية بالخشوع.
......وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أَيْ وَالْيَهُودُ الذين أنكروا استقبالكم وَانْصِرَافَكُمْ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُوَجِّهُكَ إِلَيْهَا بِمَا فِي كُتُبِهِمْ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ مِنَ النَّعْتِ وَالصِّفَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأُمَّتِهِ، وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَشَرَّفَهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَلَكِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَتَكَاتَمُونَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ حَسَدًا وكفرا وعنادا ولهذا تهددهم تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَعِنَادِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ عَلَيْهِمْ كُلَّ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ لَمَا اتَّبَعُوهُ وَتَرَكُوا أَهْوَاءَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُسَ:96- 97] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ
الشيخ: وهذا لشدة عنادهم وخبثهم وأنهم والعياذ بالله طبعهم اتباع الهوى والعناد للحق وإيثار باطلهم على عند ما غيرهم من الحق ليحفظوا بزعمهم لأنفسهم رئاستهم ومآكلهم واستقلالهم، وهذا هو هلاكهم وعين هلاكهم ونعوذ بالله حملهم البغي والهوى والتكبر واتباع الهوى وإيثار الدنيا على الآخرة، هذا العناد للرسل ومخالفة الرسل ولاسيما خاتمهم عليه الصلاة والسلام، ولهذا قل أن تجد يهوديًا أن يسلم من أندر النادر إسلام اليهودي؛ لما في قلوبهم من الحقد والخبث والشر والفساد وكراهة الحق والعناد له، أما النصارى فكثير منهم ألين قلوبًا وأقرب إلى الحق كما بين الله جل وعلا في كتابه الكريم ذلك: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82] وقبلها قال سبحانه: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة:82] فالمقصود أن النصارى أقرب والمسلمون فيهم أكثر، ولهذا قل يوم وقل شهر وقل عام إلا ويسلم فيه جم غفير والآن في هذه البلاد لا نحصي من أسلم من النصارى في الغالب كل يوم يأتي من يسلم من النصارى من الفلبين ومن لبنان ومن أمريكا ومن سائر أنواع النصارى .......، أما اليهود فلا، فلذلك هم أبعد الناس عن الحق نسأل الله العافية.
 وَقَوْلُهُ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ إِخْبَارٌ عَنْ شِدَّةِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ ﷺ لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَأَنَّهُ كَمَا هُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِآرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، فَهُوَ أَيْضًا مُسْتَمْسِكٌ بِأَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَرْضَاتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَّبِعُ أَهْوَاءَهُمْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ولا كونه متوجها إلى بيت المقدس لكونها قِبْلَةُ الْيَهُودِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تعالى، ثم حذر تَعَالَى عَنْ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ الذِي يَعْلَمُهُ الْعَالِمُ إِلَى الْهَوَى، فَإِنَّ الْعَالِمَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَقْوَمُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى مُخَاطِبًا لِلرَّسُولِ وَالْمُرَادُ به الأمة وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ.الشيخ: وهذا يدل أن اتباع الهوى هلاك ...... صاحبه معدود من الظلمة لاتباعه الباطل وإيثاره على الحق فصار ظالماً أن وضع......  في غير مواضعها نسأل الله العافية، ولهذا قال في الآية الأخرى وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26] وقال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50] المعنى لا أحد أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وفي هذا التحذير من اتباع الهوى وإيثاره على الحق، وأن الواجب على المؤمن أن يخالف هواه لطاعة ربه وأن يقدم الحق ويؤثر الحق وإيثاره على هواه وهوى أبيه وهوى أمه وهوى زوجته وهوى أقربائه وهوى أصدقائه، الحق مقدم على الجميع هذا هو الواجب على كل مكلف إذا عرف الحق وجب عليه إيثاره والأخذ به، وترك ما خالفه، وإن قال به من قال من الناس وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:145] ففي هذا تحذير وتنفير من الباطل ومن اتباع الهوى؛ ولو قال به من قال به من العظماء والفضلاء والأقارب وغيرهم نسأل الله السلامة والعافية.
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۝ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ، يَعْرِفُونَ صِحَّةَ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ كَمَا يَعْرِفُ أَحَدُهُمْ وَلَدَهُ، وَالْعَرَبُ كَانَتْ تَضْرِبُ الْمِثْلَ فِي صِحَّةِ الشَّيْءِ بِهَذَا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِرَجُلٍ مَعَهُ صَغِيرٌ ابْنُكُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَشْهَدُ بِهِ، قَالَ أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ ولا تجني عليه.
..............  
الشيخ: يعني الإنسان لا يجني على ولده ولا ولده يجني عليه كما قال تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] فإذا عصى الوالد فإثمه عليه، وإذا عصى الولد إثمه، ومن قتل والده إثمه عليه، ومن قتل ولده إثمه عليه، فلا يؤخذ الوالد بولده ولا ولد بوالده، لا في المعصية التي لله، ولا في المعصية التي للمخلوقين كل ذنبه عليه وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164].
قال القرطبي: ويروى عن عمر أنه قَالَ لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: أَتَعْرِفُ مُحَمَّدًا كما تعرف ولدك؟ قَالَ، نَعَمْ وَأَكْثَرَ، نَزَلَ الْأَمِينُ مِنَ السَّمَاءِ على الأمين في الأرض بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه.
(قُلْتُ) وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ من بين أبناء الناس كلهم، لا يشك أحد ولا يمتري في معرفة ابنه إذا رآه من أَبْنَاءِ النَّاسِ كُلِّهِمْ.
الشيخ: اليهود كفروا عن بصيرة لا عن جهل كفروا وكذبوا عن بصيرة وعن علم لا عن جهل لذلك قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] فهم يكتمون الحق عن علم وعن حسد وعن بغي.
وهكذا من شابههم من علماء السوء في هذه الأمة وقبلها من الأمم هو من جنس اليهود، من كتم العلم بهوى أو برشوة أو غير هذا صار مشابهًا لليهود وعمل عملهم، نسأل الله الهداية، ومن تشبه بقوم فهو منهم، فالواجب على من لديه علم أن يعمل بعلمه وأن يتقي الله بذلك، وأن لا يؤثر الحق العاجل برشوة أو قرابة أو عداوة أو غير ذلك على حق الله وحكمه فاليهود من هذا الصنف، ممن آثر الدنيا على الآخرة وممن آثر الهوى ...... الحق، نسأل الله العافية.
 ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا التَّحَقُّقِ وَالْإِتْقَانِ الْعِلْمِيِّ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ أَيْ لَيَكْتُمُونِ النَّاسَ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، ثم ثبت تعالى نبيه ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ هُوَ الْحَقُّ الذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ، فَقَالَ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.الشيخ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الحق خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا الحق يعني هذا الذي جئت به من دعوة الناس لتوحيد الله واتباع رسوله وتصديق الرسل والإيمان بالآخرة إلى غير هذا هو الحق الذي لا ريب فيه ولا شك فيه فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ لا تكونن أنت وهكذا الأمة كلها لمن تعلم هذا وألا تمتري فيه، وما جاء به من توحيد الله وطاعته وما شرع من الأحكام فرضًا أو تحريمًا أو غير ذلك من الأحكام كله الحق من الله فالواجب التصديق والتيقن والثبات وعدم الريب.
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا يَعْنِي بذلك أهل الأديان، يقول لكل قبيلة قِبْلَةٌ يَرْضَوْنَهَا وَوِجْهَةُ اللَّهِ حَيْثُ تَوَجَّهَ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لِلْيَهُودِيِّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا، وَلِلنَّصْرَانِيِّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا، وَهَدَاكُمْ أَنْتُمْ أَيَّتُهَا الأمة إلى القبلة التِي هِيَ الْقِبْلَةُ.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالضَّحَّاكِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالسُّدِّيِّ نَحْوَ هَذَا، وقال مجاهد في الرواية الأخرى والحسن: أَمَرَ كُلَّ قَوْمٍ أَنْ يُصَلُّوا إِلَى الْكَعْبَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ وَابْنُ عامر ولكل وجهة هو مولاها، وَهَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً[الْمَائِدَةِ:48] وقال هاهنا أيْنَما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى جَمْعِكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِنْ تَفَرَّقَتْ أَجْسَادُكُمْ وأبدانكم.
الشيخ: وظاهر الآية العموم وأن كل إنسان أو كل طائفة لها وجهة طائفة في حق واتباع الرسل ووجهتهم ما جاءت به الرسل، وطائفة وجهتهم اتباع أهوائهم، وكل له وجهة لكن من رزقه الله الهدى ومَنَّ عليه بالتوفيق صارت وجهته في الحق أينما دار الحق فهو يدور معه، ومن حرم صارت وجهته اتباع هواه أينما دار هواه دار معه في حق أو باطل كما قال بعدها: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148] يعني إن علمتم أن كل واحد له وجهة وكل قرية لها وجهة ...... فاستبقوا الخيرات ومتى علمتم بشرع الله الذي أنزله على هذا النبي العظيم فاستبقوا أي سارعوا إليها، واحرصوا على اغتنامها، والله يجمعكم يوم القيامة أينما كنتم ولن يفلت منه أحد وهو محيط بهم وقادر عليهم، فبيده تصريف شؤونهم ، فالله جل وعلا يجمعهم أينما كانوا ويجازيهم بأعمالهم أينما كانوا فلا يظن أحد أنه يفلت من الله، وأنه ينسى فهو معروف ويحصى عليه عمله ولا بدّ أن يحشر مع الناس ولا بدّ أن يجازى يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن:9] وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31] قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ۝ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:49، 50] فلا ينبغي للعاقل أن يغفل عن هذا أو ينسى هذا ! بل يجب أن يكون على باله وأن يعد له عدته.

مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۝ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
هَذَا أَمْرٌ ثَالِثٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِاسْتِقْبَالِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حِكْمَةِ هَذَا التَّكْرَارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقِيلَ، تَأْكِيدٌ لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَاسِخٍ وَقَعَ فِي الإسلام على ما نص فيه ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مُنَزَّلٌ عَلَى أَحْوَالِ، فَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ لِمَنْ هُوَ مُشَاهِدٌ الْكَعْبَةَ، وَالثَّانِي لِمَنْ هُوَ فِي مَكَّةَ غَائِبًا عَنْهَا، وَالثَّالِثُ لِمَنْ هُوَ فِي بَقِيَّةِ الْبُلْدَانِ، هَكَذَا وَجَّهَهُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَوَّلُ لِمَنْ هُوَ بِمَكَّةَ، وَالثَّانِي لِمَنْ هُوَ فِي بَقِيَّةِ الْأَمْصَارِ، وَالثَّالِثُ لِمَنْ خَرَجَ فِي الْأَسْفَارِ، وَرَجَّحَ هَذَا الْجَوَابَ الْقُرْطُبِيُّ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِتَعَلُّقِهِ بِمَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ مِنَ السِّيَاقِ، فَقَالَ أَوَّلًا: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [الْبَقَرَةِ:144] إِلَى قَوْلِهِ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة:144] فَذَكَرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِجَابَتَهُ إِلَى طَلَبَتِهِ وَأَمْرِهِ بِالْقِبْلَةِ التِي كَانَ يَوَدُّ التَّوَجُّهَ إِلَيْهَا وَيَرْضَاهَا، وَقَالَ فِي الْأَمْرِ الثَّانِي: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فذكر أنه الحق من الله وارتقاءه الْمَقَامِ الْأَوَّلِ، حَيْثُ كَانَ مُوَافِقًا لِرِضَا الرَّسُولِ ﷺ فَبَيَّنَ أَنَّهُ الْحَقُّ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ يُحِبُّهُ وَيَرْتَضِيهِ، وَذَكَرَ فِي الْأَمْرِ الثَّالِثِ: حِكْمَةُ قَطْعِ حُجَّةِ الْمُخَالَفِ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَجَّجُونَ بِاسْتِقْبَالِ الرَّسُولِ إِلَى قِبْلَتِهِمْ وَقَدْ كَانُوا يَعْلَمُونَ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ سَيُصْرَفُ إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَكَذَلِكَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ انْقَطَعَتْ حُجَّتُهُمْ لَمَّا صُرِفَ الرَّسُولُ ﷺ عَنْ قِبْلَةِ الْيَهُودِ إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ التِي هِيَ أَشْرَفُ، وَقَدْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ الْكَعْبَةَ وَأَعْجَبَهُمُ استقبال الرسول إِلَيْهَا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْوِبَةِ عَنْ حكمة التكرار، وقد بسطها الرازي وغيره، والله أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ أَيْ: أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مِنْ صِفَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ التَّوَجُّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَإِذَا فَقَدُوا ذَلِكَ مِنْ صِفَتِهَا رُبَّمَا احْتَجُّوا بِهَا عَلَى المسلمين، ولئلا يَحْتَجُّوا بِمُوَافَقَةِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهَذَا أَظْهَرُ.
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ يَعْنِي بِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ حِينَ قَالُوا: صُرِفَ مُحَمَّدٌ إِلَى الْكَعْبَةِ. وَقَالُوا: اشْتَاقَ الرَّجُلُ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ وَدِينِ قَوْمِهِ وَكَانَ حُجَّتُهُمْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ انْصِرَافَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، أَنْ قَالُوا، سَيَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا كَمَا رَجَعَ إلى قبلتنا.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالضَّحَّاكِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ نَحْوَ هَذَا، وَقَالَ هَؤُلَاءِ فِي قَوْلِهِ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ يَعْنِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ.
وَوَجَّهَ بَعْضُهُمْ حُجَّةَ الظَّلَمَةِ وَهِيَ دَاحِضَةٌ، أَنْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّجُلُ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَلَى دِينِ إبراهيم، فإن كان توجهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم فلم يرجع عَنْهُ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ لَهُ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلًا لِمَا لَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، فَأَطَاعَ رَبَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ ثُمَّ صَرَفَهُ إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ وَهِيَ الْكَعْبَةُ، فَامْتَثَلَ أَمْرَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، فَهُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأُمَّتُهُ تَبَعٌ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي أَيْ لَا تَخْشَوْا شُبَهَ الظَّلَمَةِ الْمُتَعَنِّتِينَ وَأَفْرِدُوا الْخَشْيَةَ لِي، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُخْشَى مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ عَطْفٌ عَلَى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، أي، لأتم نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِيمَا شَرَعْتُ لَكُمْ مِنَ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، لِتَكْمُلَ لَكُمُ الشَّرِيعَةُ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهَا وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أَيْ إِلَى مَا ضَلَّتْ عَنْهُ الْأُمَمُ هَدَيْنَاكُمْ إِلَيْهِ وَخَصَصْنَاكُمْ بِهِ، وَلِهَذَا كَانَتْ هذه الأمة أشرف الأمم وأفضلها.
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ۝ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ
يُذَكِّرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بِعْثَةِ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ ﷺ إِلَيْهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ، وَيُزَكِّيهِمْ، أَيْ يُطَهِّرُهُمْ مِنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَدَنَسِ النُّفُوسِ وَأَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلَمَاتِ إِلَى النُّورِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَالْحِكْمَةَ وَهِيَ السُّنَّةُ، وَيُعَلِّمُهُمْ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ
الشيخ: هذه من نعم الله  العظيمة أن الله أرسل محمدًا ﷺ لهذه الأمة، .... من الجهالة والضلالة ..... يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم بدعوتهم إلى الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة والخصال الحميدة، ويعلمهم الكتاب وهو القرآن العظيم، والحكمة وهي سنته وأحاديثه عليه الصلاة والسلام، ويعلمهم مالم يكونوا يعلمون من أحكام الله وشرع الله ودينه، وما جاءت به الرسل الماضون وما دعوا إليه ....... وغير هذا مما جاء به عليه الصلاة والسلام كل ذلك فيه الهداية والتزكية والدعوة إلى الخير كما قال جل وعلا: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2] فهذه من نعم الله العظيمة.
وأخرج الإمام أحمد رحمه الله بسند جيد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ أنه قال: إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق  قال الحافظ... رواه.... بلفظ: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق والله بعثه ليتمم مكارم الأخلاق وصالح الأخلاق بأقواله وأعماله بأعمال القلوب وأعمال الجوارح حتى يسير العباد على غاية من الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة والصفات الحميدة التي يرضاها الله منهم ويحصل بها لهم الخير والاستقامة وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، فهكذا بين لهم ودعاهم ووضح لهم عليه الصلاة والسلام فدعاهم إلى كل خير ونهاهم عن كل شر، وجاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ما بعث الله من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن هذه الأمة جعلت عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، فتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي، ثم تجيء فتنة فيقول: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت الناس ما يحب أن يؤتى إليه يعني يستقيم على الإيمان بالله واليوم والآخر وليتقي الله ويعامل الناس بمثل ما يحب أن يعاملوه به من النصح والصدق وإيصال الخير وكف الشر هكذا يجب على المؤمن أن يجمع بين الأمرين بين الإيمان بالله واليوم الآخر وأداء حقه سبحانه وبين النصح للعباد حتى يعاملهم كما يحب أن يعاملوه بالصدق وأداء الأمانة والحرص على كل خير وترك كل شر، هكذا يجب على أهل الإيمان أداء حق الله وأداء حق عباده فهؤلاء هم الصالحون هم عباد الله الصالحون الذين أدوا حق الله وأدوا حق عباده.
 فَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْجَهْلَاءَ يسفهون بالعقول الغراء،
..............  
 فَانْتَقَلُوا بِبَرَكَةِ رِسَالَتِهِ، وَيُمْنِ سِفَارَتِهِ، إِلَى حَالِ الْأَوْلِيَاءِ، وَسَجَايَا الْعُلَمَاءِ. فَصَارُوا أَعْمَقَ النَّاسِ عِلْمًا، وَأَبَرَّهُمْ قُلُوبًا، وَأَقَلَّهُمْ تَكَلُّفًا، وَأَصْدَقَهُمْ لَهْجَةً. وَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ [آلِ عِمْرَانَ:164]، وَذَمَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ [إِبْرَاهِيمَ:28] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِنِعْمَةِ اللَّهِ مُحَمَّدًا ﷺ، وَلِهَذَا نَدَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَمُقَابَلَتِهَا بِذِكْرِهِ وشكره، وقال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ، فِي قَوْلِهِ: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَقُولُ: كَمَا فَعَلْتُ فَاذْكُرُونِي، قَالَ عَبْدُ الله بن وَهْبٍ: عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَشْكُرُكَ؟ قَالَ لَهُ رَبُّهُ: «تَذْكُرُنِي وَلَا تَنْسَانِي، فَإِذَا ذَكَرْتَنِي فَقَدْ شَكَرْتَنِي، وإذا نسيتني فقد كفرتني» قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّ اللَّهَ يَذْكُرُ مَنْ ذَكَرَهُ وَيَزِيدُ من شكره وَيُعَذِّبُ مَنْ كَفَرَهُ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آلِ عِمْرَانَ:102] قَالَ، هُوَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ.
الشيخ: وهذا ثابت عن ابن مسعود في قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آلِ عِمْرَانَ:102] قال: أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر، لعله رواه مرفوعًا إلى النبي ﷺ كما في ...... من حديث ابن مسعود وهذا هو الواجب على أهل الإيمان أن يطيعوه فلا يعصوه وأن يذكروه فلا ينسوه وأن يشكروا نعمه ولا يكفروها، وقد أنعم عليهم ببعث الرسل وإنزال الكتب وأنعم عليهم بالتوفيق للإيمان والهداية؛ فوجب أن يشكروه بطاعته وترك معصيته والإكثار من ذكره يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ۝ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ۝ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:41-43] فهذا هو الواجب على أهل الإيمان أن يذكروه في القلوب والألسنة والأعمال لا باللسان فقط، بالقلب واللسان والعمل، ذكر الشاكر ذكر المنيب ذكر الصادق ذكر المخلص لله الذي يرجو رحمته ويخشى عقابه .
وفي الحديث يقول الرب جل وعلا: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم
..............
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا عمارة الصيدلاني، أخبرنا مَكْحُولٌ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: أَرَأَيْتَ قَاتِلَ النَّفْسِ وَشَارِبَ الْخَمْرِ وَالسَّارِقَ وَالزَّانِي يَذْكُرُ اللَّهَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ؟ قَالَ: إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ هَذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ بِلَعْنَتِهِ حَتَّى يَسْكُتَ.الشيخ: عمارة الصيدلاني قال عنه شيء؟
الطالب: قال: عمارة ابن زاذان الصيدلاني أبو سلمة البصري صدوق كثير الخطأ من السابعة أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، والترمذي والنسائي... ابن ماجه.
الشيخ: ............... هذا فيه نظر، والآية عامة، وقد يذكر الله ويمن الله عليه بالتوبة لأسباب الذكر وإن كان عاصيًا، فإذا أكثر من ذكر الله قد يكون من ثواب الله له أن يمن عليه بالتوبة وأن يذكره فيهديه ويصلح قلبه ويغرس في قلبه تعظيم الله وخوفه، وهذا لا يصح عن ابن عمر ولا يليق عن ابن عمر.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ قَالَ: اذْكُرُونِي فِيمَا افْتَرَضْتُ عَلَيْكُمْ أَذْكُرْكُمْ فِيمَا أَوْجَبْتُ لَكُمْ عَلَى نَفْسِيالشيخ: ....... ذكر الله من جميع الناس العاصي والمؤمن، ينبغي للجميع أن يذكروا الله، ولكن من المؤمن أكثر لأن منة الله عليه أكبر، فينبغي أن تكون أذكاره لله أكثر من غيره؛ لأن الله هداه بمنته العظيمة، وأما العصاة فيجب عليهم أن يتوبوا إلى الله وأن ينوبوا ويشرع لهم الإكثار من ذكر الله لعل الله يمن عليهم بالهداية .....
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: اذْكُرُونِي بِطَاعَتِي أَذْكُرْكُمْ بِمَغْفِرَتِي، وَفِي رِوَايَةٍ، بِرَحْمَتِي.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عبدالرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قَالَ اللَّهُ : يَا ابْنَ آدَمَ، إِنْ ذَكَرْتَنِي في نفسك ذكرتك في نفسي، إن ذَكَرْتَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُكَ فِي مَلَأٍ مِنَ الملائكة- أو قال، في ملأ خير منه- وَإِنْ دَنَوْتَ مِنِّي شِبْرًا دَنَوْتُ مِنْكَ ذِرَاعًا، وَإِنْ دَنَوْتَ مِنِّي ذِرَاعًا دَنَوْتُ مِنْكَ بَاعًا، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة صَحِيحُ الْإِسْنَادِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، وَعِنْدَهُ قَالَ قَتَادَةُ: اللَّهُ أَقْرَبُ بِالرَّحْمَةِ.
الشيخ: .....