12 من حديث (أن النبي ﷺ كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة..)

في أمور الصلاة وما يتعلق بآخرها وخواتمها.

حديث المغيرة يدل على شرعية الذكر عقب الصلاة، وهذا بعد السلام كما جاء في رواية مسلم، كان يقول ذلك إذا سلَّم، من حديث المغيرة: إذا سلَّم من الصلاة يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجد، وهذا يُستحب بعد السلام، يأتي به المؤمنُ.

زاد أبو داود والنَّسائي: يقولها ثلاث مرات: لا إله إلا الله.

وزاد ..... كما قال الشارح: يُحيي ويُميت، وهو حيٌّ لا يموت عن ..... زاد في هذه الرواية: يُحيي ويُميت، وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير، وروى الطبراني أيضًا كما ذكر الشارح زيادة.

والحاصل أنَّ ..... ولا رادَّ لما قضيتَ. ورواه غيره أيضًا بهذه الزيادة، وزاد الطبراني -كما قال الشارح- في روايةٍ قال: ..... يُحيي ويُميت، وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير.

هذا يُستحب كله بعد الصلاة وبعد السلام: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدّ، منك الجد هكذا رواه الشيخان، وهذا مستحب وسنة بعد السلام، وإن كررها ثلاثًا: لا إله إلا الله كما في رواية أهل السنن، وإن زاد: يُحيي ويُميت، وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير فلا بأس كما في زيادة الطبراني، كذلك لا رادَّ لما قضيتَ كما في رواية عبد بن حميد ..... بإسنادٍ لا بأس به، كل هذا مما يُشرع بعد السلام.

وروى مسلمٌ عن عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النبي كان يقول بعد السلام: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.

...... عند مسلم من رواية المغيرة عند الشيخين هذا الذكر كله يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير بعد السلام، وبعد الاستغفار، كما في حديث ثوبان، بعد ذلك يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم لا مانع لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدّ، منك الجد، هذا مجموع ما جاء في الروايتين: ابن الزبير والمغيرة، ويحتمل أنَّ ما رواه المغيرة قاله النبيُّ في بعض الأحيان، وما رواه ابن الزبير يقوله بعض الأحيان عليه الصلاة والسلام، من باب التنوع، وإذا جمع المؤمنُ ذلك جمعًا بين الخير واحتياطًا فذلك أفضل وأكمل؛ لما في هذا من الخير العظيم.

وفي حديث ثوبان عند مسلم: يستغفر ثلاثًا ويقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام هذا بعد الانصراف، إذا انصرف من صلاته قال هذا، يعني: إذا سلَّم من صلاته.

ويدل على أنه يبدأ به رواية عائشة: أنه كان يقول هذا: اللهم أنت السلام .. إلى آخره قبل أن ينصرف للناس، قبل أن يُقبل عليهم بوجهه. هذا رواه مسلم عن عائشة فيما يتعلق بقوله: اللهم أنت السلام، زاد ثوبان: ويستغفر الله ثلاثًا.

فهذا حديث ثوبان وحديث عائشة يدلان على أنَّ هذا الذكر أول شيءٍ بعد السلام، ثم الإمام ينصرف إلى الناس ويُعطيهم وجهه ويُقبل عليهم بوجهه، ويأتي بالأذكار الشَّرعية بعد ذلك.

وهذا هو الجمع بين الروايات: يستغفر ثلاثًا، سواء كان إمامًا أو منفردًا أو مأمومًا، يستغفر ثلاثًا، كما سُئل الأوزاعي -أحد الرواة- عن ذلك قال: يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، ثم يقول: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" كما رواه ثوبان وعائشة، كلاهما عند مسلم، لكن ثوبان انفرد بالاستغفار.

ثم بعد ذلك ينصرف، فدلَّ هذا على أنَّ هذا يكون قبل الذكر الآخر، قبل الذكر المحفوظ في حديث ابن الزبير، وقبل الذكر في حديث المغيرة.

ثم إذا انصرف إلى الناس يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولما مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ، منك الجدّ".

سبق أنَّ بعض الرواة زاد في هذا: ولا رادَّ لما قضيتَ، وعزاه الشارحُ لعبد بن حميد ..... إمام ثقة، له مسند، له كتب، وكذلك الطبراني رحمه الله زاد في آخره: يُحيي ويُميت، وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير، قال الشارح: إنَّ رواته موثقون.

وكثير من الناس قد ينصرف إلى الناس قبل أن يقول: "اللهم أنت السلام"، وهذا خلاف الأصوب، وإنما يقولها وهو مُستقبل القبلة: "اللهم أنت السلام" الإمام، ثم ينصرف إلى الناس بعد الفراغ منها، ويقول: "لا إله إلا الله"، أما المأموم والمنفرد فيستغفر ثلاثًا ويقول: "اللهم أنت السلام"، ثم يأتي بالذكر بعد ذلك.

وفي حديث سعد بن أبي وقاص الدعاء في دبر الصلاة: والدبر -بالضم والسكون- يُطلق على آخر الشيء، وعلى ما يليه، الدبر: هو آخر ما يتصل به، مثل: دبر الحيوان، هذا هو الأصل، ويُطلق الدبر على ما له صلة بالشيء بعده.

والأظهر الأول، فيما يظهر من هذا المعنى هو الأول، وهو الدبر الذي من الشيء، فعلى هذا يكون هذا الدعاء في آخر الصلاة، لا بعد السلام، بل قبل السلام، وكان اللائقُ أن يُقدمه على حديث المغيرة، كان اللائقُ بالمؤلف أن يُقدم حديث سعد على حديث المغيرة؛ حتى يكون مع الدَّعوات الماضية، فيقول: اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أُرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر.

فهذه الدَّعوات العظيمة كان النبيُّ يدعو بها عليه الصلاة والسلام في آخر الصلاة، والأولى أن يقول ذلك في دبر الصلاة، في آخرها قبل أن يُسلم؛ لأنَّ هذا هو الأقرب؛ لقول النبي ﷺ: ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدع به، ثم ليختر من المسألة ما شاء، فهو في حال الصلاة وفي حال إقباله على الخروج منها فيختمها بهذه الدَّعوات العظيمة، كما ختمها بالتَّعوذ بالله من عذاب القبر .....

الحديث عن سعدٍ رحمه الله ابن أبي وقاص: أنه كان يُعلم أولاده هذا الدعاء كما يُعلم المعلمُ من جهة الكتاب الذي يعتني بهم ويُعلمهم هذا الدعاء ليدعوا به؛ لما فيه من الخير، دعوات عظيمة إذا قُبلت سعد العبدُ غاية السَّعد، وربح غاية الربح.

والحديث الرابع: حديث أبي هريرة أيضًا عن النبي ﷺ أنه قال: مَن سبَّح الله دبر كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثًا وثلاثين الجميع تسع وتسعون، وتمام المئة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير؛ غُفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر.

هذا بعد السلام، وهذا لائق أن يكون بعد حديث المغيرة، فيكون حديث سعد وحديث معاذٍ الآتي يكونان قبل ذلك، والمؤلف لم يُراعِ في هذا الترتيب المطلوب كما قد جرى ذلك في مواضع كثيرةٍ، قد يُقدم أشياء يحسن تأخيرها، ويُقدم أشياء يحسن تأخيرها، ولعله جمعها رحمه الله ..... المناسبة وأقرَّها على ما هي عليه بعد ذلك.

الحاصل أنَّ حديث أبي هريرة في الأذكار والاستغفار بعد السلام، كما في حديث المغيرة وغيره وابن الزبير أن هذا يُقال بعد السلام.

وهذه الأذكار يُناسب أن تكون مع الذكر الذي في حديث المغيرة، والذكر الذي في حديث ابن الزبير: فيُسبح الله ثلاثًا وثلاثين، ويكون الدبر هنا -معنى الدبر- الذي يتصل بالعبادة، بعدها، لا قبل السلام، بل بعد السلام كما تقدم، فالدبر يُطلق على ما كان في آخر الصلاة، ومنه دبر الحيوان، ويُطلق على ما كان بعد ذلك؛ لأنَّ له صلة بالآخر فيكون في الدّبر.

ويُشرع التسبيح ثلاثًا وثلاثين، والتحميد ثلاثًا وثلاثين، والتكبير ثلاثًا وثلاثين، ثم يختم المئة بقوله: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير"، فهذا ذكر عظيم، ونوع من أنواع الذكر بعد الصلاة، وهو من أسباب تكفير السيئات وحطّ الخطايا، وينبغي للمؤمن المواظبة عليه: إمامًا كان، أو مأمومًا، أو منفردًا، يواظب على هذا.

وفي روايةٍ أخرى: أن التكبير أربعًا وثلاثين، وفي بعضها نوع من ثلاثين، هذا نوع من الذكر، فينبغي أن الذكر بعد الصلاة جاء على أنواع:

أحدها: ما ذكر هنا: يُسبح ثلاثًا وثلاثين، ويُكبر ثلاثًا وثلاثين، ويحمد ثلاثًا وثلاثين، ويختم المئة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. هذا واحد.

النوع الثاني: وهو ما ذكر، لكن بدل "لا إله إلا الله" -التكبيرة الرابعة والثلاثين- التَّسبيح ثلاثًا وثلاثين، والتَّحميد ثلاثًا وثلاثين، والتَّكبير أربعًا وثلاثين ..... هذا نوع ثانٍ.

النوع الثالث: ما جاء في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة في قصة فقراء المهاجرين: أنهم اشتكوا إلى النبي ﷺ أنَّ المهاجرين الأغنياء سبقوهم: لهم دثور، لهم أموال يُنفقون منها ويتصدَّقون منها، والفقراء ليس عندهم ذلك، فقال النبيُّ ﷺ: ألا أدلكم على شيءٍ تُدركون به مَن سبقكم، وتسبقون مَن بعدكم، ولا يكون أحدٌ أفضل منكم إلا مَن صنع مثلما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تُسبحون وتحمدون وتُكبرون دبر كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين، ولم يقل لهم: لا إله إلا الله، ولم يقل لهم: .....، هذا نوع ثالث.

قال الراوي: فرجع فُقراء المهاجرين إلى النبي ﷺ فقالوا: يا رسول الله، سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله: يُسبحون ويُكبرون مثلما فعلنا، مثلما علمتنا، يعني: إشارة إلى أنه ما في حيلة حتى نُساويهم أو نزيد عليهم؟ فقال النبيُّ عند هذا: ذلك فضل الله يُؤتيه مَن يشاء، إذا سبق المهاجرون الأغنياء: شاركوا الفقراء بالأعمال الصَّالحات، مع ما عندهم من الزيادة من الصَّدقات في أموالهم والعتق ونحو ذلك؛ فهذا فضل الله يُؤتيه مَن يشاء.

وهذا من حجة مَن قال: أنَّ الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر؛ لأنه قال عند هذا: ذلك فضل الله لما خصَّهم بهذا المزيد وهذا الفضل: كونهم شاركوا الفقراء في أعمالهم الصَّالحة، وزادوا عليهم ما يسَّر الله لهم من الصَّدقات والعتق وغير هذا من الإنفاق في وجوه الخير.

وبهذا يكون أنواعًا ثلاثة.

وهناك نوع رابع: يُسبح عشر مرات، ويحمد عشر مرات، ويُكبر عشر مرات في أوله وآخره.

وهناك نوع خامس رواه النَّسائي وجماعة: يُسبح خمسًا وعشرين، ويحمد خمسًا وعشرين، ويقول: لا إله إلا الله خمسًا وعشرين، ويُكبر خمسًا وعشرين، هذا مئة.

ولا بأس بإسناد النسائي وغيره، إسناد النسائي وجماعة إسناد جيد .....: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر خمسًا وعشرين مرة، الجميع مئة، هذا نوع خامس.

فإذا أتى تارةً بهذا، وتارةً بهذا، كله طيب، لكن أصحّها وأثبتها: التَّسبيح ثلاثًا وثلاثين، والتكبير ثلاثًا وثلاثين، والتحميد ثلاثًا وثلاثين، تسعة وتسعون، هذا أثبتها كما جاء في "الصحيحين"، ويختمها بلا إله إلا الله، حسبما جاء في مسلم، فيكون الجميع مئةً، فهذا أفضل ما يكون من الأذكار بعد الصلاة، ويأتي بقية ..... ما ذكر المؤلف، والله أعلم.

..............

اللهم صلِّ وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه.

أما بعد: فهذه الأحاديث الخمسة كلها تتعلق أيضًا بصلاة النبي عليه الصلاة والسلام، تقدمت الأحاديثُ الكثيرة، وهذا حديث معاذٍ هو السابع والخمسون في أحاديث صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام.

يقول ﷺ لمعاذٍ: أُوصيك يا معاذ، ومعاذ هو ابن جبل، أبو عبد الرحمن الخزرجي الأنصاري ، يقول: أُوصيك يا معاذ: لا تدعنَّ دبر كل صلاةٍ أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك.

ومعاذ معروف بالعلم والفضل والتَّقدم في الخير، فهو مُقدم في أصحاب النبي ﷺ، وفضائله ومناقبه معروفة رحمه الله.

وهذا يدل على شرعية هذا الدعاء، ويدل على خصوصية لمعاذٍ؛ النبي خصَّه بهذه المزية، فوصية النبي ﷺ لشخصٍ وصية للأمة كلها؛ لأنه بُعث لها كلها عليه الصلاة والسلام، فإذا أوصى لشخصٍ بشيءٍ فهو وصية للأمة، ولكن يدل على مزيةٍ لهذا الشخص: كونه خصَّه بهذا العلم حتى يحمله للناس، وحتى يُبلغه الناس، مثلما قال في الحديث الذي ذكره الشيخُ محمد في كتاب "التوحيد"، قال: يا معاذ، أتدري ما حقّ الله على العباد .. إلى آخره.

المقصود أن هذا يدل على شرعية هذا الدعاء، ولا يخصّ معاذًا وإن خصَّه بوصيةٍ، لكن ليس المراد أنه خاصٌّ به، بل هو مشروع للجميع، لكن يتأكد في حقِّ الموصَى مباشرةً؛ لخصوصية هذه المباشرة وهذه الوصية الخاصة، يكون نوع تأكيدٍ في حقه، وإلا فهو للأمة جميعًا.

والأولى في هذا أن يكون في آخرها قبل السلام لأمرين:

أحدهما: أنَّ الدبر في الأصل هو آخر الشيء وطرفه، مؤخره، فهو مؤخر الصلاة، وآخرها هو التحيات -التشهد الأخير-.

والأمر الثاني: أنَّ هذا الموضع موضع دعاء، النبي ﷺ لما علَّمه التَّشهد قال له: ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدع، ثم ليختر من المسألة ما شاء، هذا موضع دعاء في هذا، وهو الأنسب أن يُؤتى به بعد الصلاة على النبي ﷺ في آخر الصلاة؛ لأنَّ هذا هو محل الدعاء؛ ولأنه الدبر الحقيقي؛ لأنَّ دبر الحيوان جزء منه.

ويجوز أن يكون أراد بعد السلام؛ لأنَّ قرب الشيء هو دبر له، إذا قرب منه ودنا منه فهو دبر له، ولكن عُرف من سنته ﷺ أنَّ ما بعد السلام محل الأذكار، وما قبل السلام محل الدعاء، فيكون الراجحُ أن يأتي به في آخر الصلاة قبل السلام، وإن نسيه هناك وأتى به بعد ذلك فحسنٌ؛ لأنَّ كلًّا منهما يُسمَّى دبرًا.

وهذا الدعاء دعاء عظيم مختصر مُوجز: اللهم أعني على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك هذا دعاء عظيم، مع إيجازه، مع قلة ألفاظه، فإنَّ مَن رُزق العون على الذكر وعلى الشُّكر وعلى حُسن العبادة تم أمره، وكملت سعادته؛ لأنَّ الدين يتضمن هذا كله؛ لأنه ذكر لله وثناء عليه وشُكر لإنعامه، فمن كمال ذلك ومن تمام الإحسان العبادة، وأن تُؤدى على الوجه الأكمل، والشَّاكر هو الذي يُؤدي الحقوقَ القولية والفعلية في مقابل نِعَم الله عليه، والشَّاكر هو المطيع لله، المعظم لحرمات الله، الواقف عند حدود الله، التارك لمحارم الله، فمَن جمع هذا فقد جمع الخير كله، وإحسان العبادة أن تُؤدَّى على الوجه الذي شرعه الله، لا يكون فيها نقص، ولا يكون فيها زيادة وبدعة، بل تُؤدى على الوجه الذي شرعه الله وفعله رسوله عليه الصلاة والسلام.

والحديث الثاني: حديث أبي أمامة، يحتمل أنه الباهلي، ويحتمل أنه الحارثي: أن النبي ﷺ قال: مَن قرأ آية الكرسي دبر كل صلاةٍ لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت.

وهذا أيضًا يحتمل أن يكون قبل السلام، ويحتمل أن يكون بعد السلام؛ لأنَّ الدبر كما تقدم هو آخر الشيء، وهذا يدل على شرعية الإتيان بهذه الآية، وكون القرآن ليس محله آخر الصلاة قرينة على أنَّ المراد بعد الصلاة؛ لأنَّ آخر الصلاة ليس محلَّ قراءةٍ، وإنما القراءة في القيام، فهذه السنية المعروفة تدل على أنَّ المراد هنا أن يُؤتى بها بعد السلام، لا قبل السلام؛ لأنَّ قبل السلام محلّ دعاءٍ، ومحل ذكرٍ في الأشياء المنصوص عليها.

وآية الكرسي آية عظيمة من القرآن، فيُؤتى بها بعد السلام وبعد الأذكار التي شرعها الله بعد السلام، وأنَّ هذا من أسباب دخول الجنة؛ المحافظة على هذه الآية العظيمة، وهي أعظم آيةٍ في كتاب الله، من أسباب دخول الجنة والنَّجاة من النار.

وتنازع أهلُ العلم في هذه الرواية: هل هي صحيحة أو ضعيفة؟

فضعَّفها قومٌ، وأثبتها آخرون، ورواها النَّسائي -هذه الرواية- بإسنادٍ جيدٍ.

فالصواب أنها رواية لا بأس بها؛ ولهذا أقرَّها المؤلفُ هنا، وذكر تصحيح ابن حبان لها؛ اعترافًا منه بأنه لا بأس بهذه الرواية عند النَّسائي.

وزاد الطبراني: وقل هو الله أحد، وجاء في رواية عقبة بن عامر: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس.

فيجتمع من هذا شرعية الأذكار بعد الصلاة، التي منها: التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثًا وثلاثين مرة، وشرعية آية الكرسي، وشرعية "قل هو الله أحد" والمعوذتين دبر كل صلاةٍ، هذه السنن يُستحب أن يأتي بها المؤمنُ بعد كل صلاةٍ، ومعلوم ما فيها من الخير العظيم والفائدة الكبرى للمؤمن.

س: ...............؟

ج: يعني أنه إذا مات حصل له دخول الجنة.

.............

والحديث الثالث: حديث مالك بن الحويرث الليثي : أن النبي ﷺ قال: صلوا كما رأيتُموني أُصلي، هذا حديث معروف من حديثٍ طويلٍ، ذكره النبيُّ ﷺ لمالك لما وفد في جماعةٍ من قومه، وهم شببة نحو العشرين، فعلَّمهم النبيُّ ﷺ، ولما رأى شوقهم إلى أهليهم قال لهم كذا وكذا: ارجعوا إلى أهليكم وعلموهم، وصلوا الفرض كذا في وقت كذا، وصلوا كما رأيتُموني أُصلي.

فهذا أصل أصيل في وجوب التأسي بالنبي ﷺ، وأن نُصلي كما صلَّى عليه الصلاة والسلام في الأحوال والأفعال.

والأصل في الأوامر الوجوب، ولا يُستثنى من هذا الأصل إلا ما دلَّ الدليلُ على أنه ليس بواجبٍ، بل مستحب، وإلا فالأصل في أفعاله التي يُداوم عليها ولا يخلّ بها، الأصل فيها الوجوب، فما أخلَّ به في بعض الأحيان دلَّ على أنه ليس بواجبٍ، كما دلَّت الأدلة الخارجية على أنه ليس بواجبٍ كذلك، وإلا فالأصل أنَّ ما واظب عليه واستقرَّ عليه فعله فإنه يكون من الواجبات ومن الفرائض ومن أجزاء الصلاة التي أُمرنا بإقامتها والمحافظة عليها.

والحديث الرابع: حديث عمران بن حصين الخزاعي المشهور، أبو نجيد، الصحابي الجليل رحمه الله، كانت تُسلِّم عليه الملائكة، ولما كوى تركته، ولما ترك الكيَّ عادت إليه الملائكة، كما روى عن نفسه رحمه الله، وكان صحابيًّا جليلًا.

قال -كما في الرواية الأخرى- كان بي بواسير، وهو مرض في الدبر، وكان يشقّ عليه الصلاة قائمًا لمرضه، فقال له النبي ﷺ: صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ رواه البخاري.

قوله: وإلا فأومئ ليس معروفًا في الرواية، وكأنه وهمٌ من المؤلف رحمه الله، وهذا من الغرائب؛ فإنَّ الشَّارح ذكر أنه وهم الرافعي في هذه الزيادة: وإلا فأومئ، ليس لها أصل، وإنما وقعت له فزادها هنا، فليس لها أصل، وإنما زادها وهمًا وتقليدًا للرافعي، وليست من الرواية، وليست من الحديث.

المقصود أنَّ قوله: وإلا فأومئ لا تُعرف في رواية البخاري، ولا تُعرف في رواية هذا الحديث هذه الزيادة، وإنما هي معروفة من أدلةٍ أخرى .....، وقوله جلَّ وعلا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وغير ذلك.

فالحاصل أن المريض الذي يشقّ عليه القيام يُصلي قاعدًا، وأما كونه قاعدًا ليس فيه تفصيل، سواء قاعدًا متربعًا، أو جلس مُحْتَبِيًا، أو جلس كهيئة جلوسه للتَّشهد الأخير أو الأول مُفترشًا؛ لأنَّ قوله: قاعدًا يعمّ أنواع الجلسات، سواء كان متورِّكًا أو مُفترشًا أو مُحتبيًا أو قرفصاء أو مُتربِّعًا، أي جلسة جلسها أجزأ ذلك؛ لإطلاق النبي ﷺ في قوله: صلِّ قاعدًا، لكن تقدم في حديث عائشة أنَّ النبي صلى متربعًا، إذا صلى جالسًا صلى متربعًا، فيدل على أنه الأفضل التربع؛ لأنه أريح له، الجلوس هكذا التربع، فإن جلس هكذا فهو أريح له في قراءته؛ لأنه قد يطول القراءة فيحتاج إليه، فهذا الجلوس أريح له وأفضل في محلِّ القيام، وإذا جلس جلسةً أخرى غير هذا الجلوس فلا بأس؛ لعموم قوله: قاعدًا.

ثم إذا عجز عن القعود صلَّى مُضطجعًا على أي جنبٍ: الأيمن أو الأيسر، وقد جاء في روايةٍ: "على جنبه الأيمن"، لكنه ضعيف، رواية ضعيفة، على هذا يكون قوله: فعلى جنب يعمّ هذا وهذا، لكن الأيمن أفضل: كان يُعجبه التَّيمن عليه الصلاة والسلام، وإن شقَّ عليه الأيمن فالأيسر.

وزاد النَّسائي: فإن لم تستطع فمُستلقيًا.

فدلَّ ذلك على أنَّ العاجز عن القيام له هذه الأحوال الثلاثة:

  • القعود إن قدر.
  • وإن عجز عن القعود صلَّى على جنبه.
  • وإن شقَّ عليه الجنب صلَّى مُستلقيًا.

وهذا من فضل الله ، وهذا يُطابق قوله جلَّ وعلا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ويُطابق قوله ﷺ: وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم، فالمريض هكذا، وليس له أن يُؤخر الصلاة، وليس له أن يدعها كما يفعل بعضُ المرضى، يقول: خليني حتى أطيب وأصلها على وجهٍ أحسن. تتجمع عليه أيام كثيرة، هذا غلط، قد يموت ولا يطيب، قد يشقّ عليه بعد ذلك إذا تكاثرت عليه.

فالحاصل أنَّه لا يجوز تأخيرها عن وقتها أبدًا، بل يجب على المريض أن يُصلي في الوقت، ولا بأس له أن يجمع على الصَّحيح: يجمع بين الفرضين اللذين يُجمَع بينهما: كالظهر والعصر، والمغرب والعشاء، عند جمهور أهل العلم، فلا بأس بهذا، أما أن يُؤخر العصر إلى الليل أو إلى غدٍ أو إلى بعد غدٍ، أو يُؤخر المغرب أو العشاء أو غير ذلك؛ فلا يجوز هذا، هذا الحديث صريح في ذلك، مع عموم أدلة الأوقات، وقوله جلَّ وعلا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وقول النبي: إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم.

كل هذا يدل على وجوب أن تُؤدى الصلوات في أوقاتها على حسب حاله، وليس له التأخير أبدًا: لا في المستشفى، ولا في غيره، بل يجب أن يُنبه على هذا المريض، وأن يُنبهه مَن يتصل به حتى يُصلي الصلاة في وقتها ولا يُؤخرها أبدًا، بل يُصليها على حسب حاله: قاعدًا، أو مُضطجعًا، أو مُستلقيًا يُومئ إيماءً، ويأتي بالمشروع: بالنية، يُكبِّر، إذا كان يستطيع الكلام يُكبر ويقرأ، ثم ينوي الركوع ويُكبر ناويًا الركوع، ويقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، إلى آخره، ثم ينوي الرفع ويقول: سمع الله لمن حمده، وهو على حاله قاعدًا، أو على جنبه مُستلقيًا، ثم ينوي السُّجود ويُكبر ناويًا السجود، ويقول: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، ويُكبر ناويًا الرفع والجلسة بين السَّجدتين ويقول: رب اغفر لي، رب اغفر لي، ثم يُكبر ناويًا السجود الثاني، وهكذا حتى يُكمل صلاته بالنية، أفعاله بالنية، وأقواله ينطق بها إن كان يستطيع، وإن كان ما يستطيع نوى أيضًا الأقوال ..... على حسب حاله، إن استطاع فالأفضل، وإن لم يستطع نوى الصلاة -الدخول فيها- ثم نوى الركوع ويأتي بأذكاره، ثم ينوي الرفع ويأتي بأذكاره، ثم ينوي السجود ويأتي بأذكاره، وهكذا.

وهذا من لطفه ، ومن كمال هذه الشريعة ومحاسنها: أنَّ العاجز عن الشيء الذي لا يقدر عليه يرجع إلى بدله، ينتقل إلى بدله، والشيء الذي لا بدل له يسقط، وهذه الأشياء لها بدل: القيام له بدل وهو القعود، والقعود له بدل وهو على جنبٍ، وبدل الجنب الاستلقاء، هذا من لطفه .

والحديث الخامس: حديث جابر بن عبدالله الأنصاري : أنَّ النبي ﷺ أتى مريضًا يُصلي على وسادةٍ، فرمى بها، طرحها النبيُّ ﷺ وقال: صلِّ على الأرض إن استطعتَ وإلا فأومئ إيماءً، واجعل سجودَك أخفض من ركوعك.

هذا الحديث يدل على شرعية الصلاة في الهواء وعدم الحاجة إلى جعل كرسيٍّ أو وسادةٍ يسجد عليها، فإذا كان يعجز عن السجود في الأرض فإنه يسجد في الهواء، ويكون سجودُه أخفض من ركوعه، ولا حاجةَ إلى أن ينصب قُدَّامه وسادةً أو كرسيًّا أو ما أشبه ذلك يسجد عليها، بل السنة أن يسجد في الهواء، ويركع في الهواء، من دون حاجةٍ إلى وسادةٍ.

ورواه البيهقي بسندٍ قويٍّ، لكن صحح أبو حاتم وقفه على جابرٍ؛ لأنَّ جابر هو الذي أتى على المريض وطرح الوسادة وقال: "صلِّ على الأرض إن استطعت"، ..... وهذا الموقوف من جابرٍ تفقه ودليل على أنه يرى أنَّ هذا من الصلاة، وهذا هو المشروع في الصلاة، ويقرب أن يُقال فيه: إنه في حكم الرفع؛ لأنه لا يكون من جهة رأيه، هذا هو الأقرب، الموقوف يُؤيد المرفوع ويعضده.

ثم الأصل أنَّ الزيادة مُعتبرة، إذا زاد الراوي الرفع مقدم؛ لأنه إسناد جيد، ورواته ثقات، فالرافع أتى بزيادةٍ، والقاعدة عند أهل العلم في الحديث أنَّ الزيادة تُقبل، الزيادة في الحديث تُقبل إذا لم تكن ..... لمن هو أوثق منه، فإن زيادة الراوي في الحديث تُقبل منه، وتُقدم على مَن نقص؛ لأنه حفظ ما لم يحفظه الآخر؛ ولهذا قال الحافظ في "النخبة": "وزيادة راويهما مقبولة" أي: راوي الحسن والصحيح، "وزيادة راويهما مقبولة ما لم تقع منافية لمن هو أوثق".

فدلَّ ذلك على أنَّ الزيادة تُقدم وتُقبل ممن زاد.

وأبو حاتم هو الرازي المشهور، غير أبي حاتم ابن حبان المتأخر: محمد بن حبان المعروف البستي، هذا توفي سنة أربعٍ وخمسين وثلاثمئة، وكان من مواليد آخر القرن الثالث، وأما أبو حاتم الرازي فهو متقدم، ما أدركه ابن حبان، وهو من شيوخ مشايخه، هو من شيوخ أبي داود والنَّسائي، وهو إمام كبير رحمه الله، حافظ، وهو محمد بن إدريس بن المنذر الرازي، المشهور، أبو حاتم، صاحب أبي زرعة الرازي، كانت وفاته سنة سبعٍ وسبعين ومئتين بعد أبي داود بسنتين رحمه الله ورضي الله عن الجميع.

أما البيهقي فمعروف، تقدم غير مرة، البيهقي متأخر رحمه الله، وهو إمام حافظ جليل، يُدعى الحافظ لكثرة حفظه وجمعه الروايات، له "السنن الكبرى" التي تدل على العجب العجاب في حفظه وسبره هذه الأحاديث، وله كتب أخرى غير "السنن الكبرى" رحمه الله، وهو أحمد بن الحسين البيهقي، أبو بكر، الحافظ الجليل، المتوفى سنة 458 في القرن الخامس، وهو من أقران ابن حزم والقاضي أبي يعلى الحنبلي ومَن كان ..... في عصرهم: كالحافظ ابن عبد البر، والحافظ أبي بكر الخطيب، فهؤلاء كلهم في .....

............

السجود غير سجود الصلاة، سجود الصلاة معروف، يحتاجه الإنسانُ في كل ركعةٍ، وهناك سجود السهو إذا وُجد موجب، فإنَّ الله شرع سجود السَّهو لجبر الصلاة ..... أبي سعيدٍ إن كان صلَّى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلَّى تمامًا كانتا ترغيمًا للشيطان، فالله شرع سجود السهو لحكمةٍ؛ لإكمال الصلاة وإتمامها، ولإرغام الشيطان الذي وسوس حتى حصل ما حصل من السَّهو، والله شرع لنا ما يُرغم الشيطان، وما يجبر الصلاة على سائر أنواع السَّهو.

والنوع الثالث: سجود التلاوة.

والنوع الرابع: سجود الشُّكر.

وهذه الأنواع كلها طريقها واحد، يقال فيها: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، ويُدعا فيها، فسجود التلاوة والسهو والشكر مثل: سجود الصلاة، لكنها في الأحكام تختلف: فسجود السهو واجب وفرض، وسجود الصلاة، أما سجود التلاوة وسجود الشكر فليسا بفرضٍ، بل هو مُستحب عند وجود أسبابه، ويقال في الجميع: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، ويُدعا فيها بما تيسر من الدعاء، وسجود السهو فيه تكبير ..... سجود صلاة فيه تكبير عند الخفض والرفع وسلام.

وأما سجود التلاوة والشُّكر فلم يرد فيهما ذلك، وإنما ورد التكبير عند السجود بسندٍ فيه نظر، رواه أبو داود من طريق عبدالله بن عمر العمري الزاهد، ضعيف، ورواه الحاكم من طريق عبيدالله، ثقة، احتجَّ به العلماء على شرعية التكبير عند السجود -سجود التلاوة- وهو لم يأتِ تكبير عند الرفع -كما يأتي إن شاء الله في محله- ولا تسليم، وهكذا سجود الشكر، فعُلم بذلك الفرق بين هذه الأنواع.

والصحيح أن سجود السهو واجب، قد اختلف العلماء في ذلك، لكن الصحيح أنه واجب؛ لأن الرسول فعله وأمر به وقال: صلوا كما رأيتُموني أُصلي، فدلَّ على وجوبه؛ ولما فيه من جبر الصلاة وإكمالها وإتمامها وإرغام الشيطان، فوجب على الأمة التأسي به في ذلك عليه الصلاة والسلام والامتثال لأمره.

الحديث الأول: حديث عبدالله ابن بُحينة ابن مالك، أبوه مالك، وأمه بحينة، وهو من مشاهير الصحابة : أن النبي ﷺ صلَّى ذات يومٍ ونسي التَّشهد الأول، قام، صلَّى وقام عن التَّشهد الأول، ولم يجلس، فقام الناسُ معه، فلما أنهى صلاته وقضاها وقضى الناس تسليمه كبَّر وهو جالس فسجد سجدتين لإكمال الصلاة، فدلَّ ذلك على شرعية هذا السجود، وأن الإمام إذا قام ولم يجلس يقوم الناس معه ويتابعون، فإنَّ الصحابة تابعوه، ولم يقل لهم النبيُّ ﷺ شيئًا، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا هو المشروع: أنهم يُتابعونه إذا قام، ولا يجلسون، وهو إذا فرغ من صلاته يسجد سجدتين؛ جبرًا لهذه الصلاة، وعوضًا عن هذا الجلوس الذي تركه ساهيًا، قبل أن يُسلم، هذا هو الأفضل؛ تأسيًا بالنبي عليه الصلاة والسلام.

واحتجّ بهذا الحديث على وجوب التَّشهد الأول؛ لأنَّ النبي لما تركه سجد له، فدلَّ ذلك على وجوبه، وعكس آخرون وقالوا: هذا يدل على عدم وجوبه؛ لأنه لو كان واجبًا لرجع إليه ولم يتساهل به. وليس بصوابٍ، بل هذا يدل على أنه واجب؛ لأنه ﷺ فعله وواظب عليه ولم يخلّ به، ولما أخلَّ به سجد للسَّهو، فدلَّ على وجوبه؛ أخذًا من قوله ﷺ: صلوا كما رأيتُموني أُصلي، وهكذا بقية تكبيرات النَّقل؛ لأنَّ الرسول أمر بها، فهي من جنس التَّشهد الأول، قال النبي: إذا كبر فكبروا، وقال: وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، فدلَّ على أن هذه الأشياء واجبة: التَّكبير للنقل، والتسميع للإمام، والحمدلة للجميع، كذلك "سبحان ربي العظيم" في الركوع، و"سبحان ربي الأعلى" في السجود.

فما واظب عليه النبيُّ ﷺ وحافظ عليه دلَّ على وجوبه.

ويُروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لما نزلت آية: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74] قال: اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت آية: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1] قال: اجعلوها في سجودكم، فهذا يُؤيد وجوب المأخوذ من قوله: صلوا كما رأيتُموني أُصلي، لكن لو تركها أحد نسيانًا فالصحيح أنها من جنس التَّشهد الأول، يجبرها سجود السهو.

وقال الأكثرون: إنها سنة، ولا يجب جبرها.

والقول بأنها واجبة -وهو مذهب أحمد وجماعة من أهل الحديث- أظهر؛ لعموم قوله ﷺ: صلوا كما رأيتُموني أُصلي، وقد واظب عليها، ولم يخلّ بها، وأمر بها، فدلَّ على الوجوب.

والحديث الثاني: حديث أبي هريرة في قصة سلام النبي مع النَّقص: أنه عليه الصلاة والسلام صلَّى إحدى صلاتي العشي، وجاء في رواية أبي هريرة: أنها العصر، عند مسلم، وجاء في بعض الروايات: أنها الظهر، ولا يضرّ ذلك، كلها رباعية، المهم الحكم.

فلما سلَّم قام إلى خشبةٍ مُعترضةٍ في المسجد، فوضع يده عليها، جاء في الرواية الأخرى: كأنه غضبان. وفي رواية: أنَّ هذا كان في صلاة العصر، وأنه سلَّم من ثلاثٍ، جاء من حديث عمران بن حصين الآتي. فخرج سرعان الناس وقالوا: قصرت الصلاة. وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يُكلِّماه لما رأيا من تأثره وتغيره؛ لأنه كان كأنه غضبان كما في الرواية الأخرى.

فقام إليه رجلٌ ..... ويُدعى: ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنسَ، ولم تقصر، فقال له .....: بلى، قد نسيتَ! جزم لما رأى النبيَّ يقول: ما قصرت الصلاة، جزم أنه نسيان، أولًا شكَّ قال: نسيت أو قصرت؟ فلما قال: لم أنسَ، ولم تقصر عرف ذو اليدين أنه نسيان فقال: بلى قد نسيتَ؛ لأنه ما في إلا أحد أمرين: قصرها شرعًا، قصر الأربعة، وإما نسيانًا، فلما نفى النبيُّ القصر عرف ذو اليدين أنه ناسٍ، قال: بلى قد نسيتَ.

فالتفت النبيُّ إلى القوم وقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم، وفي روايةٍ: فأومأوا أن نعم، فقام وكملها عليه الصلاة والسلام، كمل صلاته أربعًا ثم سلم ثم سجد للسَّهو.

هذا الحديث أوسع فيه العلماءُ الكلامَ، وألَّف فيه بعضُهم، وهو حديث عظيم كثير الفوائد، ويدل على أنَّ الرسل غير معصومين من السَّهو، ومحمد أفضلهم وسها عليه الصلاة والسلام، فدلَّ على أن هذا من أمر البشر، ومن سنة البشر، ولا حيلة في ذلك حتى من الرسل عليهم الصلاة والسلام.

وفيه من الفوائد: أن الإمام إذا سها فأخلّ بالصلاة، ولو أنه عظيم، ولو أنه أعلم الناس أو أفقه الناس يُنبَّه، فالرسول ﷺ أعلم الناس، وهو إمام الناس، فنبّه على ذلك، ولم يستنكف، بل أقرهم على التَّنبيه وقال: مَن نابه شيءٌ في الصلاة فليُسبح الرجال، فالتَّنبيه مهم وواجب على مَن علم.

وفيه من الفوائد: أن الإنسان قد يجزم بشيءٍ وهو ناسٍ، لما قال: لم تقصر، ولم أنس، بيان على اعتقاده الغالب، ثم ظهر له أنَّ هناك شيئًا من الشك، وسأل القوم فقالوا: نعم، يعني: قد نسيتُ، فالإنسان قد يجزم أولًا، ثم إذا شُكك شكَّ، هذا من سنة بني آدم: يجزم ولا يخطر بباله أنه أخلَّ بشيءٍ، ثم إذا شكَّ فهو ..... شكّ؛ لأنَّ ما عنده يقين جازم؛ ولهذا سأل.

هذا يدل على أنَّ الإنسان إذا نُبِّه يتنبه ويقبل التَّنبيه، إذا كان ما عنده يقين يقبل التَّنبيه ويعمل به، فيتم صلاته إن كان أخلَّ بشيءٍ ويسجد للسهو، إن كان ما أخلَّ بشيءٍ سهوًا لا يترتب عليه نقص.

أما قوله: "فأومأوا" كما في رواية أبي داود، وفي رواية "الصحيحين": فقالوا. فهو محتمل أنه من تصرف الرواة، وهو "أومأوا"، بعض الرواة تصرف وقال: "أومأوا"؛ لأنه ظنَّ أنه لا يتكلم وهو في الصلاة، والذين قالوا لا خلافَ فيها ولا غرابةَ؛ لأنهم ظنُّوا أن الصلاة قد كملت، فلما أعلمهم النبيُّ أنها لم تقصر قالوا: نعم.

وأن التَّكلم بعد السلام من الصلاة لمن هو في الصلاة للاستثبات فيها والتَّثبت في أمرها؛ أنَّ هذا لا يضرّ الصلاة؛ لأنَّ هذا في حكم النَّاسي، أو في حكم المستثبت؛ ولهذا تكلم النبيُّ، وتكلم ذو اليدين، وتكلم الناس، وتكلم السرعان من الناس، ولم تبطل صلاتهم، فدلَّ ذلك على أنَّ هذه الأمور لا تخلّ بالصلاة، تكلموا بعد السلام لما سلَّموا ظانين صواب الإمام، ثم بحثوا فيما بينهم، لا يضرّ ذلك.

أما مَن تيقن أنَّ الإمام ساهٍ فلا يُسلم ولا ينصرف ولا يتكلم، بل يبقى إن كان المحلُّ محلَّ جلوسٍ، وإن كان محلَّ قيامٍ قام بنية الصلاة وكمل لنفسه إذا تأخَّر الإمام، وإن قام الإمامُ قام معه، وهكذا في الجلوس: لو أراد الزيادة ونبَّههوه ولم يرجع يجلسون ولا يُتابعونه في الزيادة، ثم لا يُتابعونه في النَّقص، لكن الصحابة التبس عليهم الأمر، خشوا أن يكون جرى شيء في الحكم فغُيرت الصلاة؛ فلهذا سلموا معه، لكن في وقتنا انتهى الأمر، ما بقي نسخ، قد أحكم الله أحكامه بعد موت النبي ﷺ، انتهى الأمر، وما بقي توهم للنسخ، فلم يبقَ إلا السَّهو، فيُنبه السَّاهي، والذي لم يسهُ لا يُتابع الساهي، إن كان في نقصٍ يقوم فيتم صلاته إذا ما قام الإمامُ، وإن كان في زيادةٍ فيجلس ولا يقوم مع الإمام؛ لأنَّ الصلاة معروفة ومعلومة، فإذا كان الإمامُ سها ولم يقم ليُتم صلاته قاموا وكملوا لأنفسهم، وإن كان في زيادةٍ ولم يرجع جلسوا ولم يُتابعوه، لكن مَن تابعه جاهلًا أو ناسيًا لا يضرّه ذلك، جاهلًا بالحكم، جاهلًا بالزيادة، جاهلًا بالنقص، أو ناسيًا مثل الإمام؛ لا يضرّه ذلك.

وفيه من الفوائد: أن سجود السَّهو فيما إذا سلم عن نقصٍ يكون بعد السلام، وهكذا ما جاء في حديث عمران: كان يُسلم عن ثلاثٍ، السجود بعد السلام هذا هو الأفضل: أن يكون سجوده إذا سلَّم عن نقصٍ يكون بعد السلام، أما إذا قام عن التَّشهد الأول، أو شكَّ في الصلاة -لحديث أبي سعيدٍ هذا- يكون سجوده قبل السلام، هذا هو الأقرب.

وقد ذكر جمعٌ من أهل العلم أنَّ الأمر فيه واسع: السجود قبل السلام أو بعد السلام الأمر واسع، وقد جاءت أحاديث في الباب تدل على ذلك، فمَن سجد قبل السلام أو بعده أجزأه، لكن الأفضل أن يكون ما كان عن نقصٍ -سلَّم عن نقصٍ- يكون بعد السلام؛ تأسيًا بالنبي ﷺ، أو فيما إذا بنى على غالب ظنِّه يكون بعد السلام، كما يأتي في حديث ابن مسعودٍ إن شاء الله، أما في غير هاتين الصُّورتين فيكون قبل السلام.

وحديث عمران بن حصين مثل حديث ذي اليدين، لكنه سلم عن ثلاثٍ ودخل بعض حجر نسائه، فتبعه ذو اليدين قال: أنسيت أم قصرت الصلاة؟ ثم نبَّهه فتنبَّه فرجع وكمل صلاته وسجد بعد السلام عليه الصلاة والسلام.

وهي حادثتان: إحداهما فيها أنه سلَّم من ثنتين، والثانية أنه سلَّم عن ثلاثٍ، وفيهما جميعًا أنه سجد بعد السلام.

أما قوله: "فتشهد" في حديث عمران يُوهم أن تشهده بعد السجود للسَّهو، ولكن ليس بجيدٍ، فالأقرب مثلما في حديث ..... أنه سجدتين قبل السلام، ثم سلَّم، ثم سجد.

لكن في رواية عمران فيها بعض النَّقص، تُفسرها رواية أبي هريرة، تُوضِّحها، وأنه سجد بعدما سلَّم، وأن التشهد كان في التحيات قبل أن يُسلم التسليمة الأولى، وأما بعد سجود السَّهو فليس محلَّ تشهدٍ، كان يسجد للسَّهو ويُسلم كما في حديث أبي هريرة، وليس هناك تشهد آخر، هذا هو الصواب.

س: ..............؟

ج: كثير من أهل العلم يقولون: إذا فات وقت سجود السهو يسقط. ولكن إذا ذكر ولو في بيته يسجد للسَّهو، هذا أحسن.

س: ...............؟

ج: يسجد للسَّهو، نقص ركعة يعني.

س: نعم، وتفرَّقوا؟

ج: إذا طال الفصلُ ينبغي أن تُعاد من أولها، تُستأنف، قال أهلُ العلم: إذا طال الفصلُ تُستأنف، لكن إذا كان الفصلُ قليلًا، مثل: قيام النبي ودخوله بعض حجر نسائه، ومثل: بيته قريب، إذا اكتفى بالركعة يكفي إن شاء الله.

س: الذين تفرَّقوا؟

ج: يُعلمون في وقتٍ آخر، يُبلَّغون.

س: فيما إذا شكَّ المأمومُ في عدد الركعات مع الإمام؟

ج: يُتابع الإمامُ، ما على شكِّه عمل، يُتابع إمامه ويكفي.

س: معنى قوله: "يتحمل الإمام عن المأموم" هل في الإثم أو في الجبر؟

ج: ..... إذا سها المأمومُ ما على سهوه عمل، هذا يتعلق بالإمام، ما دام المأمومُ دخل معه من أول الصلاة، وهو ..... يتحملها الإمامُ، سجود الإمام كافٍ، وإذا كان ما سها الإمامُ فالمأموم ما عليه شيء.

..............

أما بعد: فهذا حديث أبي سعيدٍ الخدري ، الأنصاري، وهو سعد بن مالك بن سنان، من بني خُدرة، من الأنصار، ومالك أبوه صحابي جليل أيضًا، فهو صحابي ابن صحابي.

عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: مَن شكَّ في صلاته فلم يدرِ كم صلَّى: ثلاثًا أم أربعًا؟ وفي لفظٍ: أثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشكَّ، وليبنِ على ما استيقن، ثم ليسجد سجدتين قبل أن يُسلم، فإن كان صلَّى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلَّى تمامًا كانتا ترغيمًا للشيطان خرَّجه مسلم.

هذا يدل على أنَّ الواجب على مَن شكَّ في صلاته أن يتحرى الصواب، ويتحرى اليقين، ولا يخرج من الصلاة في شكٍّ، بل يطرح الشكَّ، ويبني على اليقين وهو الأقل، ثم يُكمل على ذلك، فإذا شكَّ: هل ثلاثًا أم أربعًا؟ جعلها ثلاثًا، وأتى بالرابعة حتى يُكمل على يقينٍ، أو شكَّ: هل هي ثلاث أم ثنتان؟ جعلها ثنتين، أو شكَّ: هل صلَّى واحدةً أو ثنتين؟ جعلها واحدة، ثم كمل صلاته على هذا وبنى على الأقل وهو اليقين، ثم بعد ذلك إذا انتهى من التَّشهد سجد سجدتين للسَّهو قبل أن يُسلم؛ جبرًا للصلاة وإكمالًا لها، قال النبيُّ ﷺ: إن كان صلَّى خمسًا شفعن له صلاته يعني: صارت الصلاةُ شفعًا بهاتين السَّجدتين، وصارت بمثابة ركعة؛ لأنَّ المطلوب في الظهر والعصر والعشاء شفع، وإن كان صلَّى تمامًا ولم تحصل زيادة كانتا ترغيمًا للشيطان؛ إرغامًا له لأنه أراد إفساد صلاة العبد أو تنقيصها عليه، وكان في السَّجدتين إرغام له، وإبطال لمقصده من النَّقص، فهو أراد بالسَّهو النَّقص والإفساد، فشرع الله لنا ما فيه الكمال والتَّمام إرغامًا لهذا العدو المبين.

والإرغام تقول العربُ: رغم أنف فلانٍ، يعني: ألصق الله أنفه بالتراب وأرغمه بالتراب، والمعنى: خيبة له، صار في خيبةٍ، أي: هذا العدو، وإبطالًا لمكايده ومقاصده، وإتمامًا لصلاة العبد.

وبهذا يُعلم أنَّ المشروع لمن وقع له الشَّك أن يفعل هذا، يبني على اليقين الذي هو الأقل، ويُكمل صلاته على ذلك، ثم بعد ذلك يسجد سجدتين قبل أن يُسلم، هذا هو المشروع.

وفي حديث ابن مسعودٍ.

وفي هذا المعنى من حديث ..... المعروف أيضًا عند أحمد رحمه الله، وجاء في هذا المعنى عدة أخبار تدل على حديث أبي سعيدٍ، والبناء على اليقين، والأخذ بالحزم والقوة؛ حتى لا تكون الصلاةُ فيها شيء من الشَّك والريب.

وجاء في حديث ابن مسعودٍ : أنَّ النبي ﷺ صلى خمسًا، فلما سلَّم وسوس الناس فيما بينهم، فسألوه قالوا: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء؟ فقال: وما ذاك؟ قالوا: إنَّك صليتَ كذا وكذا، فثنى رجليه عليه الصلاة والسلام، واستقبل القبلة وسجد للسَّهو، ثم أقبل على الناس وقال: أما إنه لو حدث شيءٌ في الصلاة لأنبأتكم به، إذا غُيّر فيها شيء من الزيادة والنُّقصان لخبر الأمة عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّ الله أمره بالبلاغ والبيان، ولكن إنما أنا بشر مثلكم: أنسى كما تنسون، فإذا نسيتُ فذكروني.

فبين أنه لو حدث شيء في الصَّلاة من التغيير والزيادة والنقصان أخبرهم به وبيَّن لهم ذلك، فلما لم يُخبرهم بذلك فإنَّ عليهم أن يعلموا أنَّ الشيء على حاله، وأنه لم يُغير شيء، وأنَّ عليهم أن يُنبِّههوه؛ ولهذا أكَّد لهم ذلك بقوله: ولكن إنما أنا بشر مثلكم: أنسى كما تنسون.

البشرية للرسل أمر معلوم، كلهم من البشر، كما قال تعالى: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [إبراهيم:11]، فجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم كلهم بشر، كلهم من بني آدم، فالله أرسل للناس بشرًا منهم، من أنفسهم؛ حتى يتَّصلوا بهم ويُخاطبوهم ويفهموا عنهم ويسألوهم، فهذا من رحمة الله : أن جعلهم منهم، ومن صفة البشر أنه ينسى، والرسل في هذا سواء -النسيان- ولكنه لا يقرّ على باطلٍ؛ لأنهم يُبلغون عن الله، فالنسيان لا يمنع تبليغ الحقّ، فقد يذكر، وقد يذكر فيتَّضح الحقّ ويزول اللَّبس.

فإذا نسيتُ فذكروني يعني: حصل سهو فذكروني؛ لأنَّ هذا من باب التَّعاون على الخير، والتعاون على الحقِّ.

وفي رواية البخاري: فإذا أوهَمَ فليتحرَّ الصواب، وليتم ما عليه، ثم يسجد سجدتين، ولم يُبين؛ هل قال: "قبل السلام" أو "بعد السلام"، فأطلق في "الصحيحين".

قوله: فليتحرَّ الصواب تفسيرًا للبناء على اليقين، كما في حديث أبي سعيدٍ، وفسر بالأخذ بغالب الظنِّ، وأنه يتحرى الصواب، يعني: ينظر ما هو الأرجح، وما هو الأقرب في فهمه وفي ضبطه فيبني عليه، ثم يسجد سجدتين. متفق عليه، وفي رواية البخاري: ثم ليُسلم، ثم ليسجد.

هذا يدل على أنَّ السجود بعد السلام، وهذا يُوافق رواية ذي اليدين، حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، وأنه سجد بعد السلام، فعلى هذا يكون السجودُ بعد السلام محفوظًا في حالين:

إحداهما: إذا سلم عن نقص ركعةٍ فأكثر، كما في قصة ذي اليدين من حديث أبي هريرة وعمران بن حصين، حديث أبي هريرة أنه سلَّم من ثنتين، وحديث عمران أنه سلَّم من ثلاثٍ، وفي الحديثين جميعًا أنه سجد للسَّهو بعد السلام، فدلَّ ذلك على أنَّ السجود فيما يتعلق بالنَّقص يكون بعد السلام، إذا سلَّم عن نقصٍ، إذا كان في الصلاة سلَّم عن نقص ركعةٍ أو ركعتين فإنه يسجد بعد السلام.

وهكذا إذا بنى على غالب ظنِّه -على القول به- فإنه يسجد بعد السلام، هذا هو المحفوظ عنه عليه الصلاة والسلام: فعلًا حديث ذي اليدين، وقولًا من حديث ابن مسعودٍ.

أما في الأحوال الأخرى فيكون السجودُ قبل السلام: إذا بنى على اليقين، أو ترك التشهد الأول، أو بعض التكبيرات، أو ما أشبه ذلك، يكون سجوده قبل السلام.

واختلف العلماء في ذلك على أقوال:

منهم مَن قال: إنَّ السجود بعد السلام فيما إذا حصلت زيادة؛ لأنَّ تسليمه عن نقصٍ فيه نوع زيادةٍ؛ لأنه وضع السلام في غير محله، فكان زيادةً، وفيما إذا بنى على غالب الظن وتحرى الصواب يكون بعد السلام، وما سوى ذلك يكون قبل السلام.

ومنهم مَن قال أنَّ السجود فيه أحوال: إذا بنى على اليقين سجد قبل السلام، وإلا يكون بعد السلام.

ومنهم مَن خيَّر بين هذا وهذا، فجاء أنه فعله قبل السلام، وجاء أنه فعل بعد السلام؛ جمعًا بين الروايات التي جاءت في هذا الباب، وهذا هو الحق: أنه لا حرج في ذلك، إذا سجد قبل السلام فلا بأس، وإن سجد بعد السلام فلا بأس، فهو مخيَّر، والأمر فيه سعة، لكن الأفضل والأولى أن يتحرى المواضع التي فيها ..... السلام مع التَّخيير؛ جمعًا بين الروايات، يتحرى المؤمن ..... سجد النبي ﷺ بعد السلام، يتحرَّاه ويُوافقه في ذلك، يتأسَّى به في ذلك، والشيء الذي ثبت أنه قبل السلام والبناء على اليقين يسجد قبل السلام، والشيء الذي ما حُفظ فيه شيء فهو مخيَّر: إن شاء قبل، وإن شاء بعد.

وهذا القول هو أوضح الأقوال وأوفقها للأدلة، أما سجوده بعد السلام من حديث ابن مسعودٍ فهو لم يعلم إلا بعد السلام؛ فلهذا ما بقي له إلا بعد السلام؛ لأنه لم يُنبه إلا بعد السلام؛ فلهذا سجد بعد السلام، فليس بحجةٍ على السجود بعد السلام للزيادة؛ لأنه لم يعلم بهذه الزيادة إلا بعدما نبَّهوه عليه الصلاة والسلام، فليس الحديثُ بحجةٍ فيما أعرف.

وفيه هذه الرواية لمسلم: أنه سجد للسَّهو قبل ..... ما يدل على أنَّ وجود الكلام بعد الصلاة وقبل سجود السهو لا يضرّ، فإنه سألهم، قال لهم: لو حدث شيء في الصلاة لأنبأتكم به، ثم سجد.

المقصود أنه أجابهم لما سألوه: أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليتَ كذا وكذا، هذا يدل على أنَّ الكلام الذي بعد السلام وقبل السجود لا يضرّ ولا يُؤثر؛ لأنها صلاة مُنفصلة، السجود في حكم صلاة منفصلة، فلا يضرّ؛ لأنه بالسلام خرج من الصلاة، وهذا السجود ..... فلا يضرّ.

ثم أيضًا هو بحث فيما يتعلق بالصلاة، مثلما وقع في قصة ذي اليدين من المراجعة والكلام؛ لأنه في حكم الخارج من الصلاة، والمتمم لها، فهو يبحث في أشياء تتعلق بها، وفي تكميلها، فلا يضرّ ما حصل من الكلام في حال السَّهو وفي حال المراجعة؛ لبيان الصواب ومعرفة الصواب.

ثم أمر آخر: وهو أن هذه السجدة ..... سجدتين ليس بعدها تشهد على الصحيح، بل التشهد الأول كافٍ، فهو يسجدهما ويُسلم كما تقدم في حديث أبي هريرة، وكما في حديث أبي سعيدٍ، وفي حديث أبي سعيدٍ سجدهما قبل السلام، وليس في هذا تشهد ثانٍ عند الجميع، إن كان سجودهما قبل السلام فليس فيهما تشهد .....، وإنما الخلاف فيما إذا كان سجودهما بعد السلام: هل يُعيد التَّشهد أم لا؟ والصواب أنه لا يُعيده، بل يكفي التَّشهد الأول.

وحديث المغيرة بن شعبة فيه الدلالة على أنَّ مَن قام من التَّشهد الأول -استتم قائمًا- فإنه يمضي ويكمل صلاته، ولا يعود للتَّشهد، وعليه أن يسجد للسَّهو جبرًا لما حصل من النَّقص، كما تقدم في حديث ابن بُحينة: أنه ﷺ ترك التَّشهد الأول وكمل صلاته ساهيًا، فلما انتظر الناسُ تسليمه كبَّر وسجد للسَّهو، فدلَّ ذلك على أنَّ مَن ترك التَّشهد الأول يسجد للسَّهو قبل السلام كما تقدم، والناس يقومون مع الإمام إذا قام ولم يُمكنهم تنبيهه، يقومون معه، أما إن كان يمكن تنبيهه عند الجمهور يُنبه، وعليه أن يرجع ويجلس للتَّشهد الأول، وفي هذا أنه مَن لم يستتم قائمًا فليجلس ولا سهو عليه، فليجلس جلسة التشهد الأول وليس عليه سهو .....

ولكن هذا الحديث مثلما قال الدارقطني: ضعيف، كما قال الحافظ: إسناده ضعيف؛ لأنه من رواية جابر بن يزيد الجعفي، وهو ضعيف عندهم، ومتَّهم بالرفض، وليس بشيءٍ.

قال أبو داود هنا: ليس في كتابي رواية عن جابر إلا في هذا المقام، في هذا الحديث الواحد.

فالحاصل أن جابرًا الجعفي متروك ضعيف عندهم، وهذا الحديث من رواياته، فيكون ما ذكره هنا من ..... فلا سهو عليه، ليس بجيدٍ، والصواب أنه إذا قام ثم نُبِّه يجلس، وعليه سجود السهو ولو لم يستمر، بل إذا نُبِّه من حالته هذه ورجع فإنه يسجد للسَّهو، وقد وقع هذا للمغيرة بن شعبة ولابن عمر فرجعا وسجدا للسَّهو.

والحاصل أن التشهد الأول له أحوال:

تارة يُنبه وينتبه حال النُّهوض؛ فيلزمه الرجوع والجلوس، ويأتي بالتشهد الأول، ثم يسجد للسهو في آخر الصلاة.

والحالة الثانية: يستتم قائمًا، فالأولى به ألا يرجع لهذا الحديث ولما جاء في معناه، بل يكمل صلاته ويسجد للسَّهو.

والحال الثالث: أن يشرع في القراءة، ففي هذا الحال يتأكد ألا يرجع، ذكر بعضُهم أنه يحرم عليه الرجوع، بل يستمر ويُكمل صلاته، ثم يسجد للسهو بعد ذلك قبل أن يُسلم، كما تقدم في حديث ابن بُحينة.

وما جاء عن المغيرة وابن عمر من الروايات الموقوفة عليهم تُبين ضعف هذا الحديث، وأن الرواية التي ذكرها هنا مرفوعة ضعيفة، والمعنى فيها ضعيف، وإنما الصواب أنه يسجد للسَّهو، لكن يختلف حكمه فيما يتعلق بالرجوع وعدم الرجوع، وهذا السَّهو فلازم في الأحوال كلها.

..............

هذه الأحاديث الستة كلها تتعلق بصفة الصلاة أيضًا، وبما يتعلق بالترجمة في .....، وتقدم ما يتعلق بسجود السهو في عدة أحاديث، وبقي من ذلك الحديث الذي ذكره أيضًا: حديث عمر وحديث ثوبان، كلاهما يتعلق بالسَّهو: في حديث عمر الدلالة على أنه ليس على مَن خلف الإمام سهو، وإنما السَّهو على الإمام وعلى مَن خلفه، فإذا سها الإمامُ تعدَّى الحكم إلى نُظرائه، ولزمهم السجود بسجوده، أما إذا سها المأموم فإنه تابعٌ فلا سهو عليه.

وهذا معروف من عمل النبي ﷺ وسيرته في صلواته عليه الصلاة والسلام، وإن كان الحديثُ ضعيفًا، لكنه معلوم أن النبي ﷺ كان ..... السهو، ولم يأمر المأمومين أن يسجدوا إذا سها الواحد منهم، وإنما السَّهو على الإمام؛ ولهذا لما سها في قصة ذي اليدين وفي قصصٍ أخرى سجد عليه الصلاة والسلام، ولم يقل لهم: إنَّ على واحدٍ منكم أو عليكم إذا سهوتم ولم أسهُ أن تفعلوا. فدلَّ ذلك على أنَّ الحكم مناط بالإمام في هذه المسألة، فإن سها تعدَّى الحكمُ إلى غيره، وإن لم يسهُ فلا يتعلق الحكم بسهو المأمومين.

ومع ما في هذا الحديث من الضَّعف، لكن يشهد له عمل النبي عليه الصلاة والسلام؛ فإنه دالٌّ على أن المأمومين ليس عليهم سهو، وإنما السهو على الإمام، لكن ذكر الأئمةُ رحمة الله عليهم أنه إذا كان المأمومُ مسبوقًا فإنه يسجد لسهوه إذا سها مع الإمام، أو فيما انفرد به فإنه يسجد لسهوه؛ ليجبر صلاته؛ لأنَّ صلاة المأموم الذي دخل مع الإمام من أول الصلاة مُنجبرة بتمام صلاة إمامه وجبر صلاة إمامه، أما هذا الذي انفرد بركعةٍ أو ركعات سبق فيها فإنَّ نقصه ينجبر بسجوده هو إذا سها، فيسجد المأموم المسبوق ..... مع إمامه ولسهوه معه، وفيما انفرد به فصلاته ..... الانفراد في الركعة والركعات التي فاتته، فإذا فرغ مما عليه سجد للسَّهو في آخر صلاته.

أما إذا كان مع الإمام فالحكم مناط بالإمام، وليس له حكم الانفراد، فلا يتعلق به سهو، ولو سها مع الإمام: قام ثم نبّه فجلس، أو جلس يحسب أنه محلّ جلوسٍ ثم قام، أو ما أشبه ذلك، فإنَّ هذا لا يضره، ولا ..... سجود سهو، بل هو تابع لإمامه.

وهكذا حديث ثوبان: لكل سهوٍ سجدتان ضعيف الإسناد، والواقع يدل على ضعفه، فإنَّ الرسول ﷺ سها سهوًا كثيرًا في قصة ذي اليدين، ولم يفعل إلا سجدتين فقط، فإنه قام واتَّكأ على الخشبة بعدما سلَّم .....، ثم في بعض الروايات: دخل بعض حُجر نسائه، ثم رجع وكمل صلاته ولم يسجد إلا سجدتين عليه الصلاة والسلام، فدلَّ ذلك على أنَّ السَّهو المتعدد في الصلاة الواحدة ليس له إلا سجدتان فقط، ولو تعدد: لو ترك التشهد الأول وترك بعض التكبيرات، أو بنى على اليقين في عدد الركعات، أو ما أشبه ذلك، فليس عليه إلا سجود واحد؛ سجدتان فقط، كلها تجبر ما حصل من النَّقص بسبب السَّهو ولو تعدد.

وحديث ثوبان وإن ضعف إسناده فمعناه صحيح موافق للأحاديث الصحيحة الأخرى الدالة على أنَّ جميع أنواع السهو يجبرها سجدتان.

أما حديث أبي هريرة -وهو الثالث- فهو يتعلق بالشقِّ الثاني من الترجمة: سجود التلاوة، أو غيره، أما سجود السهو وغيره في التلاوة والشُّكر فهذا يتعلق بالشقِّ الثاني من سجود التلاوة، والرسول ﷺ كان يسجد للتلاوة، كان يسجد في الصلاة وفي خارج الصلاة، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: "كان يقرأ علينا القرآنَ فيمر بالسجدة فيسجد ونسجد معه". متفق عليه، وهذا أمر معلوم.

كذلك لما قرأ النَّجم في مكة قبل أن يُهاجر سجد وسجد الناسُ معه في غير الصلاة.

فهذا يدل على أنَّ السجود للتلاوة يكون في الصلاة، ويكون في خارج الصلاة، فهو سنة، وليس بواجبٍ، ويدل عليه ما جاء في حديث زيد بن ثابت: أنه قرأ على النبي النجم فلم يسجد فيها، فدلَّ ذلك على أنه ليس بواجبٍ، كذلك ما ورد في قراءته "ص" والسجود فيها وعدم سجوده في المرة الأخرى ..... الناس قد تهيَّؤوا للسجود، فسجد عليه الصلاة والسلام.

كذلك حديث ابن عمر الآتي يدل على عدم وجوب السجود، وإنما هو سنة متأكدة؛ لفعل النبي ﷺ، يقول ..... سجد مع النبي في: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1]، هذا يدل على أنَّ فيهما سجدةً: سورة "اقرأ" والانشقاق، أما سورة "اقرأ" في آخرها: كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، وفي سورة الانشقاق قبل آخرها: وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ [الانشقاق:21]، ثم يسجد ويبدأ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ۝ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ [الانشقاق:22- 23]، فالسجدة في آخرها، لكن قبل آخر هذه الآيات.

وهذا يدل على بطلان قول مَن قال: إنَّ سجود التلاوة منسوخ في المفصل. فهذا ليس بصحيحٍ، بل هو باقٍ، كون النبي ﷺ لم يسجد بالنجم لا يدل على النَّسخ، بل يدل على عدم الوجوب، ترك السجود ليُعلم عدم الوجوب، أما أن يقال أنه منسوخ فلا؛ ولهذا أخبر ..... في زمن الصحابة بعد موت النبي ﷺ؛ ليبين بقاء هذه السنة، وأنها لم تُنسخ.

وهكذا سجوده بالنجم في مكة لم يُنسخ، بل هو باقٍ، وهذا هو الصواب الذي عليه الجمهور: أن السجود في المفصل باقٍ؛ لحديث أبي هريرة هذا، فإنه حديث صحيح دالٌّ على أنه سجد في: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق:1] و اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1]، والأصل بقاء ما كان على ما كان وعدم النسخ إلا بدليلٍ.

وحديث ابن عباسٍ يدل على شرعية السجدة في "ص"، وليست من عزائم السجود -من مُؤكدات السجود- فهو يدل على أنها سنة، وأنها باقية، وليست منسوخةً، وليست غير مشروعةٍ، بل مشروعة، ولكن ليست من العزائم، أي: ليست من جنس السَّجدات الأخرى التي في سورة الأعراف، وفي .....، وفي: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، والنجم.

والحاصل أنه متى ثبت أنه ﷺ سجد فيها كفى؛ ولهذا قال: "رأيتُه يسجد فيها"، فدلَّ على ثبوتها، وأنها من السنن.

وقد ذهب بعضُ الناس إلى أنها تُفعل في خارج الصلاة، لا في داخل الصلاة؛ لأنها سجدة شُكرٍ.

وقال بعضُهم: لو سجد فيها في الصلاة بطلت صلاته؛ لأنها ليست من سجود التِّلاوة. وهذا ليس بشيءٍ، والصواب أنها من سجود التلاوة، وأنه يسجد في الصلاة وفي خارجها كبقية السَّجدات، و..... السجود لا يدل على أنه لا يسجد في الصلاة، وإنما يدل على أنها غير مؤكدةٍ باجتهاده رضي الله عنه وأرضاه، ومن المعلوم أنَّ الرسول ﷺ إذا فعل شيئًا ولم ينسخه يدل ذلك على سُنيته، وهذه كذلك فعلها ولم تُنسخ، ولم يجعل ﷺ ما يدل على عدم تأكيدها، فبقيت شرعيتها على حالها في الصلاة وفي خارجها كبقية السَّجدات.

وحديث زيد بن ثابت في عدم السجود: أنه قرأ ولم يسجد، يدل على أنَّ سجود التلاوة غير واجبٍ كما تقدم، فإنه لو كان واجبًا لقال لزيدٍ: اسجد، فلما لم يقل له: اسجد، ولم يسجد هو دلَّ ذلك على أنها غير واجبةٍ، وأن السجود فيها مُستحب وسنة، وليس بلازمٍ؛ ولهذا فعله تارةً، وتركه تارةً عليه الصلاة والسلام، ويأتي بقية ذلك.

.............