06 من قوله: (.. وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)

وقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ أي إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا همام بن يحيى عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، عن عبدالرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال إن رجلا أذنب ذنبا فقال: رب إني أذنبت ذنبا فاغفره، فقال الله : عبدي عمل ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنبا آخر فقال: رب إني عملت ذنبا فاغفره، فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنبا آخر فقال: رب إني عملت ذنبا فاغفره لي، فقال : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنبا آخر وقال: رب، إني عملت ذنبا فاغفره، فقال الله : عبدي علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء . أخرجه في الصحيحين من حديث إسحاق بن أبي طلحة بنحوه.
الشيخ: هذا يدل على أن التوبة متى وقعت محا الله بها الذنوب التوبة الصادقة، محا الله بها السيئات ويغفر بها الذنوب ولو تكررت من العبد ما دام غير مصر ولم يصر، ولكنه يبتلى ويتوب ويبتلى ثم يتوب، فما دامت التوبة  تحصل منه بشروطها صادقًا نادمًا مقلعًا من ذنوبه تاركًا لها عازمًا ألا يعود فيها فإن الله يتوب عليه جل وعلا.
.....
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر وأبو عامر، قالا: حدثنا زهير، حدثنا سعد الطائي، حدثنا أبو المدلة مولى أم المؤمنين، سمع أبا هريرة، قلنا: يا رسول الله، إذا رأيناك رقت قلوبنا، وكنا من أهل الآخرة، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا، وشممنا النساء والأولاد، فقال لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي كنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم. ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم. قلنا: يا رسول الله، حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال لبنة ذهب ولبنة فضة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم لا يبأس، ويخلد ولا يموت لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين، ورواه الترمذي وابن ماجه من وجه آخر من حديث سعد به.
ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة لما رواه الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا وكيع، حدثنا مسعر وسفيان الثوري عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن علي بن ربيعة، عن أسماء بن الحكم الفزاري عن علي ، قال: كنت إذا سمعت من رسول الله ﷺ حديثا، نفعني الله بما شاء منه. وإذا حدثني عنه غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر حدثني - وصدق أبو بكر- أنه سمع رسول الله ﷺ، قال ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الوضوء - قال مسعر-  فيصلي - وقال سفيان- ثم يصلي ركعتين، فيستغفر الله عزز وجل إلا غفر له وهكذا رواه علي بن المديني والحميدي وأبو بكر بن أبي شيبة وأهل السنن وابن حبان في صحيحه والبزار والدارقطني من طرق عن عثمان بن المغيرة به، وقال الترمذي: هو حديث حسن، وقد ذكرنا طرقه، والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق ، وبالجملة فهو حديث حسن، وهو من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن خليفة النبي ﷺ أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
ومما يشهد بصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، عن النبي ﷺ قال: ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ- الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء.
وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان أنه توضأ لهم وضوء النبي ﷺ، ثم قال: سمعت النبي ﷺ يقول من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، عن سيد الأولين والآخرين، ورسول رب العالمين، كما دل عليه الكتاب المبين، من أن الاستغفار من الذنب ينفع العاصين.
وقد قال عبدالرزاق: أنبأنا جعفر بن سليمان عن ثابت، عن أنس بن مالك ، قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ الآية، بكى.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا محرز بن عون، حدثنا عثمان بن مطر، حدثنا عبدالغفور عن أبي نضرة، عن أبي رجاء، عن أبي بكر ، عن النبي ﷺ، قال عليكم بلا إله إلا الله، والاستغفار، فأكثروا منهما، فإن إبليس قال: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء، وهم يحسبون أنهم مهتدون
الشيخ: يعني بالبدع، زين لهم البدع لأنهم .... ويظنون أنهم على هدى، فلهذا زين لهم البدع حتى لا يتوبوا منها نسأل الله العافية يظنون أنهم على إصابة وعلى تقوى ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عثمان بن مطر وشيخه ضعيفان. وروى الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العتواري عن أبي سعيد، عن النبي ﷺ قال قال إبليس: يا رب وعزتك لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عمر بن أبي خليفة، سمعت أبا بدر يحدث عن ثابت، عن أنس، قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، أذنبت ذنبا، فقال رسول الله ﷺ إذا أذنبت فاستغفر ربك. قال: فإني أستغفر ثم أعود فأذنب قال: فإذا أذنبت فعد فاستغفر ربك، فقالها في الرابعة استغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المحسور وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
الشيخ: والمعنى أن الإنسان لا يمل من الاستغفار ولا ييأس من رحمة الله ولا يقنط، بل لا يزال يستغفر حتى يطمئن قلبه، وحتى يكون الشيطان هو المحسور، وهو الذي تصيبه المشقة وتصيبه الحسرة عند استغفار ابن آدم، ولهذا الشيطان يفرح أن يبقى العبد على معاصيه وسيئاته حتى يكون إلى النار، فإذا تاب العبد وندم ساء هذا الشيطان وندم الشيطان واستحسر الشيطان؛ لأنه رأى العبد نجا من ذنبه وهو لم ينج من ذنبه، بل استمر على طغيانه وعناده وكفره، فصار منبر إلى النار نعوذ بالله، والعبد بتوبته إلى الله واستغفاره به وتكراره الاستغفار يرضي ربه ويؤلم الشيطان ويحزن الشيطان.
وقوله تعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ أي لا يغفرها أحد سواه، كما قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا سلام بن مسكين والمبارك عن الحسن عن الأسود بن سريع أن النبي ﷺ أتي بأسير، فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال النبي ﷺ عرف الحق لأهله.الشيخ: والمعنى أنه تاب إلى الله لأنه كان كافرًا، والكافر قد أتى أعظم الذنوب وأعظم الشرور، والتوبة من هذا تكون إلى الله ولهذا قال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد قال: عرف الحق لأهله، الحق في التوبة لله ، فهو الذي يتاب إليه ويستغفر جل وعلا، ومن يغفر الذنوب إلا الله ، أما إذا كان حق المخلوق إذا ظلمه وتعدى عليه فمن شروط التوبة أن يستسمح هذا الرجل ويطلب منه العفو عن حقه، وأما الذنوب التي لا حق للمخلوق فيها، فكلها لله وحده، هي حق الله يتاب إليه ، حق المخلوق لا بدّ يستسمح منه لأنه إذا ظلم الناس بقتل أو ضرب أو أخذ ماله، فلا بدّ مع التوبة إلى الله، ومع اللجأ إلى الله واستغفاره لا بدّ لهذا أيضاً من استسماح المخلوق وإرضائه أو طلب عفوه حتى يسقط حقه بالسماح أو بالمعاوضة.
وقوله تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا منه، كما قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره، قالوا: حدثنا أبو يحيى عبدالحميد الحماني عن عثمان بن واقد، عن أبي نضرة عن مولى لأبي بكر، عن أبي بكر ، قال: قال رسول الله ﷺ: ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة ورواه أبو داود والترمذي والبزار في مسنده من حديث عثمان بن واقد - وقد وثقه يحيى بن معين به- وشيخه أبو نصيرة الواسطي واسمه مسلم بن عبيد، وثقه الإمام أحمد وابن حبان، وقول علي بن المديني والترمذي: ليس إسناد هذا الحديث بذاك، فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر، ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير، ويكفيه نسبته إلى أبي بكر، فهو حديث حسن، والله أعلم.الشيخ: وهذا ليس جيد من المؤلف كونه منسوب إلى أبي بكر لا يقتضي أنه ثقة قد تكون نسبته إلى أبي بكر وقد يختل حفظه وقد تختل عدالته بعد موت أبي بكر، وهذا غلط وليس بجيد نسبته إلى أنه مولى لأبي بكر أو مولى عمر أو مولى عثمان لا يكفي في التوثيق حتى يعلم حاله أنه ثقة وأنه ضابط لما يروي وليس بكثير غلط ولا بمغفل ولا كونه من كمال التابعين ما يكفي...
الطالب: أبو نصيرة بالتصغير الواسطي اسمه مسلم بن عبيد ثقة من الخامسة أبو داود والترمذي.
الشيخ: والمعنى في هذا أن الإنسان إذا لم يصر على الذنوب لم تضره الذنوب مضرتها إذا  أصر عليها، أما إذا تاب وأقلع وأناب إلى الله جل وعلا ..... وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، ولا أصر من استغفر، وَلَمْ يُصِرُّوا أي يقيموا على المعاصي فالمصيبة الذي قام عليها وعدم التوبة أما من تاب منها وأقلع وندم فإن هذا خير وفضل يفرح به الله .
وقوله: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قال مجاهد وعبدالله بن عبيد بن عمير وهم يعلمون أن من تاب تاب الله عليه، وهذا كقوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [التوبة:104] وكقوله وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110] ونظائر هذا كثيرة جدا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أنبأنا جرير، حدثنا حبان هو ابن زيد الشرعبي عن عبدالله بن عمرو، عن النبي ﷺ أنه قال وهو على المنبر: ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون تفرد به أحمد.
ثم قال تعالى بعد وصفهم بما وصفهم به أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ أي جزاؤهم على هذه الصفات مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أي من أنواع المشروبات خَالِدِينَ فِيهَا أي ماكثين فيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ يمدح تعالى الجنة.
الشيخ: وهذا جزاء من تاب صادقًا واستغفر صادقًا، جزاؤه الجنة والمغفرة وأنهار عظيمة جارية وفوز كبير بسبب توبته الصادقة وعمله الصالح بخلاف من أصر وثبت على المعاصي، فهو متوعد بالنار وغضب الجبار، نسأل الله السلامة ولا حول ولا قوة إلا بالله.قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ۝ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ۝ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۝ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ۝ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ۝ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
يقول تعالى مخاطبا عباده المؤمنين لما أصيبوا يوم أحد وقتل منهم سبعون قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ أي قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء، ثم كانت العاقبة لهم، والدائرة على الكافرين، ولهذا قال تعالى: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ثم قال تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ يعني القرآن فيه بيان الأمور على جليتها وكيف كان الأمم الأقدمون مع أعدائهم وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ يعني القرآن فيه خبر ما قبلكم، وهدى لقلوبكم، وموعظة أي زاجر عن المحارم والمآثم.
الشيخ: وهذه العبر لمن تدبر القرآن وأقبل عليه، فإن فيه العظة والذكرى وفيه العبر فإن فيه ذكر الأولين وفيه أخبارهم الكثيرة وما جرى على أعداء الرسل من أعداء الانتقام وما جرى لأولياء الرسل وأتباعهم من الانتصار والعاقبة الحميدة هي عظة وذكرى، وكذلك ما قصه الله عن الماضين من أخبار أهل التقوى من أخبار الرسل وأهل الاستقامة وما حصل لهم من الخير العظيم والنصر المبين والعواقب الحميدة، فيها عظة وذكرى وفيها تشجيع للمؤمنين وتوجيه لهم إلى أسباب النجاة وأسباب السعادة، وفيها زجر للكافرين وتحذير لهم من عواقب أعمالهم الخبيثة، فإنها تفضي بهم إلى ما يضرهم وما يغضب الله عليهم كما جرى لمن قبلهم، ولهذا قال: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ، بين الله فيه أحوال الأمم، بين الله أحكامه، بين الله فيها أسباب السعادة، بين الله فيها أسباب الهلاك، وبين الله فيها أسباب النصر وأسباب الهزيمة وأسباب غضب الله وأسباب رضاه، ميز بها صفات الأبرار وصفات الأشرار، صفات المتقين صفات المجرمين، صفات أهل الجنة صفات أهل النار، ليستعين طالب النجاة ويتأسى بمن مضى قبله من أهل الإيمان والتقوى، وليحذر من عواقب الذنوب وشرها وما أصاب أهلها فيما مضى من الأمم.
 ثم قال تعالى مسليا للمؤمنين وَلَا تَهِنُوا أي لا تضعفوا بسبب ما جرى وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون. الشيخ: وهم الأعلون والله وعدهم بالنصر ولو جرى عليهم من الهزائم والجراح، فالعاقبة لهم فالعلو ثابت لهم ولو جرى عليهم ما جرى، فلهم العلو عند الله وعند المؤمنين، ولهم العاقبة الحميدة، ولهم السعادة في الدنيا والآخرة، وهم الأعلون إن كانوا مؤمنين، كيفما كانت الحال فهم الأعلون، لأنهم الفائزون برضا الله، الفائزون بأسباب السعادة، صابرين على ما أصابهم، فلهم العلو المعنوي والحسي الحقيقي إذا صبروا واحتسبوا واستقاموا ولهم العاقبة، ولهذا ذكرهم الله بعد ذلك وصارت لهم العاقبة الحميدة، وصار على أعدائهم الذل والهوان والهزائم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47] وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ أي إن كنتم قد أصابتكم جراح وقتل منكم طائفة، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ أي نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة، ولهذا قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا قال ابن عباس: في مثل هذا لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ يعني يقتلون في سبيله ويبذلون مهجهم في مرضاته.الشيخ: وهذا من حكم الله العظيمة يداول الأيام بين الناس فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء تارة، ينصر حزبه تارة وينصر أعداؤهم تارة لأسباب ما قد يقع من حزبه من النقص والمعصية والتفريط وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا  [آل عمران:140] هو يعلم كل شيء قبل أن يقع، علمه سابق لكل شيء، لكن معنى العلم هنا ليعلم علماً خارجياً ليعلم وجوده في الخارج ولهذا قال: ليرى، يعني ليجعل المعلوم معلومًا بين الناس، فإنه سبحانه  لا يؤاخذ بالعلم ولكن يؤاخذ بعمل العاملين، وليعلم الشقي من السعيد والصالح من الطالح، ولكنه لا يؤاخذ بهذا العلم حتى يوجد حتى يخرج له وجود، حتى يعمل المؤمنين أعمالهم الطيبة فيؤجرون عليها، وحتى يعمل أعداؤه أعمالهم الخبيثة فيأخذون العقاب عليها، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ... ليميز الخبيث من الطيب ويتبين الصابر من غير الصابر، والصادق من الكاذب، والله جل وعلا يختار من الشهداء الذين يفوزون بجنته وكرامته والمنازل العالية وإن كانوا أحباءه وأولياءه، فقد يصطفي منهم شهداء قد بذلوا مهجهم في سبيل الله ونفوسهم في طاعة الله فيعجلون إلى الجنة والكرامة ويكونون قدوة لغيرهم في الشجاعة والإقدام والصبر والاحتساب.وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ  ۝ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي يكفر عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب. وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به.
وقوله: وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم، ثم قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا بالقتال والشدائد، كما قال تعالى في سورة البقرة أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة:214]. وقال تعالى: الم ۝ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2] الآية، ولهذا قال هاهنا: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ أي لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله، والصابرين على مقاومة الأعداء.
وقوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم، تتمنون لقاء العدو وتتحرقون عليهم وتودون مناجزتهم ومصابرتهم، وها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه، فدونكم فقاتلوا وصابروا، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ولهذا قال تعالى: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ يعني الموت شاهدتموه وقت لمعان السيوف وحد الأسنة واشتباك الرماح وصفوف الرجال للقتال والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخييل. وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس كما تتخيل الشاة صداقة الكبش، وعداوة الذئب.

الشيخ: والمعنى أنهم يشاهدون أسبابه ودلائل وقوعه ومسببات حصوله من اشتباك الصفوف وتداخل بعضها في بعض والرمي بين الجميع والقذائف بين الجميع والمنابذة بالسيوف وبالرماح وبغير ذلك، فإن هذا مشاهدة للموت مشاهدة لأسباب حصوله وأسباب وقوعه بينهم، وهذا صريع وهذا مجروح وهذا قد فاضت روحه وهذا على خطر بأن يصاب، وقد شاهدوا أسبابه ودلائل وقوعه وموجبات حصوله، فليبادر ويشمر كل راغب في النجاة وراغب في السعادة في ..... في هذه الأشياء التي كتبها وقدرها . والله المستعان.وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ۝ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ۝ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ۝ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ۝ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد وقتل من قتل منهم، نادى الشيطان: ألا إن محمدا قد قتل، ورجع ابن قميئة إلى المشركين، فقال لهم: قتلت محمدا، وإنما كان قد ضرب رسول الله ﷺ فشجه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله ﷺ قد قتل، وجوزوا عليه ذلك، كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام، فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال، ففي ذلك أنزل الله تعالى على رسوله ﷺ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه.
قال ابن أبي نجيح عن أبيه: أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له: يا فلان أشعرت أن محمدا ﷺ قد قتل، فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة.
ثم قال تعالى منكرا على من حصل له ضعف أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ أي رجعتم القهقرى وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أي الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه، واتبعوا رسوله حيا وميتا.
وكذلك ثبت في الصحاح والمساند والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طرق متعددة تفيد القطع، وقد ذكرت ذلك في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن الصديق ، تلا هذه الآية لما مات رسول الله ﷺ.
الشيخ: وهذا ... الله للناس أن سنة الله في الأنبياء وغيرهم، الموت لا بدّ منه ومن لا يقتل مات، فهل المؤمن إذا مات النبي أو قتل النبي أن ينقلب على عقبيه؟ بل يجب على أتباع الأنبياء أن يثبتوا على ما جاء به الأنبياء وأن يستقيموا على ما جاء به الأنبياء من الهدى ودين الحق سواء كان النبي بينهم أو قتل أو مات، فإن النبي إنما عليه البلاغ، وعلى الأمة المتابعة والقيام بالأمر، والله عليه الحساب جل وعلا، ... أنه لا يجوز التأثر بموت النبي أو بقتل النبي في ترك الدين والانقلاب عن الدين والرضا بالحظ العاجل، ولكن يجب أن يقاتل عن الدين، وأن يتمسك بالدين، وأن يدعى إليه في حياة الأنبياء وفي مماتهم، لأن عليهم البلاغ وعلى الأمم الاستقامة والاتباع، والصدق في اتباع الحق والجهاد دونه في حياة الأنبياء وفي موت الأنبياء، فلما مات النبي ﷺ وحصل ما حصل من الاضطراب بين الناس هل صحيح مات أو لم يمت؟ خطبهم الصديق رضي الله عنه وأرضاه وقال: أما بعد أيها الناس فإن محمدًا بشر قد مات وإن الله حي لا يموت قال أما بعد أيها الناس: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا بشر قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم قرأ قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144] يعني سيضر نفسه .. إذا انقلب وارتد فإنه لا يضر الله شيئًا، ولكن عليه تبعة ذلك، وما يحدث بسبب ذلك من الضعف والانكسار والتفرق والاختلاف، والله يبتلي عباده بالسراء والضراء يبتليهم بموت الأنبياء وبقتل الأنبياء وبالمرض وبتسليط الأعداء وبغير ذلك، ثم يتبين بعد هذا أهل الثبات وأهل الصدق وأهل اليقين وأهل المسارعة إلى الخيرات وأهل الصبر ويتبين من هو بخلاف ذلك.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة أن عائشة رضي الله عنها، أخبرته أن أبا بكر ، أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم رسول الله ﷺ وهو مغطى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها.
وقال الزهري: حدثني أبو سلمة عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يحدث الناس فقال: اجلس يا عمر فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ - إلى قوله- وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها، وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى هويت إلى الأرض.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا علي بن عبدالعزيز، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد، حدثنا أسباط بن نصر عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن عليا كان يقول في حياة رسول الله ﷺ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه، فمن أحق به مني؟
وقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا أي لا يموت أحد إلا بقدر الله وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له، ولهذا قال كِتَابًا مُؤَجَّلًا  كقوله: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [فاطر:11] وكقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الأنعام:2] وهذه الآية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال، فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن يزيد العبدي قال: سمعت أبا معاوية عن الأعمش عن حبيب بن ضبيان، قال: قال رجل من المسلمين وهو حجر بن عدي: ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة - يعني دجلة- وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ثم أقحم فرسه دجلة، فلما أقحم، أقحم الناس، فلما رآهم العدو قالوا: ديوان فهربوا.
وقوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا أي من كان عمله للدنيا فقط نال منها ما قدره الله له، ولم يكن له في الآخرة نصيب، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا، كما قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20] وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ۝ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:18، 19] ولهذا قال هاهنا: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم.
ثم قال تعالى مسليا للمؤمنين عما كان وقع في نفوسهم يوم أحد: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ قيل: معناه كم من نبي قتل وقتل معه ربيون من أصحابه كثير. وهذا القول هو اختيار ابن جرير فإنه قال: وأما الذين قرءوا قتل معه ربيون كثير فإنهم قالوا: إنما عنى بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين دون جميعهم، وإنما نفى الوهن والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل، قال: ومن قرأ قَاتَلَ فإنه اختار ذلك، لأنه قال: لو قتلوا لم يكن لقول الله فَمَا وَهَنُوا وجه معروف لأنه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا، ثم اختار قراءة من قرأ قتل معه ربيون كثير لأن الله عاتب بهذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمدا قد قتل، فعذلهم الله على فرارهم وتركهم القتال، فقال لهم أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم وانقلبتم على أعقابكم.
وقيل: وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير، وكلام ابن إسحاق في السيرة  يقتضي قولا آخر، فإنه قال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ أصابه القتل ومعه ربيون أي جماعات فَمَا وَهَنُوا بعد نبيهم، وما ضعفوا عن عدوهم، وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم، وذلك الصبر والله يحب الصابرين.
فجعل قوله معه ربيون كثير حالا، وقد نصر هذا القول السهيلي وبالغ فيه، وله اتجاه لقوله فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ الآية، وكذا حكاه الأموي في مغازيه عن كتاب محمد بن إبراهيم ولم يحك غيره.
وقرأ بعضهم قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ قال سفيان الثوري، عن عاصم، عن زر عن ابن مسعود رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ أي ألوف، وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي والربيع وعطاء الخراساني: الربيون الجموع الكثيرة.
وقال عبدالرزاق عن معمر عن الحسن رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ أي علماء كثير، وعنه أيضا: علماء صُبّر أي أبرار وأتقياء.
وحكى ابن جرير عن بعض نحاة البصرة أن الربيين هم الذين يعبدون الرب ، قال: ورد بعضهم عليه فقال: لو كان كذلك لقيل: الربيون بفتح الراء، وقال ابن زيد: الربيون الأتباع والرعية، والربانيون الولاة.
فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا قال قتادة والربيع بن أنس وَمَا ضَعُفُوا بقتل نبيهم وَمَا اسْتَكَانُوا يقول: فما ارتدوا عن نصرتهم ولا عن دينهم بل قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله، وقال ابن عباس وَمَا اسْتَكَانُوا تخشعوا، وقال ابن زيد: وما ذلوا لعدوهم، وقال محمد بن إسحاق والسدي وقتادة: أي ما أصابهم ذلك حين قتل نبيهم وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ أي لم يكن لهم هجيرى إلا ذلك فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا أي النصر والظفر والعاقبة وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ أي جمع لهم ذلك مع هذا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
الشيخ: وهذا معناه أن الله جل وعلا أعطاهم هذا وهذا لما لم يرضخوا بل صبروا وقاتلوا وجاهدوا جمع الله لهم الخيرين، ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فأعطاهم النصر في الدنيا والمنازل العالية في الآخرة في الجنة، وأجاب دعاءهم وغفر ذنوبهم بسبب صبرهم وتقواهم وقيامهم بأمر الله وعدم استكانتهم للأعداء، فمن قتل ففي سبيل الله فإلى الجنة والكرامة، ومن عاش قاتل وصابر وثبت على الحق حتى ينصر دينه وحتى يحصل ما أراد من هزيمة الأعداء، وأن يمكن دين الله وإقامة الحق، وهكذا يكون أولياء الله وأنصاره، ..... دائمًا، وإن قتل معهم من قتل فهم صبر دائمًا في القتال يجاهدون في سبيل الله كيفما كان الحال.
......يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ۝ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ۝ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ۝ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ۝ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين، فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ثم أمرهم بطاعته وموالاته والاستعانة به والتوكل عليه، فقال تعالى: بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ

الشيخ: وهذا تحذير من الله في طاعة الكفار والمنافقين لأن في طاعتهم الدمار والخسار، ونهي الله عنه في الآية السابقة في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] فهذه في أهل الكتاب، وهذه الآية أعم يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين [آل عمران:149] في أهل الكتاب وغيرهم سواء كانوا أهل كتاب أو مجوس أو وثنيين وسائر أنواع الكفرة لأنهم ضد المسلمين وأعداء المسلمين ... ويشيرون وينصحون ويدعون، في الغالب إنما يدعون إلى ما يضر المسلمين، فلهذا حذر الله من طاعتهم اتقاء لشرهم وحذرًا من مكرهم وكيدهم، فالواجب التربص بما يقولون وبما يريدون وبما ينصحون وبما يشيرون وأن لا يقبل منهم شيء في ذلك إلا ما عرف أنه حق وأنه صواب من غير كلامهم.بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ أي الأحق بطاعة الأحق بالامتثال وبالخشية وهو الذي به نصر ولهذا قال:  وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ فالواجب طاعته والتقرب إليه والحذر مما يسخطه .. إليه كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249]
 ثم بشرهم بأنه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلة لهم بسبب كفرهم وشركهم، مع ما ادخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال، فقال تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا.
الشيخ: يعني بسبب إشراكهم، الباء باء السببية، أي بسبب إشراكهم وكفرهم يلقي الله في قلوبهم الرعب من المؤمنين، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: نصرتُ بالرعب مسيرة شهر الله يقذف في قلوب الأعداء الرعب من المؤمنين، إذا استقام المؤمنون وصدقوا وتكاتفوا ضد الباطل، والله يعينهم ويثبتهم ويلقي في قلوب أعدائهم الرعب منهم حتى يذلوا وحتى يخضعوا لمطالب المؤمنين، وحتى ينهزموا إن لم يجيبوا إلى دعوة المؤمنين.سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبدالله أن رسول الله ﷺ قال: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي عن سليمان التيمي عن سيار عن أبي أمامة أن رسول الله ﷺ قال فضلني الله على الأنبياء - أو قال على الأمم- بأربع: قال: أرسلت إلى الناس كافة، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجدا وطهورا فأينما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره، ونصرت بالرعب مسيرة شهر يقذف في قلوب أعدائي، وأحل لي الغنائم. ورواه الترمذي من حديث سليمان التيمي عن سيار القرشي الأموي مولاهم الدمشقي سكن البصرة، عن أبي أمامة صدي بن عجلان به، وقال: حسن صحيح.
وقال سعيد بن منصور: أنبأنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ، قال: نصرت بالرعب على العدو ورواه مسلم من حديث ابن وهب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه أبي موسى، قال: قال رسول الله ﷺ: أعطيت خمسا: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي، ونصرت بالرعب شهرا، وأعطيت الشفاعة، وليس من نبي إلا وقد سأل شفاعته وإني اختبأت شفاعتي ثم جعلتها لمن مات لا يشرك بالله شيئا تفرد به أحمد.
وروى العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ قال: قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة، فقال النبي ﷺ: إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب رواه ابن أبي حاتم.