11 من حديث (كان رسول الله ﷺ إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم..)

حين يخفض ويرفع فهو بتكبير للسُّجود ورفعه، كذلك فيه تكبير من السجود وإلى الركعات الأخرى.

فهذه السنة في الصَّلوات: أن يكون الإمامُ والمنفردُ والمأمومُ يخفضون ويرفعون بالتكبير؛ تأسيًا به عليه الصلاة والسلام، وكذلك يفتتحون الصلاة بالتكبير، التكبير في أولها فرضٌ عند الجميع، لا بدَّ منه -افتتاحها بالتكبير- ولا يدخل في الصلاة إلا بذلك، التكبير مع النية، وأما بقية التكبيرات فاختلف العلماءُ فيها، مع التَّسميع عند الرفع، ومع قول "ربنا ولك الحمد" بعد الانتصاب، وقول المأموم لذلك على قولين:

أحدهما: أنها واجبة؛ لما جاء في بعض الروايات من الأوامر؛ ولقوله: صلوا كما رأيتُموني أُصلي، وهذا مذهب أحمد وجماعة من السلف والخلف، وهذا أرجح القولين.

والقول الثاني: أنها مستحبة فقط، ليست واجبةً، بل هي من كمال الصلاة وفرضها، وليست من الشيء اللازم. وهذا قول الأكثرين.

والقول الأول -وإن كان قول الأقل- أولى وأحق؛ لما جاء في بعضها من الأوامر؛ ولأنَّ هذا تفسير للصلاة التي أُمرنا بها، وأُمرنا بإقامتها، فوجب أن نأتي بذلك كما أتى به النبيُّ عليه الصلاة والسلام؛ فيُكبر حين يركع، ويقول الإمام: "سمع الله لمن حمده" حين يرفع، وهكذا المنفرد والمأموم يقول: "ربنا ولك الحمد" حين يرفع؛ لأنَّ الرسول أمر بذلك قال: وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وهذا الأمر الأصل فيه الوجوب.

وقد جاء فيه أربع صفات: "ربنا ولك الحمد" بالواو، "ربنا لك الحمد" بإسقاطها، "اللهم ربنا لك الحمد" بدون واو، "اللهم ربنا ولك الحمد" بإثباتها، فهي أربع صفاتٍ في التحميد، وهذا واجب على الأرجح، والجمهور على أنه مستحب.

ويُستحب أيضًا أن يُكمل فيقول ما في حديث أبي سعيدٍ: ملء السَّماوات، وملء الأرض، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد، يقوله الإمامُ والمأمومُ والمنفردُ، وجاء في حديث عليٍّ: وملء ما بينهما، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد، ثم يقول بعد هذا: أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدّ، منك الجد، وهذا أيضًا يُستحب، وكمال.

"وأهل" يجوز فيه النصب والرفع، "أهلَ الثناء" يعني: يا أهل الثناء، والرفع: أنت أهلُ الثناء، خبر لمبتدأ محذوف، وأما "أحق" فهو بالرفع، المعنى: هذا أحق ما قال العبدُ، خبر لمبتدأ محذوف أيضًا.

ومعنى لا مانع لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ على الظاهر، يعني: ليس هناك مَن يمنع عطاء الله، وليس هناك مَن يُعطي منعه؛ لأنَّ قضاءه نافذ ، فما قدَّر عطاءه يُوجد، وما قدَّر منعه لا يوجد، ولا يستطيع أحدٌ في الدنيا -لا في السَّماوات ولا في الأرض- أن يمنع عطاء الرب، كما أنه لا يستطيع أن يُعطي منع الرب ، كما قال الله : مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2]، فهو المتصرف في الكون كما يشاء سبحانه.

قوله: ولا ينفع ذا الجدّ، منك الجد يعني: ذا الغنى والحظّ منك غناه وحظه، المعنى: الكل فقراء إليك يا رب، فالجميع فقراء إلى الله، لا ينفعهم غناهم ولا جاههم ولا وظائفهم ولا غير ذلك من ربهم ، فهم فقراء إلى الله في كل أمورهم في الدنيا والآخرة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ [فاطر:15]، وهذا كلام حقّ، يشمل حالهم في الدنيا، وحالهم في الآخرة، فهم فقراء إليه، وهو المتصرف فيهم بما يشاء ، ومَن أراد العزة والكرامة ونيل المقاصد العلية فعليه بطاعته واتِّباع شريعته، فبذلك يُدرك الخير في الدنيا والآخرة، والسعادة في الدنيا والآخرة، والعاقبة الحميدة، وينجو من الشرور التي وُعِدَ بها أعداؤه والصَّادون عن سبيله.

وفي حديث أبي هريرة الدلالة على أنَّ هذا التكبير وهذه الأشياء كلها مستمرة في الصلاة، جميع ركعات الصلاة: يُكبر حين يركع، يُكبر حين يسجد، حين يرفع من السجود، إلى آخره، ويُكبر حين يقوم من الثِّنتين بعد الجلوس في التَّشهد الأول، يُكبر إذا قام للثالثة في الصلاة الرباعية والثلاثية -المغرب- فكل صلاةٍ صلَّاها فيها اثنتان وعشرون تكبيرة، رباعية اثنتان وعشرون تكبيرة، تكبيرة الإحرام، وتكبيرة النَّقل من التشهد الأول إلى الثالثة اثنتان، وكل ركعةٍ فيها خمس تكبيرات، هذه اثنتان وعشرون تكبيرة، وفي المغرب سبع عشرة تكبيرة، وفي الفجر إحدى عشرة تكبيرة: تكبيرة الإحرام، وعشر في الركعتين.

وفيه دلالة على أنَّ سجدتي السَّهو وسجدة التلاوة كلها كذلك إذا سجد؛ لأنَّ فيها خفضًا ورفعًا، فيُكبر في سجود السَّهو كما جاء صريحًا من حديث أبي هريرة: أنه كبَّر في سجود السَّهو، ثم كبَّر في الصلاة، كذلك سجود التلاوة: إذا سجد في الصلاة مثله، يعمّه الحديث، إذا سجد للتلاوة يُكبر، وإذا رفع يُكبر؛ لأنه سجود، فيعمّ السجود؛ ولأنه خفض ورفع فيعمّه: أنه كان يُكبر في كل خفضٍ ورفعٍ إذا سجد في الصلاة.

أما إذا سجد خارج الصلاة للتلاوة فلم يرد في ذلك تكبير إلا عند السجود، جاء من حديث ابن عمر أنه كان يُكبر إذا سجد للتلاوة. رواه أبو داود والحاكم، ولم يذكر فيه التَّكبير عند الرفع، وإنما جاء التكبير عند السُّجود للتلاوة على ضعفٍ في رواية أبي داود، لكن جاء من رواية الحاكم بسندٍ لا بأس به، وأما إن كان في الصلاة فإنه يُكبر عند الخفض والرفع في سجود التلاوة وفي سجود السهو، مثل سجود الصلاة سواء.

وفي حديث ابن عباسٍ -الحديث الثالث- قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: أُمرتُ أن أسجد على سبعة أعظمٍ: على الجبهة، وأشار إلى أنفه، هذا واحد، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين هذه ستة، الجميع سبعة.

هذا الأمر أصله الوجوب، والأمر له ﷺ أمر للأمة؛ لأنه هو الموجه للأوامر، والأمة تبع له في ذلك، فالأوامر له أمر للأمة، إلا ما ثبت أنه مخصوصٌ له عليه الصلاة والسلام، وإلا فالأصل أنَّ الأوامر الموجهة إليه والنَّواهي الموجهة إليه عليه الصلاة والسلام هي موجهة في المعنى للأمة، أمرًا ونهيًا، وهي واجبة على الجميع، عليه وعليهم، والمنهيات محرَّمة عليه وعليهم، إلا ما دلَّ الدليل على تخصيصه به: كتزوجه التّسع، وأشياء من الخصائص الأخرى المعروفة، فهذه خاصة به عليه الصلاة والسلام، وإلا فالأصل أنَّ الأمة تبعٌ له في كل شيءٍ، يجب عليها أن تسجد على سبعة أعظمٍ كما وجب عليه: الجبهة والأنف، وهما واحد، لا بدَّ أن يسجد عليهما، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين، على أصابع القدمين، هذا المفروض على الجميع، في جميع الصَّلوات، في الفرائض والنوافل؛ لأنَّ الحكم يعمّ الجميع، إلَّا ما خصَّه الدليلُ، فما وجب في الفريضة وجب في النافلة، إلا ما خصَّه الدليل: كالقيام، يجوز في النافلة الجلوس ولو لغير عذرٍ، ولكن في الفريضة لا، لا يجوز الجلوس فيها إلا لعذرٍ كالمرض.

والحاصل أنَّ ما ثبت في الفريضة ثبت في النافلة، في الوجوب والاستحباب، إلا ما خصَّه الدليل، وما وجب عليه ﷺ ووجه إليه أمرًا أو نهيًا فالأمة كذلك، إلا ما خصَّه الدليل. والله أعلم.

س: ................؟

ج: ........ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فقال: مَن القائل؟ فأرمّ القومُ حتى كررها ثلاثًا، فقال: أنا، وما أردتُ إلا الخير يا رسول الله، فقال: لقد رأيتُ كذا وكذا من الملائكة يبتدرونها أيّهم يرفعها؟ .....، فدلَّ على أنَّ استحبابها بعد الرفع من الركوع.

وفي بعض الروايات عند الترمذي وغيره: أنه عطس بعدما رفع فقالها، ولكن في رواية البخاري أنه قالها عند الرفع، وليس للعطاس، فقال النبيُّ ﷺ: لقد رأيتُ كذا وكذا، فدلَّ ذلك على استحبابها، وأنها كلمات طيبة ................

س: أهل الثناء والمجد قلتم: فيها الرفع والنَّصب، أليس الرفع أولى بالمقام؛ لأنَّ المقام ثناء وتقديس لا مقام دعاء؟

ج: ..... أهل العلم، ولكن أنت أهل الثناء، وأخصّ أهل الثناء، أو: يا أهل الثناء، فالمعنى واحد متقارب.

س: لو رفع بعض الأعضاء السبعة: واحد أو اثنين أو ثلاثة، ولم يسجد إلا على بعضها؟

ج: لا يصح، لا يكون سجودًا؛ لأنه فرض على السبعة كلها، لكن لو رفع وأعاد قبل أن يرفع أجزأ، لو رفعه عند السجود ثم أعاده بحيث تمكن حصل به ..... حصل المقصود.

س: ولو كان عنده عذر؟

ج: لا، المعذور مُستثنًى، الذي يده مقطوعة، أو رجله مريضة ما تستطيع أن تمسّ الأرض، فهذا معذور عند جميع أهل العلم، الكلام مع الصحة.

س: والسُّجود على الجبهة دون الأنف؟

ج: ما يُجزئ، لا بدَّ من الأنف والجبهة جميعًا؛ لأنَّ النبي ﷺ سجد عليهما وأشار إليهما.

س: لو أخلَّ بهذه الأعضاء في سجدةٍ؟

ج: إن كان عمدًا بطلت الصلاة، وإن كان سهوًا تبطل الركعة .....؛ إلا إذا كان في الحال يكمل، إذا كان أدركها في الحال يكمل، لكن لو ما ذكر إلا بعد .....

س: المكان المسجود عليه قال بعضُ الفقهاء أنه إذا كان مكانًا مُنتفشًا أو صوفًا أو ما أشبه ذلك أنه ما يُعتبر، ما يصح السجود، لا بدَّ أن يكون منبسطًا يعني؟

ج: ما سمعتُ في هذا شيئًا، ولا أذكر في هذا شيئًا، ولا أعرف في هذا شيئًا، الذي يظهر لي أن جميع الأمكنة الطاهرة يسجد بها، ما دام يتمكن من أعضائه ووضعها عليه وجبهته وأنفه .....

س: إذا صلَّى الإنسانُ منفردًا هل يجب أن يقول: ربنا ولك الحمد؟

ج: مطلقًا، ولو أنه واحد، ما يقول: ربي ولك الحمد، يقول: ربنا، هكذا جاء الحديث، والنبي يصلي وحده ويقول: ربنا ولك الحمد، وهو سيد المتواضعين.

س: ..............؟

ج: محل نظر، المحفوظ رفع اليدين عند ..... الأربع: الإحرام، والركوع، والرفع منه، .....، أما ما يُروى في بعض روايات وائل محل نظرٍ .....، وحديث ابن عمر صريح في "الصحيحين": "كان لا يرفع حين يسجد، ولا حين يرفع رأسه من السجود" فيه التَّنصيص.

س: ............؟

ج: محل نظرٍ، يحتاج إلى دليلٍ، يحتاج إلى عنايةٍ بالألفاظ وسلامتها من العلة، فإذا ثبتت سلامتها من العلة لعله فعله بعض الأحيان، ولا يتنافى مع رواية ابن عمر؛ لأنَّ ابن عمر نصَّ على هذا الشيء تنصيصًا، فيكون ابن عمر حفظ شيئًا، والآخر حفظ شيئًا، فيكون لو صحَّ في بعض الأحيان، لا في كلِّ الأحيان .....

س: رواية أنه يرفع مع كل خفضٍ ورفعٍ يديه؟

ج: محل نظرٍ، كنتُ راجعتُها قديمًا، ولم يظهر لي صحَّتها، ولكن تحتاج إلى مراجعةٍ أخرى وعنايةٍ، حديث ابن عمر في "الصحيحين" تصريح بأنه لا يرفع حين يسجد، ولا حين يرفع رأسه من السجود، وهو أصح من رواية وائل.

س: المأموم تابعٌ لإمامه في قوله: "سمع الله لمن حمده"؟

ج: لا، إذا قال الإمامُ: "سمع الله لمن حمده"، يقول المأموم: "ربنا ولك الحمد"، ويقول بعضُ الفقهاء أنه يُتابع، لكنه ضعيف، والنبي قال: صلوا كما رأيتُموني أُصلي، ولم يستثنِ، فلا يقول المأمومُ مثل قوله: "سمع الله لمن حمده"، المأموم يقول: "ربنا ولك الحمد"؛ لأنَّ الرسول قال: إذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، ما قال: قولوا: سمع الله ربنا، وجَّههم أن يقولوا: ربنا، عند قول الإمام: سمع الله، فالسنة للمأمومين أن يقولوا: ربنا ولك الحمد.

س: الإمام أيضًا يقول: ربنا ولك الحمد؟

ج: يقول بعد التَّسميع؛ لأنَّ الرسول أمر المأمومين أن يقولوا إذا قال: سمع الله لمن حمده، أن يقولوا: ربنا، ما قال: إذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا مثله، ثم قولوا: ربنا. لكن إذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا، ترك التَّسميع.

س: مُوجبها في حقِّ الإمام؟

ج: فعل النبي ﷺ، النبي ﷺ فعلها، وقال: صلوا كما رأيتُموني أصلي، الإمام مثل النبي ﷺ، والمنفرد كالإمام، لكن المأموم وجهه توجيهًا آخر: فإذا قال الإمامُ كذا فقولوا كذا.

أما بعد: فهذه الأحاديث الخمسة كلها تتعلق بصفة صلاة النبي ﷺ، وتقدم من ذلك جملة، ويأتي في الباب جملة أيضًا، كلها متعلقة ببيان صفة صلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام.

فالمقصود من هذا أن يتأسَّى به المؤمن في صلاته، والصحابة نقلوا لنا كل أعماله عليه الصلاة والسلام، نقلوا صفةَ صلاته وقيامه إليها، بل من خروجه من البيت إلى المسجد إلى فراغه منها، وإلى ما يقوله بعدها عليه الصلاة والسلام، وأهل العلم ذكروا ذلك وجمعوه جزاهم الله خيرًا، ومن ذلك الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله في هذا الكتاب "بلوغ المرام".

الحديث الأول: حديث ابن بُحينة، وهو عبدالله بن مالك ابن بُحينة، بحينة أمه، وأبوه مالك، وهو ممن روى صفة صلاة النبي ﷺ، من ذلك أنه كان إذا سجد فرَّج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه، هكذا الناظر إذا نظر نظر بياض الإبطين، فلم يلصقهما، بل يُفرج بينهما حتى يبدو بياض إبطيه، وهذا يدل على أنه كان أبيض اللون، كان أبيض البشرة عليه الصلاة والسلام.

وتقدم في حديث أبي جُحيفة في الأذان، قال: رأيتُ النبيَّ ﷺ لما خرج يتوضأ عليه حُلَّة حمراء، خرج مُشمِّرًا، رأيتُ بياض ساقيه عليه الصلاة والسلام، فكان أبيض اللون مُشْرَبًا بُحمرةٍ عليه الصلاة والسلام، وكان من أحسن عباد الله في صورته وشكله عليه الصلاة والسلام، فكان يُشمر ولا يُسبل ثيابه، بل يُشمر في ثيابه: في قميصه وإزاره، حتى يبدو بعض الساق فوق الكعب.

وكان عليه الصلاة والسلام إذا سجد فرَّج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه، ما كان هناك شعر، بل كان ينتف الشعر؛ لأنَّ النبي سنَّ للمسلمين نتف الشعر، فالسنة أن ينتف الإبطين حتى تبقى بيضاء سليمة، ولو قدر أنه بقي فيها شيء يسير، فهو ﷺ ما بعد شاب، مات وليس فيه إلا شيبات قليلة، كان أسود الشعر عليه الصلاة والسلام، ليس فيه إلا شيب قليل.

فالمراد من ذلك هنا بيان البشرة، بيان الجلدة، يعني: يبدو بياض الإبط، أبيض، أنه كان ينتفه، ولا يُبقي فيه الشعر عليه الصلاة والسلام، وهو يدل على سننٍ، منها: العناية بالآباط ونتفها، وألا يبقى فيها شيء؛ لأنه لو كان فيها شعر لقال: سواد إبطيه، للشعر، وليس فيها سواد، ليس فيها شعر.

ومنها فضل التَّفريج: إذا سجد يُفرج بين يديه وجنبيه، ولا يضمّ عضديه إلى جنبيه؛ اقتداءً بالنبي ﷺ، وهذا جاء فيه عدة أحاديث، هذا المعنى جاء في عدة أحاديث في "الصحيحين" وفي غيرهما.

ومن ذلك: حديث البراء الذي بعده، قول النبي ﷺ: إذا سجدتَ ضع كفَّيك، وارفع مرفقيك، فرفع المرفقين معناه: إبداء الإبطين، وعدم ضمّ العضد إلى الجنب، هذه السنة: إذا سجد يرفع مرفقيه هكذا، ويضع اليدين على الأرض، يعني: الكفَّين.

وهذا المعنى جاء في أحاديث أيضًا: حديث أنسٍ في "الصحيحين": إذا سجد أحدكم فلا يبسط ذراعيه انبساط الكلب.

فالحاصل أنَّ السنة رفع الذِّراعين، والمجافاة بالعضدين عن الجنبين، والاعتماد على الكفين في السجود، وأن يكون حيال الرأس، أو حيال المناكب، فعل هذا وهذا عليه الصلاة والسلام: تكون كفَّاه حيال منكبيه في بعض الأحيان، وحيال أُذنيه في بعض الأحيان -حذاء أذني النبي عليه الصلاة والسلام-.

والحديث الثاني: حديث أبي وائل، وهو في المعنى أيضًا: كان إذا ركع فرَّج بين أصابعه، وإذا سجد ضمَّ أصابعه.

هذا من صفة صلاته ﷺ: إذا ركع يُفرج بين الأصابع، وهذا جاء أيضًا في حديث أبي حميدٍ وغيره، هكذا يضع يديه على ركبتيه في الركوع، مُفرجة، مفتوحة الأصابع، وإذا سجد ضمَّهما هكذا، ضمَّ بعضَها إلى بعضٍ .....، لكن كل أصبع مضموم إلى الآخر، هكذا مضمومة، وأطرافها إلى جهة القبلة في السجود، وفي الركوع على الركبتين مُفرجة، هكذا كان عليه الصلاة والسلام.

والحديث الرابع: حديث عائشة: أنها رأت النبيَّ يُصلي مُتربِّعًا. هذا يدل على أنَّ الأفضل التَّربع في محلِّ القيام، إذا صلَّى جالسًا يتربع في محلِّ القيام، وهذا أفضل، والظاهر والله أعلم أنه أريح للمؤمن وأمكن له في القراءة، بخلاف إذا جلس على رجله اليسرى أو مُفترشًا؛ فقد يتعب.

فالأفضل إذا جلس يُصلي جالسًا فإنه يتربع، ولا سيما في صلاة الليل؛ فإنه قد يطول قيامه، فالأفضل للمُصلي جالسًا أن يتربع، كما روت عائشةُ رضي الله عنها، يتربع في حال القيام.

ولو صلَّى على غير هذه الحالة أجزأ، كما تقدم في حديث عمران بن حصين كما يأتي: صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ، ولم يقل له: قاعدًا على كذا وكذا؛ دلَّ على أنه يُصلي قاعدًا، سواء كان مفترشًا أو مُتربِّعًا أو مُتوركًا، على أي حالٍ جائز؛ لعموم قوله: فصلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، والقاعد يعمّ أنواع القعود: مُفترشًا أو مُتوركًا أو مُتربعًا، يُجزئه على أي حالةٍ، لكن الأفضل أن يكون مُتربعًا؛ لحديث عائشة.

والخامس حديث ابن عباسٍ في الجلوس بين السَّجدتين: كان يقول بين السَّجدتين عليه الصلاة والسلام: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني، وفي روايةٍ أخرى: واجبرني، المحفوظ ستّ كلمات: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني واجبرني وارزقني وعافني، كان يقولها بين السَّجدتين عليه الصلاة والسلام، ويقول: رب اغفر لي، رب اغفر لي كما في حديث حذيفة وغيره.

وهو محل دعاءٍ، إذا دعا فيه بالمغفرة والرحمة ولوالديه وللمسلمين كله محل دعاءٍ؛ ولهذا قال: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني واجبرني وارزقني وعافني، فهذه دعوات ..... بين السَّجدتين بالدَّعوات التي ..... المؤمن، ولكن يكون منها المغفرة، يكون من ضمنها طلب المغفرة، ويضم إلى ذلك: زيادة طلب الرزق، أو العافية، أو النَّجاة من النار، أو دخول الجنة، أو صلاح قلبه وعمله، أو صلاح المسلمين، أو صلاح ولاة المسلمين، أو ما أشبه ذلك كله، لا بأس به؛ لأنَّ هذه الجلسة هي محل دعاءٍ.

كما يدعو في آخر صلاته قبل أن يُسلم، وكما يدعو في السُّجود؛ لأنه حال خضوع وذلٍّ لله جلَّ وعلا، وموضع الدعاء ثلاث: في السُّجود، وبين السَّجدتين، وفي آخر الصلاة قبل أن يُسلم. كل هذه محل دعاءٍ.

فينبغي للمؤمن أن يكون لهذه المواضع حظٌّ من دعائه، مع إخلاصٍ، ومع خضوعٍ، ومع إقبالٍ على الله، ويُصلي على النبي ﷺ؛ لأنَّ الحديث عام: إذا دعا أحدُكم فليحمد ربَّه، ويُصلي على النبي ﷺ هذا عام، فيُثني على الله في سجوده، وفي مقدمة دعائه، ويُصلي على النبي ﷺ، هذا من أسباب الإجابة، ولو كان في داخل الصلاة؛ لأنَّ الصلاة دعاء، وأنت مأمور بالدعاء، وهي من أسباب الإجابة أيضًا: حمد الله والثناء عليه دعاء في المعنى، فإذا دعوتَ مثلما ..... التحيات، التحيات كلها ثناء، ثم الصلاة على النبي، ثم الدعاء، هذا كله من أسباب الإجابة، والله أعلم.

...............

أما بعد: ذكر المؤلفُ رحمه الله هذه الأحاديث الأربعة المتعلقة بصفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي كالتي قبلها، وكالتي تأتي بعدها، كلها تُبين أحواله ﷺ من أقوالٍ وأعمالٍ في صلاته عليه الصلاة والسلام.

والمقصود التأسي به لما يثبت عنه عليه الصلاة والسلام؛ لقوله: صلوا كما رأيتُموني أُصلي، وقول الله جلَّ وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].

ومن ذلك حديث مالك بن الحُويرث الليثي : أنه رأى النبيَّ ﷺ يُصلي، وكان إذا يوتر من صلاته -يعني: فرد من صلاته، أو ضد الشَّفع- لم ينهض حتى يستوي قاعدًا، والوتر يكون في الواحدة، ويكون في الثلاث. أخرجه البخاري.

احتجَّ بهذا مَن قال من أهل العلم أنه يُستحب هذا الجلوس للإمام والمنفرد والمأموم؛ تأسيًا بالنبي عليه الصلاة والسلام في ذلك.

والحديث صحيح كما هو ظاهر، وله شواهد أيضًا، وقد تنازع الناسُ في هذا، ويُسمون هذه الجلسة جلسة الاستراحة.

وقوم قالوا: إنَّ هذا محمول على أنه كان في آخر حياته لما ثقل، أو لأسبابٍ أخرى كالمرض؛ لأنها لم تُنقل في الروايات الأخرى.

وقال آخرون: بل هي سنة؛ لأنَّ الحديث صحيح ثابت، فلا وجهَ للعدول عنه.

وهذا القول أظهر؛ لأنَّ الأصل فيما يُخبر به عن النبي ﷺ هو أنه سنة من سنن الصلاة، فلا يقيد، هذا هو الأصل في أفعاله وأقواله التي يفعلها في الصلاة، الأصل فيها أنها مشروعة، وتقييدها بحالة المرض أو بحالة كبر السن أو ما أشبه ذلك يحتاج إلى دليلٍ.

والحجّة الثانية: ما ثبت من حديث أبي حميدٍ الساعدي الأنصاري عند أحمد وأبي داود وغيرهما: أن أبا حميدٍ ذكر صلاة النبي ﷺ يومًا في عشرةٍ من الصحابة، فذكر في ذلك جلسة الاستراحة، وأنه كان إذا نهض من السجود الثاني في الأولى وفي الثالثة جلس كجلسته بين السَّجدتين، ثم نهض، فلما فرغ صدقوه، وكان منهم أبو قتادة وجماعة، ومحمد بن مسلمة وجماعة، في عشرةٍ من الصحابة.

فالمعنى أنَّ هذه الجلسة ثبتت من رواية اثني عشر صحابيًّا: أبي حميد وعشرة معه، وإن كان هو العاشر فتكون إحدى عشرة، ورواية مالك بن الحويرث، هذا هو الأظهر: أنها مستحبة وليست مقيدة بكبر السن أو بالمرض.

وصفتها: كهيئة جلسة الإنسان بين السَّجدتين، هذا هو الأرجح فيها.

وقال بعضُهم: يكون مستوفزًا.

ولكن الصواب ما ثبت في حديث أبي حميدٍ، وأنها جلسة خفيفة مثل جلسته بين السَّجدتين، يعني: يجلس على رجله اليسرى مُفترشًا وينصب اليمنى قليلًا، ثم ينهض، وليس فيها ذكر ولا دعاء، وإنما هي جلسة فقط مجردة، لم يُنقل فيها ذكر ولا دعاء.

والحديث الثاني: حديث أنسٍ : أن النبيَّ ﷺ قنت شهرًا بعد الركوع يدعو على أحياء من العرب، ثم ترك ذلك.

وهذا ثابت في عدة أحاديث، فإنه دعا على رعل وذكوان وعصية عصوا الله ورسوله، ودعا على آخرين في مكة، ودعا لآخرين في مكة، كل هذا ثابت في الأحاديث الصَّحيحة.

ومن هذا قوله: اللهم أنجِ الوليد بن الوليد، اللهم أنجِ سلمة بن هشام، اللهم أنجِ عياش بن ربيعة، اللهم أنجِ المستضعفين في مكة، كان يقول هذا بعد الركوع كما في حديث ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما، وكان يدعو على قريشٍ يقول: اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، اللهم العن فلانًا وفلانًا، ..... ثم نُهي عن ذلك ونزلت: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، فهداهم الله وتابوا.

المقصود أنه ﷺ فعل هذا وهذا، فدلَّ ذلك على جواز هذا وهذا: جواز الدعاء لقومٍ، وعلى قومٍ.

وهكذا حديث أنسٍ الثاني: كان النبي لا يقنت إلا إذا دعا لقومٍ، أو على قومٍ، هو يُبين هذا المعنى أيضًا، وأنه لا مانع من فعل هذا، بل هو سنة إذا دعت الحاجةُ إليه، ولكن لا يستمر، بل بقدر الحاجة.

وأما الزيادة لأحمد والدَّارقطني من وجهٍ آخر من حديث أنسٍ: أنه لم يزل يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا. فهي زيادة ضعيفة، والصواب أنه إنما كان يقنت موقتًا، ولم يستمر: لا في الصبح، ولا في غيرها، بل يدعو في أوقات معينة، ثم يدع عليه الصلاة والسلام كما جاءت به الروايات الأخرى الصَّحيحة عنه عليه الصلاة والسلام.

أما رواية أحمد والدَّارقطني فيما يتعلق بقنوت الصبح فهي رواية ضعيفة كما بيَّن أهلُ العلم، ويدل على ضعفها أيضًا .....، والظاهر أنه من رواية أبي جعفر الرازي، وهو سيئ الحفظ، فالمقصود أنها ضعيفة بكل حالٍ.

ويدل على ضعفها أيضًا حديث سعد بن طارق الأشيم الأشجعي، عن أبيه: أنه سأله فقال: يا أبتِ، صليتَ خلف رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، أفكانوا يقنتون في الفجر؟ فقال: أي بُني، مُحدَث.

وهو حديث جيد لا بأس به، وهو يدل على أنَّ الاستمرار فيها مُحدث، وليس بمشروعٍ، وإنما يُستحب فعل ذلك بعض الأحيان، أما القنوت المستمر في صلاة الصبح كما يفعله بعضُ أهل العلم -كما هو معروف عند مذهب الشَّافعي- فهو قول ضعيف، والصواب خلافه، وأنَّ القنوت يُفعل بعض الأحيان عند الحاجة، فإذا هجم العدو على بلاد المسلمين، أو تعدَّى عدو على جماعة المسلمين، أو قطع الطريق عليهم، أو ما أشبه ذلك؛ يُدعا عليهم والله أعلم.

س: جلسة الاستراحة يكون التكبير بعدها أو قبلها؟

ج: ما أذكر شيئًا في هذا ........ شيء من صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام ..... العلماء بأحاديث صفة صلاة النبي ﷺ لتحقيق قوله: صلوا كما رأيتُموني أُصلي، فإنه لا يتمكن المؤمنُ أن يُصلي كما صلَّى النبي ﷺ حتى يجمع الأحاديث ويطَّلع عليها، التي جاءت في صفة صلاته عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا عُني أهل العلم بذلك، وجمعوا ما عرفوا في ذلك، كالمؤلف الحافظ ابن حجر رحمه الله، وكالمجد ابن تيمية في كتابه "المنتقى"، وغيرهما من أهل العلم.

الحديث الأول هنا: حديث الحسن بن عليٍّ، وهذا فيما يتعلق بالقنوت في الوتر، والحسن بن علي هو ابن أبي طالب، سبط رسول الله وريحانته ، وهو ابن فاطمة بنت النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي قال فيه النبيُّ ﷺ: إنَّ ابني هذا سيد، وهو يومئذٍ على المنبر، ولعلَّ الله أن يُصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، ووقع ذلك، وأصلح الله به بين أهل الشام والعراق. بين الجيوش التي في العراق، تبع أبيه، ثم صارت تبعًا له بعد مقتل أبيه، وبين جيوش الشام التي أتى بها معاوية رضي الله عن الجميع.

فلما قُتل عليّ تولى الإمرة الحسن بن علي، ومضى عليه نحو من ستة أشهر، وجمع الجيوش العظيمة ثم ..... في أهل الشام، فتدخل جماعة من الصحابة وغيرهم في الصلح على شروطٍ شرطها الحسن، وأجاب إليها معاوية، وانتهى الأمر على تنازله رضي الله عنه وأرضاه؛ حقنًا للدماء، وجمعًا للكلمة، فشكر أهلُ السنة له هذا العمل، وحفظ الله به ما أرجاه النبيُّ ﷺ حين قال: ولعلَّ الله وعد من مناقبه العظيمة.

ولكن الرافضة والشيعة لم يرضوا بهذا، وعدوه من مثالبه، لا، من مناقبه، فضلوا وأضلوا، ولا شكَّ أنَّ ما فعله هو عن رشدٍ، وهو الصواب الذي حقن الله به الدماء، وجمع به الكلمة، واتَّحد أمر المسلمين على أمٍر واحدٍ، وانتهى ذلك النزاع وذلك الصدام الشديد الذي وقعت فيه مقتلة عظيمة بين المسلمين، وصار هذا علمًا من أعلام النبوة، فإنه قال ﷺ: ولعلَّ الله يُصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، فوقع ذلك، وقال: تمرق مارقةٌ حين فرقة من المسلمين، وظهرت الخوارجُ حين الافتراق، ثم جمع الله الكلمةَ على يد الحسن .

وكان مولده سنة ثلاثٍ من الهجرة، وكان سنه حين مات النبيُّ ﷺ في الثامنة، وقد حفظ أحاديث منها هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام، ومنها الحديثُ المشهور الذي قال فيه: حفظتُ من رسول الله ﷺ: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنَّ الصدق طُمأنينة، وإنَّ الكذب ريبة رواه الترمذي وغيره عن الحسن بسندٍ جيدٍ.

وفي هذا قال: "علَّمني رسولُ الله كلمات"، وهذا يدل على حفظه لها على صغر سنِّه، وهذا يدل على أنه ينبغي تعليم الصِّغار حتى مسائل النَّوافل: الوتر نافلة، والقنوت نافلة، ومع هذا علَّمه ﷺ هذه الكلمات؛ ليتمرنَّ على الخير، ويعتاد الخير؛ ولأنَّ تعليمه له تعليم لغيره، فإنه ينقله إلى غيره، ويُسمعه غيره، ويستفيد غيره، فتعلم الصغار تعليم للكبار، وتعليم النساء تعليم للرجال، وتعليم الرجال تعليم للنساء، هذه قاعدة: إذا علَّم النبيُّ ﷺ شخصًا: رجلًا أو امرأةً، كبيرًا أو صغيرًا، فهو تعليم للأمة، ليس خاصًّا بذاك الرجل، ولا بتلك المرأة، بل هو عام، وهذه الكلمات بيَّنها: اللهم اهدني فيمَن هديتَ، وعافني فيمَن عافيتَ .. إلى آخره.

وفيه من الفوائد: استحباب هذه الكلمات في القنوت، واستحباب القنوت في الوتر، وأنه يُستحب القنوت في الوتر، وهو بعد الركوع في الركعة الأخيرة الفردة، إذا رفع رأسه من الركوع قال هذا الدعاء، وهو مستحب، وليس بواجبٍ، فلو تركه فلا بأس، فإن تركه بعض الأحيان ليعلم أنه ليس بواجبٍ فلا بأس.

وفيه من الفوائد: أنَّ الوتر يُشرع في حقِّ الصغار والكبار، ليس خاصًّا بالمكلفين، ويُشرع الوتر حتى للصبيان والفتيات غير البالغات؛ لأنه يتمرن على الخير، وتعاطي لما ينفعهم ويجعلهم يعتادون هذا الخير إذا كبروا وبلغوا.

وإذا كان هذا في النوافل عرفت أنَّ توجيه الصِّغار للفرائض والعناية بذلك أهم وأهم؛ ولهذا جاء الضربُ في الفريضة إذا تخلَّف عنها إذا بلغ العشر؛ حتى يتمرن على الخير، ويعتاد أداء هذه الفريضة العظيمة.

فصارت الروايات الخمسة -أحمد وأهل السنن- على ما ذكره المؤلف، وليس من رواية الخمسة: ولا يعزّ مَن عاديتَ، زاد في الطبراني والبيهقي زيادة: ولا يعزّ مَن عاديتَ، إنه لا يذل مَن واليت، ولا يعزّ مَن عاديت يعني: عزًّا كاملًا، أو عزًّا مُطردًا، قد يحصل لأعداء الله عزٌّ وظهورٌ في بعض الأحيان على أولياء الله، كما جرى يوم أحد، وكما جرى بعد ذلك في وقائع معروفة، لكنه عزّ لا يستمر، بل يزول، فهو عزّ مؤقت ثم يزول، وإنما العز الدائم والمستقر لأولياء الله في الدنيا والآخرة إذا صدقوا واستقاموا، كما قال جلَّ وعلا ............

وهو فوق عرشه، وهو العالي بسلطانه، والعالي فوق عباده ، ولا يُقال للمخلوق: تباركتَ، كما يقول بعضُ العامة، وإنما يقال في حقِّ الله: تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54]، تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1]، وما ذاك إلا لأنَّ هذه الصيغة صيغة مبالغة: "تباركت" تفاعلت، فهي تدل على الكمال والبركة، والمعنى: بلغ في البركة النِّهاية ، وهو بلغ في العلو النِّهاية، فهو العالي فوق جميع خلقه، وهو المتبارك، وعبده المبارك.

زاد النسائي في آخره: "وصلى الله على النبي"، جاء في رواية الحسن أنه قال في آخره: "وصلى الله على النبي"، وفي هذه الرواية انقطاع؛ لأنها من رواية فاطمة بنت الحسين.

والحاصل أنَّ هذه الزيادة محلّ نظرٍ في ثبوتها، وإن كان أمر الصلاة على النبي ﷺ أمرًا في الجملة مشروعًا، وهو من أسباب الإجابة، لكن هذه الرواية أعلَّها بعضهم، والعمل عليها عند أهل العلم ..... الصلاة على النبي ﷺ في آخر القنوت، والصلاة على النبي ﷺ في أول الدعاء وفي آخره من أسباب الإجابة، وقد ثبت ذلك في أوله من حديث فضالة بن عبيد حين رأى النبيَّ ﷺ دعا ولم يُصلِّ على النبي، قال: عجل هذا، ثم قال: إذا دعا أحدُكم فليبدأ بتمجيد ربه والثناء عليه، ثم يُصلي على النبي، ثم يدعو بما شاء. وهذا ثابت، ومن أسباب الإجابة إذا صلَّى في أول الدعاء، أما في آخره فهو محل نظرٍ.

وقد ورد عن عمر في سندٍ فيه أيضًا ضعف: أنَّ الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تُصلي على نبيك عليه الصلاة والسلام، وهو يحتاج إلى جمع هذه الطرق، هذه الرواية والعناية بها، فإن كان العملُ عليها عند أهل العلم، لكن ينبغي العناية بها بجمع طرقها والحكم عليها بعد ذلك.

وفي رواية ابن عباسٍ عند البيهقي: أنَّ النبي علَّمه القنوت في صلاة الصبح، وهو ضعيف أيضًا، وتقدم من رواية أنسٍ، فأما في الصبح فما زال يقنت حتى فارق الدنيا، وتقدم أنه ضعيف، وليس بصحيحٍ، وإنما الصواب أنه كان يدعو دعاءً مؤقتًا، ولم يستمر على القنوت عليه الصلاة والسلام، إنما كان يدعو في النَّوازل، ثم يُمسك عليه الصلاة والسلام، إنما يقنت إذا دعا لقومٍ، أو دعا على قومٍ.

فالحاصل أنَّ المحفوظ أنه يدعو دعاء مؤقتًا عند النوازل، أما دعاؤه مستمرًّا في صلاة الصبح فهذا غير محفوظٍ، وإن قال به بعضُ أهل العلم.

وتقدم حديث سعد بن طارق: أنه سأل أباه فقال: بدعة. إنك صليتَ خلف رسول الله وخلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، أفكانوا يقنتون في الفجر؟ فقال: أي بني، مُحْدَث. فدلَّ ذلك على أنه غير مشروعٍ القنوت في الصبح إلا في النَّوازل.

وحديث أبي هريرة ووائل بن حجر فيما يتعلق بالهوي في السجود: حديث أبي هريرة: أن النبي ﷺ نهى عن البروك كبروك البعير، وقال: ليضع يديه قبل ركبتيه خرَّجه الثلاثة بسندٍ جيدٍ.

قال المؤلفُ رحمه الله: وهو أولى من حديث وائل الذي أخرجه الأربعة: "رأيتُ النبيَّ إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه".

قال المؤلفُ: فإنَّ للأول شاهدًا. يعني: يتأيَّد به -يعني: حديث أبي هريرة- من حديث ابن عمر، ذكره ابنُ خزيمة، وذكره البخاري معلَّقًا موقوفًا، حديث أبي هريرة ذكره البخاري معلَّقًا موقوفًا، بخلاف حديث وائلٍ؛ فليس له شاهدٌ على حسب ما قال المؤلفُ هنا.

واعترض عليه وتعقب بأنَّ له شاهدًا أيضًا، قال: فإنَّ له شاهدًا من حديث أنسٍ عند الحاكم بإسنادٍ فيه بعض الضعف. وهذا له شاهد موقوف، رُوي مرفوعًا من حديث أبي هريرة، وهذا له شاهد أيضًا من حديث أنسٍ، وفيه ضعف، وله شاهد من عمل جماعةٍ من الصحابة كانوا يقدمون الركب قبل الأيدي.

وقد كثر الكلامُ في هذه المسألة وتفرقت فيها أقوال أهل العلم، والأرجح والأقرب في هذا هو ما قاله العلامةُ ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد": أنَّ حديث وائل أولى؛ لأنَّ شواهده كثيرة؛ ولأنه أرفق بالمصلي، فإنَّ أول ما يلي الأرض منه ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه، وعند النهوض العكس: أولًا جبهته وأنفه يرفعهما، ثم اليدين، ثم الركبتين.

وحديث وائل وإن كان فيه بعض المقال؛ لأنه من رواية شريك القاضي المعروف، وهو إمام معروف بالفضل والسنة، إلا أنَّ في حفظه شيئًا، يوم تولى القضاء ساء حفظه، لكنه ينجبر بأنَّ هذا شيء لا يرد به أنه يُضيعه؛ لأنه شيء يتردد عليه ويتكرر في اليوم خمس مرات، فالصلوات الخمس غير النافلة، فمثل هذا يُحفظ ولا يظنّ به أنه يُضيعه، كذلك له شاهد، وفيه ضعف من حديث أنسٍ، والشاهد من فعل بعض الصحابة، فهذا يُقويه.

ثم يتأيد أيضًا بأول حديث أبي هريرة: لا يبرك كما يبرك البعير، فإنَّ أوله يُؤيد حديث وائل؛ فإن بروك البعير على يديه، لا على ركبتيه -رجليه- وإنما يبرك على يديه، على ركبتيه التي في يديه، وركبتا البعير في يديه، فهو يبرك عليهما، ويُقدم يديه.

فالمؤمن مأمور بمخالفة البهائم، ولا يكون مخالفًا للبهيمة إلا إذا قدَّم ركبتيه التي في رجليه؛ حتى لا يكون مشابهًا للبعير في تقديم يديه.

وفي هذا يكون الحديثُ -حديث أبي هريرة- مُوافقًا لحديث وائل في المعنى، وآخره مخالف له، فلعله وقع وهمٌ من بعض الرواة وانقلابٌ فقال: وليضع يديه. والصواب: وليضع ركبتيه قبل يديه؛ حتى يُوافق آخره أوله، وحتى يتوافقا جميعًا؛ ولأنَّ الجمع بين الروايات أولى من الاختلاف بينها والصدام بينها.

فهذا هو أظهر عندي وأقرب: أن تقديم الركبتين مع القُدرة أولى على حديث شريك، وعلى ما يُوافقه من حديث أبي هريرة من أوله، وعلى ما وافقه من عمل كثيرٍ من الصحابة، وبعضهم حكاه قول الأكثرين، هذا هو الأولى، وهو من باب السنن، ليس من باب الواجبات، فالأظهر فيها هو هذا: أن يُقدم ركبتيه ثم يديه ثم جبهته وأنفه، وفي الرفع عكس ذلك: يرفع الجبهة والأنف ثم اليدين .....

والحديث الرابع: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي ﷺ كان إذا قعد للتَّشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على اليمنى، وعقد ثلاثًا وخمسين، وأشار بالسبابة. خرَّجه مسلم.

وفي روايةٍ له: فقبض أصابعه كلها، وأشار بالتي تلي الإبهام.

يأتي في هذا الباب عدة روايات: جاء أنه يضع يديه على فخذيه، وجاء أنه يضع يديه على ركبتيه، وجاء في بعضها: يضع يديه على فخذيه، وأصابعه على ركبتيه، وهي سنن مختلفة، ولا مانع منها، وهي أوجه من أوجه السنة: فتارة يضعهما على فخذيه، وتارة يضعهما على ركبتيه، وتارة يضع طرف الكفِّ على الفخذ، والأصابع على الركبة، ولا منافاة، كلها صحيحة عن النبي عليه الصلاة والسلام.

وأما ما يتعلق باليمنى: فقد جاء فيها ما ذُكر في حديث ابن عمر، وجاء فيها ما ذُكر في حديث وائل، وهو أنه يعقد الإبهام والوسطى، ويُشير بالسبابة، ويقبض الخنصر والبنصر، فهذا أيضًا نوع من وجوه السنة، فهو مخيَّر في هذه الوجوه، والأفضل أن يفعل هذا تارةً وهذا تارةً: تارةً يعقد خمسين، قيل هكذا: طرف الإبهام في أصل الوسطى، هذه خمسين، والصورة الثانية: أن يقبضها كلها هكذا، ويُشير بالسبابة، والصورة الثالثة هكذا: يُحلق الإبهام والوسطى، ويقبض الخنصر والبنصر، ويُشير بالسبابة. وكلها من وجوه السنة.

والأمر في هذا بحمد الله واسع، إذا فعل هذا تارةً وهذا تارةً وهذا تارةً فحسن.

والأقرب والله أعلم أنَّ الرسول ﷺ كان يفعل هذا تارةً وهذا تارةً؛ توسعةً للسنة.

والإشارة بالسبابة معلوم أنه إشارة للتوحيد، وأنَّ الله واحد لا شريكَ له ، فيُشير بالسبابة إشارةً للتوحيد، وهذا المحفوظ ..... أنه يُشير بالسبابة. وقال بعضُهم: يُستحب ذلك عند ذكر الله إشارةً للتوحيد.

..... فيها أنهم، في بعضها أنهم كانوا يقولون إذا جلسوا: التَّحيات لله، السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان. فقال لهم النبيُّ: لا تقولوا هكذا؛ فإنَّ الله هو السلام؛ لأنه سبحانه هو الذي يُسلم الناس، وهو السالم من كل نقصٍ، فلا يُسلم عليه، ولا يُدعا له بالسلام؛ لأنَّ السلام يُطلب منه ، فهو السلام، ومنه السلام؛ ولهذا جاء في النصوص: اللهم أنت السلام، ومنك السلام؛ فلهذا نهاهم أن يقولوا: السلام على الله. فلا يقال: السلام على الله. ولكن يُقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام.

وفي هذا أنهم علموا أن يقولوا هذا الذكر في الجلسة التي يقرأ فيها التَّحيات، وهي الجلسة الأولى التي بعد الثِّنتين، والجلسة الأخيرة التي بعد الثالثة في المغرب، وبعد الرابعة في الصَّلوات الأخرى، يقول هذا الذكر بدلًا من قوله: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان .. إلى آخره.

وفي هذا دلالة على وجوب هذا الذكر؛ لأنه قال: قولوا، والأمر للوجوب، يُؤيد هذا رواية النَّسائي: "كنا نقول قبل أن يُفرض علينا التَّشهد"، دلَّ على أنه افترض عليهم، وهذا هو قول الأكثرين: أنه فرض، وأنه واجب المجيء به.

وفي بعضها: أنَّ الرسول علَّمه هذا التشهد قال: "وكفي بين كفيه" يعني: وضع كفَّه هكذا، وجعل يعلم النبيُّ ﷺ، يقول ابن مسعود: بين كفي النبي ﷺ. وهذا من مزيد التأكيد في التعليم.

وفي رواية أحمد: أنه أمره أن يُعلمه الناس. يعني: أمر ابن مسعودٍ أن يُعلم الناس هذا الذكر ليأتوا به في صلاتهم، وهذا أمر معلوم، فإنه ﷺ كان إذا علَّم الصحابة شيئًا أمرهم أن يُبلغوا، وهكذا في خطبه: فليُبلغ الشاهدُ الغائبَ.

فأهل العلم مأمورون أن يُبلغوا، وأن يُعلموا مما علَّمهم الله، والصحابة كذلك عليهم أن يُبلغوا ما سمعوا من رسول الله، وما علموه منه عليه الصلاة والسلام، فإذا قال لبعضهم: بلغ كذا، أو علم كذا. كان هذا تأكيدًا للمقام، فكل واحدٍ مأمور بالجملة، مأمور أن يُبلغ، وأن يُعلم، وهكذا العلماء بعدهم، كل واحدٍ مأمور بالجملة أن يُبلغ ويُعلم، فإذا نصَّ النبيُّ ﷺ على واحدٍ معينٍ وأمره بهذا الأمر فيكون من باب التأكيد للأمر العام.

وهذه الكلمات من حديث ابن مسعودٍ محفوظة متفقة غير مختلفة: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله هكذا روى الشيخان وغيرهما من حديث ابن مسعودٍ بهذه الألفاظ، وهو أصح حديثٍ، وأثبت حديثٍ في هذا الباب، وألفاظه متفقة غير مختلفة عن ابن مسعودٍ .

ثم قال: ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو، وفي لفظٍ: ثم ليختر من المسألة ما شاء، فدلَّ ذلك على أنه يدعو في التَّشهد بما تيسر، وليس له حدٌّ محدودٌ، بل يدعو بما أحبَّ وبما أعجبه من الدَّعوات، سواء كان يتعلق بأمر الآخرة، أو بأمر الدنيا، أو بهما جميعًا؛ لأنَّ الرسول ﷺ أطلق ولم يقل: ثم ليتخير من الدعاء ما تعلق بالآخرة، أو ما يتعلق بنفسه. قال: أعجبه إليه، وفي اللفظ الآخر: ثم ليتخير من المسألة ما شاء، فعُلم بذلك أنه لا بأس بالدَّعوات التي يحتاجها المؤمن وتُعجبه في صلاته، في آخر الصلاة بعد التَّشهد مطلقًا، ولو كانت فيما يتعلق بالدنيا، كما يقول: اللهم ارزقني دارًا حسنةً، أو دارًا واسعةً، أو ارزقني كسبًا حلالًا، أو ما أشبه ذلك؛ لأنَّ هذا ينفعه إذا أصلح الله نيته دنيا وآخرة.

كذلك: اللهم ارزقني زوجةً صالحةً، أو ما أشبه ذلك، كل هذه قد تُعجبه، وقد يحتاج إليها، أو: اللهم علمني صنعةً تُغنيني عن الناس، أو صنعةً مباركةً، أو صنعةً طيبةً، أو صنعةً مباحةً، أو ما أشبه ذلك: اللهم ارزقني ذريةً طيبةً، اللهم اغفر لي ولوالدي، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم ولِّ عليهم خيارهم، اللهم أصلح ولاة أمرنا واهدهم سواء السبيل، اللهم أصلح قلوبهم وأعمالهم. يدعو بما أحبَّ من الدَّعوات الطيبة له وللمسلمين ولولاة أمر المسلمين ولوالديه إذا كانا مسلمين، وغير هذا مما يُعجبه.

فالمسألة مطلقة، وما يقوله بعضُ الفقهاء أنه يختصّ بأمور الآخرة أو بالمأثور. ليس بجيدٍ، الصواب أنه لا يختص بذلك، بل له أن يدعو بما أحبَّ من الدعوات الطيبة التي ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، ليس فيها محذور، وما ذاك إلا لأنَّ الرسول أطلق في هذا الحديث وفي غيره، ولا يجوز لأحدٍ أن يُقيد ما أطلقه الله ورسوله إلا بنصٍّ.

أيضًا الناس حاجاتهم تختلف، تتنوع، فليست حاجاتهم مقصورةً على طلب الجنة فقط، أو طلب المغفرة فقط، بل لهم حاجات أخرى، فمما جاء في الآثار وفي الأحاديث مَن يدعو بحاجاته التي تنزل به؛ يقول المديون: اللهم اقضِ ديني، وإذا كان متوعدًا بالقتل: اللهم فرِّج كربتي، اللهم يسِّر خلاصي من هذا الشيء، الناس أحوالهم تختلف، فلهم حالات متنوعة يدعون فيها بما يُعجبهم وبما يسرهم وبما يحتاجون إليه.

ومعنى "التحيات" أي: التعظيمات، حيَّاه: عظَّمه، التَّحيات: التعظيمات والتقديسات، والله أولى بها .

"والصلوات" شمل الصَّلوات النافلة والفريضة، وتشمل الدَّعوات .....، فالمعنى أنَّ جميع الصَّلوات من نفلٍ وفرضٍ وجميع الدَّعوات كلها لله، مختصة بالله .

كذلك "الطيبات" كل ما طاب من أقوالنا وأعمالنا فهو لله، والطيب من أقوالنا وأعمالنا: ما كان لله خالصًا، ولشريعته موافقًا، هذا الطيب، فما كان خبيثًا كالبدع فليس بطيبٍ، ولا يُتقرب به إلى الله، وما كان كسبًا خبيثًا كالربا ونحوه لا يُتقرب به إلى الله.

فالطيب من أقوالنا وأعمالنا ما كان لله خالصًا، وما وافق شريعته، هذا هو الطيب، فهو لله .

ثم قال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته هذا دعاء للنبي ﷺ بالسلامة والرحمة والبركة، المعنى: السلام أخصّك به أيها النبي، "أيها النبي" من باب الاستحضار، يعني: أخصّك أيها النبي، يعني: محمدًا عليه الصلاة والسلام، فليس طلبًا منه، ولكنه دعاء له بهذه الأشياء، وطلبًا من الله له.

ولهذا قال الشيخُ محمد رحمة الله عليه ..... قال: والذي يُدعا له وما يُدعا مع الله، الذي يُدعا له يطلب من الله له السلامة والرحمة والبركة، دلَّ على أنه مربوب مخلوق، وأنه لا يُدعا من دون الله، بل يُدعا له، يُدعا له بالسلامة والرحمة والبركة، وهكذا بقية الأنبياء، وهكذا بقية الناس هم مخلوقون مربوبون، كلهم يُدعا لهم، فكيف يدعون مع الله؟! وكيف يتَّخذون آلهةً مع الله؟!

والمقصود الرد على الغُلاة الذين عبدوا الرسلَ وجعلوهم آلهةً مع الله، هذا النص يرد عليهم: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته تدعو له بالسلامة والرحمة والبركة، فدلَّ على أنَّ الرسول ﷺ كسائر المخلوقات في هذا المعنى: يُدعا له، ولا يُدعا مع الله، وإن كان الله شرَّفه وفضَّله بالرسالة والعبودية، وهو أفضل الخلق، لكن كون الله شرَّفه وفضَّله لا يقتضي أن يكون إلهًا مع الله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18].

"السلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين"، قال في الحديث: إذا قلتُ هذا أصبتَ كل عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض» يعني: هذا الدعاء يعمّ الصالحين من الملائكة وبني آدم، القدماء والمحدثين، يعمّ جميعهم: "السلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين"، يعني: أعطنا السلامةَ، وبلغنا السلامة يا ربنا نحن وجميع عباد الله الصَّالحين. فتدعو لنفسك ولكل عبدٍ صالح في السماء والأرض بالسلام.

ثم تأتي بالشَّهادة: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله"، لا أذكر في شيءٍ من الروايات: "وحده لا شريكَ له" مرفوعة إلى النبي ﷺ، ولكن جاء في بعض الروايات من حديث ابن عمر من قوله، من عمله هو.

المقصود أنَّ المحفوظ في رواية ابن مسعودٍ فيما أذكر وفيما أعلم: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله"، وقد رُوي في بعضها زيادة: "وحده لا شريكَ له"، لكن لا أذكرها مرفوعةً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنها محفوظة في روايةٍ عن ابن عمر من قوله رضي الله عنه وأرضاه، ولا حرج فيها، لكن المقصود بيان الشيء الثَّابت.

وفيه الشهادة لله بالوحدانية في كل صلاةٍ، وللنبي بالرسالة عليه الصلاة والسلام، وهذا من فضل الله جلَّ وعلا ورحمته لنا: أن شرع لنا هذا الذكر الذي هو سبب دخول الجنة، وأصل دين الإسلام، وأساس الملة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله. قال النبيُّ: مَن قالها صادقًا دخل الجنة، مَن قال هذه الشَّهادة صدقًا من قلبه أدخله الله بها الجنةَ؛ لأنه إذا صدق فيها أحرقت ما وراءها من الشرور، وأوجبت له الاستقامة، فالصَّادق فيها يُؤدي حقَّها، ويتباعد عن ضدها.

وهي شهادة عظيمة تُوجب لأهلها الجنة إذا صدقوا فيها، ومَن مات عليها صادقًا فهو من أهل الجنة: إما من أول وهلة إن مات سالمًا من الذنوب، وإما بعد التَّطهير والتَّمحيص إن كان مات على شيءٍ من المعاصي لم يتب منها.

وفي بعض الروايات ألفاظ زيادة ونقص، فكل ما ثبت عن النبي ﷺ في التَّشهد ساغ وجاز أن يأتي به المؤمنُ في تشهده، ومن ذلك ما رواه ابن عباسٍ زيادة في رواية مسلم: المباركات، فإذا أتى بها المؤمنُ في تشهده بعض الأحيان فحسن؛ النبي ﷺ علَّم ابن مسعودٍ هذا، وعلم ابن عباسٍ زيادة "المباركات"، ولا حرج.

وجاء في بعض الروايات زيادة ونقص قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله، بدلًا من عبدالله ورسوله، وكل ذلك ثابت، ولا حرج في ذلك، لكن الإتيان بالرواية الكاملة فيها فضل، وإذا أتى بهذا تارةً أو بهذا تارةً فحسن، من باب التنوع في الأذكار، فإن التَّشهدات فيها تنوع، هكذا التَّسبيحات، هكذا الاستعاذة، هكذا أنواع الأدعية في السجود وفي آخر الصلاة، ينوِّع الأدعية في ذلك، يرجو ثواب الله، ويرجو إجابته .

س: التنويع في الصَّلاة أو في الصَّلوات؟

ج: كلها، كلها.

س: يعني: يجمع بينها في صلاةٍ واحدةٍ؟

ج: إذا جاء بهذا تارةً وهذا تارةً وهذا تارةً من باب الإتيان بالسنة كلها.

س: يعني في صلوات مُتفرقةٍ؟

ج: نعم، في صلاةٍ يأتي بـ"وجهتُ وجهي"، وتارةً يأتي بـ"سبحانك اللهم وبحمدك"، وتارة يأتي بـ"اللهم باعد بيني وبين خطاياي"، ولكن يكون إكثاره لما هو أثبت وأصح، يكون إكثاره منه أولى، فيُكثر مما هو أصح وأثبت.

س: طيب، أيّهما أولى: الإتيان بالروايات الزائدة، أو الإتيان برواية ابن مسعودٍ، أو رواية ابن عباسٍ؟

ج: رواية ابن مسعودٍ أثبتها، ورواية أبي هريرة في الاستفتاح أثبتها، وإن أكثر منها وأتى بالروايات بعض الأحيان.

س: ..............؟

ج: إذا كانا حيين يُدعا لهما، أما أموات لا، أما إذا كانا حيين يُدعا لهما بالهداية، وأما إذا ماتا على الشِّرك لا يُدعا لهم.

وفي بعض روايات ابن مسعودٍ وابن عباسٍ: يُعلمنا التَّشهد كما يُعلمنا السورة من القرآن، يؤكد تعليمه للتَّشهد، وأنه يُعلمهم تعليمًا مؤكدًا؛ ليفهموا هذا الشيء ويحفظوه.

س: ..............؟

ج: الأفضل: السلام عليك أيها النبي، وإذا قال: السلام على النبي، ما في بأس، لكن المحفوظ في الأحاديث الصَّحيحة: السلام عليك يا أيها النبي، في حديث ابن مسعودٍ وحديث ابن عباسٍ وغيرهما، وجاء في بعض الروايات: السلام على النبي، في بعض الروايات عن بعض الصحابة أنه يقول هذا في حياته وبعد وفاته: السلام على النبي، ولا منافاةَ، والمحفوظ: السلام عليك أيها النبي، وهذا هو أحسن ما يُقال.

والحديث الثاني: حديث فضالة بن عبيد : أنَّ رسول الله ﷺ سمع رجلًا يدعو في صلاته، ولم يحمد الله، ولم يُصلِّ على النبي ﷺ، فقال: عَجِلَ هذا، ثم دعاه فقال: إذا دعا أحدُكم فليبدأ بتحميد ربه، وفي روايةٍ: بتمجيد ربِّه بالجيم، والثناء عليه، ثم يُصلي على النبي ﷺ، ويدعو بما شاء.

في هذا الدلالة على الأدب في الدعاء، وأنه يُستحب لمن أراد الدعاء أن يبدأ بالتَّحميد والتَّمجيد لله والثَّناء عليه، ثم الصلاة على النبي ﷺ، ثم يدعو.

والحديث صحيح كما ذكر المؤلفُ، فهو دالٌّ على شرعية هذا العمل، وهذا الواقع في الصلاة، فإنَّ فيها البداءة بالثناء على الله .....، وفيها الثناء على النبي، وفيها السلام على عباد الله الصَّالحين، وفيها الشَّهادة، وفيها الدعاء بعد ذلك، فهذا يدل على أنَّ الدعاء بعد الثناء والصلاة على النبي ﷺ أقرب إلى الإجابة وأفضل، وهو السنة المؤكدة لأمر النبي ﷺ بذلك.

والواقع في التَّشهد مطابق لما في حديث فضالة، فقد شرع الله لنا الصلاة على النبي ﷺ أيضًا بعد التَّشهد، كما يأتي إن شاء الله في حديث أبي مسعودٍ وما بعده، فيُصلي على النبي ﷺ بعد الشَّهادة، ثم يدعو؛ حتى يجمع بين الأمرين: بين الثناء والصلاة، ثم يأتي الدعاء بعد ذلك.

وكان إذا فرغ من التَّشهد عليه الصلاة والسلام في الصلاة دعا في التَّشهد الأخير، أما التشهد الأول فلم يُحفظ عنه الدعاء، وإن كان يتشهد ويُصلي على النبي ﷺ ثم يقوم للثالثة، أما في الأخير فهو محل الدعاء، ومحل اجتهاد بالدَّعوات المأثورة وغير المأثورة، وكذلك في الدَّعوات الأخرى إذا أراد يدعو ربَّه، يحمد ربه، ويُصلي على النبي، ولو كان في خارج الصلاة يدعو ربه إذا أراد ذلك، ولا مانع أيضًا من أن يحمد ربه، والثناء عليه حتى في السجود؛ لأنه محل دعاء، فإذا حمد الله وأثنى عليه في السجود، وصلَّى على النبي ﷺ فيشمل، هذا الحديث يشمل ذلك.

س: ..............؟

ج: هذا هو الأرجح؛ لعموم الأدلة كما يأتي إن شاء الله.

س: يعني مقدمة هذا التَّشهد تقوم مقام التَّحميد لله؟

ج: نعم، نعم؛ لأنها كلها ثناء على الله.

س: إذا أخلَّ بالتَّشهد؟

ج: ذكر العلماءُ أنه إذا أسقط ما سقط في بعض الروايات لا يضرّ، إذا أسقط ما سقط في بعض الروايات مثل: أشهد أن محمدًا رسول الله، بدل عبدالله ورسوله، أو المباركات أسقطها، شيء يعني حُفظ سقوطه من بعض الروايات.

..............

أما بعد: وليس ممن حضر الوقعة، وقال بعضهم: بل هو ممن حضر الوقعة ..... ، قال: ..... يا رسول الله، أمرنا الله أن نُصلي عليك، فكيف نُصلي عليك؟ فسكت في بعض الروايات ..... مسلم، فتمنينا أنه لم يسأله .....، ثم قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صليتَ على إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.

هكذا في ..... التي عندنا، والتي في مسلم: .....كما صليتَ على آل إبراهيم، وكما باركت على آل إبراهيم.

فكأن المؤلف .... على إبراهيم في الموضعين، أو غلط من بعض النُّساخ فحذفوا آل؛ لأنَّ لفظ مسلم: كما صليتَ على آل إبراهيم، وكما باركت على آل إبراهيم، يدخل في آل إبراهيم إبراهيم؛ لأنَّ آل إبراهيم يعني: إبراهيم وآله.

وهذا فيه دلالة على شرعية هذه الصلاة، ويُستحب أن يقولها المؤمنُ إذا صلَّى على النبي ﷺ، فهم سألوه: كيف نُصلي عليك؟ فأخبرهم بهذه الكيفية، فدلَّ على فضلها، وأنها تُقال في الصلاة وخارجها.

وعند ابن خزيمة وابن حبان وجماعة زيادة: فكيف نُصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ هذا لا يُنافي أن تُقال في غير الصلاة، فإنَّ رواية "الصحيحين" ليس فيها ذكر صلاتنا، بل مطلق من حديث كعب بن عجرة عند الشيخين، وحديث أبي حميدٍ السَّاعدي عند الشيخين ليس فيها ذكر صلاتنا.

وهكذا رواية أبي مسعودٍ هنا، وروايات أخرى، فإنَّ الحديث جاء من عدة طرقٍ، وعن جماعةٍ من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، لكن أكمل ما جاء في ذلك من رواية كعب بن عجرة أنه قال في .....: اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد هذه أكملها.

وقد أنكر بعضُهم الجمعَ بين إبراهيم وآل إبراهيم، وأنها لم ترد، ومَن نُقل عنه ذلك شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، مع جلالته وسعة اطِّلاعه زعم أنَّه لم يأت في الروايات الجمع بين إبراهيم وآل إبراهيم، ولكن .....، وقال: إنها في رواية كعب ..... الجمع بين إبراهيم وآل إبراهيم جميعًا.

وهذه أكمل الروايات ..... رواية أبي حميدٍ السَّاعدي، وفيها: اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى أزواجه وذُريته، كما صليتَ على آل إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى أزواجه وذُريته، كما باركتَ على آل إبراهيم.

وروى الترمذي رحمه الله بسندٍ جيدٍ حديث أبي مسعودٍ هذا، وذكره بلفظ: على إبراهيم وآل إبراهيم جميعًا، وهذا رواه الترمذي بإسنادٍ جيدٍ، وقال: اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، ولم يقل: إنك حميد مجيد، ثم قال: وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنَّك حميد مجيد، هذه الرواية فيها زيادة الجمع بين إبراهيم وآل إبراهيم، مع ذكر في العالمين، وكلها سنة، كل هذه الألفاظ مشروعة، ولا منافاة، فإنَّ الرسول ﷺ قد يختصرها في بعض الأحيان، وقد يكملها، والرواة كذلك قد يحفظون كمالها، ويقتصر بعضُهم على بعض الألفاظ: إما احتياطًا، وإما لأنه لم .....

فالحاصل أنَّ الروايات جاءت بهذا وهذا، جاءت بالجمع بين محمدٍ وآل محمدٍ، والجمع بين إبراهيم وآل إبراهيم، مع قوله: إنك حميد مجيد، وجاءت بالاقتصار على إبراهيم دون آل إبراهيم، وجاءت بالعكس، وجاء فيها ذكر إنك حميد مجيد، وفي بعضها بالحذف، كلها محفوظة .....، فينبغي للمؤمن أن يعتمد غالب الروايات، وإذا أتى في بعض الأحيان ببعض الروايات الأخرى فحسن.

وآل محمدٍ معروف، أهل محمدٍ وأهل بيته من بني هاشم، وهكذا أزواجه وذريته، ذرية بناته: أولاد فاطمة، وأولاد زينب، وغيرهما، ويدخل في ذلك بنو هاشم، كما قال ..... هم أهل بيته الذين حرَّم الله عليهم الصَّدقة، ويدخل في ذلك أيضًا أتباعه على دينه، فإن الآل يُطلق على الأتباع أيضًا، كما قال جلَّ وعلا: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] يعني: أتباع فرعون، فلفظ "آل محمدٍ" يدخل فيها أهل بيته من بني هاشم، وأزواجه، وذريته، وأتباعهم، كلهم تعمّهم هذه الدعوى المباركة، و"آل إبراهيم" كذلك، آل إبراهيم هم: أهل بيته، وذريته المؤمنون، ويدخل في ذلك أتباعه على دينه.

الحديث الثاني: حديث أبي هريرة : أنَّ النبي ﷺ قال: إذا تشهد أحدُكم فليستعذ بالله من أربعٍ، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال هذه أربع كان النبيُّ يستعيذ منها، من فعله؛ كان يستعيذ منها عليه الصلاة والسلام في صلاته، إذا تشهد استعاذ من هذه الأربع، وفي هذه الرواية الأمر بالاستعاذة منها.

فذهب بعضُ أهل العلم إلى وجوب ذلك، وحكاه الشارحُ عن الظاهرية، وبه قال طاوس بن كيسان اليماني المعروف، التابعي الجليل، كان يأمر ابنه إذا تركها أن يُعيد صلاته، فيظهر من هذا أنه يرى الوجوب.

أما الجمهور من أهل العلم -الأئمة الأربعة والجمهور- يرون أنها مُستحبَّة، وليست بواجبةٍ، هذه الدَّعوات مستحبة، وليست واجبةً، لكن هذا القول في وجوبها يؤكد الإتيان بها، مع أمر النبي ﷺ بذلك، والأصل في الأوامر الوجوب، فقد فعلها وأمر بها، فينبغي ألا تُترك هذه الدَّعوات العظيمة، وهي التَّعوذ بالله من أربعٍ: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، والرسول ﷺ لما علَّم ابن مسعودٍ هذا التَّشهد قال: ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدع، وفي لفظٍ: فليتخير من المسألة ما شاء، وهذه الدَّعوات مع الصلاة على النبي هي أولى الأذكار فيُقدم، ثم يدعو بما شاء بعد ذلك من الدَّعوات الأخرى.

وقد جاء في هذا الباب دعوات عدة في آخر الصلاة، فليدعُ الإنسان بما تيسر من ذلك، ولكن آكدها الصَّلاة على النبي ﷺ، والتَّعوذ بالله من أربعٍ.

واختلف الناسُ أيضًا في الصلاة على النبي ﷺ: هل هي واجبة؟

فذهب قومٌ إلى وجوبها، منهم أحمد رحمه الله وجماعة، وقال آخرون بأنها سنة مؤكدة ..... في الدعاء.

والقول بالوجوب قول قوي لهذه الأوامر، فينبغي ألا تُترك؛ لأنَّ الرسول أمر بها فقال: قولوا، فالأصل في الأوامر الوجوب؛ ولأنَّ الله قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، فينبغي أن يُؤتى بها، مع السلام عليه، وقد شرع الله السلامَ عليه في قوله: السلام عليك أيها النبي؛ ولهذا في رواية مسلم: والسلام كما علمتم بالتشديد للمجهول، ويُروى: كما علمتم، وفي روايةٍ ..... فقد علمتم يعني في قوله: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فيجمع بينهما كما أمر الله بذلك: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.

فالتَّعوذ بالله من عذاب جهنم واضح؛ لأنَّ عذابها والعياذ بالله لا أحد يقدر عليه، فهو أشد العذاب، نعوذ بالله، وأدومه، فالتَّعوذ من ذلك أمر مشروع مطلوب.

ومن عذاب القبر كذلك؛ لأنه مقدمة لعذاب النار، فهو إما حفرة من حفر النار، وإما روضة من رياض الجنة، فينبغي التَّعوذ من عذاب القبر.

وفيه الدلالة على ثبوت عذاب القبر، وهو قول أهل السنة والجماعة، خلافًا لمن أنكر هذا من المبتدعة.

ومن فتنة المحيا والممات يعني: مما يقع من الفتن في المال والشَّهوات والقتال والحروب، يعمّ، وهكذا فتنة الممات: ما يكون بعد الموت من فتنة القبر، وما يكون فيه من الاختبار والامتحان.

ومن فتنة المسيح الدجال قال النبي: ما بعث اللهُ من نبيٍّ إلا أنذره قومه، حتى نوح أنذره قومه؛ لأنَّ فتنته عظيمة، ثبت في "صحيح مسلم" عن ..... أنَّ النبي ﷺ قال: ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أعظم من الدجال، فتنته عظيمة وخطيرة؛ ولهذا شرع الله الاستعاذة منها في الصَّلوات لخطره العظيم؛ لأنه يأتي بخوارق خطيرة، قلَّ مَن يسلم من فتنة هذه الخوارق والتي يأتي بها، كما جاءت السنةُ في ذلك من عدة أحاديث في فتنة الدَّجال.

فينبغي للمؤمن أن يتعوذ من فتنته، ولا سيما في آخر الصلاة ..... بهذا الأمر، وحذرًا من فتنته العظيمة التي حذَّر منها النبيُّ عليه الصلاة والسلام، وهو يكون في آخر الزمان، وهو أحد أشراط الساعة القريبة منها، والله أعلم: أن زمانه ليس بالبعيد، فنحن في آخر الزمان، فيحتمل أن يكون أمره قريبًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ثم ليعلم أنه يُستحب الدعاء في هذا المقام بما تيسر، ولا يختص بأمر الآخرة، ولا بالوارد، كما يظن بعض الفقهاء، لا، الصواب أنه لا بأس بالدعاء في آخر الصلاة، وفي السجود بالوارد، وفي غير الوارد بما يحتاجه العباد، فلا يختص بالوارد، وإن كان الوارد له فضله المحفوظ، له فضله على غيره، لكن الناس لهم حاجات، فلا بأس أن يدعوا في آخر الصلاة وفي السجود بما يبدو لهم من الحاجات ..... كالمسجون يقول: اللهم أطلق سجني، والمدين: اللهم اقضِ ديني، والذي بيته ضيق: اللهم يسر لي دارًا واسعةً أو زوجةً صالحةً أو ذريةً طيبةً. ليس شرطًا الوارد، يدعو بما أحبَّ من الدَّعوات التي ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، من الدَّعوات المباحة.

للمسلم أن يدعو بما يشاء، ولا يُشترط أن يكون ذلك بما ورد، ولا يُشترط أن يكون لنفسه أيضًا، بل لو دعا لغيره: للوالدين ولإخوانه المسلمين ولولاة الأمور بالهداية والصلاح والتوفيق كله .....؛ لأنَّ الرسول أطلق قال: وليختر من الدعاء أعجبه إليه فيدع من حديث ابن مسعودٍ، ولفظ: وليختر من المسألة ما شاء من حديث ابن عباسٍ عند مسلم، وأما ..... من حديث أبي هريرة عند مسلمٍ: أقرب ما يكون العبدُ من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدُّعاء، ولم يخصَّ دعاءً دون دعاءٍ، فهذا هو الصواب: أنه لا يقتصر على الدُّعاء الوارد، ولا بالدعاء لنفسه، ولا بالدعاء المتعلق بالآخرة، بل يدعو بما أحبَّ من أمر الدنيا والآخرة.

والحديث الثاني: حديث أبي بكر الصديق : أنه قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي.

هذا الحديث رواه الشَّيخان وغيرهما من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، عن الصديق، فهو من رواية صحابي عن صحابي، قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي. وفي رواية مسلم: أدعو به في صلاتي وفي بيتي. فقال: قل: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوبَ إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم.

هذه دعوة عظيمة تدل على أنَّ لها شأنًا، فإن النبي علَّمها الصديق، والصديق أفضل الصحابة، فيُعلمه هذا الدعاء، ومع كون الصديق أفضل الصحابة، وأرجحهم ميزانًا، وأكملهم علمًا وعملًا يُقال له: قل: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، فكيف بحال غير الصديق؟! فإذا كان الصديقُ يقول: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، وفي اللفظ الآخر: ظلمًا كبيرًا، وهو رأس العشرة المشهود لهم بالجنة، وهو أفضل الصحابة.

فهذا يدل على أنه ينبغي للمؤمن دائمًا أن يعترف بالتقصير والظلم لنفسه، وأنَّ هذا من أعظم الأسباب في قبول دعائه، وتوبة الله عليه: أن يعترف بالتقصير والظلم لنفسه، وأن يقوم مقام الذل والانكسار بين يدي ربه، فإنَّ هذا أقرب إلى نجاته وصلاح قلبه.

فالصديق الذي هو أعظم الصحابة وأفضلهم يقول هذا الكلام، يُعلَّم أن يقول: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، وفي روايةٍ قال: كبيرًا، وهو أفضل الناس بعد الأنبياء وخيرهم يُعلَّم هذا الدعاء.

والنبي في سجوده يقول: اللهم اغفر لي ذنبي كله، وهو سيد الخلق وأفضلهم، مغفور له، يقول في سجوده، يقول: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقّه وجلّه، وأوله وآخره، وعلانيته وسرّه خرَّجه مسلم، وهو رسول الله، وهو أفضل الخلق، وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر، ومع ذلك يقول هذا الدعاء.

هذا يُبين لك فضل الدُّعاء، وفضل الانكسار بين يدي الله، وأنه لا يجوز لأحدٍ أن يُعجب بنفسه، أو يقول: أنا في غنًى عن هذا الدعاء، أو لستُ بحاجةٍ إلى الدعاء، إذا كان الرسول يدعو، والصديق يُعلَّم الدعاء -الدعاء العظيم- وهكذا الأنبياء يدعون، فكيف بحال مَن هو بعيد عنهم بأعماله وأقواله، والمستحق غضب الله، إلا أن يعفو الله عنه؛ لما لديه من السيئات، والله المستعان.

وعن النبي أيضًا أنه دعا بدعواتٍ أخرى كما في "الصحيحين": اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شيءٍ قدير.

وفي اللفظ الآخر: اللهم اغفر لي ما قدمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أسرفتُ وما أنت أعلم به مني، ..... لا إله إلا أنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت.

الحاصل أنَّ هذا يُبين لنا تواضعه ﷺ، وانكساره بين يدي ربه، ودعواته العظيمة التي ينبغي للمؤمن أن يدعو بها، وأن يأخذ بها؛ لتقصيره وما يعتريه من الذنوب الكثيرة، فهو جديرٌ بأن يدعو بهذه الدَّعوات التي دعا بها النبيُّ ﷺ، والتي علَّمها الرسولُ الصديقَ ، وبالدعوات الأخرى اللائقة.

ومقام الدعاء مقام عظيم، العبد بحاجةٍ إليه، وهو سلاح المؤمن، والله يُحب من عباده أن يدعوه ويسألوه، ويقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، فينبغي للمؤمن أن يُكثر من الدعاء، ولا سيما في آخر الصلاة وفي السجود، يرجو من الله قبوله.

والحديث الرابع: حديث وائل بن حجر اليماني المشهور ، أنه صلى مع النبي ﷺ، فكان يُسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهو من حضرموت، اليمن الجنوبي ، يُبين أنه سمع النبيَّ ﷺ يُسلم هذا السَّلام.

وقد اختلف الناسُ في صفة السلام في آخر الصلاة، والجمهور على أنه يُسلم تسليمتين بلفظ: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله.

هذا هو المحفوظ الثابت عن النبي ﷺ وعن أصحابه: أنه كان يُسلم في الصَّلوات: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله أخرجه مسلم في "الصحيح" من حديث سمرة بن جندب، قال: "كنا نُسلم مع النبي ﷺ: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله .....

وجاء في روايةٍ أخرى: "السلام عليكم"، وجاءت زيادة أخرى: "وبركاته"، ولكن في الزيادة نظر.

وقد روى أبو داود من حديث وائل ..... المؤلف هنا، وضعَّفها آخرون؛ لأنَّ علقمة زعم أئمةُ الحديث أنه لم يسمع من أبيه، كما قال يحيى بن معين وجماعة، قالوا: لم يسمع من أبيه، وخطَّؤوه في ..... سمعتُ أبي.

ورواه مسلم في بعض المواضع -في بعض الروايات- عن وائل سماعًا من طريق سماك بن حرب، وسماك فيه شيء، في حفظه شيء، الصواب السَّمع، قال: سمعتُ أبي. احتجَّ به الأئمةُ على سماعه من أبيه، ولكن غالب رواياته كلها بالعنعنة، ليس فيها سماع، غالب رواياته عن أبيه كلها بالعنعنة.

وذكر الحافظ في "التلخيص" ..... عبد الجبار، عن أبيه، وأنَّ عبد الجبار لم يسمع من أبيه.

فالصواب ما هنا كما قال الشارح: من طريق علقمة عن أبيه، وهذا هو المحفوظ: رواية علقمة عن أبيه.

وقد رأيتُ في "صحيح مسلم" في موضعٍ واحدٍ أنَّ علقمة سمع من أبيه في كتاب "الزنا" في "الجنايات"، وغالب رواياته التي وقفتُ عليها كلها بغير سماعٍ، بالعنعنة.

ورواه ابن ماجه من حديث ابن مسعودٍ، ولكن في سنده نظر، زيادة "وبركاته".

والخلاصة أنَّ رواية السلام جاءت فيها عدة أحاديث، قال الشارح أنها تبلغ خمسة عشر، ما بين صحيح وضعيف وحسن .....

وجملة منها صحيحة وثابتة، وفيها أنه كان يُسلم تسليمتين عليه الصلاة والسلام عن يمينه وعن شماله، كما في حديث ..... وقاص: أنه كان يُسلم كما روى مسلم في الصحيح عن يمينه وعن شماله حتى يُرى بياض خدِّه عليه الصلاة والسلام.

وفي حديث وائل هذا تسليمتين، وفي حديث سمرة بن جندب تسليمتين، وفي أحاديث أخرى عن ابن مسعودٍ تسليمتين، هذا هو المحفوظ: كان يُسلم تسليمتين.