104 من حديث: (مر رجل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: ما رأيُك في هذا؟..)

بَاب فَضْلِ الفَقْرِ

6447- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُالعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا.

الشيخ: وهذا أيضًا يُبيّن أن الكرم عند الله والفضل عند الله والمنزلة العظيمة ليست بشرف الأنساب، ولا بكثرة الأموال، ولا بعظم الجاه، ولا بالوظائف، ولكنه بالتقوى والبصيرة والهدى والعلم، ولهذا كان جالسًا عليه الصلاة والسلام ذات يومٍ وعنده بعض أصحابه، فمرَّ رجلٌ من أشراف الناس، المعروفين عند الناس، فقال له ﷺ: ما رأيك في هذا؟ قال: هذا يا رسول الله رجلٌ من أشراف الناس، يعني: المعروفين المقدّرين عندهم، حريٌّ إن خطب أن يُزوَّج، وحريٌّ إن شفع أن يُشَفَّع، إذا ..... عند ولاة الأمور، فسكت النبيُّ ﷺ، ثم مرَّ رجلٌ من فقراء الناس، فقال: ما رأيك في هذا؟ قال: هذا رجلٌ من فقراء المسلمين، حريٌّ إن خطب ألا يُزوَّج، ما هو معروف، ما له جاه عندهم، وإن شفع ألا يُشفَّع، وإن قال ألا يُسمع لقوله، فقال النبيُّ ﷺ: هذا خيرٌ من ملء الأرض من مثل هذا، يعني: من الأول، يعني: هذا الفقير الذي عند الناس ليس بشيءٍ هو خيرٌ من ملء الأرض من ذاك، وإن كانا مسلمين، وإن كان لهما نصيبهما من الخير، لكن يُبين الرسول ﷺ أنه ليس الاعتبار بالشُّهرة عند الناس، أو بالمنزلة عند الناس، أو بالغنى عند الناس، أو بالجاه، هذا هو أسبابه.

فلا ينبغي للعاقل أن يغترَّ بهذا، وإنما العبرة في هذه الأمور بتقوى الله، والقيام بحقِّه، وأداء حقّ العلم، والاجتهاد في الخير، وإن كان فقيرًا، وإن كان ليس له جاه معروف، وإن كان ليس شريفًا في الناس، هذا معنى قوله جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ومعنى قوله سبحانه: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37].

فينبغي للعاقل أن ينتبه لهذا، وألا يكون همُّه الشهرة، أو الوظيفة، أو أن يُسْمَع له عند ولاة الأمور، أو عند أعيان الناس، لا، ليكن همُّه قبل كل شيءٍ أن يُرضي ربَّه، وأن يتَّقيه سبحانه، وأن يستقيم على أمره، وأن يُحافظ على حدوده، وأن يتباعد عن مساخطه ومنهيَّاته، هذا هو الذي ينبغي أن يكون أكبر شيءٍ في نفسه، وأعظم شيءٍ في قلبه، وإذا رزقه الله بعد ذلك شيئًا آخر من جاهٍ أو سمعةٍ أو حسنةٍ أو منزلةٍ عند ولاة الأمور، أو عند أعيان الناس، فذاك خيرٌ إلى خيرٍ، ليس مما يطلبه هو، ولكن الله ساقه إليه بأسباب تقواه لله، أو بأسباب نفعه لعباد الله، أو بأسبابٍ أخرى ساق الله له ذلك من غير أن يقصده، من غير أن يطلب ذلك.

6448- حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ: عُدْنَا خَبَّابًا، فَقَالَ: "هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ نَمِرَةً، فَإِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الإِذْخِرِ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهْدِبُهَا".

الشيخ: ومصعب بن عمير قُتل، وهو من خيرة المهاجرين رضي الله عنه وأرضاه، ما خلَّف شيئًا من المال إلا نمرة -قطعة من الثياب- لم تُوفِ تغطيته كله، كانوا إذا غطّوا بها رأسَه بدت رجلاه، قصيرة، وإذا غطّوا بها رجليه بدا رأسه، فقال النبيُّ ﷺ: غطُّوا بها رأسَه يعني: وعورته، فجعلوها على عورته ورأسه، وجعلوا على رجليه الإذخر في القبر.

قال خبَّاب : "من الصحابة مَن مضى ولم يأخذ من أجره شيئًا"، ما قطف الدنيا، ولا حصل له من الدنيا ما حصل للمُتأخِّرين من الصحابة، مضى في سبيل الله مقتولًا أو ميتًا قبل أن ينال شيئًا من الدنيا، فتوفر أجره له عند الله سبحانه وتعالى: كمصعب بن عمير، وحمزة بن عبدالمطلب، وأشباههما ممن مات في المدينة في أيامه عليه الصلاة والسلام، أو في أيام الصديق وعمر ونحو ذلك، ومنهم مَن طالت حياته، وحصل له من المال والغنائم الشيء الكثير، ولهذا قال: "ومنا مَن أينعت له ثمرته، فهو يهدبها" يعني: يقطفها ويأخذ منها وينتفع بها جميعًا.

6449- حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: اطَّلَعْتُ فِي الجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ.

تَابَعَهُ أَيُّوبُ، وَعَوْفٌ، وَقَالَ صَخْرٌ وَحَمَّادُ بْنُ نَجِيحٍ: عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

الشيخ: وغير ذلك -والله أعلم- كما هو معلومٌ أن الفقراء تقلّ أسباب ميلهم عن ...... الحق، ووقوعهم في المحارم، ولهذا رأى أكثر أهل الجنة الفقراء؛ لأنهم ساروا على الطريق، ومضوا في سبيل الله، ولم يبتلوا بالدنيا وشهواتها، فسلموا وسبقوا إلى الجنة، أما الأغنياء فهم على أخطارٍ كثيرةٍ بسبب المال والقُدرة والسعة.

وأما النساء: فكذلك رآهنَّ أكثر أهل النار، وفي الرواية الأخرى: أن امرأةً قالت: يا رسول الله، ولم؟ قال: لأنَّكنَّ تُكثرن اللَّعن، وتكفرن العشير، يعني: لأنهن كثيرات السب والشتم والكلام السيئ؛ لأنهن قليلات الحفظ لألسنتهن بالسلامة، ولأنهن يكفرن العشير -وهو الزوج- يعني: في الغالب يكفرن إحسانه، ويكفرن معروفه عند أقل عثرةٍ منه، عند أقل نقصٍ منه، فإذا رأت منه شيئًا مما لا يُناسبها قالت: "ما رأيتُ منك خيرًا قط!"، نسيت المعروف الماضي الذي مضت عليه سنون، كله معروف، وكله خير، تنساه لزلةٍ حصلت، وهفوةٍ وقعت منه عليها، فتنسى كل ذلك المعروف الطويل، وهذا من ضعف اليقين، وضعف الدين، وقلة الصبر، فلهذا كنَّ أكثر أهل النار، ولهذا قال لهن: تصدقن، وأكثرن الاستغفار، فأمرهنَّ بالصدقة والإكثار من الاستغفار والتوبة؛ ليسلمن من شرِّ هذه الخصال الذميمة التي تُوجب دخولهنَّ في النار.

فدواء الذنوب، دواء السيئات: التوبة إلى الله، والاستغفار، وكثرة الصدقة والإحسان إلى المحاويج، فإن هذا مما يمحو الله به السيئات، ويرفع به الدرجات: دوام التوبة والاستغفار، مع الإحسان إلى عباد الله بالصدقة والمعروف والمواساة.

6450- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُالوَارِثِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "لَمْ يَأْكُلِ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى خِوَانٍ حَتَّى مَاتَ، وَمَا أَكَلَ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ".

الشيخ: أيش قال الشارحُ عليه؟

الطالب: قَوْلُهُ: (عَنْ أَنَسٍ) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ: عَنْ قَتَادَةَ: كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ. وَسَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (عَلَى خِوَانٍ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ، وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ.

قَوْلُهُ: (وَمَا أَكَلَ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ) قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: تَرْكُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَكْلَ عَلَى الْخِوَانِ وَأَكْلَ الْمُرَقَّقِ إِنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا اخْتِيَارًا لِطَيِّبَاتِ الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ، وَالْمَالُ إِنَّمَا يُرْغَبُ فِيهِ لِيُسْتَعَانَ بِهِ عَلَى الْآخِرَةِ، فَلَمْ يَحْتَجِ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْمَالِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ الْفَقْرِ عَلَى الْغِنَى، بَلْ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْقَنَاعَةِ وَالْكَفَافِ وَعَدَمِ التَّبَسُّط فِي ملاذ الدُّنْيَا، وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث ابن عُمَرَ: لَا يُصِيبُ عَبْدٌ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا إِلَّا نَقَصَ مِنْ دَرَجَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الله كَرِيمًا أخرجه ابن أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: وهذا يدل على حرصه على ما عند الله جلَّ وعلا وعليه الصلاة والسلام، وزهده في الدنيا، وعدم حرصه على تمتعه بها، والملاذ بها، ونحو ذلك، ولهذا يأكل ما تيسر؛ تارةً يأكل اللحم، وتارةً يأكل الفاكهة، وتارةً يأكل التمر، وتارةً ما تيسر من الطعام: كالشعير، فليس بمتكلِّف عليه الصلاة والسلام.

والخوان: ما يُجعل فوقه الطعام، يُرفع عليه الطعام، وهذا قد وقع في بعض الروايات أنه أكل عليه، لكنه قليل، وإنما المحفوظ عنه والأكثر على الأرض، تُوضع السّفرة على الأرض، ثم يُوضع عليها الطعام.

"القاموس" حاضر؟ انظر: الخوان.

س: .............؟

ج: مثلما جاء في هذا الحديث: التمتع بملذَّاتها ونعيمها، والله المستعان، والله أعلم، هذه رواية ابن أبي الدنيا، يقول المنذري: بسندٍ حسنٍ والله أعلم، قد يحتجّ له بقوله جلَّ وعلا: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف:20].

ويُروى عن عمر: أنه رأى جابرًا معه شيء من لحمٍ اشتراه للأهل، فقال: أوكلّما اشتهيتُم اشتريتُم؟! أما سمعتَ الله يقول لقومٍ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا؟

المقصود أنه ينبغي للإنسان أن يفعل بعض الشيء من جهة التَّقلل، ومن جهة الزهد في بعض الشيء؛ حتى يُعوّد نفسه القناعة، لا يكون دائمًا دائمًا على شراء الملذات والطيبات، بل بعض الأحيان يتقشَّف بعض الشيء، ويتخفف بعض الشيء؛ حتى لا تعتاد النفسُ الرغبة في هذه الأشياء التي تُعتبر من ملذَّاتها العاجلة، ومن مشاغلها العاجلة، ومن التَّكلف حتى يحتاج إلى أموالٍ كثيرةٍ ربما سببت له الوقوع في أكسابٍ ما هي طيبة، أو اقتراض قد يشقّ عليه دفعه، وأما إذا يسَّر الله فالأمر واسعٌ بحمد الله، مثلما قال جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، الأمر واسع، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، فإذا كان عن يسرٍ وعن عدم تكلُّفٍ فالحمد لله.

س: يُؤخذ منه كراهة الأكل على الخِوان؟

ج: ما هو ظاهر؛ لأنه ترك.

6451- حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "لَقَدْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ ﷺ وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَطْر شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ، حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ".

الشيخ: انظر كلامه على حديث عائشة الأخير؟

الطالب: يقول: والخون: الضعف، وفترة في النظر، ومنه: خائن العين، للأسد.

وخائنة الأعين: ما يُسارق من النظر إلى ما لا يحلّ، أو أن ينظر نظرةً بريبةٍ. وكغراب وكتاب: ما يُؤكل عليه الطعام.

الشيخ: فقط؟ ما هو كامل، ما يُؤكل عليه الطعام يشمل المرفوعَ والمبسوطَ، يشترك، تعريف قاصر، لكن أفادنا أنه يقال: خِوان وخُوان بالضم، لغتان.

س: هل يقصد بالخوان ما ارتفع؟

ج: الذي أفهمه أنه الشيء يكون رفيعًا، لكن المؤلف صاحب "القاموس" ما فصَّل ...... أن السفرة التي يُوضع عليها الطعام تُسمَّى: خوانًا، كالسفرة من أي نوعٍ يُقال لها: خوان، وقول الحاشي: "ما أكل على خوان" ما هو المراد هذا، توضع على السفرة، ويوضع عليها الطعام، هذا موجود في عهده ﷺ، لكن الأظهر -والله أعلم- هو ما كان معروفًا عند الأعاجم من وضع ..... المرتفعة، يجلسون على الكراسي، مثلما يفعل الآن الكثير من الناس، فيأكلون وهم جالسون على الكراسي وهي مرتفعة، هذا وقع في الناس لما خالطوا الأعاجم، وخالطوا الخارج، دخل عليهم هذا، نعم أيش قال عندك على .....؟

الطالب: قَوْلُهُ: (فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ -بِكَسْرِ الْكَافِ- فَفَنِيَ) أَي: فرغ، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: حَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْأَخْذِ مِنَ الْعَيْشِ بِالِاقْتِصَادِ وَمَا يَسُدُّ الْجَوْعَةَ.

قُلْتُ: إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ ﷺ كَانَ يُؤْثِرُ بِمَا عِنْدَهُ.

الشيخ: يعني: يُنفق ويدَّخر لأهله قوت سنةٍ عليه الصلاة والسلام، ولكن بسبب الضيوف الكثيرة والوفود يُعطي ما عنده، ويضع ...... فيمتد قبل كمال السنة، اللهم صلِّ عليه.

الطالب: فَقَدْ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَهُ مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ خَيْبَرَ وَغَيْرِهَا مِنْ تَمْرٍ وَغَيْرِهِ يَدَّخِرُ قُوتَ أَهْلِهِ سَنَةً، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ كَانَ مَعَ ذَلِك إِذا طَرَأَ عَلَيْهِ طارئٌ أَوْ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ يُشِيرُ عَلَى أَهْلِهِ بِإِيثَارِهِمْ، فَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى نَفَادِ مَا عِنْدَهُمْ أَوْ مُعْظَمِهِ.

وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ، وَلَوْ شِئْنَا لَشَبِعْنَا، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ".

وَأَمَّا قَوْلُهَا: "فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ" قَالَ ابن بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّ الطَّعَامَ الْمَكِيلَ يَكُونُ فَنَاؤُهُ مَعْلُومًا لِلْعِلْمِ بِكَيْلِهِ، وَأَنَّ الطَّعَامَ غَيْرَ الْمَكِيلِ فِيهِ الْبَرَكَةُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ مِقْدَارُهُ.

قُلْتُ: فِي تَعْمِيمِ كُلِّ الطَّعَامِ بِذَلِكَ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ لِعَائِشَةَ بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي أَذْكُرُهُ آخِرَ الْبَابِ، وَوَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مِزْوَدِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "الدَّلَائِلِ" مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِتَمَرَاتٍ فَقُلْتُ: ادْعُ لِي فِيهِنَّ بِالْبَرَكَةِ، قَالَ: فَقَبَضَ، ثُمَّ دَعَا، ثُمَّ قَالَ: خُذْهُنَّ فَاجْعَلْهُنَّ فِي مِزْوَدٍ، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُنَّ فَأَدْخِلْ يَدَكَ فَخُذْ، وَلَا تَنْثُرْ بِهِنَّ نَثْرًا، فَحَمَلْتُ مِنْ ذَلِكَ كَذَا وَكَذَا وَسْقًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُنَّا نَأْكُلُ وَنُطْعِمُ، وَكَانَ الْمِزْوَدُ مُعَلَّقًا بِحَقْوِي لَا يُفَارِقُهُ، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ انْقَطَعَ.

وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُطَوَّلًا، وَفِيهِ: فَأَدْخِلْ يدَك فَخُذْ، وَلَا تكفئ فَيُكْفَأَ عَلَيْكَ.

وَمِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ.

وَنَحْوهُ مَا وَقَعَ فِي عُكَّةِ الْمَرْأَةِ: وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ أُمَّ مَالِكٍ كَانَتْ تُهْدِي لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي عُكَّةٍ لَهَا سَمْنًا، فَيَأْتِيهَا بَنُوهَا فَيَسْأَلُونَ الْأُدْمَ، فَتَعْمَدُ إِلَى الْعُكَّةِ فَتَجِدُ فِيهَا سَمْنًا، فَمَا زَالَ يُقِيمُ لَهَا أُدْمَ بَيْتِهَا حَتَّى عَصَرَتْهُ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: لَوْ تَرَكْتِهَا مَا زَالَ قَائِمًا.

وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا النَّهْي مَعَ الْأَمْرِ بِكَيْلِ الطَّعَامِ وَتَرْتِيبِ الْبَرَكَةِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ حَدِيث الْمِقْدَام بن معدي كرب بِلَفْظِ: كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكَيْلَ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ مَطْلُوبٌ، مِنْ أَجْلِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَلِهَذَا الْقَصْدِ يُنْدَبُ، وَأَمَّا الْكَيْلُ عِنْدَ الْإِنْفَاقِ فَقَدْ يَبْعَثُ عَلَيْهِ الشُّحُّ، فَلِذَلِكَ كُرِهَ.

الشيخ: وهذا هو الأقرب، عند الأكل يأكل ما يتيسر، ولا يحتاج لأكل حاجته من غير حاجةٍ إلى أن يعرف الباقي، وهذا من أسباب البركة، وأما الكيل: فهذا إذا اشترى منه كيلًا يكيل حتى يعرف أنه استوفى حقَّه بالشراء، وذلك كالفتة، أو السمن ونحوها، ويأكل مما تيسر، ولا حاجة إلى أن يعصرها كلها، بل يأخذ ما تيسر لإدامه، ويدعو الله بالبركة، ويُسمِّي الله، هذا من أسباب البركة، أما كونه يعصرها حتى لا يُبقي شيئًا فهذا من أسباب قلَّة البركة.

س: ............؟

ج: ليس قائمًا، بل قاعد، أكل على خوان وليس بقائمٍ، ولكن قاعد، ولكن القائم جائز أيضًا، الشرب قائمًا والأكل قائمًا جائز، ولكن الجلوس أفضل ..........

الطالب: وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَعْقِلِ بْنِ عُبَيْدِاللَّهِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ يَسْتَطْعِمُهُ، فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقِ شَعِيرٍ، فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ وَضَيْفُهُمَا حَتَّى كَالَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ وَلَقَامَ لَكُمْ.

الشيخ: وهذا يُوافق حديث عائشة.

الطالب: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: سَبَبُ رَفْعِ النَّمَاءِ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَصْرِ وَالْكَيْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: الِالْتِفَاتُ بِعَيْنِ الْحِرْصِ، مَعَ مُعَايَنَةِ إِدْرَارِ نِعَمِ اللَّهِ، وَمَوَاهِبِ كَرَامَاتِهِ، وَكَثْرَةِ بَرَكَاتِهِ، وَالْغَفْلَةُ عَنِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا، وَالثِّقَةُ بِالَّذِي وَهَبَهَا، وَالْمَيْلُ إِلَى الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ خَرْقِ الْعَادَةِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ رُزِقَ شَيْئًا، أَوْ أُكْرِمَ بِكَرَامَةٍ، أَوْ لُطِفَ بِهِ فِي أَمْرٍ مَا؛ فَالْمُتَعَيّنُ عَلَيْهِ مُوَالَاةُ الشُّكْرِ، وَرُؤْيَةُ الْمِنَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُحْدِثُ فِي تِلْكَ الْحَالة تغييرًا، وَالله أعْلَم.

الشيخ: هكذا ينبغي، مَن رُزق فضلًا من الله فليشكر الله وليستقم.

بَاب كَيْفَ كَانَ عَيْشُ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ، وَتَخَلِّيهِمْ مِنَ الدُّنْيَا

6452- حَدَّثَنِي أَبُو نُعَيْمٍ -بِنَحْوٍ مِنْ نِصْفِ هَذَا الحَدِيثِ- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ: أَللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو القَاسِمِ ﷺ، فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي، وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْحَقْ، وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ، فَدَخَلَ، فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلَ، فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟ قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ فُلانٌ أَوْ فُلانَةُ، قَالَ: أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي.

قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلامِ، لا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ، وَلا مَالٍ، وَلا عَلَى أَحَدٍ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا، فَسَاءَنِي ذَلِكَ، فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ؟! كُنْتُ أَحَقَّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا، فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي، فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ ﷺ بُدٌّ.

فَأَتَيْتُهُمْ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا، فَاسْتَأْذَنُوا، فَأَذِنَ لَهُمْ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ البَيْتِ، قَالَ: يَا أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: خُذْ فَأَعْطِهِمْ، قَالَ: فَأَخَذْتُ القَدَحَ، فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَقَدْ رَوِيَ القَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ القَدَحَ، فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ، فَقَالَ: أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ، قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: اقْعُدْ فَاشْرَبْ، فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ، فَقَالَ: اشْرَبْ، فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: اشْرَبْ حَتَّى قُلْتُ: لا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا، قَالَ: فَأَرِنِي، فَأَعْطَيْتُهُ القَدَحَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الفَضْلَةَ.

الشيخ: هذه من آيات الله العظيمة، ومن بركته العظيمة ، قدح يُحمل على اليد سقى هؤلاء القوم كلهم وأرواهم، ثم شرب أبو هريرة وهو محتاجٌ جائعٌ شديد الجوع حتى روي، ثم بقيت فضلةٌ فأخذها عليه الصلاة والسلام.

وفيه تواضعه العظيم، التواضع جعل نفسه الأخير عليه الصلاة والسلام، في روايةٍ: "كانوا سبعين من أهل الصفة"، أمة عظيمة!

وفيه دلالة على أنه كانت عنده ﷺ حُجَر واسعة للضيافة، إذا جاء مثل هؤلاء جلسوا فيها حتى يطعموا.

وفي هذا من الفوائد: أن ساقي القوم يكون هو الآخر، والمضيف يكون هو الآخر، إذا كان الشيء فيه قلَّة فيبدأ بالضيوف، إذا كان الشيء قليلًا يبدأ بالضيوف، إما أن يكون الساقي هو الآخر، وصاحب البيت هو الآخر، وأما إذا كان الشيء كثيرًا فإنَّ المضيف يُشاركهم ويجلس معهم، كما كان النبيُّ يأكل مع أضيافه تارةً، وتارةً يُقدّم الأضياف، كما في قصة جابرٍ يوم الأحزاب، وقصة أخرى كان يملأ ...... فيُطعمهم عشرة عشرة حتى خلصوا، ثم أكل عليه الصلاة والسلام، كانوا ثمانين، في رواية: كانوا ثلاثمئة.

فالمقصود أن السنة دلَّت على أن الأضياف إذا كان الشيء قليلًا بدأ بالأضياف، وكان ساقي الشراب آخرهم، وإن كان الشيء كثيرًا شاركهم المضيف، وتحدَّث معهم، كفعله عليه الصلاة والسلام تارةً وتارةً.

وفيه معجزة خارقة للعادة، ومعجزة لهذا النبي العظيم عليه الصلاة والسلام: فإن قدحًا قليلًا يكفي أمةً كثيرةً ويشربون، كلما شربوا زاد القدح، كلما شربوا زاد اللبن، حتى يكملهم من جنس الطعام الذي كلما أكلوا رَبَا.

وأما كون الصديق أعرض، وكون عمر أعرض، فلعلهما لم يفطنا لجوعه، أو لعلهما ما كان عندهما شيء في البيت، فلهذا أعرضا عنه، وكانا أحرص الناس على الخير بعد النبي عليه الصلاة والسلام، فالصديق وعمر هما أفضل الصحابة، فإعراضهما عن أبي هريرة إما لأنهما لم يفطنا لحاجته، وكانا مشغولين ولم يفطنا لحاجته وجوعه، أو أنهما كانا يعلمان أنه ما في البيت شيء حتى يدعواه إليه.

س: فحمد الله وسمَّى، هل الحمد قبل التَّسمية على الطعام أو من باب البركة؟

ج: الحمد مطلوبٌ دائمًا، والمشروع أن يُسمِّي الله، والحمد لله تسمية، نوع تسمية، لكن المشروع التسمية عند الأكل، والحمد عند الفراغ، فإذا جمع بينهما: سمَّى الله وحمد الله عند الأكل، وحمد الله بعد الأكل؛ فهذا خيرٌ إلى خيرٍ.

6453- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا قَيْسٌ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدًا يَقُولُ: "إِنِّي لَأَوَّلُ العَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَأَيْتُنَا نَغْزُو وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الحُبْلَةِ، وَهَذَا السَّمُرُ".

الشيخ: الحبلة كذلك عندك ساكن؟ أيش قال المحشِّي؟

الطالب: قَوْلُهُ: "وَرَقُ الْحُبُلَةِ" بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ، وَبِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْضًا، وَوَقَعَ فِي مَنَاقِبِ سَعْدٍ بِالتَّرَدُّدِ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ.

الشيخ: العيني ضبطها؟

الطالب: قال: بضمِّ الحاء المهملة، وسكون الباء الموحدة، وقيل: بفتحها أيضًا، وهي ثمر .....

الشيخ: هذه زيادة على الحُبَلة ......... انظر "القاموس"، انظر: الحبلة.

الطالب: "وَرَأَيْتُنَا نَغْزُو وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الحُبْلَةِ، وَهَذَا السَّمُرُ، وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ، مَا لَهُ خِلْطٌ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الإِسْلامِ، خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْيِي".

الشيخ: اللهم ارضَ عنهم.

6454- حَدَّثَنِي عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ ﷺ مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ".

الشيخ: وهذا من باب الإيثار، فقد يكون عنده المال الكثير، ولكن يُؤثر عليه الصلاة والسلام ويتصدق ويُحسن، وقد يدع ذلك من باب التَّقشف وقمع النفس وجهادها؛ حتى تعتاد الخشونة، وتعتاد اللين تارةً مع البرِّ، وتارةً مع الشعير، وتارةً مع التمر، وتارةً لا يجدون إلا التمر، وتارةً لا يجدون شيئًا.

6455- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ.

الشيخ: تكلَّم عليه؟

الطالب: قَوْلُهُ: (إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ) هُوَ الْبَغَوِيُّ، وَهِلَالٌ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ هُوَ الْوزّان، وَهُوَ ابن حُمَيْدٍ.

الشيخ: فقط؟

الطالب: عندنا قوله: (وإسحاق بن إبراهيم بن عبدالرحمن) أبو يعقوب البغوي، لقبه: لؤلؤ، سكن بغداد ......

الشيخ: انظر "التقريب".

الطالب: إسحاق بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن منيع البغوي، أبو يعقوب، لقبه: لؤلؤ، وقيل: يؤيؤ –بتحتانيتين- ثقة، من العاشرة، مات سنة تسع وخمسين (خ).

الشيخ: كأنه مقلّ، ولهذا زاد، أتى بجدِّه حتى لا يشتبه بابن راهويه رحمه الله.

6455- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ -هُوَ الأَزْرَقُ- عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ هِلالٍ الوَزَّانِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ ﷺ أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ إِلَّا إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ".

6456- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ رَجَاءٍ.

الشيخ: ابن رجاء وإلا ابن أبي رجاء؟ تكلَّم عليه؟

الطالب: الهروي.

الشيخ: فقط؟ والحافظ، انظر أحمد بن رجاء.

س: قولها: "ما أكل آل محمدٍ ﷺ أكلتين في يومٍ إلا إحداهما تمر"؟

ج: الغالب أنه من القلَّة، الغالب أنَّ هذا من القلَّة.

الطالب: هناك اثنان يا شيخ: أحمد ابن أبي رجاء الهروي، هو ابن عبدالله بن أيوب، فقط، روى له البُخاري.

الشيخ: والثاني؟

الطالب: الثاني روى له النَّسائي، أحمد ابن أبي رجاء المُقرئ، هو ابن نصرٍ.

الشيخ: سمّهم.

الطالب: اثنان فقط: الأول: أحمد ابن أبي رجاء المُقرئ، هو ابن نصر، هذا روى له النسائي، والآخر: أحمد ابن أبي رجاء الهروي، هو ابن عبدالله بن أيوب.

الشيخ: راجع أحمد بن عبدالله، الذي نعرف ابن أبي رجاء سقط، ما عندكم: (أبي).

الطالب: هذا هو يا شيخ، أحمد بن عبدالله بن أيوب، أبو الوليد ابن أبي رجاء، الهروي، ثقة، من العاشرة، مات سنة اثنتين وثلاثين (خ).

الشيخ: الصواب يكون: ابن أبي رجاء، علّق عليه، سقط من بعض النُّساخ.

6456- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ ابْنُ أبي رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ أَدَمٍ، وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ".

6457- حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، وَقَالَ: "كُلُوا، فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَلا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ".

6458- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ مَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا، إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالمَاءُ، إِلَّا أَنْ نُؤْتَى بِاللُّحَيْمِ".

الشيخ: وهذا مختصر، وفي الرواية الأخرى: "لقد هلَّ هلالٌ، ثم هلالٌ، ثم هلالٌ ما أوقد في أبيات النبي نار"، فقال لها عروة: ما كان يعيشكم؟ قالت: "الأسودان: التمر والماء"، الله المستعان.

6459- حَدَّثَنَا عَبْدُالعَزِيزِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ الأُوَيْسِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: "ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الهِلالِ ثَلاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَارٌ"، فَقُلْتُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتِ: "الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنْ أَبْيَاتِهِمْ فَيَسْقِينَاهُ".

الشيخ: ضبط "يُعيشكم" وإلا "يَعيشكم"؟ يتعدَّى بالألف، ويتعدَّى بنفسه: عاشه، يعيشه، وأعاشه؟

الطالب: قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، يُقَالُ: أَعَاشَهُ اللَّهُ، أَيْ: أَعْطَاهُ الْعَيْشَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، نَحْوَهُ، وَفِيهِ: قُلْتُ: فَمَا كَانَ طَعَامُكُمْ؟ قَالَتِ: الْأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالُوا: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانُوا يَعِيشُونَ؟ نَحْوَهُ.

وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى ثَانِي الْحَالِ بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ قُرَيْظَةُ وَغَيْرُهَا.

وَمِنْ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8] قُلْتُ: وَأَيُّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ الْأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ؟! قَالَ: إِنَّهُ سَيَكُونُ.

قَالَ الصَّغَانِيُّ: الْأَسْوَدَانِ يُطْلَقُ عَلَى التَّمْرِ وَالْمَاءِ، وَالسَّوَادُ لِلتَّمْرِ دُونَ الْمَاءِ، فَنُعِتَا بِنَعْتٍ وَاحِدٍ تَغْلِيبًا، وَإِذَا اقْتَرَنَ الشَّيْئَانِ سُمِّيَا بِاسْمِ أَشْهَرِهِمَا.

الشيخ: مثل: القمران، وهو اسم القمر تغليبًا، والعُمران، وأشباه ذلك.

الطالب: وَعَنْ أَبِي زَيْدٍ: الْمَاءُ يُسَمَّى الْأَسْوَدَ، وَاسْتَشْهَدَ لِذَلِكَ بِشِعْرٍ.

الشيخ: يكفي، يكفي، والعيني أيش قال؟

الطالب: قَوْله: (يُعَيِّشُكم) بِضَمِّ الْيَاء، وَفتح الْعين، وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف الْمَكْسُورَة، وبالشين الْمُعْجَمَة، أَي المضمومة، ويُروى: "يُعِيشكم" بِضَم الْيَاء، وكسر العين، وَسُكُون الْيَاء، من أعاشه الله، أَي: أعطَاهُ الْعَيْش.

الشيخ: فقط؟

الطالب: نعم.

الطالب: "القاموس" يقول: والحبلة بالضم: الكرم، أو أصل من أصوله، ويُحرَّك، وثمر السلم والسيال والسمر، أو ثمر العضاة عامَّة.

الشيخ: حبلة كذا بالضم والسُّكون؟

الطالب: بالضم الكرم، أو أصلٌ من أصوله، ويُحرَّك.

الشيخ: حبلة مثلما قال، انظر: عاش يعيش، باب الشين، فصل العين.

س: بالنسبة لفعل النبي ﷺ من جهة فراشه ومأكله، هل يُقال أنها من السنة لو فعلها الإنسانُ أحيانًا؟

ج: هذا من التواضع، لا شكَّ من التواضع وكسر النفس، إذا فعل الإنسانُ بعض الأشياء التي تُنافي الرفاهية بعض الأحيان لكسر النفس وتعويدها النشاط وتعويدها الخشونة نعم ........ وسع الله عليه وسعوا، مثلما قال عمر: "إذا وسَّع الله عليكم فوسِّعوا"، النبي ﷺ إذا صادف شيئًا يسَّره الله له، في زواجه من زينب وضع لحمًا كثيرًا، وطعامًا كثيرًا، ودعا العامَّة عليه الصلاة والسلام.

6460- حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا.

الشيخ: انظر كلامه على الأخير هذا: اللهم ارزقْ آل محمدٍ، وفي الرواية الأخرى: اللهم اجعل رزق ..، نعم.

الطالب: [6460] قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ فُضَيْل بن غَزوَان، وَعمارَة هُوَ ابن الْقَعْقَاع، وَأَبُو زُرْعَة هُوَ ابن عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ.

قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا هَكَذَا وَقَعَ هُنَا، وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وابن مَاجَهْ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، فَإِنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ دُعَاءً بِطَلَبِ الْقُوتِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَنْ يَكُونَ طَلَبَ لَهُمُ الْقُوتَ، بِخِلَافِ اللَّفْظِ الثَّانِي؛ فَإِنَّهُ يُعَيِّنُ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ، وَهُوَ الدَّالُّ عَلَى الْكَفَافِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وعَلى ذَلِك شَرحه ابن بَطَّالٍ فَقَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الْكَفَافِ، وَأَخْذِ الْبُلْغَةِ مِنَ الدُّنْيَا، وَالزُّهْدِ فِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ؛ رَغْبَةً فِي تَوَفُّرِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَإِيثَارًا لِمَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، فَيَنْبَغِي أَنْ تَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّتُهُ فِي ذَلِكَ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ طَلَبَ الْكَفَافَ، فَإِنَّ الْقُوتَ مَا يَقُوتُ الْبَدَنَ، وَيَكُفُّ عَنِ الْحَاجَةِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ سَلَامَةٌ مِنْ آفَاتِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ جَمِيعًا، وَالله أعْلَم.

الشيخ: ومن هذا ما روى مسلمٌ في "الصحيح" حيث قال عليه الصلاة والسلام: قد أفلح مَن أسلم ورُزِقَ كفافًا وقنَّعه الله بما آتاه الكفاف يعني القوت.

وفي اللفظ الآخر: طوبى لمن أسلم ورُزق كفافًا وقنع، انظر كلامه على أول ما قرأتَ، أول حديث؟

الطالب: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ بِنَحْوٍ مِنْ نِصْفِ هَذَا الْحَدِيثِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، يَعْنِي غَيْرَ مَوْصُولٍ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الْمَذْكُورَ مُبْهَمٌ، لَا يُدْرَى أَهُوَ الْأَوَّلُ أَوِ الثَّانِي؟

قُلْتُ: يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَدْرُ النِّصْفِ الَّذِي حَدَّثَهُ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ مُلَفَّقًا مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَالَّذِي يَتَبَادَرُ مِنَ الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ النِّصْفُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ جَزَمَ مُغْلَطَايْ وَبَعْضُ شُيُوخِنَا أَنَّ الْقَدْرَ الْمَسْمُوعَ لَهُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي بَابِ "إِذَا دُعِيَ الرَّجُلُ فَجَاءَ هَلْ يَسْتَأْذِنُ" مِنْ كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ، حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدثنَا عمر بن ذر. وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُاللَّهِ -هُوَ ابن الْمُبَارَكِ- أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، أَنْبَأَنَا مُجَاهِدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قدح، فَقَالَ: أبا هِرٍّ، الْحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ إِلَيَّ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا، فَاسْتَأْذَنُوا، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا.

قَالَ مُغْلَطَايْ: فَهَذَا هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي سَمِعَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَبِي نُعَيْمٍ.

وَاعْتَرَضَهُ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا ثلث الحَدِيث، ولا ربعه، فَضْلًا عَنْ نِصْفِهِ.

قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ هَذَا السِّيَاقُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ لَفْظَ أَبِي نُعَيْمٍ.

ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مُنْتَزَعٌ مِنْ أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ الْقِصَّةُ الْأُولَى الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَا مَا فِي آخِرِهِ مِنْ حُصُولِ الْبَرَكَةِ فِي اللَّبَنِ إِلَخْ، نَعَمْ، الْمُحَرر قَول شَيخنَا فِي "النُّكت" على ابن الصَّلَاحِ.

الشيخ: يعني: العراقي، عبدالرحيم العراقي، أبو الحسين، هو شيخه.

الطالب: مَا نَصُّهُ: الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ فِي الِاسْتِئْذَانِ بَعْضُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الرِّقَاقِ.

قُلْتُ: فَهُوَ مِمَّا حَدَّثَهُ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِهِ أَمْ بِمَعْنَاهُ.

وَأَمَّا بَاقِيهِ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ فَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: إِنَّهُ يَصِيرُ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، فَيَعُودُ الْمَحْذُورُ.

كَذَا قَالَ، وَكَأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَّصِلًا؛ لِعَدَمِ تَصْرِيحِهِ بِأَنَّ أَبَا نُعَيْمٍ حَدَّثَهُ بِهِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَحْذُورٌ، بَلْ يَحْتَمِلُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَ بِهِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ بِطَرِيقِ الْوِجَادَةِ، أَوِ الْإِجَازَةِ، أَوْ حَمَلَهُ عَنْ شَيْخٍ آخَرَ غَيْرِ أَبِي نُعَيْمٍ.

قُلْتُ: أَوْ سَمِعَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ مِنْ شَيْخٍ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي نُعَيْمٍ، وَلِهَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ أَوْرَدْتُهُ فِي "تَغلِيقِ التَّعْلِيقِ".

الشيخ: المعنى: يعني أنه حدَّث به ...... نحو النصف، والباقي قد يكون تبعه من طريقٍ أخرى، أو من طريق الوجادة أو الإذن، لا من طريق التَّحديث، فهذا يُقال لها ......، فكلام العراقي هذا طيب؛ لأن المؤلف البخاري جزم به ولم يتردد فيه رحمه الله .......

الطالب: نَعَمْ، الْمُحَرر قَول شَيخنَا فِي "النكت" على ابن الصَّلَاحِ مَا نَصُّهُ: الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ فِي الِاسْتِئْذَانِ بَعْضُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الرِّقَاقِ.

قُلْتُ: فَهُوَ مِمَّا حَدَّثَهُ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِهِ أَمْ بِمَعْنَاهُ، وَأَمَّا بَاقِيهِ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ فَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: إِنَّهُ يَصِيرُ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، فَيَعُودُ الْمَحْذُورُ. كَذَا قَالَ، وَكَأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَّصِلًا؛ لِعَدَمِ تَصْرِيحِهِ بِأَنَّ أَبَا نُعَيْمٍ حَدَّثَهُ بِهِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَحْذُورٌ، بَلْ يَحْتَمِلُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَ بِهِ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ بِطَرِيقِ الْوِجَادَةِ، أَوِ الْإِجَازَةِ، أَوْ حَمَلَهُ عَنْ شَيْخٍ آخَرَ غَيْرِ أَبِي نُعَيْمٍ.

قُلْتُ: أَوْ سَمِعَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ مِنْ شَيْخٍ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي نُعَيْمٍ، وَلِهَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ أَوْرَدْتُهُ فِي "تَغلِيقِ التَّعْلِيقِ"، فَأَخْرَجْتُهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ تَامًّا، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي "الْمُسْتَخْرَجِ"، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "الدَّلَائِلِ"، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي "السُّنَنِ الْكُبْرَى" عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى الصُّوفِيِّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ بِتَمَامِهِ، وَاجْتَمَعَ لِي مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ -شَيْخِ أَبِي نُعَيْمٍ- أَيْضًا جَمَاعَةٌ: مِنْهُمْ رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ، وَعَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، وَمِنْ طَرِيقه أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيُّ وابن حِبَّانَ فِي "صَحِيحِهِ"، وَيُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، وَمِنْ طَرِيقِهِ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" وَالْبَيْهَقِيُّ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَاتِهِمْ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ.

ثُمَّ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ مُجِيبًا عَنِ الْمَحْذُورِ الَّذِي ادَّعَاهُ مَا نَصُّهُ: اعْتَمَدَ الْبُخَارِيُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْأَطْعِمَةِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عِيسَى، فَإِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ نِصْفِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالنِّصْفِ هُنَا مَا لَمْ يَذْكُرْهُ ثَمَّةَ، فَيَصِيرُ الْكُلُّ مُسْنَدًا: بَعْضُهُ عَنْ يُوسُفَ، وَبَعْضُهُ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ.

قُلْتُ: سَنَدُ طَرِيقِ يُوسُفَ مُغَايِرٌ لِطَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَيَعُودُ الْمَحْذُورُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُصُوصِ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَصَابَنِي جهدٌ، فَذكر سُؤَاله عمر عَنِ الْآيَةِ، وَذَكَرَ مُرُورَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِهِ، وَفِيهِ: فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَحْلِهِ، فَأَمَرَ لِي بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: عُدْ، فَذَكَرَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ، وَلَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَرَكَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي اللَّبَنِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ مَا دَارَ بَيْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعُمَرَ، وَنَدَمَ عُمَرَ عَلَى كَوْنِهِ مَا اسْتَتْبَعَهُ، فَظَهَرَ بِذَلِكَ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فِي السَّنَدَيْنِ، وَأَمَّا الْمَتْنُ فَفِي أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ مَا لَيْسَ فِي الْآخَرِ، لَكِنْ لَيْسَ فِي طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ مِنَ الزِّيَادَةِ كَبِيرُ أَمْرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: يكفي، تأمل: هو ذكر السبعين عدد أهل الصفة، والعيني ما في رواية عدد السبعين؟ أقول: لعله في الزيادات التي ذكرها، الطرق التي ذكرها يكون فيها بعض الزيادات فيما بينها.

الطالب: "القاموس" يا شيخ يقول: العيش: الحياة، عاش يعيش عيشًا ومعاشًا ومعيشًا ومعيشةً وعيشةً بالكسر، وعيشوشة، وأعاشه وعيَّشه، والطعام وما يُعاش به والخبز.

الشيخ: ما ذكر المتعدِّي بنفسه ...؟

الطالب: قال هنا أحسن الله إليك: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ.. الْحَدِيثَ.

وذكر في "الحلية" أنَّ عدَّتهم تقرب من المئة، وقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: كَانَ عَدَدُ أَهْلِ الصُّفَّةِ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْحَالِ، فَرُبَّمَا اجْتَمَعُوا فَكَثُرُوا، وَرُبَّمَا تَفَرَّقُوا إِمَّا لِغَزْوٍ، أَوْ سَفَرٍ، أَوِ اسْتِفْتَاءٍ فَقَلُّوا، وقيل: هنا كانوا أكثر من سبعين. انتهى.

الشيخ: نعم.

س: ............؟

ج: يعني ......... أنه ما يُحسن صلاته.

س: ............؟

ج: تارةً وتارةً، تارة يجتمع المال، مثلما حصل بعدما أجلى بني النَّضير حصل له مالٌ كثيرٌ، فكان يعزل نفقته لسنةٍ، والباقي يجعله في الكراع والسلاح عدّة في سبيل الله، وربما كثر عليه الضيوف والوفود فأعطاهم؛ فقلَّ ما عنده عليه الصلاة والسلام.

الطالب: قَوْلُهُ: (فَأَقْبَلُوا، فَاسْتَأْذَنُوا، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ) أَيْ فَقَعَدَ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى عَدَدِهِمْ إِذْ ذَاكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ. الْحَدِيثَ. وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ أَنَّ أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ السُّلَميَّ وَأَبَا سَعِيدِ ابْنَ الْأَعْرَابِيِّ وَالْحَاكِمَ اعْتَنوا بِجَمْعِ أَسْمَائِهِمْ، فَذَكَرَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرِ الْآخَرُ، وَجَمَعَ الْجَمِيعَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي "الْحِلْيَةِ"، وَعِدَّتُهُمْ تَقْرُبُ مِنَ الْمِئَةِ، لَكِنَّ الْكَثِيرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ، وَقَدْ بَيَّنَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَقَدْ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: كَانَ عَدَدُ أَهْلِ الصُّفَّةِ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْحَالِ، فَرُبَّمَا اجْتَمَعُوا فَكَثُرُوا، وَرُبَّمَا تَفَرَّقُوا: إِمَّا لِغَزْوٍ، أَوْ سَفَرٍ، أَوِ اسْتِفْتَاءٍ فَقَلُّوا.

الشيخ: استغناء، استغنوا وخرجوا، هذا واقعٌ؛ لأنَّ الصفة هم الفقراء الذين يجتمعون عنده ﷺ في المسجد، فقد يموت بعضُهم، وقد يستغني، يتزوج، ينتقل، يروح في الغزو، في السرايا، فيكثرون ويقلّون، هذا أمرٌ معقولٌ.

الطالب: وَوَقَعَ فِي "عَوَارِفِ السّهْرَوَرْدِيِّ" أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَمِئَةٍ.

الشيخ: الله أعلم، على كل حالٍ، الجواب السديد أنهم يقلُّون ويكثرون، وصادف ذاك الوقت أنهم سبعون.

بَاب القَصْدِ وَالمُدَاوَمَةِ عَلَى العَمَلِ

6461- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَشْعَثَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ مَسْرُوقًا قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَيُّ العَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ؟ قَالَتْ: "الدَّائِمُ"، قَالَ: قُلْتُ: فَأَيَّ حِينٍ كَانَ يَقُومُ؟ قَالَتْ: "كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ".

6462- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "كَانَ أَحَبُّ العَمَلِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ".

6463- حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا.

الشيخ: المقصود من هذا أنَّ العمل الدائم والمستمرَّ أحبّ إلى الله من العمل المنقطع وإن كثر؛ ولهذا جاء في اللفظ الآخر: إنَّ أحبَّ العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قلَّ، فقولها رضي الله عنها: أنه كان يقوم إذا سمع الصارخ، يعني: الديك، والديكة لها ترديد في أذانها في الليل، وكان لها عادة في آخر الليل، فكان النبي ﷺ استقرَّ قيامه في آخر حياته في آخر الليل، كان ربما أوتر في أول الليل، وربما أوتر في آخره، قالت عائشة: واستقرَّ وتره في الثلث الأخير عليه الصلاة والسلام، وهذا أفضل ما يكون؛ أن يكون القيام آخر الليل.

ولهذا روى مسلم في "الصحيح" عن جابرٍ ، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: مَن خاف ألا يقوم من آخر الليل فليُوتر أوله، ومَن طمع أن يقوم آخر الليل فليُوتر آخر الليل؛ فإنَّ صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل، ومن ذلك أنه يُوافق النزول الإلهي في آخر الليل، الله يقول فيه: هل من تائبٍ فيُتاب عليه؟ هل من سائلٍ فيُعطى سؤله؟ هل من مُستغفرٍ فيُغفر له؟، فيُصادف هذا الوقت العظيم الذي هو وقت التنزل؛ لذا جاءت به الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول: ينزل ربُّنا إلى السماء الدنيا كل ليلةٍ حين يبقى ثلثُ الليل الآخر فيقول: مَن يدعوني فأستجيب له؟ مَن يسألني فأُعطيه؟ مَن يستغفرني فأغفر له؟.

هذا الوقت العظيم جديرٌ بأن يُعتنى به، فأحبُّ العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قلَّ، كونه داوم على ركعةٍ في آخر الليل، ثلاث ركعات، خمس ركعات، سبع ركعات، هذا أحبّ العمل إلى الله، أما كونه تارة واحدة، وتارة ثلاث، وتارة خمس، وتارة ما يُوتر، لا، هذا مفضول ..... يُداوم ويلزم، فإذا زاد بعض الأحيان فلا بأس، لكن يُداوم، لا ينقطع عن العمل، يكون دائمًا، وتره دائمًا كل ليلةٍ، إلا أن يغلبه نومٌ أو يغلبه مرضٌ.

وفي هذا قوله ﷺ: سدِّدوا وقاربوا، واغدوا ورحوا، وشيء من الدُّلجة، والقصد القصد تبلغوا، معنى هذا أنَّ الإنسان ينتهز أوقات النشاط، يُلاحظ أوقات النشاط في جميع أحواله، فالغدوة والروحة محل النشاط، كذلك كونه يُسدد ويُقارب، ما يهلك نفسه ويُبالغ حتى يتعب نفسه وينقطع، يكون وسطًا في أعماله حتى لا ينقطع، فالمُنْبَتَّ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى، فينبغي له أن يُلاحظ نشاطه وقوته، فيستفيد منها، ولكن لا يكون هناك إجهادٌ وشدةٌ، وربما انقطع بعد ذلك.

والقصد القصد تبلغوا القصد هو الوسط؛ لأنَّ القصد يبلغ، والإجهاد والزيادة والتَّكلف قد ينقطع صاحبه، ولا يصبر، ولكن إذا لاحظ التوسط في الأمور: في صيامه، وقيامه، وأعماله، وقراءته، وجميع شؤونه، لاحظ في هذا الوسط الذي يستطيعه، والذي يحصل به المطلوب من غير مشقةٍ، كان هذا أحبّ إلى الله .

والتَّنزل الإلهي يليق بالله -كما تقدَّم غير مرةٍ- مثل بقية الصِّفات، فشأنها واحد، أهل السنة والجماعة وهم أصحاب النبي ﷺ وأتباعهم بإحسانٍ طريقتهم واحدة في الصِّفات، وهي إمرارها كما جاءت، والإيمان بها، واعتقاد أنها حقٌّ، وأنها صفة موجودة قائمة بالله سبحانه وتعالى، لائقة به، لا يُشابه فيها خلقه ، وهكذا سخطه، ورضاه، وكراهته، ومحبَّته، وغير ذلك من سائر الصفات، وهكذا الاستواء، وهكذا السمع، والبصر، والوجه، وغير ذلك، كلها بابها واحد، أهل السنة والجماعة أجمعوا على إمرارها كما جاءت مع الإيمان بها، وأنها حقٌّ، وأنها صفات لائقة بالله ، ثابتة له سبحانه، لكن على وجهٍ لا يُشابه فيه خلقه سبحانه وتعالى، كما قال : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، فلا يُعطِّلون كما تقول المعتزلة والجهمية وأشباههما، ولا يُمَثِّلون كما تقول المشبّهة، ولكن وسط بين ذلك، أهل السنة وسطٌ بين أهل التَّعطيل وأهل التَّمثيل، فيُثبتون صفات الله وأسماءه إثباتًا بريئًا من التَّمثيل، ويُنَزِّهون الله عز وجل عن مُشابهة خلقه تنزيهًا بريئًا من التَّعطيل.

س: .............؟

ج: يعني وقت نشاط.

س: ...........؟

ج: الدُّلجة في أول الليل ...... في آخر الليل، كل هذا يُستعمل.

س: .............؟

ج: نعم، الله مدح المؤمنين قال: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [آل عمران:17]، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18]، والاستغفار مشروع دائمًا في كل وقتٍ.

س: ....... ما مرَّ وقتُ السحر إلا ورسول الله نائم؟

ج: هذا بعض الأحيان، هذا بعض الأحيان، أو مُرادها ما قد يقع له عليه الصلاة والسلام، مثل عمل داود؛ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ينام شيئًا منه في بعض الأحيان ليستعين به على عمل النهار إذا بكَّر بالقيام عليه الصلاة والسلام، فالأحاديث المجملة تُفسّر الأحاديث الواضحة المفسرة.

س: قوله: وشيء من الدُّلْجَة؟

ج: تشبيه لنشاطه بالدُّلجة التي يفعلها المسافر، المسافر قد ...... في أول الليل ..... آخر الليل، وقد ينام أول الليل، ويقوم آخر الليل، يتحرى النشاط، فالمعنى العامل ..... في أوقات نشاطه، كما يأخذ المسافرُ بأوقات نشاطه. أيش قال عليه الشارحُ: شيء من الدُّلجة؟

الطالب: قَوْلُهُ: وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْئًا مِنَ الدُّلْجَةِ فِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيِّ: عَن ابن أَبِي ذِئْبٍ: وَحظًّا مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْغُدُوِّ السَّيْرُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَبِالرَّوَاحِ السَّيْرُ مِنْ أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ النَّهَارِ، وَالدُّلْجَةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ اللَّامِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، وَبَعْدَ اللَّامِ جِيمٌ: سَيْرُ اللَّيْلِ، يُقَالُ: سَارَ دُلْجَةً مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ سَاعَةً، فَلِذَلِكَ قَالَ: شَيْئًا مِنَ الدُّلْجَةِ؛ لِعُسْرِ سَيْرِ جَمِيعِ اللَّيْلِ، فَكَأَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى صِيَامِ جَمِيعِ النَّهَارِ، وَقِيَامِ بَعْضِ اللَّيْلِ، وَإِلَى أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ أَوْجُهِ الْعِبَادَةِ.

وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَثِّ عَلَى الرِّفْقِ فِي الْعِبَادَةِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلتَّرْجَمَةِ، وَعَبَّرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى السَّيْرِ؛ لِأَنَّ الْعَابِدَ كَالسَّائِرِ إِلَى مَحَلِّ إِقَامَتِهِ، وَهُوَ الْجَنَّةُ.

وَشَيْئًا مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: افْعَلُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي بَابِ "الدِّينُ يُسْرٌ".

قَوْلُهُ: وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ: الْزَمُوا الطَّرِيقَ الْوَسَطَ الْمُعْتَدِلَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: "كَانَتْ خُطْبَتُهُ قَصْدًا" أَيْ: لَا طَوِيلَةً، وَلَا قَصِيرَةً، وَاللَّفْظُ الثَّانِي لِلتَّأْكِيدِ.

وَوَقَفْتُ عَلَى سَبَبٍ لهَذَا الحَدِيث؛ فَأخْرج ابن مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِرَجُلٍ يُصَلِّي عَلَى صَخْرَةٍ، فَأَتَى نَاحِيَةً، فَمَكَثَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَوَجَدَهُ عَلَى حَالِهِ، فَقَامَ فَجَمَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمُ الْقَصْدَ، عَلَيْكُمُ الْقَصْدَ.

الشيخ: المقصود ذكر الدلجة هنا بما هو أوسع، وهو أن يأخذ شيئًا من الليل يستعين به على عمل النهار، كالمسافر، المسافر يأخذ شيئًا من الليل يستعين به على قطع المسافة، والدُّلجة تُستعمل في آخر الليل فيمَن نام أول الليل، وتُستعمل في أول الليل فيمَن مشى فيه ثم استراح في آخر الليل، والمعنى: أن العابد والعامل سائر إلى الله مثل المسافر، سائر إلى الله جلَّ وعلا، ليس له انتهاء حتى يصل إلى الجنة، كما أن المسافر يتحرى أوقات النَّشاط والنهار وآخر النهار وبعض الليل، فهكذا العامل ينبغي له أن يتحرى أوقات نشاطه فيعمل، وفي أوقات الضعف يستريح؛ حتى لا ينقطع.

6464- حَدَّثَنَا عَبْدُالعَزِيزِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ابْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ.

الشيخ: ومعنى هذا لن يُدخل أحدَكم عملُه الجنَّة معناه: أنه ليس العمدة على العمل، الأعمال أسباب، وإنما المعول على عفوه سبحانه ورحمته وقبوله لهذا العمل، فإذا رضي سبحانه وقبله منك فهذا هو طريق السلامة، وهو طريق الجنة، فقد يعمل الإنسانُ وقد يعمل ولكن لا يُوفق ولا ينجح، إما يُبتلى بالرياء، أو بالردة، أو بغير ذلك، لكن إذا وفَّقه الله ورحمه سبحانه حتى ختم له بخاتمةٍ حسنةٍ صار عمله سببًا لدخول الجنة.

في روايةٍ: قالوا: يا رسول الله، ولا أنت؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله برحمةٍ منه، فالمعول على رحمته وعفوه سبحانه، وتوفيقه وتسديده، والأعمال أسباب، ولهذا قال: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32] يعني: بأسباب أعمالكم الطيبة: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، فالباء بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ للسببية، والباء في قوله: لا يدخل الجنة أحدُكم بعمله من باب العوض، يعني: ليست الأعمال عوضًا، ولكنها أسباب، والله هو الذي يمُنّ بالرحمة، ويمُنّ بالعفو، ويمُنّ بالقبول، ويمُنّ بجعلها سببًا لدخول الجنة.

6465- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ، وَقَالَ: اكْلفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ.

6466- حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أُمَّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ قُلْتُ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ، كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِيِّ ﷺ؟ هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ؟ قَالَتْ: "لا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْتَطِيعُ".

الشيخ: وهذا ما يُنافي كونه عليه الصلاة والسلام يصوم ثلاثة أيام من كل شهرٍ، ويصوم الاثنين والخميس، هذا لا يُنافي، هذا تخصيص، لكن مقصودها أنَّ أعماله ديمة، يعني: مستمر، إذا صام صام، وإذا أفطر أفطر، ليس مُنقطعًا عن العمل، تخصيص ...... كونه يقف عن العمل، لا يقف عن العمل، مستمر على العمل عليه الصلاة والسلام، لكن لا يمنع هذا من أن يخصَّ بعض الأوقات بأعمالٍ، مثل: أن يصوم الاثنين والخميس عليه الصلاة والسلام، ومثل كونه بعض الأحيان يُصلي ثلاثة عشر، وبعض الأحيان يُصلي إحدى عشر، هذا لا يُنافي الدِّيمة: "عمله ديمة"، وإن زاد في بعض الأحيان، ونقص في بعض الأحيان؛ فالعمل ديمة.

6467- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ابْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لا يُدْخِلُ أَحَدًا الجَنَّةَ عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ، قَالَ: أَظُنُّهُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ.

وَقَالَ عَفَّانُ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا.

قَالَ مُجَاهِدٌ: قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9]: "وَسَدَادًا: صِدْقًا".

الشيخ: تكلّم على الزبرقان؟

الطالب: قَوْلُهُ: (مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ) بِكَسْرِ الزَّايِ وَالرَّاءِ، بَيْنَهُمَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ، وَبِالْقَافِ، هُوَ أَبُو هَمَّامٍ الْأَهْوَازِيُّ، وَثَّقَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: صَدُوقٌ، وَذَكَرَهُ ابن حِبَّانَ فِي "الثِّقَاتِ" وَقَالَ: رُبَّمَا أَخْطَأَ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ تُوبِعَ فِيهِ.

الشيخ: انظره في "التقريب"؟

الطالب: محمد بن الزبرقان أبو همام الأهوازي، صدوق، ربما وهم، من الثامنة (خ م د س ق).

الشيخ: نعم.

 
6468- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ هِلالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى لَنَا يَوْمًا الصَّلاةَ، ثُمَّ رَقِيَ المِنْبَرَ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ قِبْلَةِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: قَدْ أُرِيتُ الآنَ مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلاةَ: الجَنَّةَ وَالنَّارَ، مُمَثَّلَتَيْنِ فِي قُبُلِ هَذَا الجِدَارِ، فَلَمْ أَرَ كَاليَوْمِ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَلَمْ أَرَ كَاليَوْمِ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ.

الشيخ: الخير ما في الجنة من النَّعيم، والشر ما رأى في النار من العذاب، خير وشرٌّ متقابلان، ولهذا قال: لم أرَ كاليوم من عذاب المعذَّبين ونعيم المنعَّمين، ورأى ذلك أيضًا في صلاة الكسوف، عرضت له الجنة والنار، ورأى بعض المنعّمين، ورأى بعض المعذّبين، ورأى السارق يُعذَّب، الذي سرق الحاجّ، كان يسرق الحاجّ، ورأى التي حبست الهرَّة ولم تُطعمها ولم تسقها حتى هلكت، إلى غير ذلك.

فالمقصود أنه ﷺ أخبرهم بهذا؛ للحذر والانتباه، وأن الأمر جدّ، وأنَّ هناك نعيمًا حقيقة، وعذابًا حقيقة، فيجب الإعداد والحذر، وأن هذا الشيء موجود أُرِيَه واطَّلع عليه عليه الصلاة والسلام، فأريه في المعراج لما عُرج به عليه الصلاة والسلام، وأُريه في صلاته؛ في صلاة الكسوف، وفي بعض صلواته الأخرى عليه الصلاة والسلام.

س: مناسبة الحديث الأخير للقصد والمُداومة على العمل؟

الشيخ: المتن عمَّن؟

الطالب: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ هِلالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى لَنَا يَوْمًا الصَّلاةَ، ثُمَّ رَقِيَ المِنْبَرَ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ قِبْلَةِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: قَدْ أُرِيتُ الآنَ مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلاةَ: الجَنَّةَ وَالنَّارَ، مُمَثَّلَتَيْنِ فِي قُبُلِ هَذَا الجِدَارِ، فَلَمْ أَرَ كَاليَوْمِ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَلَمْ أَرَ كَاليَوْمِ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ.

الشيخ: واضح أنه يعني: استمرُّوا في العمل، فالأمر جدّ، يعني يحتاج إلى صبرٍ ومُصابرةٍ.

بَاب الرَّجَاءِ مَعَ الخَوْفِ

وَقَالَ سُفْيَانُ: "مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ: لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [المائدة:68]".

الشيخ: يعني قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يعني: حتى تُقيموا ذلك قولًا وعملًا، يعني: حتى تستقيموا، فلستُم على شيءٍ تحصل به النَّجاة وتحصل به السعادة حتى تُقيموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليكم من ربِّكم، وخاف سفيان من هذا.

وهل أقمنا ذلك؟ وهل حققنا ذلك؟ وهل فعلنا ما يجب؟ هذا المقصود، إذا كان هذا الذي خاطب به أهل الكتاب فنحن من باب أولى؛ لأننا مسؤولون ومأمورون، مضى القوم ولم يعنَ به سواكم.

المقصود من ذلك أن نُقيم ما أُنزل إلينا من ربِّنا وهو القرآن والسنة، فليس العبد على شيءٍ حتى يُقيم ما أنزل الله عليه، حتى يُقيم ذلك عملًا وعقيدةً وقولًا، ويحذر أسباب الهلاك.

انظر مَن قال سفيان أيش .......؟

الطالب: قَوْلُهُ: (وَقَالَ سُفْيَانُ) هُوَ ابن عُيَيْنَةَ.

الشيخ: والعيني كذلك؟

الطالب: نعم، أحسن الله إليك.

6469- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِئَةَ رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ العَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ.

الشيخ: والمقصود من هذا الترهيب والترغيب والحذر، فالرحمة رحمتان: رحمة هي وصفه سبحانه، وهو الرحمن الرحيم ، هذا وصفه العظيم، ورحمة خلقها وجعلها مئة جزءٍ، أنزل منها جزءًا واحدًا، وأمسك تسعًا وتسعين عنده سبحانه، يرحم بها عباده يوم القيامة.

المقصود من هذا أنه ينبغي للمؤمن ألا ييأس بسعة رحمة ربه ، وينبغي له ألا يقنط، وينبغي له ألا يأمن، فعند تذكّر العذاب وعظم العذاب يحذر، وعند تذكّر سعة رحمة الله يرجو، فيكون بين الرجاء والخوف، فيتذكر رحمته وإحسانه وفضله وجوده وكرمه، ويكون حسن الظن بالله، راجيًا، ويذكر شدة عقابه وعظيم عذابه فيحذر، ولكن لا يقنط.

بَاب الصَّبْرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ

وَقَوْلِهِ : إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وَقَالَ عُمَرُ: "وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ".

6470- حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ: أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَلَمْ يَسْأَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَعْطَاهُ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ نَفِدَ كُلُّ شَيْءٍ أَنْفَقَ بِيَدَيْهِ: مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ لا أَدَّخِرْهُ عَنْكُمْ، وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ.

الشيخ: الآيات والأحاديث في الصبر كثيرة جدًّا، وما ذاك إلا لأنَّ الصبر مثلما قال عمر : "وجدنا خير عيشنا في الصبر"، فالصبر يُعين على طاعة الله، ويُعين على ترك محارم الله، ويُعين على المصائب، يُعزي الإنسان ويُسليه في هذه الدار التي هي دار المصائب، ودار الأكدار، فلهذا أكثر الله من ذكره في كتابه العظيم حتى قال أحمد رحمه الله: "ذكر الله الصبر في أكثر من تسعين موضعًا من كتابه "، ومن هذا الآية الكريمة التي ذكر المؤلفُ، وهي قوله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، ومنها قوله جلَّ وعلا: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127]، وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48]، الآيات في هذا كثيرة جدًّا: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155- 156]، ويقول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: مَن يستغنِ يُغنه الله، ومَن يستعفف يُعفّه الله، ومَن يتصبَّر يُصبّره الله، وما أُعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر.

وكان سبب ذلك أنه حصل له عطاء -أتاه مال- ففرَّقه فيهم، وأنفقه فيهم عليه الصلاة والسلام، ولم يزالوا يسألونه ويُعطيهم حتى نفد ما عنده عليه الصلاة والسلام، كما قال الله : مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96]، فقال: إنه مهما يكن من خيرٍ عندي فلن أدَّخره دونكم، يعني: مهما استطعتُ من الإنفاق فلن أدَّخره، يعني: سوف أبذل ما أستطيع، وقد فعل عليه الصلاة والسلام، وتقدَّم في الحديث قوله ﷺ: ما يسرني أن عندي مثل أُحُدٍ ذهبًا تمر عليَّ ثلاثٌ وعندي منه دينار، إلا دينار أرصده لدينٍ، ولكن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه، وفي اللفظ الآخر: ومن أمامه.

ففي هذا الحضّ والتَّحريض على الصبر عن سؤال الناس، والحاجة إلى الناس، وأن الصبر من خير ما يُستعان به في هذا الأمر، ولهذا قال عمر : "وجدنا خير عيشنا في الصبر"، فإنَّ مَن صبر اطمأنَّ واستراح، وتقدم قوله ﷺ: إنَّ هذا المال حلوة خضرة، فمَن أخذه بإشراف نفسٍ لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، ومَن أخذه بسخاوة نفسٍ بُورك له فيه.

وقال عليٌّ : "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد"، ثم رفع صوته فقال: "ألا لا إيمانَ لمن لا صبرَ له".

والصبر أقسام ثلاثة كما ذكر أهلُ العلم:

صبر على الطاعات حتى يُؤديها، مثل: الواجبات، والمستحبَّات.

وصبر عن المعاصي والسيئات، فيُجاهد نفسه، ويحرص على البُعد عن محارم الله.

وصبر على ما يُصيبه من الآلام التي تُؤذيه، وما ينزل به من الأقدار التي يكرهها، فيصبر على ذلك: من مرضٍ، أو فقرٍ، أو تسليط جارٍ، أو تسليط عدو، أو غير هذا مما ينزل بالإنسان، فيُقابل هذا بالصبر والأخذ بالأسباب التي شرعها الله، فيأخذ بالأسباب: من البُعد عن وسائل الرِّيبة، وعن وسائل الشرِّ؛ حتى يُعينه ذلك على ترك محارم الله.

ويأخذ بالأسباب على فعل الطاعات: من تدبُّر القرآن، وسماع الآيات والأحاديث المشجعة على الخير، وصُحبة الأخيار، وتذكر الجنة، وتذكر ما لأهلها من الخير، وتذكُّر النار وما لأهلها من الشرِّ، إلى غير هذا مما يُعينه على الصبر على طاعة الله.

وهكذا يتذكر ما أعدَّ الله لمن صبر على المكاره، وما له عنده سبحانه من الخير، وما وعده الله به من تكفير السيئات، فيتحمل ويتصبّر على ما قد يُصيبه مما يكره، ويتذكر أن الرسل أفضل الخلق قد أصابهم ما يُؤذيهم، وهم أشدّ الناس بلاءً، ويتذكر أنَّ هذه الدار دار الابتلاء، وليست دار نعيم، ولكنها دار الابتلاء، وأن النعيم أمامه، فهذا كله يُعينه الله على أداء هذا الواجب، والله المستعان.

6471- حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عِلاقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ المُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ أَوْ تَنْتَفِخَ قَدَمَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا.

الشيخ: هذا وهو يحثُّ الناس على التيسير وعدم التَّشديد، لكنه ﷺ كان في بعض الأحيان يُشدد على نفسه في قيام الليل، يُطيل القيام حتى ترم قدماه عليه الصلاة والسلام، فقالت له عائشةُ في هذا، وقال له غيرها، فقال: أفلا أكون عبدًا شكورًا، اللهم صلِّ عليه وسلم، ومع ذلك هو ﷺ حثَّ الناس على القصد، قال: إياكم والتَّكلف، وقال: القصدَ القصدَ تبلغوا، وقال: عليكم من العمل ما تُطيقون، وقال: سدِّدوا وقاربوا، فأمر الناس بالتَّسامح وعدم التَّشديد في الأمور حتى يسيروا، حتى يستمروا في الخير، حتى لا ينقطعوا، لكن هو لما أعطاه الله الصبر، وقوَّاه الله على العمل؛ كان يعمل أعمالًا لا يُطيقها غيره، عليه الصلاة والسلام.

س: القسم الثالث من أقسام الصبر؟

ج: الصبر أقسام ثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله -عن المعاصي- وصبر على ما يُصيب العبدَ من القضاء والقدر المؤلم: من مرضٍ، وفقرٍ، ونحو ذلك.

بَاب وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]

قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: "مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ".

الشيخ: فَهُوَ حَسْبُهُ يعني: من كلِّ ما ضاق فهو حسبه، فهو كافيه من كلِّ ما ضاق على الناس، يجعل الله له فيه فرجًا ومخرجًا: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، هذا أعظم الأسباب: التوكل على الله، والاعتماد عليه، والثقة به، والإيمان بأنه مصرِّف الأمور ومُدبرها، وأن كل شيء بيده، هذا من أعظم التَّقوى، ومن أعظم أسباب تفريج الأمور، ولكن ليس معناه الإخلاد إلى الأرض وترك الأسباب كما يظن بعض الجهلة من الصوفية وغيرهم، لا، التوكل يجمع الأمرين: يجمع الثقة بالله، والاعتماد عليه، مع الأخذ بالأسباب: من علاج المرض، من زراعة، من تجارة، من مُدافعةٍ لما يضرُّه، من لباسٍ يدفيه من البرد، من تناول ما يسدّ جوعته، مع شدّة الجوع وألمه يتعاطى الأسبابَ، لا يُهملها، الله أمره بالأسباب؛ بعضها واجب، وبعضها مشروع، فالذي يأخذ بالأسباب الواجبة والمشروعة مع اعتماد قلبه على الله هكذا في الصبر، في أنواع الصبر، الصبر كله سببٌ من الأسباب، تُضاف إليه أسبابٌ أخرى، لا بدّ من أخذ الأسباب التي شرعها الله وأمر بها، ولا بدّ من تعاطي الأسباب الأخرى التي تُعينه، من الأسباب المباحة حسب الحاجة إليه.

س: ...............؟

ج: أناس يأتون من اليمن، ولا يأتون بزادٍ، يأتون هكذا يسألون الناس، فقيل لهم، فقالوا: نحن المتوكِّلون! فقال لهم بعضُ الصحابة: بل هم مُتأكِّلون، هو من هذا الباب، الذي يُهمل الأسباب ليس بمتوكلٍ، ولكنه يُحمِّل عبأَه على الناس حتى يسألهم، وحتى يؤذيهم، نسأل الله العافية.

6472- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ حُصَيْنَ بْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ، وَلا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.

الشيخ: كثير من الناس يغلط في هذا الحديث، ولا يدري معناه كما ينبغي، مراد النبي ﷺ هذه الأشياء الخاصة، ليس المراد ترك الأسباب، وإنما المراد من ذلك ترك الاسترقاء الذي هو حاجة إلى الناس، وسؤال للناس، ترك الشيء المكروه، كما في الرواية الأخرى: ولا يكتوون؛ لأنَّ الكيَّ نوعٌ من العذاب، فينبغي ألا يُصار إليه إلا عند الحاجة، إذا تيسرت أسباب أخرى فهي أوْلى منه؛ ولهذا قال ﷺ: الشفاء في ثلاثٍ: كية نار، أو شرطة محجم، أو شربة عسل، وما أُحب أن أكتوي، وفي اللفظ الآخر: وأنهى أمتي عن الكيِّ، فبيّن أنَّ الكي من الأسباب، لكن تركه أوْلى، مهما أمكن الاستغناء عنه، وهكذا الاسترقاء من الأسباب، لكن إذا تيسر الاستغناء عن الاسترقاء، عن سؤال الناس تُرك، فأما إذا احتيج إلى الاسترقاء، أو احتيج إلى الكيِّ؛ فُعِلَ؛ ولهذا أمر النبيُّ ﷺ أمَّ أولاد جعفر أن تسترقي لأولاها لما أصابتهم العين، قالت عائشة: فأمرنا أن نسترقي.

المقصود أنه إذا دعت الحاجة إلى الاسترقاء فلا بأس، وإلا تركه أوْلى، مهما أمكن الاستغناء عنه بطبٍّ آخر، وعملٍ آخر، وهكذا الكي فهو أوْلى، ومراد النبي ﷺ ترك الأسباب المكروهة أو المفضولة؛ أخذًا بالأسباب الفاضلة، وإلا فالأكل والشرب والاستمتاع وجميع ما يحتاجه العبدُ كلها أسباب.

س: إذا رقى نفسه؟

ج: هذا من المشروع، من السنة، من الطبِّ المشروع، كان النبي يرقي نفسَه عليه الصلاة والسلام.

س: .............؟

ج: يطلب الناس، يقولون: اقرؤوا عليَّ، أو على أولادي، إذا تيسر الاستغناء عن هذا فلا بأس، لكن إذا رقاه أخوه من دون طلبٍ فهذا طيبٌ، مثلما قال ﷺ في الحديث الآخر في رواية مسلم: مَن استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه، فإذا رقاه أخوه من دون طلبٍ أو دعت الحاجةُ إلى الاسترقاء فلا كراهةَ، ولهذا أمر أمَّ أولاد جعفر أن تسترقي، وهي أسماء بنت عميس، وأمر عائشة في الحديث الآخر أن تسترقي.

س: ............؟

ج: ما بلغني.

س: ............؟

ج: من تبرع جبرائيل، ما بلغنا أنه استرقى ﷺ، وهكذا رقيته لنفسه عليه الصلاة والسلام.

س: ........ خير الناس مَن ينفع الناس؟

ج: ما نعرف هذا، لكن مَن استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه.