10 من قوله: (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ..)

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ۝ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ۝ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۝ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ۝ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار، فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار.
قال محمد بن جرير: حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا عمر بن يونس عن عكرمة، حدثنا ابن إسحاق بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك في أصحاب رسول الله ﷺ الذين أرسلهم نبي الله ﷺ إلى أهل بئر معونة، قال: لا أدري أربعين أو سبعين، وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري، فخرج أولئك النفر من أصحاب رسول الله ﷺ حتى أتوا غارا مشرفا على الماء فقعدوا فيه، ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يبلغ رسالة رسول الله ﷺ أهل هذا الماء؟ فقال - أراه ابن ملحان الأنصاري-: أنا أبلغ رسالة رسول الله ﷺ، فخرج حتى أتى حيا منهم فاختبأ أمام البيوت، ثم قال: يا أهل بئر معونة، إني رسول رسول الله إليكم، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فآمنوا بالله ورسوله، فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح، فضربه في جنبه حتى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر فزت ورب الكعبة، فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل، قال: وقال إسحاق: حدثني أنس بن مالك أن الله أنزل فيهم قرآنا: بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه، ثم نسخت فرفعت بعدما قرأناها زمانا، وأنزل الله تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
وقد قال مسلم  في صحيحه: حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن عبدالله بن مرة، عن مسروق، قال: سألنا عبدالله عن هذه الآية وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله ﷺ فقال أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة، تركوا.

الشيخ: وهذا من لطف الله جل وعلا، ومن إظهاره فضل الشهداء، وقد عوضوا عن أجسامهم أجسام طيور خضر تحمل أرواحهم تسرح بهم في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، وأظهر الله هذا ليشتاق المؤمنون إلى الشهادة في سبيل الله وليعرفوا فضل الشهادة وما لها من العاقبة الحميدة وهذا مكان الشهداء، أما المؤمنون فإن نفس أرواحهم تكون طيرًا في الجنة تسرح حيث شاءت في الجنة، نفس الروح تكون طيرًا تسرح في الجنة حتى ترد إلى جسدها كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره من طريق الشافعي عن مالك عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أن أرواح المؤمنين طائر يعلق في شجر الجنة حتى يردها الله إلى جسدها، وهذا أيضاً من نعيم الله المعجل لأرواح المؤمنين.

وثبت أيضاً عنه ﷺ أنه قال: ما من ميت يموت له عند الله خير، يتمنى يرجع  إلى الدنيا إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إليها فيقتل عشر مرات لما يرى من فضل الشهادة والنبي ﷺ قال أنه يحب أن يقتل في سبيل الله ثم يحيا ثم يقتل ثم يحيا ثم يقتل في سبيل الله.
وقد روي نحوه من حديث أنس وأبي سعيد.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالصمد، حدثنا حماد، حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله ﷺ، قال ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لما يرى من فضل الشهادة تفرد به مسلم من طريق حماد.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبدالله المديني، حدثنا سفيان عن محمد بن علي بن ربيعة السلمي، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن جابر، قال: قال لي رسول الله ﷺ أعلمت أن الله أحيا أباك، فقال له: تمن علي. فقال له: أرد إلى الدنيا فأقتل مرة أخرى. قال: إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون . تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما: أن أبا جابر وهو عبدالله بن عمرو بن حرام الأنصاري ، قتل يوم أحد شهيدا. قال البخاري: وقال أبو الوليد عن شعبة عن ابن المنكدر: سمعت جابرا قال لما قتل أبي: جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول الله ﷺ ينهوني والنبي ﷺ لم ينه، وقال النبي ﷺ لا تبكيه - أو ما تبكيه- ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع. وقد أسنده هو ومسلم والنسائي من طريق آخر عن شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: لما قتل أبي يوم أحد، جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وذكر تمامه بنحوه.
............. 
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثنا إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد عن أبي الزبير المكي، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم، وحسن منقلبهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله : أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هذه الآيات: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ وما بعدها هكذا رواه أحمد، وكذا رواه ابن جرير عن يونس، عن ابن وهب، عن إسماعيل بن عياش، عن محمد بن إسحاق به.
ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه من حديث عبدالله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره، وهذا أثبت. وكذا رواه سفيان الثوري عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحاق الفزاري، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وكذلك قال قتادة والربيع والضحاك: إنها نزلت في قتلى أحد.

الشيخ: لا منافاة فإنها عامة، تعم قتلى أحد، وتعم قتلى بئر معونة، وتعم قتلى ما وقع في الأحزاب، وفي فتح مكة، تعم قتلى المسلمين الشهداء، تعمهم الآية حتى إلى زماننا وبعد زماننا.

حديث آخر: قال أبو بكر بن مردويه، حدثنا عبدالله بن جعفر، حدثنا هارون بن سليمان، أنبأنا علي بن عبدالله المديني، أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري، سمعت طلحة بن خراش بن عبدالرحمن بن خراش بن الصمة الأنصاري، قال: سمعت جابر بن عبدالله قال: نظر إلي رسول الله ﷺ ذات يوم فقال يا جابر مالي أراك مهتما؟ قال قلت: يا رسول الله، استشهد أبي وترك دينا وعيالا، قال: فقال: ألا أخبرك ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا، قال علي: الكفاح المواجهة قال: سلني أعطك. قال: أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال الرب : إنه قد سبق مني القول: أنهم إليها لا يرجعون. قال: أي رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا الآية . ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سليط الأنصاري، عن أبيه عن جابر، به نحوه. وكذا رواه البيهقي في دلائل النبوة من طريق علي بن المديني به.
وقد رواه البيهقي أيضا من حديث أبي عبادة الأنصاري وهو عيسى بن عبدالرحمن إن شاء الله عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال النبي ﷺ لجابر يا جابر ألا أبشرك قال: بلى، بشرك الله بالخير، قال: شعرت أن الله أحيا أباك، فقال: تمن علي عبدي ما شئت أعطكه، قال: يا رب ما عبدتك حق عبادتك، أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك وأقتل فيك مرة أخرى، قال: إنه سلف مني أنه إليها لا يرجع.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثنا الحارث بن فضيل الأنصاري عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ : الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا تفرد به أحمد.

الشيخ: هذا فيه نظر؛ لأن الحديث الصحيح: أرواح الشهداء تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم ترجع إلى قناديل من الذهب معلقة في العرش تأوي إليها فهذا بارق نهر فيه نظر، التقريب حاضر؟
الطالب: نعم
الشيخ: شف الحارث بن فضيل. وفيه ابن إسحاق له أوهام وإن صرح بالسماع فليس بذاك الحافظ.
.................
الطالب: الحارث بن فضيل الأنصاري الخطمي أبو عبدالله المدني ثقة من السادسة. مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
الشيخ: طيب، يبقى ابن إسحاق قال: حدثني قد يكون قوله حدثني هي المحفوظة أو أنه لم يحفظ الرواية كما ينبغي أو يقال هذا البارق ما ينافي بارق نهر يعني يجلسون فيه ويجتمعون فيه للتحدث والأنس ولا يمنع من دخولهم الجنة لكونهم يسرحون فيها حيث شاءوا، إن صح لا يمنع دخولهم في الجنة يسرحون فيها يتمتعون بها ثم يرجعون إلى هذا النهر للتحدث فيما بينهم وجلوسهم ما شاء الله، ثم يرجعون إلى قناديل معلقة تحت العرش في وقت آخر إن صح.
...................... 

 وقد رواه ابن جرير عن أبي كريب: حدثنا عبدالرحمن بن سليمان وعبيدة عن محمد بن إسحاق به، وهو إسناد جيد.
وكان الشهداء أقسام: منهم من تسرح أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح، والله أعلم.
الشيخ: والأقرب أن هذا لا يكون سكنًا لهم دائمًا، يكون مقرًا للتجمع والمذاكرة والتحدث، ولكنهم لا يمنعون من أن يدخلوا الجنة ويأكلوا ما شاءوا ويتمتعوا بما شاءوا، وكذلك كونهم يرجعون إلى قناديل، لا يمنع ذلك لأن الأحاديث التي فيها أنهم في قناديل أصح من رواية ابن إسحاق، رواها مسلم وغيره وهي أصح من رواية ابن إسحاق وفي رواية ابن إسحاق إما أنهم قسم كما قال المؤلف قسم هم الشهداء، وهذا بعيد فالأوضح الشهداء فالأقرب أنه لا ينافي ذلك لهم اجتماع على بارق نهر هذا ولهم دخول إلى الجنة ويسرحون فيها ومرجعهم ومقرهم عند وقت آخر القناديل يتمتعون بهذا وهذا، وقد يكون هذا من أكمل النعيم تارة على بارق نهر يجتمعون وتارة يسرحون في الجنة وتارة في القناديل يكون هذا أكثر لتمتعهم بأنواع النعيم.
......................

وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعده الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رحمه الله، رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله، عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه ، قال: قال رسول الله ﷺ نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه.

الشيخ: وهذا يعم المؤمنين جميعًا وهذا السند في غاية الصحة رواه الإمام أحمد عن الشافعي عن مالك عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه وهو سند عزيز غريب صحيح، وفيه أن أرواح المؤمنين تسرح في الجنة تعلق بثمارها حتى يرجعها الله إلى جسدها يوم بعثه. والفرق بين المؤمنين وبين الشهيد أن الشهيد في أجواف طير خضر، أبدلهم الله بأجسادهم أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وأما المؤمنون الآخرون غير الشهداء فنفس أرواحهم طائر تطير بنفسها في الجنة كيف شاءت.

 قوله يعلق أي يأكل، وفي هذا الحديث إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان.
وقوله تعالى: فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ إلى آخر الآية، أي الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم، وهم فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة، ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدمون عليهم، وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم، نسأل الله الجنة.
وقال محمد بن إسحاق: وَيَسْتَبْشِرُونَ أي ويسرون بلحوق من خلفهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم.
قال السدي: يؤتى الشهيد بكتاب فيه: يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، فيسر بذلك كما يسر أهل الدنيا بغائبهم إذا قدم.
وقال سعيد بن جبير: لما دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء، قالوا: يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة، فإذا شهدوا القتال باشروها بأنفسهم حتى يستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير، فأخبر رسول الله ﷺ بأمرهم وما هم فيه من الكرامة، وأخبرهم، أي ربهم، أني قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم وما أنتم فيه، فاستبشروا بذلك، فذلك قوله: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ الآية، وقد ثبت في الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين قتلوا في غداة واحدة، وقنت رسول الله ﷺ يدعو على الذين قتلوهم ويلعنهم، قال أنس: ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع أن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا 
ثم قال تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ قال محمد بن إسحاق: استبشروا وسروا لما عاينوا من وفاء الموعود وجزيل الثواب.
وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم سواء الشهداء وغيرهم، وقلما ذكر الله فضلا ذكر به الأنبياء وثوابا أعطاهم الله إياه، إلا ذكر الله ما أعطى المؤمنين من بعدهم.

س: الشهيد الذي يقتل في سبيل الله هل يطلق عليه شهيد فيقال الشهيد فلان؟
الشيخ: للأمر جانبان أحدهما ما يتعلق بالله فهذا الله يعلمه الشهداء الله أعلم بهم، أما من جهة الحكم الظاهر فيسمى شهيدًا من قتل في سبيل الله ولا يغسل ولا يصلى عليه، فالشهيد له جانبان جانب من جهة الله فهو الذي يعلمه ، والجانب من جهة المخلوقين قتل مع الناس في سبيل الله فله حكم الشهداء يقال شهيد لكن في الظاهر، أما الأمور الباطنة فإلى الله ، قد يكون شهيدًا عندنا ولكن نيته الباطنة ليس بشهيد قد يكون أراد الدنيا، وأراد شيئًا آخر ما أراد وجه الله، فلا يكون له حكم الشهداء في الجنة والأجر الذي يعطى للشهداء. لكن في حكم الدنيا من قتل في سبيل الله فهو شهيد.
س:....
الشيخ: جاء فيهم عدة جمعهم الحافظ ابن حجر في شرحه على البخاري ذكر روايات جاء فيهم خمسة في الصحيحين المطعون والمبطون وصاحب الهدم وصاحب الغرق والشهيد في سبيل الله وجاء غيرهم والمرأة تموت في الجمع وجاء الحريق وجاء أنواع نحو سبعة أو ستة .... تقريبًا لكن في بعض أحاديثه ضعف، والمحفوظ نحو سبعة أو ثمانية ...... الخمسة المذكورون، وموت .... في الولادة، والحريق يموت بالحرق بالنار، وجاء نحو خمسة أو ستة والحديث في سنده ضعف ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري على أحاديث الشهدء.
س: هل الشهداء يحاسبون بذنوبهم؟
الشيخ: يغفر له كل شيء إلا الدين كما جاء في الحديث الصحيح.
س: حديث جابر بن عبدالله: إن الله لم يكلم أحدًا إلا من وراء حجاب، إلا أنه كلم أباك كفاحًا صحته؟
الشيخ: في سنده نظر.
س: يتعارض مع الآية وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا ... [الشورى:51]؟
الشيخ: قد يكون خاصًا لو صح.
وقوله تعالى: الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح هذا كان يوم حمراء الأسد، وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين، كروا راجعين إلى بلادهم، فلما استمروا في سيرهم تندموا لم لا تممون على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة،
................ 
فلما بلغ ذلك رسول الله ﷺ ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم أن بهم قوة وجلدا، ولم يأذن لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد سوى جابر بن عبدالله ، لما سنذكره، فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله ولرسوله ﷺ.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيد، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو، عن عكرمة، قال: لما رجع المشركون عن أحد، قالوا: لا محمدا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئس ما صنعتم، ارجعوا، فسمع رسول الله ﷺ بذلك، فندب المسلمين، فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد - أو بئر أبي عيينة- الشك من سفيان- فقال المشركون: نرجع من قابل، فرجع رسول الله ﷺ، فكانت تعد غزوة، فأنزل الله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ورواه ابن مردويه من حديث محمد بن منصور عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس فذكره.
وقال محمد بن إسحاق: كان يوم أحد يوم السبت للنصف من شوال، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن رسول الله ﷺ في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه أن لا يخرج معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام، فقال: يا رسول الله، إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع، وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله ﷺ على نفسي فتخلف على أخواتك، فتخلفت عليهن، فأذن له رسول الله ﷺ فخرج معه، وإنما خرج رسول الله ﷺ مرهبا للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.
قال محمد بن إسحاق: حدثني عبدالله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان: أن رجلا من أصحاب رسول الله ﷺ من بني عبدالأشهل، كان قد شهد أحدا، قال: شهدت أحدا مع رسول الله ﷺ أنا وأخي فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله ﷺ بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي -أو قال لي-: أتفوتنا غزوة مع رسول الله ﷺ؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا مع رسول الله ﷺ، وكنت أيسر جراحا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
الشيخ: هكذا الصدق والرغبة وبما عند الله، جريحان ... كل واحد يحمل الآخر إذا تعب ليس معهما مطية. والمقصود من هذا كله إرهاب العدو، العدو لما تحدث بالعودة خشي النبي ﷺ أن يكون له كرة، ولهذا انتدب المسلمين وأمرهم بالخروج ليرى عدو الله أن المسلمين بهم بقية وأن هذه الجراح لم تمنعهم من الخروج والطلب، وكان هذا فيه خير عظيم، ولهذا جد الكفار في ذهابهم إلى مكة وخافوا أن يرجعوا فيكون عليهم شيء من الكوارث وهم قد غنموا وحصل لهم بعض ما حصل ولهذا فرحوا بالعودة.
................ 
وقال البخاري: حدثنا محمد بن سلام، حدثنا أبو معاوية عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الآية، قلت لعروة: يا ابن أختي كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر رضي الله عنهما لما أصاب نبي الله ﷺ ما أصابه يوم أحد، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا، فقال من يرجع في إثرهم فانتدب منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير رضي الله عنهما، هكذا رواه البخاري منفردا به بهذا السياق.
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن الأصم، عن عباس الدوري،
................ 
عن أبي النضر، عن أبي سعيد المؤدب، عن هشام بن عروة به، ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، كذا قال. ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار، وهدية بن عبدالوهاب عن سفيان بن عيينة. عن هشام بن عروة به، وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدي في مسنده عن سفيان به.
وقد رواه الحاكم أيضا من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن البهي، عن عروة، قال: لله. قالت لي عائشة: يا بني إن أباك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبدالله بن جعفر من أصل كتابه، أنبأنا سمويه، أنبأنا عبدالله بن الزبير، أنبأنا سفيان، أنبأنا هشام عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال لي رسول الله ﷺ: إن كان أبواكِ لمن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح أبو بكر والزبير رضي الله عنهما.
ورفع هذا الحديث خطأ محض من جهة إسناده لمخالفته رواية الثقات من وقفه على عائشة رضي الله عنها كما قدمناه، ومن جهة معناه، فإن الزبير ليس هو من آباء عائشة، وإنما قالت ذلك عائشة لعروة بن الزبير، لأنه ابن أختها أسماء بنت أبي بكر الصديق .
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد، حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعدما كان منه ما كان، فرجع إلى مكة، فقال النبي ﷺ إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب، وكانت وقعة أحد في شوال، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المؤمنين القرح، واشتكوا ذلك إلى النبي ﷺ واشتد عليهم الذي أصابهم، وإن رسول الله ﷺ ندب الناس لينطلقوا معه ويتبعوا ما كانوا متبعين، وقال إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج، ولا يقدرون على مثلها حتى عام مقبل فجاء الشيطان يخوف أولياءه، فقال: إن الناس قد جمعوا لكم، فأبى عليه الناس أن يتبعوه، فقال إني ذاهب وإن لم يتبعني أحد لأحضض الناس فانتدب معه أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي والزبير وسعد وطلحة وعبدالرحمن بن عوف وعبدالله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا، فساروا في طلب أبي سفيان فطلبوه حتى بلغوا الصفراء، فأنزل الله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ الآية.
ثم قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله ﷺ حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة، وقد مر به - كما حدثني عبدالله بن أبي بكر- معبد بن أبي معبد الخزاعي، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله ﷺ  بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك، فقال: يا محمد، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عافاك فيهم، ثم خرج ورسول الله ﷺ بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله ﷺ وأصحابه، وقالوا: أصبنا أحد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم؟ لنكرن على بقيتهم ثم لنفرغن منهم، فلما رأى أبو سفيان معبدا، قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد وأصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثلهم، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط، قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى أرى نواصي الخيل. قال: فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، فو الله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من شعر، قال: وما قلت؟ قال: قلت:
كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردى بأسد كرام لا تنابلة عند اللقاء ولا ميل معازيل
فظلت أعدوا أظن الأرض مائلة لما سموا برئيس غير مخذول
فقلت ويل ابن حرب من لقائكم إذا تغطمطت البطحاء بالخيل
إني نذير لأهل السيل ضاحية لكل ذي إربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وخش تنابلة وليس يوصف ما أنذرت بالقيل

قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، ومر به ركب من بني عبدالقيس فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة. قال: ولم؟ قالوا: نريد الميرة. قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتمونا؟ قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، فمر الركب برسول الله ﷺ وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
الشيخ: وهذا معنى قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].
 وذكر ابن هشام عن أبي عبيدة، قال: قال رسول الله ﷺ حين بلغه رجوعهم والذي نفسي بيده لقد سومت  لهم حجارة لو أصبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب.الشيخ: الله جل وعلا يبتلي عباده الأبرار بالأشرار ليرفع شأنهم وليعلي درجاتهم وليعظم أجورهم ويكفر سيئاتهم، هكذا يفعل بعباده حتى يعظم أجرهم ويرفع ذكرهم وحتى تكون لهم العاقبة وحتى يتأسى بهم من بعدهم بالصبر على البلاء والمحن، هذه سنته في عباده يمتحن أولياءه بأعدائه ثم تكون العاقبة لأوليائه كما جرى يوم أحد، وكما جرى يوم الأحزاب ثم صارت العاقبة للمؤمنين ولم يغز جيش المشركين بعد ذلك بل غزاهم ﷺ بعد ذلك وفتح الله عليه وانتهى أمرهم.
وقال الحسن البصري في قوله الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ إن أبا سفيان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا، فقال رسول الله ﷺ: إن أبا سفيان قد رجع وقد قذف الله في قلبه الرعب، فمن ينتدب في طلبه؟ فقام النبي ﷺ وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وناس من أصحاب رسول الله ﷺ، فاتبعوهم، فبلغ أبا سفيان أن النبي ﷺ يطلبه، فلقي عيرا من التجار فقال: ردوا محمدا ولكم من الجعل كذا وكذا، وأخبروهم أني قد جمعت لهم جموعا وأني راجع إليهم، فجاء التجار فأخبروا رسول الله ﷺ بذلك، فقال النبي ﷺ: حسبنا الله ونعم الوكيل. فأنزل الله هذه الآية.
وهكذا قال عكرمة وقتادة وغير واحد: إن هذا السياق نزل في شأن حمراء الأسد، وقيل: نزلت في بدر الموعد، والصحيح الأول.
وقوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا الآية، أي الذين توعدهم الناس بالجموع وخوفوهم بكثرة الأعداء، فما اكترثوا لذلك بل توكلوا على الله واستعانوا به، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل.
وقال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس، قال: أراه قال: حدثنا أبو بكر عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد ﷺ حين قال لهم الناس: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وقد رواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم وهارون بن عبدالله، كلاهما عن يحيى بن أبي بكير، عن أبي بكر وهو ابن عياش به، والعجب أن الحاكم أبا عبدالله رواه من حديث أحمد بن يونس به، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ثم رواه البخاري عن أبي غسان مالك بن إسماعيل، عن إسرائيل، عن أبي حصين عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وقال عبدالرزاق: قال ابن عيينة: وأخبرني زكريا عن الشعبي، عن عبدالله بن عمرو، قال: هي كلمة إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، رواه ابن جرير.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا إبراهيم بن موسى الثوري، حدثنا عبدالرحيم بن محمد بن زياد السكري، أنبأنا أبو بكر بن عياش عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن النبي ﷺ أنه قيل له يوم أحد: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فأنزل الله هذه الآية.
وروى أيضا بسنده عن محمد بن عبيد الله الرافعي، عن أبيه، عن جده أبي رافع: أن النبي ﷺ، وجه عليا في نفر معه في طلب أبي سفيان، فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال: إن القوم قد جمعوا لكم، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل فنزلت فيهم هذه الآية.
ثم قال ابن مردويه: حدثنا دعلج بن أحمد، حدثنا الحسن بن سفيان، أنبأنا أبو خيثمة مصعب بن سعيد، أنبأنا موسى بن أعين، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حيوة بن شريح وإبراهيم بن أبي العباس، قالا: حدثنا بقية، حدثنا بحير بن سعد عن خالد بن معدان، عن سيف، عن عوف بن مالك أنه حدثهم أن النبي ﷺ، قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال النبي ﷺ ردوا علي الرجل فقال: ما قلت؟ قال: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي ﷺ: إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل وكذا رواه أبو داود  والنسائي من حديث بقية عن بحير عن خالد، عن سيف وهو الشامي، ولم ينسب عن عوف بن مالك عن النبي ﷺ بنحوه.

 الشيخ: والمعنى  أن الواجب على المؤمن أن يأخذ بالكيس وأن يعمل بالأسباب ..... حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا يتكاسل ولا يضعف .....، ولهذا في الحديث الآخر الذي رواه مسلم في الصحيح يقول ﷺ: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ثم قال: احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فالعبد مأمور بالأسباب فإذا غلبه أمر لا طاقة  ولا حيلة له فيه فإنه حينئذ يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل، وأما أن يتساهل ويتعاطى العجز والكسل والضعف ولا يأخذ بالأسباب فلا ينفعه قوله: حسبنا الله ونعم الوكيل لأنه مفرط مضيع فلا يليق به هذا، ولكن يليق هذا بمن أخذ بالأسباب ثم قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، لأن الأمر بيد الله جل وعلا، إنما عليك الأسباب والله سبحانه أمر بالأسباب وحث عليها ورغب فيها وقال في حق المؤمنين: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] أي للأعداء ولم يجعلهم يكتفوا بإيمانهم وبقولهم حسبنا الله ونعم الوكيل بل أمرهم  بالإعداد، ثم بعد ذلك ..... الله وتوكلنا عليه وعلمنا أنه مسبب الأسباب وأنه مصرف الأمور وأن النصر ليس بالأسباب، .... يبشر المؤمنين وعون لهم والله مسبب الأسباب وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال:10] فإرسال الملائكة وتأييد الله المؤمنين بالملائكة ونصرهم إياهم هذا من فضله وجوده وكرمه، وجعل إمداد الملائكة بشرى وليس النصر بهم بل النصر به وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال:10] ولكن جعلهم أنصارًا وجعلهم مؤيدين، كما أيد المؤمنين ونصر المؤمنين، وكما أعانهم بأنواع السلاح وبإعداد القوى وجعلها بشارة وجعلها عونًا وجعلها هيبة للعدو وكبحًا لشره والنصر من عنده ، فإذا أتى نفع بالأسباب وأعان بها وهزم الأعداء، وإذا أراد أمرًا آخر لم تنفع الأسباب ولم تجد شيئًا وغلب من شاء الله أنه يغلب، ويغلب من شاء الله أنه يغلب، وغلب من شاء الله أنه يغلب بأمره .
وهكذا في مسائل الدنيا غير الجهاد كالزراعة والحدادة والتجارة، لا يقول هذه الأرض عندي وأنا أجلس ولا أفعل شيئًا، وإذا شاء الله أنها تأتي بحبوب كثيرة فعل، وهذا غلط بل يزرع ويبذر ويجري الماء ويلاحظ المزرعة بأسباب نجاحها وفلاحها، ومع هذا يعتمد على الله ويتوكل عليه مع الأسباب، فالأسباب جزء من التوكل .... التوكل، والمتوكل الحقيقي هو الذي يفعل الأمرين، يعتمد على الله ويعلم أنه مسبب الأسباب وأن ما شاء الله كان، ومع ذلك يأخذ بالأسباب التي شرعها الله وأباحها لعباده وأمرهم بها كما أنه يجامع امرأته ويطأها، يرجو أن الله ينفع بذلك وأن يأتي ولد، وليس المعنى أنه يتوكل على الله ولا يتزوج ولا يطأ امرأته ويأتي الأولاد هذه من الحماقة ونقص في العقول.
................ 
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسباط، حدثنا مطرف عن عطية، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته يسمع متى يؤمر فينفخ؟ فقال أصحاب رسول الله ﷺ فما نقول؟ قال قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا وقد روي هذا من غير وجه، وهو حديث جيد.الشيخ: والمعنى كيف ينعم من يذكر قيام الساعة وأهوالها وغرائبها وشدائدها وما يكون في ذلك اليوم الطويل العظيم من الأهوال، كيف ينعم بهذه الدنيا وكيف يطيب له العيش وهو يتذكر هذه الأمور العظيمة والأهوال، فكيف إذا كان لا يدري هل ينجو أو ما ينجو؟ هل هو من السعداء أو من الأشقياء؟ إذا كان من وعده الله بالجنة والنجاة من النار يخاف ويقول: كيف أنعم فكيف بحال من لا يدري؟!
................ 
وقد روينا عن أم المؤمنين عائشة وزينب رضي الله عنهما، أنهما تفاخرتا، فقالت زينب: زوجني الله وزوجكن أهاليكن، وقالت عائشة: نزلت براءتي من السماء في القرآن، فسلمت لها زينب، ثم قالت: كيف قلت حين ركبت راحلة صفوان بن المعطل؟ فقالت: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل. قالت زينب: قلت كلمة المؤمنين.
ولهذا قال تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ أي لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمهم ورد عنهم بأس من أراد كيدهم، فرجعوا إلى بلدهم بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء مما أضمر لهم عدوهم، واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم.
وقال البيهقي: حدثنا أبو عبدالله الحافظ، حدثنا أبو بكر بن داود الزاهد، حدثنا محمد بن نعيم، حدثنا بشر بن الحكم، حدثنا مبشر بن عبدالله بن رزين، حدثنا سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم، عن عكرمة، عن ابن عباس في قول الله تعالى:  فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وفضل قال: النعمة أنهم سلموا، والفضل أن عيرا مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله ﷺ فربح فيها مالا فقسمه بين أصحابه.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ قال: هذا أبو سفيان، قال لمحمد ﷺ، موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا. فقال محمد ﷺ عسى، فانطلق رسول الله ﷺ لموعده حتى نزل بدرا، فوافقوا السوق فيها، فابتاعوا، فذلك قول الله : فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ الآية، قال: وهي غزوة بدر الصغرى، رواه ابن جرير، وروى أيضا عن القاسم، عن الحسين، عن حجاج.
................ 
 عن ابن جريج، قال: لما عهد رسول اللهﷺ لموعد أبي سفيان فجعلوا يلقون المشركين فيسألونهم عن قريش، فيقولون: قد جمعوا لكم، يكيدونهم بذلك، يريدون أن يرعبوهم، فيقول المؤمنون: حسبنا الله ونعم الوكيل، حتى قدموا بدرا، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد، قال: فقدم رجل من المشركين فأخبر أهل مكة بخيل محمد، وقال في ذلك:
نفرت قلوصي من خيول محمد
وعجوة منثورة كالعنجد
واتخذت ماء قديد موعدي
قال ابن جرير: هكذا أنشدنا القاسم وهو خطأ، وإنما هو:
قد نفرت من رفقتي محمد وعجوة من يثرب كالعنجد
تهزي على دين أبيها الأتلد قد جعلت ماء قديد موعد
وماء ضجنان لها ضحى الغد

ثم قال تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ أي يخوفكم أولياءه، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة، قال الله تعالى: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي إذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا علي والجأوا إلي، فإني كافيكم وناصركم عليهم، كما قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [الزمر:36] إلى قوله قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38] وقال تعالى: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76] وقال تعالى: أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19] وقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21] وقال: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الحج:40] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد:7]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد : 7] إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ۝ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ[غافر:51، 52].​​
الشيخ: وفي هذا دلالة على أن العباد إذا استقاموا على أمر الله واتبعوا شرعه وصدقوا في طاعته يسر أمورهم وكفاهم شر أعدائهم، فالشيطان من شأنه أن يخوف بأوليائه ويعظمهم ويقول سوف يفعلون وسوف يفعلون، حتى يوهم الناس وحتى يثبطهم عن الجهاد وحتى يثبطهم عما يجب عليهم من اتباع الشرع، ولهذا قال سبحانه في حق هؤلاء سواء كان ذلك انصرافه من أحد أو كان في ذهابه إلى بدر الصغرى، وفي كلا الحالتين انقلب المسلمون بنعمة الله وفضله، وقد ثبتهم الله وقوى عزائمهم وأعانهم حتى شمروا عن ساعد الجد وتوجهوا لقتال عدوهم نحو حمراء الأسد؛ ليرعبوا عدو الله وليخيفوهم حتى ينحازوا إلى مكة، ورجع المسلمون بنعمة وفضل، رجعوا بنعمة آمنين مطمئنين سالمين بعدما أصابهم القرح الذي حصل في غزوة أحد، وإن كان في غزوة بدر الصغرى فهم جاؤوا إلى الموعد ولم يتأخروا ولم ينكلوا ولم يضعفوا، ولكن ضعف أعداء الله وتأخروا ولم يأتوا فصار هذا من نعمة الله عليهم والمسلمون حينئذ جاءوا إلى بدر وفيها أسواقها يبتاعوا ويشتروا وحصل لهم بذلك من الخيرات والفضل ما حصل، وحصلت السمعة الحسنة والخبر الذي اشتهر بين الناس بأنهم جاؤوا لقتال عدوهم، وعدوهم تأخر وخاف ووجل ولم يف بما وعد، فكان هذا في حق الرسول ﷺ وأصحابه سمعة حسنة وأخبار سارة للمؤمنين وضارة للكافرين.
وأما قوله جل وعلا: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175] فالمعنى أن الشيطان يخوف عباد الله بأولياء الشيطان، يخوف أولياءه يعني يخوفكم أولياءه يعظمهم في صدوركم ويقول لكم إنهم أقوياء، وإنهم كيت وكيت، حتى يخافهم أهل الإيمان، وحتى ينكلوا، وحتى يتأخروا عن الجهاد والمصادمة لعدوهم والمقابلة لعدوهم بسبب الشيطان وتعظيمه لأوليائه في نفوس المؤمنين حتى يخافوا، والله قال: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ [آل عمران:175] يعني إياكم ومطاوعة الشيطان في أن تخافوا أعداء الله وأن تسمعوا لداعي الشيطان ووسوسته، بل خافوا الله وراقبوه، وهو مولاكم وبيده تصريف الأمور، بيده خذلان هؤلاء الكفرة وبيده نصركم عليهم فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، ويقول سبحانه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] وهو سبحانه الكافي لعباده وهو وليهم جل وعلا وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [الزمر:36]، فالكفار يخوفون المسلمين بمن دون الله من الأعداء ويقولون إنهم كيت وكيت، وإنهم عندهم من القوة كذا، ومن الرجال كذا، ليخيفوا المؤمنين ويثبطوهم عن الجهاد والله المستعان.
................ وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۝ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ۝ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ۝ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
يقول تعالى لنبيه ﷺ: وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ وذلك من شدة حرصه على الناس، كان يحزنه مبادرة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق، فقال تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ أي حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته أن لا يجعل لهم نصيبا في الآخرة ولهم عذاب عظيم، ثم قال تعالى مخبرا عن ذلك إخبارا مقررا: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ أي استبدلوا هذا بهذا لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا أي ولكن يضرون أنفسهم وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، ثم قال تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ كقوله أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ[المؤمنون:55-56] وكقوله فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ [القلم:44] وكقوله: وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:85].
الشيخ: وفي هذا يبين لنبيه ﷺ أن له الحكمة البالغة في إضلال من ضل وكفر من كفر وابتعادهم عن الإيمان، وأنه هو الحكيم فمن أراد الله له الهداية وفقه لها وهداه لها ويسر الله له أسبابها، ومن أراد له الشقاوة والضلال فإنه هو الحكيم العليم في ذلك ولهذا قال: وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران: 176] يعني ينبغي ألا تحزن عليهم لأن الله هو الحكيم العليم ، وكان عليه الصلاة والسلام يحرص على هدايتهم، ويريد أن يهديهم الله، وأن يدخلون في دين الله لمحبته الخير لهم عليه الصلاة والسلام، ومحبته خروجهم من دائرة الكفر وسلامتهم من معرة الكفر، ولكن الله حكيم عليم ؛ فنهى نبيه أن يحزن من أجل ضلالهم، وأن يطمئن وينشرح صدره لحكمة الرب ولهذا في الآية الأخرى يقول جل وعلا: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل:127] وهو الحكيم العليم جل وعلا إنما على الداعي وعلى الرسول البلاغ، الرسول عليه البلاغ والدعاة عليهم البلاغ والبيان والدعوة والإرشاد، والله سبحانه هو ولي التوفيق لعباده، وهو الحكيم العليم جل وعلا، فلا يحزن المؤمن ولا يحزن الرسول لهذا الأمر، فإن ربك حكيم عليم جل وعلا، وقال سبحانه قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] والمقصود أن المؤمن وعلى رأسهم الرسل إنما عليهم البلاغ والبيان والدعوة إلى الله ، ولا يضرهم كفر من كفر وضلال من ضل، ولا ينبغي أن يحزن لذلك؛ فإن الله هو الحكيم العليم، وهو البصير بأمر عباده، وله الحكمة البالغة في إضلال من ضل وفي هداية من هدى جل وعلا، والله المستعان.
ثم يبين أيضاً أن الذين يسارعون في الكفر لن يضروا الله شيئًا إذا استبدلوا الكفر بالإيمان، وعصوا الله وخالفوا أمر الله، فهم لن يضروا الله شيئًا، إنما يضرون أنفسهم، ويهلكون أنفسهم، ويبوؤون بغضب من الله وسوء المصير، نسأل الله العافية. ثم قال تعالى: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب أي لا بد أن يعقد سببا من المحنة، يظهر فيه وليه ويفضح به عدوه، يعرف به المؤمن الصابر، والمنافق الفاجر، يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله ﷺ، وهتك به ستر المنافقين. فظهر مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ولرسوله ﷺ، ولهذا قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. قال مجاهد: ميز بينهم يوم أحد، وقال قتادة: ميز بينهم بالجهاد والهجرة.الشيخ: وهذا من حكمته العظيمة، فإن الناس لو كانوا دائمًا منصورين والنصرة لهم والرياسة لهم دائمًا ولا يصيبهم مرض، ولا يصيبهم نصب ولا نكبة، ولا يتسلط عليهم الأعداء؛ لدخلوا في دين الله جميعًا .....، وقد سبق في علم الله أن الناس فيهم المسلم وفيهم الكافر وفيهم الطيب وفيهم الخبيث، فابتلاهم بما يميز هذا من هذا، يميز الصابرين المستقيمين المتقين المهتدين الراغبين فيما عند الله من المنافقين والكافرين والظالمين ومن قل فضله وعظم جزعه بالبلايا والمحن؛ إما بالإمراض، وإما بذهاب المال، وإما بتسليط الأعداء حتى يحصل هزيمة كما حصل يوم أحد، فابتلاهم الله بالهزيمة التي بين أسبابها ، وأن أسبابها عصيان من عصى وفشل من فشل، فابتلاهم بالهزيمة حتى يتميز الصابرون من أهل الإيمان، ويتميز المنافقون من أهل الردة والفساد وانحراف القلوب، كما قال في الآية الأخرى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31] وقال سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155] فالابتلاء والامتحان من الله لعباده فيه تمييز لهم، وفيه إظهار لفضل الفضلاء، وشكر الشاكرين، وصبر الصابرين، وفضيحة لأهل النفاق والفساد والكفر والضلال، فالمؤمن يتحمل ويصبر ويدوم كمال إيمانه وصبره على الحق، والكافر المنافق يدوم فساده وانحرافه وما في قلبه من الشر والفساد.
 وقال السدي: قالوا: إن كان محمد صادقا فليخبرنا عمن يؤمن به منا ومن يكفر، فأنزل الله تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ أي حتى يخرج المؤمن من الكافر، روى ذلك كله ابن جرير.
ثم قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أي أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يميز لكم المؤمن من المنافق لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك. ثم قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ كقوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ۝ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:26-27] ثم قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي أطيعوا الله ورسوله واتبعوه فيما شرع لكم وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
الشيخ: ..... لأن العمل من الإيمان، قوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يدخل فيه التصديق ويدخل فيه القول الطيب، ويدخل فيه العمل الصالح كله داخل في الإيمان، ولهذا قال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال:20]، فالمعنى: آمنوا بالله ورسله يعني إيمانًا يتضمن طاعة الأوامر وترك النواهي والقول الحق والانكفاف عما لا يجوز مع ثبات القلب وصبره وخوفه ورجائه ومحبته ونحو ذلك، فالإيمان يشمل هذا كله، يعني أن الله يبتلي عباده، فعلى المؤمن عند البلايا أن يصبر، وأن يؤمن، وذلك بطاعة الله ورسوله والوقوف عند حدود الله ورسوله، والكف عما حرم الله ورسوله، هذا هو النتيجة الصحيحة المستقيمة الإيمانية لأهل الإيمان، لا يزيدهم البلاء إلا ثباتًا بالحق ونصرًا للحق وجهادًا في سبيل الحق وردًا على الباطل، لعلمهم بأن الله يبتلي عباده بالسراء والضراء ثم تكون العاقبة لأهل الإيمان كما قال سبحانه: آلم ۝ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2] لا يمتحنون فلا بدّ من الامتحان كما امتحن من قبلهم.
وقوله تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ أي لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه بل هو مضرة عليه في دينه، وربما كان في دنياه. ثم أخبر بمآل أمر ماله يوم القيامة، فقال: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قال البخاري: حدثنا عبدالله بن منير،
الشيخ: البخاري له شيخ اسمه عبدالله بن منير، وهناك واحد متأخر له حواشي على البخاري قال عبدالله بن منير بالتشديد فالمتأخر صاحب الحاشية...، وأما شيخه فهو عبدالله بن منير بالتخفيف......
حدثنا عبدالله بن منير، سمع أبا النضر، حدثنا عبدالرحمن هو ابن عبدالله بن دينار عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه- ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك ثم تلا هذه الآية: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ إلى آخر الآية، تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه.الشيخ: وهذا الشجاع الأقرع، الحية العظيمة، الثعبان العظيم الذي قد ذهب شعر رأسه من شدة سمه وخبث سمه نسأل الله العافية.
 وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق الليث بن سعد عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح به.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا حجين بن المثنى، حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي ﷺ، قال إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل الله له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان، ثم يلزمه يطوقه يقول: أنا كنزك أنا كنزك وهكذا رواه النسائي عن الفضل بن سهل عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة به. ثم قال النسائي: ورواية عبدالعزيز عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر أثبت من رواية عبدالرحمن عن أبيه عبدالله بن دينار، عن أبي صالح عن أبي هريرة.
قلت: ولا منافاة بين الروايتين، فقد يكون عند عبدالله بن دينار من الوجهين، والله أعلم.
الشيخ: وهذا يبين سوء عاقبة البخل، وأن عاقبة البخل وخيمة، وأن البخيل في المال ولم يؤد الحقوق التي عليه من الزكاة وغيرها ندم يوم القيامة غاية الندامة وصار ماله عذابًا عليه يوم القيامة وصار يتمثل له هذا المال ويجعل له هذا المال شجاعا أقرع يعني ثعبانًا عظيمًا يطوقه ويلزم شدقيه ويعذب به ويقول: أنا مالك أنا كنزك، غير عذاب النار نسأل الله العافية. يعني يعذب بعذابين عذاب بهذا الثعبان الذي يطوق به يوم القيامة في المحشر، ثم عذاب النار، نعوذ بالله ونسأل الله العافية.
وقد ساقه الحافظ أبو بكر بن مردويه من غير وجه عن أبي صالح، عن أبي هريرة. ومن حديث محمد بن أبي حميد عن زياد الخطمي عن أبي هريرة به.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن جامع، عن أبي وائل، عن عبدالله، عن النبي ﷺ قال ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه، يفر منه وهو يتبعه، فيقول: أنا كنزك ثم قرأ عبدالله مصداقه من كتاب الله سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة عن جامع بن أبي راشد، زاد الترمذي: وعبدالملك بن أعين، كلاهما عن أبي وائل شقيق ابن سلمة عن عبدالله بن مسعود به، وقال الترمذي: حسن صحيح. وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي بكر بن عياش وسفيان الثوري، كلاهما عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي وائل، عن ابن مسعود به، ورواه ابن جرير  من غير وجه عن ابن مسعود موقوفا.
الشيخ: وهذا يدل على عظم عقوبة من بخل بالحق الذي عليه ولم يؤد زكاة ماله ولم يؤد الحقوق التي عليه في المال، فإن هذا المال يعذب به صاحبه يوم القيامة كما قال جل وعلا: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35] فكل ما لا تؤدى حقوقه من زكاة وغيرها يعذب به صاحبه يوم القيامة نعوذ بالله، وهذا العذاب يتكرر ويستمر في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله بعد ذلك إما إلى الجنة وإما إلى النار، وفي الأحاديث الأخرى الدلالة على نوع آخر من العذاب وأنهم كما أنهم يعذبون يوم القيامة في النار ويحمى عليهم ويكوون بهذا المال، هو أيضاً يمثل لهم شجاع أقرع يصبح هذا المال لهم شجاعًا أقرع له زبيبتان يأخذ بشدقي الرجل يعني صاحب المال ويقول له: أنا مالك أنا كنزك، وهذا الشجاع هو الحية العظيمة التي قد ذهب شعر رأسها من شدة سمها وكبر وطول عمرها، نسأل الله السلامة.
المقصود أنه نوع آخر من العذاب لمن بخل بما أعطاه الله ولهذا قال : وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:180] يجعل طوقًا في العنق مع التعذيب به والكي به مع تمثيله بهذا الشجاع الأقرع نسأل الله العافية.
حديث آخر: قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أمية بن بسطام، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان عن النبي ﷺ قال : من ترك بعده كنزا مثل له شجاعا أقرع يوم القيامة له زبيبتان يتبعه، ويقول: من أنت؟ ويلك، فيقول: أنا كنزك الذي خلفت بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها، ثم يتبع سائر جسده إسناده جيد قوي، ولم يخرجوه. وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبدالله البجلي.
ورواه ابن جرير وابن مردويه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه، عن جده، عن النبي ﷺ، قال: لا يأتي الرجل مولاه فيسأله من فضل ماله عنده فيمنعه إياه إلا دعي له يوم القيامة شجاع يتلمظ فضله الذي منع لفظ ابن جرير، وقال ابن جرير حدثنا ابن المثنى، حدثنا عبدالأعلى، حدثنا داود عن أبي قزعة، عن رجل، عن النبي ﷺ، قال: ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده، فيبخل به عليه، إلا أخرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه ثم رواه من طريق أخرى عن أبي قزعة واسمه حجير بن بيان، عن أبي مالك العبدي موقوفا، ورواه من وجه آخر عن أبي قزعة مرسلا.

الشيخ: وهذا يبين لنا عظم خطر قطيعة الرحم وأن الإنسان إذا جاءه رحمه قريبه يسأله من فضله لفقره وحاجته ثم اعتذر إليه، كان من أسباب كونه يعذب في النار يوم القيامة. قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: لا يدخل الجنة قاطع رحم فقطيعة الرحم من أقبح السيئات، ومن الكبائر، والله أمر بالإحسان إلى القرابات وصلة القرابة وحذر من قطيعتها يقول : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23] فيجب على القريب الموسر أن يحسن إلى قريبه المعسر وأن يواسيه من ماله ويحسن إليه بزكاة أو غيرها وألا يدعه في حاجة وهو معسر، هذه صلة الرحم التي أوجبها الله، أن تواسيه بمالك وتحسن إليه مما أعطاك الله.س:....؟
الشيخ: الحقوق تشمل الزكاة وتشمل الحقوق الأخرى، مثل حق الزكاة ومثل حق الضيف، ومثل حق القريب، وحق الزوجة والأولاد وحق المضطر، حقوق الناس غير الزكاة.
س:....؟
الشيخ: نعم ما دام عنده قدرة وسعة بحسب ما أعطاه الله لأن الواجب يتفاوت كلما كان أقرب صار أشد.
س:....؟
الشيخ: هذا قاله النبي ﷺ: ثم الأقرب فالأقرب لكن هذا في حق الإعسار، ما عنده إلا ما يكفي الأقرب بدأ به قبل الأبعد، لكن إذا كان عنده يسر يعم الأقرب وغير الأقرب الذي عنده سعة من المال.
س:.....؟
الشيخ: ولو إذا قصر ذاك لا يقصر هو.
س:.....؟
الشيخ:  ... إذا كان مجهولًا أو معروفًا بالحاجة أو إذا كان سائل يتشبع ويعطونه زيادة وعنده مال فماله حق... وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19]، والسائلون أقسام ثلاثة: قسم يعرف أنه غني فهذا يزجر ويؤدب، وقسم مجهول الحال فيعطى ما تيسر، وقسم معروف بأنه فقير فيعطى حقه.
..................
وقال العوفي عن ابن عباس: نزلت في أهل الكتاب الذين بخلوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها، رواه ابن جرير، والصحيح الأول وإن دخل هذا في معناه.الشيخ: وهذا أشد إذا كان البخل بالمال يعاقب عليه صاحبه، فالبخل بالعلم وعدم تعليم الناس للعلم وعدم توجيههم إلى الخير مع حاجتهم أشد من البخل من المال وأعظم، لأن الباخل عن العلم بخل عنه بأسباب الهداية بأسباب السعادة فيكون أشد الإثم ويكون مشابهًا لليهود الذين بخلوا بالعلم ولم يبينوه للناس.
وقد يقال: إن هذا أولى بالدخول، والله أعلم، وقوله تعالى: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي فأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فإن الأمور كلها مرجعها إلى الله . فقدموا من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي بنياتكم وضمائركم.
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ۝ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ۝ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ۝ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً  [البقرة:245] قالت اليهود: يا محمد، افتقر ربك فسأل عباده القرض؟ فأنزل الله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ الآية، رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أنه حدثه عن ابن عباس ، قال: دخل أبو بكر الصديق بيت المدراس فوجد من يهود ناسا كثيرة قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر يقال له أشيع، فقال له أبو بكر: ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل. فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر، وإنه إلينا لفقير، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا، وقال: والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك يا عدو الله، فاكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين. فذهب فنحاص إلى رسول الله ﷺ، فقال: يا محمد أبصر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله ﷺ لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله، إن عدو الله قد قال قولا عظيما، زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك، غضبت لله مما قال، فضربت وجهه، فجحد فنحاص ذلك، وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقا لأبي بكر لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ الآية، رواه ابن أبي حاتم.

الشيخ: ........
وهذا من جهل اليهود وظلمهم وشدة كفرهم لأنهم يعلمون أن الله هو الغني وأنهم هم الفقراء ويعلمون أنه سبحانه خالقهم ورازقهم ويعلمون أنه حين قال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245] ليس مراده أنه يحتاج إلى عباده، إنما المراد من الذي يقرض الله بإعطاء الفقراء والإحسان إليهم فيأخذ ثواب ذلك من عند الله وجزاءه، الخلف في الدنيا وجزيل الأجر في الآخرة، فالقرض في مصلحة المقرض ومنفعته، والله غني عنه وعن قرضه، لكنه يحث عباده على أن يقرضوه قرضًا حسنًا بالإنفاق في سبيله والإحسان إلى عباده الفقراء وإقامة المشاريع الخيرية وهو سبحانه يجازيهم على ذلك بخير الجزاء في الدنيا وفي الآخرة، وهو الذي أعطاهم المال وهو الذي يسر لهم المال ورزقهم بما في أيديهم من أنواع المتاع كله منه ، ولكن من طبيعة غالب الناس الظلم والجهل والكذب والكفر والعناد فالإنسان من طبيعته أنه ظلوم جهول ظلوم كفار فرح فخور هذه طبيعة هذا العبد المسكين إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34] إلا من هداه الله إلا من وفقه الله نسأل الله العافية.

وقوله: سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا تهديد ووعيد، ولهذا قرنه تعالى بقوله: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أي هذا قولهم في الله وهذه معاملتهم لرسل الله وسيجزيهم الله على ذلك شر الجزاء، ولهذا قال تعالى: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ۝ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتحقيرا وتصغيرا.
.............. 
وقوله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ
 يقول تعالى تكذيبا أيضا لهؤلاء الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم، أن لا يؤمنوا لرسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدق بصدقة من أمته، فتقبلت منه؛ أن تنزل نار من السماء تأكلها، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. قال الله : قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ أي بالحجج والبراهين، وَبِالَّذِي قُلْتُمْ أي وبنار تأكل القرابين المتقبلة، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ أي فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل. ثم قال تعالى مسليا لنبيه محمد ﷺ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ أي لا يوهنك تكذيب هؤلاء لك، فلك أسوة بمن قبلك من الرسل الذين كذبوا مع ما جاءوا به من البينات وهي الحجج والبراهين القاطعة، والزبر وهي الكتب المتلقاة من السماء كالصحف المنزلة على المرسلين، والكتاب المنير أي البين الواضح الجلي.

الشيخ: وهذه تعزية من ربنا لنبيه محمد ﷺ أن يتأثر بكلام هؤلاء وعملهم، وأن يضعف بسبب ذلك، فإن هؤلاء مجرمون مكذبون كما كذب من قبلهم من الأمم، فلا ينبغي للرسول أن يتأثر بذلك بل يستمر في دعوته ويصبر على الأذى والتكذيب حتى يبلغ رسالات الله وحتى يؤدي ما أوجب الله ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، وكانت اليهود في المدينة ..... ومع هذا كذبوا ولم يستجيبوا لداعي الله وهم يعلمون أن محمدًا رسول الله، قد عرفوا هذا من كتبهم من التوراة ولكن حملهم البغي والحسد على التكذيب، فأمر الله نبيه ﷺ ألا يتأثر بذلك وألا يهمه أمرهم، فقد كذبوا من قبله، كذبوا عيسى وكذبوا رسلاً كثيرين وقد قتلوهم وهكذا غيرهم من الأمم من العرب وغير العرب، لا يهمنَّ الرسول تكذيبهم وإنكارهم وهكذا الدعاة من بعد الرسل، لا ينبغي أن يتأثروا بتكذيب المكذبين ومعارضة المعارضين وإيذاء المؤذين، فلهم أسوة بالرسل عليهم الصلاة والسلام فليصبروا وليحتسبوا وليستمروا في الدعوة إلى الله والصبر على الأذى حتى يبلغوا ما عليهم وحتى يؤدوا واجبهم، وبعد ذلك الأمر إلى الله .