14 من قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ..)

وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النساء:51] أما الجبت، فقال محمد بن إسحاق، عن حسان بن قائد، عن عمر بن الخطاب أنه قال: الجبت السحر، والطاغوت الشيطان. وهكذا روي عن ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والشعبي، والحسن، والضحاك، والسدي، وعن ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والشعبي، والحسن، وعطية: الجبت الشيطان، وزاد ابن عباس: بالحبشية، وعن ابن عباس أيضا: الجبت الشرك. وعنه: الجبت الأصنام. وعن الشعبي: الجبت الكاهن، وعن ابن عباس: الجبت حيي بن أخطب، وعن مجاهد: الجبت كعب بن الأشرف، وقال العلامة أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه الصحاح: الجبت كلمة تقع على الصنم، والكاهن، والساحر، ونحو ذلك.الشيخ: يعني أنها اسم لكل شيء لا خير فيه يطلق أيضاً عليه الجبت، الصنم، والساحر، والكاهن، والمشرك، والشيطان، وأشباه ذلك.
س: حسان بن من؟ عندنا حسان بن فائد بالفاء.
الشيخ: حط عليه إشارة.
وفي الحديث الطيرة، والعيافة، والطرق من الجبت.
قال: وليس هذا من محض العربية لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة من غير حرف ذولقي.
الشيخ: حرف ماذا؟
الطالب: حرف ذو لقي، يعني حروف الذلاقة.
الشيخ: حط عليه إشارة.
وهذا الحديث الذي ذكره رواه الإمام أحمد في مسنده، فقال: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة، عن أبيه، وهو قبيصة بن مخارق أنه سمع النبي ﷺ قال: إن العيافة، والطرق، والطيرة من الجبت، وقال عوف: العيافة زجر الطير، والطرق الخط يخط في الأرض، والجبت، قال الحسن: إنه الشيطان. وهكذا رواه أبو داود في سننه، والنسائي، وابن أبي حاتم في تفسيريه لحديث عوف الأعرابي به. وقد تقدم الكلام على الطاغوت في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا.الشيخ: وعلى قول عمر الجبت السحر يكون .......، ولهذا ذكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في باب بيان من السحر فيه هذا الباب أنواع السحر، هذا قول عمر العيافة، والطرق، والطيرة من الجبت يعني من السحر، ومما يتعاطاه الناس، وهو من جنسه كالسحر غير ضار غير نافع، فان العيافة مثل الطير يقال عاف يعيف إذا زجر وحبس، كما هي عادة العرب في زجرها الطيور، تزعم أنها إذا تيامنت، أو تشاءمت يكون هناك شيء، وهذا من خرافات الجاهلية، وضلالتها.
والطرق خطوط يخطها في الأرض يزعم منها أنها تدله على أشياء من علم الغيب، وهو نوع من الحدس، والظن، والخرص، والتدليس، وبعضهم يستعمله تلبيسًا، وربما يفتخر به ليجمع الأشياء، فيخطون هذه الخطوط، ويستخدمون الجن ....... ثم من حوادث الأرض.
والطيرة كذلك هي التشاؤم، فهي كلها خبيثة كالسحر خبيث، فلهذا جاء في الحديث أنها من الجبت، والمعنى على كلام أئمة اللغة ....... لا خير فيه يعني الأشياء الباطلة التي لا خير فيها؛ لأنه لا حقيقة له، فالعيافة لا حقيقة له، والطرق لا حقيقة له، كله باطل، والطيرة تشاؤم لا حقيقة له، مثل ما قال النبي ﷺ لما سئل عن الطيرة: ذلك شيء يجده أحدكم في صدره فلا يصدنكم فهي تشاؤم لا وجه له، كانوا في الجاهلية يتشاءمون بالطيور، وبغير الطيور، وربما خرج بعضهم لحاجته فيرى طيرًا عائفًا، أو يرى حيوانًا فيه نقص فيتشاءم، كأن يرى حيوانًا مقطوع الذنب، أو مقطوع الأذن، أو أعور، أو كذا فيتشاءم، ويرجع عن حاجته. وكل هذه من الخرافات الباطلة التي لا أساس لها.
وهكذا ....... الطير، يعني يخاطبها، ويقول لها: ماذا عندك، وربما يقول: اتركي عنا هذا النعيق، وربما قال بعضهم كنا مع طاووس فسمع طيرًا فقال رجل: خير يا طير، فقال له طاووس: وأي خير عند هذا، لا تصحبني، هذه من خرافاتهم، والطير إذا نعق إما يسبح بحمد الله، وإما يدعو صاحبه لشيء فإنه يتكلمون بكلام يفهمه بعضهم من بعض، هذه الطيور وهذه الحيوانات لها مقاصد في صياحها، قد يكون ذلك من التسبيح كما قال جل وعلا: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] ....... إذا نعق، أو غاب، أو نعق طير آخر أي شيء يحصل به التشاؤم لولا سوء الظن، وما يقع من التقليد الأعمى من بعضهم لبعض، فالحاصل في هذا أن الطيرة بأنواعها، والعيافة، وزجر الطير، وغير ذلك كلها باطلة، وكلها من الشرك الذي اعتاده أهل الجاهلية، وهو ما ردك عن حاجتك كما في حديث: الطيرة شرك، الطيرة شرك، وينبغي للمؤمن إذا رأى شيئًا من ذلك يكرهه أن يقول: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك، هكذا جاء في الحديث الثابت عن النبي ﷺ قال: إنها لا ترد مسلمًا، وأحسنها الفأل، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك، ومعنى أنها لا ترد مسلمًا يعني المسلم قوي الإيمان، لا ترده عن حاجته بل يمضي، أما ضعيف الإيمان فقد ترده عن حاجته، فالذي ترده عن حاجته فهو ضعيف الإيمان ناقص الإيمان؛ لأنه وقع عنده شيء من الشرك الأصغر، ويسمى الشرك الخفي، وهو من قسم الشرك الأصغر، وقد تكون أكبر إذا ظن أو اعتقد أن هذه الطيور أو هذه الحيوانات لها تصرف في الكون، أو لها نفع أو ضر دون الله، أو نحو ذلك من العقائد الباطلة.
وأما الفأل فهو شيء يدفع الإنسان، أو يراه يعجبه، فيسره، ولا يرده عن حاجته هذا هو الفأل، الشيء يعجبه، وكان يعجبه الفأل عليه الصلاة والسلام، وقال: وأحسنه الفأل ..... كل شيء تراه مما يسرك، ولكنك لا تعتني به، ولا ترجع عن حاجتك، كما في الحديث الصحيح: لا نوء، ولا غول، ولا طيرة، ولا هامة، وكان يعجبه الفأل فإذا سمع من يقول: يا معافى، أو يبشر المريض، يسر بهذه الكلمة، ولكن لن ترده عن حاجته، يقضي الله ما شاء، أو كان يطلب حاجة فقال له قائل: يا موفق، أو يا معان، أو ما أشبه ذلك يسر بهذه الكلمة، ولكنها لن ترده عن حاجته، فهذا أيضاً من الفأل الحسن.
س: التشاؤم من الكلب الأسود؟
الشيخ: باب واحد، إذا مضى في حاجته ما يسمى طيرة، وإذا رده عن حاجته يكون طيرة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إسحاق بن الضيف، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله أنه سئل عن الطواغيت، فقال: هم كهان تنزل عليهم الشياطين. وقال مجاهد: الطاغوت: الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه، وهو صاحب أمرهم. وقال الإمام مالك: الطاغوت: هو كل ما يعبد من دون الله .الشيخ: الطواغيت تطلق على هذا وهذا، تطلق على الأصنام، وعلى كل معبود من دون الله، كالشجرة، والحجر، ونحو ذلك، ويطلق على الكاهن طاغوت، كما قال جابر: الطواغيت: الكهان، ويطلق على الشيطان، كما قال عمر: الطاغوت: الشيطان، ومن ذلك قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256] ....... الأصنام، والشياطين، وغيرها مما عبد من دون الله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى عن إيمان بالله، وعن إخلاص له، وتوحيد له، فقد استقام إيمانه.
الطالب: إسحاق يا شيخ.
الشيخ: نعم.
الطالب: إسحاق بن الضيف، بضاد معجمة، وقيل: ابن إبراهيم بن الضي الباهلي أبو يعقوب العسكري، بصري نزل مصر، صدوق يخطئ، من الحادية عشر، أبو داود.
وقوله: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء:51] أي يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم، وقلة دينهم، وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم.
وقد روى ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، قال: جاء حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب، وأهل العلم، فأخبرونا عنا، وعن محمد، فقالوا: ما أنتم، وما محمد، فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العناة، ونسقي الحجيج، ومحمد صنبور قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار، فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلًا، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا الآية، وقد روي هذا من غير، وجه عن ابن عباس، وجماعة من السلف.
الشيخ: وهذا من ظلمهم، وحقدهم، وحسدهم، وبغيهم، فإن كعب بن الأشرف وحيي هم أعيان يهود المدينة من بني النضير، وكانوا من أخبث الناس، من أخبث قومهم، قد قتلهم الحقد والحسد فكذبوا، وقالوا هذا كلام الله، نسأل الله العافية، قالوا لعباد الأصنام: أنتم خير عند الله من سبيل محمد، نسأل الله العافية، وهم يعلمون أنهم كفار، وأنهم ضلال، وأن محمدًا على الحق، ولكنه الهوى، والبغي، والحسد، نعوذ بالله من ذلك، قاتلهم الله، قد قتلهم الله فكعب بعث إليه من يقتله فقتله لخبثه، وتأجيجه على المسلمين، وحيي قتل مع بني قريظة في حصنهم لما نزلوا على حكم سعد ........، وكان ممن حرضهم على نقض العهد فشرطوا عليه أن يكون معهم فصار معهم حتى قتل معهم قبحه الله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة، وأهل السقاية؟ قال: أنتم خير، قال فنزلت إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر:3]، ونزل أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ [النساء:51]، إلى نَصِيرًا [النساء:52].
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش، وغطفان، وبني قريظة حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وأبو رافع، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وأبو عامر، ووحوح بن عامر، وهوذة بن قيس، فأما وحوح، وأبو عامر، وهوذة، فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير، فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود، وأهل العلم بالكتب الأول فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم، فقالوا: دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه، وممن اتبعه.
الشيخ: كما أن قريشًا يعرفون أن اليهود كاذبون، ولكن المكره المبغض الحاسد، كل شيء، وإن كان يعلمه كذب ....... كما قال الله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] كما قال في آل فرعون: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، نسأل الله العافية.
فالمقصود أن كبار قريش ....... ابن عتبة، وربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل، وأشباههم يعرفون هذا، ولكنهم جحدوه، وكذبوا عنادًا، وبغيًا، وطلبًا للرياسة، وتابعهم العامة الدهماء.
فقالوا: دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه، وممن اتبعه، فأنزل الله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ [النساء:51] إلى قوله : وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا [النساء:54]، وهذا لعن لهم، وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة، لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين، وإنما قالوا لهم ذلك، ليستميلوهم إلى نصرتهم، وقد أجابوهم، وجاءوا معهم يوم الأحزاب، حتى حفر النبي ﷺ وأصحابه حول المدينة الخندق، فكفى الله شرهم، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:25].
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ۝ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ۝ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا [النساء:53-55].
س: ما المقصود بالصنبورة؟
الشيخ: كأنه الشخص الذي ليس له أتباع، وليس له مال، ولا عقب...
يقول تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، وهذا استفهام إنكاري، أي ليس لهم نصيب من الملك، ثم وصفهم بالبخل، فقال: فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا، أي لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحدًا من الناس، ولا سيما محمدًا ﷺ شيئًا، ولا ما يملأ النقير، وهو النقطة التي في النواة في قول ابن عباس، والأكثرين. وهذه الآية كقوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ [لإسراء:100] أي خوف أن يذهب ما بأيديكم مع أنه لا يتصور نفاده، وإنما هو من بخلكم وشحكم، ولهذا قال تعالى: وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا [الإسراء:100] أي بخيلًا، ثم قال: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:54] يعني بذلك حسدهم النبي ﷺ على ما رزقه الله من النبوة العظيمة، ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له، لكونه من العرب، وليس من بني إسرائيل.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبدالله الحضرمي، حدثنا يحيى الحماني، حدثنا قيس بن الربيع عن السدي، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ الآية، قال ابن عباس: نحن الناس دون الناس، قال الله تعالى: فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا أي فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل، الذين هم من ذرية إبراهيم النبوة، وأنزلنا عليهم الكتب، وحكموا فيهم بالسنن، وهي الحكمة، وجعلنا منهم الملوك، ومع هذا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ أي بهذا الإيتاء، وهذا الإنعام، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أي كفر به، وأعرض عنه، وسعى في صد الناس عنه، وهو منهم، ومن جنسهم، أي من بني إسرائيل. فقد اختلفوا عليهم، فكيف بك يا محمد، ولست من بني إسرائيل؟ وقال مجاهد: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ أي بمحمد ﷺ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ فالكفرة منهم أشد تكذيبًا لك، وأبعد عما جئتهم به من الهدى والحق المبين، ولهذا قال متوعدا لهم: وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا أي: وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم، ومخالفتهم كتب الله ورسله.
الشيخ: وهذا ليس خاصًا به بل هو تحريم للجميع، فإن الإنسان من طبعه البخل، والشح، ولو كانت الأمور بيده خزائن الله بيده لقتر وبخل وشح، ولكن الله جل وعلا هو ....... بعباده، وينفق سبحانه، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، وهو الحكيم العليم ، وليس الأمر بأيديهم، ولا بأيدي اليهود، ولا بأيدي غيرهم من الكفرة، ولا بيد المجوس، ولا بيد غيرهم، ولكن بيد الله ، هو المتصرف في عباده كيف يشاء، ولا يستغرب أن يكفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام، فقد كفر من قبلهم بالأنبياء الماضين كفر بإبراهيم والأنبياء الذين من بعده، وكفر قوم نوح بنوح، وقوم هود بهود، وقوم صالح بصالح، وقوم شعيب بشعيب، وقوم لوط بلوط، فليس هذا بمستغرب وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، ولما قص الله قصص من بعث من الأنبياء في سورة الشعراء قال بعد كل قصة: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:8-9] عزيز الجناب لا ينال، ولا يضر ، بل هو المالك لكل شيء، والقادر على كل شيء ، وهو الرحيم بعباده، يهدي من يشاء لقبول الحق، ويضل من يشاء لحكمة بالغة، وأسباب ذلك إعراضهم، وغفلتهم، ونسيانهم نعم الله، وإنكاره هوى نفسه.
فاليهود يعرفون أن محمدًا حق، وأنه رسول الله، يعني علماءهم كفروا بذلك، وأنكروا وكتموا الحق، إيثارًا للعاجل عن الآجل، ورغبة في مطامعهم، ومآكلهم، ونقل الأمر لغيرهم، وحسدًا لمحمد ﷺ والعرب أن يكون فيهم نبي، فإذا أظهر دينه، وأعلى كلمته ضر ذلك اليهود، وأشباههم من الكفرة، فلا ينبغي لعاقل أن يغتر بهؤلاء، أو يتأثر بهؤلاء الضالين المضلين، بل الواجب على من عرف الحق أن ينقاد له، وأن يلتزم به، ولو كان الحق مع قومه، أو مع غير قومه، الحق فوق الجميع، الحق أحق بالاتباع، ومتى ظهر وجهه وقام دليله وجب على من عرف ذلك الأخذ به، والاستقامة عليه، وإن خالف آباءه وأجداده، وأهل بلاده، وإن أغضب بذلك أقوامًا كثيرة، فإن الحق هو دين الله في الأرض، وهو الأحق بالاتباع، وإن ...... عنك، ولا أصحاب الهوى إلا لموافقة أهوائهم، وما هم عليه وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [البقرة:120]، فالعاقل والحازم الطالب للنجاة هو الذي يطلب الحق بدليله، ويقبله ممن جاء به، ويأخذه أينما وجده، وما يجعل دينه تبعًا .......، ولا تبع آل فلان، ولكنه يتبع الدليل، ويعظم أمر الله، وينقاد له، ويتبع أهل الحق؛ وإن كانوا بعيدين عنه، ويدع الباطل؛ ولو كان مع أهله وقومه، فالحق فوق الجميع، وأولى بالاتباع من اتباعك لأهل بلدك، أو لآبائك، وأسلافك، أو لصديقك، أو لغير ذلك.
 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ۝ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [النساء:56، 57].
يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته، وصد عن رسله، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا الآية، أي ندخلهم نارًا دخولًا يحيط بجميع أجرامهم، وأجزائهم، ثم أخبر عن دوام عقوبتهم، ونكالهم، فقال: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ.
الشيخ: ويحيط بجميع أجزائهم، وأجرامهم ....... بها، وتكون النار من فوقه، ومن تحته لمن كفر بالله، وكتب له الشقاء، قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ ومِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41] المهاد ما تحتك، والغواش اللحف التي فوقهم من النار، نعوذ بالله، والمعنى أنهم يتقلبون في النار، النار فوقهم وتحتهم وعن إيمانهم وعن شمائلهم، فهم في النار يتقلبون أينما كانوا، بخلاف العصاة من الموحدين فإنها لا تغمرهم، بل منهم من تأخذه النار إلى كعبه إلى ركبته إلى حقوه إلى ترقوته، وهكذا العرق، لكن لا يصلاها إلا الأشقى، ومن ذلك قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا [النساء:56] يعني سوف... دخولاً يغمرهم، نسأل الله العافية.
 قال الأعمش عن ابن عمر: إذا احترقت جلودهم بدلوا جلودًا غيرها بيضاء أمثال القراطيس، رواه ابن أبي حاتم، وقال يحيى بن يزيد الحضرمي أنه بلغه في الآية، قال: يجعل للكافر مائة جلد، بين كل جلدين لون من العذاب، ورواه ابن أبي حاتم.الشيخ: وهذا يحتاج إلى دليل، فالرب جل وعلا يقول: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا [النساء:56]؛ لأنها هي التي عصت، وهي التي كفرت، وهم متلبسون بها، كما أنها تبدل لهم هذه الجلود كلما نضجت بدلت لهم جلود لا على أساس تلك الجلود يعود هذا النضيج جديدا جديدًا على أساس الجلد الأول، نسأل الله العافية.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا حسين الجعفي عن زائدة، عن هشام، عن الحسن قوله: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ الآية، قال: تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة. قال حسين: وزاد فيه فضيل عن هشام عن الحسن كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ كلما أنضجتهم فأكلت لحومهم قيل لهم عودوا فعادوا. وقال أيضا: ذكر عن هشام بن عمار، حدثنا سعيد بن يحيى- يعني سعداني- حدثنا نافع مولى يوسف السلمي البصري، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قرأ رجل عند عمر هذه الآية كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا فقال عمر: أعدها علي، فأعادها، فقال معاذ بن جبل: عندي تفسيرها تبدل في ساعة مائة مرة. فقال عمر: هكذا سمعت رسول الله ﷺ. وقد رواه ابن مردويه عن محمد بن أحمد بن إبراهيم، عن عبدان بن محمد المروزي، عن هشام بن عمار به. ورواه من وجه آخر بلفظ آخر، فقال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن عمران، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا نافع أبو هرمز، حدثنا نافع، عن ابن عمر، قال: تلا رجل عند عمر هذه الآية: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ الآية، قال: فقال عمر: أعدها علي، وثم كعب، فقال: أنا عندي تفسير هذه الآية قرأتها قبل الإسلام قال: فقال: هاتها يا كعب فإن جئت بها كما سمعت من رسول الله ﷺ صدقناك، وإلا لم ننظر إليها، فقال: إني قرأتها قبل الإسلام: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة. فقال عمر: هكذا سمعت من رسول الله ﷺ. وقال الربيع بن أنس: مكتوب في الكتاب الأول: أن جلد أحدهم أربعون ذراعا، وسنه سبعون ذراعًا، وبطنه لو وضع فيه جبل لوسعه، فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلودا غيرها.
وقد ورد في الحديث ما هو أبلغ من هذا، قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا أبو يحيى الطويل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي ﷺ قال: يعظم أهل النار في النار حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام، وإن غلظ جلده سبعون ذرعًا، وإن ضرسه مثل أحد تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقيل المراد بقوله: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ أي سرابيلهم، حكاه ابن جرير، وهو ضعيف لأنه خلاف الظاهر.
وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [النساء:57].
هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها، ومحالها، وأرجائها، حيث شاءوا، وأين أرادوا، وهم خالدون فيها أبدا لا يحولون، ولا يزولون، ولا يبغون عنها حولا.
وقوله: لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [النساء:57] أي من الحيض، والنفاس، والأذى، والأخلاق الرذيلة، والصفات الناقصة، كما قال ابن عباس: مطهرة من الأقذار، والأذى. وكذا قال عطاء، والحسن، والضحاك، والنخعي، وأبو صالح، وعطية، والسدي. وقال مجاهد: مطهرة من البول، والحيض، والنخام، والبزاق، والمني، والولد. وقال قتادة: مطهرة من الأذى، والمآثم، ولا حيض، ولا كلف.
وقوله: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [النساء:57] أي ظلًا عميقًا كثيرًا غزيرًا طيبًا أنيقًا. قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبدالرحمن، وحدثنا ابن المثنى، حدثنا ابن جعفر، قالا: حدثنا شعبة، قال: سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ، قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها؛ شجرة الخلد.
الطالب: إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة الفزاري الإمام أبو إسحاق، ثقة حافظ، له تصانيف، من الثامنة، مات سنة خمس وثمانين، وقيل بعدها.