02 من قوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ..)

وقوله : فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]. قال سعيد بن جبير: يعني صلاحًا في دينهم، وحفظا لأموالهم. وكذا روي عن ابن عباس، والحسن البصري، وغير واحد من الأئمة، وهكذا قال الفقهاء: إذا بلغ الغلام مصلحًا لدينه وماله انفك الحجر عنه، ويسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه بطريقه، وقوله: وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [السناء:6] ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية،  إِسْرَافًا وَبِدَارًا أي مبادرة قبل بلوغهم.الشيخ: وهذا الذي ذكره المؤلف: الرشد في الدين والدنيا هو ظاهر كلام كثير من أهل العلم كما ذكر هنا، وقال آخرون أن المعتبر صلاحه في دنياه من جهة المال، فإذا رشد في المال وأحسن التصرف دفع إليه، وإن لم يكن عدلاً في دينه؛ لأن الرشد هو الصلاح في الدنيا، وحفظ الأموال، وتنميتها، وعدم إضاعتها، فقد يكون صالحًا في دنياه، وليس صالحًا في دينه، وقد يكون صالحًا في دينه، ولكن ليس حافظًا لدنياه، لكن إذا اجتمع الرشدان صار أكمل وأتم، فإن انفرد الرشد بالمال حسن التصرف بالمال، ولكن عنده شيء من الفسق، فذهب جمع من أهل العلم إلى أنه يدفع إليه ماله، وإن كان في دينه نقص؛ لأنه قد يكون رشيدًا في المال، وإن كان كافرًا، وإن كان فاسقًا، وهذا محل نظر، والأقرب، والله أعلم أن المراد بالرشد المال ليس المراد الرشد بالدين؛ لأن كثيرًا من الناس....... دنياهم، وهم يتصرفون في أموالهم، وأقرهم الشارع في المدينة، وغير المدينة.
.........
ثم قال تعالى: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، أي من كان في غنية عن مال اليتيم فليستعفف عنه، ولا يأكل منه شيئًا. قال الشعبي: هو عليه كالميتة، والدم، ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الأشج، حدثنا عبد الله بن سليمان، حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة، وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ نزلت في مال اليتيم، وحدثنا الأشج، وهارون بن إسحاق قالا: حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام عن أبيه عن عائشة: وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه، ويصلحه إذا كان محتاجًا أن يأكل منه.
وحدثنا أبي، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، حدثنا علي بن مسهر عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: أنزلت هذه الآية في والي اليتيم، وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ، بقدر قيامه عليه. ورواه البخاري عن إسحاق عن عبد الله بن نمير عن هشام به.
قال الفقهاء: له أن يأكل أقل الأمرين: أجرة مثله، أو قدر حاجته، واختلفوا هل يرد إذا أيسر؟ على قولين: [أحدهما] لا، لأنه أكل بأجرة عمله، وكان فقيرًا، وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي؛ لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل.
الشيخ: وهذا هو الصواب أنه إذا أخذ ما يحتاج إليه أو فرض له شيء فإنه لا يرد شيئًا، بل هذا في مقابل عمله، فلا يرد شيئًا، ثم إذا وجد من يقوم عليه من غير أجرة يحتسب، فإن ولي الأمر يفرض له شيئًا بقدر تعبه، أو جزءًا مشاعًا في تجارته في ماله حتى لا يضيع ماله، ولا يتعطل، وحتى لا تضيع حاله، فيولى عليه ولو بأجرة من يرعى شؤونه، ويرعى ماله، لكن إذا كان هناك ولي يستعفف، ولا يأخذ من ماله شيئًا، وهو ثقة يصلح لأن يكون وليًا عليه فهذا مقدم على غيره؛ لأن من لا يحتاج إلى أجرة مقدم على غيره محسن، وينمي مال اليتيم، ويحفظه بدون شي،ء هذا مقدم على غيره إذا تيسر.
 قال أحمد: حدثنا عبد الوهاب، حدثنا حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أن رجلًا سأل رسول الله ﷺ فقال: ليس لي مال، ولي يتيم؟ فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف، ولا مبذر، ولا متأثل مالًا، ومن غير أن تقي مالك-، أو قال- تفدي مالك بماله شك حسين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، حدثنا حسين المكتب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: إن عندي يتيمًا عنده مال، وليس لي مال، آكل من ماله؟
قال: كل بالمعروف غير مسرف، ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث حسين المعلم.
الشيخ: وهو حسين بن ذكوان المعلم، هو حسين بن ذكوان، وما دام هو حسين بن ذكوان فهو ثقة معروف.
وروى ابن حبان في صحيحه، وابن مردويه في تفسيره من حديث يعلى بن مهدي عن جعفر بن سليمان عن أبي عامر الخزاز، عن عمرو بن دينار، عن جابر أن رجلًا قال: يا رسول الله مما أضرب يتيمي؟ قال: مما كنت ضاربًا منه ولدك غير، واق مالك بماله، ولا متأثل منه مالًا.الشيخ: وهذا ينبه على ما قد يقع من بعض العامة، يتحرزون من تأديب اليتيم، ويقولون اليتيم ما يضرب، وهذا غلط، اليتيم يؤدب مثل ما تؤدب ولدك؛ لأنه إذا أهمل فسدت أخلاقه، فلا يجوز إهماله، ولو أنه يتيم على وليه أن يلاحظه، ويؤدبه إذا احتاج إلى تأديب، كما يضرب إذا بلغ عشرًا، وتأخر عن الصلاة، ويؤدب إذا أساء الخلق والتصرف، ولا يترك يلعب ويعبث حتى تسوء أخلاقه، ولهذا في هذا الحديث قال: مما أضرب يتيمي؟ قال: مما تضرب به ولدك! يعني كما تضرب ولدك وتؤدبه فاجعله كولدك في ملاحظته، والعناية به، أو أعظم.
.........
وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال: جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال: إن في حجري أيتامًا، وإن لهم إبلًا، ولي إبل، وأنا أمنح في إبلي الفقراء، فماذا يحل لي من ألبانها؟ فقال: إن كنت تبغي ضالتها، وتهنأ جرباها، وتلوط حوضها، وتسعى عليها فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب، ورواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد به، وبهذا القول، وهو عدم أداء البدل، يقول عطاء بن أبي رباح، وعكرمة، وإبراهيم النخعي، وعطية العوفي، والحسن البصري. [والثاني] نعم، لأن مال اليتيم على الحظر، وإنما أبيح للحاجة فيرد بدله، كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة.
وقد قال ابن أبي الدنيا: حدثنا ابن خيثمة، حدثنا وكيع عن سفيان، وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب قال: قال عمر : إني أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة والي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت استقرضت، فإذا أيسرت قضيت.
الشيخ: وهذا في صحته نظر، والظاهر أن حارثة هذا لم يدرك عمر، ولم يسمع من عمر، فهو منقطع، ومال اليتيم ليس محصورًا في هذا فله أمر ثالث، وهو الأكل منه بقدر عمله كما قال الله: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 6]، ونص الآية الكريمة نص واضح فله الأكل منه فإذا جاز الأكل فالقرض من باب أولى إذا احتاج إليه؛ لأن القرض أسهل، والصواب كما تقدم أنه لا يرد بدله إذا أكل منه بالمعروف.
طريق أخرى: قال سعيد بن منصور: حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: قال عمر : إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن احتجت أخذت منه، فإذا أيسرت رددته، وإن استغنيت استعففت، إسناد صحيح.الشيخ: صحيح لكن في تسامح من المؤلف؛ لأن أبا إسحاق مدلس، وقد عنعن هنا وهناك، فإطلاق الصحة عليه فيه تسامح.
وروى البيهقي عن ابن عباس نحو ذلك، وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ يعني القرض، قال وروي عن عبيدة، وأبي العالية، وأبي وائل، وسعيد بن جبير في إحدى الروايات، ومجاهد، والضحاك، والسدي نحو ذلك، وروي من طريق السدي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ، قال: يأكل بثلاث أصابع، ثم قال: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس، وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ قال: يأكل من ماله، يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم.الشيخ: ومعنى بالمعروف يعني غير مسرف، ولا مبذر، أما قوله الأكل بثلاث أصابع فهذا ليس بشيء، لأن سنة الأكل مطلقة، والمراد هنا بالمعروف يعني المتعارف الذي ليس فيه تبذير، ولا إسراف، ولا عدوان.
 قال وروي عن مجاهد، وميمون بن مهران في إحدى الروايات، والحكم نحو ذلك، وقال عامر الشعبي: لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة، فإن أكل منه قضاه، رواه ابن أبي حاتم.الشيخ: وقول الشعبي هذا ليس بشيء، الميتة ليس بشيء، وإنما يكفي الفقر فقط كما هو نص كتاب الله.
وقال ابن وهب: حدثنا نافع بن أبي نعيم القارئ قال: سألت يحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة عن قول الله تعالى: وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ الآية، فقال: ذلك في اليتيم إن كان فقيرًا أنفق عليه بقدر فقره، ولم يكن للولي منه شيء، وهذا بعيد من السياق، لأنه قال: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ يعني من الأولياء، وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا أي منهم فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ أي بالتي هي أحسن كما قال في الآية الأخرى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام:152] أي لا تقربوه إلا مصلحين له، فإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف.
وقوله: فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ يعني بعد بلوغهم الحلم، وإيناس الرشد منهم، فحينئذ سلموا إليهم.
فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ، وهذا أمر من الله تعالى للأولياء أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم، وسلموا إليهم أموالهم لئلا يقع من بعضهم جحود، وإنكار لما قبضه، وتسلمه، ثم قال: وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا أي، وكفى بالله محاسبًا وشهيدًا، ورقيبًا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام، وحال تسليمهم للأموال، هل هي كاملة موفرة، أو منقوصة مبخوسة، مروج حسابها، مدلس أمورها؟ الله عالم بذلك كله، ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ قال: يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين، ولا تلين مال يتيم.
الشيخ: وما ذاك إلا للخطر العظيم؛ لأن النفس أمارة بالسوء، والإنسان إذا تولى قد يحيف ويظلم اليتيم، ويتعدى، ولهذا نصح النبي ﷺ أبا ذر ألا يتولى مال يتيم.
س: هل يعطي لليتيم ما يعطي ولده؟
الشيخ: لا، يعطيه من ماله، يعطي اليتيم من مال اليتيم، يكفيه من ماله، ويطعمه من ماله، وإذا أعطاه من ماله شيئًا فجزاه الله خيرًا، لكن ما هو بلازم، ذاك في الأدب يؤدب اليتيم مثل ما يؤدب ولده إذا أخطأ، مثل ما يؤدب ولده يؤدب اليتيم لا يدعه يؤذي الناس، ويتعدى على الناس، أو يتأخر عن الصلاة، وقد بلغ العشر، أما المال فينفق عليه من ماله هو من مال اليتيم.
........
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ۝ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ۝ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:7-10].
قال سعيد بن جبير، وقتادة: كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار، ولا يورثون النساء، ولا الأطفال شيئًا، فأنزل الله تعالى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ الآية، أي الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى، يستوون في أصل الوراثة، وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم بما يدلي به إلى الميت من قرابة، أو زوجية، أو ولاء، فإنه لحمة كلحمة النسب.
الشيخ: وهذا من لطف الله جل وعلا، كان في الجاهلية لا تورث الصبيان دون البلوغ، ولا يورثون النساء فأبطل الله هذه العادة الجاهلية، وجعل الميراث لجميع القرابات على اختلاف منازلهم الذكور والإناث، فقال: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا فجعل القرابة يستوي فيها الذكور والإناث على ترتيب وضحه الرسول ﷺ في سنته، وذكر جملة منه سبحانه في كتابه كما يأتي في آيات المواريث.
أما العادة في الجاهلية فأبطلها الله ، وهي عدم توريث النساء، وعدم توريث الأطفال، وهذه الجاهلية لايزال لها بقية في بعض الناس من جهة النساء، هناك بقية من الناس المنتسبين إلى الإسلام عندهم بقية من جاهلية في أكل حقوق النساء، والتساهل في أمر النساء في المواريث، وغيرها، وهذا من بقية الجاهلية.
وقد روى ابن مردويه من طريق ابن هراسة عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: أتت أم كجة إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله إن لي ابنتين قد مات أبوهما، وليس لهما شيء، فأنزل الله تعالى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ الآية، وسيأتي هذا الحديث عند آيتي الميراث بسياق آخر، والله أعلم.
وقوله: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ الآية، قيل: المراد حضر قسمة الميراث ذو القربى ممن ليس بوارث، واليتامى، والمساكين فليُرضخ لهم من التركة نصيب، وأن ذلك كان واجبًا في ابتداء الإسلام، وقيل يستحب.
واختلفوا هل هو منسوخ أم لا؟ على قولين، فقال البخاري: حدثنا أحمد بن حميد، أخبرنا عبد الله الأشجعي عن سفيان عن الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس في الآية. قال: هي محكمة، وليست بمنسوخة. تابعه سعيد عن ابن عباس. وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا عباد بن العوام عن الحجاج عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: هي قائمة يعمل بها، وقال الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في هذه الآية، قال: هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم، وهكذا روي عن ابن مسعود، وأبي موسى، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأبي العالية، والشعبي، والحسن، وقال ابن سيرين، وسعيد بن جبير، ومكحول، وإبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، ويحيى بن يعمر: إنها، واجبة، وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج، عن إسماعيل بن علية عن يونس بن عبيد عن ابن سيرين قال: ولي عبيدة وصية فأمر بشاة فذبحت فأطعم أصحاب هذه الآية فقال: لولا هذه الآية لكان هذا من مالي، وقال مالك فيما يروى عنه من التفسير في جزء مجموع عن الزهري: أن عروة أعطى من مال مصعب حين قسم ماله، وقال الزهري: هي محكمة. وقال مالك: عن عبد الكريم عن مجاهد قال: هي حق واجب ما طابت به الأنفس.
الشيخ: وهذا هو الأصل، فالأصل في النصوص عدم النسخ هذا هو الأصل، ولا يقال: إنه منسوخ إلا بدليل، ولا دليل وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ قسمة الأموال، قسمة أموال التركة رزق لهم من ذلك ما يراه الورثة من قليل أو كثير، فيعطون الذين لا يرثون إذا حضروها حين تقسم الأموال، رزق لهم شيء ذبيحة تذبح يطعمون إياها، وليمة، ويعطون على عشرة على عشرين على ثلاثين على مائة على حسب كثرة المال، وقلته، وعلى حسب ما تطيب به نفوس الورثة، والمقصود أن هذه الآية قائمة مثل ما قال ابن عباس، وجماعة، وليست منسوخة، وأما آية المواريث فهي على حالها، آية المواريث شيء، وهذه من باب مكارم الأخلاق، ومن باب محاسن الأعمال.
.........
ذكر من ذهب إلى أن ذلك أمر بالوصية لهم:
قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني ابن أبي مليكة: أن أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، والقاسم بن محمد أخبراه أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، قسم ميراث أبيه عبد الرحمن، وعائشة حية، قالا: فلم يدع في الدار مسكينا، ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه، قالا: وتلا وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى، قال القاسم: فذكرت ذلك لابن عباس، فقال: ما أصاب ليس ذلك له إنما ذلك إلى الوصية، وإنما هذه الآية في الوصية يريد الميت يوصي لهم، رواه ابن أبي حاتم.
الشيخ: وهذا ليس بجيد، والصواب الأول كما قال ابن عباس الصواب الأول ليس وصية فهذا إلى الورثة القاسمون.
ذكر من قال هذه الآية منسوخة بالكلية: قال سفيان الثوري، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ قال: منسوخة، وقال إسماعيل بن مسلم المكي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس، قال في هذه الآية، وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى: نسختها الآية التي بعدها يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ [النساء:11].
وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه الآية وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى، كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض، فأنزل الله بعد ذلك الفرائض فأعطى كل ذي حق حقه، فجعلت الصدقة فيما سمى المتوفى، رواهن ابن مردوية.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج عن ابن جريج، وعثمان بن عطاء عن عطاء، عن ابن عباس في قوله: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ نسختها آية الميراث فجعلت لكل إنسان نصيبه مما ترك الوالدان، والأقربون مما قل منه أو كثر.
وحدثنا أسيد بن عاصم، حدثنا سعيد بن عامر عن همام، حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب أنه قال: إنها منسوخة، قبل الفرائض، كان ما ترك الرجل من مال أعطي منه اليتيم، والفقير، والمسكين، وذوي القربى، إذا حضروا القسمة، ثم نسختها المواريث فألحق الله بكل ذي حق حقه، وصارت الوصية من ماله يوصي بها لذوي قرابته حيث شاء. وقال مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: هي منسوخة، نسختها المواريث، والوصية. وهكذا روي عن عكرمة، وأبي الشعثاء، والقاسم بن محمد، وأبي صالح، وأبي مالك، وزيد بن أسلم، والضحاك، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حيان، وربيعة بن أبي عبد الرحمن أنهم قالوا: إنها منسوخة.
وهذا مذهب جمهور الفقهاء، والأئمة الأربعة، وأصحابهم.
الشيخ: والأول أظهر، وإن كان أقل الأقل فهو أظهر، وهو الرواية الصحيحة عن ابن عباس.
س: هذه الأخبار كلها عن ابن عباس؟
الشيخ: إذا صحت أحسنها السند الأخير. يكون روايتان في المعنى، قد يكون الأولى القول بأنها غير منسوخة، والثانية العكس، وقد يكون العكس الأولى بأنه قال: أنها منسوخة، والقول الثاني رجع، وهذا يقع من ابن عباس كثيرًا. ابن عباس، وغيره قد يقع منه روايتان فأكثر كما يقع من غيره، قد يبدو للإنسان مع طول المدة، وهو عمر إلى ثمانية وستين، وقد يكون بدا له شيء أنه رأى النسخ، أولاً، ثم بدا له عدم النسخ، أو العكس، وهكذا عن غيره من التابعين، والصحابة لكن الأصل عدم النسخ.
وقد اختار ابن جرير هاهنا قولًا غريبًا جدًا، وحاصله أن معنى الآية عنده، وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أي وإذا حضر قسمة مال الوصية، أولو قرابة الميت فارزقوهم منه، وقولوا لليتامى، والمساكين إذا حضروا قولًا معروفا هذا مضمون ما حاوله بعد طول العبارة، والتكرار، وفيه نظر، والله أعلم.الشيخ: يعني ارزقوا أولي القرابة، وهم اليتامى فقولوا لهم قولاً معروفًا لا تعطوهم شيئًا إلا كلامًا طيبًا، هذا القول ليس بشيء، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله على إمامته ليس بشيء، والصواب القول الأول أنهم يرزقون جميعًا من المال مع الكلام الطيب، ما هو بس الكلام فقط، المال مع الكلام الطيب، والقول الثاني: أنه منسوخ العطاء، أما الكلام الطيب ما هو منسوخ.
وقال العوفي عن ابن عباس، وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ هي قسمة الميراث، وهكذا قال غير واحد، والمعنى على هذا لا على ما سلكه ابن جرير رحمه الله، بل المعنى أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون، واليتامى، والمساكين قسمة مال جزيل.   
الشيخ: تقييده أنهم القرابة من الفقراء ليس بجيد، بل الفقراء مطلقًا وذي القربى، لكن الفقراء من باب أولى.
فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه إذا رأوا هذا يأخذ، وهذا يأخذ، وهم يائسون لا شيء يعطونه، فأمر الله تعالى وهو الرؤوف الرحيم أن يرضخ لهم شيء من الوسط، يكون برا بهم، وصدقة عليهم، وإحسانًا إليهم، وجبرًا لكسرهم، كما قال الله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، وذم الذين ينقلون المال خفية خشية أن يطلع عليهم المحاويج، وذو الفاقة، كما أخبر به عن أصحاب الجنة: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ [القلم:17] أي بليل، وقال: فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ۝ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ [القلم23-24]، فـ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد:10]، فمن جحد حق الله عليه عاقبه في أعز ما يملكه، ولهذا جاء في الحديث ما خالطت الصدقة مالا إلا أفسدته أي منعها يكون سبب محق ذلك المال بالكلية.
.........
وقوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ [النساء: 9]الآية، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هذا في الرجل يحضره الموت، فيسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله، ويوقفه، ويسدده للصواب، فينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة، وهكذا قال مجاهد وغير واحد، وثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده، قال: يا رسول الله، إني ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. قال: فالشطر؟ قال لا. قال: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثر. ثم قال رسول الله ﷺ إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وفي الصحيح عن ابن عباس قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله ﷺ قال الثلث، والثلث كثير قال الفقهاء: إن كان ورثة المال أغنياء، استحب للميت أن يستوفي في وصيته الثلث، وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص الثلث، وقيل: المراد بالآية فليتقوا الله في مباشرة أموال اليتامى، ولا يأكلوها إسرافًا وبدارًا أن يكبروا، حكاه ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس، وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلمًا، أي كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك، فعامل الناس في ذراريهم إذا وليتهم.
ثم أعلمهم أن من أكل أموال اليتامى ظلمًا فإنما يأكل في بطنه نارا، ولهذا قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [السناء:10] أي إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب فإنما يأكلون نارا تتأجج في بطونهم يوم القيامة، وفي الصحيحين من حديث سليمان بن بلال عن ثور بن زيد، عن سالم أبي الغيث، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺقال: اجتنبوا السبع الموبقات قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات.
الشيخ: وهذا حديث عظيم يدل على أن هذه من الكبائر العظيمة، ولهذا قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" يعني ابتعدوا عنها، واحذروها مثل ما قال في الخمر سبحانه: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، والمعنى ابتعدوا عنه، واحذروه.
والسبع الموبقات بينها عليه الصلاة والسلام قال: الشرك بالله، وهو أعظمها، وأقبحها، وهو أعظم ما عصي بالله به الشرك بالله، ثم السحر، وهو من الشرك؛ لأنه لا يتعاطى إلا بعبادة الجن، والشياطين، والتقرب إليهم، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وهو الشاهد، والتولي يوم الزحف عندما يزحف المسلمون إلى الكفار، ويزحف الكفار إلى المسلمين عندما يلتقي الصفان فراره في هذه الحالة وخذلان إخوانه المسلمين من أكبر الكبائر.
وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات بالزنا، والفواحش، وهكذا قذف الرجال من باب أولى.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبيدة، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمي، حدثنا أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري، قال: قلنا: يا رسول الله، ما رأيت ليلة أسري بك؟ قال: انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير، رجال كل رجل منهم له مشفرٌ كمشفري البعير، وهو موكل بهم رجال يفكون لحاء أحدهم، ثم يجاء بصخرة من نار فتقذف في فيِّ أحدهم حتى يخرج من أسفله، ولهم خوار، وصراخ، قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا، إنما يأكلون في بطونهم نارا، وسيصلون سعيرا.
الشيخ: على كل حال الآيات العظيمة كل هذا نص، الآية مع الآيات الأخرى، ومع الأحاديث الواردة في تحريم أموال اليتامى كلها تدل على أن أكل أموال اليتامى من أقبح الكبائر، ولهذا قال: إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10]، فهذا يدل على أن أكل أموال اليتامى من أعظم أسباب العذاب، وأن هذا المال الذي يأكلونه يكون نارًا في أجوافهم، وفي الحديث الصحيح: اجتنبوا السبع الموبقات يعني المهلكات قلنا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم فأكل أموال اليتامى من السبع المهلكات، نعوذ بالله من عقابه، وأنها سبب لعذاب آكله يوم القيامة، نسأل الله العافية.
الطالب: عمارة بن جوين بجيم مصغر أبو هارون العبدي، مشهور بكنيته متروك، ومنهم من كذبه، شيعي من الرابعة، مات سنة أربع وثلاثين عخ ت ق.
الشيخ: شيعي! نسأل الله العافية!.. وهذا المتن فيه نكارة، ولهذا صار من رواية هذا المتهم متهم بالكذب.
الطالب: عبد العزيز ابن عبد الصمد العمي أبو عبد الله البصري، ثقة حافظ، من كبار التاسعة، مات سنة سبع وثمانين، ويقال بعد ذلك ع.
الشيخ: يعني يؤخذ عليه إذا كان مثل هذا الرديء، نعم.
وقال السدي: يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه، ومن مسامعه، وأنفه، وعينيه، يعرفه كل من رآه بأكل مال اليتيم. وقال ابن مردويه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا أحمد بن عمرو، حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا زياد بن المنذر، عن نافع بن الحارث، عن أبي برزة أن رسول الله ﷺ قال: يبعث يوم القيامة القوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: ألم تر أن الله قال إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا الآية، رواه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة، عن عقبة بن مكرم، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، عن أحمد بن علي بن المثنى، عن عقبة بن مكرم. وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا أحمد بن عصام، حدثنا أبو عامر العبدي، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن عثمان بن محمد، عن المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: أحرج مال الضعيفين المرأة واليتيم أي أوصيكم باجتناب مالهما.
وتقدم في سورة البقرة من طريق عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما نزلت إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا الآية، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء فيحسن له حتى يأكله، أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ، فأنزل الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة:220]، قال: فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم.
الشيخ: يعني المقصود الحرص على حفظ أموالهم، فإذا كان إفرادها يضرهم صار خلطها أصلح، ولهذا قال : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ المقصود الإصلاح وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:220]، فإذا كان خلط أموالهم بأموال من تحت يده لتنمو لتحفظ، ويأكلون معهم، ويكفونهم المؤنة فإنهم إذا كانوا مع طعامهم كفوهم المؤنة لما يحتاج إلى عطب، ويحتاج إلى أشياء يكفونهم المؤنة، ويأكلون معهم، ويأخذون مقابل ذلك الشيء اليسير إذا احتاجوا إلى ذلك.
الطالب: أقوال السدي، وغيره ما حكمها؟
الشيخ: قد يقال: أخبار بني إسرائيل إنها من باب المرسلات، يعني التابعي إذا قال شيئًا لا يقال من جهة الرأي، فهو بين أمرين: إما أن يكون في حكم المرسل، كما نقل الصحابة رضوان الله عليهم، وإما أن يكون النقل عن بني إسرائيل مثل كعب، ووهب بن منبه، وأشباههم، وهكذا يكون الصحابي إذا فعل ذلك إن كان يفهم ويعلم من بني إسرائيل، وكان لا مجال للرأي فيه فهو مقبول، وإن كان لا يفهم بني إسرائيل دل على هذا، وإن كان للرأي فيه مجال دل على استنباطه، والتابعي كذلك على الأرجح.
.........
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11].
هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هو كالتفسير لذلك.

الشيخ: علم الفرائض كله مبني على هذه الآيات، علم المواريث كله مبني على هذه الآيات الثلاث، الآيتين في أول السورة، والآية الأخيرة في آخر السورة يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ [النساء:176]، فالله جل وعلا بين في هذه الآيات أحكام المواريث، وجاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ شارحة لهذه الآيات، وموضحة لمعانيها، وجاءت بأحكام أخرى زائدة على هذه الآيات تكميلاً لأحكام الفرائض.
ولنذكر منها ما هو متعلق بتفسير ذلك، وأما تقرير المسائل، ونصب الخلاف والأدلة، والحجاج بين الأئمة، فموضعه كتب الأحكام، والله المستعان.
وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض، وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك، وقد روى أبو داود، وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي، عن عبد الله بن عمرو ، مرفوعًا قال: العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ تعلموا الفرائض، وعلموه الناس فإنه نصف العلم، وهو ينسى، وهو أول شيء ينزع من أمتي رواه ابن ماجه، وفي إسناده ضعف. وقد روي من حديث ابن مسعود، وأبي سعيد، وفي كل منهما نظر. قال ابن عيينة: إنما سمى الفرائض نصف العلم، لأنه يبتلى به الناس كلهم.

الشيخ: يعني المواريث يبتلى بها الناس صار نصف العلم، والبقية النصف الثاني فيما يتعلق بالفرائض الأخرى من الزكاة، والصيام، والحج، ونحو ذلك؛ لأن الصلاة إنما تجب على المكلفين، والزكاة على أصحاب أموال، والصوم على المكلفين، والحج على المستطيعين المكلفين، بخلاف المواريث فإنها تقع للناس كلهم، تقع للمسلم، والكافر، والصغير، والكبير، والمجنون على العموم، فصارت نصف العلم، وقال آخرون: معنى "نصف العلم" أن أحكام الإنسان قسمان: قسم يتعلق بحياته كبقية الأحكام، وقسم يتعلق بموته، وهو علم المواريث، فكان نصف العلم من هذه الحيثية صار شطرًا، والأحكام المتعلقة بالحياة الشطر الآخر.
وقال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله ﷺ، وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي ﷺ لا أعقل شيئًا، فدعا بماء فتوضأ منه، ثم رش علي فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وكذا رواه مسلم، والنسائي من حديث حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج به، ورواه الجماعة كلهم من حديث سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر.
الشيخ: وهذا الحديث يدل على عنايته ﷺ بأصحابه، وأنه كان يعود مريضهم، ويعتني بهم عليه الصلاة والسلام، فذهب ﷺ والصديق ماشيين يعودان جابرًا لما مرض، وكان شابًا، كان جابر في حياة النبي شابًا في سن العشرين، أو ما يقارب ذلك، فعاده ﷺ وأبو بكر ماشيين، فلما جاءا إليه، وهو لا يعقل من شدة المرض، فتوضأ عليه الصلاة والسلام، ثم صب عليه من وضوئه فأفاق جابر، ثم سأله هذا السؤال، والمشهور أنه نزلت فيه آية المواريث الأخيرة التي في آخر السورة؛ لأنه كان ذاك الوقت ليس عنده أولاد، ما كان عنده إلا أخوات، فالمشهور أن الآية نزلت فيه، الآية الأخيرة التي في آخر السورة، وأما هذه الآية فهي فيمن ترك أولادًا.
حديث آخر في سبب نزول الآية قال أحمد: حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا عبيد الله هو ابن عمرو الرقي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله ﷺ، فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيدًا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالًا، ولا ينكحان إلا ولهما مال، قال: فقال: يقضي الله في ذلك فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله ﷺ إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك.
الشيخ: يعني هذه الصورة: زوجة، وابنتين، وعم، فصارت التركة هكذا: الزوجة لها الثمن، وللبنتين الثلثان، والباقي للعم، يعني أربعة وعشرين سهمًا، للبنتين ستة عشر سهمًا، وللزوجة الثمن ثلاثة، بقي خمسة من أربعة وعشرين فتكون عصبة للعم.
وقد رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل به، قال الترمذي: ولا يعرف إلا من حديثه. والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نزل بسبب الآية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتي، فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات، ولم يكن له بنات، وإنما كان يورث كلالة، ولكن ذكرنا الحديث هاهنا تبعا للبخاري رحمه الله فإنه ذكره هاهنا، والحديث الثاني عن جابر أشبه بنزول هذه الآية، والله أعلم.س: أحسن الله إليك، ولو أن الحديث الأول في البخاري؟
الشيخ: نعم لكن معروف من حيث التاريخ، ومن حيث المواقع أن جابرًا لم يولد له في حياة النبي ﷺ، وإنما أولاده كانوا بعد النبي ﷺ، وإنما كانت له أخوات خلف له والده أخوات، ويحتمل أن يكون له ذرية على ظاهر الآية الكريمة.
س: استشهاد البخاري بهذا الحديث على هذه الآية يدل على ماذا؟
الشيخ: كأن البخاري رحمه الله ظهر له أنه لم يكن له ذرية صغارًا، وإن كان لم يستو هذا عند النسابين، والمؤرخين فإن العمدة على الرواية.
قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي يأمركم بالعدل فيهم، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث، فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث، وفاوت بين الصنفين، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة، والكلفة، ومعاناة التجارة، والتكسب، وتحمل المشاق، فناسب أن يعطى ضعفي ما تأخذه الأنثى، وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، فعلم أنه أرحم بهم منهم، كما جاء في الحديث الصحيح، وقد رأى امرأة من السبي فرق بينها وبين ولدها، فجعلت تدور على ولدها، فلما وجدته من السبي أخذته فألصقته بصدرها، وأرضعته. فقال رسول الله ﷺ لأصحابه:أتُرون هذه طارحة ولدها في النار، وهي تقدر على ذلك؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فو الله لله أرحم بعباده من هذه بولدها، وقال البخاري هاهنا: حدثنا محمد بن يوسف عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، والثلث، وجعل للزوجة الثمن، والربع، وللزوج الشطر، والربع.الشيخ: وهذا من لطف الله، وإحسانه، وحكمته العظيمة، وعلمه بأحوال عباده كانوا في الجاهلية يقولون: لا يأخذ المال إلا من يحمل السلاح، ويقاتل الرجال، ولا يكون للنساء شيئًا، والصبيان! فأبطل الله هذه العادة الجاهلية، وجعل الميراث مشتركًا بين الذكور، والإناث، والكبار، والصغار رحمة منه بعباده؛ لأن الكبير يحتاج، والصغير يحتاج، والأنثى تحتاج كما يحتاج الذكر، ولكنه سبحانه فاوت بين الذكور والإناث، وبين الأولاد والإخوة، فجعل للذكر ضعف ما للمرأة؛ لأنه يحتاج إلى ذلك، يدبر المهر للزواج، ينفق على الأهل والأولاد، يقابل الضيوف، ويتحمل المشاق الكثيرة، فصار من رحمة الله أن يعطى أكثر لما يحتاجه من النفقة الكثيرة، أما المرأة فنفقتها أقل، وقد تكفى المؤنة، وتتزوج، ويكفيها زوجها المؤنة، فلا تحتاج إلى شيء.
ثم إنه أرحم بعباده منهم بأولادهم، ولهذا أوصاهم بأولادهم، وقسم التركة بينهم وبين أولادهم وإخوتهم وأقاربهم، وأمرهم أن ينفقوا لأنفسهم، وأن يحسنوا إلى أنفسهم، ويطلبوا الأجر في الآخرة، كل هذا رحمة منه ، وتعليم وإرشاد لهم، فلا يضيع أولادهم، ولا ينسون أنفسهم مما ينفعهم في الآخرة من الوصية بالثلث فأقل.
وحرم عليهم قتل أولادهم، وحرم عليهم الوأد الذي كانت تفعله الجاهلية، كل هذا من رحمته .
وقال العوفي عن ابن عباس قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وذلك أنه لما أنزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر، والأنثى، والأبوين، كرهها الناس، أو بعضهم، وقالوا: تعطى المرأة الربع، أو الثمن، وتعطى الأبنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم، ولا يحوز الغنيمة، اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله ﷺ ينساه، أو نقول له فيغير، فقال بعضهم: يا رسول الله تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفرس، ولا تقاتل القوم، ويعطى الصبي الميراث، وليس يغني شيئا، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم، ويعطونه الأكبر فالأكبر. رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير أيضًا.
وقوله تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ، قال بعض الناس: قوله فوق زائدة، وتقديره فإن كن نساء اثنتين، كما في قوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ [الأنفال:12]، وهذا غير مسلم لا هنا، ولا هناك. فإنه ليس في القرآن شيء زائد لا فائدة فيه، وهذا ممتنع، ثم قوله: فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ لو كان المراد ما قالوه لقال: فلهما ثلثا ما ترك، وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة، فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين. وإذا ورث الأختان الثلثين فلأن يرث البنتان الثلثين بالطريق الأولى. وقد تقدم في حديث جابر أن النبي ﷺ، حكم لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين، فدل الكتاب، والسنة على ذلك.

الشيخ: والمعنى فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ المعنى يعني اثنتين فما فوق، وليس لها مفهوم فوق اثنتين ليس له مفهوم أن الثلاث تعطى الثلثين، وهكذا البنتان لأنه نبه على ذلك سبحانه في آخر السورة لما أعطى الأختين الثلثين دل على أن البنتين من باب أولى، قال في آخر السورة فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ [النساء:176] فدل ذلك على أن البنتين كذلك، وأنه قوله: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ، ليس له مفهوم بل المراد ثنتين فما فوق.
وهكذا عطاؤه ﷺ لابنتي سعد بن الربيع الثلثين فهو موضح لهذا المعنى، فالواحدة تأخذ النصف، والاثنتان تأخذان الثلثين، وهكذا إذا كثرن ليس لهن إلا الثلثان كالأخوات سواء.
وأيضا فإنه قال: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فلو كان للبنتين النصف لنص عليه أيضًا، فلما حكم به للواحدة على انفرادها، دل على أن البنتين في حكم الثلاث، والله أعلم.
وقوله تعالى: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، إلى آخره، الأبوان لهما في الإرث أحوال
 [أحدهما]: أن يجتمعا مع الأولاد فيفرض لكل واحد منهما السدس، فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة فرض لها النصف، وللأبوين لكل واحد منهما السدس، وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب، فيجمع له، والحالة هذه بين الفرض والتعصيب.
 [الحال الثاني]: أن ينفرد الأبوان بالميراث، فيفرض للأم الثلث، والحالة هذه، ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض، ويكون قد أخذ ضعفي ما حصل للأم، وهو الثلثان، فلو كان معهما زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف، والزوجة الربع.
ثم اختلف العلماء ماذا تأخذ الأم بعد فرض الزوج، والزوجة، على ثلاثة أقوال: [أحدها] أنها تأخذ ثلث الباقي في المسألتين، لأن الباقي كأنه جميع الميراث بالنسبة إليهما. وقد جعل الله لها نصف ما جعل للأب. فتأخذ ثلث الباقي، ويأخذ الأب الباقي ثلثيه، هذا قول عمر، وعثمان، وأصح الروايتين عن علي، وبه يقول ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وهو قول الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، وجمهور العلماء.
[والثاني]: أنها تأخذ ثلث جميع المال لعموم قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، فإن الآية أعم من أن يكون معها زوج، أو زوجة، أو لا، وهو قول ابن عباس. وروي عن علي، ومعاذ بن جبل نحوه، وبه يقول شريح، وداود الظاهري، واختاره أبو الحسين محمد بن عبد الله بن اللبان البصري في كتابه الإيجاز في علم الفرائض، وهذا فيه نظر، بل هو ضعيف، لأن ظاهر الآية إنما هو إذا استبدا بجميع التركة، وأما هنا فيأخذ الزوج أو الزوجة الفرض، ويبقى الباقي كأنه جميع التركة فتأخذ ثلثه كما تقدم.
[والقول الثالث]: أنها تأخذ ثلث جميع المال في مسألة الزوجة خاصة، فإنها تأخذ الربع، وهو ثلاثة من اثني عشر، وتأخذ الأم الثلث، وهو أربعة، فيبقى خمسة للأب، وأما في مسألة الزوج فتأخذ ثلث الباقي لئلا تأخذ أكثر من الأب لو أخذت ثلث المال، فتكون المسألة من ستة: للزوج النصف ثلاثة، وللأم ثلث الباقي بعد ذلك، وهو سهم، وللأب الباقي بعد ذلك، وهو سهمان، ويحكى هذا عن ابن سيرين، وهو مركب من القولين الأولين، موافق كلا منهما في صورة، وهو ضعيف أيضا، والصحيح الأول، والله أعلم.

الشيخ: والقول الأول يعني: أنها تعطى ثلث الباقي في العمريتين، وهم: زوج، وأم، وأب، أو زوجة فأكثر، وأم، وأب فإن الصحابة نظروا في هذا وعرفوا أنها تأخذ نصف حظ الرجل، فإذا انفردا صار لها الثلث، وللأب مثلاها، كالأخ مع الأخت، والابن مع البنت، فإذا صار معهما الزوج أو الزوجة فكأنهما استقلا بالمال الذي بعدهما حكم نصيب الزوج، ونصيب الزوجة كالشيء المفروغ منه، والمنتهي فيأخذ الزوج فرضه، والزوجة فرضها، ويبقى المال كأنه جميع التركة الباقي فيحكم بينهما على القاعدة، ولهذا ذهب إلى هذا عمر وأرضاه، وعثمان، وعلي، وغيرهم.
والحال الثالث من أحوال الأبوين، وهو اجتماعهما مع الإخوة، سواء كانوا من الأبوين، أو من الأب، أو من الأم، فإنهم لا يرثون مع الأب شيئًا، ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس، فيفرض لها مع وجودهم السدس، فإن لم يكن وارث سواها وسوى الأب أخذ الأب الباقي، وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الإخوة عند الجمهور.الشيخ: وهذا لأنهم محجوبون بشخص، وهو الأب، فوجودهم معتبر، الإخوة محجوبون بشخص لا بوصف، فوجودهم معتبر، ولهذا منعوا الأم من الثلث، وأخذت السدس وصار الباقي للأب إذا لم يكن معهم أصحاب فرض آخر.
وقد روى البيهقي من طريق شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه دخل على عثمان، فقال: إن الأخوين لا يردان الأم عن الثلث، قال الله تعالى: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ، فالأخوان ليسا بلسان قومك إخوة، فقال عثمان: لا أستطيع تغيير ما كان قبلي ومضى في الأمصار، وتوارث به الناس. وفي صحة هذا الأثر نظر، فإن شعبة هذا تكلم فيه مالك بن أنس، ولو كان هذا صحيحًا عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الأخصاء به، والمنقول عنهم خلافه، وقد روى عبد الرحمن بن أبي الزناد عن خارجة بن زيد عن أبيه أنه قال: الأخوان تسمى إخوة، وقد أفردت لهذه المسألة جزءا على حدة.
الشيخ: ويدل على أنهم إخوة قوله تعالى في آخر السورة يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:176] فجعل الواحد مع أخته إخوة، وأعطاهما ثلاثة للذكر مثل حظ الأنثيين، فدل ذلك على أن الأخ مع الأخت يسميان إخوة، فيحجبان الأم عن الثلث إلى السدس.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة، حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد، عن قتادة قوله: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ أضروا بالأم ولا يرثون، ولا يحجبها الأخ الواحد عن الثلث، ويحجبها ما فوق ذلك، وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم عن الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم، ونفقته عليهم دون أمهم.
الشيخ: ونفقتهم عليه دون أمهم، ولهذا يأخذ الزائد حتى يستعين به على النفقة، ونفقتهم على الأب دون الأم ينفق عليهم قال الله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233].
ونفقتهم عليه دون أمهم، وهذا كلام حسن، لكن روي عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه كان يرى أن السدس الذي حجبوه عن أمهم يكون لهم، وهذا قول شاذ رواه ابن جرير في تفسيره فقال: حدثنا الحسن بن يحيى، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: السدس الذي حجبته الإخوة الأم لهم، إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أبيهم، ثم قال ابن جرير: وهذا قول مخالف لجميع الأمة.
وقد حدثني يونس، أخبرنا سفيان، أخبرنا عمرو عن الحسن بن محمد، عن ابن عباس أنه قال: الكلالة من لا ولد له، ولا والد.

 ...