13 من حديث (فضلت سورة الحج بسجدتين..)

س: ...............؟

ج: لا، هذا يُشرع في سجود الصلاة، يأتي فيها بما يأتي في صلاته: سبحان ربي الأعلى، لكن إذا أتى بالدُّعاء واللهم لك سجدتُ يكون أكمل، مثلما يكون في الصلاة يقول: اللهم لك سجدتُ، يعني الحكم فيها مثل سجود الصَّلاة.

.................

س: يُشترط له الطَّهارة؟

ج: ما يُشترط له الطهارة على الصحيح، إذا كان خارج الصلاة ما يُشترط له الطَّهارة.

س: القيام له؟

ج: يُروى عن عائشة، ذكر بعضُهم عن عائشة أنها كانت تقوم، والله أعلم، لا أدري صحته عن عائشة.

.............

س: خَرُّوا سُجَّدًا [مريم:58] ما يدل على أنهم كانوا قيامًا؟

ج: إذا كانوا قيامًا خروا سجدًا عن قيام، إذا كان بعد الركوع، أما الجالس يقرأ ونقول: يُشرع له أن يقوم، يحتاج إلى دليلٍ، ولم يُذكر عن النبي ﷺ أنه كان إذا أراد السجود قام، كان يقرأ بهم القرآن في مجالسهم، ثم يسجد ويسجد الناس، ولم يُذكر فيما علمنا أنه قام للسُّجود عليه الصلاة والسلام، وليس هذا مرة ولا مرتين، هذا كثير.

س: هل ورد في فضله شيء سجود التلاوة؟

ج: ما أذكر شيئًا.

...............

قال المؤلفُ رحمه الله -وهو الحافظ ابن حجر رحمه الله- وعن خالد بن معدان ، تابعي صغير من أهل الشام، وله ..... من سورة الحج، عن النبي ﷺ أنه قال: ..... سورة الحج سجدتين. رواه أبو دواد بمراسيله، ولا بأس بإسناده عند أبي داود، وهو دليل على أنَّ الحج فيها سجدتان:

إحداهما عند قوله جلَّ وعلا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [الحج:18].

والثانية عند قوله في آخرها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77]، عند قوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.

وأيَّد ذلك رواية عقبة بن عامر عند أحمد والترمذي موصولة: أن النبي ﷺ سجد في سورة الحج سجدتين، وقال: ومَن لم يقرأهما فلا يسجدها أي السجدة، أو فلا يسجدهما أي السجدتين.

والحديث الموصول والمرسل كلاهما يدلان على شرعية سجدتين في سورة الحج، وأنه يُشرع لمن قرأ سورة الحج أن يسجد سجدتين، سواء قرأها في الصلاة أو في خارج الصلاة؛ لهذا الحديث المرسل المتصل، وإن كان ضعيفًا، لكن يعضد بالمرسل، المرسل لا بأس به، وإسناده جيد، والمتصل في سنده عبدالله بن لهيعة، وهو معروف، والحافظ ابن كثير رحمه الله لما ذكره قال: في تضعيفه نظر؛ لأنه حدَّث بالسماع، صرَّح بالسماع قال: حدثنا مشرح بن هاعان، عن عقبة. ومشرح عندهم مقبول، وعبدالله بن لهيعة قد صرَّح بالسماع، قد يُخشى من تدليسه، وقد صرح بالسماع.

فعلى قول الحافظ ابن كثير أنه ماشٍ، وأنه يتحسن حديثه إن صرَّح بالسماع؛ لأنه احترقت كتبه، ضعف حفظه، وصار يُدلس، ولا يُصرح بالسماع، فإذا صرَّح بالسماع خفَّ الظنُّ بسوء حفظه، وقوي أنه سمع هذا؛ ولهذا صرح بالسماع، وهكذا كما قال رحمه الله هنا في تفسير سورة الحج.

س: يعني حمله تدليسه على الاحتياط؟

ج: كأنه حمله على ذلك، يُخشى أنه ما سمع؛ ولهذا يأتي بالعنعنة، أو أن، ولا يُصرح بالسماع، خُشي أن يكون سمعه من الغير.

س: ..............؟

ج: مع الضعف مدلس، ولكن معروف عند العلماء ضعفه مطلقًا؛ ولهذا قال المؤلف: إسناده ضعيف؛ اعتمادًا على هذا؛ لأنه لما احترقت كتبه ساء حفظه وفحش غلطه؛ فلهذا لم يحتج به أهلُ العلم إلا إذا جاء له ما يُؤيد، وقد تأيدت هذه الرواية بمرسل خالد بن معدان و.....، وكذلك جاء معنى ذلك من حديث عمرو بن العاص، ومن حديث ابن عمر.

قال الحافظُ ابن كثير رحمه الله هنا في تفسير الحجِّ: وهذه الطرق يشدّ بعضها بعضًا، يعني: فيتقوَّى الحديثُ من جبر رواية ابن لهيعة، تُجبر بما رُوي عن عمرو بن العاص وعن غيره، وبما رُوي من مرسل خالد بن معدان، وهذه الروايات المتعددة يشد بعضها بعضًا، ويرقى الحديثُ إلى درجة الحسن المقبول الذي يُحتج به.

وبذلك استحبّ كثيرٌ من أهل العلم هاتين السَّجدتين، وعدوا السَّجدات بهما خمس عشرة سجدة في القرآن الكريم، ثلاث منها في المفصل: سجدة النجم، وإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك، وسجدتان في سورة الحج، وعشر في بقية السور، فعشر مجمع عليها، وخمس فيها خلاف، وهي: سجدتي الحج، وسجدة "ص"، والتي في المفصل، والصواب أنها كلها مستحبة التي في المفصل، ثبت عنه ﷺ أنه سجد في سورة النجم، وسجد في سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، وثبت أيضًا سجوده في بقية السَّجدات: في "ص" وغيرها، وبقي الخلاف في سجدتي الحج، وعرفت .....، وأنَّ الطرق التي جاءت بسجدتي الحج يجبر بعضها بعضًا، ويُقوي بعضها بعضًا، وتنهض الحجية.

والحديث الثالث: حديث عمر ..... إلا أن نشاء. وفي لفظٍ: مَن سجد فقد أصاب، ومَن لم يسجد فلا إثم عليه رواه البخاري.

ورواية عمر هذه تدل على أنَّ السجود ليس بفرضٍ، ولكنه مستحب، من النَّوافل، وهذا هو الذي عليه أهلُ العلم: أنه مستحب، وليس بواجبٍ، فمَن سجد فقد أصاب، ومَن لم يسجد فلا إثم عليه؛ ولهذا قرأ زيد بن ثابت على النبي ﷺ سورة النجم فلم يسجد فيها كما تقدم، فدلَّ ذلك على أنَّ السجود لا يجب، ولكنه مستحب كما فعله النبيُّ ﷺ.

وفي "الصحيحين" من حديث عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النبي عليه السلام كان يقرأ عليه القرآن، وإذا مرَّ بالسجدة سجد وسجدوا معه. قال: حتى ما يجد أحدٌ منا موضعًا لجبهته من كثرة السَّاجدين.

هكذا جاء في "الصحيحين"، فدلَّ ذلك على أنه ﷺ كان يُقرأ عليه القرآن، ويُذكرهم به عليه الصلاة والسلام، وإذا مرَّ بالسجدة سجد وسجدوا معه في بيوتهم وفي المسجد وفي غير ذلك عليه الصلاة والسلام.

وفي رواية أبي داود: "كبَّر"، زيادة "كبَّر"، لكن في سندها لين، ووجه اللِّين أنها من رواية عبدالله بن عمر العمري الزاهدي، وهو مضعف عندهم قوله: "كبَّر"، وهو مضعف عندهم؛ لكثرة غلطه بسبب اشتغاله بالعبادة وعدم عنايته بحفظ الحديث.

ورواه الحاكم في "المستدرك" من طريق عبيدالله المصغر، فعلى هذا يقوى الحديث على شرعية التَّكبير عند السجود، وأنه يُستحب له إذا أراد أن يُكبر خارج الصلاة، أما في الصلاة فيُكبر في كل حالٍ: في الصلاة يُكبر؛ لأن الرسول ﷺ كان يُكبر في كل خفضٍ ورفعٍ، وسجود التلاوة في الصلاة داخلٌ في ذلك: في الخفض والرفع.

فعلى هذا يُستحب التَّكبير ويُشرع التَّكبير في سجود التلاوة أفضل ..... إذا كان في الصَّلاة، أما إذا كان في خارج الصلاة فليس فيه إلا هذا الحديث -ابن عمر- هذا من رواية أبي داود والحاكم، وعلى رواية الحاكم يقوى الحديث، وتكون التكبيرةُ مستحبةً عند السجود، أما عند الرفع فلا أعلم شيئًا يدل على التكبير عند الرفع إلا أنَّ أكثر أهل العلم ألحقوه بالنَّوافل، وقاسوه على النوافل، وأنَّ فيه تكبيرًا، والقياس هنا فيه نظر؛ لأنَّ العبادات ليست محلَّ قياسٍ، وإنما هي للاتباع، فالأفضل والأقرب والله أعلم أنه لا يُشرع فيه تكبير ثانٍ ولا تسليم، بل يُكبر عند السجود ويكتفي بذلك.

س: "في كل خفضٍ ورفعٍ" هذا دليل أنه يُكبر؟

ج: في الصلاة، يعني يُكبر عند النهوض، ويكبر عند السجود في الصلاة، هذا داخلٌ في الحديث، لكن الخلاف فيما إذا كان خارج الصلاة.

وفيه أيضًا اختلاف أهل العلم فيما يتعلق بالطهارة: هل يُشترط له الطَّهارة كالنَّوافل أم لا يُشترط؟

الجمهور على اشتراط الطَّهارة وإلحاقه بالنَّوافل -نوافل الصلاة-.

والقول الثاني: لا يُشترط فيه الطَّهارة، وهو قول الشعبي، ويُروى عن ابن عمر، وهو أظهر؛ لأنها من النَّوافل المستحبة لأسبابٍ تقع في القراءة، والقراءة نفسها لا يُشترط لها الطَّهارة، فلا بأس أن يقرأ وهو على غير طهارةٍ، عن ظهر قلبٍ، فما كان من توابع القراءة كذلك: كسجود التلاوة لا يجب له الطّهارة، فإذا سجد وهو على غير وضوءٍ فلا حرج في ذلك في أرجح قولي العلماء، وإن خالف الجمهور، فقول الجمهور ليس بحجةٍ، إنما الحجة الدليل، وإنما أُمرنا بعدم مخالفة الإجماع، أما الجمهور فلا يتم مُوافقتهم بغير دليلٍ.

والحديث الخامس والسادس والسابع: حديث عبد الرحمن بن عوف، وأبي بكرة، والبراء بن عازب، هذه الأحاديث الثلاثة كلها تدل على شرعية سجود الشكر، وهو جزء من الترجمة، فيه أنَّ النبي ﷺ كان إذا جاءه أمرٌ يسره سجد لله شكرًا.

وفي حديث عبد الرحمن بن عوف أنه سجد لله شكرًا فأطال، ثم لما سألوه قال: إنَّ جبريل أتاه فبشَّره فخرَّ ساجدًا لله. وحديث البراء كذلك لما بشَّره عليٌّ بإسلام أهل اليمن سجد عليه الصلاة والسلام لله شكرًا.

فهذا يدل على شرعية السُّجود، وأنه يُستحب للمؤمن إذا حصل له شيء من نِعَم الله العظيمة تسره سجد لله شكرًا، ويُروى عن الصديق لما بلغه مقتل مُسيلمة الكذَّاب خرَّ ساجدًا لله .

فالحاصل أنه يُستحب للمؤمن إذا بلغه ما يسره من فتح حصنٍ للمسلمين، من قتل عدوٍّ، من هزيمة عدوٍّ، من نعمةٍ كبرى عليه: ولد أو ما أشبه ذلك؛ يسجد لله جلَّ وعلا، كل هذا داخلٌ في الأحاديث الثلاثة وما جاء في معناها والله أعلم.

س: يُكبر كسجود التِّلاوة؟

ج: ما أعرف فيه شيئًا، ما مرَّ عليَّ فيه شيء، والظاهر أنه يسجد من دون تكبيرٍ، ومن دون سلامٍ، يخرّ ساجدًا لله، ولم يقل فيه أنه كبَّر، فسجود الصلاة وسجود التلاوة فيه تكبير عند الخفض والرفع، وتكبير التلاوة فيه تكبير عند الخفض فقط، أما سجود الشكر فلم يرد لا هذا ولا هذا، فالأصل عدم ذلك؛ لأنَّ العبادات توقيفية، ليس للناس أن يشرعوا فيها شيئًا بالقياس، هذا هو الأصل.

س: ..............؟

ج: الله أعلم يُقال: خرَّ، ولو جالس يُقال: خر ساجدًا، ولو أنه جالس ما يلزم منه الوقوف.

............

س: طيب، استقبال القبلة؟

ج: هو الأفضل، كما جاء في الرواية الأخرى أنه استقبل القبلةَ في سجود الشُّكر فسجد، هذا هو الأفضل؛ ولأنه تكبير لهذه الصلاة، والقبلة خير ما استقبل، هذا أفضل، ولكن ليس بشرطٍ.

س: ورد فيه استقبال القبلة؟

ج: نعم، ورد في حديث سجدة الشُّكر.

س: تلاوة القرآن نظر هل يُشترط فيها الطَّهارة؟

ج: لا يُشترط فيها الطَّهارة، لكن في مسِّ المصحف خاصةً، أما القراءة عن ظهر قلبٍ لا يُشترط إلا الجنابة تمنع؛ لأنَّ الجنابة تمنع من القراءة، أما الحدث الأصغر فلا يمنع.

س: في "مجمع الزوائد" في بعض الأحيان يقول: الحديث صحيح، وفيه ابن لهيعة، وهو حسن الحديث؟

ج: ليس بجيدٍ، خلاف ما عليه الجمهور.

س: ..............؟

ج: أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، والخمسة هم: أحمد وأهل السنن الأربعة، فإذا خرج منهم واحد قال: إلا النَّسائي، إلا الترمذي، إلا ابن ماجه، إلا أبا داود، من باب الاختصار.

س: ..............؟

ج: مراد الحافظ أحمد وأهل السُّنن.

قال: "باب صلاة التطوع" أراد المؤلفُ رحمه الله بيان جنس ما ورد في صلاة التطوع، وأنه ينبغي للمؤمن أن يكون له حظٌّ من ذلك حتى يُكمل به فرضه، وقد جاءت الأحاديث أنَّ الله جلَّ وعلا إذا حاسب العبدَ في صلاته قال لملائكته بعد ذلك: انظروا هل لعبدي من تطوعٍ فيكمل به فرضه؟، وهكذا بقية الأعمال، وفي نفس الحديث أنَّ أول شيءٍ يُحاسب عليه العبد من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر. وفي لفظٍ: وإن نقصت قال الله : انظروا هل لعبدي من تطوعٍ فيكمل به فرضه؟ الحديث.

فالتطوع فيه مصالح كثيرة:

منها أنه عبادة لله، والله يُؤجر على ذلك ويحبّه .

ومنها ما في ذلك من توطين النفس وتمرينها على العبادة بصلوات النافلة، متى اعتاد ذلك و..... ذلك، وتستفيد من ذلك بخشوعها و..... لله ، وما يكتب في هذا من الحسنات العظيمة.

ومن ذلك أنَّ الله يُكمل به نقص الفرض، هذه فائدة كبيرة تحصل بالنَّوافل.

ومن ذلك أيضًا: أنَّ العناية بالنوافل والإتيان بالنوافل من أعظم الأسباب في طهارة القلب، وصلاح القلب، ونشاطه في الفرائض، واجتهاده في أدائها، إلى غير ذلك من الفوائد العظيمة في التَّنفل.

ومن ذلك أيضًا: أن التَّنفل من صفات السَّابقين المقربين، فإنَّ الأبرار هم أصحاب اليمين، وهم أهل الفرائض فقط وترك المحارم، أما السَّابقون المقرَّبون فهم أهل النَّوافل مع الفرائض، وأهل الحظر من المكروهات، مع ترك بعض المباحات أيضًا إذا كان في تركها مصلحة، وهم السابقون المسارعون إلى الخيرات، فالمؤمن يتشبَّه بهؤلاء ويتأسَّى بهم، ويحرص على أن يكون في طريقهم وسبيلهم؛ لعله يُحشر معهم.

والتطوع تفعل من الطاعة، تطوع بكذا يعني: فعله على سبيل التَّقرب إلى الله، من غير وجوبٍ؛ أخذًا من قوله ﷺ في الحديث الصحيح لما سُئل عن الصَّلوات الخمس قال له السَّائل: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، وكذلك عن الزكاة قال: لا، إلا أن تطوع إلى آخره، فالتطوع هو غير الفريضة، ما كان مشروعًا لكنه دون الفرض، فيُقال له: التطوع، ويقال له: نافلة، ويقال له: سبحة.

عن ربيعة بن مالك، كذا في النسخ المعروفة في "بلوغ المرام"، والذي في نسب الرجل هو ربيعة بن كعب، وليس مالك، كأنه سبق قلمٍ من المؤلف حين كتب هذا الرجل فقال: ربيعة بن مالك، وكان على حفظه شخص آخر.

الحاصل أنه ربيعة بن كعب، وليس مالك، الأسلمي: أنه كان يخدم النبيَّ ﷺ، فقال له النبيُّ ﷺ: سل، فقال: أسألك مُرافقتك بالجنة، فقال: أو غير ذلك، قال: هو ذلك، فقال: أعني على نفسك بكثرة السُّجود يعني: الصلاة، عبَّر عنها بالسجود؛ لأنه يُعبر عن النافلة بالسجود، كما في الأحاديث: أنه كان يسجد سجدتين قبل الصبح، يعني: ركعتين، فالمعنى: أعني على نفسك بالإكثار من الصلوات التي تكون سببًا لدخولك الجنة ونجاتك من النار، فهذا فيه الحثّ على التطوع في الصَّلوات، وأنها من أسباب دخول الجنة، وهكذا الأحاديث التي جاءت: مَن سجد لله سجدةً رفع الله له بها درجة في الجنة، فأكثروا السُّجود من حديث ثوبان وغيره.

المقصود أنَّ في هذا الحثّ على كثرة التطوع من نافلة الصلاة، وأن في ذلك خيرًا عظيمًا، وهو أنه من أسباب دخول الجنة، وأن يكون بذلك رفيقًا للنبي ﷺ في الجنة بسبب عنايته بالصلاة واستكثاره منها.

وفي هذا علو همة ربيعة؛ فلم يسأل مالًا، وإنما سأل خيرًا عظيمًا؛ سأل المرافقة في الجنة، فإنَّ في ذلك علوَّ الهمة، وفضل الصحابة، وأنَّ همتهم عالية ورفيعة تتعلق بالآخرة وما فيها من النَّعيم العظيم، وليس يهمّهم أمر الدنيا وما يكون فيها من الزينة والحطام الفاني.

وفي رواية أحمد رحمه الله بإسنادٍ جيدٍ قال: أسألك أن تشفع لي، فقال: أو غير ذلك، قال: هو ذاك، قال: فأعني .. إلى آخره، والمعنى: أن تشفع لي في دخول الجنة والنجاة من النار، وأن أكون رفيقك.

الحديث الثاني: حديث ابن عمر، وهو عبدالله كما تقدم، إذا أُطلق عبدالله فهو ابن عمر كما تقدم، وابن عباس هو عبدالله كما تقدم، وهكذا ابن مسعودٍ هو عبدالله، وهكذا ابن الزبير هو عبدالله، وهكذا ابن عمرو هو عبدالله. يُطلقون لأنهم مشهورون؛ ولهذا يُقال: عن ابن عمر، عن ابن مسعود، عن ابن الزبير؛ لأنهم معروفون.

قال: حفظتُ عن النبي ﷺ عشر ركعات. هذه الركعات يُقال لها: الرواتب، وهي التي يرتب عليها ويُحافظ عليها مع الصلوات الخمس، بخلاف التطوعات الأخرى، فإنها ليست من الرواتب، بل تطوع مطلق.

وكان ابن عمر شاهد من ذلك النبيّ ﷺ في المسجد، أو في بيت حفصة، وفي مصادفات أخرى التي يُرافقه فيها في وقت صلواته؛ لأنَّ ابن عمر ليس من بيت النبي ﷺ، بل له بيت آخر، وهو بيت أبيه، لكنه شاهد ذلك من النبي ﷺ في المسجد، وفي بيت أخته حفصة، وفي الأوقات التي تكون فيها المناسبات الأخرى، فيُشاهد فعله عليه الصلاة والسلام.

ثنتان قبل الظهر، وثنتان بعدها، وثنتان بعد صلاة المغرب في بيته، وثنتان بعد صلاة العشاء، وثنتان قبل صلاة الصبح، هذه عشر، وفي لفظٍ: فأما المغرب والعشاء والفجر ففي بيته. وفي لفظٍ آخر: ..... بعد الجمعة ففي بيته.

وفي حديث عائشة: كان لا يدع أربعًا قبل الظهر، وثنتين قبل الغداة.

هذا يدل على الرواتب، هذان الحديثان يدلان على الرواتب، وأنهم عشر كما قال ابن عمر، أو ثنتا عشر كما قالت عائشة رضي الله عنها.

فإذا كانت الراتبةُ قبل الظهر أربعًا صارت الرواتب ثنتي عشرة ركعة، وهذا هو الأولى؛ لأنَّ عائشة أثبتت ركعتين زائدتين في الظهر قبلها، فعلى هذا تكون الرواتب ثنتي عشرة ركعة: أربعًا قبل الظهر، تسليمتين، وثنتين بعد الظهر، وثنتين بعد المغرب، وثنتين بعد العشاء، وثنتين قبل صلاة الصبح. هذه الرواتب التي يُشرع المحافظة عليها، ويؤكد ذلك تأسيًا بالنبي عليه الصلاة والسلام، واقتداءً به في ذلك.

فمَن قال: "عشر" أخذ بحديث ابن عمر، ومَن قال: "ثنتا عشرة ركعة" أخذ بحديث عائشة، ولا منافاة.

ويُؤيد حديث عائشة ما رواه الترمذي في تفسيرها، من حديث أم حبيبة، روت عن النبي ﷺ أنه قال: مَن صلى ثنتي عشرة ركعة في يومٍ تطوعًا بُني له بهن بيتٌ في الجنة رواه مسلم، ثم رواه الترمذي وقال: أربع قبل الظهر .. إلى آخره، فصارت رواية الترمذي تُوافق رواية عائشة، فعلى هذا تكون الرواتب ثنتي عشرة ركعة، منها أربع قبل الظهر، فينبغي المحافظة عليها.

ثم في ذلك أيضًا الموافقة لحديث أم حبيبة: مَن صلَّى ثنتي عشرة ركعة في يومه وليلته بُني له بيتٌ في الجنة، فهذا يُوافق حديث عائشة، فينبغي المحافظة على ذلك؛ حتى يحصل بذلك فعل ما دلَّ عليه حديث ابن عمر وزيادة ما دلَّ عليه حديث عائشة وحديث أم حبيبة في رواية الترمذي، وأيضًا ما دلَّ عليه حديث أم حبيبة في فضل مَن صلَّى هذا العدد من كل يومٍ وليلةٍ، فهذا يجتمع له أنواع من الخير، يصدق عليه حديث: مَن صلَّى ثنتي عشرة ركعة في يومه وليلته بُني له بهن بيتٌ في الجنة، فيُرجى له هذا الخير العظيم، ويصدق عليه أنه تأسَّى بالنبي ﷺ، وفعل فعله، ويحصل له التأسي بالنبي، وفعله لهذه الرواتب تطوعًا يجبر به فرضه، ويكمل به فرضه.

ويحتمل أن يقال: إنَّ الرسول ﷺ كان تارةً يُصلي عشرًا، كما في حديث ابن عمر، وتارةً يُصلي ثنتي عشرة ركعة، كما في حديث عائشة، وهذا قريب؛ فإنَّ عائشة إنما اطَّلعت في الغالب على ما كان عندها في بيتها، وهو ليس عندها إلا يومين من تسعة، وابن عمر قد يطلع على بقية الأيام في المسجد، وفي بيت حفصة، وفي مواضع أخرى؛ فلعله ﷺ كان ينشط تارةً فيُصلي أربعًا قبل الظهر، ولا ينشط أخرى ويُشغل أخرى فلا يُصلِّي إلا ركعتين، فإذا نشط صلَّى ثنتين كما في حديث عائشة، وإذا كان هناك شاغلٌ صلَّى عشرًا، وكلها رواتب، والكمال والتمام أن تُؤدى هذه الرواتب على ما جاء في حديث عائشة: ثنتي عشرة ركعة، وعلى ما جاء في حديث أم حبيبة، فيحصل له فضل هذا العدد.

وحديث أم حبيبة الآخر فيه الدلالة على شرعية أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، فهذا يدل على فضل هذا العدد، وأنه يُستحب أن يُصلي أربعًا قبل الظهر، وأربعًا بعدها، وأنَّ هذا ليس براتبٍ، الأربع بعدها ليست براتبةٍ ..... تطوع، فيكون أدَّى الراتبةَ وزيادة ركعتين .....

وهو حديث جيد رواه أهلُ السنن وأحمد من حديث عنبسة بن أبي سفيان، عن أخته أم حبيبة، وهو سند جيد، ويدل على استحباب هذه الركعات: أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، منها ستّ رواتب، ومنها ثنتان من جنس التطوع الذي يُستحب أن يفعله الإنسانُ بعض الأحيان في هذا الوقت -وهو بعد الظهر- إذا تيسر ذلك.

أما الذي حافظ عليه النبيُّ ﷺ فقد سمعته، وهو إما عشر كما قال ابن عمر، وإما ثنتا عشرة ركعة كما قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ولعله هو الأقرب؛ يفعل هذا تارةً وهذا تارةً على حسب ما يسَّر الله له من النَّشاط عليه الصلاة والسلام والفراغ.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها الدلالة على ركعتين قبل صلاة الفجر، كانت محلَّ عنايةٍ من النبي ﷺ، ومحل تعاهدٍ، يتعاهدها أكثر من غيرها، ويدل على تأكُّدها وأنه يُستحب للمؤمن أن يتعاهدها حتى في الأسفار؛ ولهذا كان النبيُّ يحافظ عليها في السفر مع الوتر، فدلَّ ذلك على تأكدها، وأنها آكد النوافل، آكد من سنة الظهر والمغرب والعشاء؛ ولهذا كان يُحافظ عليها ﷺ في السفر والحضر، بخلاف سنة الظهر والمغرب والعشاء؛ فإنه كان يدعها في السَّفر عليه الصلاة والسلام، والأفضل مُوافقته ﷺ؛ فيُصليها في الحضر، ولا يُصليها في السفر هذه الرواتب، ما عدا سنة الفجر فإنها تُصلى في الحضر والسَّفر.

وفي قوله: ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما عليها دلالة على عظم فضلها، وأنَّ فضلها عظيم؛ ولهذا قال فيها ما قال عليه الصلاة والسلام، فينبغي المحافظة عليها، والحرص عليها، وألا يدعها أبدًا: لا في السفر، ولا في الحضر؛ تأسيًا بالنبي ﷺ، وحرصًا على هذا الفضل العظيم في هاتين الركعتين، والله أعلم.

.............

الطالب: مؤمل بن إسماعيل سيئ الحفظ، مقبول في قوله: "ركعتين بعد العشاء"، رواه النسائي بإسنادين عن شيخ شيخ مؤمل، وفيه اثنتان قبل العصر، وإسناده صحيح.

في صلاة الليل سوى الحديثين السَّابقين: حديث عائشة وأبي هريرة فيما يتعلق بسنة الفجر؛ حديث عائشة رضي الله عنها فيه الدلالة على شرعية الاضطجاع بعد سنة الفجر، وهكذا حديث أبي هريرة فيه الدلالة على ذلك عن طريق الأمر، وحديث عائشة من طريق الفعل: أنه ﷺ كان إذا صلى سنة الفجر اضطجع على شقِّه الأيمن، وحديث أبي هريرة فيه الأمر بذلك، وهما دليلان على شرعية الاضطجاع بعد سنة الفجر.

وقد جاء في بعض ألفاظ حديث عائشة في الصحيح: قالت: "فإن كنت مُستيقظةً حدَّثني، وإلا اضطجع على شقِّه الأيمن"، فدلَّ ذلك على أنه تارةً يضطجع، وتارة يتحدث معها ولا يضطجع، فدلَّ ذلك على عدم وجوبها، وأنها سنة فقط ومستحبة، وأنه إذا تركها بعض الأحيان فلا بأس، كما كان يتركها بعض الأحيان إذا رآها استيقظت تحدَّث معها.

أما حديث أبي هريرة ففيه الأمر .....، والأمر أصله للوجوب، ويدل على وجوب هذه الضجعة، وقد نبَّه عليها أهل العلم .....، وأنها ليست واجبةً، وإنما هي مستحبة للاستراحة بعدما قام للتَّهجد من الليل، بعد العمل كان يضطجع على شقِّه الأيمن عليه الصلاة والسلام في غالب الأحيان، وربما لم يضطجع كما قالت عائشةُ رضي الله عنها وأرضاها.

فهذا على تسليم صحة حديث الأمر، وقد تكلم فيه بعضُ أهل العلم وضعَّفوه، ومن جملة مَن ضعَّف ذلك: أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، فإنه قال: إنه حديث باطل لا يصحّ عن النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما الثابت من طريق الفعل.

ونازعه قومٌ في ذلك، وإسناده ظاهره الصحة؛ فإنه رواه أبو داود والترمذي وأحمد من طريق عبد الواحد بن زياد العبدي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. وهذا إسناد ظاهره الصحة على شرط الشيخين، ولكن له علتان:

إحداهما: أنَّ عبد الواحد تكلم فيه بعض الحفاظ من روايته عن الأعمش، وعللوها بأنه يغلط فيها كثيرًا، وجعلوا هذا منها.

والعلة الثانية -وهي أشد وأقوى- وهي في تدليس الأعمش، فإنه لم يروِ عن أبي صالح، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: إنما رواها بواسطةٍ، ولم يُسمها. كما صرَّح به في رواية ..... عن أبي صالح، ولم يروه عن أبي صالح مباشرةً، فالعلة خفيت على كثيرٍ من الناس؛ فظنُّوا أنه متصل، وأنَّ الأعمش سمعه من أبي صالح، وليس الأمر كذلك، والأعمش مدلس، وقد رواه بالعنعنة، فاحتمله العلماء فيما إذا كان في "الصحيحين"؛ لأنَّ أصحاب "الصحيحين" اعتنوا بروايته، وانتقوا منها ما ثبت سماعه، وأما غير "الصحيحين" فلم يعتمدوا ذلك؛ فلهذا تعلل روايته إذا لم يُصرح بالسماع.

وهنا جاء ما يدل على أنه دلَّسه ..... رواه عن غير أبي صالح، وبهذا يُعلم أنه ضعيف من هذه الحيثية: تدليس الأعمش وعدم تصريحه بالسماع عن أبي صالح، ومن جهة ما جاء في بعض الروايات أنه رواه عن غير أبي صالح، رواه بواسطةٍ لم يُسمها.

وعلى فرض صحته فالأمر للاستحباب؛ بدليل أنه ﷺ كان يفعلها تارةً، ويدعها أخرى، فدل ذلك على أنها للاستحباب لو سلمنا صحّة الأمر.

والحديث الثالث: حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ قال: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدُكم الصبحَ صلَّى ركعةً واحدةً تُوتر له ما قد صلَّى متفق عليه.

ورواه الخمسة من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وأرضاهما، عن النبي ﷺ أنه قال: صلاة الليل مثنى مثنى، الليل والنهار، هذه الزيادة عند الأربعة وأحمد: "النهار"، تفرد بها بعض الثِّقات، وصححها ابن حبان، والنسائي رحمه الله قال: إنها خطأ. والنسائي على طريقة جماعةٍ من المحدثين: إذا روى الأكثر روايةً وخرقها بعضُ الثقات صوبوا رواية الأكثر، وإن كان الذي انفرد ليس به علة، ولكن على طريقتهم يختارون رواية الأكثر ويُصححونها.

إذا روى ثلاثةٌ من الثقات حديثًا، وانفرد واحدٌ منهم بزيادة، واثنان لم ينفردا بزيادةٍ، على طريقة النَّسائي والجماعة -والترمذي أيضًا وجماعة- أنهم يُصححون رواية الأكثرين، ويُعللون رواية المفرد؛ لأنهم يخشون أنه لم يحفظ.

وهذه الطريقة لم يقل بها البخاري وجماعة، وقالوا: إن الزيادة تُقبل. رواية الثقة ولو خالف جماعةً، لو كانوا جماعةً: ثلاثة، وتفرد واحد منهم، أو أربعة وانفرد واحد، أو خمسة وانفرد واحد، أو أكثر، وهو ثقة، فإنَّ الواجب قبول زيادته؛ فإنها تُشبه حديثًا مستقلًّا، كما لو روى حديثًا مستقلًّا نقبل روايته، فهكذا إذا زاد على غيره بأن روى مثلًا: شعبة وسفيان الثوري وجماعة حديثًا، ثم روى الأوزاعي أو غيره من الثِّقات ذلك الحديث وزاد فيه أيضًا جملةً أخرى، فإنَّ هذه الجملة كأنها حديث مستقلّ تُقبل من الثقة.

وهذا هو الذي عليه المحققون من أهل العلم، وهو الذي نصره ابن الصلاح والحافظ العراقي وجماعة، وابن حجر أيضًا في "النخبة" حيث قال: "وزيادة راويهما مقبولة ما لم تقع منافية لمن هو دونهما". أوثق راويهما هو الحسن، والصحيح مقبولة ما لم تقع منافيةً لمن هو أوثق.

الحاصل أن الصواب أن زيادة "النهار" لا بأس بها؛ فإنَّ الذي رواها ثقة عن ابن عمر، فتُقبل هذه الزيادة.

ثم يدل على هذه الزيادة وصحتها: أنه في الغالب ﷺ -فيما نعلم عنه- كان يُصلي ثنتين في النهار، قبل الظهر ثنتين، وبعد الظهر ثنتين، وبعد المغرب ثنتين، وبعد العشاء ثنتين، وبعد الفجر ثنتين.

وحديث أبي الدَّرداء وأبي هريرة: أوصى أبا هريرة بركعتي الضحى، وكذلك صلاة الاستخارة ركعتين، وصلاة العيد ركعتين، فأعماله ﷺ وصلواته في النهار تُؤيد هذه الزيادة.

وبهذا يُعلم أنه يعلم أنَّ ما قاله النَّسائي ليس بجيدٍ، والصواب قول المحققين، وأنها زيادة لا بأس بها، وليست بخطأ، ولا يضرّها انفراد ثقةٍ بها عن آخرين.

والحديث الرابع من حديث أبي هريرة : أنَّ النبي قال: أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل رواه مسلم.

هذا يدل على شرعية صلاة الليل، وأنها متأكدة، وقد أخبر الله في كتابه العظيم عن عباده الصَّالحين بتهجدهم بالليل، فدلَّ ذلك على شرعية قيام الليل، وأنه من دأب الصَّالحين، ومن عمل الصَّالحين.

ويُشرع للمؤمن أن يكون له نصيبٌ من الليل، فإنَّ صلاة الليل أفضل من صلاة النهار؛ لما فيها من اجتماع القلب واللسان وتواطئهما، وقلة الشَّواغل، والإقبال بالقلب عليها ..... الإخلاص والسَّلامة من الوسواس، فهي أولى من صلاة النهار من وجوهٍ كثيرةٍ، قال تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6].

وفي الصحيح من حديث جابرٍ عند مسلمٍ: عن النبي ﷺ أنه قال: إنَّ في الليل ساعةً لا يُوافقها عبدٌ مسلمٌ يسأل الله شيئًا من خيري الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه. وفي لفظٍ: من أمر الدنيا والآخرة.

فهذا يدل على أنَّ الليل فيه ساعة يُستجاب فيها الدعاء، قال: وذلك كل ليلةٍ، فهذا يدل على شرعية التَّهجد بالليل، والدعاء بالليل.

وفي بعضها لما سُئل: أي الدعاء أجوب، أو أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر.

وفي الليل التَّنزل الإلهي في آخر الليل، ففي الليل خير كثير، ومحلّ للعبادة، وقريبة من ..... في العبادة والدعاء.

والحديث الخامس: حديث أبي أيوب، والحديث السادس: حديث عليٍّ، حديث الوتر.

وحديث أبي أيوب يدل على أنه حقّ، وأنه متأكد ..... لمسلم، ولكن ليس معناه أنه فرض، حقّ يعني: متأكد، كأن تقول: حقك عليَّ واجب. المقصود أنه متأكد، وليس بواجبٍ؛ لأنَّ النبي ﷺ لما سأله الأعرابيُّ: هل عليَّ غيرها؟ يعني: غير الصَّلوات الخمس، قال: لا، إلا أن تطوع، فالأصل في هذا أنه تطوع، وليس بفرضٍ كما قال عليٌّ .....، وهو سنة سنَّها رسولُ الله عليه الصلاة والسلام.

واختلف الناسُ في حديث أبي أيوب: هل مرفوع أو موقوف؟

وصوَّب النَّسائي وقفه، ولا منافاة بين الموقوف والمرفوع؛ فإنَّ أحدهما يصدق الآخر، فإنَّ للعقل مجالًا في هذا، فإن أبا أيوب يمكن أن يقول هذا من جهة اجتهاده؛ لما فهمه من الأحاديث الكثيرة في التَّطوع في الليل، والتَّهجد في الليل، وحرص النبي على الوتر، فيقول حقّ ..... يعني: حق متأكد ينبغي له ألا يدعه، ثم هو لا حدَّ له، لكن أقلَّه واحدة.

ورواه ابن عمر وابن عباس، روياه عن النبي ﷺ أنه قال: الوتر ركعة في آخر الليل خرَّجه مسلم.

فأقله ركعة، ومَن زاد صلَّى ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك فقد أحسن، وكان النبيُّ ﷺ في الغالب يُوتر بإحدى عشرة، وربما أوتر بثلاث عشرة، وربما أوتر بأقلّ من ذلك.

فأفضله إحدى عشرة، أو ثلاث عشرة، ومَن زاد فأوتر بعشرين مع الوتر، أو بأربعين مع الوتر، أو بمئة مع الوتر، فلا حرج، بشرط ألا يضرّه ذلك، وبشرط ألا يسهر، فينام بعض الليل، ويتهجد بعض الليل؛ ولهذا في حديث ابن عمر قال: صلاة الليل مثنى مثنى، فلم يُحدد حدًّا، فدلَّ ذلك على أنها لا حدَّ لها، فلو أوتر بعشرين أو بأربعين أو بأكثر من ذلك في رمضان وفي غيره فلا حرجَ في ذلك؛ لكونه ﷺ لم يُحدد، فإنه فعل ما فعل على سبيل البيان والإيضاح للأمة، وقد أوتر بثلاثٍ، وقد أوتر بخمسٍ، وقد أوتر بسبعٍ، وقد أوتر بتسعٍ، وقد أوتر بإحدى عشرة، وأوتر بثلاث عشرة، ولم ينهَ عن الزيادة، فدلَّ ذلك على أنه لا بأس بالزيادة، وأن الأفضل أن يتحرى صلاة النبي ﷺ في طول القراءة والركوع والسجود، أو يقرأ بثلاث عشرة، أو إحدى عشرة، أو أقلّ من ذلك.

وفيه أنَّ الوتر ينتهي بالصبح، فإذا خشي الصبح فليُوتر ولا يُؤخر، فدلَّ ذلك على أنَّ الوتر محله الليل، فإذا انتهى الليلُ زال الوتر؛ ولهذا قالت عائشةُ رضي الله عنها كما جاء في الصحيح: أن النبي إذا فاته وتره من الليل لمرضٍ أو نومٍ صلَّى من النهار ثنتي عشرة ركعة، فدلَّ على أنه كان يشفعها ولا يُوترها في النهار، هذا هو السنة؛ إذا فات ورده من الليل شفعه في النهار تأسيًا بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا تضيع عليه الفائدة وهذه الغنيمة وهذا الخير العظيم، ويستدركه بالنهار، والله جعل الليل والنهار خلفةً.

أما بعد: فهذه الأحاديث كلها تتعلق بصلاة الليل والوتر:

الحديث الأول: حديث جابر أنه ﷺ قَامَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ انْتَظَرُوهُ مِنَ الْقَابِلَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ وَقَالَ: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمُ الْوِتْرُ. رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.

وجاء في "صحيح البخاري": أنه ﷺ صلَّى بهم عدة ليالٍ، ثم انتظروه فلم يخرج، وقال: إني خشيتُ أن تُفرض عليكم صلاة الليل.

وجاء معنى ذلك في عدة أحاديث عنه عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على أنَّ قيام رمضان سنة وقُربة، فقد فعله النبي ﷺ، وحثَّ عليه من غير عزيمةٍ، وقال: مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه.

وكان الناس يقومون رمضان أوزاعًا في مسجده عليه الصلاة والسلام، يُصلون في المسجد: الرجل يؤمّ غيره، والرجل وجماعة، ثم صلَّى بهم ﷺ عدة ليالٍ، في بعضها في أول الليل، وفي بعضها في نصف الليل، وفي بعضها في آخر الليل، ثم ..... على ذلك، فترك ذلك عليه الصلاة والسلام، وحثَّهم على الصلاة في بيوتهم وقال: أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة عليه الصلاة والسلام.

وهذا يدل على شرعية قيام رمضان، وأنه سنة وقربة، وأنه ﷺ إنما ترك ذلك خشية أن يُفرض، فلما تُوفي عليه الصلاة والسلام انتهى هذا الخوف، واستقرت الشريعةُ، وبقي الأمرُ على ما هو عليه: نافلة وسنة و.....؛ ولهذا أقام عمر هذه السنة، وأمر أُبي بن كعب أن يُصلي بالناس، وجمعهم عليه، وكانوا يُصلونها في عهده جماعة؛ لأنهم عرفوا أنَّ المانع انتهى وزال؛ فلهذا طبَّقوا ما كانوا عليه ..... ﷺ بصلاتها جماعة .....، وجمعهم ﷺ عدة ليالٍ، ولم يمنعهم من الاستمرار إلا خوف الفريضة، وقد زال هذا الخوف، واستقر الأمر؛ ولهذا جمعهم عمر وصلّوها جماعةً في عهده رضي الله عنه وأرضاه، واستمروا على ذلك.

وكان ذات ليلةٍ رآهم فقال: "نعمت هذه البدعة" .....، وقد احتجَّ بهذا مَن لا بصيرةَ لديه بأمور البدع، وظنوا أن هذا من عمر مدحًا للبدع .....؛ فإنَّ عمر لا يمدح ما ذمَّه الله ورسوله، فالبدع كلها مذمومة، وكل بدعةٍ ضلالة كما قاله النبيُّ عليه الصلاة والسلام، وإنما أراد عمر البدعة اللغوية: "نعمت هذه البدعة" من حيث أنه جمعهم على إمامٍ واحدٍ، جماعة واحدة، وكانوا في عهد النبي أوزاعًا، ومات النبيُّ وهم على ذلك، فلما جمعهم على هذه الكيفية قال: "نعمت هذه البدعة" يعني: من حيث اللغة، فإنَّ البدعة في اللغة: ما حدث على غير مثالٍ سابقٍ، لكن إذا كان الدين هو محل المنع، ولكن في أمور الدنيا وما ..... في الدنيا وصناعاتها وإصلاحها وغير ذلك؛ فليس من باب الذمِّ في شيءٍ، فللناس أن يخترعوا ويُوجدوا ما ينفعهم: في ملابس، أو مآكل، أو مزارع، أو صناعات، أو مراكب، أو غير ذلك، ولكن البدع المذمومة ما يتعلق بالدين والتَّقرب إلى الله .

ومراده رضي الله عنه وأرضاه يعني: من حيث اللغة، أنها تُعرف في عهده ﷺ، كانوا أوزاعًا، وفي عهد الصديق كانوا أوزاعًا، ثم جمعهم، فهي بدعة من هذه الحيثية، من حيث أنهم منعوا بسبب خوف النبي ﷺ الفريضة، وإلا فهو سنة وقُربة وطاعة، وقد فعلها النبيُّ ﷺ، وفعلها المسلمون، ورغَّب فيها النبي ﷺ وحثَّ عليها.

والحديث الثاني: حديث خارجة بن حذافة، وفيه ما يتعلق بالوتر: أخبر النبيُّ ﷺ أنَّ الوتر نعمة من الله ، وأنه أمدَّ العباد بهذه النعمة، وأنه خيرٌ لهم من حُمر النعم، وكان النبيُّ ﷺ يُحافظ عليها في السفر والحضر، فدلَّ ذلك على شرعية الوتر، وأنه قُربة، وأنه نعمة عظيمة، وهو خير لعباده، من خير النعم، وأنَّ محله ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، هذا محل الوتر، فإذا انتهت صلاة العشاء دخل الوتر، ولو مجموعة مع المغرب؛ لو صلوا المغرب، إذا جمع جمع تقديم في السفر أو في المرض دخل وقت الوتر ..... من حديث عن عبدالله بن عمرو.

المقصود أنَّ فعله ﷺ ..... يدلان على شرعية الوتر، وأنه سنة وقُربة في السفر والحضر، فقد كان يُحافظ عليها، وربما صلَّى الوتر على بعيره حال السفر .....

وهكذا حديث ابن بُريدة: الوتر حق، ومَن لم يُوتر فليس منا ..... يُؤكد ذلك، وهكذا ما تقدَّم من حديث أبي أيوب: الوتر حقّ، الحديث، وما جاء في هذا المعنى: أثر عليٍّ المتقدم أيضًا، كلها تدل على شرعية الوتر وتأكُّده، وأنه ينبغي لأهل الإسلام أن يُحافظوا عليه كما حافظ عليه نبينا عليه الصلاة والسلام في السفر والحضر جميعًا، في حقِّ الرجال والنِّساء، ولا سيما القُرَّاء والعلماء؛ فإنهم أولى الناس أن يعتنوا بذلك؛ ولهذا جاء في الحديث الآتي: أن النبي ﷺ قال: أوتروا يا أهل القرآن؛ فإنَّ الله وتر يُحب الوتر، فالعلماء وطلاب العلم أولى الناس بالوتر، والعناية بالسنن، والأخذ بها، والسير عليها، والتأسي بنبينا عليه الصلاة والسلام؛ لأنه .......

وحديث بُريدة وإن كان فيه ضعف، لكنه دالٌّ على شرعية الوتر بالشواهد كما تقدم، أما زيادة فليس منا فهي محل استنكارٍ ومحل غرابةٍ؛ فلا يُحتج به في هذه المسألة؛ لأنَّ ظاهره الوجوب، ولكنه ليس بواجبٍ، بل هو سنة مؤكدة، وليس بواجبٍ، وهذا حديث ضعيف لا يُعتمد عليه من حيث ما يدل عليه من جهة الوجوب، وإنما هو حقّ للتأكد والسنة ..... فقط.

س: تحسين الحاكم؟

ج: لا يُعول عليه -تصحيحه- يتساهل.

وأحاديث عائشة كلها تدل على شرعية الوتر أيضًا، وأنه ﷺ كان يُوتر تارةً بثلاث عشرة، وتارة بإحدى عشرة، وتارة بأقلّ من ذلك، فهذا فيه توسعة، وأنَّ الوتر فيه توسعة ..... ثلاث، على أنه ربما أوتر بخمسٍ جميعًا؛ صلَّى ثمانٍ ثم خمسًا جميعًا، فصارت ثلاث عشرة، ولما أوتر بإحدى عشرة صلَّى أربعًا ثم أربعًا ثم ثلاثًا، يعني: ثنتين ثنتين، كما في الرواية الأخرى، يُسلِّم من كل ثنتين، وربما أوتر بسبعٍ جميعًا، يجلس في السادسة ويتشهد التَّشهد الأول: يحمد الله ويُثني عليه ولا يُسلم، ثم يقوم للسابعة، وربما أوتر بتسعٍ كما في "صحيح مسلم": فيجلس في الثامنة ولا يُسلم، ثم يُسلم في التاسعة، وربما أوتر بثلاثٍ كما في حديث أُبي الآتي، يسردها سردًا، ولا يجلس فيها إلا في الثالثة.

كل هذا من وتره عليه الصلاة والسلام؛ ليدل على التَّوسعة، فمَن صلى ثنتين ثنتين فهو أفضل كما تقدم: صلاة الليل مثنى مثنى، وإن أوتر بثلاثٍ جميعًا سردًا، أو بخمسٍ جميعًا سردًا ولم يجلس إلا في آخرها؛ فهذا نوعٌ من الوتر، مَن فعله بعض الأحيان لإحياء السنة فهو حسن إن شاء الله، أما السبع المتصل فالأفضل أنه لا يسردها، بل يجلس في السادسة، وفي الثامنة .....

أما الإحدى عشرة: فإنه ﷺ لم يسردها، وإنما ورد أنه كان يُسلم من كل ثنتين عليه الصلاة والسلام، وهكذا الثلاث عشرة كان يُسلم من كل ثنتين، وربما سرد خمسًا في الآخر، وأوتر بها بعد أربع تسليمات، بعد ثمانٍ يُسلم من كل ثنتين.

وفي حديث عائشة الأخير الدلالة على أنَّ الوتر يكون في أول الليل، وفي وسط الليل، ويكون في آخره؛ فإنه ﷺ انتهى وتره إلى السَّحر، يعني: آخر الأمور من حاله ﷺ أنه انتهى وتره إلى السحر، فدلَّ ذلك على أنَّ الوتر في أول الليل، وفي آخره، وفي وسطه، كله حسن، كله سنة، وكله قُربة، ولكن الأفضل أن يكون في السحر .....، وأنَّ وتره انتهى إلى هذا عليه الصلاة والسلام: إلى آخر الليل، فآخر ما كان في آخر حياته ﷺ استقرَّ وتره في آخر الليل، وهذا الموافق لحديث: ينزل ربنا إلى السَّماء الدنيا كل ليلةٍ من ثلث الليل الآخر، فإن الوتر في آخر الليل يُوافق هذا التَّنزل، وهو فضل عظيم، وفيه أنَّ الرب جلَّ وعلا ..... عباده إلى أن يسألوه، إلى أن يستغفروه: هل من داعٍ فيُستجاب له؟ هل من سائلٍ فيُعطى سُؤله؟ هل من تائبٍ فيُتاب عليه؟ هذه أوقات عظيمة جديرة بالعناية.

وأما ما ثبت عنه ﷺ أنه أوصى أبا هريرة وأوصى أبا الدَّرداء بالإيتار في أول الليل، فهذا لعلةٍ ولأسبابٍ، فالذي يخشى ألا يقوم في آخر الليل يُوتر في أول الليل، ..... في أول الليل، وله حاجات في أول الليل، فإنه يُوتر أول الليل؛ حتى لا يفوته، أما الذي له قُدرة: يقوم في آخر الليل، ويتمكن من قيام آخر الليل كما فعله النبيُّ ﷺ في آخر حياته، فهذا هو الأولى والأفضل.

ويدل حديث جابر في هذا الباب على هذا التفصيل: مَن خاف ألا يقوم آخر الليل فليُوتر أوله، ومَن طمع أن يقوم آخر الليل فليُوتر آخر الليل؛ فإنَّ آخر صلاة الليل مشهودة، وذلك أفضل خرَّجه مسلم .....، فهو دالٌّ على التَّفصيل، وأنَّ مَن كان يطمع آخر الليل فهو أولى، ومَن كان يخشى فالوتر أول الليل، وهذا المعنى أوصى به النبيُّ أبا الدرداء وأبا هريرة؛ لأنهما مشغولان بالعناية بالحديث، والعناية بالحديث أول الليل، وربما شقَّ عليهما القيام في آخر الليل، والله أعلم.

س: الجمع بين قوله ﷺ: صلاة الليل مثنى مثنى وبين فعله في سرد الركعات؟

ج: هذا هو الأفضل، وفعله يدل على الجواز، فإن سرد الخمس يدل على الجواز ..... فعله بعض الأحيان، وإلا فصلاة الليل مثنى مثنى، هذا هو المستقر، صلاته المستقرة.

س: مَن قام إلى الثالثة هل يرجع؟

ج: وهو ناوٍ ثنتين؟

س: ناوي ثنتين.

ج: هو الأفضل .....

...............

أما بعد: فيقول المؤلفُ رحمه الله: وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسولُ الله ﷺ: لا تكن يا عبدالله مثل فلانٍ: كان يقوم من الليل فترك قيام الليل.

هذا فيه الحثّ على قيام الليل، ووصية الإنسان بألا يتشبَّه بأهل الكسل، بل يتشبه بأهل الجدِّ والنشاط والعمل الصالح، وإن كان نافلةً، فالتواصي بالحقِّ، والتواصي بالصبر، والتواصي بأعمال الخير من سنة الرسل، ومن سنة أتباعهم بإحسانٍ، فليست الوصايا خاصة بالواجبات وترك المحرمات، لا، بل تكون في هذا، وتكون أيضًا في النَّوافل والمسابقة إليها ولزومها والاستكثار منها؛ ولهذا قال النبي لعبدالله: لا تكن مثل فلانٍ: كان يقوم من الليل فترك قيام الليل.

هذا يدل على أنَّ مَن ترك الأعمال الصَّالحة والقرب والتَّنافس فيها يستحق ألا يُتشبَّه به، وأن يكون مضربةً للنهي عن التَّشبه به، ولكن كسله وضعفه وتساهله في المستحبات محل تشبه، فينبغي أن يُخالف، وأن يُسارع إلى الخيرات، وأن يُضرب به المثل في هذا فيُقال: لا تكن مثل فلان كذا وكذا؛ تنبيهًا له على أنَّ ذلك لا يُناسب فعله، وتشجيعًا له على المسابقة والمسارعة إلى الخير.

وكان عبدالله بن عمرو بعد ذلك يُصلي كثيرًا، وكان يتهجد كثيرًا حتى جاء عنه بعد ذلك أنه كان لا ينام، بل يُصلي الليل كله، ويصوم النهار، واجتهد في العبادة حتى أمره النبيُّ ﷺ بأن يقتصد، وقال: يا عبدالله، إنَّ لنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، ولضيفك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حقٍّ حقَّه، فقم ونم، وصم وأفطر، فالحديث مشهور الذي رواه الشيخان وغيرهما.

وكان يقرأ القرآنَ في كل ليلةٍ، فأمره النبيُّ ﷺ أن يقرأه في كل شهرٍ، ولم يزل معه فيقول له ويأمره بالاقتصاد، فقال: اقرأه في سبعٍ، فلم يزل به حتى قال: اقرأه في ثلاثٍ.

المقصود أنه بعد هذه الوصية اشتدَّ حرصه على الخير، وعظم إقباله على العبادة، حتى صار بعد ذلك لا ينام ولا يُفطر، ويجتهد غاية الاجتهاد في العبادة، حتى أوصاه النبيُّ ﷺ بالاقتصاد وعدم التَّضييق على نفسه؛ لأن الله جلَّ وعلا لا يُحب التَّشديد في هذه المسائل والغلو فيها، بل أمر بالتيسير: سددوا وقاربوا: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة:185]، ولم يزل به النبيُّ ﷺ حتى قال في الصيام: صم صيام داود: صم يومًا، وأفطر يومًا، قال: إني أريد أفضل من ذلك، قال: لا أفضلَ من ذلك، فكان رضي الله عنه وأرضاه يجتهد في العبادة: فيصوم يومًا، ويُفطر يومًا، حتى قال في آخر حياته: "وددتُ أني قبلتُ رخصةَ رسول الله عليه الصلاة والسلام"، وكان يصوم أيامًا عديدةً ثم يُفطر مثلها؛ ليتقوى على ذلك، ولم يُحب أن يدع سنةً فارق عليها النبيّ عليه الصلاة والسلام، وإن كانت نافلةً.

الحديث الثاني: حديث عليٍّ ، أمير المؤمنين، وهو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، خِتن رسول الله عليه الصلاة والسلام وابن عمه، ورابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة .

يقول أنه سمع النبيَّ يقول: أوتروا يا أهل القرآن؛ فإنَّ الله وتر يُحب الوترَ.

وهذا يدل على أنه ينبغي لأهل القرآن أن يكون لهم عناية، وإن كان هذا مطلوبًا من الجميع، ولكن ينبغي لأهل القرآن، هم أهل العلم؛ لأنَّ القُراء هم أهل العلم على الحقيقة؛ لأنَّ أصل العلم هو كتاب الله، هذا هو أصل العلم، والسنة مكملة وموضحة ومبينة، وكان أصحابُ مجلس عمر هم القُراء وهم العلماء: أصحاب القرآن، أصحاب العلم، أهل البصائر، لهم تهجد بالليل وعناية بالوتر، أولى من غيرهم، والأمر في حقِّهم آكد، وإن كان مشروعًا للجميع، لكن ليس أهل العلم مثل غيرهم؛ فإنهم قُدوة، وعندهم العلم الذين يدعوهم إلى المسارعة، ويُحفزهم إلى المبادرة وإلى الثبات ما ليس عند غيرهم، فينبغي لهم أن يكونوا مسارعين لما علموا، والعمل بما علموا، وحتى يقتدي بهم مَن عرف أحوالهم وأعمالهم.

والوتر معروف، وهو ركعة بين العشاء والفجر، هذا أقلّه: ركعة واحدة، ومَن زاد فهو أفضل: ثلاثًا، خمسًا.

الحاصل أنَّ الوتر ركعة مفردة، هذا أقله، كما في الحديث الصحيح -حديث ابن عمر وابن عباس- أنَّ النبي ﷺ قال: الوتر ركعة من آخر الليل، وحديث أبي أيوب المتقدم، ومَن أحبَّ أن يُوتر بواحدةٍ فليفعل، وإذا زاد وأوتر بثلاثٍ أو خمسٍ أو سبعٍ أو أكثر من ذلك فهو خير وأفضل.

وقوله: إنَّ الله وتر يُحب الوتر هذا يدل على أنه سبحانه يُحب ما وافق أسماءه وصفاته ، فهو عليم يُحب العلم والعلماء العاملين، وكريم يُحب الكرم والجود، وصبور يُحب الصابرين، ووترٌ يُحب الوتر، إلى أشباه ذلك من الأعمال التي تُوافق أسماءه التي مضمونها الجود والكرم والإحسان، بخلاف الأسماء التي مضمونها العزة والجبروت والقوة، فالعزة والكبرياء والعظمة والكمال لله، لا يُشابه فيها شيئًا، فإنَّ هذا لا يُنازَع فيه ، ولكنه يُحب من عباده أن يأخذوا من أسمائه ما يُناسب مقام العبد: من كرمٍ وجودٍ وإحسانٍ ونحو ذلك، وعلمٍ وفضلٍ وإحسانٍ إلى قُربى، وما أشبه ذلك.

والحديث الثاني: حديث عبدالله بن عمر أيضًا: أنَّ النبي عليه السلام قال: اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وترًا.

هذا يدل على أنَّ السنة أن يختم صلاته بالوتر، هذا هو السنة، وكان النبيُّ ﷺ يختم صلاته بالوتر من آخر الليل، وانتهى وتره إلى ذلك، هذا هو الأفضل، وهذا هو السنة، لكن لو أوتر في أول الليل ثم يسَّر الله له القيام في آخر الليل فلا بأس أن يُصلي، ليس وقت نهيٍ، بل يُصلي ما كتب الله له من غير وترٍ، ويكتفي بالوتر الأول.

فإذا أوتر في أول الليل ثم قام في آخره وصلَّى ركعتين أو أربع ركعات أو ستَّ ركعات أو ثمان ركعات، كله طيب، من غير حاجةٍ للوتر، الوتر الأول يكفي، لكن لو أراد أن يُصلي -عزم على أن يُصلي في آخر الليل ولم يخف- فالسنة التأجيل؛ أن يُؤجل ..... إلى آخر الليل حتى ..... في صلاته، والذي خاف ألا يقوم وأوتر في أول الليل ثم رزقه الله القيام في آخر الليل؛ فإنه يُصلي .....، ولا يُعيد الوتر؛ للحديث الرابع، وقوله ﷺ: لا وتران في ليلةٍ، حديث طلق بن عليٍّ الحنفي اليماني: أن النبي قال: لا وتران في ليلةٍ، وهو حديث جيد، ويدل على أنه لا يُعاد ولا يُكرر.

أما قول مَن قال من السلف: أنه ينقض الوتر إذا قام وركع، فيُصلي ما شاء الله ثم يُوتر، هذا معناه أنه أوتر ثلاث مرات، وهذا لا ينبغي، أقلّ أحواله الكراهة، ولا ينبغي، بل السنة أن يُصلي ما قسم الله له ويكتفي بالوتر الأول؛ لحديث طلق بن عليٍّ هذا؛ ولما ثبت في "صحيح مسلم": أن النبي ﷺ صلَّى ركعتين بعد الوتر، وهو جالس بعد الوتر، فالظاهر والله أعلم أنه فعل هذا ليُبين الجواز: أنه يجوز للمؤمن بعد وتره أن يُصلي ما كتب الله له، إذا وجد فجوةً وسعةً بين وتره وبين آخر الليل -الفجر- ...............

يقول : أن النبي كان يُوتر بـسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى]، وقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون]، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص].

وهكذا في حديث عائشة، وهكذا جاء عند ابن عباس أيضًا.

وهو يدل على أنه كان يُوتر بثلاثٍ في بعض الأحيان، وربما أوتر بخمسٍ، وربما أوتر بسبعٍ كما تقدم.

وفي هذا أنه كان إذا أوتر بثلاثٍ قرأ بـسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ؛ ليدل ذلك على شرعية قراءة هذه السور الثلاث في الركعات الثلاث.

وزاد النَّسائي: "ولا يُسلم إلا في آخرهن".

فالمعروف في صفة صلاته ﷺ في الليل أنه كان يُسلم من كل ركعتين، ويُوتر بواحدةٍ مفردة، هذا هو الأكثر من فعله ﷺ والأغلب، وهذا معنى ما تقدم في حديث عائشة: "كان يُصلي عشر ركعات، يُسلم من كل ثنتين"، وهذا من حديث ابن عمر في "الصحيحين": صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدُكم الصبحَ صلَّى ركعةً واحدةً تُوتر له ما قد صلَّى، هذا هو الأفضل، وهو المحفوظ في الأحاديث الصَّحيحة.

وجاء عنه ﷺ أنه ربما أوتر بثلاثٍ سردًا، وربما أوتر بخمسٍ سردًا، وربما أوتر بسبعٍ، وربما أوتر بتسعٍ جميعًا، وهذا قليل، والغالب هو الأول، الغالب أنه يُصلي مثنى مثنى عليه الصلاة والسلام، ويُوتر بواحدةٍ مفردةٍ، ولكن مَن أوتر بثلاثٍ جميعًا، أو خمسٍ جميعًا، أو سبعٍ جميعًا؛ فلا حرج في بعض الأحيان، النبي فعل هذا ليُبين السنة، وأنه لا حرج في ذلك، والأفضل أن يُسلم من كل ثنتين .....، في كل ركعةٍ سورة، وفي الأخيرة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ .....، فهو واحد، ويُحب الوتر؛ لما فيه من المشابهة، لما كان واحدًا وترًا أحبَّ الوتر جلَّ وعلا، وأنَّ هذا شرعه وأمر به وأكَّده بذلك.

فالسنة للمؤمنين الإيتار، وأن يختموا صلاتهم بالوتر، وهي واحدة، فالله واحد، والوتر واحدة، سواء في أول الليل أو في وسطه أو في آخره، وآخره أفضل، وهذا مما يُؤيد ويُؤكد أن الإيتار بواحدةٍ أفضل من سرد الثلاث والخمس والسبع والتسع وغير ذلك، ولكنه جائز.

وأما زيادة ..... في حديث عائشة فقد أُعلَّت؛ لأنه رواها أبو داود والترمذي رحمة الله عليهما من طريق حصيف بن عبد الرحمن الجزري، عن عباد بن جريج، عن عائشة.

وحصيف مضعف لسوء حفظه واختلاطه، وابن جريج أيضًا كذلك لين الحديث، والمحفوظ أنه لم يسمع من عائشة، وإنما صرح بالسماع من عائشة حصيف، وحصيف لا يُعتد به؛ ولهذا قال العلماء: إن ابن جريج لم يُحفظ عنه أنه سمع من عائشة، ولم يلقاها. فصار في الحديث علتان: إحداهما: ضعف حصيف، والثانية: ضعف ابن جريج، وعلة ثالثة: انقطاع وعدم سماع ابن جريج من عائشة أيضًا، فيكون فيه ثلاث عللٍ، والمحفوظ إنما هو قراءة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقط وحدها.

ذكر ابن الجوزي عن أحمد وابن معين تضعيف هذه الرواية، وأن ذكر المعوذتين غير محفوظٍ. وذكر بعضهم أنها روتها عمرة عن عائشة. وذكر العُقيلي أنه لا بأس بإسناده.

فإن صحَّت هذه الرواية عن عمرة عن عائشة جاز الأمران: جاز أن يقرأ بـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وحدها، وأن يقرأ المعوذتين معها، ولا حرج في ذلك، المعول على الرواية المحفوظة، والمعول عند أهل العلم -وحكاه ابن السني عن أكثرهم- أنه يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقط، على حديث أُبي، وعلى رواية عائشة إن صحَّت بعد تتبع الطرق ..... في ذلك، فيكون هذا حال وهذا حال، يعني: في بعض الأحيان يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ كما في حديث أُبي وابن عباس، وفي بعضها يقرأ المعوذتين معها، ولا حرج في ذلك؛ لأنَّ المعول ..... كلها وغيرها هو الدليل.

س: حصيف؟

ج: حصيف بالفاء، وبعض النسخ بالباء، بالباء غلط.

..............

الحديث الثاني: حديث أبي سعيدٍ: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: أوتروا قبل أن تُصبحوا، ومن ..... فلا وترَ له.

وهكذا ما تقدم من حديث ابن عمر: فإذا خشي أحدُكم الصبحَ صلَّى ركعةً واحدةً تُوتر له ما قد صلَّى، وهكذا حديث ابن عمر الآتي: ..... فأوتروا قبل أن تُصبحوا، جاء في هذا المعنى عدة أحاديث كلها دالة على أن الإيتار يكون قبل الصبح، وأن المؤمن يتحرى في وتره الوقت المناسب الذي يستطيعه: أول الليل، أو وسطه، أو آخره، إن تيسر له آخر الليل فهو أفضل، وإلا أوتر في أوله.

وتقدم حديث خارجة بن حُذافة: إنَّ الله أمدكم بصلاةٍ هي خير لكم من حمر النَّعم، ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، هذا وقت الوتر، فإن تيسر آخر الليل كما يأتي في حديث جابرٍ: فمَن خاف ألا يقوم من آخر الليل فليُوتر أوله، ومَن طمع أن يقوم آخر الليل فليُوتر آخر الليل؛ فإنَّ صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل خرَّجه مسلم في "الصحيح". هذا حديث مفصل ومُوضح ومُبين، دالٌّ على أن الإيتار في آخر الليل هو الأفضل لمن تيسر له ذلك، وأما إذا لم يتيسر له ذلك فإنه يُوتر في أول الليل، يأخذ بالحزم.

ورُوي أنَّ عمر والصديق كان أحدهما يُوتر أول الليل، وكان الثاني يُوتر آخر الليل، كان الصديقُ يُوتر أول الليل، فقال النبي: أخذتَ بالحزم، وكان عمر يُوتر آخر الليل، فقال: أخذتَ القوة أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

المقصود أن إيتار آخر الليل أفضل إذا تيسر ذلك، وإن خيف ألا يتيسر أوتر في أول الليل.

ومن هذا ما رواه الشَّيخان عن أبي هريرة : أنَّ النبي أوصاه بثلاثٍ، منها بالإيتار قبل النوم. قالوا: كان أبو هريرة يدرس الحديثَ، فإذا مضى جزء من الليل نام، كان يشقّ عليه القيام بعد ذلك.

وهكذا روى مسلمٌ من حديث أبي الدَّرداء: أن النبي أوصاه بالإيتار قبل النوم أيضًا.

فهذا كله يدلنا على أنَّ الإيتار قبل النوم أفضل في حقِّ مَن يخشى ألا يقوم، أما مَن كان يثق بقيامه آخر الليل وله القُدرة على ذلك فإنَّ صلاة آخر الليل أفضل كما في حديث جابر وغيره، وكما تقدم في حديث عائشة: أن النبي انتهى وتره إلى السَّحر عليه الصلاة والسلام؛ ولأنه يُوافق التنزل الإلهي الذي يقول الله جلَّ وعلا فيه: هل من داعٍ فيُستجاب له؟ هل من سائلٍ فيُعطى سؤله؟ الحديث، فهذا أفضل الوجوه.

وفي حديث أبي سعيدٍ الثاني: مَن نام عن وتره أو نسيه فليُصله إذا أصبح أو ذكره.

هذا الحديث رواه -كما ذكر المؤلف- النَّسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد، ولكن في إسناده بهذا اللفظ: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف عند أهل العلم، ورواه أبو دواد بسندٍ جيدٍ، لكن ليس فيه: إذا أصبح، ومَن نسي وتره فليوتر إذا ذكره، وليس فيه ذكر النوم، والنوم مثل النسيان كله عذر.

فرواية أبي داود تشهد لرواية عبد الرحمن بن زيد، وإن كان ضعيفًا، تشهد لها بالصحة، فيدل الحديثُ على أنه إذا نام الإنسانُ عن الوتر أو نسيه فالأفضل أن يقضيه، وأن يُصلي من النهار ما تيسر.

وجاء في حديث عائشة في الصحيح: أن النبي كان إذا شغله عن وتره نومٌ أو مرضٌ صلَّى من النهار ثنتي عشرة ركعة. فهذا يدل على أنه إذا شُغل عن وتره في الليل لمرضٍ أو نومٍ أو مانعٍ آخر فإنَّ الأفضل له أن يُصلي من النهار، ولكنه يشفعه، لا يُوتره، بل يشفعه؛ لأنَّ رواية أبي سعيدٍ هذه مطلقة، ورواية عائشة مُفسرة مبينة ..... رواية عائشة، وهي أصح وأثبت، تدل على أنَّ الإيتار يكون بالشَّفع، يعني: يشفعه، فإذا كانت عادته خمسًا صلَّى ستًّا، وإن كانت عادته سبعًا صلى ثمانيًا، وإن كانت عادته إحدى عشرة صلَّى ثنتي عشرة ركعة، كما كان يفعل النبيُّ عليه الصلاة والسلام، هذا هو الأفضل والله أعلم.

...............

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسولُ الله ﷺ يُصلي الضحى أربعًا، ويزيد ما شاء الله". خرَّجه مسلم.

ورُوي عنها أنها سُئلت: هل كان رسولُ الله ﷺ يُصلي الضحى؟ قالت: "لا، إلا أن يجيء من مغيبه".

ورُوي عنها أيضًا أنها قالت: "ما رأيتُ رسول الله ﷺ يُسبح سبحة الضُّحى، وإني لأُسبحها".

هذه الأحاديث الثلاثة عن عائشة رضي الله عنها تدل على أنها اختلف قولها في ذلك، واضطربت الرواية، والجمع بينها -الجمع بين هذه الروايات- أنها ذكرت أنه كان يُصلي الضُّحى أربعًا، ويزيد ما شاء الله أولًا، ثم نسيت فقالت ما قالت بعد ذلك: "ما رأيتُه يُصليها إلا أن يجيء من مغيبه"، وأنه كان لا يُصليها، وهي تُصليها ..... أو العكس، أنها كانت قالت: "ما كان يُصليها إلا أن يجيء من مغيبه"، و"كان لا يُصليها، وإني لأُسبحها"، ثم ذكرت بعد ذلك وقالت: إنه كان يُصلي الضُّحى ويزيد ما شاء الله.

والحاصل أنَّ إثباتها ونفيها متعارضان، فإما أن يكون الجمعُ بين الروايات أن يُقال: أن الإثبات كان أولًا ثم نسيت، أو كان النفي أولًا ثم ذكرت فأثبتت، وما أثبتته حجة، وما نفيته لا يُنافي ما أثبتته، كما لو كان عن صحابيين أو أكثر، فإن المثبت يُقدم على النَّافي.

ويدل على صحة ما أثبتته الرواية الأخرى عنه عليه الصلاة والسلام: أنه كان يُصلي الضُّحى، وأوصى بصلاة الضُّحى، وصلاة الضُّحى جاءت فيها أحاديث كثيرة عن النبي عليه الصلاة والسلام تدل على سنيتها وتأكُّدها، وأنها من آكد النَّوافل.

ومن ذلك ما روى الشَّيخان عن أبي هريرة قال: "أوصاني خليلي رسول الله ﷺ بثلاثٍ: بركعتي الضُّحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهرٍ، والوتر قبل أن أنام".

وهكذا روى مسلم في الصحيح عن أبي الدَّرداء: أن النبي أوصاه بثلاثٍ: بصلاة الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، والوتر قبل النوم.

وهذان الحديثان الصَّحيحان حُجَّة قائمة في الدلالة على شرعية صلاة الضحى، وأنها سنة مؤكدة؛ لأنَّ الرسول إذا أوصى بشيءٍ فهو وصية للأمة، إذا أوصى واحدًا أو أكثر فهو وصية للأمة كلها، وليس خاصًّا بذلك الشخص، وهكذا إذا نهى أو أمر فالحكم عام، إلا أن يخصّه بالدليل فيقول: هذا خاص.

وهكذا ثبت عنه في "الصحيحين" أنه صلَّى الضُّحى ثمان ركعات، من حديث أم هانئ لما دخل مكةَ، وهكذا في حديث عائشة الأخير أنه دخل بيتها فصلَّى ثمان ركعات، رواه ابن حبان في "صحيحه".

هذا كله يدل على شرعية صلاة الضُّحى، وأنها سنة، وأنها قُربة، وأنها مؤكدة، وكون النبي ﷺ ما فعلها دائمًا، إنما فعلها بعض الأحيان لا يُنافي سنيتها، فهو ﷺ قد يفعل الشيء، وقد يترك الشيء، قد يفعله لبيان شرعيته، ويتركه لبيان عدم وجوبه، وقد يترك الشيء وهو يُحب أن يفعله، كما قالت عائشةُ؛ لئلا يشقَّ على أمته عليه الصلاة والسلام.

ثم وجوه السنة ثلاثة: القول والفعل والتقرير، فقد ثبت عنه ﷺ من قوله، وثبت عنه من فعله عليه الصلاة والسلام، فدلَّ ذلك على شرعية صلاة الضحى قولًا وفعلًا، فهي متأكدة وسنة.

ومن هذا حديث زيد بن أرقم، عن النبي أنه قال: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال.

زيد بن أرقم هو الأنصاري المشهور، قال: صلاة الأوَّابين حين ترمض الفصال، ترمض: حين تشتدّ عليها الحرارة، يقال: رمضت ترمض من باب فرح، يعني: اشتدَّ عليه حرُّ الرمضاء في شدة الضُّحى وارتفاع الضُّحى، هذه صلاة الأوابين.

الأوَّابون هم الرَّجاعون إلى الله، أهل التوبة والجد في العمل الصالح، صلاتهم حين يرتفع النهار.

فدل ذلك على أنَّ صلاة الضحى إذا اشتدَّ النهار أفضل من صلاتها في أول النهار، يُؤخرها حتى يُصليها في اشتداد الضُّحى، مع أنَّ الضُّحى كله محلّ صلاةٍ: حين ترتفع الشمسُ إلى وقوفها كله محل صلاةٍ، كما في "صحيح مسلم" عن عمرو بن عبسة : أن النبي ﷺ قال له: إذا صليت الفجر فأمسك عن الصلاة حتى ترتفع الشمس، ثم صلِّ؛ فإنها محضورة مشهودة إلى أن يقف الظلُّ.

وهكذا جاءت الأحاديثُ الصَّحيحة دالة على أنَّ ما بين ارتفاع الشمس إلى وقوفها ضحًى كله محل صلاةٍ، ومحل عبادةٍ، وهكذا بعد الظهر كله محل صلاةٍ ومحل عبادةٍ إلى صلاة العصر، فإذا صلَّى العصر أمسك إلى أن تغيب الشمس، وبعد غروبها إلى طلوع الفجر كله محل صلاةٍ ومحل تعبدٍ.

وقال: حديث زيد بن أرقم رواه الترمذي هنا، وقد فات المؤلف أنه قد أخرجه مسلم رحمه الله، كأنه نسي ذلك حين قيَّده، فالحديث عند مسلم، رواه مسلم في الصحيح قال: صلاة الأوَّابين حين ترمض الفصال، وفي لفظٍ: إذا رمضت الفصال، فالحديث خرَّجه مسلم رحمه الله في الصحيح.

وحديث أنسٍ : أن النبي ﷺ قال: مَن صلَّى اثنتي عشرة ركعة ضُحًى بنى الله له قصرًا في الجنة، في نفس الترمذي: من ذهبٍ، كأنها سقطت على المؤلف حين قيَّده من حفظه: قصرًا من ذهبٍ، لكنه ضعيف؛ لأنَّ في إسناده مجهولًا.

وتُغني الأحاديث الصَّحيحة عن ذلك؛ الأحاديث السابقة، وحديث أم هانئ، وحديث عائشة الأخير، كلها تُغني عن هذا الحديث.

وليس هناك حدٌّ محدود، فإذا صلَّى الضُّحى ثمانيًا، أو صلَّى عشرًا، أو صلَّى عشرين، أو صلَّى مئةً، ليس في هذا حدٌّ محدود، فالضحى كله محل صلاةٍ، وأقلّ ذلك ركعتان، هذا أقلّ ذلك: ركعتان يركعهما من الضُّحى، فإذا زاد صلَّى أربعًا، أو صلى ستًّا، أو ثمانيًا، أو عشرًا، أو ثنتي عشرة، أو أكثر من ذلك، فلا حرج في ذلك، كله محل أجرٍ ومحل خيرٍ ومحل عبادةٍ، والله أعلم.

...............

أراد المؤلفُ بهذا أن يذكر ما ورد في هذا الباب من الأحاديث فيما يتعلق بالجماعة والإمامة؛ لأنهما عبادتان عظيمتان، قد وردت فيهما أخبار، فناسب ذكرها هنا؛ ليعلم طالبُ العلم ويعمل بمُقتضاها في جماعةٍ وإمامًا.

الجماعة فرضٌ على الصحيح من أقوال العلماء، فرض عينٍ، فيجب أن تُؤدَّى الصلاةُ في الجماعة في المساجد، هذا هو الأرجح من أقوال أهل العلم. وقال بعضهم: سنة. وقال بعضهم: فرض كفايةٍ. والصواب هو ما تقدم، والأحاديث على ذلك: أنها فرض عينٍ، وأنها واجبة أداؤها في المساجد، كما دلَّت عليه السنة.

وفضلها عظيم، الجماعة فضلها عظيم، ومن ذلك ما جاء في حديث ابن عمر: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذِّ بسبعٍ وعشرين درجة.

وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة: بخمسٍ وعشرين جزءًا، وكذا البخاري في "صحيحه" قال: "درجة" بدل "جزءًا".

فجاءت الروايات أنَّ صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذِّ بسبعٍ وعشرين درجة، وفي بعضها بخمسٍ وعشرين ضعفًا، وفي لفظٍ: جزءًا .....

فدلَّ ذلك على فضل الجماعة، وأنه ينبغي للمؤمن العناية بها، وأن ينتهز هذه الفرصة العظيمة لتحصيل هذا الأجر الكبير، وهذا التفضيل لا يلزم منه عدم الوجوب، فالجماعة واجبة ومفضلة، ولا منافاة بين التفضيل وبين الوجوب؛ فصلاته صحيحة على الأرجح إذا انفرد مع الإثم، ومع حصول الأجر على أدائها، لكن يأثم لتخلفه عن الجماعة، ويُؤجر على أدائه الصلاة، فيفوته فضل الجماعة، ويأثم بترك الواجب، ولا يفوته ثواب أداء الصلاة التي فرض الله عليه وأوجب عليه .

وأما التَّفاوت: بخمسٍ وعشرين، وسبعٍ وعشرين، فهذا والله أعلم كان في .....، وفضل الزائد ..... الناقص، فكأنه ﷺ أخبر أنها أفضل بخمسٍ وعشرين ضعفًا أو درجةً، ثم زاد الله وتفضل فجعلها سبعًا وعشرين.

ومعلوم أن مفهوم العدد لا يُعول عليه، ولكن مع ذلك لعله إنما علم الزيادة بعد ذلك؛ ولهذا قال: بخمسٍ وعشرين ضعفًا بخمسٍ وعشرين درجةً أو جزءًا، ثم تفضل الله وزاد وقال: بسبعٍ وعشرين، وأخبر بهذا وهذا؛ لأن الزيادة لا شكَّ أنها تسر المؤمن، ويفرح بها إذا حصل له هذا المزيد من الخير والأجر.

والظاهر والله أعلم أنه أخبر بخمسٍ وعشرين أولًا، ثم جاءه من الله جلَّ وعلا خبر بالزيادة فأخبر بها أيضًا عليه الصلاة والسَّلام.

وفي حديث أبي هريرة بروايتيه الدلالة على فضل الجماعة، وأن مَن تخلف عنها يستحق أن يُعاقب؛ ولهذا قال: والذي نفسي بيده حلف وهو الصادق وإن لم يحلف عليه الصلاة والسلام، لكن لمزيد التأكيد: لقد هممتُ أن .....، ثم آمر بالصلاة فيُؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أنطلق برجالٍ معهم حزم من حطبٍ إلى قومٍ لا يشهدون الصلاة، فأُحرق عليهم بيوتهم، هذا يدل على شدة الأمر، وعظم الواقع، وأنَّ هذا هو الواقع، جديرٌ أهله بأن يُعاقبوا؛ حتى همَّ ﷺ بأن يتخلف عن إمامة الصلاة ويستنيب، ثم يتوجه إلى الناس في الوقت الذي تُقام فيه الصلاة؛ حتى لا يقولوا: صلينا، أو حضرنا، أو كذا؛ لأنه إذا هاجمهم وقت فعل الصلاة ما استطاعوا أن يقولوا شيئًا، وظهر كذبهم، وأنهم ..... في هذا العمل؛ لأنهم تركوا أداء الصلاة وقت إقامتها؛ ولهذا قال: لقد هممتُ أن آمر بحطبٍ يُحتطب، ثم آمر بالصلاة فيُؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أنطلق .....، فدلَّ ذلك على أنه هاجم في وقت المعصية التي لا يستطيع التَّملص منها أو الاحتجاج بشيءٍ يُسقط عنه العقوبة، أمر مناسب .....، والنهي عن المنكر، وأن يتحرى في عقوبة مَن يتخلف عن الواجبات الوقت الذي تقوم فيه الحجَّة، وتنقطع المعذرة، ولا يبقى للعاصي تعلق بشيءٍ آخر يدرأ عنه العقوبة.

ثم أيضًا كون النبي ﷺ لا يهمّ إلا بأمر حقٍّ -يعني- هذا هو مقام التَّبليغ الفعلي، وهو معصوم أن يُبلغ ما ليس بحقٍّ، فدلَّ ذلك على أنَّ التخلف عن الجماعة أمر منكر يستحق أهله أن يُعاقبوا.

وروى أحمد رحمه الله وجماعةٌ أنه قال: لولا النساء والذّرية لحرقتها عليهم.

فالحاصل أنه همَّ بهذا الأمر، فدلَّ ذلك على أنه حقٌّ، وأنهم مستحقون للعقوبة، أما كونه لم ينفذ فلعله ما رواه أحمد بسندٍ فيه بعض النظر: أنه قال عليه الصلاة والسلام: ولولا ما فيها من النساء والذرية لحرقتها عليهم، وقد يكون لأسبابٍ أخرى اقتضت عدم تنفيذ العقوبة، ولكن لم يرد عنه ما يدل على الرخصة بالترك، فدلَّ على أن الهمَّ بالعقوبة قائم، وهو التَّخلف، لكن تخلف التَّنفيذ لأسبابٍ وحِكَمٍ أخرى، لعلها أن التَّحريق قد يُفضي إلى أشياء مضرّتها عظيمة: من إصابة امرأةٍ أو طفلٍ، أو ذهاب أموال عظيمة، أو ما أشبه ذلك مما قد يضرّ الجيران.

فالحاصل أن التَّخلف عن التنفيذ له أسباب وله مُقتضيات وله مُوجبات، فلا يدل ذلك على أنَّ فعلهم جائز، أو أنهم لا يجوز عقابهم، بل هذا مستقر وثابت، وإنما تخلف التَّحريق لأسبابٍ أخرى.

كذلك حديث: أثقل صلاةٍ على المنافقين: صلاة العشاء والفجر يدل على أنَّ التخلف من صفات أهل النفاق، وأنه لا يجوز للمؤمن أن يتخلق بأخلاقهم، بل يُبادر بأداء الصلاة في جماعةٍ، وكفى بهذا دلالة على وجوب الجماعة والمبادرة إليها في المساجد، وأن التَّخلف عنها من صفات أهل النِّفاق، ومعلوم أنَّ صفاتهم مذمومة، وأن الواجب علينا البُعد عنها.

وقد ثبت عن ابن مسعودٍ أنه قال: "لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق" خرجه مسلم في الصحيح، فدلَّ ذلك على أنَّ التخلف عن الجماعة من الصفات المعروفة لأهل النفاق؛ لعدم إيمانهم، وعدم احتسابهم.

والحديث الآخر -أي السادس- حديث ..... أيضًا في حديث الأعمى: أنه استأذن الرسولَ ﷺ أنه ليس له قائد يقوده إلى المسجد، وفي لفظٍ: "يُلائمني إلى المسجد، فهل لي من رخصةٍ أن أُصلي في بيتي؟" فقال: هل تسمع النِّداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب.

فهذا صريح في وجوب أداء الصلاة في جماعةٍ في المساجد، إذا كان أعمى بعيد الدار ليس له قائد يُلائمه يقال له: أجب، فما حال مَن كان بخلاف ذلك ممن هو بصير وقريب ويستطيع الحضور؟!

الحاصل أنَّ هذا دليل واضح ودليل قاطع في وجوب أداء صلاة الجماعة، وأنه لا يجوز التَّخلف عنها للعمى ولا لغيره من الأعذار التي لا تمنع من أدائها، بخلاف العذر، العذر يمنع: كالمرض والعجز وكبر السن ونحو ذلك، هذا عذر قائم.

المقصود أن التَّعذر بالعمى، أو ما أشبه ذلك من الشُّغل بمزرعةٍ، أو الشُّغل بالبيع والشِّراء، هذه ليست بأعذارٍ، بل يجب على المؤمن أن يدع عمل الدنيا من البيع والشراء ونحو ذلك، وأن يُبادر بأداء صلاة الجماعة، كما أنه يجب عليه إذا كان أعمى أن يأخذ بالأسباب -للقيادة أو غير القيادة- التي تُمكنه من حضور المسجد وأداء الصلاة في الجماعة، النبي قال: أجب، ولم ينظر إلى الأسباب الأخرى، بل قال: أجب، وهو يتصرف بالقائد، بخروجه مع جيرانه إلى المسجد، يجعل له قائدًا بالأجرة، إلى غير ذلك مما يُعينه على أدائها في جماعةٍ.