05 من قوله: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ..)

ثم شرع تعالى في ذكر قصة أحد وما كان فيها من الاختبار لعباده المؤمنين. والتمييز بين المؤمنين والمنافقين وبيان الصابرين فقال تعالى:
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ۝ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
المراد بهذه الوقعة يوم أحد عند الجمهور، قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وغير واحد. وعن الحسن البصري: المراد بذلك يوم الأحزاب. ورواه ابن جرير، وهو غريب لا يعول عليه.
وكانت وقعة أحد يوم السبت من شوال سنة ثلاث من الهجرة. قال قتادة: لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال. وقال عكرمة: يوم السبت للنصف من شوال، فالله أعلم، وكان سببها أن المشركين حين قتل من قتل من أشرافهم يوم بدر وسلمت العير بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سفيان قال أبناء من قتل، ورؤساء من بقي لأبي سفيان: ارصد هذه الأموال لقتال محمد فأنفقوها في ذلك، فجمعوا الجموع والأحابيش، وأقبلوا في نحو من ثلاثة آلاف حتى نزلوا قريبا من أحد تلقاء المدينة، فصلى رسول الله ﷺ يوم الجمعة، فلما فرغ منها صلى على رجل من بني النجار يقال له مالك بن عمرو، واستشار رسول الله ﷺ الناس أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة فأشار عبدالله بن أبي بالمقام بالمدينة، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدرا بالخروج إليهم، فدخل رسول الله ﷺ فلبس لأمته وخرج عليهم، وقد ندم بعضهم وقالوا: لعلنا استكرهنا رسول الله ﷺ، فقالوا: يا رسول الله إن شئت أن نمكث، فقال رسول الله ﷺ ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يرجع حتى يحكم الله له فسار ﷺ في ألف من أصحابه، فلما كانوا بالشوط، رجع عبدالله بن أبي في ثلث الجيش مغضبا لكونه لم يرجع إلى قوله، وقال هو وأصحابه: لو نعلم اليوم قتالا لا تبعناكم، ولكنا لا نراكم تقاتلون اليوم.

الشيخ: وهذا من أجل نفاقه وخبثه يعني عبدالله بن أبي كان منافقًا خبيثًا فلما لم يقبل النبي ﷺ رأيه بالجلوس في المدينة وقتالهم إذا دخلوا خرج مغضباً ثم رجع ومعه ..... من الجيش ممن يعظموه ويقدروا رئاسته في قومه، وبقي مع النبي ﷺ حوالي سبعمائة من المقاتلين وكان الجيش الكافر نحو ثلاثة آلاف مقاتل وكانوا قد نزلوا في المدينة وفي ... المدينة فأراد الله ما أراد من الحكم بينهم وبينهم وجرى ما جرى من القتال والجراح وتخلف الرماة الذين أمرهم النبي ﷺ أن يلزموا موقفهم وألا يحيدوا من الموقف حتى لا ينسل العدو من خلف المسلمين، فجرى ما جرى مما يأتي. ولله الحكمة البالغة ، له الحكمة البالغة في كل شيء.

 واستمر رسول الله ﷺ سائرا حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي. وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال وتهيأ رسول الله ﷺ للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه، وأمَّر على الرماة عبدالله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف. والرماة يومئذ خمسون رجلا، فقال لهم انضحوا الخيل عنا ولا نؤتين من قبلكم والزموا مكانكم إن كانت النوبة لنا أو علينا، وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم. وظاهر رسول الله ﷺ بين درعين، وأعطى اللواء مصعب بن عمير أخا بني عبدالدار. وأجاز رسول الله ﷺ بعض الغلمان يومئذ وأرجأ آخرين حتى أمضاهم يوم الخندق بعد هذا اليوم بقريب من سنتين، وتهيأت قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، ودفعوا اللواء إلى بني عبدالدار ثم كان بين الفريقين ما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى، ولهذا قال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [آل عمران:121] أي تنزلهم منازلهم، وتجعلهم ميمنة وميسرة وحيث أمرتهم، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي سميع لما تقولون، عليم بضمائركم.وقد أورد ابن جرير هاهنا سؤالا حاصله: كيف تقولون إن النبي ﷺ خرج إلى أحد يوم الجمعة بعد الصلاة وقد قال الله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ الآية؟ ثم كان جوابه عنه: أن غدوه ليبوأهم مقاعد إنما كان يوم السبت أول النهار.
وقوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا [آل عمران:122] الآية، قال البخاري: حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا سفيان، قال: قال عمرو: سمعت جابر بن عبدالله يقول: فينا نزلت إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا الآية، قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما نحب - وقال سفيان مرة وما يسرني- أنها لم تنزل لقوله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به. وكذا قال غير واحد من السلف: إنهم بنو حارثة وبنو سلمة.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ أي يوم بدر، وكان يوم الجمعة وافق السابع عشر من شهر رمضان من سنة اثنتين من الهجرة وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك، وخرب محله وحزبه هذا مع قلة عدد المسلمين يومئذ، فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، فيهم فرسان وسبعون بعيرا، والباقون مشاة ليس معهم من العدد جميع ما يحتاجون إليه. وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد والبيض والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد، فأعز الله رسوله وأظهر وحيه وتنزيله، وبيض وجه النبي ﷺ وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله، ولهذا قال تعالى ممتنا على عباده المؤمنين وحزبه المتقين وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أي قليل عددكم لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله لا بكثرة العدد والعدد، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا - إلى- وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:25-27].
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن سماك، قال: سمعت عياضا الأشعري قال: شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء: أبو عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان، وابن حسنة، وخالد بن الوليد، وعياض، وليس عياض هذا الذي حدث سماكا قال: وقال عمر: إذا كان قتال فعليكم أبو عبيدة، قال: فكتبنا إليه إنه قد جاش إلينا الموت، واستمددناه، فكتب إلينا: إنه قد جاءني كتابكم تستمدونني، وإني أدلكم على من هو أعز نصرا، وأحصن جندا: الله فاستنصروه، فإن محمدا ﷺ قد نصر يوم بدر في أقل من عدتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا، فقاتلوهم ولا تراجعوني، قال: فقاتلناهم فهزمناهم أربعة فراسخ، قال: وأصبنا أموالا فتشاورنا، فأشار علينا عياض أن نعطي عن كل ذي رأس عشرة، قال: وقال أبو عبيدة: من يراهنني؟ فقال شاب: أنا إن لم تغضب قال: فسبقه فرأيت عقيصتي أبي عبيدة ينقزان وهو خلفه على فرس عري، وهذا إسناد صحيح.
الشيخ: الرهان هنا يعني المسابقة على خيل سابق أبو عبيدة مع شاب.
 وقد أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث بندار عن غندر بنحوه، واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه، و"بدر": محلة بين مكة والمدينة تعرف ببئرها، منسوبة إلى رجل حفرها، يقال له: بدر بن النارين، قال الشعبي: بدر بئر لرجل يسمى بدرا، وقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي تقومون بطاعته.
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ ۝ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ  ۝ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ۝ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ۝ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ۝ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
اختلف المفسرون في هذا الوعد، هل كان يوم بدر أو يوم أحد؟ على قولين:
أحدهما: أن قوله: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ متعلق بقوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ [آل عمران:123] وروي هذا عن الحسن البصري وعامر الشعبي والربيع بن أنس وغيرهم، واختاره ابن جرير.
قال عباد بن منصور عن الحسن في قوله: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قال: هذا يوم بدر، رواه ابن أبي حاتم. ثم قال: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا داود عن عامر يعني الشعبي: أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر كان يمد المشركين، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله تعالى: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ - إلى قوله- مُسَوِّمِينَ قال: فبلغت كرزا الهزيمة، فلم يمد المشركين، ولم يمد الله المسلمين بالخمسة، وقال الربيع بن أنس: أمد الله المسلمين بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف.
فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية على هذا القول، وبين قوله تعالى في قصة بدر: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ - إلى قوله- إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:9، 10]؟
فالجواب أن التنصيص على الألف - هاهنا- لا ينافي الثلاثة الآلاف فما فوقها، لقوله: مُرْدِفِينَ بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم. وهذا السياق شبيه بهذا السياق في سورة آل عمران.
فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر كما هو المعروف من أن قتال الملائكة إنما كان يوم بدر، والله أعلم.
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: أمد الله المسلمين يوم بدر بخمسة آلاف.
القول الثاني: أن هذا الوعد متعلق بقوله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [آل عمران:121] وذلك يوم أحد، وهو قول مجاهد وعكرمة والضحاك والزهري وموسى بن عقبة وغيرهم. لكن قالوا: لم يحصل الإمداد بالخمسة الآلاف لأن المسلمين فروا يومئذ، زاد عكرمة: ولا بالثلاثة الآلاف لقوله تعالى: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران:125] فلم يصبروا بل فروا فلم يمدوا بملك واحد.
وقوله: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا يعني: تصبروا على عدوكم، وتتقوني وتطيعوا أمري.
الشيخ: قول عكرمة .. القول الأول الذي قال به سبحانه: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[آل عمران:120] ... الكفار يوم أحد انهزم الكفار وقتل منهم جماعة كثيرة فوق العشرين وسقطت رايتهم، فلما رأى الرماة الذين على الجبل الذين أمرهم النبي ﷺ أن يلزموا مكانهم، وقال لا يحيدوا عن مكانهم ولو كانت الدائرة على المشركين أو على المسلمين، فلما أنهم تركوا الموقف وطاروا إلى الغنائم، دخل جيش المشركين على المسلمين من خلفهم وحصل ما حصل من الاضطراب والمصيبة العظيمة والهزيمة والجراح والقتال؛ فهذا هو السبب الذي منع الإمداد بالثلاثة والإمداد بالخمسة في قتال يوم أحد على هذا القول الذي قاله جماعة وهو قول وجيه وظاهر.. لأن الله جل شرط في هذا وهذا الصبر والتقوى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا [آل عمران:125] وفي أولها قبل الدخول في القصة قال: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120] فالمسلمون إذا صبروا في جهاد الأعداء واتقوا الله ولزموا الحق وصابروا أعداءهم فالله ينصرهم ويجعل لهم العاقبة الحميدة، هذا هو وعده سبحانه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40] الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41] فالحاصل أن النصر المعلق بالشروط..... ولله الحكمة البالغة فيما وقع يوم أحد؛ ليعتبر المسلمون وغير المسلمين وليعلموا أن النصر بيد الله وأن النصر ليس بيدهم، ولو كانوا خير الناس، فمحمد ﷺ هو خير الناس، وأصحابه خير الناس بعد الأنبياء، ولما أخلوا بالشرط ... جرى ما جرى من الهزيمة وتسليط الأعداء، ويعلم بهذا أن الأنبياء لا يدفعون عن أنفسهم وليسوا آلهة، بل هم عبيد مكرمون بشر، إذا أراد الله بهم شيء نزل، ولهذا جرى على النبي ﷺ يوم أحد من الجراحات كسر البيضة على رأسه .... على وجنتيه، ودخل حلقات من المغفر بين وجنتيه، وسقط في بعض الحفر التي هناك، ولكن الله سلم وأنجاه ، وقتل بعض الأنبياء قتلهم بنو إسرائيل كل هذا بأسباب ما وقع من التغيير وعدم الالتزام بالواجب من أولياء الله ...
ثم ليعلم الناس أن النصر بيده وأنه سبحانه هو الذي ينصر من يشاء وأن القوة والكثرة والعدة كل هذه أسباب، وليست هي الموجبة للنصر، وما النصر إلا من عند الله وإنما هي أسباب ولهذا قال تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126] فالجيش والعدة بشرى، ولكن النصر ليس بموجبها، بل هي أسباب فكم من كثرة غلبت، وكم من قلة غلبت كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249] وهذا يوجب لأهل الإسلام الانكسار بين يدي الله، والذل بين يدي الله، والاعتماد عليه والثقة به ، وأن يعلموا أن ما في أيديهم كله أسباب وليس موجبًا للنصر، بل النصر بيد الله ؛ فيزدادوا إيمانًا ويزدادوا ثقة ويزدادوا تواضعًا لله وضراعة بين يديه وثقة به وسؤاله النصر والمدد. ولما أعجبوا يوم حنين بالكثرة غلبوا وانكسروا ثم تراجعوا وندموا على ما فرطوا وتلاحقوا حتى نصر الله على عدوهم ثقيف وهوازن.
وقوله: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا يعني: تصبروا على عدوكم، وتتقوني وتطيعوا أمري.
وقوله تعالى: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا قال الحسن وقتادة والربيع والسدي: أي من وجههم هذا، وقال مجاهد وعكرمة وأبو صالح: أي من غضبهم هذا. وقال الضحاك: من غضبهم ووجههم. وقال العوفي عن ابن عباس: من سفرهم هذا، ويقال: من غضبهم هذا.
وقوله تعالى: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ أي معلمين بالسيما، وقال أبو إسحاق السبيعي عن حارثة بن مضرب، عن علي بن أبي طالب ، قال: كان سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض، وكان سيماهم أيضا في نواصي خيولهم، رواه ابن أبي حاتم. ثم قال: حدثنا أبو زرعة، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة في هذه الآية مُسَوِّمِينَ قال: بالعهن الأحمر، وقال مجاهد: مُسَوِّمِينَ أي محذفة أعرافها، معلمة نواصيها بالصوف الأبيض في أذناب الخيل.
وقال العوفي، عن ابن عباس ، قال: أتت الملائكة محمدا ﷺ، مسومين بالصوف، فسوم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف.
وقال قتادة وعكرمة مُسَوِّمِينَ أي بسيما القتال، وقال مكحول: مسومين بالعمائم.
وروى ابن مردويه من حديث عبدالقدوس بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ في قوله: مُسَوِّمِينَ قال معلمين. وكان سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود، ويوم حنين عمائم حمر.
وروي من حديث حصين بن مخارق عن سعيد، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
وقال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن مقسم، عن ابن عباس، قال: كان سيما الملائكة يوم بدر، عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمر. ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون،
الشيخ: يعني يكونون عددًا ومددًا لإخافة الأعداء من غير أن يضربوا بالسلاح في غير يوم بدر.
 ثم رواه عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس فذكر نحوه.الشيخ: وهذا القول ليس بشيء والصواب أنهم كانوا يقتلون، فقد قتلوا الكثير يوم بدر، وجاء في يوم حنين ما يدل على أنهم قاتلوا أيضاً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الأحمسي، حدثنا وكيع، حدثنا هشام بن عروة عن يحيى بن عباد أن الزبير ، كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجرا بها، فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر، رواه ابن مردويه من طريق هشام بن عروة عن أبيه، عن عبدالله بن الزبير، فذكره.
وقوله تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ أي وما أنزل الله الملائكة وأعلمكم بإنزالهم إلا بشارة لكم وتطييبا لقلوبكم وتطمينا، وإلا فإنما النصر من عند الله الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم، كما قال تعالى بعد أمره المؤمنين بالقتال ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ۝ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ۝ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:4-6].
الشيخ: والمعنى أن الله جل وعلا شرع الإعداد بالسلاح والجيش والقتال وغير ذلك ابتلاء وامتحانًا؛ ليعلم الصادق من الكاذب والمجاهد من غيره الصادق في ميادين القتال وطالب الشهادة من غيره، وإلا فلو شاء لأهلكهم بغير ذلك لأهلك أعداءه بقوله موتوا فيموتون من غير حاجة إلى أحد، فلو شاء لسلط أولياءه عليهم ...... ولو كانوا قليلين، ولكنه يبتلي هؤلاء بهؤلاء وهؤلاء بهؤلاء ليظهر أمره على أولياءه ونصره لهم وإحسانه إليهم ورفع منازلهم وليظهر غضبه على أعدائه بسبب أعمالهم الخبيثة وعدائهم لأوليائه وجدالهم في غير الحق إلى غير ذلك ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ [محمد:4] أي بما شاء وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4] ليبتلي هؤلاء بهؤلاء وهؤلاء بهؤلاء وقال جل وعلا: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7].
 ولهذا قال هاهنا وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أي هو ذو العزة التي لا ترام، والحكمة في قدره والإحكام.
ثم قال تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي أمركم بالجهاد والجلاد لما له في ذلك من الحكمة في كل تقدير، ولهذا ذكر جميع الأقسام الممكنة في الكفار المجاهدين، فقال: لِيَقْطَعَ طَرَفًا أي ليهلك أمة من الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ أي يخزيهم ويردهم يغيظهم لما لم ينالوا منكم ما أرادوا. ولهذا قال: أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ أي يرجعوا خائبين أي لم يحصلوا على ما أملوا.
ثم اعترض بجملة دلت على أن الحكم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له، فقال تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أي بل الأمر كله إلي، كما قال تعالى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد:40] وقال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272] وقال: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].
قال محمد بن إسحاق في قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ شيء أي ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم.
ثم ذكر تعالى بقية الأقسام، فقال أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي مما هم فيه من الكفر فيهديهم بعد الضلالة أَوْ يُعَذِّبَهُمْ أي في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم، ولهذا قال فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ أي يستحقون ذلك.
وقال البخاري: حدثنا حبان بن موسى، أنبأنا عبدالله، أنبأنا معمر عن الزهري، حدثني سالم عن أبيه، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من الفجر اللهم العن فلانا وفلانا بعد ما يقول سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الآية، وهكذا رواه النسائي من حديث عبدالله بن المبارك وعبدالرزاق، كلاهما عن معمر به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر حدثنا أبو عقيل- قال أحمد: وهو عبدالله بن عقيل صالح الحديث ثقة- حدثنا عمر بن حمزة عن سالم عن أبيه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: اللهم العن فلانا، وفلاناً، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ فتيب عليهم كلهم.
الشيخ: يعني هؤلاء أسلموا كلهم؛ الحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، كل هؤلاء أسلموا وحسن إسلامهم، ودل ذلك على أنه ﷺ قد استغضب على قوم ويلعنهم ولم يستجب له فيهم لحكمة بالغة لما سبق في علم الله من كونهم سوف يهتدون ويرجعون إلى الحق، وهذا يبين أن الأمر بيد الله جل وعلا في عباده، فإنما على الرسل وأتباعهم البلاغ والبيان والدعوة والإرشاد، فأما الهداية بيد الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، ولهذا قال : لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ [آل عمران:127] لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] فهم مستحقون للعقوبة، ولكنه جعل وعلا يمن على من يشاء بالهداية ويضل من يشاء فيبقى على حاله السيئة نسأل الله السلامة.
وقال أحمد: حدثنا أبو معاوية الغلابي، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا محمد بن عجلان عن نافع، عن عبدالله، أن رسول الله ﷺ كان يدعو على أربعة، قال: فأنزل الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ إلى آخر الآية، قال: وهداهم الله للإسلام.
قال البخاري قال محمد بن عجلان عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله يدعو على رجال من المشركين يسميهم بأسمائهم، حتى أنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الآية.
وقال البخاري  أيضا: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ﷺ كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد، قنت بعد الركوع وربما قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف يجهر بذلك. وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر اللهم العن فلانا وفلانا لأحياء من أحياء العرب، حتى أنزل الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الآية.
وقال البخاري: قال حميد وثابت، عن أنس بن مالك: شج النبي ﷺ يوم أحد، فقال كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وقد أسند هذا الحديث الذي علقه البخاري في صحيحه، فقال البخاري في غزوة أحد: حدثنا يحيى بن عبدالله السلمي، أخبرنا عبدالله، أخبرنا معمر عن الزهري، حدثني سالم بن عبدالله عن أبيه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعد ما يقول سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، فأنزل الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الآية.
وعن حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعت سالم بن عبدالله قال: كان رسول الله ﷺ يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام، فنزلت ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون هكذا ذكر هذه الزيادة البخاري معلقة مرسلة، وقد تقدمت مسندة متصلة في مسند أحمد آنفا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا حميد عن أنس ، أن النبي ﷺ، كسرت رباعيته  يوم أحد، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه، فقال كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم ؟ فأنزل الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ انفرد به مسلم، فرواه عن القعنبي، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، فذكره.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح: حدثنا الحسين بن واقد عن مطر، عن قتادة، قال: أصيب النبي ﷺ يوم أحد.
 الشيخ: وفي هذه القصة قصة أحد وما أصاب النبي ﷺ فيها من الجراحات، وما أصاب أصحابه من القتل والجراحات، دلالة على أن الله جل وعلا هو المتصرف في الكون، وأنه هو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده كل شيء، وأن الأنبياء وإن كانوا أفضل الناس وهكذا خاتمهم نبينا محمد ﷺ وإن كان أفضل الناس لا يدفعون عن أنفسهم شيئًا، بشر يصيبهم ما يصيب الناس من القتل والجراحات والهزائم؛ ليعلم الناس أن الأمر بيد الله وأنه الذي ينصر من يشاء ويذل من يشاء ويهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأن الأولياء والأنبياء لا يدفعون عن أنفسهم، وليس لهم شيء من العبادة، بل هي حق الله جل وعلا وأنهم لا يعلمون الغيب، كل شيء بيد الله حتى ينقطع تعلق العباد بهم، وحتى يكمل التوحيد والإخلاص لله وحده والإيمان بأنه مصرّف الأمور ومدبرها، وأن العز والذل بيده والنصر بيده لا بيد غيره حتى تتوجه القلوب إلى الله وتؤمن بأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم وحتى لا تعبد سواه .
وكسرت رباعيته، وفرق حاجبه، فوقع وعليه درعان والدم يسيل، فمر به سالم مولى أبي حذيفة فأجلسه ومسح عن وجهه، فأفاق وهو يقول كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى الله ؟ فأنزل الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الآية، وكذا رواه عبدالرزاق عن معمر عن قتادة بنحوه، ولم يقل: فأفاق.
ثم قال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الآية، أي الجميع ملك له، وأهلهما عبيد بين يديه يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ أي هو المتصرف فلا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۝ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ۝ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ۝ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۝ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۝ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
 يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافا مضاعفة كما كانوا في الجاهلية يقولون: إذا حل أجل الدين، إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن قضاه، وإلا زاده في المدة، وزاده الآخر في القدر، وهكذا كل عام فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيرا مضاعفا، وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى وفي الأخرى،
الشيخ: وهذا معنى أضعافًا مضاعفة، يعني هذا من طريقهم في الجاهلية أن يكون الربا أضعافًا مضاعفة، ولا هو شرط، فإن الله حرم الربا مطلقًا كما في سورة البقرة وإن كان مجرد مرة، كما لو باع درهمًا بدرهمين أو صاعًا بصاعين، أو ما أشبه ذلك فهو ربا، ولكن هذا الذي أضعافًا مضاعفة يكون أكثر شرًا وأكثر إثمًا، فإذا باع له شيء إلى أجل باعه هذه السلعة بألف ريال إلى أجل معلوم، فإن حل الأجل يقول إما أن تقضي وإما أن تربي فإما أن يقضيه حقه وإما أن يزيد هذا في المال ويزيد هذا في الأجل فيقول الذي عليه المال: أنا معسر فيقول: اجعل الألف ألف ومائة أو ألف وخمسين إلى كذا وكذا إلى أجل آخر فيزيد هذا المال وهذا يزيد الأجل وهكذا في المرة الأخرى إذا حل ولم يكن عنده وفاء زاده أيضاً في الدراهم وزاد هذا في الأجل، وهكذا حتى تكون الأموال مضاعفة بسبب العسر وبسبب الزيادة في الآجال وهذا نوع من أنواع الربا في الجاهلية وهو ربا النسيئة. ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها، فقال تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ۝ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَالشيخ: وهذا يبين لنا أن طاعة الله ورسوله سبب الرحمة، طاعة الرب هي سبب الرحمة، والمعاصي هي سبب النار، والغضب وتقوى النار يكون بطاعة الله ورسوله، والإقدام على المعاصي هو سبب النار وطريق النار، نسأل الله العافية. فالواجب على أهل الإسلام أن يتقوها بطاعة الله ورسوله والبعد عما نهى الله عنه ورسوله، هذه هي التقوى التي يباعد الله بها عباده عن النار ويحصل لهم من الرحمة، نعم.
ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات، فقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ أي كما أعدت النار للكافرين، وقد قيل: إن معنى قوله عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ تبنيها على اتساع طولها، كما قال في صفة فرش الجنة بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [الرحمن:54] أي فما ظنك بالظهائر؟.
وقيل: بل عرضها كطولها لأنها فية تحت العرش، والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله، وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وسقفها عرش الرحمن وهذه الآية كقوله في سورة الحديد سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الحديد:21].
وقد روينا في مسند الإمام أحمد أن هرقل كتب إلى النبي ﷺ: إنك دعوتني إلى جنة عرضها السموات والأرض، فأين النار؟ فقال النبي ﷺ سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار؟.
وقد رواه ابن جرير  فقال: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني مسلم بن خالد عن أبي خيثمة، عن سعيد بن أبي راشد، عن يعلى بن مرة، قال: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله ﷺ بحمص شيخا كبيرا قد فسد، فقال: قدمت على رسول الله ﷺ بكتاب هرقل فتناول الصحيفة رجلا عن يساره، قال: قلت: من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا: معاوية، فإذا كتاب صاحبي: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض، فأين النار؟ قال: فقال رسول الله ﷺ سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار؟.
وقال الأعمش وسفيان الثوري وشعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب: أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السموات والأرض، فأين النار؟ فقال لهم عمر: أرأيتم إذا جاء النهار أين الليل؟ وإذا جاء الليل أين النهار؟ فقالوا: لقد نزعت مثلها من التوراة، رواه ابن جرير من ثلاث طرق، ثم قال: حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا أبو نعيم، حدثنا جعفر بن برقان، أنبأنا يزيد بن الأصم: أن رجلا من أهل الكتاب قال: يقولون جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال ابن عباس : أين يكون الليل إذا جاء النهار، وأين يكون النهار إذا جاء الليل؟  
وقد روي هذا مرفوعا، فقال البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا المغيرة بن سلمة أبو هشام، حدثنا عبدالواحد بن زياد عن عبيد الله بن عبدالله بن الأصم، عن عمه يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ، فقال: أرأيت قوله تعالى: جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ قال: أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شيء، فأين النهار؟ قال: حيث شاء الله، قال وكذلك النار تكون حيث شاء الله .
وهذا يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون في مكان، وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله ، وهذا أظهر كما تقدم في حديث أبي هريرة عند البزار.
الثاني: أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السموات تحت العرش وعرضها، كما قال الله كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الحديد:21] والنار في أسفل سافلين فلا تنافي بين كونها كعرض السموات والأرض وبين وجود النار، والله أعلم.
الشيخ: وكلا هذا حق، فإن الجنة عرضها السماوات والأرض وهي في أعلا شيء، وسقفها عرش الرحمن، وبينت الآية الكريمة والحديث الشريف أن الجنة بعضها فوق بعض وأنها مقببة ولهذا قال: إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة فإن أعلى الشيء وأوسطه لا يكون إلا بالتقبيب فأوسطه هو أعلاه، ثم هكذا يتسع من كل جانب، فهكذا أهل الجنة في الغرف المنازل غرف بعضها فوق بعض، ولا يعلم سعة هذه الجنات وهذه الغرف العظيمة إلا الذي خلقها جل وعلا حتى جاء في الحديث الصحيح إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق الشرقي أو الغربي لتفاضل ما بينهم في المنازل من جهة ما بينهم من الدرجات والأعمال الصالحات، فالنار أسفل سافلين تحت ذلك فلا منافاة بين هذا وبين هذا، فهذه في أعلى وسقفها عرش الرحمن ومكانها معروف وعرضها عرض السماوات والأرض وطولها كعرضها؛ لأن المقبب الذي كلما ارتفع صار ما تحته أوسع يكون عرضه كطوله، والنار تحت ذلك وأسفل من ذلك في أبعد مكان وأسفل مكان، نسأل الله العافية ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالمقصود من هذا بيان سعتها، وأنها واسعة جداً، وأنها كافية لأهلها ويبقى فيها فضل، كما جاء في الحديث: ينشئ الله  له أقوامًا فيدخلهم الجنة، والنار موعودة ملأها ثم تطبق على أهلها نسأل الله العافية.
ثم ذكر تعالى صفة أهل الجنة فقال الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ أي في الشدة والرخاء والمنشط والمكره والصحة والمرض وفي جميع الأحوال، كما قال الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً [البقرة:274] والمعنى أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مراضيه. والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر.الشيخ: وهذا شأن أهل الاستقامة والجود والكرم والمسارعة إلى الخيرات والرغبة بما عند الله، ينفقون مما أعطاهم الله في السر والجهر، وفي الشدة والرخاء، وفي جميع الأحوال، وبهذا وصف الله المتقين بقوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]
وقوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يعلنوه، وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم.
وقد ورد في بعض الآثار يقول الله تعالى: يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت، أذكرك إذا غضبت، فلا أهلكك فيمن أهلك رواه ابن أبي حاتم.
وقد قال أبو يعلى في مسنده: حدثنا أبو موسى الزمن، حدثنا عيسى بن شعيب الضرير أبو الفضل، حدثني الربيع بن سليمان الجيزي عن أبي عمرو بن أنس بن مالك، عن أبيه، قال: قال رسول الله ﷺ : من كف غضبه، كف الله عنه عذابه، ومن خزن لسانه، ستر الله عورته، ومن اعتذر إلى الله، قبل الله عذره وهذا حديث غريب، وفي إسناده نظر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرحمن، حدثنا مالك عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب وقد رواه الشيخان من حديث مالك.
الشيخ: يعني البخاري ومسلم يقال لهما الشيخان، وهما شيخا الحديث رحمة الله عليهما، والمعنى أن الشديد في الحقيقة هو ... العظيم والسلامة من شر عظيم، هو الذي يملك نفسه عند الغضب، ليس الشديد الذي يصرع الناس ويطرح الناس بقوته النسبية، في الحقيقة وإن كان قويًا وإن كان شديدًا لكن أقوى منه وأشد منه وأفضل منه الذي يملك نفسه عند الغضب، وهذا مثل الحديث الآخر ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس هذا يعني المتعفف، يعني أولى الناس بالمسكنة أولى الفقراء بالمسكنة هو المتعفف، وإن كان السائل الشحاذ الفقير يسمى مسكينًا إذا كان ما عنده شيء أو عنده شيء يسير لكن أولى به هذا الاسم وأحق منه بالصدقة المتعفف؛ الذي ليس عنده شيء ويستحي أن يقوم فيسأل الناس ولا يفطن له الناس حتى يعطوه، فهذا جدير بأن يعطى إذا عرفه جاره أو قريبه ونحو ذلك لحيائه وعدم تعرضه للسؤال، هكذا الصرعة -الصرعة فعلة مثل همزة- الذي يصرع الناس، الذي يطرح الناس بقوته إذا صارعهم طرحهم، هذا يسمى شديدًا ولكن في الحقيقة الشديد غير الشديد من هو خير منه، وهو الذي يملك نفسه عند الغضب، يصرعها عند الغضب، لا ينفذ غضبه، بل يحفظها عند الغضب حتى لا ينفذ ما يسبب الغضب من طلاق أو قتل أو ضرب أو سب أو نحو ذلك.
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن عبدالله وهو ابن مسعود ، قال: قال رسول الله ﷺ أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله» قال: قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال «اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله، مالك من مالك إلا ما قدمت، وما لوارثك ما أخرت. قال: وقال رسول الله ﷺ ما تعدون الصرعة فيكم؟ قلنا: الذي لا تصرعه الرجال. قال لا، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب. قال: قال رسول الله ﷺ: ما تعدون فيكم الرقوب؟ قلنا: الذي لا ولد له. قال لا، ولكن الرقوب الذي لم يقدم من ولده شيئا أخرج البخاري الفصل الأول منه، وأخرج مسلم أصل هذا الحديث، من رواية الأعمش به.
الشيخ: هذا يبين لنا أن الخلق أكثر إلا من قل، كما قال النبي ﷺ: وماله هذا أحب إليه أناس معروف عنهم أن مال وارثيهم أحب إليهم من مالهم وكيف؟ لأنهم يبخلون بالنفقة ويدعون المال للورثة، فتكون المصلحة للورثة لا لهم، إلا من وفقه الله أن يقدم من ماله ولهذا قال ﷺ: أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا أحد إلا وماله أحب إليه من مال وارثه! فقال: إن مال أحدكم ما قدم، وإن مال وارثه ما أخر.
فمالك يا عبد الله ما قدمته للآخرة، ما أنفقته في طريق الخير، في سبل الخير، هذا مالك في الحقيقة تجده يوم القيامة ينفعك في موازين حسناتك، أما ما قد أخرته وراءك فليس مالك، ولكنه مال الورثة ينفقونه فيما شاؤوا، وأما ما قدمته في دنياك فهذا هو مالك إذا قدمته لله، ثم قال: ما تعدون الرقوب فيكم؟ قالوا: من ليس له ولد يعني من لم يولد له،  قال: لكن الرقوب – يعني العقيم - الذي ما قدم من ولده شيئًا يعني ما مات له أحد ما قدم صغارًا، لأن الصغار يشفعون لوالديهم، ولهذا في الحديث الصحيح: ما من أحد يموت له ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا كانوا له حجابًا عن النار قالوا: أو اثنين قال: أو اثنين، هذا يدل على أن من تقدم من الأولاد لا تندم فيه ولا تحزن، فهو ينفعك يوم القيامة، الأولاد الصغار قبل البلوغ ينفعون والديهم المسلمين وفي اللفظ الآخر: ما تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: من لا درهم له ولا متاع، ما عنده دراهم، ولا عنده أمتعة ولا أموال قال: لكن المفلس الذي يأتي يوم القيامة بأعمال يعني عظيمة من صلاة وصوم وصدقة ويأتي وقد ضرب هذا وشتم هذا وقذف هذا وأخذ مال هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته ويعطى هذا من حسناته فإن فنيت حسناته ولم يقض ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه فطرح في النار هذا هو المفلس الذي قدم أعماله فأخذها غيره، نسأل الله العافية ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهنا قال: ما تعدون الصرعة فيكم، قالوا: الذي لا تصرعه الرجال، لا يطرحونه لقوته قال: لكن الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب إذا غضب جاهدها وملكها حتى لا يقتل لا يضرب ولا يسب ولا يشتم ولا يطلق إلى غير هذا، يعني يملك نفسه يجاهدها ويكتم غيظه.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة سمعت عروة بن عبدالله الجعفي يحدث عن أبي حصبة أو ابن أبي حصين، عن رجل شهد النبي ﷺ يخطب، فقال أتدرون ما الرقوب؟ قلنا: الذي لا ولد له، قال الرقوب كل الرقوب الذي له ولد فمات ولم يقدم منهم شيئا قال تدرون من الصعلوك؟ قالوا: الذي ليس له مال، فقال النبي ﷺ الصعلوك كل الصعلوك الذي له مال فمات ولم يقدم منه شيئا قال: ثم قال النبي ﷺ ما الصرعة؟ قالوا: الصريع الذي لا تصرعه الرجال، فقال ﷺ : الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع  غضبه.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه، عن الأحنف بن قيس، عن عم له يقال له جارية بن قدامة السعدي، أنه سأل رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، قل لي قولا ينفعني وأقلل علي لعلي أعيه، فقال رسول الله ﷺ: لا تغضب فأعاد عليه حتى أعاد عليه مرارا كل ذلك يقول لا تغضب، وهكذا رواه عن أبي معاوية عن هشام به، ورواه أيضا عن يحيى بن سعيد القطان عن هشام به، أن رجلا قال: يا رسول الله، قل لي قولا وأقلل علي لعلي أعقله، فقال لا تغضب الحديث، انفرد به أحمد.

الشيخ: وهذا رواه مسلم بمعناه أن رجلاً قال للنبي ﷺ: أوصني، قال: لا تغضب فردد مررًا قال: لا تغضب. وما ذاك إلا لأن الغضب خطره عظيم، والرجل المغضاب كثيرًا ما يقع في مشاكل وأشياء تضره، فلهذا حذر النبي ﷺ من الغضب وأوصى بترك الغضب عليه الصلاة والسلام.
والمعنى ترك أسبابه، يعني ترك الخصومات والملاحات التي تسبب الغضب، فإذا رأى شيئًا قد يسبب الغضب تركه وقام حتى يتباعد عن أسباب الغضب، فإذا بلي به فليقهره وليجتهد حتى لا يغلبه، ويقوم ويتخلى عن الأسباب التي قد تزيده في الغضب.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزاق، أنبأنا معمر عن الزهري، عن حميد بن عبدالرحمن، عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال: قال رجل: يا رسول الله أوصني، قال: لا تغضب. قال الرجل: ففكرت حين قال النبي ﷺ ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله، انفرد به أحمد.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا داود بن أبي هند، عن ابن أبي حرب أبي الأسود، عن أبي الأسود، عن أبي ذر قال: كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقالوا: أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه؟ فقال رجل: أنا، فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فذقه، وكان أبو ذر قائما فجلس ثم اضطجع فقيل له: يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت، فقال: إن رسول الله ﷺ قال لنا إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع، ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بإسناده إلا أنه وقع في روايته عن أبي حرب عن أبي ذر، والصحيح عن ابن أبي حرب عن أبيه عن أبي ذر، كما رواه عبدالله بن أحمد عن أبيه.
الشيخ: والمراد بهذا الاجتهاد في ترك الغضب لأنهم أرادوا أن يوردوا حوضه وأرادوا أن يغضبوه فجاهد نفسه حتى يسلم من الغضب .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا أبو وائل الصنعاني، قال: كنا جلوسا عند عروة بن محمد إذ دخل عليه رجل فكلمه بكلام أغضبه، فلما أن أغضبه قام ثم عاد إلينا وقد توضأ، فقال: حدثني أبي عن جدي عطية هو ابن سعد السعدي - وقد كانت له صحبة- قال: قال رسول الله ﷺ إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا أغضب أحدكم فليتوضأ. وهكذا رواه أبو داود من حديث إبراهيم بن خالد الصنعاني عن أبي وائل القاص المرادي الصنعاني، قال أبو داود: أراه عبدالله بن بحير.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالله بن يزيد، حدثنا نوح بن جعونة السلمي، عن مقاتل بن حيان، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: من أنظر معسرا أو وضع له، وقاه الله من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حزن بربوة - ثلاثا- ألا إن عمل النار سهل بسهوة. والسعيد من وقي الفتن، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظمها عبد لله إلا ملأ جوفه إيمانا، انفرد به أحمد، وإسناده حسن ليس فيه مجروح، ومتنه حسن.
الشيخ: وهذا يوافق حديث: حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره ألا إن عمل الجنة حزن بربوة يعني شاق بمحل مرتفع، وأما عمل النار فسهل معه شهوة، هذا أسرع ما يكون الإنسان إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والمعنى أن النفوس ميالة إلى الباطل والشهوات والمحارم، وصعب عليها ما يتعلق بالجنة والنجاة من النار إلا من هداه الله، ولهذا في الحديث: "حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره" نسأل الله السلامة.
حديث آخر في معناه: قال أبو داود: حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا عبدالرحمن يعني ابن مهدي عن بشر يعني ابن منصور، عن محمد بن عجلان، عن سويد بن وهب، عن رجل من أبناء أصحاب النبي ﷺ، عن أبيه، قال: قال رسول الله ﷺ من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه، ملأ الله جوفه أمناً وإيمانا، ومن ترك لبس ثوب جمال وهو قادر عليه - قال بشر: أحسبه قال: تواضعا- كساه الله حلة الكرامة، ومن توج لله كساه الله تاج الملك.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالله بن يزيد قال: حدثنا سعيد، حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه أن رسول الله قال من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سعيد بن أبي أيوب به، وقال الترمذي: حسن غريب.
حديث آخر: قال عبدالرزاق: أنبأنا داود بن قيس عن زيد بن أسلم، عن رجل من أهل الشام يقال له عبدالجليل، عن عم له، عن أبي هريرة في قوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ أن النبي ﷺ قال: من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا رواه ابن جرير.
حديث آخر: قال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد، أنبأنا يحيى بن أبي طالب، أنبأنا علي بن عاصم، أخبرني يونس بن عبيد عن الحسن، عن ابن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله رواه ابن جرير، وكذا رواه ابن ماجه عن بشر بن عمر، عن حماد بن سلمة، عن يونس بن عبيد به.
وقوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ أي لا يعملون غضبهم في الناس بل يكفون عنهم شرهم، ويحتسبون ذلك عند الله .
الشيخ: وهذا يدل على فضل ذلك، وأن أفضل الخصال الحميدة كتم الغيظ، فكثير من الناس إذا غضب نفذ غضبه، وتعدى بالضرب والقتل والسب وغير ذلك، لكن أهل التقوى والإيمان وأهل البصائر يوفقون لكتم الغيظ، ويعينهم الله على كتم الغيظ، ويتحملون ويصبرون ولا ينفذون مقتضى غيظهم وغضبهم، فيتحملون ذلك ابتغاء وجه الله ويتصبرون، والله وعدهم بهذه الأحاديث الكثيرة المتعددة الطرق التي يشد بعضها بعضًا وعدهم به خيرًا كثيرًا أنه يقيهم عذابه، وأنه يملأ قلوبهم أمنًا وإيمانًا وأنه يخير من الحور العين أيها شاء يوم القيامة، فهذه فضائل وكرامات وجزاءات متنوعة لهذا الأمر العظيم، فينبغي للمؤمن أن يجاهد نفسه في ذلك وألا ينفذ غضبه، ولاسيما إذا كان غضبه في غير طاعة الله، ولغير الله بل لحظ نفسه وهواه، أما إذا كان لله فليتأمل وليتثبت حتى لا ينفذ إلا ما يرضي الله، ولا يزيد على حد الله وشرعه. أما إذا كان لحظ نفسه وهواه على ولد أو زوجة أو جار أو قريب أو غير ذلك، فليحذر تنفيذ الغضب وليتحمل وليتصبر لعل الله جل وعلا يرزقه هذا الخير العظيم من كونه يقيه عذابه يوم القيامة ويكف عنه غضبه يوم القيامة ويملأ قلبه أمنًا وإيمانًا ويخيره من الحور العين أيها شاء وهذا فضل عظيم وخير كبير.
ثم قال تعالى: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ أي مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال، ولهذا قال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فهذا من مقامات الإحسان، وفي الحديث ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه الله.الشيخ: وهذا كله على أن من مقامات الإحسان ومن صفات المحسنين الإنفاق في السراء والضراء، يعني في الشدة والرخاء في العلن والسر، مع كظم الغيظ والعفو عن الناس، فالصفح والعفو هذا كله من خصال المحسنين ومن صفات الكرماء والأجواد.
 وروى الحاكم في مستدركه من حديث موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى بن طلحة القرشي، عن عبادة بن الصامت، عن أبي بن كعب أن رسول الله ﷺ، قال: من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات، فليعفُ عمن ظلمه، ويعط من حرمه، ويصل من قطعه ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه وقد أورده ابن مردويه من حديث علي وكعب بن عجرة وأبي هريرة وأم سلمة بنحو ذلك.
وروي من طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول: أين العافون عن الناس؟ هلموا إلى ربكم وخذوا أجوركم، وحق على كل امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة .
الشيخ: ومن خصال أهل السنة ومن علامات أهل البر أن يصل من قطعه ويعطي من حرمه ويعفو عمن ظلمه يرجو ثواب الله.