172 من: (باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار عَلَى القليل من المأكول والمشروب والملبوس..)

 
56- باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار عَلَى القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشَّهوات
قَالَ الله تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ۝ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا [مريم:59، 60]، وقال تَعَالَى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص:79، 80]، وقال تَعَالَى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]، وقال تَعَالَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18].
والآيات في الباب كثيرةٌ معلومةٌ.
1/491- وعن عائشةَ رضي اللَّه عنها قالت: "مَا شَبِعَ آلُ مُحمَّدٍ ﷺ مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ" متفقٌ عَلَيْهِ.
وفي روايةٍ: "مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ ﷺ مُنْذُ قَدِمَ المَدِينةَ مِنْ طَعامِ البُرِّ ثَلاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِض".
2/492- وعن عُرْوَةَ، عَنْ عائشة رضي اللَّه عنها أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: "وَاللَّه يَا ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إلى الهِلالِ ثمَّ الهِلالِ ثُمَّ الهلالِ -ثلاثة أَهِلَّةٍ في شَهْرَيْنِ- وَمَا أُوقِدَ في أَبْيَاتِ رسولِ اللَّه ﷺ نارٌ"، قُلْتُ: يَا خَالَةُ، فَمَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قالتْ: "الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لرسول اللَّه ﷺ جِيرانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلى رسولِ اللَّه ﷺ مِنْ أَلبانها فَيَسْقِينَا" متفقٌ عَلَيْهِ.
3/493- وعن سعيدٍ المَقْبُريِّ، عَنْ أَبي هُرَيرةَ أَنَّه مَرَّ بِقَومٍ بَيْنَ أَيْدِيهمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ، فَدَعَوْهُ، فَأَبى أَنْ يَأْكُلَ، وقال: "خَرج رَسُولُ اللَّه ﷺ مِن الدُّنْيَا ولَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ" رواه البخاري.

الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فهذه الأحاديث وما جاء في معناها كلها تدل على أنه ينبغي للمؤمن ألا يكون همُّه الدنيا وزينتها ومآكلها ومشاربها، بل ينبغي له أن يعدَّ للآخرة؛ لأنَّها هي الدار، أما هذه الدار فهي دار الامتحان، ودار الابتلاء، ودار العمل، فينبغي للمؤمن أن تكون الآخرةُ أكبر همِّه، وأن يُعنى بها، وألا تكون هذه الدنيا همًّا له في زينتها وزخارفها ومآكلها ومشاربها ونحو ذلك، بل يرضا بما يسَّر الله، وإن اتَّجر وعمل فلا بأس، كما اتَّجر الصحابة والأخيار، ولكن لا تكون أكبر همه، ولا يُشغل بها عن آخرته.
وقد ذمَّ الله مَن فعل ذلك: كما ذمَّ قارون وغيره ممن شُغل بالدنيا عن الآخرة: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ۝ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ [القيامة:20- 21]، فالمؤمن لا يُحب العاجلةَ حبًّا يشغله عن الآخرة، أما إذا طلب الحلالَ واكتسب الحلالَ فلا بأس، كما قال ﷺ: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، وقيل: يا رسول الله، أيُّ الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، وقال: لأن يأخذ أحدُكم حبلَه فيأتي بحزمةٍ من الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكفَّ بها وجهَه؛ خيرٌ له من سؤال الناس، أعطوه، أو منعوه، فالمؤمن يكتسب ويطلب الرزق، ولكن لا تكون الدنيا أكبر همِّه، ولا يُشغل بزينتها وشهواتها.
ولهذا تقول عائشة رضي الله عنها: "توفي رسولُ الله وما شبع من خبز الشعير ثلاثة أيام متتابعة"، وفي روايةٍ: "من خبز بُرٍّ ثلاثة أيام متتابعة" يعني: تارةً يشبع، وتارةً لا يشبع، فما جاءه أنفقه، فقد كانت تأتيه الأموال الكثيرة ويُنفقها في سبيل الله عليه الصلاة والسلام.
وتقول له: "لقد مرَّ هلالٌ، ثم هلال، ثم هلال في شهرين، ما أُوقِد في أبيات النبي نارٌ" يعني: ما طبخوا لحمًا وأشباهه، فقال لها ابنُ أختها عروة بن الزبير: يا خالة، ما كان يعيشكم؟ قالت: "الأسودان: التمر والماء"، هذا جهده ﷺ، وصبره على هذه الدنيا، فهو يُنفق ويُعطي عطاء مَن لا يخشى الفقر عليه الصلاة والسلام.
فالحاصل أنه ينبغي للمؤمن ألا يُشغل بالدنيا وزينتها وشهواتها وحظّها العاجل.
وهكذا لما مرَّ أبو هريرة بالشاة المصليَّة تركها وقال: "مات محمدٌ وما شبع من خبز الشعير".
فالمقصود من هذا الحثّ على عدم التوسع في الدنيا والشغل بزينتها وشهواتها وما يصدّ عن الآخرة؛ فالمهم ألا تكون أكبر همِّه، وألا يُشغل بزينتها وشهواتها، وليس المراد تركها بالكلية، لا، بل يزرع ويغرس، ويبيع ويشتري، ويتَّجر، ويعمل ما يستطيع لطلب الرزق، وطلب الحلال، والاستغناء عمَّا في أيدي الناس.
وفَّق الله الجميع.

الأسئلة:
س: ترجم المؤلفُ بـ"فضل الجوع" للباب، هل للجوع فضلٌ في ذاته؟
ج: نعم، الزهد في الزيادة التي تشغله عن الآخرة، والزهد في الحرام والمكروهات، والزهد فيما يصدّ عن الآخرة، مثلما قال ﷺ: ازهد في الدنيا يُحِبُّك الله، وازهد فيما عند الناس يُحبُّك الناس.
س: والحديث الذي ورد فيه تعوّذ النبي ﷺ من الجوع، قال: اللهم إني أعوذ بك من الجوع؟
ج: هذا ما يُنافيه، فالزهد لا يستدعي الجوع.
س: وعن أبي سعيد المقبري؟
ج: وعن سعيد، فهو سعيد بن أبي سعيد، أما المقبري: فيقال: المَقْبُرِي، والمَقْبَرِي.
س: ما الأسودان؟
ج: التمر والماء.
س: السّباء و........ تجوز لآل البيت؟
ج: نعم، نعم، لكن يمنعوا من الزكاة خاصَّةً فقط، أما الصدقات الأخرى فلا بأس بها.
س: الاقتصار على القليل يكون في كل شيء؟
ج: حسب ما يسدّ حاجته، ولا يضره ولا يُضعفه، فإذا اكتفى بالقليل على طريقةٍ تُعينه على طاعة الله فلا بأس.
س: أوصى المُوصِي بوصيَّةٍ ولم يقبلها المُوصَى له؟
ج: إذا ما قبلها تصير للورثة.
س: للورثة أم لبيت المال؟
ج: لا، للورثة -ورثة الموصي.
س: هل ينبغي أن يشبع الإنسانُ تارةً ويترك الشبع تارةً؟
ج: الأحسن له عدم الشّبع الكُلي، ولكن إذا شبع فلا بأس، ولهذا قال ﷺ لأبي هريرة: اشرب، فشرب، ثم قال: اشرب، فشرب، ثم قال: اشرب، فشرب، ثم قال: اشرب، قال: والذي بعثك بالحق، لا أجد له مساغًا، فلا بأس بالشبع، ولا بأس بالرّي، ولكن إذا تركه بعض الأحيان كان أصلح، مثلما قال ﷺ: بحسب ابن آدم لُقَيمات يُقِمْنَ صلبه، فإن كان لا محالةَ فثلثٌ لطعامه، وثلثُ لشرابه .. يعني: للتَّقوي على طاعة الله.
س: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59]، ما معنى غَيًّا؟
ج: فُسِّر الغي بالخسار والدّمار، وقيل: وادٍ في جهنم، خبيثٌ طعمه، بعيدٌ قعره –نسأل الله العافية- يعني: خسارةً وندمًا.
س: ما الحكمة من تسمية التَّمر والماء بالأسودين؟
ج: الظاهر -والله أعلم- أنه من باب التَّغليب؛ لأنَّ التَّمر أسود.