04 من قوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ..)

ثم قال تعالى مخبرا عباده المؤمنين ومبشرا لهم أن النصر والظفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين، فقال تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [آل عمران:111] هكذا وقع، فإنهم يوم خيبر أذلهم الله وأرغم أنوفهم، وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة كلهم أذلهم الله، وكذلك النصارى بالشام كسرهم الصحابة في غير ما موطن، وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين، ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم كذلك، ويحكم بملة الإسلام وشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام.الشيخ: وهذا الذي قاله المؤلف في الشام يحمل على أن هناك لا تزال فيه طائفة طيبة مستقيمة، وإلا فالولاية الآن ليست لهؤلاء، والمؤلف وجماعة آخرون تؤلوا قوله في الحديث الصحيح: إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده يعني أنه متى هلك في ولاية الشام فلا يكون بعده قيصر، تكون الولاية للمسلمين والمعنى: ليس الأمر كذلك لا تكون لهم قيصرية هناك، ولكن لا يمنع من أن يتولاها كفرة آخرون، وهكذا في العراق لا يمنع أن يتولاها كفرة آخرون غير الكياسرة، وإنما نفى النبي ﷺ لا كسرى بعده ولا قيصر بعده ولم يقل: لا كافر بعده والواقع شاهد بهذا، فقد تولاها جمع من الكفرة، تولاها ... مدة من الزمن، والعراق ... مدة من الزمن، وفيها الآن البعثيون، وهكذا في الشام فيها الآن النصيرية ولهم الولاية وهم من الباطنية المعروفين.
فالمقصود أن الشام لا زال فيه طائفة من غير الولاة يعني الشعب الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويرجى أن تبقى هذه الطائفة حتى ينزل عيسى ابن مريم، وليس معنى في هذا وثيقة أنه لا يزول منها أولئك، ولكن يرجى ذلك لظاهر الأحاديث الكثيرة التي في شأن الشام وفضلها، ولكن الولاية لا يلزم أن تكون ولاية إسلام قد تكون ليست ولاية إسلام ولكن الشعب فيهم مسلمون وفيهم أخيار.
ثم قال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ أي ألزمهم الله الذلة والصغار أينما كانوا فلا يأمنون إلا بحبل من الله أي بذمة من الله، وهو عقد الذمة لهم وضرب الجزية عليهم وإلزامهم أحكام الملة وحبل من الناس أي أمان منهم لهم، كما في المهادن والمعاهد والأسير إذا أمنه واحد من المسلمين، ولو امرأة، وكذا عبد، على أحد قولي العلماء، قال ابن عباس: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ أي بعهد من الله وعهد من الناس، وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي والربيع بن أنس.
وقوله: وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي ألزموا فالتزموا بغضب من الله، وهم يستحقونه وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَة أي ألزموها قدرا وشرعا.

الشيخ: يعني ولو ملكوا الدنيا فقلوبهم فقيرة ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس، فاليهود ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ولزمهم هذا الغضب- نعوذ بالله - لخبثهم وضلالهم وإعراضهم عن الحق على عمد واستكبارهم عن الاتباع على عمد؛ فصاروا بهذا مغضوب عليهم، نعوذ بالله، والذلة لازمة لهم والمسكنة مهما بلغت قوتهم ومهما بلغت أموالهم، فالذلة لازمة لهم والغضب لازم لهم والمسكنة  كذلك، وهي فقر القلوب، فقلوبهم فقيرة وحريصة على الدنيا لا تشبع ولو ملكوا ما ملكوا من الدنيا، ولهذا في الحديث الصحيح: ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غني النفس فالغني ليس غني المال ولكنه غني القلب غني النفس بما رزقه الله وأعطاه.
ولهذا قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أي وإنما حملهم على ذلك الكبر والبغي والحسد فأعقبهم ذلك الذلة والصغار والمسكنة أبدا متصلا بذل الآخرة، ثم قال تعالى: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ أي إنما حملهم على الكفر بآيات الله وقتل رسل الله، وقيضوا لذلك، أنهم كانوا يكثرون العصيان لأوامر الله والغشيان لمعاصي الله، والاعتداء في شرع الله، فعياذا بالله من ذلك، والله المستعان.الشيخ: يعني أصيبوا بهذا البلاء بسبب كثرة عصيانهم واختلافهم على أنبيائهم واعتدائهم على الحق واستكبارهم عن اتباعه فلهذا أصابهم ما أصابهم من الذل والهوان والغضب الملازم والبعد عن الحق نعوذ بالله ونسأل الله العافية.
المعلق: بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فوقعت الحلقة التالية بتاريخ الثاني من شهر جمادى الآخرة لعام 1404 من هجرة المصطفى ﷺ الموافق الأحد وحدث سقط يسير في بداية هذه الحلقة حيث كنت قد تأخرت قليلاً فبدأ التسجيل بعد فوات شيء يسير وهو ما وقع في صفحة 397 بعد الحلقة السابقة مباشرة نقرأه إتمامًا للفائدة: بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا شعبة، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر الأزدي، عن عبدالله بن مسعود ، قال: كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبي، يقوم سوق بفلهم آخر النهار.
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۝ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ۝ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
قال ابن أبي نجيح: زعم الحسن بن أبي يزيد العجلي، عن ابن مسعود في قوله تعالى: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ قال: لا يستوي أهل الكتاب وأمة محمد ﷺ، وهكذا قال السدي.
ويؤيد هذا القول الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا أبو النضر وحسن بن موسى، قالا: حدثنا شيبان عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود قال: أخر رسول الله ﷺ صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم قال: فنزلت هذه الآيات لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - إلى قوله- وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.
والمشهور عند كثير من المفسرين كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره، ورواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب، كعبدالله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن شعبة وغيرهم.
الشيخ: ... وأقاموا الصلاة وآتوا الزكوات وتهجدوا باليل وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وسارعوا في الخيرات فهذا فيهم، ولهذا يأتي  موسى يوم القيامة ومعه أمة كبيرة قد سدت الأفق بسبب اتباعهم له، فبني إسرائيل فيهم الضال والمغضوب عليه، وفيهم من هداه الله ودخل في الحق ولكن أكثرهم فاسقون.
.........
ورواه العوفي عن ابن عباس- أن هذه الآية نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب، كعبدالله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن شعبة وغيرهم؛ أي لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب، وهؤلاء الذين أسلموا، ولهذا قال تعالى: لَيْسُوا سَوَاءً أي ليسوا كلهم على حد سواء، بل منهم المؤمن ومنهم المجرم، ولهذا قال تعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَة أي قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه، متبعة نبي الله، فهي قائمة، يعني مستقيمة يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون أي يقومون الليل ويكثرون التهجد، ويتلون القرآن في صلواتهم يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وهؤلاء هم المذكورون في آخر السورة: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [آل عمران:199]، ولهذا قال تعالى هاهنا وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ اي لا يضيع عند الله، بل يجزيهم به أوفر الجزاء وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ أي لا يخفى عليه عمل عامل، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملا.الشيخ: والمقصود من هذا الحث على التأسي بهم وأنهم جمعوا بين الخيرين آمنوا بالماضين ثم آمنوا بمحمد ﷺ، واستقاموا وسارعوا إلى الخيرات وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فينبغي أن يقتدى بهؤلاء وألا يغمط حق المحسن من أجل إساءة قومه وجماعته ونحو ذلك، فكل يؤخذ بذنبه وكل يعطى حقه، فإذا أساء جماعته وكثر فيهم الفسق فإن الله لا يجري عمل عامل منهم لمن أصلح عمله، وهكذا إذا ساءت أعمال الأمم أو القبائل أو أهل البلد أو القرية أو نحو ذلك، فإن الله لا يضيع عمل من أحسن منهم واتقى الله، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وسارع في الخيرات وإن كثر المخالفون نعم هذا فضله وإحسانه وعدله جل وعلا.
ثم قال تعالى مخبرا عن الكفرة المشركين بأنه لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أي لا ترد عنهم بأس الله ولا عذابه إذا أراده بهم وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
 ثم ضرب مثلا لما ينفقه الكفار في هذه الدار، قاله مجاهد والحسن والسدي، فقال تعالى: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أي برد شديد، قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم.

الشيخ: هذه حالهم نعوذ بالله، هذه حالهم في كفرهم نفقاتهم تذهب هكذا تذهب سدى وتضيع عليهم لأنها في غير الحق كمثل الريح الشديدة التي فيها البرد الشديد والقوة العظيمة إذا أصابت الحرث والزروع أهلكته.. فهكذا أعمال الكافرين مهما كثرت تكون هباء منثورًا وتضيع عليهم نعوذ بالله كما قال : وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88] فالأعمال وإن كثرت إذا كانت ليست على أساس صالح، بل على الشرك أو على الشرك والبدع صارت هباء منثورًا نعوذ بالله. وإنما يبقى وينفع صاحبه ما كان لله من الأعمال الصالحات وما كان موافقًا للشريعة وليس بدعة، فهذا هو الذي ينفع الناس وينفع أهله العمل الصالح هو الموافق لشرع الله المخلص لله، أنفق لله في سبيل الله في طاعة الله، صلى لله على ما شرع الله، هكذا أعماله الأخرى فعلها لله على الوجه الذي شرعه الله فهذا هو الذي ينفع أهله يوم القيامة ولا يضيع عليهم، بل يدخر لهم ويربى ويضاعف وينمى لأهله بسبب ما فيه من الإخلاص والصدق وتحري السنة والحذر من البدعة، أما الكفرة فأعمالهم حابطة باطلة ذاهبة كمثل الحرث يصيبها ريح فيها صر، وهكذا العمل المتبع يكون باطلاً ذاهبًا ضائعًا "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
وقال عطاء: برد وجليد، وعن ابن عباس أيضا ومجاهد: فِيهَا صِرٌّ أي نار وهو يرجع إلى الأول، فإن البرد الشديد ولا سيما الجليد يحرق الزروع والثمار، كما يحرق الشيء بالنار.
أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ أي فأحرقته، يعني بذلك السعفة إذا نزلت على حرث قد آن جذاذه أو حصاده، فدمرته وأعدمت ما فيه من ثمر أو زرع، فذهبت به وأفسدته، فعدمه صاحبه أحوج ما كان إليه. فكذلك الكفار يمحق الله ثواب أعمالهم في هذه الدنيا وثمرها، كما أذهب ثمرة هذا الحرث بذنوب صاحبه. وكذلك هؤلاء بنوها على غير أصل وعلى غير أساس وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
الشيخ: هذا يوجب للمؤمن دائمًا أن يحرص على إخلاص الأعمال لله وعلى اتباع السنة في كل شيء. وليحرص غاية الحرص على كل أعماله وأن تكون نقية سليمة أراد بها وجه الله وتحرى فيها السنة الثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام لا يريد بها رياء ولا سمعة ولا محمدة الناس ولا طلب الدنيا و لا يتبع..... مما شرعه الله.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ۝ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۝ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
يقول تبارك وتعالى ناهيا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة، أي يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم، لا يألون المؤمنين خبالا، أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة، ويودون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم، وقوله تعالى: لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ أي من غيركم من أهل الأديان، وبطانة الرجل هم خاصة أهل الذين يطلعون على داخلة أمره.
الشيخ: والآية عامة لأهل النفاق وغيرهم، هي عامة لجميع أهل الأديان، المعنى لا تتخذوا قومًا على غير دينكم بطانة لكم تسرون إليهم بما لديكم من الأمور وتطلعونهم على خفايا الأشياء؛ لأن العدو لا يؤمن، ولأن من طبيعته أنه يود الشر لعدوه، ويألوا عدوه خبالاً يعني تدميرًا وإخلالاً بالأمور ونقصًا عليهم وتسببًا لما فيه هلاكه وضرره، ولهذا قال جل وعلا: لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118] أي من غيركم من الكفرة سواء كانوا منافقين وهم شر الكفار أو كانوا يهود أو نصارى أو مجوس أو غير ذلك، فجميع الكفرة هم أعداء، ولا ينبغي أن يتخذوا بطانة كالوزير وغير ذلك ممن يطلع على هذه الأمور، أما إن احتاجوا عمالاً بعيدين عن البطانة عند الحاجة فهذا شيء آخر كما فعل النبي ﷺ مع اليهود في خيبر عند الحاجة ثم أمر بإجلائهم.
فالمقصود أن العدو البعيد الذي هو في أعمال واضحة ليس من البطانة أمره أسهل وإن كان ينبغي إبعاده بالكلية لكن البطانة تكون أشد ويكون أمرها أخطر.
وقد روى البخاري والنسائي وغيرهما، من حديث جماعة منهم يونس ويحيى بن سعيد وموسى بن عقبة وابن أبي عتيق عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قال ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله وقد رواه الأوزاعي ومعاوية بن سلام عن الزهري.الشيخ: هذه قاعدة: الرواة كلهم بالتشديد ما عدا الصحابي الجليل عبدالله بن سلام بالتخفيف وما عدا محمد بن سلام شيخ البخاري البيكندي فهو بالتخفيف على الراجح أيضاً وما سواهم فهم بالتشديد.
عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه، فيحتمل أنه عند الزهري عن أبي سلمة عنهما وأخرجه النسائي عن الزهري أيضا، وعلقه البخاري في صحيحه فقال: وقال عبيد الله بن أبي جعفر عن صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا فذكره فيحتمل أنه عند أبي سلمة عن ثلاثة من الصحابة، والله أعلم.الشيخ: وهذا يفيد الحذر إذا كان حتى الأنبياء فكيف بغيرهم "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالخير وتحثه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحثه عليه، والمعصوم من عصمه الله" فهذا يوجب على الأمراء ورؤساء الناس وشيوخ القبائل وكل من له حل وعقد أن يحذر البطانة السيئة وأن يفتش عمن لديه حتى لا يبتلى بهذه البطانة التي تأمره بالشر وتحثه عليه وتثبطه عن الخير وتكسل عنه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو أيوب محمد بن الوزان، حدثنا عيسى بن يونس عن أبي حيان التيمي، عن أبي الزنباع، عن ابن أبي الدهقانة، قال: قيل لعمر بن الخطاب : إن هاهنا غلاما من أهل الحيرة حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتبا، فقال: قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين.
ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين وإطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب، ولهذا قال تعالى: لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ.
وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إسحاق بن إسرائيل، حدثنا هشيم، حدثنا العوام عن الأزهر بن راشد، قال: كانوا يأتون أنسا فإذا حدثهم بحديث لا يدرون ما هو، أتوا الحسن يعني البصري، فيفسره لهم، قال: فحدث ذات يوم عن النبي ﷺ أنه قال لا تستضيئوا بنار المشركين، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا فلم يدروا ما هو، فأتوا الحسن فقالوا له: إن أنسا حدثنا أن رسول الله ﷺ قال لا تستضيئوا بنار المشركين، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا فقال الحسن: أما قوله لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا: محمد ﷺ، وأما قوله: لا تستضيئوا بنار المشركين يقول: لا تستشيروا المشركين في أموركم. ثم قال الحسن: تصديق ذلك في كتاب الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ هكذا رواه الحافظ أبو يعلى رحمه الله تعالى.
الشيخ: وهذا فيه نظر، تفسير الحسن هذا فيه تأمل لأن الاستضاءة بنارهم ليس بواضح بما فسره به، والأقرب والله أعلم أنه أراد بذلك البعد عنهم وعن مجاورتهم وعن مساكنتهم وألا يكون مقيمًا بين أظهرهم ولا مجاورًا لهم يستضيء بنارهم، أما اتخاذهم كتابًا فهذا أشد وأشد، وأما نقشًا عربيًا نقش محمد رسول الله فهذا ليس بواضح؛ لأن هذا ليس من البيان الواضح.
 وقد رواه النسائي عن مجاهد بن موسى، عن هشيم، ورواه الإمام أحمد عن هشيم بإسناده مثله من غير ذكر تفسير الحسن البصري.
وهذا التفسير فيه نظر ومعناه ظاهر لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا أي بخط عربي، لئلا يشابه نقش خاتم النبي ﷺ، فإنه كان نقشه «محمد رسول الله»، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنه نهى أن ينقش أحد على نقشه. وأما الاستضاءة بنار المشركين، فمعناه لا تقاربوهم في المنازل بحيث تكون معهم في بلادهم، بل تباعدوا منهم، وهاجروا من بلادهم.
الشيخ: وهذا هو الأقرب، أما عربيًا فهو محتمل أن المراد لا تنقشوا محمد رسول الله، ولكن أيضاً فيه زيادة نظر إن صح الأثر عن أنس فإن ظاهره ألا ينقش شيء بالعربي في الخواتيم هذا ليس بصريح .... بل كان المسلمون ينقشون في خواتيمهم أسماءهم، والأسماء فيها العربي وفيها غير العربي، فيها عبدالله وفيها محمد وفيها عبدالرحمن وفيها إسحاق وفيها إبراهيم فاللفظ هذا فيه نظر ويحتاج إلى مراجعته. وأما لا تستضيئوا بنارهم مثل ما تقدم مثل ما ذكر المؤلف وأما اتخاذهم أهل شورى وبطانة هذا منهي عنه بنص الآية.
الطالب:...؟
الشيخ: وبهذا يعلم أن الحديث ضعيف لأنه من رواية الأزهر بن راشد هذا مجهول فلا يلتفت إليه، والمتن غريب، المتن غريب والراوي مجهول.
ولهذا روى أبو داود لا تتراءى ناراهما.
الشيخ: هذا من حديث جرير بن عبدالله البجلي أن النبي ﷺﷺ قال: أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى ناراهما هذا رواه أهل السنن أبو داود والترمذي والنسائي من حديث جابر، والمعنى النهي عن تقاربهم وتصاحبهم في المنازل، لا ليبر الكافر المسلم، المعنى البعد عنهم ومجانبة الاختلاط بهم خشية من شرهم وفسادهم نعم.
س:....؟
الشيخ: إيه، الله المستعان؛ ولهذا ظهرت آثار الشر في المسلمين لما سافروا إليهم وجالسوهم وخالطوهم في كل مكان. نسأل الله العافية.
وفي الحديث الآخر من جامع المشرك أو سكن معه فهو مثله فحمل الحديث على ما قاله الحسن رحمه الله، والاستشهاد عليه بالآية فيه نظر، والله أعلم.الشيخ: هذا الحديث: من جامع المشرك أو سكن معه فهو مثله هذا رواه أبو داود، لكن في إسناده ضعف لكن له شواهد مثل ما تقدم قوله: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين لا تراءى ناراهما وحديث جابر  الذي رواه النسائي بإسناد جيد قوله ﷺ: لا يقبل الله من مسلم عملاً بعدما أسلم أو... إلى  المشركين  أو... يعني حتى أو بمعنى إلى وهذه الأحاديث كلها تدل على وجوب مفارقتهم وعدم السكنى معهم؛ لأن السكنى معهم والمخالطة لهم وسيلة إلى الرضا بدينهم أو الرضا بما هم فيه من المعاصي الأخرى، أو التساهل بأمر الدين فأقل أحواله أنه يتساهل بأمر الدين ويحضر منكراتهم وأعيادهم وغير ذلك.
 ثم قال تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ أي قد لاح على صفحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله، ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل، ولهذا قال تعالى: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ.الشيخ: ومن هذا الباب قوله تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ  [الممتحنة:4]
وقوله تعالى: هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ أي أنتم أيها المؤمنون تحبون المنافقين بما يظهرون لكم من الإيمان فتحبونهم على ذلك، وهم لا يحبونكم لا باطنا ولا ظاهرا، وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ أي ليس عندكم في شيء منه شك ولا ريب، وهم عندهم الشك والريب والحيرة. وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ أي بكتابكم وكتابهم، وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم، رواه ابن جرير.
وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ والأنامل أطراف الأصابع، قاله قتادة.
وقال الشاعر:
..... وما حملت كفاي أنملي العشرا
وقال ابن مسعود والسدي والربيع بن أنس: الأنامل الأصابع، وهذا شأن المنافقين يظهرون للمؤمنين الإيمان والمودة، وهم في الباطن بخلاف ذلك من كل وجه، كما قال تعالى: وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ وذلك أشد الغيظ والحنق.
قال الله تعالى: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أي مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم، فاعلموا أن الله متم نعمته على عباده المؤمنين ومكمل دينه، ومعل كلمته ومظهر دينه، فموتوا أنتم بغيظكم، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أي هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم وتكنه سرائركم من البغضاء والحسد والغل للمؤمنين، وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تؤملون، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها لا محيد لكم عنها، ولا خروج لكم منها.
ثم قال تعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وهذه الحال دالة على شدة العداوة منهم للمؤمنين، وهو أنه إذا أصاب المؤمنين خصب ونصر وتأييد وكثروا وعز أنصارهم، ساء ذلك المنافقين، وإن أصاب المسلمين سنة أي جدب أو أديل عليهم الأعداء لما لله تعالى في ذلك من الحكمة - كما جرى يوم أحد- فرح المنافقون بذلك، قال الله تعالى مخاطبا للمؤمنين وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا الآية، يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم، فلا حول ولا قوة لهم إلا به. وهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته، ومن توكل عليه كفاه.
الشيخ: وهذه من نعم الله العظيمة أن أهل الإيمان إذا صبروا واتقوا لا يضرهم كيد الكفار.....بل سوف ينصرون عليهم وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120] فمتى صبر أولياء الله واتقوا ربهم وجاهدوا في سبيله ونصروا دينه وتكاتفوا وتعاونوا على البر والتقوى؛ أيدهم الله وكفاهم شر أعدائهم وكفاهم مكائدهم، ولكن المصيبة تأتي من جهة تقصيرهم في أمر الله وارتكابهم بعض المحارم أو تفرقهم واختلافهم، كما جرى يوم أحد حتى جرى ما جرى من الإدالة.