وعلى كل قادرٍ من المكلفين، وأن ذلك أمر مهم واجب، وأن مَن تخلف عن ذلك فلا صلاةَ له، المعنى: لا صلاةَ له كاملة، أما الإجزاء فالجمهور على أنها تصح وتُجزئ، ولكنه قد فاته فضل الجماعة، واستحقَّ إثم التَّخلف، فيكون معنى "لا صلاةَ له" يعني كاملة، بل ناقصة، قد أصابه فيها الإثم.
والحديث لا بأس به، رجاله على شرط مسلم.
وقد جاء في هذا المعنى ما يدل على الوجوب أيضًا من الألفاظ الأخرى.
فالحاصل أنَّ الأحاديث المذكورة كلها تدل على وجوب أداء صلاة الجماعة، وعلى فضل أدائها في الجماعة، وأنَّ لها فضلًا عظيمًا، وأن الواجب الحذر من مُشابهة أهل النِّفاق في التَّخلف، بل يجب عليه أن يُبادر ويُسارع إلى صفات أهل الإيمان، والتَّخلق بأخلاق أهل الإيمان، والحذر من أخلاق المنافقين في هذه المسألة وفي غيرها؛ لأنَّ أخلاقهم ذميمة، والله جلَّ وعلا يقول: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142]، فأخلاقهم ذميمة يجب الحذر منها، ومن جملتها التَّثاقل والتَّكاسل عن الصلاة مطلقًا، وعن أدائها في الجماعة، نسأل الله السلامة والعافية.
س: الصَّارف للنَّهي عن ظاهره؟
ج: أحاديث أخرى تدل على صحَّتها، على صحة الصلاة في غير المساجد: حديث يزيد بن الأسود الآتي وغيره، وقال بعضهم: إنها شرط، ولكن قولهم أنها شرط خلاف قول الجمهور، وخلاف ظاهر بعض الأحاديث.
س: ..............؟
ج: ما أمره، نعم.
س: ..............؟
ج: في الإجزاء، نعم، ويفوت المنفرد فضل الجماعة، ويبوء بالإثم.
أما بعد: فيذكر المؤلفُ رحمه الله حديثَ يزيد بن الأسود القرشي، وحديث أبي هريرة في متابعة الإمام، وحديث أبي سعيدٍ في التقدم إلى الصلاة والمسارعة إليها، وحديث زيد: صلاة الجماعة نافلة، وبيان فضل صلاة النافلة في البيت.
أما حديث يزيد بن الأسود: فهو يدل على أنه لا ينبغي للمؤمن أن يجلس والناس يُصلون، فإنَّ ذلك يُشبه حالة الكفار، ويُوجب التُّهمة والريبة، ولا يليق به أن يجلس والناس يصلون؛ ولهذا لما جيء إليه بالشخصين، لما قيل له: إنهما لم يُصليا! وكان هذا في منى في حجة الوداع، لما قيل له: إنَّ هذين لم يُصليا معنا! دعا بهما، فجيء بهما ترعد فرائصُهما، هذا يدل على أنه مهيب عند أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، كانوا يهابونه ويُجلونه عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا لما جيء بهما اشتدَّ بهما الخوفُ؛ لكونهما لا يدريان ما يفعل بهما، فسألهما عليه الصلاة والسلام: ما الذي أوجب لهما التَّخلف عن صلاة الجماعة؟ فبيَّنا عذرهما وقالا: إنا صلينا في رحالنا. وكان منى يتفرق فيه الناس، كل يكون في مخيمه، فيبعد بعضهم عن بعضٍ، فلم يُنكر عليهما ﷺ صلاتهما في مخيمهما؛ لأنه مظنّة المشقة والتَّباعد، ولكن قال لهما: لا تفعلا أي: لا تفعلا مثل هذا العمل، إذا صليتُما في رحالكما ثم أتيتم الإمامَ وهو يُصلي فصليا معه، فإنها لكما نافلة، أي: لا تفعلا ما فعلتم الآن من التَّخلف عن الصلاة التي تحضرونها بعلة أنكم صليتُم سابقًا، بل متى حضرتم الصلاة فصلوا مع الناس.
وهذا يدل على أنه ينبغي للمؤمن إذا حضر الصلاة أن يُصلي، ولو كان قد صلَّى، وبيَّن أنها نافلة، وليست فريضةً، ولكنها نافلة، لكن لا يليق بالمؤمن أن يجلس والناس يُصلون.
ومثل هذا ما جاء في الحديث الآخر أنه كان ذات يومٍ أُقيمت الصلاة، ومرَّ على محجن بن الأدرع وهو جالس، فقال: ما لك لا تُصلِّ؟! ألست برجلٍ مسلمٍ؟! فقال: قد صليتُ يا رسول الله، فأمره أن يُصلي مع الناس.
والمسألة واضحة في هذا الباب، ليس فيها إشكال؛ لأنَّ جلوسه والناس يُصلون يُوجب ريبةً وظنَّ السوء فيه، وربما تعلل به مَن يتكاسل فيقول: صليتُ، وهو يكذب، فيظهر بمظهر المشاق والمخالف.
ومن هذا الباب: حديث أبي ذرٍّ لما ذكر النبيُّ ﷺ الأمراء الذين يُخرجون الصلاة عن وقتها، قال: صلِّ الصلاةَ في وقتها، فإن أُقيمت وأنت في المسجد فصلِّ معهم؛ فإنها لك نافلة، ولا تقل: صليتُ فلا أُصلِّي.
والخلاصة أنَّ الواجب المتأكد والمشروع لمن حضر قومًا يُصلون أن يُصلي معهم، فتكون له نافلة، سواء كان في المسجد، أو في غير المسجد؛ لعموم حديث أبي ذرٍّ، ولعموم حديث يزيد بن الأسود، فإنه يعمّ الذين يُصلون في المسجد، أو في الصحراء، أو البرية، أو في أي مكانٍ؛ لأنَّ العلة موجودة في الجميع.
وفي هذا حُسن تعليمه ﷺ وتوجيهه؛ فإنه ﷺ وجَّههما وعلَّمهما ولم يُعنِّفهما، ولم يسبّهما، فعلَّمهما لأنهما مظنة الجهل، فرفق بهما عليه الصلاة والسلام، وعلَّمهما هذا.
فهذا يدل على أنه ينبغي للمؤمن الذي يُعلم الناس أن يرفق بهم، وأن يُرشدهم بالتي هي أحسن؛ حتى لا ينفروا، وحتى يكون ذلك أقرب إلى قبول الحقِّ ووصوله إلى قلب الموعوظ المذكر.
ومن هذا قصته مع الأعرابي الذي بال، لما همَّ به الصحابةُ أن يقعوا به أمرهم أن يكفوا عنه، وعلَّمهم وقال: إنما بُعثتم مُيسرين، ولم تُبعثوا مُعسرين.
فهذا كله باب واحد في تعليم الناس وإرشادهم، إلا مَن ظلم، مَن تعدَّى وظلم وكابر وأبى أن يقبل الحقَّ؛ فهذا له شأن آخر؛ ولهذا قال سبحانه: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46]، استثنى الظالم، فله جدال آخر.
إذا عُلِّم المؤمن ووجِّه إلى الخير فامتثل فهذا هو المطلوب، أما إذا كان كابر وعاند وقال: لا أفعل هذا، هذا يحتاج إلى أمرٍ آخر من الغلظة عليه وتعزيره إذا اقتضى المقام ذلك؛ لأنه حينئذٍ ينتقل معه إلى الحال الأخرى التي تردع أمثاله عن المكابرة وعن التَّأخر عمَّا ينبغي.
والحديث الثاني: حديث أبي هريرة في متابعة الإمام وعدم مسابقته: فالإمام يُؤتمّ به، شرع الله الإمامة ليأتم المأمومون بالإمام، وتنتظم صلاتهم، ويُؤدونها على هيئةٍ مناسبةٍ، هيئة شرعية، هيئة فيها الأدب، وفيها النظام، كما يكون هذا في الجهاد في سبيل الله وفي القتال، يكون في الصلاة أيضًا، فلا بد أن تُؤدَّى بنظامٍ واتِّباعٍ للإمام، وعدم المسابقة والاختلاف، وقد جُعل لينتظموا في صلاتهم، وليُؤدوها على النحو الذي شرعه الله ، متابعين لإمامهم، لا مسابقين ولا متأخرين؛ ولهذا أُمروا بأن يُتابعوه: فإذا ركع ركعوا، وإذا كبَّر كبروا، إلى آخره.
وقوله: ولا تُكبروا .. ولا تركعوا هذا كله تأكيد لمقام المتابعة، من باب التأكيد والمبالغة في التعليم، فإن المتابعة تقتضي هذا؛ لقوله: ولا تُكبروا حتى يُكبر، ولا تركعوا حتى يركع، ولا تسجدوا حتى يسجد؛ لإيضاح المقصود، وأن المقصود أن يتأخَّروا عنه، لكن من دون مهلةٍ؛ ولهذا قال: فاركعوا، والفاء تأتي للتقييد باتِّصال، والمعنى أنهم يتأخرون عنه، لكن لا يتأخرون كثيرًا، بل قليلًا، إذا انتهى صوته مكبرًا كبَّروا، وإذا استوى راكعًا ركعوا، وإذا استوى ساجدًا سجدوا من غير مهلةٍ، هذا هو المشروع للمأمومين مع الإمام.
ولم يذكر النية، قال: لا تنوا غير نيته، فدلَّ على أن النية يُتسامح فيها، ذكر الأفعال والأقوال، وسكت عن النية، فدلَّ على أن النية مُغتفرة؛ ولهذا ثبت عنه ﷺ أنه صلى بأصحابه في بعض أنواع صلاة الخوف ركعتين، ثم سلَّم، ثم جاءت الطائفة الأخرى فصلَّى بهم ركعتين، فهما له نافلة، وهما لهم فريضة، فنيته النَّفل، ونيتهم الفرض.
وهكذا حديث معاذٍ لما صلَّى بأصحابه العشاء، وقد صلَّى مع النبي الفرضَ، فنيته نفل، ونيتهم فرض، ومن هذا أخذ العلماء جواز تأدية النَّفل خلف الفرض، وله نيته، فإذا جاء مَن صلَّى ولم يُصلِّ الظهر، فوجدهم يُصلون العصر، صلَّى معهم، وله نيته، هذا هو المختار.
وفي المسألة خلاف، لكن هذا هو الأظهر؛ حرصًا على الجماعة، فلو أنَّ قومًا صلوا الظهر، وتخلف آخرون، وجاءوهم وهم يُصلون العصر، فإنهم يُصلون معهم العصر بنية الظهر، ثم إذا سلموا قضوا العصر التي عليهم بعد ذلك؛ حتى لا تفوتهم هذه الجماعة، والنية مُغتفرة، والأفعال متَّفقة.
وهكذا على الأرجح المغرب: لو جاء قومٌ لم يُصلوا المغرب، والناس يُصلون العشاء في السفر أو في المطر، اختلف العلماءُ:
قال بعضهم: يُصلي معهم العشاء نافلةً، ثم يُصلي المغرب، ثم يُصلي العشاء.
وقال آخرون: يجوز في هذا عدم الترتيب؛ يُصلي العشاء، ثم يُصلي المغرب؛ لإدراك الجماعة.
والقول الثالث: أنه يُصلي المغرب معهم بنية المغرب، ثم يجلس في الثالثة وينتظر، ثم يُسلم مع الإمام، ثم يخرج يُصلي العشاء بعد ذلك. اختار هذا جماعة، وهو قول حسن وجيد، وهو معذور في الجلوس، كما يجلس المسبوق في غير محلِّ الجلوس للعذر، فالمسبوق الذي سبق بركعةٍ فأكثر يجلس مع الإمام حتى يُسلم الإمام، ثم يقوم يقضي، وهذه الجلسة ليست محل جلسةٍ، ليس هناك جلسة بعد الثالثة، ولكن لمتابعة الإمام جلس. وهكذا مَن سُبق بواحدةٍ يجلس معه في التَّشهد الأول، وليس محل جلوسٍ. وكذلك صلاة الخوف إن حصل بعض المخالفة؛ لأجل الحرص على الجماعة، ولم يضرّ ذلك في الصلاة؛ لأنَّ العذر شرعي؛ لأنهم في إحدى أنواع صلاة الخوف يتخلَّفون ويُكملون صلاتهم ثم ينصرفون، ثم تأتي الطائفةُ الأخرى ويُصلون معه، وفي صلاته إلى القبلة يتقدم ويُصلي بالصف الأول، ويتخلف الصف الثاني يحرس، فإذا قام الصفُّ الأول من سجودهم سجد الصفُّ الثاني، وهكذا في الركعة الثانية يتأخَّر الصفُّ الأول، ويتقدم الصف الثاني، ويفعل الصف الأول ما فعله الصف الثاني في الركعة الأولى.
فالتأخر لعذرٍ والمتابعة لعذرٍ شرعي ليس مُستنكرًا في الحكم الشرعي في الصلاة، وأنَّ هذا هو وجه هذا القول.
وقوله: فإن صلَّى قائمًا فصلوا قيامًا، وإن صلَّى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعين، هذا فيه حُجَّة على أنَّ الإمام إذا ..... فلا بأس أن يُصلي قاعدًا، والناس معه كذلك يُصلون قعودًا؛ متابعةً له، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، لكنه صرفه عن الوجوب ما فعله النبيُّ ﷺ في آخر حياته، فإنه تركهم يُصلون قيامًا، فخرج في آخر حياته في مرضه وصلَّى بالناس، صلَّى قاعدًا، وصلى الناسُ خلفه قيامًا يقتدون بأبي بكر، كان عن يمين النبي ﷺ، وهو يُصلي بالناس مبلغًا، والإمام هو النبي عليه الصلاة والسلام، فلم يأمرهم بالجلوس.
قالوا: فهذا يدل على جواز القيام.
وقال آخرون: أنَّ هذا ناسخ، كما قاله الزهري وجماعة: ناسخ للجلوس.
ولكن الصواب أنه ليس بناسخٍ؛ لأنَّ القاعدة أنَّ الجمع مقدم، حيث أمكن الجمعُ فهو أولى من النَّسخ، والجمع ممكن بأن يقال: بأن الجلوس هو الأفضل متابعةً للإمام، وإن قاموا وصلوا كما فعل النبيُّ ﷺ في آخر حياته فلا بأس.
وجمع آخرون جمعًا آخر، قالوا: إن شرع في الصلاة جالسًا جلسوا، وإن شرع فيها قائمًا ثم اعتلَّ أتموا قيامًا، قالوا: إن الصديق شرع في الصلاة قائمًا فصلوا قيامًا، والنبي ﷺ خرج وصلَّى بهم بعدما شرع الصديقُ في الصلاة، وكان هو الإمام بعد ذلك؛ فلهذا استمروا في القيام.
والقول الذي تقدم في أنه يدل على عدم الوجوب أولى وأظهر، هذا هو الظاهر من القصة؛ لأنَّ النبي ﷺ لم يُبين لهم أنَّ هذا من أجل قيام الصديق، بل أقرَّهم على قيامهم، فدلَّ على جواز الأمرين: القعود للمُتابعة، والقيام لأنه الأصل.
وقوله: أجمعين حال من قوله: صلوا جلوسًا أجمعين حال من الواو.
وجاء في الرواية الأخرى: أجمعون تأكيدًا للواو، من باب التأكيد، تقول: قام القومُ أجمعون، وجاء القومُ كلهم. فجاء القومُ أجمعين: حال من القوم، يجوز فيها الأمران: النصب حالًا، والرفع على التأكيد بالواو.
والحديث الثاني: حديث أبي سعيدٍ الخدري في قصة تأخُّر بعض الصحابة: أن النبي ﷺ أمرهم أن يتقدموا، لما رأى فيهم تأخرًا عن السبق إلى الصف الأول أمرهم أن يتقدموا؛ لأنهم قدوة، يتأسَّى بهم من بعدهم، والصحابة الأوائل يتأسَّى بهم الصحابةُ المتأخرون، والصحابة كلهم يتأسَّى بهم التابعون، فكان من المناسب والأولى أن يتقدموا ويُسارعوا؛ حتى يتأسَّى بهم أولادهم ومَن أسلم متأخرًا في المسارعة والمسابقة إلى الصف الأول، وهكذا بعد وفاته ﷺ يتسابق الناسُ إلى التأسي بأصحاب الرسول ﷺ، وكانوا هم القدوة، وهم الأئمة بعده ﷺ، فمن المناسب ومما ينبغي أن يتقدموا ويُسارعوا.
وهكذا ينبغي لأهل العلم وطلبة العلم أن يكون لهم ميزة في المسارعة إلى الخيرات، والتقدم إلى الصف الأول، والمسارعة إلى الجماعة؛ حتى يتأسَّى بهم العامَّة، إذا كان الصحابةُ يتأسى بهم أولادهم وحُدثاء العهد بالإسلام في المسابقة، ويتأسى بهم التابعون لهم بعد ذلك، فهكذا طلابُ العلم في كل زمانٍ، وفي كل مكانٍ، أهل العلم وطالب العلم ينبغي أن يتقدم، وأن يُسارع إلى المقامات الفاضلة، والأعمال الصَّالحة؛ حتى يتأسَّى به غيره من العامة، وحتى يثقَ به ويطمئنَّ إليه، وحتى يُنتفع بعلمه وأعماله، إذا رأى منهم المسابقة والتنفيذ فيما يدعو إليه من الخير، وأنه من أسبق الناس إليه.
هكذا ينبغي أن يكون الدَّاعي أسبق الناس، أو من أسبق الناس إلى ما يدعو إليه، وأن يكون النَّاهي أبعد الناس أو من أبعد الناس عمَّا ينهى عنه؛ حتى يُحسن به الظنّ، ويُنتفع بعلمه.
وفي رواية عائشة عند أبي داود بسندٍ جيدٍ: أن النبي ﷺ قال: لا يزال الرجلُ يتأخَّر عن الصفِّ المقدم حتى يُؤخره الله في النار هذا يدل على شدة الأمر في هذا، وأنه لا ينبغي للمؤمن أن يتساهل، فإنه إذا تساهل في التأخر أفضى به هذا إلى ترك الصلاة في الجماعة، فيلحقه الوعيدُ الشديد، فالمسابقة إلى الصفِّ الأول فيها حرز للجماعة، وحيطة للجماعة، فمَن سابق إلى الصف الأول فهو حري بألا تفوته الجماعة، بخلاف مَن تساهل فيأتي في الصفِّ الثاني والثالث والرابع، فإنه ربما أفضى به التَّساهل حتى تفوته الصلاةُ بالكلية، أو يفوته معظمها.
فينبغي للمؤمن ألا يتساهل، وأن يكون مع المتسابقين إلى الصف الأول؛ حتى يُحرز فضله وفضل ما وراءه من الصفوف، وحتى يكون ذلك أحرز للجماعة، وأحفظ لأدائها في الجماعة، وأبعد عن التأخر عنها.
وحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه يدل على أنه كان يُصلي في المسجد بعض الأحيان النافلة، وكان هذا في صلاة الليل، وكان هذا في رمضان، كما جاء في الرواية الأخرى: ربما اتّخذ حجزةً يحجزها في ..... المسجد من القصب، من السعف، وعلم به أصحابُه في بعض ليالي رمضان فتأسَّوا به ليلتين أو ثلاثة، ثم تأخَّر ولم يخرج، واعتذر إليهم بأنه خاف أن تُفرض عليهم، وحثَّهم على الصلاة في البيت وقال: أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.
فهذا يدل على أنَّ صلاة الجماعة نافلة جائز، ولا بأس، وأنه يُشرع كما في التراويح؛ فإنه صلَّى بهم جماعة ليالٍ، وكانوا يُصلون جماعةً في المسجد، كانوا يُصلون أوزاعًا .....، والرجل يُصلي بالرجلين والثلاثة، والرجل بأكثر من ذلك في المسجد، ويُقرهم النبيُّ ﷺ، فدلَّ ذلك على شرعية صلاة التراويح جماعةً في رمضان، وجواز صلاة النافلة جماعة في بعض الأحيان، كما في التراويح، وكما في قصصٍ له ﷺ وقعت، فإنه صلَّى في بيت أم سليم جماعة بأنسٍ واليتيم وأم سليم، وصلَّى ببيت عتبان جماعةً لما زاره، فدلَّ على جواز الجماعة نافلةً في بعض الأحيان، من غير أن يكون لها راتبة معروفة، بل على حسب الصدفة.
وهكذا صلاة سلمان مع أبي الدَّرداء لما زاره جماعة في الليل.
فهذا يدل على أنه لا بأس ولا مانع، بل يُستحب ذلك عند الاجتماع في البيت أن يُصلوا جماعةً الوتر، التهجد، ولا يكون شيئًا منظمًا؛ لأنَّ الرسول لم يُنظم ذلك جماعة في غير رمضان عليه الصلاة والسلام.
أما التراويح فيُستحب أن تُؤدى جماعةً؛ لأنَّ الرسول حثَّ على ذلك، ورغَّب في ذلك، وفعله بنفسه، ثم ترك وقال: إني أخاف أن تُفرض عليكم صلاة الليل؛ ولهذا جمع عمرُ الناسَ على إمامٍ واحدٍ في زمانه، وعرف أنَّ الأمر قد أمن منه؛ لأنَّ الوحي قد انقطع بموت النبي عليه الصلاة والسلام، فأمن الفرض؛ ولهذا بقيت صلاةُ الجماعة ليس لها معارضٌ، ففعلها المسلمون في عهد عمر ومَن بعده رضي الله عنهم وأرضاهم؛ أخذًا بالسنة، وأخذًا بالمعنى الذي أشار إليه النبيُّ عليه الصلاة والسلام.
أما في غير ذلك فالنافلة أفضل في البيت، النافلة في البيت أفضل، أما الفرائض ففي المساجد؛ ولهذا في الحديث الصحيح الآخر: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتَّخذوها قبورًا رواه الشيخان. وفي لفظ مسلم: فإنَّ الشيطان يفرُّ من البيت الذي تُقرأ فيه سورةُ البقرة.
فالسنة أن تُتّخذ البيوت محلًّا لصلاة النافلة، والفرائض في المساجد، فيكون للبيت حظُّه من بركة الصلاة وخيرها، وللمسجد ما شرع الله فيه من الفرائض وما يتبعها من تحية الصلاة وصلاة الكسوف وصلاة الأعياد ونحو ذلك.
...............
أما بعد: فيقول المؤلفُ رحمه الله: عن جابرٍ ، عن النبي ﷺ أنه قال: أتريد يا معاذ أن تكون فتَّانًا؟!.
وكان سبب هذا أنه شكوه جماعته وقالوا: إنه يُطول بنا. فلهذا قال له النبيُّ هذا الكلام: أتريد أن تكون فتَّانًا؟! أي: تفتن الناس حتى ينقسموا، حتى يختلفوا بسبب طولك في القراءة في الصلاة.
والمؤمن ينبغي أن يكون جماعًا ورابئًا للصدع، محسنًا للناس، دارئًا أسباب الفتنة والفرقة، ولا يكون بالعكس، فطول الصلاة التي تضرّ الناس وتشقّ عليهم يُسبب فتنةً، فهؤلاء يُنكرون ذلك ويعيبون، والآخرون مع الإمام يمدحون ويُثنون، فيحصل الفرقة والاختلاف؛ ولهذا أمر النبيُّ ﷺ بالشيء الذي فيه الرفق بالناس وجمع الكلمة، وقراءة الشيء الذي ليس فيه طول ولا مشقة: كأوساط المفصل .....: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1]، واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1]، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1].
وكان يؤمّهم -يؤم أصحابه- ويُطول عليهم، وربما قرأ بالبقرة فيشقّ ذلك على الناس؛ ولهذا علَّمه النبيُّ ﷺ الرفقَ بالناس، وجمع الكلمة، فكان يُصلي مع النبي العشاء؛ حرصًا على حضوره صلاته معه، وسماع قراءته، والاستفادة من ذلك، ثم يرجع فيُصلي بأصحابه.
وفي هذا دلالة على أنَّ الواجب على الإمام أن يتحرى ما فيه الرفق للمأمومين وجمع كلمتهم، وجمع كلمتهم على محبَّته والرضا عنه، وعدم اختلافهم عليه، فإن اختلافهم عليه يُسبب مشاكل، فالرفق بهم فيه المصلحة العامَّة للجميع، فتُؤدَّى الصلاة بخشوعٍ وطُمأنينةٍ و.....
وفي هذا دلالة على أنَّ هذه السور مما يُقرأ به في العشاء وغيرها، في الصَّلوات التي لا يُطول فيها: كالعصر والمغرب وغير ذلك، أما الظهر فكان يُطول فيها عليه الصلاة والسلام، والفجر كذلك، فيُزاد في القراءة على ذلك ما هو مناسب لفعله عليه الصلاة والسلام: كان يقرأ في الفجر بـ"ق" و"الطور" وأشباه ذلك، والظهر كان يُطول فيها عليه الصلاة والسلام نحوًا من الفجر، أو قريبًا من الفجر، وربما أطال أكثر من ذلك.
فينبغي للمؤمن أن يُراعي ما فعله النبيُّ ﷺ، فإن فعله هو التَّخفيف، فعله هو التَّخفيف، وفعله يُفسر ذلك؛ لأنَّ التخفيف أمر نسبي، فقد يعدّ قومٌ تطويلَ إنسانٍ تخفيفًا، وقد يعدّ آخرون تخفيفَ الإنسان تطويلًا، فهو أمر نسبي، فلا يمكن ضبطه إلا بفعل النبي عليه الصلاة والسلام، فما فعله النبيُّ ﷺ ونبَّه عليه هو التَّخفيف، وما زاد على ذلك زيادةً بينةً واضحةً فهو [عدم] التَّخفيف.
وفي الحديث الثاني: حديث عائشة رضي الله عنها في صلاة النبي وهو مريض عليه الصلاة والسلام، فيها أنَّ الرسول ﷺ خرج إلى الناس في مرضه، وكان هذا في مرض موته عليه الصلاة والسلام، فجلس عن يسار أبي بكر، كان أبو بكر قد أقام للناس الصلاة، فوجد خفَّةً وخرج وهادى بين العباس عمه وابن عمه عليّ حتى أجلسوه عن يسار أبي بكر بأمره عليه الصلاة والسلام، فصار يُصلي بالناس جالسًا عليه الصلاة والسلام، وأبو بكر على حاله قائمًا يُبلِّغ الناس صلاته عليه الصلاة والسلام، فدلَّ ذلك على أمورٍ وعلى فوائد مهمة:
منها حرصه ﷺ على التبليغ بالفعل والقول عليه الصلاة والسلام، فإنه كان أنصح الناس للناس، وأكملهم أمانةً وتبليغًا.
ومنها حرصه على الجماعة وأداء الصلاة في الجماعة، حتى وهو يُهادى بين الرجلين؛ ولهذا كان بعضُ الصحابة يتأسَّى به في هذا؛ فيُؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف؛ حرصًا على الجماعة.
في هذا الحثّ على الجماعة والحرص عليها، ولو كان يُهادى بين الرجلين، من أجل فضل الجماعة، ومن أجل ترغيب الناس في ذلك؛ حتى يتأسّى به.
ومن الفوائد: أنَّ المأموم يكون عن يمين الإمام، إذا كان واحدًا يكون عن يمين الإمام.
ومنها أنه يجوز أن يكون النائبُ المبلغ عن يمين الإمام، لا في الصف، إذا كانت فيه مصلحة؛ ليراه الناس، ويكون أبلغ لصوته، أو لأسبابٍ أخرى. أما إذا كان ما هناك مصلحة ولا أسباب فإنه يكون مع الناس، ويُبلغ وهو مع الناس في الصف، لكن هذه الواقعة تدل على أنه إذا كانت هناك مصلحة يكون عن يمين الإمام.
ومنها جواز صلاة المأمومين قيامًا خلف الجالس، وأن الأمر بقوله: فصلوا جلوسًا ليس للوجوب، بل للنَّدب، وهذه القاعدة: إذا أمر النبيُّ بشيءٍ وفعل خلافه ففعله يدل على عدم الوجوب، وإذا نهى عن شيءٍ ثم فعله فالنَّهي يدل على عدم التحريم؛ لأنه ﷺ لا ينهى عن شيءٍ ثم يفعله وهو محرم، ولا يأمر بشيءٍ ويتركه وهو واجب، وهو أسرع الناس إلى كل خيرٍ، لكن فعله يُبين للناس مُراده، ويكون فعله راجحًا؛ لأنَّ فيه البلاغ، وإن كان فعل غيره ليس براجحٍ، لكن فعله لما نهى عنه أمر راجح؛ لأجل البيان، وتركه لما أمر به يكون راجحًا؛ لأجل البيان، فيكون مأجورًا على بيانه ﷺ بالفعل والقول عليه الصلاة والسلام.
وقد جاء في بعض الروايات أنه صلى مأمومًا، وأن الإمام هو أبو بكر، ولكن الصواب والراجح عند أهل العلم ما ذكرته عائشة هنا، وأنه هو الإمام ﷺ، وأبو بكر مأموم مُبلِّغ.
ولم يثبت أنه صلَّى خلف أحدٍ من أمته إلا صلاته خلف عبد الرحمن بن عوف في تبوك، فإنه ﷺ تأخَّر ذات صباحٍ عن الجماعة، وذهب لحاجته ومعه المغيرة، فلما أبطأ على الناس قدَّموا عبد الرحمن لصلاة الفجر، وصلَّى بهم، فجاء النبيُّ ﷺ وعبد الرحمن يُصلي، وقد صلَّى ركعةً، فلما رآه عبد الرحمن أراد أن يتأخَّر، فأشار إليه النبيُّ ﷺ أن كمل، وصفَّ مع الناس عليه الصلاة والسلام هو والمغيرة، وصليا مع عبد الرحمن ما بقي -ما أدركوه- وهو واحدة، فلما سلَّم عبد الرحمن قام النبيُّ وقام المغيرةُ فصليا تلك الركعة التي فاتتهما، ولم يؤم النبيُّ ﷺ المغيرةَ، بل صلَّى لنفسه، وصلى المغيرة لنفسه، فدلَّ ذلك على أنَّ مَن فاته بعضُ الصلاة يقضي بعد السلام، ويقضي وحده، ولا يكون إمامًا لغيره، هذا هو المشروع كما فعله النبي مع المغيرة.
وفيه فضل لعبد الرحمن ومنقبة: كونه صلَّى خلفه النبيُّ عليه الصلاة والسلام، ولما سلم قال: أحسنتُم أو أصبتُم، فدلَّ ذلك على أنَّ مَن تأخر عن المأمومين وصلوا أنهم قد أحسنوا، فلا ينبغي للإمام أن يُنكر عليهم كما يفعل بعض الجهلة إذا صلوا وقد تأخَّر عليهم وحبسهم يُنكر عليهم، وربما أمرهم بالإعادة، وهذا غلط كبير مخالف للسنة، فإذا تأخَّر عنهم عن العادة وصلوا فلا حرجَ ولا بأس، ولا إعادةَ عليهم، ولا ينبغي أن يتكلف، ولا ينبغي أن يكره ذلك.
وقد صلى أبو بكرٍ بالناس في المرة الأخرى لما غاب النبيُّ ﷺ عند بني عمرو بن عوف يُصلح بينهم، فلما كبَّر أبو بكر جاء النبيُّ ﷺ وشقَّ الصفوف وتقدم حتى صار خلف أبي بكر، وشرع الناس يُصفقون حتى انتبه أبو بكر والتفت، فرأى النبيَّ ﷺ، وكان لا يلتفت ، فلما رأى النبيَّ ﷺ أشار له النبيُّ أن يُكمل، فرفع يديه وحمد الله ثم تأخَّر، وتقدم النبيُّ ﷺ فصلى بالناس.
هذا يدل على أنَّ الإمام مُخير: إن شاء تقدم، إذا صلَّى بعضُ الجماعة بالجماعة ثم جاء وهم في الصلاة مخير: إن شاء تقدم، وإن شاء ترك، والأفضل الترك إذا كانوا قد صلوا شيئًا، إذا كانوا قد صلوا ركعةً فأكثر، كما فعله النبيُّ في قصة عبد الرحمن، أما إذا كان في أول ركعةٍ فهو مخيَّر: إن شاء تقدم وصلَّى بهم، وإن شاء صلَّى مع الناس.
كان النبي ﷺ يأمرنا بالتَّخفيف، ويؤمنا بالصافات، يعني: في بعض الأحيان، فدلَّ ذلك على أنَّ التَّخفيف لا يُنافي أنه يُطول بعض الأحيان للتعليم، أو لمصلحةٍ دعت إلى ذلك.
قال أبو سعيدٍ: قام النبيُّ بصلاة الظهر، فيذهب أحدُنا إلى البقيع فيقضي حاجته ويتوضأ ثم يأتي ويُدركه في الركعة الأولى.
فهذا يدل على أنه كان يُطول في الظهر تطويلًا كثيرًا، هذا يدل على أنَّ الإمام له أن يُطول بعض الأحيان للتعليم أو لحاجةٍ عرضت للمأمومين، أو لتأخرهم ليلحقوا، أو لأسبابٍ دعت إلى ذلك؛ ليلحقوا أو ما أشبه ذلك من أسبابٍ دعت إلى ذلك، لكن لا يكون هو الغالب، الغالب هو مُراعاة النبي ﷺ من عدم المشقة، وأن تكون صلاةً متوسطةً، ليس فيها طول يشقّ على الناس، ولا تخفيف يخلّ بالطمأنينة، ويخلّ بالأداء المشروع .....
والحديث الرابع والخامس: حديث عمرو بن سلمة وأبي مسعودٍ البدري الأنصاري، عمرو بن سلِمة الجرمي، بكسر اللام: ابن سلِمة، وهكذا بنو سلِمة من الأنصار بكسر اللام، يقال فيه: السلمي عند النسبة، وعند الإفراد يقال: سلمة، وعند النسبة يقال: سلمي.
وهذا عمرو بن سلمة الجرمي صحابي صغير، يقول في حديث .....، وأنه سمعه يقول: إذا حضرت الصلاة فليُؤذن لكم أحدُكم، وليؤمكم يقال: يؤم، ويأم، يؤم بالضم اتِّباعًا .....، والفتحة على الأصل؛ لأنه مشدد فيُفتح: لم يصح، لم يحل، لم يؤم، فيُفتح للجزم.
وليؤمكم أكثركم قرآنًا، فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآنًا فقدَّموني وأنا ابن ستّ أو سبع سنين. الحديث.
وفي حديث أبي مسعودٍ، وأبو مسعودٍ هذا هو عقبة بن عمرو الأنصاري البدري، يقع في بعض النسخ تصحيف: ابن مسعود، وهذا غلط: أبو مسعود.
يؤم القومَ أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًّا. وفي لفظٍ: سلمًا يعني: إسلامًا، ولا يؤمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، وفي لفظٍ: في أهله، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه رواه مسلم.
ورواية ابن ماجه عن جابرٍ: ولا تؤمن امرأةٌ رجلًا، ولا أعرابي مهاجرًا، ولا فاجر مؤمنًا. وإسناده واهٍ.
ورواية جابر هذه ضعيفة، فلا يُتعلق عليها كما قال المؤلفُ رحمه الله.
ويدل الحديثان على شرعية تقديم أهل القرآن في الإمامة، وأهل القرآن هم أهل العلم؛ لأنَّ القرآن هو أصل العلم، فالقراء هم أهل العلم والبصيرة والفقه في الدِّين، فيُقدم أقرأهم.
واختلف العلماءُ في معنى "أقرأهم": هل هو معنى الأجود ..... أو الأكثر؟
وحديث عمرو بن سلِمة يُؤيد قول مَن قال أنَّ الأقرأ الأكثر؛ لأنَّ الروايات يُفسر بعضها بعضًا: وليؤمكم أكثركم قرآنًا هذا يُبين أن الأقرأ يعني: الأكثر قراءةً، مثلما يقال: أجود الناس، يعني: أكثرهم جودًا وإنفاقًا.
وقال بعضُ أهل العلم: أقرأ يعني: أجود، كما يقال: فلان أشجع الناس، أحسن الناس قراءةً، يعني: من جهة الصفة.
وتفسير السنة بالسنة أظهر من تفسيرها بالرأي المجرد المحتمل، فإن "أقرأ" صيغة مبالغة، صيغة تفضيل، فيحتمل الجودة، ويحتمل الكثرة، لكن رواية عمرو بن سلمة تُفسر المعنى، وأنه الكثرة، وأنه كان أكثر؛ لأنَّ الغالب أن الصحابة كانوا يعتنون بهذا وهذا: يعتنون بالجودة، ويعتنون بالكثرة، لكن مَن كان أكثر صدق عليه الأقرأ من كثرة ما معه، ومن جهة أنهم في الغالب متقاربون في الصفة؛ ولأنَّ الأكثر قرآنًا في الغالب يكون أكثر علمًا في الأحكام الشَّرعية.
فترجح عندي الآن أن تفسير الأقرأ بالأكثر أولى؛ لأنه تفسير للسنة بالسنة؛ ولأنَّ الغالب على مَن كان أكثر قرآنًا أن يكون أكثر علمًا، وأكثر فقهًا في الأحكام الشرعية، فيكون هذا أولى.
فإن تساووا فأجودهم من جهة حُسن القراءة والعناية بالحروف وتجويدها ونحو ذلك مما يكون فيه نوع من التَّحسين.
عند التساوي تنظر الكيفية، وعند الكثرة يُقدم الأكثر قرآنًا كما هو نص حديث عمرو بن سلمة: فإن تساووا أو تقاربوا في ذلك فأعلمهم بالسنة فقهًا فيها وعنايةً لها.
فإن تساووا وتقاربوا فأقدمهم هجرةً يعني: مَن هاجر أولًا، فمَن هاجر أولًا في الغالب أكثر علمًا، فإن تساووا أو كانوا كلهم وُلِدُوا في الإسلام، ليسوا مهاجرين: فأقدمهم سلمًا يعني: إسلامًا، وهو أكبرهم سنًّا، كما جاء في الرواية الأخرى: فمَن كان أكبر سنًّا أو أقدم سلمًا، فإن كان أصلهم كفارًا ثم أسلموا، فأقدمهم إسلامًا، من جنس أقدمهم هجرةً، فيُقدم.
وهذا في غاية الحسن، وفي غاية العناية، ومن محاسن الشريعة، ومن كمالاتها: أنها راعت هذه الأمور، وجعلت الناس منازل بحسب علمهم، وما يدل على العلم ويُرشد إليه، وأنَّ السلطان صاحب البيت أولى بالإمامة في سلطانه وفي بيته، وأولى بتكرمته ومجلسه، إلا أن يُؤثر، إذا آثر وأذن فلا بأس، إذا أذن أن يؤمه غيره في سلطانه وفي أهله؛ لعلمه وفضله ونحو ذلك فلا بأس، كذلك إذا أذن في الجلوس على تكرمته -وهو محلّ جلوسه الخاص- فلا بأس، هذا إليه، فإن أذن فيه فلا بأس.
وفي حديث عمرو بن سلمة دلالة على جواز إمامة الصَّغير إذا عقل وميَّز، كثير من الفقهاء يرون أنه لا يؤم ولا يحصل به المصافة، وهذا قول غلط وضعيف، والصواب أنه يؤم ويصاف، وقد صفَّ أنسٌ مع اليتيم خلف النبي ﷺ، والأصل أنَّ النوافل والفرائض سواء في الأحكام، إلا ما خصَّه الدليل. وأما عمرو هنا فهو صغير؛ لعلمه وفضله وكثرة قراءته.
فدلَّ ذلك على أن الصغير يكون إمامًا إذا كان أهلًا لذلك؛ لعلمه وكثرة قراءته وتمييزه، ويكون إمامًا وإن كان صغيرًا ابن سبع سنين أو ست سنين، فيُحمل الشكُّ على السبع؛ لقول النبي ﷺ: مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبعٍ؛ لأنَّ الغالب أن ابن السبع هو صاحب التَّمييز، فيؤم القومَ وإن كانوا كبارًا، وإن كانوا شيوخًا، إذا كان أعلم منهم، وأقرأ منهم، وإذا كان يُتقن الصلاةَ ويقوم بها كما ينبغي فإنه يُقدم لهذا الحديث الصحيح.
أما حديث جابرٍ: لا تؤُمَّنَّ امرأةٌ رجلًا، ولا أعرابيٌّ مهاجرًا، ولا فاجرٌ مؤمنًا فهو ضعيف الإسناد، ولكن جزء منه في عدم إمامة المرأة للرجال هذا حقّ، وهو الذي عليه أهل العلم، فلا تكون إمامة للرجال، بل تكون إمامةً للنساء، ولا تؤم الرجال؛ لأنَّ الإمامةَ نوعٌ من الإمرة والسلطنة، وهي لا تصلح لذلك؛ ولهذا في الحديث الصحيح: لن يُفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة، فلا يليق؛ ولأنها عورة، فإمامة النساء قد تفتنهم، أي: إمامتها الرجال قد تفتن الرجال، فلا تليق إمامتها بالرجال.
ولا أعرابي مُهاجرًا هذا ليس بجيدٍ؛ لضعف الحديث، فإذا كان الأعرابيُّ أحسن علمًا وأجود علمًا من المهاجر فلا بأس؛ لحديث أبي مسعودٍ المتقدم.
ولا فاجر مؤمنًا صحيح، الأولى ألا يؤم الفاجرُ المؤمن، لكن إذا كان هناك داعٍ ومُوجب لسلطانه وإمرته فلا بأس؛ لأنهم هم الأئمة، الأمراء هم الأئمة، فلا بأس أن يُصلَّى خلفهم، وأن يكونوا أئمةً كما كان في عهد سلفنا الصالح، وكما جرى للحجاج وإمرة الحجاج، وإذا أمَّ غيرُه، جعل غيرَه يؤمّ وتنازل كان هذا أفضل في حقِّه، إذا عرف نفسه وتنازل أو أشار إليه مَن يستطيع ذلك أن يجعل غيره إمامًا من أهل التقوى والعلم والفضل كان هذا أولى؛ حتى تطمئن القلوب، وحتى ترتاح النفوس، وحتى يكون هذا أوثق للصلاة، فإن لم يتيسر جاز أن يُصلي بالناس، كما في الحديث الصحيح: يُصلون لكم، فإذا أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم، ولغيره من الأدلة الدالة على أنَّ الأمراء هم أولى الناس بالإمامة، والله أعلم.
س: ................؟
ج: الظاهر لا بأس به؛ لأنَّ الحاجة تدعو إليه؛ لأنَّ الحرمين واسعة وبعيدة الأرجاء، فبعض الناس لا يسمع صوت الإمام في بعض الأحيان، يخفى صوت بعض الأئمة، ما يرفع صوته كما ينبغي، فالمبلغ فيه حيطة للناس.
س: ...............؟
ج: وجه هذا أنها لا تجب عليه، هذا وجه مَن قال بذلك، والصواب لا بأس.
أما بعد: فهذه الأحاديث الأربعة تتعلق بصلاة الجماعة، وبمنع صلاة الرجل خلف الصفِّ، ومنع العدو والسرعة في التَّوجه إلى الصلاة.
الحديث الأول: عن وابصة بن معبد الجهني: أن النبي ﷺ رأى رجلًا ُيصلي خلف الصفِّ وحده، فأمره أن يُعيد الصلاة. خرجه أبو داود والترمذي، وحسنه وصححه ابن حبان.
وله -أي ابن حبان- عن طلق بن عليٍّ: لا صلاةَ لمنفرد خلف الصف.
وفي الحديث ..... الطبراني: ألا دخلتَ معهم أو اجتررتَ رجلًا.
ورواه أحمد وغيره عن ابن شيبان: أن النبي ﷺ قال: لا صلاةَ لمنفردٍ خلف الصف، وهو لا بأس بإسناده.
وهذه الأحاديث الثلاثة: حديث وابصة، وحديث طلق بن علي الحنفي، وحديث علي بن شيبان، كلها تدل على أنه لا يجوز للرجل أن يُصلي خلف الصف وحده، بل عليه أن يُصلي مع الناس، ويدخل في الصفِّ، وأن مَن صلى خلف الصف يُؤمر بالإعادة؛ لكونه وقف موقفًا لا يليق ولا يُقره الشرع، فوجب عليه أن يُعيد.
والأحاديث الثلاثة لا بأس بها، وحجة قائمة في المنع من الانفراد خلف الصف، كما يدل عليه أيضًا حديث أبي بكرة المتقدم: زادك الله حرصًا ولا تعد، فنهاه أن يعود إلى ركوعه دون الصفِّ، فصارت أربعةً في المقام.
والواجب على مَن جاء أن يلتمس له فرجةً، وألا يقف وحده، بل يُتابع الصفَّ، ويتأمل، ويراصّ بين الناس؛ حتى يسد الفرج، وحتى يفتح له فرجةً في آخر الصف، أو في أثناء الصف تتسع له، من دون أذى، فإن لم يجد تقدم وصفَّ عن يمين الإمام ولا بأس؛ لحاجةٍ.
أما أن يقوم يُصلي خلف الصفِّ فلا، فإن فعل أُمر بالإعادة، كما أمر النبيُّ ﷺ بالإعادة، لكن لو ركع ثم دخل في الصفِّ فلا حرج، كما فعل أبو بكرة كما تقدم، ولم يأمره النبيُّ بالإعادة، فدلَّ ذلك على أنَّ مَن ركع دون الصفِّ ثم دخل في الصفِّ، أو جاء وصفَّ معه آخر، فلا حرج؛ جمعًا بين الأدلة التي جاءت في الباب، وإنما تبطل صلاته إذا استمر في ذلك وسجد أو كمل الصلاةَ، فإنه يُؤمر بالإعادة؛ جمعًا بين النصوص الواردة في هذا الباب.
وذهب الأكثرون إلى صحة الصلاة، وأنَّ هذا من باب الأدب، من باب الكمال، وليس من باب الإيجاب.
والحق قول مَن قال بالوجوب، وأنَّ الواجب عليه ألا يصفَّ وحده، وأن صلاته تنقض بذلك؛ لأنَّ هذا هو الأصل في النَّواهي، والأصل في النَّفي: لا صلاةَ لمنفردٍ خلف الصفِّ، هذا هو الأصل، ثم فعل النبي ﷺ وأمره لمن صلَّى أن يُعيد يُوضح هذا المعنى، وأن المراد نفي الإجزاء، نفي الصحة في قوله: لا صلاةَ لمنفردٍ خلف الصفِّ.
واحتج بعضُهم بأن الإمام يُصلي وحده، وهذه حجة باطلة؛ فإنَّ الإمام يُصلي وحده، مُقَرٌّ على هذا، مأمور بهذا، فلا يُقاس المأمور به على المنهي عنه، هذا من أفسد القياس، شيء منهي عنه يُقاس مع شيءٍ أُمِرَ به؟!
الإمام ينفرد بأمر الله ورسوله، كما شرع الله ينفرد، وهو القدوة للمأمومين، يبرز قدامهم، يرونه؛ حتى لا يخفى عليهم صوته .....، ويقتدوا به.
وأما المنفرد خلف الصفِّ فليس من هذا المعنى؛ لأنه منهي، وهذا يُشعر بأنَّ الشارع له قصد في الاجتماع وعدم الشذوذ، ثم هو وسيلة أيضًا إلى أنه يتساهل فلا يُكمل الصفّ، إذا عرف أنه إذا صلَّى وحده خلف الصفِّ أجزأه قد يتساهل فلا يُبالي بتقدمه إلى أطراف الصفوف، ويفرح بالعجلة، فكان من حكمة الله أن منع هذا حتى يجتهد الداخلُ في التماس الفرجة وإكمال الصفوف وعدم التَّساهل.
والحديث الثالث: حديث أبي هريرة : أنَّ النبي ﷺ قال: إذا سمعتُم الإقامةَ فامشوا وعليكم السَّكينة والوقار، ولا تُسرعوا، فما أدركتُم فصلُّوا، وما فاتكم فأتمُّوا هذا هو الأكثر.
وجاء في بعض الروايات: فاقضوا، والمراد بالقضاء هنا ليس المصطلح عليه عند الفقهاء، وهو ضد الأداء، لا، المراد بالقضاء هنا هو بمعنى الإتمام، معنى: أتموا سواء بسواء؛ لأنَّ الشرع جاء بهذا، واللغة جاءت بهذا، قال الله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [النساء:103]، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200]، يكون بمعنى الإتمام: إذا أتممتم .....، فهو بمعنى الإتمام، ومعنى الفراغ.
فالمصلي إذا أدرك الإمامَ في أول الصلاة فهي أول صلاته كغيره من الناس، وإن أدركه في الركعة الثانية وما بعدها فهي أول صلاته أيضًا على الصحيح، وما يقضيه آخرها؛ لأنَّ معنى "قضى" بمعنى الإتمام، وليس معنى القضاء أي: ما فات، أي: ضد الأداء، لا، المعنى يعني: أتموها.
فالروايتان متَّفقتان ومجتمعتان على معنى واحدٍ، وهو الإتمام والإكمال، فما أدركه فهو أول صلاته، وما يقضيه هو آخرها، هذا هو المعتمد، وهو ظاهر النصوص.
فعلى هذا إن فاتته ركعةٌ من العشاء أو من المغرب فإنه يقضي بالسرِّ؛ لأنَّ ما يقضيه هو آخر صلاته، وما أدركه مع الإمام هو أولها، فلا يقضِ بالجهر، بل يقضِ بالسرِّ، وإذا فاتته ركعتان كذلك يقضي الركعتين الباقيتين بالسر؛ لأنهما آخر صلاته، فإن فاتته ثلاث ولم يُدرك إلا واحدةً فإنه إذا قام يأتي بالثانية يأتي بها جهرًا، كما تُؤدَّى جهرًا القراءة، لكن جهرًا لا يُؤذي مَن حوله، جهرًا خفيفًا، ثم يُصلي الباقيتين سرًّا؛ لأنهما آخر صلاته.
ثم أيضًا من فوائد ذلك: أنه إذا ترك ثلاثًا -[أدرك] واحدةً- فإنه إذا قام يأتي بالثانية يقرأ الفاتحة ومعها زيادة، ثم يُصلي ثنتين بالفاتحة، كما ثبت في حديث أبي قتادة؛ فإنه ﷺ كان يُصلي ثنتين بالفاتحة: الثالثة والرابعة.
وفيه من الفوائد -وهو المقصود- أنه لا ينبغي الإسراع لمن أتى وقد أُقيمت الصلاة، ..... في الطريق يُقيم فلا يُسرع، ولا يعجل، ولا يركض، ولا يعدو، بل يمشي عليه السَّكينة والوقار والهدوء، فما أدرك مع الإمام صلَّى، وما فاته قضاه، ولا حاجةَ إلى السرعة والعجلة، حتى لو فاتته كلها لا حاجةَ للسرعة، فإن كان تخلَّف لعذرٍ فهو معذور، وأجره كامل وإن فاتته، أما إن تخلَّف لغير عذرٍ فهو آثمٌ لتخلفه، ولكن لا يعجل.
وقد تفوته الصلاةُ مع الإمام لكن أجره كامل؛ لأنه معذور بأن حدث له حادثٌ منعه من التَّقدم، أو حدث له غائط أو بول فاشتغل بالوضوء فإنه معذور، أو أنَّ حادثًا يمنعه من هذا الشيء الذي هو التَّقدم والسُّرعة: كمرضٍ منعه من ذلك، أو عدوٍّ منعه من ذلك.
فالحاصل أنه لا وجهَ للسرعة أبدًا، بل ينبغي الهدوء وعدم العجلة في الطريق: لا في الطريق، ولا في المسجد إذا دخل، بل يدخل وعليه السَّكينة، فما أدرك صلَّى مع الإمام، وما فاته قضاه وأتمه بعد الفراغ.
وفي الصحيح عن أبي هريرة : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: مَن أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاةَ، فمَن أدرك منها فقد أدركها -كمالها- وأدرك الجماعة، وإن كان فاته من الأجر ما حصل لمن أدرك أولها، لكنه لا تفوته الجماعة والمضاعفة، ولكن ليس هو مثل مَن دخل في أولها، ذاك له فضل خاصٌّ، لكن هذا الذي أدرك ركعةً منها أو ركعتين أدرك الجماعة -فضل الجماعة-.
والحديث الرابع: حديث أُبي بن كعبٍ الأنصاري، أحد القُراء، ويقال له: سيد القراء، وهو من أفاضل الصحابة وعلمائهم من الأنصار.
عن النبي أنه قال: صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحبّ إلى الله رواه أبو داود والنَّسائي بإسنادٍ حسنٍ، وصححه ابن حبان، وإسناده حسن.
وهو يدل على شرعية كثرة الجماعة، فكلما كثرت فهو أولى.
هذا يُفيد أنه ينبغي عدم تعدد المساجد مهما أمكن، فإن تعددها يُفضي إلى إضعاف الجماعة وقلَّتها، وكلما كانت المساجد أقلّ كان الجمعُ أكثر، فمهما أمكن أن يكون أهلُ الحي في مسجدٍ واحدٍ فهو أفضل؛ حتى يتعارفوا، ويرى بعضُهم بعضًا، ويكثر الجمع في الصلاة، إلا إذا دعت الحاجةُ للتَّعدد -لاتساع البلد أو أشباه ذلك- فلا بأس.
المقصود أنَّ كثرة الجمع أفضل؛ لما فيه من الفوائد الجمة، فالأولى بأهل الحارة والمحلة أن يجتمعوا في مسجدٍ، وألا يكون تعدد المساجد مهما أمكن؛ لأنَّ هذا خيرٌ لهم، وأفضل لهم؛ ولهذا قال: وما كان أكثر فهو أحبّ إلى الله.
ويُستفاد من ذلك أيضًا: تحري التَّوجه إلى الصلاة في المساجد التي فيها كثرة؛ لهذا الحديث، ما لم يكن في حضوره المسجد القريب الذي هو أقلّ جماعة مصالح: كأن يُقتدى به ويُهاب -يهابه الناس من حضوره- أو لأنه ..... ويقرأ عليهم، أو لأسبابٍ أخرى تقتضي أن حضوره في هذا المسجد الذي هو أقلّ جماعة أنفع له وللمسلمين، فإنه يُراعي ذلك، والله أعلم.
س: .............؟
ج: ينتظر حتى يجد فرجةً، أو يأتي أحدٌ يصف معه، ولا يُصلِّ وحده.
س: .............؟
ج: ضعيفة، رواية: هلا اجتررتَ رجلًا ضعيفة، الأولى ألا يجرّ أحدًا، بل ينتظر؛ لأنَّ هذه الرواية التي رواها الطبراني ضعيفة، ثم من حيث المعنى هي تفتح فرجةً في الصفِّ، ثم تصرفه تصرف بغير إذنه، وقد سبق إلى الصفِّ، لكن لو صحَّ الحديثُ فلا كلامَ، لكنه لم يصح، ولعلَّ عدم ..... بصحته ما سمعت من كونه تصرف بغيره وإخراجًا له من الصفِّ وفتح فرجة في الصفِّ.
فهذه الأحاديث الأربعة يتعلق الأول منها -وهو حديث .....- بإمامة المرأة للنساء، وهذا يدل على شرعية ذلك، وأنَّ إمامتها للنساء أمر لا بأس به، بل يُستحب ذلك؛ لأنَّ الأمر أقلّ ما يُفيده الاستحباب، والحديث وإن كان في سنده كلام لأهل العلم لكن مثله يُستعمل ويُعمل به، ويُعضده ما جاء عن عائشة وأم سلمة: أنهما كانتا تؤمَّان أهلهما، وفي ذلك من المصالح ما فيه؛ فإنَّ الإمامة من المرأة الفقيهة للنساء يتعلمن منها ويكتسبن منها معرفةَ كيفية الصلاة، فإن التعريف بالفعل له أثر كبير أكثر من القول بالنسبة إلى الكثير من الناس، وإذا حصل التعليم بالقول والفعل كان ذلك أكمل.
ويدل الحديثُ على شرعية إمامة المرأة للنساء، وأنها لا بأس بها، لكنها تقف وسطهن؛ ولهذا وقفت عائشةُ وأم سلمة وسط النساء، لا كالرجال، فالسنة أن تقف وسطهن، وتجتهد في تطبيق الصلاة الشرعية؛ حتى يتعلمن منها، ويستفدن منها.
ولما في ذلك أيضًا من الحثِّ على أداء الصلاة في وقتها، والتعاون في ذلك، فإنهن إذا صلين جميعًا تعاونَّ وتضافرنَ على أداء الصلاة والاجتماع لها، واستقبال ما شرع الله فيها، وتعلم بعضهن من بعضٍ كما يقع للرجال.
في هذا مصالح كثيرة، ولكنها لا تجب عليهن، إنما هو مستحبّ، كما يُستحب لهن عند السَّلامة من الأخطار أن يحضرن مجامع الرجال للفائدة والعلم، وخروجهن إلى المساجد لهذا القصد لا بأس به، وإن كانت بيوتهن خيرًا لهن في الجملة، لكن إذا كانت هناك مصالح تترتب على الخروج للاستفادة وتعلم العلم وحضور حلقات العلم على صفةٍ لا تكون فيها فتنة؛ فإنَّ هذا مطلوب وسنة أن يتعلمن ويستفدن؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله.
فالمقصود من هذا أن يتعلمن من الرجال كيفية الصلاة: كيف تُؤدَّى؟ وليستفدن مما يقع من المواعظ والتَّذكير والنُّصح، فيحصل لهن بهذا فائدة، وإن كانت المرأةُ عورةً، وهي على خطرٍ، والناس منها على خطرٍ، لكن مع العناية بالستر والحجاب والبُعد عن أسباب الفتنة يحصل لها بهذا خير عظيم، فلا هذا ولا هذا: لا تُمنع مطلقًا، ولا يُؤذن لها مطلقًا، ولكن عليها أن تُلاحظ، وعلى أوليائها والمسؤولين أن يُلاحظوا ما في هذا من الفائدة، وما في هذا من الخطر، فإذا خرجت عن وجهٍ لا خطرَ فيه، وإنما لقصد العبادة والفائدة فلا حرج في ذلك؛ ولهذا نُهي الناسُ أن يمنعوهن، وإذا خرجت على وجهٍ يضرُّها أو يضرُّ غيرها مُنعت من ذلك، من باب إنكار المنكر، ومن باب حماية المجتمع عمَّا يضره في أخلاقه ودينه.
ولهذا جاء عن عائشة ما جاء: "لو علم النبيُّ ما فعله النساء اليوم لمنعهنَّ من الخروج"، هذا قالته من اجتهادها ومعرفتها بالأصول، وإلا فالرسول ﷺ يُبلغ عن الله، والله يعلم كل شيءٍ: يعلم ما يكون في المستقبل، فالله بيَّن الشَّرائع، وبيَّن الأحكام، وهو يعلم ما يكون، وعلى قواعد الشريعة تُبنى الأحكام المستقبلة، كما تُبنى الأحكام الحاضرة، فالمستقبل من الأحكام يُراعى فيه القواعد الشَّرعية التي تُبيح هذا، وتمنع هذا.
وهكذا مسألة خروج المرأة لحضور الموعظة والصلاة مع الرجال، ولغيرها من المصالح، يُراعى فيها القواعد الشرعية؛ فيُؤذن لها حيث جاءت المصلحةُ، وحيث سلمت من الخطر والأذى، وتُمنع إذا كان هناك ما يُوجب المنع.
ومعلوم أنَّ إمامتها للنساء فيها مصالح، ولا سيما إذا كانت فقيهةً ذات علمٍ، فإنهن يتعلمن منها قولًا وفعلًا.
والحديث الثاني: حديث قصة ابن أم مكتوم: كان النبيُّ استخلفه عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على استخلاف الأعمى، وأنه لا بأس أن يكون أميرًا، ولا بأس أن يكون إمامًا في الصلاة؛ ولهذا النبي استخلف ابن أم مكتوم في بعض خرجاته عن المدينة؛ ليقوم مقامه في تسيير الأمور الميدانية، ويُصلي بالناس، وكونه أعمى لا يمنع ذلك؛ لأنه يُوجه إلى القبلة، ويُرشد إلى ما خفي عليه من القبلة، فيحصل المقصود بذلك من غير مضرةٍ ولا حرجٍ، وكذلك في تصريف الأمور في الإمارة وفي الوزارة أو في غير ذلك، يصرف الأمور كما يجب: على قواعد الشرع، وعلى ما تقتضيه مصالح العباد، ويستعين بالأخيار والثِّقات لما قد يخفى عليه من جهة حاسة البصر.
والحديث الثالث حديث ابن عمر: صلوا خلف مَن قال: لا إله إلا الله، وصلوا على مَن قال: لا إله إلا الله، وهو ضعيف الإسناد، لكن أراد المؤلفُ التَّنبيه على هذا، ذكره هنا ليُعلم الحكم، وإن كان الحديثُ ضعيفَ الإسناد، لكنه معمول به، وتدل عليه الأدلة الأخرى.
فإنَّ المراد بمَن قال: لا إله إلا الله، يعني: المسلم، وصلوا خلف مَن قال: لا إله إلا الله يعني: المسلم، فليس المرادُ مَن قالها وهو منافق، لا، قد نُهينا عن ذلك، قال الله جلَّ وعلا: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]، فإذا عرف أنه يقول: لا إله إلا الله، وهو منافق؛ لا يُصلَّى عليه، كما نهى الله عن ذلك.
فالمراد هنا لو صحَّ المراد بهذا المسلم: يُصلَّى على المسلم، ويُصلَّى خلف المسلم، فإذا ظهر منه ما يقتضي كفره لم تمنعه "لا إله إلا الله"، كما لم تمنع عبدالله بن أُبي بن سلول وأشباهه من المنافقين، وكما لم تنفع أهل الردة الذين ارتدوا عن الإسلام في تكذيبهم النبي ﷺ، أو بغير هذا من أنواع الردة ولو قالوا: لا إله إلا الله، ولو شهدوا أنَّ محمدًا رسول الله، قد قاتلهم الصحابةُ، واستحلوا دماءهم وأموالهم لردتهم، فإن بني حنيفة ونحوهم يقولون: لا إله إلا الله، ويشهدون أنَّ محمدًا رسول الله، ومع هذا قاتلهم المسلمون واستحلوا دماءهم وأموالهم لردتهم؛ لأنهم لما شهدوا لمسيلمة بأنه رسول صار هذا ردة؛ لأن محمدًا هو خاتم النَّبيين عليه الصلاة والسلام.
وهكذا أصحاب طُليحة الأسدي لما ادَّعى النبوة قُوتلوا، وإن كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؛ لأنَّ مَن أتى بناقضٍ من نواقض الإسلام وجب أن يُقاتل، الحكم بردته وإن قال: لا إله إلا الله، وإن قال: أشهد أنَّ محمدًا رسول الله، هذا أمر معلوم بإجماع المسلمين، لا خلافَ فيه عند أهل العلم، فإنَّ مَن وُجد عنده ناقضٌ من نواقض الإسلام لم تنفعه الشَّهادتان، ولم تنفعه صلاته، ولا صومه، ولا حجُّه، ولا غير ذلك.
فلو أنَّ إنسانًا يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويُصلي الصَّلوات الخمس، ويصوم، ولكنه يقول: إن غلام أحمد القادياني نبي، كفر كما كفر غيره: كبني حنيفة وأشباههم، فلا ينفعه مع وجود ناقضٍ من نواقض الإسلام، لا تنفعه بقية الأعمال.
وهكذا لو سبَّ الرسول، أو سبَّ الله ، أو جحد وجوب الصلاة، أو جحد وجوب الزكاة، أو جحد وجوب صوم رمضان، أو جحد وجوب الحج مع الاستطاعة؛ كفر إجماعًا، ولو صلَّى وصام، ولو قال: لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله.
فهذه القواعد معلومة من الدين، ينبغي أن تُعلم.
فهكذا ما دلَّ عليه الحديث: صلوا على مَن قال: لا إله إلا الله، وصلوا خلف مَن قال: لا إله إلا الله يعني: إذا التزمها وأدَّى حقَّها، أما إذا لم يلتزمها، بل قالها نفاقًا، أو قالها وأتى بناقضٍ من نواقض الإسلام؛ فإنها لا تنفعه.
وهكذا عُباد القبور وعباد الأصنام إذا قالوها وهم يعبدون غير الله، ولم يرجعوا إلى النَّاصحين والموجهين إلى الخير، بل استمروا على كفرهم بالله وعبادتهم غير الله لم تنفعهم الشَّهادتان.
س: إذا قالوها وكانوا لا يعلمون ما تنعقد به الصَّلاة ولا ما يُفسدها؟
ج: يُعلَّمون ويُوجَّهون مثل غيرهم من الجهلة؛ لأنَّ الإمامةَ لها صفات ولها شروط.
..............
فإنَّ مَن قال: لا إله إلا الله، ومات، فإنه إن كان مسلمًا صُلِّي عليه، وإن كان يقولها منافقًا وقد عُلم نفاقه لا يُصلَّى عليه؛ لأنَّ هذه كلمات معلومة، هي عنوان الإسلام، فإذا التزم بها صاحبُها صُلِّي خلفه، وصُلِّي عليه، وإذا لم يلتزم بها لم تنفعه هذه الشَّهادة، ولا بدَّ من مراعاة أمورٍ أخرى في الإمامة: كأن يُحسن القراءة، لا يلحن اللَّحن الذي يُخلّ بالمعنى، كونه ليس بفاسقٍ، فإذا كان يلحن أو فاسقًا لم يستحق أن يكون إمامًا، بل وجب أن يُلتمس مَن هو أصلح منه، فإذا كانوا كلهم فسَّاقًا صلَّى بهم أحدهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونسأل الله السَّلامة.
وهكذا حديث عليٍّ : إذا أتى أحدُكم الإمامَ وهو على حالٍ فليصنع كما يصنع الإمامُ، وإن كان ضعيف الإسناد، لكنه صحيح المعنى؛ لقول النبيِّ ﷺ: إذا سمعتُم الإقامةَ فامشوا وعليكم السَّكينة والوقار، فما أدركتُم فصلوا، وما فاتكم فأتموا، فإن قوله: فما أدركتُم فصلوا يعمّ مَن أدرك الركوعَ أو السجودَ أو الجلوسَ، يعمّه، والحديث في "الصحيحين"، وهكذا ما جاء في معناه يُغني عن حديث عليٍّ.
وإنما أتى المؤلفُ بحديث عليٍّ للتَّنبيه على ضعفه؛ ولأنَّ الحكم صحيحٌ، ما دلَّ عليه المعنى صحيح وإن ضعف الإسناد؛ أخذًا من الأدلة الأخرى الدالة على أنَّ الإمام يُتابَع فيما كان عليه؛ فإن وجدته راكعًا ركعت معه، وأجزأت الركعةُ على الصحيح، وهو قول جمهور أهل العلم، وإن أدركته ساجدًا سجدت معه، ولكن لا تُجزئك الركعة، بل عليك أن تأتي بالركعة وتقضيها؛ لأنَّها تفوته وهو بعد الركوع، وهكذا إذا أتيته وهو جالس جلست معه للتَّشهد.
فالحاصل أنك تفعل ما يفعل الإمامُ؛ حتى تُدرك الفضل والأجر، وتعمل بمقتضى الشريعة في إدراك الركعة أو عدم إدراكها.
والأحاديث الضَّعيفة يُستشهد بها، وتُساق في كتب الفقه، كتب الخلاف، كتب الحديث؛ لمعرفة حالها؛ وليعلم طالبُ العلم حالها؛ حتى لا يغترَّ بها، ثم ليضمّ إليها ما يدل على المعنى في الحكم الذي دلَّ عليه الحديث الضَّعيف؛ حتى يعرف أنَّ حكمه كذا وكذا، لا من أجل هذا الضَّعيف، بل من أجل ما انضمَّ إليه من الأدلة الأخرى، والله أعلم.
س: ..............؟
ج: نعم، الأحاديث الأخرى تدل على أنَّ الفاسق لا يكون إمامًا إلا عند الضَّرورة، ولو صحَّت صلاته، لكن لا ينبغي أن يكون إمامًا، ينبغي أن يلتمس الأخيار، لكن إذا صلَّى ..... أجزأت، صحَّت الصلاة على الصحيح، كما صلى الحجَّاج بالناس، حجَّ بالناس وصلَّى بهم، وصلَّى خلفه ابن عمر، فالصحيح أنها تصح الصلاة خلفه ما دام مسلمًا، لكن لا ينبغي تقديمه إذا وُجد مَن هو خير منه، أو كان بالإمكان، إذا كان بالإمكان، أما إذا كان ليس بالإمكان كالأُمراء ونحوهم.
س: ..............؟
ج: يُصلَّى خلفه، لكن يُناصح المسؤولون حتى يُبدلوه إذا تيسر ذلك.
يقول المؤلفُ رحمه الله -الحافظ ابن حجر رحمه الله- باب صلاة المسافر والمريض.
وبعض أهل العلم ..... بصلاة أهل الأعذار، أي: مَن له عذر من سفرٍ أو مرضٍ أو خوفٍ؛ لأنَّ الشرع جاء بأحكام هؤلاء؛ ولهذا ناسب عقد الترجمة بأحكامهم، فالمسافر جاءت فيه الرخصة من جهة قصر الصلاة، من جهة الجمع، من جهة مسح الخفَّين، ومن جهة التَّيمم عند عدم الماء، كذلك المريض جاءت فيه أحكام .....؛ فلهذا عقد المؤلفُ وغيره هذا الباب.
الحديث الأول: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "أول ما فُرضت الصلاةُ ركعتين، فأُقرت صلاة السَّفر، وأُتمت صلاة الحضر". متفق عليه.
وللبخاري: "ثم هاجر ففُرضت أربعًا، وأُقرت صلاة السفر على الأول". زاد أحمد .....
حديث عائشة هذا يدل على أنَّ أول ما فُرضت الصلاة ركعتان، هذا أول فرضها، فُرضت ركعتين: ركعتي الظهر، العصر، العشاء، ركعتان، ركعتان، ثم لما هاجر النبيُّ ﷺ إلى المدينة زاده الله جلَّ وعلا صلاة الحضر، وجعلها أربعًا، وبقيت صلاةُ السفر على حالها: كالظهر والعصر والعشاء، ركعتين، ركعتين، أما المغرب ففُرضت الصلاةُ على أصلها، لم تُغير، والصبح كذلك، والجمعة كذلك.
فهذا دليل ظاهر على أنَّ أصل الصلاة ركعتان، هذا أصلها حين فرضها الله ، ثم زاد الله بها سبحانه ثنتين في الحضر بعد الهجرة: في العشاء والظهر والعصر، وهذا يُؤيد القصر، وتأكيد القصر، وأنه سنة مؤكدة؛ لأنه عمل بالأصل، فصلاة المسافر بقيت على الأصل، والحاضر زِيد له ركعتان؛ لأنه في راحةٍ واستقرارٍ، فمن فضل الله عليه أن زادته ركعتين؛ لما فيهما من الخير العظيم والفائدة الكبرى.
أما المسافر فهو مظنة المشقة والعجلة وعدم الاستقرار، فخفف الله عنه، وجعلها ركعتين ركعتين، ..... المغرب فهي على حالها حضرًا وسفرًا، ولكن لا يلزم من هذا منع الإتمام في السفر، هذا هو الأصل، ولكن لا مانع من الإتمام في السفر لأسبابٍ تقتضي ذلك، لا مانع من الإتمام، ويدل على ذلك أمور:
الأمر الأول: قوله جلَّ وعلا: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101].
قال يعلى بن أمية لعمر: ما بالنا نقصر وقد أمنا، والله يقول: {إِنْ خِفْتُمْ}؟! فقال: سألتُ عنها رسولَ الله ﷺ فقال: هي صدقة من الله، فاقبلوا صدقته يعني: القصر.
فدلَّ على أنه صدقة وفضل من الله جل وعلا، وتخفيف منه ، وإلا فالأصل أنه لا قصر إلا عند الخوف، ثم تصدق الله وتفضل وجعل لهم القصر وإن لم يخافوا، فدلَّ على أنَّ الأصل هو الإتمام، والقصر عند الحاجة من الخوف، ثم تصدق الله عليهم ببقائه حتى مع الأمن، فدلَّ ذلك على أنَّ ..... الأصل ..... أربع، فلا حرج عليه؛ ولهذا كانت عائشةُ تفعله وتتأوَّل أنه لا يشقّ عليها.
الأمر الثاني: فعل عائشة، وهي من أعلم الناس بالشريعة، وكانت تُتم في السفر في بعض الأحيان، وتقول: إنه لا يشقّ عليها. فأوَّلت أنَّ القصر إذا كان فيه مشقة، وهو لا يشقّ عليها؛ فلهذا أتمَّت، ولم يُنكر عليها الصحابةُ ولم يُخطئوها، فدلَّ ذلك على أنَّ العمل بالأصل جائز.
أما روايتها أنه كان ﷺ يُتم في السفر ويقصر، ويصوم ويُفطر. كما رواه الدَّارقطني ..... ثقات، فقد أعلَّه العلماء بأنه شاذٌّ فيما يتعلق بالقصر؛ لأنَّ المحفوظ عن النبي ﷺ أنه كان يقصر في السفر.
فقولها: "إنه يُتم ويقصر" قال أهلُ العلم: إنه معلول بالشُّذوذ، فإنَّ الشَّاذ: ما خالف الثِّقات، وقد خالف في هذا رواية الثِّقات: كأنسٍ وغيره ممن روى صفةَ صلاة النبي في السَّفر: أنه كان لا يقصر في السفر ..... أنه كان يُتم ويقصر ليس بمحفوظٍ، بل هو شاذ؛ لأنَّ من شرط الصحيح ألا يكون شاذًّا، لكن فعلها يدل على الجواز، وأنه ظهر لها من الشَّرع المطهر أنه يُتم ويقصر في السفر، لا يمنع من الإتمام لمن أحبَّ ذلك، ولكن الأخذ بفعل النبي ﷺ وما سار عليه واستقرَّ عليه أولى وأفضل، وهو الأصل.
ومنها ما فعله عثمان: فإنَّ عثمان كان في أول خلافته يقصر في حجِّه، ثم في أثناء خلافته أتم، وصلَّى معه مَن حضر من الصحابة، ولم يروها باطلةً، بل اعتبروها من الأمر الذي ما كان ينبغي له أن يفعلها، ولكن لم يُبطلوا صلاتهم، بل صلوا معه، ومعه ابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما من الكبار رضي الله عنهم وأرضاهم، حتى قال ابن مسعود: "ليت حظِّي من أربع ركعات ركعتان مُتقبلتان"، فقال بعضُ الناس: لماذا أتممتَ معه؟ فقال: "لأني أكره الخلاف"، ولو كان أمرًا ممنوعًا لما ساغ له أن يُوافق عليه؛ لأنه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق، فلما ..... الصحابة وصلوا معه دلَّ على أنه ليس .....، بل له اجتهاده في ذلك رضي الله عنه وأرضاه، وإن كان الأولى والذي ينبغي ألا يفعل، وأن يأخذ بالسنة المعروفة ويسير عليها رضي الله عنه وأرضاه.
فهذه الأمور الثلاثة تدل على أنَّ القصر مستحب وسنة، وليس بواجبٍ، وأن الصلاة في حقِّ المسافر إذا أتمها صحيحة، ولا سيما إذا كان ذلك لأسبابٍ تقتضي إتمامها.
والحديث الثاني: حديث ابن عمر عن النبي قال: إنَّ الله يُحب أن تُؤتى رُخَصَه، كما يكره أن تُؤتى معصيته. وفي اللفظ الآخر: كما يُحب أن تُؤتى عزائمه.
هذا يدل على أنه يُحب من عباده ويرضى من عباده أن يأتوا رُخَصَه ويأخذوا بها؛ لما في هذا من التيسير عليهم والتَّسهيل، ومن الرُّخَص: القصر والجمع عند الحاجة إليه، والفطر في السفر، هذه من الرخص، فينبغي للمؤمن أن يأخذ بها، وألا يجفو بذلك، بل يأخذ بها تارةً، ويأخذ بالعزيمة تارةً، فإنه سبحانه يُحب من عباده أن يأتوا الرُّخَص، كما يُحب أن يأتوا العزائم، وهي الفرائض والمؤكدات، فالفريضة لا خلافَ في ذلك، وأنه يلزمهم الأخذ بها، والتمسك بها، وما أكَّد من العزائم كذلك، وإن كان يجوز خلاف ذلك بما ..... كالإتمام، وترك الجمع، وترك الإفطار في السفر، وأن يصوم، كل هذا جائز، ولكن كونه يقصر، وكونه يُفطر، وكونه يجمع عند الحاجة، كل هذا من الرُّخَص التي يُحب الله من عباده أن يأتوها ولا ينقضوها؛ لأنه شرعه لهم سبحانه رفقًا بهم، ورحمةً لهم، فشرع لهم أن يأتوها، وأن يأخذوا بها أخذًا بتيسير الله ورحمته وإحسانه.
الحديث الرابع: حديث أنسٍ: أن النبي ﷺ كان إذا خرج ..... أميال أو فراسخ صلَّى ركعتين. رواه مسلم.
وهو شكٌّ من الراوي: هل قال: فراسخ، أو قال: أميال؟
وطريق الاحتياط هو الأخذ بالفراسخ، وهو الأكثر، فالأخذ بها أولى وأحوط، ويؤكد هذا ما فعله في حجة الوداع، فإنه صلَّى في عرفات قصرًا، ولم ينهَ أهل مكة عن القصر، وهي بريد: أربعة فراسخ، أو تُقارب ذلك من مكة، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا يُعدّ سفرًا فتُقصر فيه الصلاة؛ لأنه أقرَّ أهل مكة وغيرهم على القصر، فدلَّ على أنهم في حكم المسافرين. قاله الجمهور.
وقال أبو حنيفة: ليس القصرُ للسفر، ولكن هذا من أحكام المناسك، يدل على أنَّ حكم النُّسُك أن يُقصر في حجِّه ولا يتمّ.
أما الجمهور فيقولون: إنَّ هذا من باب السفر، والحجَّاج مسافرون، وأهل مكة مسافرون؛ لأنهم إذا خرجوا من مكة خرجوا لقصد عرفات، والنُّزول في منى مرحلة، ثم بعدها المرحلة الثانية وهي عرفات، وهي المقصودة، فمنى في الطريق.
وذهب الجمهورُ إلى أنَّ البريد والفراسخ الثلاثة ليست مصلحة سفرٍ، وحدَّدوا ذلك بيومين قاصدين في أربعة بردٍ. وهذا قول الأكثرين.
والقول بأنَّ البريد سفر يتأيَّد بحديث أنسٍ هذا .....
وقال آخرون: بل هذا ليس من باب التَّحديد، بل من باب التَّمثيل للسفر، فالسفر: كل ما يُعدّ سفرًا من العرف؛ لأنَّ الله أطلق في النصوص ولم يُحدده، والرسول كذلك، فما يُعدّ سفرًا عرفًا -وهو ضرب في الأرض- فهو سفر، وما لا فلا، ولا يُحد بثلاثة فراسخ، ولا بيومين قاصدين، فما يُعدّ سفرًا يحتاج إلى الزاد والمزاد هو السفر؛ تُقصر فيه الصلاة، ويُفطر فيه الصائم.
ومنعوا أهل مكة من القصر، قالوا: أهل مكة لا يقصرون، بل يُتمون؛ لأنهم ليسوا في سفرٍ.
هكذا قال جماعةٌ من أهل العلم رحمهم الله.
والأولى في هذه المسائل والأظهر في هذه المسائل أنَّ ما يُعدّ سفرًا فإنه يلحقه أحكام السفر: من القصر والجمع والفطر ومسح ثلاثة أيام على الخفَّين، وما لا فلا، هذا هو الأظهر؛ لإطلاق النصوص، ولكن إذا ..... الإنسان بقول الجمهور من باب الاحتياط فلم يقصر إلا بمسافة يومين؛ لئلا يتساهل الناس ويصلوا القصر فيما لا ينبغي لهم ذلك؛ لكثرة الجهل وقلة البصيرة؛ فهذا حسن، من باب الحيطة لما أوجب الله ، ولا سيما عند وجود السيارات تقطع المسافات الطويلة في زمنٍ قليلٍ، فإنَّ هذا قد يُفضي إلى التَّساهل حتى يقصر في ضواحي البلد وما يكون من البلد، فالاحتياط من هذا حسن.
وإذا تحقق المؤمنُ أن المسافة التي قطعها على دابته أو سيارته تكون سفرًا عرفًا فهو لا بأس، وإذا أخذ بقول الجمهور بمسافة القصر: يومين، سبعين كيلو، ثمانين كيلو، ما يُقاربها؛ فهذا فيه احتياط، وفيه براءة للذمة، وفيه سدٌّ لذريعة التَّساهل.
وحديث أنسٍ الخامس يدل على أنه ﷺ ما كان يُتم في السفر، بل كان المعروف عنه والثابت عنه أنه يقصر أبدًا في السفر؛ ولهذا قال أنس أنهم خرجوا مع النبي ﷺ إلى مكة يقصرون حتى رجعوا. سُئل: ماذا أقمتم؟ قال: عشرة أيام. كما في الرواية الأخرى: وعدَّ يوم قدومه إلى خروجه عشرة أيام كلها قصر.
وهكذا لما فتح مكة سنة ثمانٍ خرج يقصر، ومكث في مكة يقصر، ورجع يقصر، هذه سنته وعادته: أنه في السَّفر يقصر ولا يُتم، ذهابًا وإيابًا وإقامةً في الطريق، هذا هو الأصل المحفوظ عن النبي عليه الصلاة والسلام، والسنة لزوم ذلك والأخذ بذلك والاستقامة عليه تأسيًا به عليه الصلاة والسلام، وعملًا بسنته، وإذا أتمَّ في بعض الأحيان لعارضٍ صحَّت صلاته، لكن لو ترك السنة ترك الأفضل، كما فعلت عائشةُ، وكما فعل عثمان، والله أعلم.
س: أهل مكة في عرفة لا يقصرون على قول الجمهور وعلى قول مَن قال .....؟
ج: نعم؛ لأنَّ الرسول ما أنكر عليهم، سواء قلنا: من مناسك الحج، أو قلنا: إنه سفر، الأولى القصر، أما العلة: هل العلة السفر، أو العلة أنه من أحكام الحج كما قال أبو حنيفة؟ هذا محتمل، فينبغي لهم فعل السنة ولو اختلفت العلة.
س: ..............؟
ج: مَن قال هذا قال: إنه سفر، ومَن لم يقل هذا قال: إنه من أحكام النُّسك، كما قال أبو حنيفة، والجمهور يمنعونهم من القصر؛ لأنَّ هذا ليس بسفرٍ، ولكن قول مَن قال أنهم يقصرون مطلقًا، سواء قلنا: سفرًا، أو قلنا: من أحكام الحج، أظهر؛ لأنَّ الرسول ﷺ لم يأمرهم بالإتمام وهو يعلم أنهم حجُّوا معه عليه الصلاة والسَّلام.
س: ..............؟
ج: الجمع إذا كان له حاجة فهو أفضل، إذا كان نزوله قليلًا وهو سائر، أو ارتحل عند غروب الشمس، أو قبل الزوال، كلها جمع: يُؤخر الظهر مع العصر، ويُؤخر المغرب مع العشاء، أو ارتحل بعد الزوال، أو بعد الغروب، فالسنة أن يجمع أيضًا حتى ..... إذا ارتحل بعد الزوال جمع الظهر مع العصر جمع تقديمٍ، وإذا ارتحل بعد الغروب جمع العشاء مع المغرب جمع تقديمٍ، والعكس كذلك: إذا ارتحل قبل الزوال أخَّر الظهر مع العصر، وإذا ارتحل قبل الغروب أخَّر المغرب مع العشاء، هذا جاءت به السنة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا كان نازلًا مُقيمًا مُستريحًا فالأفضل عدم الجمع ..... أهل منى مُستريحين مُستقرين وأشباه ذلك فالأفضل عدم الجمع .....، وإن جمع فلا حرج.
.................
أما بعد، فهذا حديث ابن عباس وعمران بن حصين وجابر في إقامة النبي ﷺ في مكة وتبوك:
في حديث ابن عباسٍ أنه أقام تسعة عشر يومًا يوم الفتح. وفي روايةٍ لأبي داود: سبعة عشر. وفي أُخرى: خمسة عشر. وفي روايةٍ له عن عمران: ثمانية عشر.
هذه الروايات وجَّهها أهلُ العلم وبيَّنوا سبب الاختلاف، وهو أنَّ بعض الرواة يعدّ يوم القدوم ويوم الخروج، وعليه صارت الأيام تسعة عشر باعتبار يوم الدخول ويوم الخروج، فأقام تسعة عشر يومًا في مكة يقصر الصلاة، وبعضهم ذكر يوم الخروج ولم يذكر يوم الدخول، أو العكس، فجعلها ثمانية عشر، وبعضهم لم يذكر اليومين فجعلها سبعة عشر، وبعضهم ظنَّ السبعة عشر أنها بالدخول والخروج فحذفهما وجعلها خمسة عشر، والمحفوظ تسعة عشر.
أقام تسعة عشر يومًا عليه الصلاة والسلام في مكة؛ لتأسيس قواعد الدين، وإيضاح الدين للناس، وبيان بطلان الشرك ووسائله وذرائعه؛ لأنَّ أهل مكة ومَن حولها كانوا عاشوا على الشرك دهورًا طويلةً، فلما جاء الله بالإسلام ودعاهم إليه عليه الصلاة والسلام، وأقام فيهم ما أقام، وحصل ما حصل بينه وبينهم من النزاع، وخرج من عندهم مهاجرًا و..... لهم، ثم جرى بينه وبينهم من الحروب العظيمة، وفتح الله عليه؛ احتاج إلى أن يُقيم بينهم أحيانًا يُقرر فيها حقيقة الإسلام، ويشرح لهم فيها ما يجب عليهم من دين الله، ويُبين لهم ما وقع من الزلل والخطأ في إقامتهم على الشرك، فاحتاج إلى هذه المدة، وفيها أيضًا طهَّر أطراف مكة من آثار الأصنام؛ فبعث إلى العزى من هدمها.
فكانت الأيام المذكورة في مصالح المسلمين، وفي تأسيس قواعد الدين، وفي إظهار شعائر الإسلام، إلى غير ذلك.
قال أهلُ العلم: ولم يكن قد أجمع على هذه الإقامة، بل كان أقام إقامةً ليس بمجمعٍ عليها لهذه الأغراض، فلما حصل المقصود ارتحل عليه الصلاة السلام إلى المدينة، ومن المعلوم أنَّ المهاجر لا يُقيم في بلده أكثر من ثلاثة أيام، كما قرره النبيُّ ﷺ، لكنه أقام لهذه المصالح العظيمة، فطالت المدةُ لهذه الأيام.
فإذا أقام المسافرُ لغرضٍ من الأغراض إقامةً لم يجمعها فلا بأس أن يقصر، ولا بأس أن يجمع؛ لإقامة النبي ﷺ طول هذه المدة، وهي إقامة لم يجمع عليها، ولم تُقصد، ولكن إنما جاءت بسبب الحاجة إليها، وهكذا إقامته في تبوك؛ أقام عشرين يومًا، ورواية مَن وصل الحديثَ مقدمة على مَن قطعه؛ لأنَّ القاعدة عند أهل العلم في هذا الشأن أنَّ الواصل مقدم على القاطع، والرافع مُقدم على مَن وقف إذا كان ثقةً.
فإقامته ﷺ عشرين يومًا في تبوك لينظر ما يتعلق بحرب الروم: هل يتقدم إليهم أو يرجع؟ وهل يقدمون عليه؟ وينظر أخبارهم، ثم أوحى الله له أن يرجع؛ لأنَّ حربهم ذاك الوقت لم يظهر أنها مناسبة؛ لأسبابٍ اقتضت ذلك، فرجع عليه الصلاة والسلام من تبوك ولم يُباشر حربهم، ثم جهَّز جيش أسامة في آخر حياته لحرب الروم، وأوصى بذلك.
واحتجَّ العلماءُ بهذه القصة -وفي قصة الفتح- على أنه لا بأس بالقصر في الإقامة العارضة ولو طالت، حتى قال ..... فيما حكاه عن أهل العلم: ولو مكث سنين، ما دام لم يجمع إقامةً فإنه في سفرٍ، فلو أقام إقامة ..... أو للإعداد لهم ولأسبابٍ أخرى، ولم يُجمع إقامةً، فإنه في سفرٍ، وله أحكام السفر: من قصرٍ وجمعٍ ومسحٍ على الخفين وفطرٍ، وغير ذلك، هذا هو الصواب، أما إذا أجمع إقامة ..