12 من قوله: (..إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا )

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ۝ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ۝ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:40، 41].
يقول تعالى مخبرا إنه لا يظلم أحدًا من خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل، ولا مثقال ذرة، بل يوفيها له، ويضاعفها له إن كانت حسنة، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [الأنبياء:47]، وقال تعالى مخبرًا عن لقمان أنه قال: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان:16]، الآية، وقال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ۝ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:6-8].
الشيخ: ومعنى هذا أن الله جل وعلا يوفي كل عامل عمله، وأنه لا يظلم أحدًا مثقال ذرة، يعني لا يظلم أحدًا قليلاً ولا كثيرًا، فهو الحكم العدل، وإذا كان مثقال الذرة من الأعمال الصالحات ضاعفه الله لعبده قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، ويقول : وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، ويقول سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8] هذا يوجب للمؤمن الحذر من الشر وإن قل، ويوجب له أن لا يزهد في الخير وإن قل، بل يسعى في الخير ويجتهد فإن كان قليلاً فإن القليل مع القليل يجتمع، وينفع إن كان خيرًا، فالصدقات ولو بالقليل والتسبيح والذكر والقراءة كل ما كان من هذا فهو نافع مهما قل، فينبغي له أن يكثر من ذلك، وأن يجتهد، وأن يحذر السيئات كلها، وإن قلت، وأن يحذر صغيرها وكبيرها.
وفي الصحيحين من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله ﷺ في حديث الشفاعة الطويل، وفيه: فيقول الله : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجوه من النار، وفي لفظ: أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوه من النار فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقول أبو سعيد: اقرءوا إن شئتم إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ.الشيخ: يعني لا يخلد في النار إلا من خلا قلبه من التوحيد والإيمان، ولم يبق معه إلا الشرك والكفر بالله، فلا يخلد في النار إلا أصحاب الكفر، والشرك الأكبر، أما أصحاب المعاصي فلا يخلدون، يعذبون في النار على قدر معاصيهم، ثم بعدما يطهرون من معاصيهم يخرجون من النار إذا كان معهم أدنى أدنى مثقال حبة خردل من توحيد وإيمان صادق، ولا يخلد في النار إلا أهل الكفر بالله ، كما قال في الكفرة: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، وقال في الكفرة أيضًا: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]، فالكافر لا يخرج منها بل عذابه مستمر أبد الآباد، نسأل الله العافية.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عيسى بن يونس عن هارون بن عنترة، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، قال: قال عبد الله بن مسعود: يؤتى بالعبد والأمة يوم القيامة فينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه، فتفرح المرأة أن يكون لها الحق على أبيها، أو أمها، أو أخيها، أو زوجها، ثم قرأ: فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، فيغفر الله من حقه ما يشاء، ولا يغفر من حقوق الناس شيئًا، فينصب للناس فيقول: أتوا إلى الناس حقوقهم فينادى: هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه. فيقول: يا رب فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم؟ فيقول: خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل ذي حق حقه، بقدر مظلمته، فإن كان وليا لله ففضل له مثقال ذرة ضاعفها الله له حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ علينا إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، قال: ادخل الجنة، وإن كان عبدًا شقيًا قال الملك: رب فنيت حسناته، وبقي طالبون كثير، فيقول: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته، ثم صكوا له صكًا إلى النار، ورواه ابن جرير من وجه آخر عن زاذان به نحوه، ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا فضيل يعني ابن مرزوق، عن عطية العوفي، حدثني عبد الله بن عمر، قال: نزلت هذه الآية في الأعراب مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160] قال رجل: فما للمهاجرين يا أبا عبد الرحمن؟ قال: ما هو أفضل من ذلك إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40].
الشيخ: ومعنى الآية عامة تعم الأعراب، والمهاجرين، والأنصار، وغيرهم، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأنعام:160].
وهذه الحسنة التي تضاعف إلى عشر أمثالها هذا فضل عام على جميع أهل الحسنات، وقد يضاعف الله الحسنة إلى سبعمائة ضعف إلى آلاف الأضعاف فضل منه جل وعلا.
وحدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثني عبد الله بن لهيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير في قوله: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة، ولا يخرج من النار أبدًا، وقد استدل له بالحديث الصحيح أن العباس قال: يا رسول الله، إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعته بشيء؟ قال: نعم هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار.
وقد يكون هذا خاصا بأبي طالب من دون الكفار بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا عمران، حدثنا قتادة عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة.
الشيخ: وهذا الذي رواه أبو داود رواه مسلم في صحيحه... روى مسلم في صحيحه عن النبي ﷺ أن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، فإذا أفضى إلى الآخرة فليس له إلا سيئاته، وأما المؤمن فإن الله يعطيه على حسناته في الدنيا من الثواب ما يشاء ، ومع هذا يثيبه عليها في الآخرة، ويجمع الله للمؤمن بين الجزاءين في الدنيا والآخرة، وأما التخفيف عن الكافر فهذا خاص بأبي طالب عند أهل السنة، أبو طالب كان مستحقا للنار لأنه كفر على بصيرة، وأصر على الكفر بالله، وعلى دين قومه على بصيرة، وهو يعلم أن ما جاء به محمد حق، ولكنه أبى إلا أن يموت على دين جده عبد المطلب على الكفر بالله، فشفع فيه ﷺ فصار في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، فهو يرى أنه أشد الناس عذابًا، وهو أهونهم عذابًا، فهذه الشفاعة خاصة لأبي طالب، قال تعالى في الكفرة: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]، وقال تعالى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ ولَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18]، فالكفرة لا تنفعهم الشفاعة، ولا يشفع فيهم، بل هم مخلدون في النار أبد الآباد، نعوذ بالله، إلا أبا طالب فقد شفع فيه النبي ﷺ بالتخفيف، خفف عنه لأنه حمى النبي ﷺ في مكة، وأحاطه، ونصره، حتى نزل به الأجل، ودعاه النبي ﷺ إلى أن يسلم فأبى، وقال: على دين عبد المطلب، ومات على دين قومه، نسأل الله السلامة.
الطالب: قوله: ثم صكوا له صكًا؟
الشيخ: حتى يأتوا له الخزنة.
وقال أبو هريرة، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والضحاك في قوله: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا يعني الجنة، نسأل الله رضاه والجنة، وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا سليمان يعني ابن المغيرة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان، قال: بلغني عن أبي هريرة أنه قال: بلغني أن الله تعالى يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة، قال: فقضي أني انطلقت حاجًا، أو معتمرًا، فلقيته فقلت: بلغني عنك حديث أنك تقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يجزى العبد بالحسنة ألف ألف حسنة فقلت: ويحكم ما أحد أكثر مني مجالسة لأبي هريرة، وما سمعت هذا الحديث منه فتحملت أريد أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجًا، فانطلقت إلى الحج في طلب هذا الحديث فلقيته، فقلت: يا أبا هريرة: ما حديث سمعت أهل البصرة يؤثرونه عنك قال: ما هو؟ قلت: زعموا أنك تقول: إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة قال: يا أبا عثمان، وما تعجب من هذا، والله يقول: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، ويقول: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]، والذي نفسي بيده لقد سمعت النبي ﷺ يقول: إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة قال: وهذا حديث غريب، وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير.الشيخ: والمقصود أنه سبحانه لا يستكثر منه جل وعلا ما يحصل من الخير، فهو جواد كريم جل وعلا، وهو يضاعف لمن يشاء سبحانه، ولا يتحدد بألف، ولا بألفين، ولا بأكثر، ولا بأقل، بل هو يضاعف لمن يشاء ما يشاء : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، فهو جل وعلا يضاعف لمن يشاء بحسب عمل العبد، وإخلاصه، وصدقه، واجتهاده في الخير، وتحريه لما يحبه الله، ويرضاه، فكلما قوي أخلاق العبد وكمل إيمانه وكملت تقواه ورغبته بما عند الله وتحريه للخير وبعده عن الشر صار.......، والله المستعان.
ورواه أحمد أيضًا فقال: حدثنا يزيد، حدثنا مبارك بن فضالة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، قال أتيت أبا هريرة، فقلت له: بلغني أنك تقول: إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة! قال: وما أعجبك من ذلك؟ فو الله لقد سمعت النبي ﷺ يقول: إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة.
ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال: حدثنا أبو خلاد، وسليمان بن خلاد المؤدب، حدثنا محمد الرفاعي عن زياد بن الجصاص، عن أبي عثمان النهدي، قال: لم يكن أحد أكثر مجالسة مني لأبي هريرة، فقدم قبلي حاجًا، وقدمت بعده، فإذا أهل البصرة يؤثرون عنه أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة فقلت: ويحكم ما كان أحد أكثر مجالسة مني لأبي هريرة، وما سمعت منه هذا الحديث، فهممت أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجًا، فانطلقت إلى الحج أن ألقاه في هذا الحديث، ورواه ابن أبي حاتم من طريق أخرى فقال: حدثنا بشر بن مسلم، حدثنا الربيع بن روح، حدثنا محمد بن خالد الذهبي، عن زياد الجصاص، عن أبي عثمان قال: قلت: يا أبا هريرة سمعت إخواني بالبصرة يزعمون أنك تقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة فقال أبو هريرة: والله بل سمعت نبي الله ﷺ يقول: إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة، ثم تلا هذه الآية فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38].
وقوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يقول تعالى مخبرًا عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة حين يجيء من كل أمة بشهيد، يعني الأنبياء عليهم السلام، كما قال تعالى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [الزمر:69]، الآية، وقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [النحل:89]، الآية.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال لي رسول الله ﷺ: اقرأ علي فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا، فقال: حسبك الآن، الآية، فإذا عيناه تذرفان.
الشيخ: تذكر الموقف العظيم فبكى عليه الصلاة والسلام.
ورواه هو ومسلم أيضا من حديث الأعمش به، وقد روي من طرق متعددة عن ابن مسعود فهو مقطوع به عنه، ورواه أحمد من طريق أبي حيان، وأبي رزين عنه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا الصلت بن مسعود الجحدري، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا يونس بن محمد بن فضالة الأنصاري، عن أبيه، قال: وكان أبي ممن صحب النبي ﷺ: أن النبي ﷺ أتاهم في بني ظفر، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم، ومعه ابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وناس من أصحابه، فأمر النبي ﷺ قارئا فقرأ حتى أتى على هذه الآية فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا فبكى رسول الله ﷺ حتى ضرب لحياه، وجنباه، فقال: يا رب، هذا شهدت على من أنا بين أظهرهم، فكيف بمن لم أره.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبد الله الزهري حدثنا سفيان، عن المسعودي، عن جعفر بن عمرو بن حرث، عن أبيه، عن عبد الله هو ابن مسعود في هذه الآية، قال: قال رسول الله ﷺ: شهيد عليهم ما دمت فيهم، فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم.
الشيخ: وهذا جاء في الحديث في الصحيحين عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه حين يقف على الحوض يوم القيامة ليناول الناس عليه الصلاة والسلام، إذ يقدم أناس فيطردون عن حوضه عليه الصلاة والسلام، ويذادون عن حوضه فيقول: يا ربي أصحابي، وفي لفظ: أمتي فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، نكصوا وارتدوا على أدبارهم قال: فأقول كما قال العبد الصالح يعني عيسى عليه الصلاة والسلام: وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة:117].
الطالب: حديث هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار، كيف الجمع بين هذا الحديث، وحديث لا تقل ما شاء الله وشاء فلان.
الشيخ: الله أعلم أن هذه الرواية بالمعنى، الروايات المعروفة في هذا أنه ﷺ شفع له حتى جعل له ضحضاح من النار، ويحتمل أن هذه الرواية صحيحة كما جاء في رواية مسلم، ولكن هذا بالنسبة إلى من كان له بصيرة وعلم، ليس لأحد الأمر في هذا، وأن الأمر بيد الله ، وتخلف الأمور، أنا لولا شفاعتي لما قدمت، لكن في الروايات المعروفة ليس فيها أنا، وإنما فيها لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة؛ فيجعل في ضحضاح من النار، هكذا جاء في الروايات الصحيحة ما عدا هذه الرواية، وحديث لا تقل ما شاء الله وشاء فلان، وقل ما شاء الله ثم شاء فلان، وحديث أجعلتني لله ندًا، قل ما شاء الله وحده، وحديث ابن عباس المرفوع إلى غير هذا يدل على أنه لا يقال لولا أنا لكان كذا وكذا، ويحتمل أنه لما تقدم العلم فيكون هذا.. فالأفضل، والأحوط أن يبدأ بثم، لولا الله ثم كذا لكان كذا وكذا.
الطالب: السؤال لم يسمع، والإجابة لم تسمع.
الشيخ: الروايات المشهورة ليس فيها لولا أنا، الروايات المشهورة أنه شفع عليه الصلاة والسلام فجعل في ضحضاح من النار يريد عمه أبا طالب، فالرواية التي فيها لولا أنا فيما يظهر أنها شاذة غير محفوظة، وإن كانت في رواية مسلم، ويحتمل أن هذا يجوز في حق من كان عنده علم وبصيرة بالمعنى، وأنه لولا أنا يعني من حيث الشفاعة، ومن حيث التسبب، والوساطة، كانت وساطتي، وشفاعتي له سببًا لإخراجه من الدرك الأسفل إلى جعله ضحضاحا، بخلاف إذا جاءت ..... فإن هذا لا يستثنى لولا فلان، لولا الله وفلان، هذه لا بد فيها من ثم، لم يأت فيها ما يدل على الجواز، لولا الله ثم فلان هذا لا بد منه، ولهذا قال: لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان في حديث الثلاثة الذين جاءهم الملك الأبرص والأقرع قال: لا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، وكذلك الحديث الآخر وقد قال رسول الله ﷺ عندما قيل له: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندًا ما شاء الله وحده.
وأما ما ذكره أبو عبدالله القرطبي في التذكرة حيث قال: باب ما جاء في شهادة النبي ﷺ على أمته، قال: أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا رجل من الأنصار عن المنهال بن عمرو أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: ليس من يوم إلا تعرض فيه على النبي ﷺ أمته غدوة، وعشية، فيعرفهم بأسمائهم، وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم، يقول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء:41] فإنه أثر، وفيه انقطاع، فإن فيه رجلًا مبهمًا لم يسم، وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه، وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده: قد تقدم أن الأعمال تعرض على الله كل يوم إثنين وخميس، وعلى الأنبياء، والآباء، والأمهات يوم الجمعة، قال: ولا تعارض، فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم، ويوم الجمعة مع الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.الشيخ: وهذا لا أصل له، كلام القرطبي هذا لا أصل له، العرض على الأنبياء، وعلى الآباء، كل هذا لا أصل له في الأحاديث الصحيحة، وإنما العرض على الله في كل إثنين وخميس، تعرض عليه الأعمال يوم القيامة، ولهذا يقول ﷺ يوم القيامة حين يذاد بعض أمته عن حوضه فيقول: يا ربي يا ربي أصحابي، وفي لفظ: أمتي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا من بعدك!، هكذا جاء في الحديث الصحيح عند الشيخين لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة:117].