03 من حديث (بعث رسول الله ﷺ سرية, فأمرهم أن يمسحوا على العصائب..)

...... وعن ثوبان مولى رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: بعث النبي ﷺ سريةً لجهاد الأعداء، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب -يعني: العمائم- والتَّساخين -يعني: الخفاف- خرَّجه أحمد وأبو داود، وصحَّحه الحاكم.

هذا من دلائل المسح على الخفَّين والعمائم، وأنها من السنة كما تقدم في حديث المغيرة بن شعبة، وحديث صفوان، وحديثي عليٍّ رضي الله تعالى عنه، الأحاديث الأربعة المتقدمة كلها تدل على شرعية المسح على الخفاف، وتقدم لك أنه قول أهل السنة والجماعة، وأنه جاء فيه من السنة من الأقوال والأفعال ما يُقارب سبعين أثرًا وحديثًا، وأنه من الأمور المتواترة الثابتة عن رسول الله، والتي تلقَّاها أهل السنة بالقبول، وعدوها في العقائد من أجل خلاف الشيعة الذين أنكروا المسح.

وفي هذا ما يُؤيد ما تقدم من شرعية المسح على الخفَّين، وهي التَّساخين، جمع تسخان، مثل: تماثيل جمع تمثال، والأخفاف لها أسماء: الخفين والموقين والتَّساخين وغير ذلك من الأسماء الجديدة: الزرابيل والجرموقين.

فالمقصود أنها تُسمَّى بعدة أسماء، وبعضهم يجعل بينها وبين بعضها اختلافًا في الصِّفات يجمعها أنها من الجلد، بخلاف الجوارب فإنها من القطن أو الصوف، أما الأخفاف والتَّساخين والموق وأشباهها فكلها من الجلد، ولكن بعضها يكون ضافيًا كثيرًا، وبعضها يكون بقدر ما يستر الكعبين، تختلف في صفاتها وكيفياتها، مع كونها مجتمعةً في حدِّ ذاتها على أنها تستر القدمين مع الكعبين، ويُتَّقى بها برد الأرض وحرها، ويُتَّقى بها الأشواك التي في الأرض، والوعورة في الأرض.

والجوربان كذلك تقوم مقامها مع النَّعلين في اتِّقاء حرِّ الأرض وبردها ونحو ذلك، وتقدم أنه ثبت عنه ﷺ أنه مسح على الجوربين والنَّعلين، ومسح على ذلك جماعةٌ من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وهو الحق، خلافًا لمن أنكر ذلك.

وأما العصائب فهي العمائم، سُميت عصائب لأنها تُدار على الرأس، كل ما أدرته على شيءٍ فهي عصابة.

والمشهور عند العلماء أنَّ العصائب التي تُمسح هي التي تحنّك: تُدار على الحنك، فهي محنَّكة، بخلاف العصائب التي مثل الطاقية على الرأس فقط، فيُقال لها: مقطعة، هذه لا يُمسح عليها؛ لأنها ليست من العمائم المعروفة عند العرب؛ ولأنه لا يشقّ نزعها، فإنَّ نزعها أسهل شيءٍ، بخلاف التي تُدار وتُربط على الرأس فإنه قد يشقّ على صاحبها حلُّها وتعوقه بعض الشيء، كما أنَّ خلع الخفين فيه بعض المشقة، فرحم الله عباده وشرع المسح تخفيفًا وتيسيرًا.

والحديث ليس فيه ذكر التوقيت، لكن تقدم ذكر التوقيت في حديث عليٍّ وصفوان كما تقدم.

الحديث التاسع والستون: وعن عمر موقوفًا، وعن أنسٍ مرفوعًا: إذا توضأ أحدُكم ولبس خُفَّيه فليمسح عليهما، وليُصلِّ فيهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابةٍ أخرجه الدَّارقطني والحاكم وصحَّحه.

الشرح الأول: والحديث الثاني حديث عمر وأنس، عمر موقوف عليه في المسح على الخفَّين، وأنس مرفوعًا إلى النبي ﷺ.

إذا قيل (موقوف) فالمراد أنه من كلام الصحابي، ليس من كلام النبي، هذه قاعدة، أهل الحديث إذا قيل: جاء الخبرُ عن فلانٍ موقوفًا، يعني: من كلامه، عن عمر موقوفًا، عن أنس موقوفًا، أي: من كلامه.

وإذا قيل: مرفوعًا أو روايةً أو يَنميه أو يَبلغ به؛ فالمراد به أنه مرفوعٌ إلى النبي، كما قال الحافظُ العراقي رحمه الله:

وقولهم يرفعه يبلغ به روايةً يَنْميه رفعٌ فانتبه

المقصود أنَّ أئمة الحديث ذكروا هذه الكلمات في المصطلح للرفع، فإذا قيل: موقوفًا أو وقفه على فلانٍ أو قصره على فلانٍ، يعني من كلامه.

إذا توضَّأ أحدُكم رُوي هذا اللفظ موقوفًا ومرفوعًا: إذا توضأ أحدُكم فلبس خُفَّية فليُصَلِّ فيهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابةٍ.

هذا يدل على أنَّ المسح إنما يكون بعد الوضوء، بخلاف الذي يلبسهما على طهارةٍ فإنه لا يمسح، وقد تقدم هذا لقوله للمُغيرة، فإنَّ النبي ﷺ قال: فإني أدخلتُهما طاهرتين، فشرط المسح أن يكون لبسهما على طهارةٍ، فإذا لبسهما على طهارةٍ فإنه يمسح عليهما ويُصلِّي فيهما؛ فضلًا من الله ورحمةً منه وتيسيرًا وتسهيلًا، ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابةٍ.

وإن شاء لبيان أنه ليس بواجبٍ، لو خلع فلا بأس به، لكن إذا أبقاهما مدة المسح فلا بأس من باب التَّيسير والرفق، وإن خلعهما وأحبَّ أن يغسل رجليه قبل أن تتم المدة فلا بأس، فلو لبسها مثلًا الضحى، ومسح عليهما الظهر والعصر، ثم أحبَّ أن يخلعها العصر لا بأس، فهو مُخيَّر: إن شاء كمل المدة، وإن شاء خلع؛ ولهذا قال: ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابةٍ يعني: لا يخلعهما مدة المسح إن شاء إلا من جنابةٍ، أما الجنابة فلا بدَّ من الخلع، وهكذا الحيض والنفاس لا يمسح الخفَّين ولا العمامة في الجنابة.

وتقدم هذا في حديث صفوان بن عسال: ولكن من غائطٍ وبولٍ ونومٍ المسح يكون في الغائط والبول، يعني: من الحدث الأصغر، أما لو تطهرت الحائضُ والنفساء قبل الحيض، وقبل النفاس، ولبست خُفَّيها على طهارةٍ، ثم حاضت أو ثم نُفست ثم طهرت فلا تغتسل والخفَّان في رجليها، لا بدَّ من خلعهما، وإن كان هذا لا يقع؛ لأنَّ الحيض يتجاوز المدة في الغالب -مدة ثلاث أيام في السفر- والنفاس أكثر وأكثر، ولكنه قد يقع هذا في الحيض؛ مثلًا قد تلبس ثم تحيض، ويكون حيضها يومين فتطهر، فتحتاج الغسل اليوم الثالث، والمدة لم تتم؛ تخلع، يعني: في السفر، لكن الذي يقع كثيرًا الجنابة؛ ولهذا ذكر الجنابةَ عليه الصلاة والسلام؛ لأنها هي التي تقع في حقِّ المسافر وغير المسافر، فبين ﷺ أنه يخلع ولا يمسح للجنابة.

والحديث هذا ليس فيه التَّوقيت مثل حديث ثوبان، لكن هذه مطلقة، وحديث عليٍّ المتقدم وحديث صفوان فيها التَّقييد بالتَّوقيت.

وهكذا حديث أبي بكرةَ الثَّقفي، واسمه نفيع بن مسروح، أو ابن الحارث المعروف، وهو صحابي جليل، أسلم عام الطَّائف، لما حاصر النبيُّ الطائفَ نزل من بعض حصون الطائف، فأتى النبيَّ، وكان رقيقًا فأعتقه النبيُّ، وأسلم وحسن إسلامه، وله ذرية صُلحاء أخيار علماء.

أنَّ النبي رخص للمُسافر أن يمسح خُفَّيه ثلاثة أيام، وللمُقيم يومًا وليلةً إذا تطهر ولبس خُفَّيه، هذا يُبين لك أن المسح مُؤقت، وأنه بعد الطَّهارة، فيُقيد ما تقدم من حديث ثوبان وحديث عمر وأنس، وما جاء في معناها، وأنها مقيدة بالمدة، وهذا هو قول الجمهور من أهل العلم.

وذهب مالكٌ وجماعة إلى عدم التوقيت، والصواب قول الجمهور، وأنه لا بدَّ من التوقيت؛ لأن أحاديث التوقيت صحيحة، ليس لها معارض، وما جاء مطلق فيُقيد بها على القاعدة المعروفة عند أهل العلم في الأصول والمصطلح: أنَّ المطلق يُحمل على المقيد؛ جمعًا بين الأخبار، رواه الدارقطني والحاكم وصححه.

الحديث الرابع في درسنا، وهو الثامن بالنسبة إلى أحاديث الباب، ويقال: التاسع بالنسبة إلى رواية المُغيرة الثانية: عن أُبي بن عِمارة المدني، ثم المصري، وهو بكسر العين "عِمارة"، والمعروف عند أهل العلم في أسماء الرجال: "عُمارة" بالضم، هذا هو الأكثر في الروايات: "عُمارة" بالضم، في أسماء الصَّحابة وغيرهم، لكن جاء "عمارة" بالكسر في هذا الرجل، وفي الحسن بن عِمارة القاضي المعروف، هذا هو المشهور، وما سواه فهو بالضم "عُمارة".

وقيل في هذا بالضم أيضًا، في أُبي هذا، وفي الحسن.

فالحاصل أن المعروف في الروايات بالضم، أي: في أسماء الرجال، ما عدا هذا، فإنَّ الأكثر فيه على كسر العين.

أنه قال: يا رسول الله، أمسح يومًا؟ قال: نعم، قال: ويومين؟ قال: نعم، قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم، وما شئتَ.

الحديث هذا ظاهره عدم التوقيت، وأنه يمسح متى شاء، وكيف شاء، ولكن حكم أهل العلم على هذا الحديث بأنه غير صحيحٍ، بل هو مضطرب الإسناد، مضطرب المتن.

قال أحمد: رجاله لا يُعرفون، وقال البخاري رحمه الله وابن عبد البر والشافعي وجماعة: بأنه مضطرب الإسناد. وهكذا قال الحافظ في "التلخيص" وغيره، حتى بالغ الحافظُ ابن الجوزي رحمه الله فعدَّه في الموضوعات، وبهذا تعلم أنه حديث ضعيف مضطرب الإسناد والمتن، لا يُعول عليه عند أهل العلم في معارضة الأحاديث الصَّحيحة المؤقتة للمسح على الخفَّين.

فالصواب أنَّ التوقيت ثابت ومحكم، وأما أحاديث أُبيّ هذا وما جاء في معناه فهي أحاديث ضعيفة، لا يُلتفت إليها، وما كان مطلقًا فهو مقيد بأحاديث التَّوقيت كما تقدم، والله أعلم.

س: عفا الله عنك، مَن منع من المسح على النَّعلين وعلى الجوربين، فما حجَّته؟

ج: من حجَّته يقول: أنها جاءت أحاديث كثيرة في الخفِّ والجورب أضعف منها، فلا يُقاس عليها.

والجواب عن ذلك من وجهين:

أحدهما: أنه لا اعتراض ولا رأي لأحدٍ مع السنة، ما دام ثبت في السنن الأربع ومسند أحمد عن المغيرة بسندٍ جيدٍ: أنَّ النبي ﷺ مسح على الجوربين والنَّعلين، فلا كلامَ ولا معارضةَ، المغيرة روى هذا وروى هذا، ما المانع أن يروي هذا ويروي هذا؟! رأى النبيَّ ﷺ مسح على الجوربين، ورآه مسح على الخفَّين، وأي مانع في هذا؟! رأى هذا ورأى هذا، ولا تعارض.

الوجه الثاني: أنَّ الحكم مُعلل ومعروف الحِكمة، وأنَّ المقصود من ذلك رحمة الإنسان والرفق بالإنسان إذا سار في أرضٍ حارةٍ أو باردةٍ أو وعرةٍ، فالخفُّ ينفعه، والجورب كذلك، إذا لبس الجورب ينفعه بعض النَّفع، وإذا كان مع النَّعل فنفعه تام، فالحكمة التي من أجلها شرع الله المسح على الخفَّين موجودة مع الجورب.

ثم الصحابة -هذا وجه ثالث- أعلم الناس بالسنة، وأعلمهم بمقاصد الرسول، وقد مسحوا على الجوارب، كما نقل ذلك أبو داود عن جماعةٍ منهم في سَننه، منهم عمر وجماعة، وهم أعلم الناس بالسنة، فلما فهموا أنَّ الجورب في حكم الخفِّ وجب الأخذ بفهمهم وتأييدهم في فهمهم، مع ما جاءت به السنة، ومع ما عُرِفَ من المعنى.

فلم يبقَ قولٌ لأحدٍ بعد ذلك لهذه الوجوه الثلاثة؛ لأنَّ المعارض مخالف للسنة، مخالف للقياس الصحيح، ومخالف لآثار الصحابة؛ فلا يُلتفت إلى قوله.

س: أحسن الله إليك، لو غسلت رجلًا واحدةً وأدخلتها في الخفِّ قبل أن أكمل الطَّهارة، ثم غسلت الثانية وأدخلتها؟

ج: فيه خلاف بين أهل العلم: بعض أهل العلم يرى أنه لا يمسح حتى يخلع اليمنى ثم يُعيد لبسها بعد اليسرى؛ حتى يكون لبسها على طهارةٍ كاملةٍ، وهذا حسن، احتياطًا، والصواب أنه لو لم يفعل فطهارته صحيحة؛ لأنه لبس اليمنى على طهارةٍ تامَّةٍ؛ لأنَّ طهارته معلَّقة على اليسرى، وقد تمت وطهرت اليسرى، وتمت الطهارة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه لا بأس، يصح، لا حرج، ولكن الأولى أنه لا يعجل؛ لا يلبس اليمنى حتى يغسل اليسرى، أو إن لبسها لأجل الحاجة إلى لبسها؛ لأجل المكان، ما يتيسر له عدم اللبس فيه، فيخلعها ثم يُعيدها، يخلعها حتى يكون لبسها على طهارةٍ، يخلع اليُمنى ثم يُعيد لبسها بعدما غسل اليُسرى.

س: أحسن الله إليك، ما يقوم مقام الخفَّين يجوز المسح عليه؟

ج: نعم ما لم يكن لفائف، فاللفائف فيها خلاف كبير، فالأحوط عدم مسح اللفائف، إنما يمسح شيئًا مخيطًا، منسوج، مخيط؛ لأنه أشبه بالخفِّ.

س: .................؟

ج: إلا أن يخلع أحدهما، مثل الجزمة القاصرة إذا مسح عليها مع الجورب، بعض الكنادر قاصرة تحت الكعب، إذا مسح عليها مع الجورب يبقيان جميعًا، أو يخلعان جميعًا، مثل النعل، إذا مسح على سور النعل مع الجورب، إذا خلع النَّعل يخلع الجورب؛ لأنه صار كالشيء الواحد، أما إذا مسح على الجورب وحده، ولا مسح على النَّعل، ولا على الجزمة، فأدخل يده ومسح على الجورب؛ يكون حكمه حكم الجورب، النِّعال خلعها وألقاها، وهكذا الجزمة خلعها، فالحكم للجورب.

س: هل يجوز خلع الخفِّ قبل تمام المدة وغسلها؟

ج: لا بأس، لكن لا لاعتقاد أنَّ الغسل أفضل، فإذا خلعتها لحاجةٍ: كما لو مللتَ من الخفين، أو لأسبابٍ أخرى، أما أن يخلعها لأجل أن يغسل لاعتقاد أنَّ الغسل أولى فلا.

س: يخلعها ثم يلبسها ويمسح عليها؟

ج: يخلعها إذا تمَّت المدة ويتوضأ.

س: في أثناء مدة المسح يقول: يجوز ........؟

ج: هذا قول ضعيف، الصواب الذي عليه جمهور أهل العلم: إذا خلعها بعد الحدث بطلت الطهارة، وأما القياس كذلك على -كما يُروى عن الحسن وبعض السلف- يقيس على حلق الشعر، فهذا قول ليس بشيءٍ، فالصواب الذي عليه جمهور أهل العلم -بل هو كالإجماع من أهل العلم- أنه متى خلع الخفَّ بطل الوضوء، يعني: إذا كان بعد الحدث.

س: مَن قاسه على حلق الشعر؟

ج: يُروى عن الحسن البصري أنه يُقاس على حلق الشعر، لو مسح ثم حلق رأسه ما يبطل الوضوء، وهكذا لو مسح ثم خلع لا يبطل، هذا قياس فاسد؛ لأنَّ مسح الرأس ليس خاصًّا بالشعر، مسح الرأس أصلًا، سواء عليه شعر أو ما عليه شعر، أو أصلع، يمسح، بخلاف الخفَّين فإنه مؤقت، والراس يمسح دائمًا، ما فيه توقيت، يمسح على الجلدة وعلى الشعر كذلك، وليس من جنس الخفِّ.

س: إذا تمت مدةُ المسح هل يُصلي بالجورب وهو باقٍ على طهارته؟

ج: يخلع، ولا يُصلي بالوضوء ذاته، هذا الذي ينبغي، بعض أهل العلم يرى أنه لا بأس؛ لأنَّ الأصل بقاء الطهارة، قول له قوته، لكن الأولى أن يخلع؛ لئلا يُصلي بطهارةٍ بعد انتهاء المدة، إذا انتهت المدة -ثلاثة أيام أو يوم وليلة للمُقيم- ولم يُحدث بنومٍ ولا غيره فالأولى أن يخلع في هذه الحالة ويتوضأ من جديدٍ؛ لأنَّ مدته قد انتهت.

س: هل المسح في الحضر؟

ج: ظاهر النصوص أنه مسح في الحضر والسَّفر عليه الصلاة والسلام؛ لأنها مطلقة، جاءت من عدة طرق .....، والاتِّفاق قائم على أنه يجوز المسح في الحضر والسَّفر جميعًا.

س: الذي مسح على الجوارب والأحذية ثم دخل بالحذاء الحمَّام؟

ج: ينشفها عند الباب، ينشفها بالتراب؛ لأنه إذا خلعها بطلت طهارته، ينظف مواضع الخفِّ -موضع الوطء- حتى لا يبقى فيه أذى، ولا بأس أن يُصلي فيها، أو يمسح على الجوارب، وإذا دخل المسجد خلع الجزمة وصلَّى في الجوارب إذا كان مسح على الجوارب.

س: وإذا مسح على الجزمة والجوارب؟

ج: إذا مسح على الجزمة والجوارب تبقى في رجله، ولكن إذا أراد دخول المسجد يُلاحظها.

س: المسح على النعل وحده؟

ج: لا، على الخفَّين أو الجوربين، النَّعل لا يُمسح عليها، إلا إذا كانت الرِّجْل عليها جورب يمسح على الجورب والنَّعل.

س: هل يُشترط لبس الجبيرة على طهارةٍ كالخفِّ؟

ج: لا، ما يُشترط، إنما جاء الشرط في الخفَّين، أما الجبيرة لا، إذا أصابه جرحٌ وجعل عليه جبيرةً ولو بعد طهارةٍ أجزأ، يمسح على الجبيرة؛ لأنَّ الجرح ما هو على هواه، قد يُصيبه في حال ما هو بطاهرٍ.

س: الجمع بين التيمم والمسح على الجبيرة؟

ج: لا، يكفي المسح، الصحيح يكفي المسح، الصواب يكفي المسح مطلقًا، ولا حاجة إلى التيمم.

س: ..............؟

ج: يعني ينبغي له أن يُراعي الجبيرة بقدر الحاجة؛ لأنَّ الجمع بين التيمم والمسح ما له أصل يُعتبر، وإن ذكره بعض الفقهاء من الحنابلة وغيرهم، لكن لا أصلَ له: إما الغسل، وإما المسح فقط، فإذا لم يتيسر هذا ولا هذا يتيمم، إذا كانت الجبيرةُ زائدةً يُزيل الزيادة، يُزيلها ولا يتيمم.

س: إذا غسل رجله اليمنى ولبس الجورب قبل غسل اليسرى؟

ج: الأولى أن يصبر حتى يُكمل، هذا الأولى والأحوط حتى يلبسهما على طهارةٍ، وإلا لو غسل القدم اليمنى ثم لبس أجزأه على الصحيح إن شاء الله؛ لأنه أدخلهما طاهرتين، لكن كونه يُؤخر اليمنى حتى يغسل اليسرى أحوط؛ خروجًا من خلاف العلماء.

باب نواقض الوضوء

النَّواقض: جمع ناقضٍ، والمراد هنا المفسدات التي تُفسد الوضوء، ويحتاج معها المؤمن إلى تجديد الوضوء لأداء الصَّلاة ونحوها.

ذكر المؤلفُ رحمه الله هنا عدة أحاديث تتعلق بذلك:

الأول: حديث أنس بن مالك الأنصاري قال: "كان أصحابُ رسول الله ينتظرون العشاء في عهده حتى تخفق رؤوسهم، ثم يُصلون ولا يتوضَّؤون". أخرجه أبو داود، وصححه الدارقطني. وأصله في مسلم، ولفظ مسلم: "كانوا ينامون ثم يُصلون ولا يتوضَّؤون".

ولما كان لفظ أبي داود أوضح ذكر لفظ أبي داود: "حتى تخفق رؤوسهم"؛ لأنه يُوضح معنى النوم الذي ورد في رواية مسلم، وهو أن نومهم كان تخفيقًا، وليس استغراقًا، والمعنى أنهم يُصيبهم النعاس وحركة الرأس من النوم، وليس المراد النوم الثَّقيل الذي يزول معه الشعور، ويحصل معه الغفلة وعدم الشعور بما قد يخرج، وهذا واردٌ في أحاديث كثيرةٍ: النُّعاس، وهو شيء يُصيب الإنسان المبادئ في النوم، ولكن لا يكون معه الاستغراقُ، ويزول معه الشعور وانطلاق الوكاء.

هذا يدلنا على أنه لا ينقض الوضوء، وأن كون الرأس يخفق، والإنسان يحس بالنوم والفتور، كل هذا لا ينقض الوضوء، وإنما ينقضه النوم المستغرق الذي يزول معه الشعور، وهذا على الصحيح؛ لا فرقَ فيه بين المضطجع، وبين الجالس، وبين الساجد والراكع، وبين القائم، هذا هو الصواب.

وفرَّق قوم بين المضطجع وغيره، والمتكئ وغيره، ولكن الأحاديث إذا نظرت إليها وجمعت بينها تدل على أن الحكم واحد، وأن مَن استغرق في النوم وزال شعوره هذا هو الذي ينتقض وضوؤه: قائمًا أو قاعدًا، مُضطجعًا أو جالسًا، على أي حالٍ كان.

أما النعاس وما يكون معه وجود الشعور بمَن حوله من القرَّاء أو الماشين أو المتكلمين أو المتحدثين، ولكن يشعر بشيءٍ من النعاس، وشيءٍ من الميل إلى النوم، هذا لا ينتقض وضوؤه بذلك، وهذا هو الجمع بين هذه الروايات وبين رواية صفوان بن عسّـال السابقة: "ولكن من غائطٍ وبولٍ ونومٍ"، وحديث معاوية الآتي: العين وكاء السّه، فالنوم الذي ينطلق معه الوكاء ويحصل معه النَّقض هذا النوم المستغرق الذي يزول معه الشعور، هذا هو النوم الناقض، وأما النوم الذي وقع من الصَّحابة فهو ما يحسّ به من النعاس، ويكون الإنسانُ في الصف ينتظر الصلاة ويُصيبه النعاس ويُقال: نام، وليس المراد به النوم الذي يحصل به زوال الشعور.

وقد جاء في بعض الروايات: "يُوقظون"، وفي بعضها: "يُنَبَّهون"، وكل هذا لا يمنع من كون النوم ليس بمستغرقٍ، والإنسان قد يحصل له النُّعاس وخفقان الرأس ثم يُنبه، ولا يلزم من تنبيهه أنه زال شعوره.

وفي بعضها عند مسلمٍ: أنه أُقيمت الصلاةُ، فجاء رجلٌ فقال: لي حاجة، فجعل يُناجيه حتى طال التناجي ونام الناس، ثم صلَّى ولم يتوضَّؤوا، هذا كله يدل على أنَّ المراد بذلك ما يحصل للناس من النّعاس وحركة الرأس وخفقانه من النوم، وما يتعلق بذلك من الفتور وظهور أمارات الميل إلى النَّوم.

الحديث الثاني: حديث عائشة رضي الله عنها في قصة فاطمة بنت أبي حبيش، وكانت فاطمة هذه إحدى المستحاضات في عهد النبي ﷺ، فقالت ذات يومٍ: يا رسول الله، إني أُستحاض فلا أطهر -يعني: يستمر معي الدم- أفأدع الصلاة؟ قال: لا، إنما ذلك عرق وليس بحيضٍ يعني: إنما ذلك مرضٌ في بعض العروق، وليس بالحيض المعتاد الذي يأتي المرأة في أوقاتٍ معينةٍ ثم يذهب، فإذا أقبلت حيضتُك فدعي الصلاةَ، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلِّي.

فأمرها أن تُصلي مع دم العرق، وقال: إنه ليس بحيضٍ، وأمرها أن تدع الصلاة وقت مجيء حيضتها، وإذا أدبرت تغسل الدم وتُصلي، وفي اللفظ الآخر: فاغتسلي وصلِّي.

هذا يدلنا على أنَّ الاستحاضة هي الدماء العارضة من عرقٍ يُقال له: العازل، يعني: من مخرج غير مخرج دم الحيض، وإنما هي دماء تعرض للمرأة من أمراضٍ تعتري رحمها، فيُصيبها اصفرار الدم، فهذا يُقال له: استحاضة، وهو خروج الدم في غير الوقت المعتاد، بل يستمر معها ويشغلها، ولكنه ليس بالدم المعتاد المؤقت، فهذا حكمه حكم البول، وحكم ما يحصل للإنسان من سائر الخوارج التي تستمر معه، فلا تمنعه من صلاةٍ ولا طوافٍ ولا غير ذلك، وإنما هو مرض يُعالج.

بخلاف الحيض الذي هو الدم المعتاد الذي كتبه الله على بنات آدم، فإنَّ هذا دم معتاد كتبه الله على بنات آدم، وهو جبلة وطبيعة من طبائعهن، يخرج في أوقات معلومةٍ من الشهر، ثم ينتهي، والغالب أنه يمكث ستة أيام أو سبعة أيام، وقد تزيد، وقد تنقص، وهذا يقال له: الحيض، وهو شيء قد كُتب على بنات آدم، والغالب أنه ينقطع مع الحمل، ويوجد عند عدمه؛ ولهذا جعلت الحيضات الثلاث دليلًا على براءة الرحم وعلى خلوه من الحمل.

قال لها: فاغسلي عنك الدم هذا يدل على أنَّ ما يُصيبها من دماء في بدنها أو ثيابها يُغسل، وفي اللفظ الآخر: واغتسلي أي: تغسل الدماء وتغتسل من الحيض الغسل الشرعي، كما تغتسل الجنب.

ثم قال: وتوضَّئي لكل صلاةٍ هذا في حال استمرار الدم، في حال استحاضتها، الوضوء في حال الاستحاضة، والغُسل وغسل الدم عند انتهاء مدة الحيض، وهذه انفرد بها البخاري رحمه الله، وأشار مسلم إلى أنه حذفها عمدًا؛ فإنه رحمه الله استنكرها فحذفها، أما البخاري فعرف معناها وأثبتها، واحتجَّ بها العلماء على أنَّ مَن دام حدثه بالدم أو بالريح أو بالبول فإنه يتوضأ لكل صلاةٍ ويكفيه ذلك، ولا يُكلف ما لا يُطيق: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

فتُصلي المستحاضة ولو خرج الدمُ، ويُصلي صاحب سلس البول ولو خرج البول، ويُصلي صاحب مرض الريح وإن خرجت الريح؛ لأنه لا يستطيع خلاف ذلك، ولكن يكون وضوؤه لكل صلاةٍ، يعني: عند دخول الوقت، فإذا دخل الوقتُ توضأ؛ لأنه في هذه الحالة مضطر إلى فعل الصلاة فيتوضأ، فإن وقف الدم والريح والبول فالحمد لله، وإن لم يقف صلَّى على حسب حاله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، ولا يضره ذلك، ولا قضاءَ عليه؛ لأنه اتَّقى الله ما استطاع.

والشاهد من هذا أنَّ خروج الدم ناقض للوضوء، أما من الفرج فلا خلافَ في ذلك؛ لحديث المستحاضة، فإنه أمرها بالوضوء لكل صلاةٍ، فدلَّ ذلك على أن الدم الخارج من فرجها ينقض وضوئها؛ لأنه دم عرق، وليس بحيضٍ، والحيض له شأن آخر، وأحكام أخرى.

واحتُجَّ به أيضًا على أنَّ الدم ينقض الوضوء مطلقًا؛ لأنه قال: إنه دم عرقٍ، دلَّ ذلك على أنَّ دماء العروق تنقض الوضوء، بخلاف الشيء القليل العارض: كبثرة العين، والدم القليل من الرعاف، هذا يُعفا عنه؛ ولهذا رُوي عن بعض الصحابة أنه كان بعضهم يغسل البثرة ولا يتوضأ، وبعضهم يبصق الدم فلا يتوضأ.

فالمقصود أنَّ الشيء القليل يُعفا عنه، ولا يُكلف الإنسان فيه الوضوء، بخلاف الدم الكثير فإنه يتوضأ منه؛ لقوله: إنما ذلك دم عرقٍ، وليس بحيضٍ، ولأحاديث أخرى يأتيكم بعضها إن شاء الله تتعلق بهذا الشَّأن، ومثله الريح الذي يُصيب بعض الناس، مرض، لا تزال الريح تخرج معه من دبره، فإذا أُصيب بهذا فحكمه حكم صاحب سلس البول والمستحاضة؛ فيتوضأ إذا دخل الوقتُ ويُجزئه ذلك ولا حرج عليه.

وبهذا يُعلم أنَّ الخارج الذي ليس بالاختيار لا ينقض الوضوء، بل ينقض الخارج الاختياري الذي قد اعتاده الإنسانُ، هذا الذي ينقض الوضوء، أما الخارج غير العادي الذي يُصاب به الإنسان مرضًا ويستمر معه ولا يتمكن من السلامة منه فهذا يُعفا عنه، ولا يُعدّ ناقضًا في الوقت نفسه، بل يكفيه الوضوء وإن خرج ذلك الشيء؛ لأنه شيء مضطر إليه الإنسان، ليس باختياره، ولا يتمكن من دفعه، فسامحه الله جلَّ وعلا.

والحديث الثاني: حديث عليٍّ رضي الله عنه وأرضاه، وهو علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين، رابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، رضي الله عنهم جميعًا.

يقول: "كنتُ رجلًا مذَّاءً" يعني: كثير المذي "فأمرتُ المقداد أن يسأل الرسولَ ﷺ"، والمقداد هو ابن الأسود الكندي المشهور، وفي روايةٍ أخرى: "فاستحييتُ أن أسأل رسولَ الله ﷺ لمكان ابنته مني، فأمرتُ المقداد أن يسأل النبيَّ ﷺ، فسأله فقال: فيه الوضوء، وفي لفظٍ: يغسل ذكره ويتوضأ، وفي روايةٍ: اغسل ذكرك وتوضأ، وفي لفظٍ: فأمره أن يغسل ذكره وأُنثييه ويتوضأ.

هذه الروايات كلها تدل على أنَّ المذي ناقضٌ من نواقض الوضوء، وأن الذي أصابه المذي يغسل ذكره وأُنثييه -يعني: خصيتيه- وهذا فيه ميزة زائدة على حكم البول، ولعل السرَّ في ذلك -والله أعلم- أنَّ المذي يكون له لزوجة، وربما انتشر على الذكر وعلى الأُنثيين ولم يشعر به الإنسانُ، فكان مأمورًا بغسل ذكره وأُنثييه، ولعلَّ من الحكمة أيضًا أن غسل ذكره وأنثييه من أسباب قطعه ووقوفه وعدم خروجه، قال بعضُهم: ولا سيما إذا كان بالماء البارد فإنه من أسباب قطعه وعدم استمرار خروجه، وهو يأتي عند تحرك الشَّهوة، إذا تحركت الشهوةُ ومال الإنسان إلى أهله -إلى الجماع- ثم ضعفت الشَّهوة وزال السببُ، فإنه يخرج شيءٌ يُقال له: المذي؛ لزج أصفر في الغالب، يُسمَّى: المذي، وهو نجسٌ، لكن نجاسته مُخففة، ليست من جنس البول، وليس من جنس المني، فالمني طاهر، والبول نجس نجاسةً مثقلةً مشددةً، والمذي بخلاف ذلك؛ ولهذا جاء في حديث سهل بن حنيف قَالَ: كُنْتُ أَلْقَى مِنَ المَذْيِ شِدَّةً، وَكُنْتُ أُكْثِرُ مِن الِاغْتِسَالِ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا يُجْزِيكَ مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِمَا يُصِيبُ ثَوْبِي مِنْهُ؟ قَالَ: يَكْفِيكَ بِأَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ، فَتَنْضَحَ بِهَا مِنْ ثَوْبِكَ، حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ أَصَابَهُ.

وفيه الوضوء وغسل الذكر والأُنثيين، وهكذا في حديث عبدالله بن سعد الأنصاري عند أبي داود بإسنادٍ حسنٍ: أن النبي أمره أن يغسل ذكره وأُنثييه من المذي، هذا هو الحكم في ذلك: أنه ينقض الوضوء -المذي- وأنه يُؤمر المسلم أن يغسل ذكره وأُنثييه، ثم يتوضأ وضوء الصلاة، وليس عليه غسل، فليس كالمني، لا غسلَ فيه، بل ينقض الوضوء بدون غسل، الغسل مختص بالمني.

وفي حديث سهل بن حنيف عند أبي داود بإسنادٍ جيدٍ أنه يكفي النَّضح، إذا أصاب ثوبَه فإنه يأخذ كفًّا من ماءٍ وينضحه على المحلِّ الذي يظن أنَّ الماء أصاب الثوبَ، ويكفيه ذلك.

قالوا: والمذي يكون من ضعف الشَّهوة، ويكون من قوتها، والغالب يكون من قوتها، وقد يكون من ضعفها، فقوي الشَّهوة يُصيبه المذي كثيرًا، وهكذا ضعيف الشَّهوة، لكنه أقلّ من ذلك.

أما المني فيُوجب الغسل إذا خرج دفقًا بشهوةٍ، وأما إذا خرج عن مرضٍ وعلةٍ فهو من جنس الأحداث الأخرى، من جنس البول، فإنه يُوجب الوضوء، ولا يوجب غسل الأُنثيين، بل يُغسل طرف الذكر الذي أصابه؛ لأنه خارج فينقض الوضوء فقط، وإنما يكون موجبًا للغسل إذا كان دفقًا بلذةٍ، كما يأتي في محلِّه إن شاء الله: الماء من الماء.

صارت الخوارج أقسام: منها الدم، ومنها البول، ومنها المذي، ومنها المني، فالبول والدم والمذي نجسة، والمني وحده طاهر، ولكنه يوجب الغسل إن كان دفقًا بلذةٍ، وإن كان عن مرضٍ فلا يُوجب الغسل، وكان من النَّواقض فقط للوضوء.

وهناك ناقضٌ آخر: وهو الريح، ويُسمَّى: الفساء إذا كان لا صوتَ له، والضراط إذا كان له صوتٌ، وهو ينقض الوضوء، ولكن لا يُوجب الاستنجاء؛ لأنه شيء لا رطوبةَ له، ولا يُؤثر في المخرج، فلا يُوجب الاستنجاء، إنما الاستنجاء من البول والغائط والمذي، لا من الريح، فلا يُوجب الاستنجاء، وهكذا النوم، وهكذا مس الذكر ومس الفرج، وهكذا أكل لحم الإبل، هذه تُوجب الوضوء، ولكن لا تُوجب الغُسل، ولا تُوجب الاستنجاء، فإذا خرج من الإنسان ريحٌ أو أكل من الإبل أو نام أو مسَّ فرجه فإنه يتوضأ الوضوء الشَّرعي، يعني: التَّمسح، غسل أطراف الإنسان، ولا يلزمه الاستنجاء، فالاستنجاء إنما يكون للخارج الرطب المؤثر في المخرج: كالبول والغائط والمذي.

أما إذا كان لا أثر له: كالريح، أو لا صلةَ له بالمخرج: كأكل لحم الإبل والنوم، فهذا يُوجب الوضوء الشرعي الذي هو التَّمسح -غسل أطراف الإنسان- دون الاستنجاء، فلو استنجى الإنسانُ مثلًا الضُّحى عن بولٍ أو غائطٍ، ثم جاء وقت الظهر ولم يتوضأ، فإنه يتوضأ في أطرافه فقط، ولا يُعيد الاستنجاء؛ لأنَّ الاستنجاء تقدم، وقد زالت النَّجاسة، فيلزمه الوضوء الشرعي، وهو غسل الأطراف فقط، فالعامَّة إذا سمعوا الوضوء يعتقدون أنَّه الاستنجاء، وفي عرف الشارع: الوضوء: غسل الأطراف، وهو المراد بقوله جلَّ وعلا: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الآية [المائدة:6].

هذا هو الوضوء الشرعي: أن تبدأ بغسل الوجه، يعني: المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه، ثم غسل اليدين ومسح الرأس، ثم الرِّجْلين، وهذا يُسمَّى: التجديد عند الناس، ويُسمَّى: التَّمسح، فليس فيه استنجاء، وإنما الاستنجاء فيما إذا بال أو أتى الغائط، فإنه يستنجي ثم يتوضأ وضوء الصلاة بعد ذلك.

الحديث الرابع: حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي ﷺ قبَّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. خرَّجه أحمد رحمه الله، وضعَّفه البخاري.

الحديث جاء من طريق عروة عن عائشة، وعروة غير مسمى: فقيل: عروة بن الزبير. وقيل غيره، وجاء من طريق إبراهيم التَّيمي عن عائشةَ عند النَّسائي، وهو منقطع؛ لأنَّ إبراهيم لم يسمع منها، ولعلَّ البخاري أراد هذا المنقطع.

أما رواية أحمد: فهي سليمة، فإنه رواها بإسنادٍ جيدٍ عن وكيع، عن هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة خالته: أن النبي قبَّل بعض نسائه ثم خرج وصلَّى ولم يتوضأ، فقال لها: "لعله أنت"، فضحكت.

المقصود أنَّ حديث عائشة هنا من رواية أحمد سليم، وسنده لا بأس به، وحديث إبراهيم التَّيمي عن عائشةَ عند النَّسائي وإن كان فيه انقطاعٌ فيكون شاهدًا لحديث عائشة هذا، ومُؤيدًا له، وبه يُحتج على أنَّ مسَّ المرأة لا ينقض الوضوء.

وقد اختلف العلماءُ في ذلك:

فقال قومٌ: أنه ينقض الوضوء، واحتجُّوا بقوله تعالى: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ [المائدة:6]، وفي القراءة الأخرى: (أو لمستم النساء)، قالوا: فالمراد باللمس جنس المس باليد. وهو قول عبدالله بن مسعودٍ وجماعة.

وقال آخرون: ليس المراد المس باليد، وإنما المراد هو الجماع، والله يُكني عن الجماع بالمسيس والملامسة والمباشرة، وليس المراد مسّ اليد. وهذا قول ابن عباسٍ رضي الله عنهما وجماعة.

وهذا القول أظهر وأصح؛ لأنَّ الأصل سلامة الوضوء، سلامة الطَّهارة، هذا هو الأصل، فلا تُنقض الطَّهارة إلا بدليلٍ واضحٍ لا شُبهة فيه؛ ولأنَّ طريقة القرآن في المسيس والمباشرة والملامسة التَّكنية بذلك عن الجماع؛ لأنه قال: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ [المائدة:6]، المجيء من الغائط إشارة إلى الحدث الأصغر: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ إشارة إلى الحدث الأكبر وهو الجماع، فجمع الأمرين، فقول ابن عباس هنا أظهر وأولى.

فالصواب أنَّ مسَّ المرأة لا ينقض الوضوء مطلقًا، سواء بشهوةٍ أو بغير شهوةٍ، هذا هو أرجح الأقوال الثلاثة.

وهناك قولان آخران:

أحدهما: أنه ينقض بشهوةٍ.

والثاني: أنه ينقض مطلقًا ولو من غير شهوةٍ، كما قاله الشَّافعي رحمه الله وجماعة.

وهذان القولان ضعيفان، وأرجح الأقوال الثلاثة أنه لا ينقض مطلقًا؛ لحديث عائشة هذا؛ وللأصل وهو السلامة من نقض الوضوء إلا بدليلٍ وحجةٍ؛ ولأنَّ هذا مما تعمّ به البلوى في البيوت، والإنسان يُبتلى بهذا، فلو كان مسُّ المرأة ينقض الوضوء لأبانه النبيُّ ﷺ بيانًا واضحًا، وأوضحه للأمة؛ لأنَّ هذا يُبتلى به الناس في بيوتهم من جهة زوجاتهم، فلما لم يُبَيِّن ذلك للناس دلَّ ذلك على أنه لا ينقض الوضوء، وإنما المراد بالملامسة واللَّمس المراد به الجماع، كما قاله ابن عباس وجماعة من أهل التفسير، وهو أرجح القولين -والله أعلم- بل أرجح الأقوال الثلاثة، أما القول بأنه ينقض مطلقًا فهذا قول ضعيف جدًّا لا وجهَ له.

س: أحسن الله إليك، السنة الواردة في تخليل الأصابع صحيحة؟

ج: جاء في حديث المستورد ...... أصابع رجليه، ولا بأس بإسناده، وعند أبي داود من طريق ابن لهيعة، ولكن رواه آخرون من طريق عمرو بن الحارث، ومن طريق الليث بن سعد، ولا بأس بإسناده، وهو يدل على استحباب التَّخليل للرجلين بالخنصر، وأما التَّخليل بالأصابع فهكذا يضم بعضها إلى بعضٍ –يُشبكها- حتى يكون ......

س: ................؟

ج: خلل اليمنى بأصابع اليمنى، واليسرى بأصابع اليسرى، كل واحدةٍ في محلها.

س: هل هناك أعضاء يجب غسلها وأعضاء لا يجب غسلها؟

ج: يعني في غير الوضوء؟

س: في الوضوء.

ج: سبحان الله! الوجه واجب غسله، واليدان واجب غسلهما مع المرفقين، والرِّجْلان يجب غسلهما مع التَّعميم، والرأس يُمْسَح.

قال المؤلفُ رحمه الله: (وعن عبدالله بن زيد) هو ابن عاصم المازني الصَّحابي الجليل المشهور، وهو الذي روى أحاديث الوضوء، وهو غير عبدالله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري صاحب الأذان، هذا شخص، وهذا شخص.

قال: "أُتِيَ النبيُّ ﷺ بثُلثي مدٍّ فجعل يَدْلُك ذراعيه" أخرجه أحمد، وصححه ابن خزيمة.

هذا يدل على اختصاره واقتصاده في الماء ﷺ، فكان يقتصد ولا يُكثر صبَّ الماء، بل كان يقتصد، وقد جاء عنه ﷺ أنَّه توضأ بالمدِّ، وهنا بثلثي المد، فدلَّ ذلك على أنه كان يقتصد في الماء، هذا هو المشروع للمسلم في الوضوء: أن يقتصد، وألا يُكثر صرف الماء ولو كان على نهرٍ جارٍ، السنة الاقتصاد في ذلك، وفعل النبي ﷺ يدل على هذا عليه الصلاة والسلام.

وفيه شرعية العناية بالوضوء، وهو الدَّلك، وهو مسح الشيء والعناية بإمرار اليد عليه، وهذا مستحبٌّ، وليس بلازمٍ؛ لأنَّ غالب الأحاديث فيها إمرار الماء على الأعضاء بغير دلك، إمرار الماء على الأعضاء هو الإسباغ، إذا مرّ على الأعضاء هو الإسباغ، فإن دَلَكَ العضو بأن مسحه بيده ودعكه بيده فهذا مزيد عنايةٍ لإزالة ما قد يكون هناك من أوساخٍ، ولعلَّ هذا يُستحب عند الحاجة إليه، فلعله دلك لأنه دعت الحاجةُ إلى ذلك، يعني: إنه وإن كان قليلًا فإن الدلك لا مانعَ منه إذا دعت الحاجةُ إليه.

وسبق لك أنَّ الرسول ﷺ قد يفعل بعض الشيء تارةً، ويدعه أخرى؛ لبيان الجواز، والمهم هو إسباغ الماء، وأن لا يكون مسحًا، فيكون إسباغ الماء على الأعضاء، هذا هو الواجب، وإذا دلك بعض الأحيان، أو دعت الحاجةُ إلى الدلك بعض الأحيان، فهذا مستحب وسنة، وليس بواجبٍ؛ بدليل أنه تركه في كثير من الأحيان عليه الصلاة والسلام.

دلك يدلُك من باب: نصر، ويحتمل على قاعدة بعض أئمة اللغة: أنه يجوز فيه الوجهان؛ فإن بعض أئمة اللغة قال: إذا تجاوزت الأفعال المشهورة بالضم والكسر في مضارعها، فما سواها يكون فيه الضم والكسر: يفعِـل ويفعُـلُ، ورواها صاحب "القاموس" وغيره: أنه من باب نَصَرَ.

والحديث الثاني: حديث عبدالله بن زيد أيضًا أنه رأى النبيَّ ﷺ يأخذ لأذنيه ماءً غير الماء الذي أخذه لرأسه. أخرجه البيهقي.

هذا يُستدل به -إن صحَّ سنده- على استحباب أخذ ماء للأذنين غير ماء الرأس، والمحفوظ عنه ﷺ في الأحاديث الصَّحيحة -كحديث عبدالله بن عمرو المتقدم وغيره- أنه كان يمسح رأسه بماءٍ واحدٍ مع الأذنين، هذا هو المحفوظ في الأحاديث الصَّحيحة: أنه كان يمسحهما بالماء الذي أخذه للرأس.

لكن إن صحَّ حديثُ البيهقي هذا فيكون من فعله بعض الأحيان، يفعله بعض الأحيان، ولم يتيسر لي مراجعة البيهقي ومَن روى هذا الحديث، وسأُراجعه إن شاء الله وأفيدكم بالنتيجة إن شاء الله، لكن ظاهر كلام الحافظ أنه غير محفوظٍ أخذ ماء للأذنين؛ ولهذا قال بعده: وأصله في مسلم من هذا الوجه بلفظ: "ومسح برأسه بماءٍ غير فضل يديه"، هذا هو المحفوظ.

يعني: أنه ﷺ مسح الرأس بماءٍ جديدٍ غير الماء الذي بقي في يديه من غسل الذراعين، وهذا لا شكَّ أنه ثابت في الأحاديث: أنه كان يأخذ ماءً جديدًا غير الماء الذي للذراعين، هذا هو المحفوظ في الأحاديث الصحيحة: أنه كان يأخذ لرأسه ماءً جديدًا، هذا هو الواجب، أما أخذ ماء للأذنين فهو محل نظرٍ.

وكان ابن عمر يأخذ ماءً جديدًا، ولا شكَّ في جواز ذلك، أنه لا بأس أن يأخذ لهما ماءً جديدًا، ولا سيما إذا كان الماء الذي في يديه ضعيفًا، استغرقه الرأس، ويبست اليدان؛ يأخذ لهما ماءً جديدًا، لكن إذا كانت اليدان رطبتين كفى مسح الأذنين بماء الرأس.

أما كون ذلك من السنة في بعض الأحيان، وأنه يُستحب أن يأخذ ماءً جديدًا في بعض الأحيان، هذا يحتاج إلى العناية برواية البيهقي وما جاء في معناها؛ فإن ثبتت فإنها الأصل، وأن الأذنين تُمسحان بماء الرأس، هذا هو الأفضل، وهذا هو المحفوظ المعروف، لكن لا مانع من مراجعة رواية البيهقي وما جاء في معناها؛ للتَّثبت في الأمر؛ لأنَّ كونه ﷺ مسح رأسه بماءٍ مُستقلٍّ لا يمنع من كونه يأخذ ماءً لأذنيه بعض الأحيان إذا ثبت به السند.

وقد سبق لك أنَّ الرسول ﷺ قد يُخلل لحيته بعض الأحيان، ويتركها بعض الأحيان؛ لبيان السنة، وأنَّ التخليل ليس بواجبٍ، وهكذا تخليل أصابع اليدين والرجلين، تقدم أنه سنة؛ لأنه لم يكن يُخلل في كل الأحاديث، وفي ظاهر كثيرٍ من الأحاديث أنه يغسل القدمين والذِّراعين غسلةً واحدةً من دون ذكر التَّخليل؛ لبيان الجواز، وبيان أن المرة تكفي، والمرتان أفضل، والثلاث أكمل كما تقدم.

الحديث الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي ﷺ قال: إنَّ أمتي يأتون يوم القيامة غُرًّا محجَّلين من أثر الوضوء، فمَن استطاع منكم أن يُطيل غرَّته فليفعل متفق عليه. وفي روايةٍ: وتحجيله فليفعل متفق عليه.

هذا يدل على فضل الوضوء، وأنَّ هذه الأمة تأتي يوم القيامة وعلامتها أنها غرّ محجلة، يعني من أثر الوضوء؛ أن الله تعالى قد خصَّها بهذا الأمر العظيم، وجعله علامةً عليها، هذا يدل على فضل الوضوء، وأن هذه الأمة لها ميزة، ولها علامة يوم القيامة، وهي أنها تُدْعَى غرًّا مُحجَّلةً بسبب وضوئها الذي شرعه الله لها جلَّ وعلا.

أما قوله: مَن استطاع منكم أن يُطيل غُرَّته فليفعل، وفي روايةٍ: وتحجيله فليفعل.

قد اختلف الناس في ذلك: فقال قومٌ من أهل الحديث أنه محفوظ، وأنه مرفوع إلى النبي ﷺ، واستحبُّوا إطالة الغُرَّة والتَّحجيل.

وإطالة الغُرَّة: أن يأخذ بعض الرأس في غسل الوجه.

وإطالة التَّحجيل: أن يأخذ بعض العضدين وبعض السَّاقين وما زاد من ذلك، فهو أفضل، وجاء عن أبي هريرة أنه كان يمد في غسل ذراعيه إلى الإبطين، وفي غسل رجليه إلى الركبة، ولا سيما إذا خلا، ولا يفعله إذا كان عنده أحدٌ، هذا من اجتهاده رضي الله عنه وأرضاه، ويتأول هذه الرواية.

وقال آخرون: ليس هذا من كلام النبي ﷺ، بل هذا مُدرج من كلام أبي هريرة؛ فإنه من قوله: غُرًّا مُحجَّلين، فزاد من كلامه "فمَن استطاع منكم ..". الحديث، وأنَّ هذا من كلامه الموقوف المدرج، وليس من كلام النبي ﷺ؛ لأنَّ إطالة الغُرَّة غير متيسرة؛ لأنَّ الوجه مستقل، والرأس مستقل، فإذا أطال وزاد أخذ من الرأس؛ ولأنَّ النبي ﷺ لم يُحفظ عنه أنه أطال التَّحجيل ولا الغُرَّة، بل كان يغسل الذِّراعين فقط والمرفقين عليه الصلاة والسلام، ثم يشرع في العضد؛ لإدخال المرفق، ويشرع في الساق؛ لإدخال الكعب فقط، كما رواه مسلم في "الصحيح" من حديث أبي هريرة؛ إذا توضأ غسل ذراعيه، ويشرع في العضد، وهكذا في الرِّجْلين يشرع في السَّاق.

وهذا للدلالة على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء، وأنهما مغسولان، تبع الذراع وتبع القدم، أما أنه يمد الذراع إلى الإبط أو ما حول ذلك، أو يشرع في العضد فلا، وهكذا في الساق لم يُنقل في الوضوء غسل الساق، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا من كلام أبي هريرة، وأنه مُدرج، وليس من كلام النبي ﷺ، وقد أطال في هذا العلامة ابن القيم رحمه الله وبسط المقال، وأيَّد هذا القول.

وفي روايةٍ لأحمد رحمه الله أنه ذكر هذه اللفظة، وذكر عن نُعيم المجمر الراوي أنه يشكّ: هل هذه الكلمة من كلام النبي ﷺ أو من كلام أبي هريرة؟

ورواه جماعةٌ من أصحاب النبي ﷺ ولم يذكروا هذه الزيادة: "مَن استطاع منكم .."، بل اقتصروا على قوله: من آثار الوضوء، وهذا يؤيد أن الزيادة من كلام أبي هريرة، لا من كلام النبي، وهذا هو الأرجح، وهو الأظهر؛ أنه ليس من كلام النبي، بل هو من كلام أبي هريرة ، أدرجها في الحديث، وأنه لا يُستحب أن يُطيل في غسل الساق، ولا في غسل العضدين، ولكن يغسل المرفقين مع الذراع، ويغسل الكعبين مع القدم؛ لما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة: أن النبي فعل هذا عليه الصلاة والسلام، كان يفعل ذلك.

ويكون معنى "إلى" بمعنى "مع"، "إلى المرفقين" يعني: مع المرفقين، "إلى الكعبين" يعني: مع الكعبين، فالسنة تُفسر القرآن وتُوضِّح معنى القرآن الكريم، وهذا مثل قوله جلَّ وعلا: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء:2] يعني: مع أموالكم.

الحديث الرابع: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يُعجبه التَّيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله". وفي لفظٍ عنها: "كان عليه الصلاة والسلام يُحب التَّيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله".

هذا يدل على شرعية التَّيامن في الأشياء، وعدم البداءة باليسار، وأن الأفضل هو التيمن في التنعل، فيبدأ باليمنى حين ينتعل، ويبدأ بالشقِّ الأيمن حين يترجل ويُرجل رأسه، وحين يحلق، كما في الصحيح أنه بدأ بالشقِّ الأيمن في حلقه عليه الصلاة والسلام، لما حلق في حجَّة الوداع، وهكذا في طهوره يبدأ باليمنى في يديه ورجليه وشقِّه الأيمن في الغسل.

وقولها: "وفي شأنه كله" هذا يدل على أنَّ الأفضل البداءة باليمين في كل شيءٍ، مقصود له شأن بخلاف غير المقصود، المفضول بخلاف المستقذر، وبخلاف إزالة النَّجاسات والأوساخ؛ فإنها تكون باليسار، هذا هو المعروف من سنته عليه الصلاة والسلام.

الشيء المقصود الشيء الأفضل يكون باليمين ..... يبدأ بالأيمن: كالنعلين والخفين والقميص والسَّراويل، يبدأ بالأيمن عند اللبس، وفي الخلع يبدأ بالأيسر، يخلع اليسرى قبل اليمنى؛ حتى تكون اليمنى أول ما تُنعل، وآخر ما تُخلع، وهكذا في القميص والسَّراويل ونحو ذلك، وهكذا في دخول المسجد يُقدم اليمين؛ لأنَّ المقصود المسجد، بخلاف الخروج، وعكسه دخول محلِّ قضاء الحاجة؛ فإنه مُستقذر ومفضول، فيبدأ باليسار.

وجاء في هذا الباب أحاديث كثيرة: كون اليمنى لأكله وشربه وطهوره، ولأخذه وعطائه، إلى غير ذلك، والطهور كذلك مقصود فيبدأ بالأيمن. أما ما يُستقذر: كالاستنثار يكون باليسار، وكإزالة النَّجاسة تكون باليسار، وكالاستنجاء والاستجمار يكون باليسار، فإنه مستقذر ومرذول، وهذا هو الجمع بين النصوص الواردة في هذا الباب، وهو كون اليمين للأفضل والمقصود، واليسار لغير المقصود ولغير الأفضل وللمُستقذر، وإذا جمعت أحاديث الباب وجدتها تدور على هذا، والله أعلم.

وعن أبي هريرة : أن النبي ﷺ قال: إذا توضَّأتم فابدؤوا بميامنكم أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة.

هذا يدل على وجوب البداءة باليمين قبل اليسار: في يديه وفي قدميه، هذا معلوم من فعل النبي ﷺ؛ فإنه ﷺ كان إذا توضأ يبدأ باليمنى في يديه ورجليه قبل اليسرى، وهذا محفوظ عنه ﷺ في الأحاديث الصَّحيحة: من حديث عثمان ، ومن حديث عبدالله بن زيد بن عاصم، ومن حديث علي ، وحديث عبدالله بن عمرو بن العاص، وغيرهم.

وفعله يُفسر قوله جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، فكما أنه يُفسر الترتيب والموالاة، فهو يُفسر أيضًا الترتيب بين اليدين والقدمين، وفعله ﷺ هو مُفسر لما أُجمل في القرآن الكريم في الوضوء والغسل وغير ذلك مما أجمل في كتاب الله من الصلاة والزكاة والحج وغير هذا، فكذلك الوضوء، وهذا هو الذي عليه أهلُ العلم، وهو ظاهر السنة، وظاهر القرآن، فإنَّ السنة تُفسر القرآن وتُبين معناه.

وذهب بعضُهم إلى أنَّ ذلك للسنية فقط، وأن الترتيب بين اليدين والقدمين في اليمين واليسار للأفضلية فقط، وهو قول مرجوح، والصواب الأول، وأنه للوجوب؛ لظاهر السنة الثابتة عنه عليه الصلاة والسلام، ومنها هذا الحديث وما جاء في معناه.

وزاد البيهقي وجماعة: إذا توضَّأتم ولبستم، وهذا أمر معلوم، تقدم من حديث عائشة: أن السنة هو البداءة باليمين؛ لقولها: "كان يُعجبه التَّيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله"، والسنة فيما له يمين ويسار البداءة باليمين في اللبس، والبداءة باليسار في الخلع: كالقميص والسَّراويل والخفَّين والنَّعلين، وغير ذلك مما له يمين ويسار يبدأ باليمين في اللبس، وباليسار في الخلع، هذا من سنته، ومن الآداب الشرعية التي جاء بها المصطفى عليه الصلاة والسلام، كما يبدأ باليمين في الأكل والشرب والمصافحة والأخذ والعطاء ونحو ذلك.

الحديث الثاني: حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي ﷺ توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفَّين.

هذا يدل على شرعية المسح على الخفَّين والعمامة، وهذه سنة قد جاءت بها عن رسول الله ﷺ أحاديث كثيرة، وروى المسح عن النبي ﷺ جمعٌ كبيرٌ من الصحابة من قوله وفعله عليه الصلاة والسلام، حتى قال بعضُهم أنهم بلغوا سبعين صحابيًّا ما بين ناقلٍ للفعل، وبين ناقلٍ للقول.

والمسح على الخفَّين قد تواترت به السنة، وذكره أهل السنة في العقائد، خلافًا للرافضة؛ فإنَّ الرافضة لا يمسحون الخفَّين، ويمسحون على القدمين، خالفوا أهل السنة في الأمرين جميعًا، أما أهل السنة والجماعة فقد عملوا بالكتاب والسنة، وتابعوا ما جاء عن رسولنا عليه الصلاة والسلام فعلًا وتركًا، فهم أولى الناس بكل خيرٍ، بخلاف أهل البدع.

والمسح مؤقت -كما يأتي إن شاء الله- وليس مطلقًا، بل هو مُؤقت بيوم وليلةٍ للمُقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمُسافر، كما يأتي في محلِّه إن شاء الله.

وقد احتجَّ بعضُ الناس بهذا الحديث على الاكتفاء ببعض الرأس، والمؤلف ذكره هنا لهذا الغرض، وإلا فالمسح على الخفَّين وعلى العمامة له باب يأتي، ولكن لا حُجَّةَ فيه لمن زعم ذلك: كالشافعية والحنفية؛ يرون الاكتفاء ببعض الرأس.

وذهب الإمامُ مالك رحمه الله وأحمد وجماعةٌ من أهل الحديث والفقهاء إلى وجوب تعميم الرأس بالمسح، وهذا هو الصواب كما في حديث عبدالله بن زيد، وحديث عثمان، وغيرهما؛ فإنَّ الرسول ﷺ مسح الرأس وعممه؛ بدأ بمقدم الرأس، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردَّهما إلى المكان الذي بدأ منه، وهذا هو المشروع، وأنه التَّعميم وعدم الاكتفاء بالبعض.

وأما حديث المغيرة هنا فليس فيه الاكتفاء بالبعض؛ فإنه ﷺ مسح على الناصية وكمل على العمامة، فلم يقتصر على الناصية حتى يُحتجَّ به على جواز المسح للبعض، فإذا كان عليه عمامة مسح على العمامة وكمل على الرأس، وإذا كان الرأسُ مكشوفًا مسحه كله، هكذا جاءت السنةُ عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس لمن اكتفى بالبعض حُجَّة يحسن المصير إليها.

فالواجب هو الأخذ بما ثبت عنه ﷺ من تعميم الرأس بالمسح، إلا إذا كان عليه عمامة شرعية؛ فإنه يمسح ما ظهر من الناصية، ويكتفي بمسح الباقي فوق العمامة؛ جمعًا بين السنتين.

وأما الخفَّان: فيمسح ظاهرهما بيديه اليمنى على اليمنى، واليسرى على اليسرى، وكيف ما مسح أجزأ كما سيأتي إن شاء الله.

والحديث الثالث: حديث جابر في صفة حجِّ النبي ﷺ، جابر تقدم؛ هو ابن عبدالله بن عمرو بن حرام الأنصاري، وهو صحابي، وأبوه صحابي، وأبوه قُتل يوم أحدٍ شهيدًا رضي الله عنه وأرضاه.

وجابر أحد المكثرين من الصحابة عن النبي ﷺ، روى عن النبي ﷺ أحاديث الحج، وعُني بالحجِّ، روى غالب ما جاء في الحجِّ رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه في الحجِّ منسك مُستقل كما يأتي في محلِّه في كتاب الحج إن شاء الله.

ومن ذلك أنه روى عن النبي ﷺ أنه قال: ابدأوا بما بدأ الله به، هكذا رواه النَّسائي بلفظ الأمر: ابدأوا، ورواه مسلم بلفظ الخبر: أبدأ بما بدأ الله به، لما أتى الصفا رقيها وقال: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، قرأ الآية، وأول الآية: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، ثم قال: أبدأ بما بدأ الله به، وفي اللفظ الآخر: نبدأ بما بدأ الله، ولفظ النَّسائي وأبي داود: ابدأوا بما بدأ الله.

احتجَّ بهذا على أنَّ ما ذكره الله قولًا وبدأ به نبدأ به فعلًا، فكما بدأ في الوضوء بالوجوه: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، نبدأ بذلك عند الوضوء فعلًا، بدأ به ربنا ذكرًا وخبرًا وأمرًا، فنبدأ به فعلًا، لولا أنه هو الأهم لما بدأ به في أمره جلَّ وعلا في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ الآية [المائدة:6]، فنبدأ بما بدأ الله به: نغسل الوجه أولًا، ثم اليدين، ثم مسح الرأس، ثم الرِّجْلين، وهكذا فعل النبي ﷺ، فإنه رتَّبها هكذا كما بدأ الله ، فوجب علينا التَّأسي به ﷺ، والسير على ما سار عليه، والترتيب كما رتَّب عليه الصلاة والسلام.

والرابع: حديث جابر أيضًا: أن النبي ﷺ إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه. أخرجه الدَّارقطني بإسنادٍ ضعيفٍ؛ لأنَّ في إسناده مَن لا يُحتجُّ به.

والمؤلف ذكره هنا ليُعلم حاله، وأنه ضعيف، لكنه رحمه الله لم يذكر ما يقوم مقامه في الدلالة على أنَّ المرفقين وأنَّ الكعبين داخلان في الغسل، فذكر هذا الحديث الضعيف، ولم يأتِ بما يقوم مقامه في الدلالة على هذا الأمر.

وقد روى مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أنه توضأ، فلما غسل يديه أشرع في العضد، ولما غسل رجليه أشرع في الساق، وقال: "هكذا رأيتُ النبي يتوضأ" عليه الصلاة والسلام.

فهذا يدل على أن المرفق مغسول، وأن الكعب مغسول، وأن قوله: "إلى الكعبين"، "إلى المرافق" بمعنى (مع) أي: مع المرفقين ومع الكعبين، كما في قوله : وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء:2] أي: مع أموالكم، يعني: مع أموالكم.

فالسنة تُفسر القرآن وتُبين لنا أنَّ (إلى) داخل ما بعدها فيما قبلها، والقاعدة أنَّ (إلى) لا يدخل ما بعدها فيما قبلها؛ فإنَّ إلى للنهاية، ما بعدها غير داخلٍ فيما قبلها إلا بدليلٍ، كما في قوله جلَّ وعلا: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، الليل ليس محلَّ الصيام، إذا جاء الليل أفطر الصائم، أما هنا فما بعدها داخلٌ فيما قبلها: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] يعني: مع المرافق، وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ يعني: مع الكعبين، بدليل فعل النبي ﷺ: أنه كان يشرع في العضد وفي السَّاق، فدلَّ ذلك على أن الكعبين والمرفقين مغسولان، والله أعلم.

س: رواية البيهقي .. الفعل يكون للاستحباب؟

ج: قد يشترك الواجبُ مع المستحبِّ في أشياء ......، فقد يقترن الواجبُ مع المستحب، كما في حديث عائشة: عشرٌ من الفطرة، وذكر منها الاستنشاق وإعفاء اللحية، وهما واجبان، مع السواك، ومع قص الشارب، ومع غسل البراجم، إلى آخره، الحديث دلَّ على وجوب الميامنة أظهر.

...............

س: أحسن الله إليك، تكون (إلى) بمعنى (مع) محصورة في صور؟

ج: الأصل عدم دخول ما قبلها فيما بعدها -هذا الأصل- إلا بدليلٍ يدل على دخوله.

س: ..............؟

ج: ليس بصحيحٍ، المحفوظ مرة واحدة، يُقبل ويُدبر، هذا المحفوظ، وجاء في بعض روايات عثمان، ولكن ذكر أبو داود وغيره أنها غير صحيحةٍ.

الحديث الخامس والخمسون: وعن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال: لا وضوءَ لمن لم يذكر اسم الله عليه أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه بإسنادٍ ضعيفٍ.

وعن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: لا وضوءَ لمن لم يذكر اسم الله عليه أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه بإسنادٍ ضعيفٍ.

وهذا الحديث له طرق وألفاظ: منها: لا صلاةَ إلا بوضوءٍ، ولا وضوءَ لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولكنها كلها ضعيفة عند أهل العلم.

وكذلك حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وحديث أبي سعيدٍ الخدري عند الترمذي رحمه الله، وحديث أبي هريرة ، لكنها كلها مدارها على ضعفاء؛ فلهذا قال أهل العلم رحمهم الله تعالى: لا يثبت في هذا الباب شيء. أي: لا يثبت في باب نفي الوضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه شيءٌ، ومن أجل هذا ذهب الجمهورُ إلى أن التَّسمية لا تجب، وإنما تُستحب فقط؛ لأنَّ الأحاديث فيها ضعيفة.

وذهب قومٌ إلى وجوب التَّسمية مع الذكر، وسقوطها مع النسيان؛ أخذًا بهذه الأحاديث التي جاءت، وإن كان فيها ضعف، لكنها كثيرة.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: مجموعها يقضي بأنَّ لها أصلًا، وأنَّ الحديث حسن من أجل تعدد الطرق.

وقد قالوا في الضَّعيف الذي لا تصل درجته إلى السُّقوط، وليس ضعفُه من أجل شذوذه، ولا من أجل أنَّ فيه كذَّابين أو متروكين، وإنما ضعفه من أجل سُوء حفظ بعض الرواة، قالوا: أنه إذا تعددت طرقُه يرتفع إلى درجه الحُسن والقبول.

كما قال الحافظ ابن حجر في "النخبة": ومتى تُوبع السيئ الحفظ بمُعتبر، وكذا المستور والمرسل والمدلس؛ صار حديثُهم حسنًا، لا لذاته، بل بالمجموع.

وقال الحافظ العراقي في "الألفية":

فإن يُقل يُحتج بالضَّعيف فقل إذا كان من الموصوف
رواته بسوء حفظٍ يُجبر بكونه من غير وجهٍ يُذْكَر
وإن يكن لكذب أو شذَّا إلى آخره

فالمقصود أنه إذا كان لسُوء الحفظ انجبر بطرقٍ، وارتفع إلى درجة المقبول، وهو القسم الرابع؛ لأنَّ المقبول عند أهل العلم بالحديث أربعة أقسام:

القسم الأول: الصحيح لذاته: وهو الذي استقامت طرقه؛ لأنه رواية جيدة من طريق الثِّقات الأثبات، مع اتصال السند، ومع تمام الحفظ، ومع عدم الشُّذوذ والعلة، هذا يُقال له: الصحيح لذاته؛ لأنه جاء من رواية عدلٍ عن عدلٍ، تام الضبط، متصل السند، غير معلل، ولا شاذٍّ.

والثاني: الحسن لذاته: وهو مثل الصحيح لذاته، إلا أنَّ رواته في الحفظ دون رواة الصحيح، يعني: حفظهم أقلّ، مع كونهم ضُبَّاطًا حافظين.

والثالث: الصحيح لغير ذاته: وهو الحسن إذا تعددت طرقُه سُمِّي: الصحيح لغير ذاته، بل لغيره.

والرابع: الحسن لا لذاته، بل لغيره: إذا تعددت الطرقُ.

فهي أربعة أقسام، ولكن هذا القسم الرابع محل نظرٍ، كثيرًا ما تلتبس فيه الآراء وتختلف لاختلاف بعض الرواة، ولاختلاف الطرق التي تعددت؛ فلهذا تجد بعضَ أهل العلم يُحسنه، وبعضهم يُضعفه بحسب ما وصل إليه من العلم في ضبط الراوي وعدم ضبطه، وفي اتِّصال السند وعدم اتِّصاله، وفي جهالة الراوي أو عدم جهالته، فمن أجل ذلك تختلف آراؤهم رحمة الله عليهم في هذا القسم الرابع.

هذا مما يُستشهد به، ولكن لا يُعتمد عليه في الأصول، فهو من قبيل أحاديث التَّرغيب والتَّرهيب، ومن قبيل الاعتضاد والاستشهاد، هذا هو أحسن ما قيل فيه؛ ولهذا فالوضوء ينبغي فيه التَّسمية، ويُشرع فيه التَّسمية، ولكنَّ وجوبها فيه نظر مع الذكر.

وذهب أحمد رحمه الله في روايةٍ عنه أنها تجب مع الذكر، وتسقط مع النسيان.

وذهب الجمهورُ -مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم- إلى أنها لا تجب؛ لضعف هذه الأحاديث كما عرفت، وأنها لا تثبت كما قال أحمد بسبب ما اعترى أسانيدها من ضعفٍ، وبهذا يكون أعدل الأقوال أنَّ التسمية متأكِّدة، وأما الوجوب فمحل نظرٍ، ولكنها متأكدة، ولا يحسن تعمد تركها، بل يُشرع له أن يأتي بها في أول الوضوء، هذا هو الأحوط والأولى، فإن تركها فالصواب عدم بطلان الوضوء، فالوضوء صحيح، ولكن ترك ما ينبغي فعله.

والحديث الثاني: حديث طلحة بن مُصرّف اليماني، عن أبيه، عن جده.

طلحة إمام معروف ثقة، من رجال الشيخين، لكن مصرِّفًا أبوه مجهول عند أهل العلم، لا يُعرف؛ ولهذا ضعف الأئمةُ روايةَ طلحة عن أبيه عن جدِّه، وقالوا: إنها رواية منكرة مجهولة لا تُعرف، هذا السند عند أهل العلم ليس بشيءٍ، وإن كان نفس طلحة جيد وثقة معروف، لكن نفس روايته عن أبيه عن جده ليست بشيءٍ عند أهل العلم؛ لأنَّ أباه غير معروفٍ، بل هو مجهول؛ ولذلك تكون الرواية ضعيفةً؛ ولهذا قال المؤلفُ رحمه الله: بإسنادٍ ضعيفٍ، من أجل جهالة مصرّف والد طلحة، وعدم معرفة أهل العلم له، وعدم توثيقهم له، فهو حديث ضعيف.

وفيه أنه كان يفصل بين المضمضة والاستنشاق، يعني: النبي ﷺ، والفصل فيما بينهما يعني: يأخذ للمضمضة غرفة، وللاستنشاق غرفة، هذا الفصل، يعني: يمضمض من كفٍّ لهذا، ومن كفٍّ لهذا، هذا الفصل.

فيكون للمضمضة ثلاث غرف، ويكون للاستنشاق ثلاث غرف، الجميع ستّ إذا كمل الغسلات، إذا غسل ثلاثًا ثلاثًا، هذا على رواية الفصل.

وأما على رواية عليٍّ: فإن المتوضِّئ يمضمض بكفٍّ واحدةٍ، ويستنشق بكفٍّ واحدةٍ، بعض الكفِّ للمضمضة، وبعضها للاستنشاق.

وفي حديث عبدالله بن زيد الصَّراحة بذلك: "ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثًا، بِثَلاثِ غَرَفَاتٍ". هذا واضحٌ في أنَّ كل غرفةٍ بعضها للمضمضة، وبعضها للاستنشاق، هذا هو معنى حديث عبدالله بن زيد في "الصحيحين".

وحديث عليٍّ بمعناه ومن جنسه، إلا أنَّ رواية عليٍّ قد يُستشعر منها أنها من كفٍّ واحدةٍ ثلاث مرات، وبهذا قال بعضُ أهل العلم: إنه تمضمض واستنشق بكفٍّ واحدةٍ ثلاث مرات بغرفةٍ واحدةٍ. وهذا مُستبعد جدًّا، وحمله على هذا المعنى فيه بُعد جدًّا، فإنَّ المتوضئ من غير الممكن أن يتمضمض ويستنشق من كفٍّ واحدةٍ ثلاث مرات؛ لأنَّ الماء يسقط ويذهب من اليد، ولا يبقى للثانية والثالثة.

فالأقرب -والله أعلم- أنَّ حديث عليٍّ من جنس حديث عبدالله بن زيد، ومعنى "يتمضمض ويستنشق ثلاثًا" يعني: يُعيدها، يتمضمض ويستنشق بكفٍّ واحدةٍ الأولى، ثم الثانية يُعيدها، ثم الثالثة، وليس المعنى: أنه يتمضمض ويستنشق من كفٍّ واحدةٍ يُكررها ثلاثًا من هذا الكفِّ؛ فإنَّ الماء لا يبقى ولا يستقر.

أما رواية الفصل فعرفت أنها ضعيفة، وقال صاحب "عون المعبود": إنَّ أبا يعلى روى في "صحاحه" الفصل، كما في رواية طلحة، هذا يُنظر فيه؛ فإن ثبت ما رواه أبو يعلى أو غيره من الفصل فتكون صفةً ثانيةً في المضمضة والاستنشاق، وأنه يتمضمض ويستنشق ثلاثًا بكل واحدةٍ، يتمضمض ثلاثًا بثلاث غرفاتٍ، وللاستنشاق ثلاث بثلاث غرفاتٍ، هذا هو الأفضل، وإن اكتفى بواحدةٍ أو اثنتين فلا بأس كما تقدم؛ لأنَّ النبي ﷺ توضَّأ مرةً مرةً، ومرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا، وكله سنة، ولكن الكمال ثلاثًا ثلاثًا، هذا هو الكمال، وإن تمضمض واستنشق مرةً فقط أو مرتين فقد حصل على السنة وأدَّى الواجب، وإن تمضمض تارةً مرتين، وتارةً مرة، وتارة ثلاثًا؛ فلا بأس، كل هذا فعله النبيُّ ﷺ، والله أعلم.

الحديث الستون: وعن أنسٍ قال: رأى النبيُّ ﷺ رجلًا وفي قدمه مثل الظفر لم ُيصبه الماء، فقال: ارجع فأحسن وضوءك أخرجه أبو داود والنَّسائي.

أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي المعروف، خادم النبي ﷺ، كانت وفاته سنة ثنتين وتسعين أو ثلاث وتسعين من الهجرة، في آخر القرن الأول، فمتَّعه الله وعمَّره فوق المئة .

أن النبي ﷺ رأى في قدم إنسانٍ مثل الظفر لم يُصبه الماء، فقال: ارجع فأحسن وضوءك أخرجه أبو داود والنَّسائي بإسنادٍ جيدٍ عندهما.

وهكذا رواه مسلم أيضًا في "صحيحه" عن جابرٍ، عن عمر رضي الله تعالى عنه: أَنَّ رَجُلًا تَوَضَّأَ، فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ، فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ فَرَجَعَ، ثُمَّ صَلَّى.

وفي لفظٍ أنَّ عمر نفسه هو الذي رأى منه النبيُّ ذلك عليه الصلاة والسلام.

ورُوي في "مسند أحمد" و"سنن أبي داود" عن خالد بن مَعدان، عن بعض أزواج النبي ﷺ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّ وَفِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرُ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ. هكذا أخرجه أبو داود.

وأخرجه أحمد بلفظ: "أن يُعيد الوضوء".

وسنده جيد عند أحمد؛ فإنه من رواية بقية بن الوليد، وهو مدلس، لكنه صرَّح بالسماع عن شيخه: بخيت بن سعد، عن خالد بن معدان، عن بعض أزواج النبي ﷺ.

هذه الأحاديث الثلاثة وما جاء في معناها: عن أنسٍ عند أبي داود والنسائي، وحديث عمر عند مسلم، وحديث بعض أزواج النبي عند أحمد وأبي داود، كلها تدل على وجوب الموالاة، وأنَّ الواجب في الوضوء الموالاة؛ لأن الرسول ﷺ أمر مَن أخلَّ بلُمعةٍ أن يُعيد الوضوء، وأن يُحسن وضوءه، ولم يقل له: اغسل هذه اللمعة فقط. ويكتفي بذلك، فدلَّ على أن الموالاة لا بدَّ منها، وأن يكون وضوؤه متواليًا؛ أعضاؤه متوالية في الغسل؛ ولهذا أمره أن يُعيد الوضوء.

وهذا -والله أعلم- كان بعد طول المدة، كان قد مضى وقتٌ حتى حُكم عليه بأنه فاتته الموالاة؛ ولهذا أمر بإعادة الوضوء والصلاة، أما لو تنبَّه في الحال على اللمعة التي في قدمه فإنه يغسلها في الحال ويكفي، إذا كان الوضوء مُتواليًا كفى، لكن إذا طال الأمدُ ويبست الأعضاءُ وطال الوقتُ عرفًا فإنه يأتي به من أوله، يستأنفه من أوله؛ لهذه الأحاديث الثلاثة وما جاء في معناها، وهي حُجَّة لقول مَن قال باشتراط الموالاة في الوضوء، وهو القول الصواب، كما يُشترط الترتيب في الوضوء، فهكذا الموالاة بين أعضائه حال الغَسل.

والحديث الثاني: حديث أنسٍ أيضًا رضي الله تعالى عنه: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع. متفق عليه.

هذا يدل على اقتصاده ﷺ في الوضوء والغسل، وأنه كان يقتصد، والسنة الاقتصاد في الماء وعدم الإسراف والكثرة ولو كان الماء ميسرًا، ولو كان على ساقيةٍ أو نهرٍ، فالسنة الاقتصاد وعدم الغرف الكثير الذي لا حاجةَ إليه، بل يقتصد في الوضوء والغُسل أيضًا، هذا هو السنة؛ ولهذا كان يغتسل بالمد، والمد معروف؛ وهو ربع الصاع، وهو مئة وعشرون مثقالًا، وهو حفنة اليدين الممتلئتين، الإناء الذي يسع حفنة اليدين الممتلئتين يُقال له: مد، والإناء الذي يسع أربع حفنات يُقال له: صاع.

وكان يتوضأ بالصاع إلى خمسة أمدادٍ، يعني: قد يكتفي بالصاع، وقد يزيد مُدًّا إلى خمسة أمداد.

جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنا نغتسل أنا ورسول الله ﷺ من إناءٍ يُقال له: الفرق. وهذا يسع ثلاثة آصع، ولا يلزم أن يكون مُمتلئًا.

فالحاصل أنَّ غُسل النبي ﷺ كان بهذا المقدار: من صاعٍ إلى خمسة أمداد أو ما يُقارب ذلك، ووضوؤه كان بالمد إلى ما يُقاربه، وتقدم الحديث في الصحيح: أنه توضأ بثلثي مُدٍّ، أي: مدّ إلا ثلثًا، فدلَّ ذلك على أنه كان يقتصد غايةً في وضوئه عليه الصلاة والسلام.

وسبق لك أنه توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا، أو مُختلفًا، غسل بعض الأعضاء مرتين، وبعضها ثلاثًا، فدلَّ على التَّوسعة في ذلك، وأنه ينبغي للمؤمن أن يُراعي الاقتصاد وعدم الإسراف في وضوئه؛ اقتداءً برسول الله عليه الصلاة والسلام.

والحديث الثاني: حديث عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه، وهو خليفة راشد، المعروف الملقب بالفاروق؛ فرَّق الله به بين الحقِّ والباطل، وقال فيه النبيُّ ﷺ: يا ابن الخطَّاب، ما سلكتَ فجًّا إلا سلك الشيطانُ فجًّا غير فجِّك، وهو أفضل الخلفاء بعد الصديق ، وثاني الخلفاء الراشدين، وثاني العشرة المشهود لهم بالجنة رضي الله عنهم وأرضاهم.

يقول أنه سمع النبيَّ ﷺ يقول: ما منكم من أحدٍ يتوضأ فيُسبغ الوضوءَ –أي: يُبلغ الوضوء ويكمله- ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ إلا فُتحت له أبواب الجنة الثَّمانية، يدخل من أيِّها شاء.

هذا يدل على فضل هذه الشَّهادة، وأنه يُستحب للمؤمن أن يقول هذه الشَّهادة، وهذا في حقِّ مَن قالها بصدقٍ وإخلاصٍ وإيمانٍ بمعناها، وأنَّ الله هو الواحد لا شريكَ له جلَّ وعلا، وأنَّ محمدًا هو رسول الله حقًّا عليه الصلاة والسلام، ومَن قال هذه الشَّهادة بصدقٍ وإخلاصٍ كانت من أسباب دخوله الجنة ونجاته من النار إذا مات عليها.

وفي قولها صادقًا مخلصًا تُفتح له أبواب الجنة، هذا يدل على فضل هذه الشَّهادة العظيمة، وأنها من أسباب دخول الجنة لمن أتى بها صادقًا مخلصًا؛ لأنَّ الصدق فيها يستلزم أداء فرائض الله، وترك محارم الله، والوقوف عند حدود الله؛ ولأن ذكرها والكلام فيها من أسباب التَّذكير بالحقِّ، وأسباب تحريك القلب إلى طاعة الله ورسوله، فهي أصل الدين، وأساس الملة؛ ولهذا رتَّب الله عليها من الخير ما لم يُرتب على غيرها؛ لكونها هي الأساس العظيم الذي متى صلح صلحت الأعمال، ومتى فسد فسدت الأعمال.

زاد الترمذي رحمه الله في روايته بعد الشَّهادتين: اللهم اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المتطهرين، وهذه الرواية عند الترمذي سندها جيد صحيح عند الترمذي.

فيُستحب أن يقول المؤمنُ عند فراغه من الوضوء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المتطهرين، كما يُستحب له ويُشرع له التَّسمية عند أوله، هذا هو الثابت في الوضوء: يُسمِّي في أوله، ويتشهد في آخره.

أما ما يقول بعضُ الناس من الدَّعوات عند أعضاء الوضوء: عند غسل وجهه يقول: اللهم بيِّض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. وعند غسل يديه يقول: اللهم اجعل كتابي بيميني. وعند مسح رأسه يقول: اللهم أظلني تحت ظلِّ عرشك. وعند غسل قدميه يقول: اللهم ثبت قدمي عند الصراط. هذا لا أصلَ له، هذه الدَّعوات لا أصلَ لها من السنة، ولم ترد في السنة، ذكر بعضُ العلماء -كابن القيم وغيره- أنها كلها باطلة موضوعة، وليس لهذا أصل لهذه الدَّعوات عند هذه الأعضاء، بل المحفوظ المشروع أن يُسمِّي الله في أول الوضوء، ويتشهد في آخره ويقول: "اللهم اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المتطهرين"، هذا هو المشروع عن النبي ﷺ.

................