38 من حديث (كنا نعزل على عهد رسول اللَّه ﷺ والقرآن ينزل)

بَابُ الصَّدَاقِ

1037- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1038- وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ: كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لِأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا. قَالَتْ: أَتَدْرِي مَا النَّشُّ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ. فَتِلْكَ خَمْسُمِئَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِأَزْوَاجِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1039- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَعْطِهَا شَيْئًا، قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ، قَالَ: فَأَيْنَ دِرْعُكَ الحُطَمِيَّةُ؟ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

1040- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ عَلَى صَدَاقٍ، أَوْ حِبَاءٍ، أَوْ عِدَةٍ، قَبْلَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ فَهُوَ لَهَا، وَمَا كَانَ بَعْدَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ فَهُوَ لِمَنْ أُعْطِيَهُ، وَأَحَقُّ مَا أُكْرِمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ ابْنَتُهُ، أَوْ أُخْتُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ.

1041- وَعَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ : أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ. فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ فَقَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ -امْرَأَةٍ مِنَّا- مِثْلَ مَا قَضَيْتَ، فَفَرِحَ بِهَا ابْنُ مَسْعُودٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْجَمَاعَةُ.

الشيخ: هذا الباب في الصَّداق، والصداق: هو ما يُدفع للمرأة في مقابل استمتاع الرجل بها، وقضاء وطره منها، وما يتبع ذلك، شرع الله جلَّ وعلا أن يُدفع للمرأة الصَّداق لما في ذلك من تسهيل النكاح وتيسير حصوله؛ ولما تبذله المرأةُ من نفسها للزوج: من كونها سلعةً له، وما تبذله من خدمةٍ وغير ذلك.

فمن رحمة الله ومن إحسانه أن شرع أن يُبذل لها شيء من المال ليتسنَّى تسهيل الزواج؛ ولتُقابل على ما تبذله من منافع وخدمةٍ وتمكينٍ من قضاء الوطر، والتعاون على إيجاد النَّسل وتكثير الأمة، قال الله جلَّ وعلا: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ [النساء:24]، وقال: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4]، فالمرأة تُعطى المال.

وقد أجمع المسلمون على أنه لا بدَّ من صداقٍ، فإن سُمي وإلا وجب مهر المثل، كما يأتي في حديث ابن مسعودٍ الآتي، وليس المرأة هي التي تدفع، بل الرجل هو الذي يدفع.

وبهذا يُعلم بأن ما يقع في بعض الدول والشُّعوب من عكس ما شرعه الله أنه من انحراف الفِطَر، وفساد العادات، والصواب أنه لا بدَّ ..... مكلفة بالصَّداق، فهذا خلاف ما شرعه الله، وخلاف ما أجمع عليه المسلمون.

والمال الذي يُبذل ليس له حدٌّ: لا في الكثرة، ولا في القلة على الصحيح، وذهب بعضهم إلى أنَّ أقله عشرة دراهم، ويأتي ما في هذا من حديث عليٍّ، وهو ضعيف.

والصواب الذي عليه جمهورُ أهل العلم أنه لا حدَّ له من جهة القلة، كما أنه لا حدَّ له من جهة الكثرة، كما قال تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [النساء:20]، وهو المال الكثير، لكن لا ينبغي للمؤمنين التنافس والتفاخر والاستكثار من هذه الأشياء؛ لما فيها من تقليل النكاح وفساد الأمة، بل ينبغي للمؤمنين التَّعاون في تسهيل المهر وتيسيره، وتقليل مؤونته؛ حتى لا يتعطل الشبابُ من الرجال والنساء، فإذا تنافس الناسُ في المهور وفيما يتبع ذلك من الولائم صار في هذا فساد كبير، وتعطيل لهذا الأمر المشروع، أو تقليل له؛ ولهذا يأتي في حديث عقبة بن عامر: خير الصَّداق أيسره، وفي حديث عائشة الآتي ما يدل على أنهم كانوا لا يُنافسون في هذا، فكان الصَّداق يُعتنى فيه بالتَّسهيل والتَّيسير، ولما تنافس الناسُ وتوسَّعوا في هذا حصل به فساد كبير، وتعطيل للنساء والرجال، وتقليل للنكاح.

فينبغي لأعيان الأمة من الأمراء والعلماء والأعيان أن يتساعدوا ويتعاونوا في تقليل هذا الأمر وتيسيره، وألا يُنافسوا فيه، وأن يبدؤوا بأنفسهم؛ حتى يتأسَّى بهم في تخفيف المهور، وتخفيف الولائم وتقليلها؛ توسعةً للناس، وحثًّا لهم على الاستكثار من النكاح، وعدم تعطيل الشباب والفتيات، وهذا أمر محسوس واقع، كلما ارتفعت المهورُ في جهةٍ من الجهات، وفي قبيلةٍ من القبائل، أو في بلدٍ من البلدان؛ تعطل شبابها، وتعطل نساؤها، وكلما تيسرت الأمورُ في قبيلةٍ، أو في بلدٍ؛ كثر فيها النكاح، وكثرت فيها عصمة الفروج، والبُعد عن أسباب الفواحش.

الحديث الأول حديث أنسٍ : أن النبي ﷺ أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها.

هذا يدل على أنه لا بأس أن يتزوج الرجلُ الشريف العظيم الجاريةَ المملوكة: يعتقها، ويجعل عتقها صداقها، ولا غضاضةَ في هذا، سواء كانت أعجميةً أو عربيةً، وهذه أعجمية، صفية من بني إسرائيل، المعروف عنها أنها من سبط هارون عليه السلام، كانت عند ابن أبي الحقيق، ثم لما قُتل وفتح الله خيبر اصطفاها النبيُّ ﷺ لنفسه.

المقصود أن عتق المرأة المملوكة، وجعل عتقها صداقها؛ أمر معلوم، وأنه لا حرجَ فيه؛ لكونه فعله النبيُّ ﷺ، وهذا هو الذي قاله جمهورُ أهل العلم، وهو الصواب: أنَّ هذا أمر لا بأس به، أن يعتقها، سواء كانت ملكًا له بالوراثة، أو بالسبي، أو بالشراء، أو بأي نوعٍ من أنواع التَّملك الشَّرعي، لا بأس أن يعتقها، ويجعل عتقها صداقها، سواء كانت أعجميةً أو عربيةً، سوداء الخلقة، أو بيضاء الخلقة، أو على أي شكلٍ كانت، لا حرج في ذلك.

وفي هذا مصالح: فإنها قد تكون حسنة الأخلاق، حسنة الصورة، تعفّه وتُغنيه عن غيرها، فبقاؤها زوجةً خير لها وله من بقائها مملوكةً، قد تُستذلّ، ولا يحصل بها الاستمتاع الكامل.

والحديث الثاني: حديث أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف الزهري، أحد الأئمة والثقات، عن عائشة رضي الله عنها: أنها أخبرته عن صداق أزواج النبيِّ ﷺ، وأنه خمسمئة درهم، اثنتا عشرة أوقية ونشًّا، وهو نصف الأوقية، والأوقية: أربعون درهمًا، فصار جميعُ المهر خمسمئة درهم.

هذا يدل على التَّخفيف والتَّيسير، النبي ﷺ ما كان يُبالغ في المهور، ولا يتكلف، بل يرضى بالقليل ..... في أزواجه، وقد جاء في بعض الروايات أنه كان مهر بناته أربعمئة، أقلّ من ذلك.

المقصود أنَّ هذا يدل على التَّخفيف والتيسير، وأن الأولى في المهور عدم التَّكلف، وعدم المغالاة، هذا هو المشروع، ولا مانع من تدخل ولاة الأمور إذا اقتضت المصلحةُ ذلك؛ لمنع الناس من الملابسات والتَّكلف الزائد الذي يضرّ بالمجتمع، وقد يُفضي إلى ارتكاب الفواحش وفساد المجتمع.

وهذا الذي قالته عائشةُ وصف أغلبي، وإلا فقد تزوج صفيةَ على غير خمسمئة درهم، بل على عتقها، قد تكون قيمتها أكثر من خمسمئة درهم لو بِيعت، وقد تزوج أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب بأكثر من هذا؛ لأنه أمهرها له النَّجاشي، زوجها في الحبشة بواسطة ..... الضمري، وأصدقها النَّجاشي أربعة آلاف، وفي روايةٍ: أربعمئة دينار، ولا منافاة .....، فيكون أربعة آلاف، المقصود أنه أصدقها أكثر مما أصدق النبيُّ ﷺ زوجاته، وهذا يدل على الجواز، وأنه لا حرجَ في ذلك، ولكن ليس من فعل النبيِّ ﷺ، بل من فعل النَّجاشي.

والحديث الثالث: حديث عليٍّ في قصة زواجه من فاطمة: أن النبي قال: أعطها شيئًا.

هذا يدل على أنَّ النكاح يكون فيه مهر ولو قليل، ويأتيكم في حديث سهلٍ: التمس ولو خاتمًا من حديدٍ، والخاتم من الحديد قد لا يُساوي درهمًا أو درهمين، فدلَّ ذلك على أنه يُعطيها مالًا ولو قليلًا، وهذا هو ظاهر العموم في قوله سبحانه: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ [النساء:24]، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4]، فهو يدل على شيءٍ من المال، سواء كان قليلًا أو كثيرًا، والمنافع تقوم مقام المال عند أهل العلم، المنافع تقوم مقامه؛ لأنها مال في الحقيقة، فلو أصدقها أن يُعلِّمها كذا وكذا من القرآن صحَّ -كما يأتي إن شاء الله- أو أصدقها أن يُعلِّمها صنعةً من الصناعات: كصناعة السلاح، وصناعة الأواني، وصناعة الساعات، إلى غير ذلك.

وفي هذا أنَّ الرسول ﷺ قال لعليٍّ: أعطها شيئًا، قال: ما عندي شيء، قال: فأين درعك الحطمية؟ والدرع معروف: ما يُلبس في الحرب ليقي لابسَه السلاح.

والحُطَمية -بالضم وفتح الطاء- نسبة إلى بني حُطمة من ..... يقال لهم: الحطمة، أو بنو الحطمة، وليس في النصوص التي وقفنا عليها ما يدل على أنه سلَّم لها الدرع، أو سلَّم لها كذا وكذا، لكن المقصود أنه يدل على أنه يُؤمر بالمال، وأنه لا بدَّ من المال.

وفي قصة الشَّارفين اللذين أناخهما حول بيت الأنصار ليأتي بها ليبيعها ويستعين بها على زواج فاطمة ما يدل على أنَّ هناك شيئًا من المال، وشيئًا يُبذل.

والحديث لا بأس بإسناده، والمعنى كما تقدم أمر مُجمع عليه في وجوب المهر ولو قليلًا، وأنها إذا كانت ..... ولم يُفرض لها يجب لها مهرُ المثل، وكذلك إذا طلَّقها ولم يفرض لها صداقًا، مُتعت كما نصَّ عليه كتابُ الله .

فالحاصل أنه لا بدَّ من مالٍ ولو قليل: إما مسمى، أو مهر المثل، إذا مات ولم يفرض لها مهرًا، أو تم العقدُ ولم يفرض لها مهرًا؛ يُفرض لها مهر المثل، فإن طلَّقها ولم يدخل بها صار لها متعة، وهو ما تيسر من المال: من جاريةٍ، أو متاعٍ آخر من لباسٍ أو من قوتٍ.

والحديث الرابع: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: أيما امرأةٍ نكحت.

يجوز "نُكحت" يعني: تُزوجت، ويجوز "نَكحت" هي من حيث المعنى، بفتح النون والضم، إلا أن تأتي الروايةُ في أحدهما.

على صداقٍ، أو حباءٍ، أو عدةٍ، فما كان قبل عصمة النِّكاح فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أُعطيه، وأحقّ ما أكرم عليه الرجلُ ابنته وأخته، الحديث رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، كما قال المؤلفُ، فقد رواه أحمد وأبو داود من طريقٍ جيدةٍ عن ابن جُريج، عن عمرو، لكن لم يُصرح ابن جُريج بالسماع، وهو مدلس، بل قال: عن عمر. وفي رواية أحمد قال: قال عمرو. ولكن رواه النَّسائي وصرَّح بالسماع، حديث ابن جريج قال: حدَّثني عمرو بن شعيب بسندٍ جيدٍ. فزال ما يُظنّ من التَّدليس.

ولنعلم بهذا أنَّ قول الشارح أنه ضعيف ليس بجيدٍ، الصواب أنه لا بأس بإسناده؛ لأنَّ ابن جريج صرَّح بالسماع، فزال ما يحذر من التَّدليس، وهو دليل على أنَّ ما يكون من المال باسم الولي، أو باسم فلان أو فلان في النكاح فهو للمرأة، فيجب أن يكون لها؛ لأنه استحلَّ به فرجها، إذا كان هذا قبل عصمة النكاح، وليس لهم أن يأخذوه، فإذا تزوجها على أنَّ لها كذا، ولأبيها كذا، ولأخيها كذا، ولأمها كذا، فالمال كله لها، إلا أن تسمح بذلك، أما إن كان بعد عصمة النكاح بأن تمَّ الزواجُ، تم العقد، ثم أعطى أباها أو أخاها، أو أعطى أمها، أو غير ذلك فلا بأس، هذه هدية من الله، ولا بأس بذلك لمن أعطاها.

وبيَّن ﷺ أنَّ أحقَّ ما أكرم عليه الرجلُ ابنته وأخته، إذا كان لا بدَّ من كرامةٍ فأحقّهم بهذا الآباء والإخوة؛ لما يقومون به من كلفةٍ وعنايةٍ بالزواج والإنفاق فيه غالبًا، فهم أولى مَن يُكرم ويُساعد؛ لما قد يحصل لهم من الكُلفة في الزواج.

والصَّداق: هو مهرها، والحباء: ما يحبوها ويُعطيها إياه علاوةً على الصَّداق، أو عدة يعدها به.

وقد قال ﷺ: إنَّ أحقَّ الشروط أن يستوفى به ما استحللتُم به الفروج رواه الشيخان.

في حديث عقبة بن عامر قال عليه الصلاة والسلام: المسلمون على شروطهم، وقال عمر: ..... الحقوق عند الشروط، فما شُرط لها فهو لها، وما شُرط لغيرها بعد النكاح أو ضُرب له بعد النكاح فذلك لصاحبه. هذا هو أحسن ما قيل، وأولى ما قيل، وأصحّ ما قيل في هذا الحديث.

وحديث علقمة عن ابن مسعودٍ في قصة ..... التي نكحت على غير مُسمّى، ثم مات الزوجُ، فإنَّ ابن مسعودٍ قضى فيها بأنَّ لها مهر نسائها، لما سُئل عن امرأةٍ تزوجت ولم يُسمَّ لها مهر، ومات زوجها قبل الدخول بها، قال: لها مهر نسائها، لا وكس، ولا شطط.

الوكس -بالتَّسكين- يعني: لا نقصَ، ولا شطط: لا زيادة، وعليها العدة، ولها الميراث، عليها العدة؛ لعموم الآية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، فإنها عامَّة للمدخول بها وغير المدخول بها، وعموم الأحاديث: لا تحدّ المرأةُ على ميتٍ إلا على زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشرًا، ما قال: زوج دخل بها، فدلَّ ذلك على العموم كما قال أهلُ العلم، ولها المهر، وأن الموتَ بمنزلة الدُّخول، الذي مات عنها كأنه دخلَ بها، فلها المهر كاملًا.

ولعل السرّ في ذلك والله أعلم لجبر المصيبة؛ لأنَّ موته قبل الدُّخول بها فيه مصيبة كبيرة عليها، وتفويت لما هي متشوقة له، وراجية له من الخير وراءه، فكونها فُوجئت بالموت، وأُصيبت بالموت، لا شكَّ أنه شيء عظيم، فمن رحمة الله أن جبرها، وجعل لها المهر كاملًا، بخلاف الطَّلاق؛ فإنه قد انصرف عنها وعافها، فالمصيبة أسهل، فجعل لها النصف فقط، والنصف له، وأما الموت فليس باختياره، والمصيبة عليها كبيرة، فجعل الله لها المهر كاملًا، وعليها العدة كاملةً، ولها الميراث كسائر الزوجات المدخول بهن.

هكذا قضى ابن مسعودٍ اجتهادًا منه، فروى معقل بن سنان الأشجعي أنَّ النبي ﷺ قضى بمثل هذا القضاء، ففرح ابن مسعودٍ بذلك؛ حيث وافق قضاؤه السنة، ولا شكَّ أنَّ هذا مما يُفرح به: كون الحاكم أو المفتي يجتهد ويتحرى ثم يجد السنةَ موافقةً لما أفتى به أو قضى به، لا شكَّ أن المؤمن يفرح بذلك ويحمد الله الذي وفَّقه للصواب.

وحديث معقل لا بأس بإسناده، واختلاف الرواة في معقل بن سنان، أو معقل بن يسار، فهو لا يضرّ الحديث؛ الصحابي لا يضرّ اختلاف عينه، ولا تضرّ جهالته، فالحديث حُجَّة قائمة على أنَّ المرأة التي مات عنها زوجُها قبل الدخول بها ولم يفرض لها صداقًا أنها تُعطى مهر نسائها، وأنَّ عليها العدة ولها الميراث؛ عملًا بهذا الحديث الصحيح؛ وعملًا بما قاله عبدالله ، فوافق السنة، والعمدة في هذا السنة، وتأيد ذلك باجتهاد هذا العالم الكبير، وما فيه جبر لما قد يتوهم بعض الناس من الضَّعف في الرواية عند اختلاف ألفاظ الحديث في شأن الصَّحابي، فإنَّ هذا عند أهل التَّحقيق وعند أهل العلم بالأصول لا يضرّ الحديث شيئًا، والله أعلم.

س: إذا تغالى الناسُ في المهور وتواطؤوا على هذا، هل يتدخل وليُّ الأمر؟

ج: الذي يظهر أنَّ له التَّدخل في هذا، قد درس هيئة كبار العلماء في عهدٍ قريبٍ الموضوع من جميع جوانبه، ورأوا أنَّ له التَّدخل في هذا: بأن يُلزم بشيءٍ معلومٍ ليس فيه إجحافٌ، وليس فيه ما يضرّ المرأة، يكون وسطًا بحيث يحصل به المقصود من دون مضرةٍ؛ لتخفيف الأزمة، وتيسير النكاح، ومنع الناس من المفاخرات والغلو الذي يضرهم.

وقد كنا توقفنا في هذا كثيرًا من سنوات مضت، وتوقف المجلسُ في ذلك أيضًا، ثم رأى أنَّ هذا لا مانع منه إن شاء الله، من باب منع الناس مما حرَّم الله من المنافسات التي لا وجهَ لها، والمفاخرات التي لا وجهَ لها، وهكذا في الولائم له أن يمنع من ذلك، وأن يُقرر شيئًا معلومًا إذا اقتضت المصلحةُ ذلك، ورأى الناسَ لم يرتدعوا إلا بهذا.

س: .............؟

ج: من باب المصالح العامَّة، نعم، ودفع الضَّرر.

س: .............؟

ج: ما فيها تحديد.

س: .............؟

ج: عمر أراد المنعَ من ذلك، وأفتى بهذا، والناس يسمعونه، ولم يُنكروا عليه سوى ما جاء في بعض الروايات من إنكار المرأة، وفي صحة الرواية نظر من إنكار المرأة، ولكن سكوت الصَّحابة وعدم إنكارهم على عمر مما يُحتج به في المقام إذا اقتضت المصلحةُ ذلك.

س: ...............؟

ج: نعم، من باب الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، ورعاية المصالح العامَّة، ودفع الضَّرر العام، مثلما يُلزمون إذا احتكروا الأموالَ وتساهلوا في هذا بأن يبيعوا بالسعر المناسِب.

س: ..............؟

ج: يظهر له أثر بالنسبة لمن قد يستحي ويرى أنه ما يستطيع أن يتساهل، فإذا رأى التَّحديد من ولاة الأمور نشط في الزواج والرضا بالقليل، إلا [أنهم] قد يتواطؤون في الباطن، قد يتواطؤون بأشياء زائدة.

س: ..............؟

ج: الذي يظهر أنه من مهر الزوجة، ما هو من مال الولي .....، لكن لا يتكلف، فقط يكون المعتادُ الذي لا يُخالف الشرع.

س: ...............؟

ج: من مال الزوجة، وإلا من الزوج، الزوج يتبرع بذلك، أو الولي يتبرع بذلك، وإذا ما تبرع هذا ولا هذا يكون من .....

س: ...............؟

ج: هو الظاهر؛ لأنَّ هذا عرف، الشرط العُرفي كالنُّطقي.

س: .............؟

ج: كذلك لا بأس به، قد أفتى هيئةُ كبار العلماء بذلك، وكتبنا على هذا كتابات عدة لقبائل كثيرةٍ اصطلحوا على أشياء أمضت الهيئة اصطلاحهم؛ لأنَّ فيه خيرًا للجميع.

س: ..............؟

ج: على ظاهر الحديث، إلا أن تسمح، أو عدة.

س: ..............؟

ج: يعني إذا حصلت المخالعةُ الظاهر أنه يرجع؛ لأنه إنما أعطاها إياها من أجل النكاح، من أجل ترغيبها في النكاح.

س: ...............؟

ج: المقصود حيث دعت الحاجةُ إلى أن يرد عليه مهره، إلا أن يسمح، وهناك حديث ثابت: اقبل الحديقةَ وطلِّقها تطليقة.

س: ..............؟

ج: الوالد له أن يأخذ من مال أولاده: من الصَّداق، وغير الصَّداق، لا يضرّها، ولا يضرّ أولاده الآخرين، له أن يأخذ: أنت ومالك لأبيك، وإنَّ أولادكم من كسبكم، إنَّ أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإنَّ أولادكم من كسبكم هذا خاصٌّ بالأب.

1042- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ أَعْطَى فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ سَوِيقًا، أَوْ تَمْرًا، فَقَدِ اسْتَحَلَّ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَشَارَ إِلَى تَرْجِيحِ وَقْفِهِ.

الشيخ: ..............

1043- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَجَازَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ عَلَى نَعْلَيْنِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَخُولِفَ فِي ذَلِكَ.

1044- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: زَوَّجَ النَّبِيُّ ﷺ رَجُلًا امْرَأَةً بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ. أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ.

وَهُوَ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ.

1045- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "لَا يَكُونُ الْمَهْرُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَوْقُوفًا، وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ.

1046- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: خَيْرُ الصَّدَاقِ أَيْسَرُهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

1047- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ عَمْرَةَ بِنْتَ الْجَوْنِ تَعَوَّذَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ -تَعْنِي: لَمَّا تَزَوَّجَهَا- فَقَالَ: لَقَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ، فَطَلَّقَهَا، وَأَمَرَ أُسَامَةَ فَمَتَّعَهَا بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَفِي إِسْنَادِهِ رَاوٍ مَتْرُوكٌ.

1048- وَأَصْلُ الْقِصَّةِ فِي "الصَّحِيحِ" مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ.

الشيخ: هذه الأحاديث الستة كالتي قبلها، كلها تتعلق بالمهر، وتقدم أنَّ المهر -على الصَّحيح الذي عليه جمهور أهل العلم- لا يتحدد من جهة القلة، كما لا يتحدد من جهة الكثرة إجماعًا، فما دُفع فيه أجزأ مما يُتمول ويُنتفع به: قليل أو كثير، إذا تراضيا عليه.

والمؤلف رحمه الله ذكر هذه النُّصوص ليدل على هذا الأصل، ويُبين هذا الأصل، ويُشير إلى الخلاف في أقله.

حديث جابرٍ يدل على أنَّ المهر يجوز أن يكون طعامًا: مَن أعطى في صداق امرأةٍ سويقًا أو تمرًا فقد استحلَّ، وإن كان الصحيحُ وقفه، وفيه مقال أيضًا مع الوقف، لكن الأصل هو هذا، الأصل أنَّ مَن تراضى مع المرأة على قليلٍ أو كثيرٍ من طعامٍ أو نقودٍ أو ملابس أو منافع لها قيمة؛ فإنَّ النكاح صحيح، وما وافق الأصول وإن كان فيه ضعفٌ يُستشهد به.

كذلك حديث عبدالله بن عامر بن ربيعة: أن النبيَّ ﷺ أجاز نكاح امرأةٍ على نعلين. رواه الترمذي وصحَّحه.

وخُولف في ذلك الترمذي رحمه الله، رواه عن عبدالله بن عامر من طريق عاصم بن عبيدالله العمري، عن عبدالله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه: أنَّ امرأةً من بني فزارة أتت النبيَّ ﷺ، وذكرت أنها تزوجت على نعلين، فقال لها: رضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ فقالت: نعم، قال: فأجازه.

قال فيه الترمذي رحمه الله: حسن صحيح. وخالفه الأئمةُ في هذا وضعَّفوا الحديثَ؛ لأنَّ عاصم بن عبيدالله العمري ضعيف عند أهل العلم من جهة حفظه، كما في "التقريب" و"التهذيب" وغيرهما، وكان الترمذيُّ رحمه الله حسن الرأي فيه، ويُصحح له، كما كان حسن الرأي في علي بن زيد بن جدعان، ويُصحح له، ولكن الأئمة خالفوه في الشَّخصين جميعًا.

وفي هذا المتن من النَّكارة قوله: من نفسك ومالك؛ فإنَّ المال ليس للزوج تعلق به، مالها لها، وإنما هو رضا من نفسها، ومَن احتجَّ به على أنَّ له تصرفًا في مالها، أو أنها ممنوعة من التَّصرف في مالها إلا بإذنه فقد أبعد النُّجعة لأمرين:

أحدهما: ضعف الحديث.

والثاني: مخالفته للأدلة الصَّحيحة.

فلو صحَّ سنده لكان شاذًّا لا يدل على المقصود، فإنَّ النساء المرشدات لهن التَّصرف في أموالهن كالرجال؛ ولذلك النبيُّ ﷺ يقبل منهن الصَّدقات، وكان يمر عليهن في صلاة العيد ويحثُّهن على الصَّدقة ويقول: تصدقن، ولم يقل لهن يومًا ما: لا تصدقن إلا بإذن أزواجكن.

وأعتقت ميمونةُ جاريتها ولم تستأذنه في ذلك، ولم يقل لها شيئًا، لكنه قال: لو أنك أعطيتها أخوالك لكان أعظم لأجرك رواه مسلم.

المقصود أنَّ الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة دالَّة على أنَّ المرأة تملك أموالها، وتتصرف في أموالها في البيع والشراء والهبة والصَّدقة إذا كانت عاقلةً رشيدةً.

وفي الحديث هذا لو صحَّ دلالة على أنه لا بأس بالزواج على نعلين، إذا أعطاها مهرها نعلين، خُفَّين، أو أشباه ذلك؛ لأنه شيء له قيمة.

وعبدالله بن عامر هذا يُقال له: العنزي، بإسكان النون، نسبة إلى عنز، وهناك عنزي بالنسبة إلى عنزة، وهما قبيلتان: قبيلة عنز، وقبيلة عنزة، عنزة معروفون، وعنز كذلك جدهم العنزي، بإسكان النون، يُنسبون إليه يقال: عنزي، والذي يُنسب إلى عنزة يُقال: عنزي .....، عنز وعنزة طائفتان، قبيلتان: عنز يُنسب إلى عنزي، يُنسب إليه عبدالله بن عامر بن ربيعة، وعنزة يُنسب إليهم جمٌّ غفير من العرب من بني ربيعة .....، وعامر بن ربيعة صحابي جليل، وابنه عبدالله صحابي صغير، وُلد في حياة النبي ﷺ، وعدَّه كثير من الناس في التَّابعين، فإن ثبتت له رؤيا فهو صحابي، وإلا فهو تابعي.

والحديث الثالث حديث سهل: أنَّ النبي ﷺ زوَّج امرأةً بخاتمٍ من حديدٍ. هذا طرفٌ من حديث سهل بن سعد المعروف الطويل في "الصحيحين"، حيث قال للرجل: التمس ولو خاتمًا من حديدٍ.

معنى "زوَّج" يعني: أراد تزويجه، ولكن لم يتم ذلك على الخاتم، وإنما تمَّ على تعليم القرآن، وهو يدل على أنه لا بأس أن يكون المهر خاتمًا من حديدٍ، أو من فضةٍ، أو من ذهبٍ؛ لأنه شيء له قيمة، ولا بأس به، ولا بأس أن يكون مهرًا كذلك، لا بأس أن يكون المهرُ منفعةً: تعلم إياها، يُعلمها الزوجُ، فيُعلمها سورةً من القرآن، أو سورًا من القرآن، أو صنعةً من الصناعات: كالحدادة، والنِّجارة، والخرازة، والخياطة، وأشباه ذلك.

كذلك حديث عليٍّ : "لا يكون المهرُ أقلَّ من عشرة دراهم"، وهو حديث ضعيف عند أهل العلم، وقد تعلق به الحنفية، وهو ضعيف لا يُعول عليه، ولا تقوم به الحُجَّة: لا موقوفًا، ولا مرفوعًا، ولم يثبت عن عليٍّ: لا موقوفًا، ولا مرفوعًا؛ ولهذا الصَّواب الذي عليه أهلُ العلم أنه لا حدَّ لأقله كما تقدم في الأحاديث.

وحديث عقبة بن عامر الخامس: يقول ﷺ: خير الصَّداق أيسره، هذا يدل على أنَّ الصَّداق كلما كان أيسر فهو أفضل وأنفع.

ويُروى عن عائشةَ رضي الله عنها، عن النبي ﷺ أنه قال: إنَّ أعظم النساء بركةً أيسرهن مهرًا، المقصود أنَّ البركة في النكاح، ومن بركة المرأة أن تكون ميسرةً في مهرها وكلفتها، والتَّكلف قد يُفضي إلى حزازات في النفوس، وبغضاء في القلوب، وكلما كان الصَّداقُ أيسر والكلف أقلّ كانت النفوسُ أطيب، وكانت العاقبةُ أحسن وأبرك.

والحديث السادس حديث عائشة في عمرة بنت الجون: أنَّ النبي ﷺ تزوَّجها، ولما قالت: أعوذ بالله منك، طلَّقها وقال: الحقي بأهلك.

وهذه الرواية التي فيها أنه أمتعها ضعيفة، ولكن الأصل هو هذا، فإنَّ السنة أو الواجبَ تمتيع مَن لم يُسمَّ لها مهر؛ لقول الله جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ [الأحزاب:49]، وقوله جلَّ وعلا: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:241]، والسنة تمتيع المرأة بما تيسر من المال.

يُروى عن ابن عباسٍ أنه قال : "أعلاها جارية، وأدناها نقود أو كسوة"، فإذا متعها بشيءٍ من المال كان ذلك هو المشروع.

وقد اختلف العلماءُ في ذلك: هل هو واجب أو مُستحب؟

وظاهر الأدلة الوجوب فيمَن لم يُسمَّ لها مهر؛ لأنها تعوض عمَّا لم يُسمَّ لها ببعض الشيء؛ جبرًا لمصيبتها، وإحسانًا إليها، فلا يجمع عليها بين فوات المال وبين فوات النكاح، بل متى فات النكاحُ تُعوض شيئًا من المال مما يسَّر الله للزوج، من غير تحديدٍ.

أما المطلقة التي قد أُعطيت مهرًا فإعطاؤها مستحب أو واجب على الخلاف؛ لعموم قوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:241]، لكن ما لم يُسمَّ لها شيء تمتيعها آكد وأظهر في الوجوب، والأصل في البخاري، حديث عمرة هذا في البخاري: أنها لما أُهديت إليه قالت: أعوذ بالله منك! قال: لقد عذتِ بمعاذٍ، الحقي بأهلك رواه البخاري في "الصحيح"، وقالوا: إنها خُدعت من بعض النساء، جاء في بعض الروايات: أنَّ بعض أزواج النبي ﷺ قلن لها: إنَّكِ لا تحظين عنده حتى تقولي هذا. وأرادت بهذا ألا تبقى عنده وأن يُفارقها، فقد جاء في الحديث الصحيح: مَن استعاذ بالله فأعيذوه، وكان من مكارم أخلاقه ﷺ أن تركها لما عاذت بعظيمٍ وألحقها بأهلها.

والمقام مقام تفصيل، فإنَّ التَّعوذ بالله من الشَّخص أو من العمل الذي يُراد بالشخص محل تفصيلٍ عند أهل العلم؛ فإن كان حقًّا عليه لازمًا له لم يسمح عنه، ولم يعذ؛ لأنه يتعوذ بالله من حقٍّ عليه، والله جلَّ وعلا لا يأذن بهذا، فإذا كان يتعوذ أن يُقام عليه القصاص يقول: أعوذ بالله أن تُقيموا عليَّ القصاص، أو أن تُقيموا عليَّ الحدود، أو أن تأخذوا مني حقَّ فلانٍ. هذا كلام لا يُجاب إليه؛ لأنَّ الله أوجب أخذ الحقوق وإقامة القصاص والحدود، فلا يُلتفت إليه بهذا.

أما إذا كان التَّعوذ بالله من حقٍّ لا يجب عليه ولا يلزمه، فالأفضل أن يُجاب إلى ذلك، ولما أراد عثمانُ ابنَ عمر على القضاء استعاذ بالله أن يوليه ذلك، فعفاه عثمان.

المقصود أنه إذا كان ليس بواجبٍ عليه فالمشروع والأفضل أن يُعفا من ذلك، وأن يُجاب إلى تعوذه، فهذه لما تعوَّذت الرسول ﷺ من كرم أخلاقه ومحبَّته للعفو عفا عنها وألحقها بأهلها، وإلا فالحقّ عليها ألا تُجاب إلى ذلك؛ لأنَّ الحقَّ ليس بيدها، قد تم النكاحُ عليها، والطلاق بيد الزوج، لكن من كرم أخلاقه ومن عظيم إحسانه أن تركها على ظاهر ما قالت، والله أعلم.

س: .............؟

ج: إذا دخل عليها ثبت المهرُ، مهر المثل، لكن إذا طلَّقها من غير مسيسٍ هو محل التَّمتيع المراد هنا، وكذلك إذا مات، الموت بمثابة الدُّخول؛ يلزم مهر المثل، أما إذا طلَّقها من دون مسيسٍ فلها المتعة، يعني من دخولٍ بها ولا خلوة، فلها المثل.

س: ...............؟

ج: إذا كانت ..... وطلَّقها قبل الدخول بها والخلوة بها فلها مثلها؛ للآية الكريمة -آية الأحزاب-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:49].

س: ..............؟

ج: هذا لقول بعض العلماء: يُستحب ذكر المهر في العقد؛ لأنَّ بعض أهل العلم استحبَّ ذكر المال في العقد؛ لأنَّ الله قال: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ [النساء:24]، فيُسمي شيئًا من المال، بعض الناس يستحي أن يذكر المال كله، أو قد اتفق معهم على مالٍ ما يُحب أن يعلمه الناس، فإذا قال: على خمسة، أو على مئة، أو على خمسين، ما في بأس، يكون شيء ثابت في الذمة، وشيء له أهمية، كان الأولون يحطون ريالًا وريالين؛ لأنَّ مهورهم قليلة، كانت مهورهم قليلة لأجل قلة المال.

س: ..............؟

ج: رضوا بأن يكون الشُّهداء على هذا الشيء القليل، وأما الشيء المطلوب فلم يرضيا أن يبيناه للناس.

س: ..............؟

ج: الأمر سهل، الأمر فيه سهل.

س: ...............؟

ج: هذا الأصل نعم ..... على الشيء الذي اتَّفقا عليه.

بَابُ الْوَلِيمَةِ

1049- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى عَلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: فَبَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

1050- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِمُسْلِمٍ: إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْ، عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ.

1051- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ: يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا، وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1052- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيُطْعَمْ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا.

1053- وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ نَحْوُهُ، وَقَالَ: فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ.

1054- وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: طَعَامُ الْوَلِيمَةِ أَوَّلَ يَوْمٍ حَقٌّ، وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّانِي سُنَّةٌ، وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّالِثِ سُمْعَةٌ، وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.

1055- وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ.

الشيخ: هذا الباب في الوليمة، والوليمة ما يُصنع لعرسٍ ونحوه، من الولم، وهو الجمع، كأنها سُميت بذلك لأنها تجمع الناس، أو لأنها تجمع أنواعًا من الطعام، والأظهر الأول، سُميت وليمة لأنها تنشأ عن قصد جمع الناس: من أقارب، أو جيران، أو سفّار، أو غيرهم، وقد يكون لهذا وهذا؛ لأنها قد تجمع صنوفًا من الطعام، وتجمع صنوفًا من الناس.

وهي سنة مُؤكدة، وذهب قومٌ إلى وجوبها في العُرس؛ لأنَّ الرسول ﷺ لم يدعها بما تيسر من الطعام، وليس في ذلك حدٌّ محدود.

والمقصود هنا بيان ما يجب وما يُشرع بالنسبة إلى المسلمين مع صانع الوليمة والدَّاعي إليها، فالوليمة بلا شكٍّ سنة مؤكدة أو واجبة؛ لقول النبي: أولم، في حديث عبدالرحمن بن عوف، ولكن لا يتعين فيها اللحم، بل ما تيسر من لحمٍ أو خبزٍ وإدامٍ أو حيسٍ، كما في وليمة صفية بنت حيي، ما تيسر من طعامٍ يُسمَّى: وليمة.

والقول بوجوبها قول قوي؛ لقول النبيِّ ﷺ في حديث عبدالرحمن بن عوف: أولم؛ ولأنَّ الرسول ما تركها، وهو الأسوة عليه الصلاة والسلام.

في هذا الحديث -حديث عبدالرحمن بن عوف- أنَّ النبي رأى عليه أثر صفرةٍ فقال: مهيم؟ فقال: تزوجتُ امرأةً، قال: على ماذا؟ قال: على وزن نواةٍ من ذهبٍ، قال: بارك الله لك، أولم ولو بشاةٍ.

هذا يدل على شرعية الوليمة، وأن وجود اللحم فيها مشروع مع التيسر، ولو بشاةٍ، فقوله: ولو يُفيد أنه إذا تيسر أكثر من ذلك: كشاتين أو أكثر من غير إسرافٍ ولا مباهاةٍ ولا مُفاخرةٍ، بل لقصد إكرام الإخوان والأحباب والجيران والأقارب، فهو أمر مطلوب، وهذا أصل الوليمة، أصل الوليمة الإكرام للإخوان والأحباب والأقارب والوافدين من الضيوف، ليس القصدُ منها مفاخرةً ولا مباهاةً ولا إسرافًا ولا تبذيرًا، وإنما المقصود منها إظهار السُّرور بما حصل من الزواج، وشكر الله على ما يسَّر ، وإكرام الإخوان شكرًا لله على هذه النعمة.

وهكذا في الولائم الأخرى: وليمة العقيقة، وليمة القدوم من السفر، إلى غير ذلك من الولائم التي يصنعها الناسُ من مناسبات النِّعَم المتجددة، فالمقصود منها شكر الله ، ومع ذلك إكرام الأقارب أو الأحباب أو الجيران أو مجموع الجميع أو الضيوف، فإذا كان فيها لحمٌ كان ذلك أكمل، وأقلّ من ذلك شاة: أولم ولو بشاةٍ، وإذا لم يتيسر ذلك فلا ينبغي التَّكلف، فيُولم بما تيسر من الخبز والإدام المناسب: من التَّمر والسمن والأقط، كما في قصة صفية رضي الله عنها لما أولم عليها عليه الصلاة والسلام، ليس فيها لحم، إنما تمر وسمن وأقط، لما بنى عليها في طريقه بين المدينة وخيبر.

وفي حديث عبدالرحمن هذا الدلالة على أنَّ ما يُصيب الزوج من آثار الصُّفرة أو الزعفران في الزواج أمر لا يضرّ ولا يُكره، ولا بأس عليه فيه، وليس داخلًا في التَّزعفر المنهي عنه، فإنَّ ..... هو المقصود أن يتزعفر كما تتزعفر النساء، نهى عنه النبيُّ ﷺ لئلا يتشبه الرجالُ بالنساء، أما ما قد يعتريه عند اتِّصاله بأهله، أو نومه في فراش أهله، أو ما يحصل من ملامسة المرأة عند اتِّصاله بها مع ما فيها من زعفرانٍ أو ما أشبه ذلك، فهذا مما يُعفا عنه؛ ولهذا لم يقل له النبيُّ شيئًا عليه الصلاة والسلام، وإنما استنكر ذلك، قال: تزوجتُ امرأةً. بيَّن أسباب ذلك، فيه الدلالة على تخفيف المهور والتقليل وعدم التَّوسع، فإنَّ وزن نواةٍ من ذهبٍ شيء قليل، ذكر جمعٌ من أهل العلم أنَّ قيمتها خمسة دراهم، وهي شيء معروف عندهم، يعني: وزنًا معروفًا، وليس المراد النّوء المعروف؛ لأنَّ النوء يختلف، وقيل أنَّ المراد به النّوى، هذا على سبيل التَّسامح، وأنه الشيء القليل، والنوى وإن اختلف فتفاوته ليس بالكبير.

والحاصل من هذا كله أنه شيء معروف عندهم قليل من الذَّهب قدَّمه عبدالرحمن مهرًا للمرأة من الأنصار، كما في الرواية الأخرى: من الأنصار، فدلَّ ذلك على التَّسامح وعدم التَّكلف في المهور ..... توسعوا في المهور، وتوسعوا في الولائم، كما هو الواقع، كما في كثيرٍ من البلدان اليوم، حصل بذلك مضرة عظيمة، وفساد كبير، وتعطيل للرجال والنساء من الزواج؛ فلهذا جاءت السنةُ بما هو الأصلح للجميع؛ ولهذا تقدم: خير الصَّداق أيسره، وتقدم أنَّ مهور نسائه لم تزد على خمسمئة درهمٍ، وهكذا بناته لم تزد على ذلك، بل كانت في الغالب أربعمئةٍ.

المقصود أنَّ التسامح في المهور وفي الولائم هو السنة التي لا ريبَ فيها، وأنه لا ينبغي للناس التَّكلف في مثل هذا، ولا المفاخرة فيه والمنافسة؛ لأنَّ ذلك يضرّ الجميع؛ يضرّ رجالهم ونساءهم.

والحديث الثاني حديث ابن عمر: إذا دُعي أحدُكم إلى وليمةٍ فليُجب متفق عليه. وفي اللفظ الآخر: "عرسًا كان أو نحوه" عند مسلم.

هذا يدل على أنَّ الدعوة مطلوبة، وأنه لا ينبغي للمؤمن أن يتأخَّر عنها، سواء كانت الوليمة عرسًا، أو كانت ولائم أخرى؛ لما في هذا من التَّآلف والتَّعارف والتَّحاب بين الإخوان والجيران والأقارب، فالولائم تجمع الناس للتَّحدث والتَّفاهم والتَّعارف والنَّصائح والتَّواصي بالحقِّ، هذه ولائم أهل الإيمان وأهل الخير، فحضورها فيه فائدة كبيرة، فلا ينبغي التَّأخر؛ ولهذا في الحديث الصحيح ذكر من حقِّ المسلم على أخيه: أن يُجيبه إذا دعاه، هكذا جاء في الأحاديث الصَّحيحة: على المسلم لأخيه ستّ خصالٍ. وفي لفظ: خمس خصالٍ. ذكر منها: أن يُجيبه إذا دعاه، هذه هي الحقوق الإسلامية بين الإخوان.

وقوله ﷺ: فليُجب ظاهره الوجوب، ويؤكد هذا قوله: ومَن لم يُجب الدَّعوة فقد عصى الله ورسوله، هذا يدل على وجوب الإجابة، وأنها ليست بمستحبَّة فقط، بل واجبة؛ لأنَّ فيها من الفوائد والوسائل إلى الخير الكثير ما يجعلها واجبةً، فإنَّ الجيران والأقارب إذا لم يجتمعوا ولم يصل بعضُهم بعضًا عزت المعرفة، وقلَّ التَّحاب، وقلَّ التعاون، وفي اجتماعهم وإجابة الدَّعوة مصالح: من التعارف والتعاون، والتَّحبب فيما بينهم، والأنس فيما بينهم، فيُفضي هذا إلى خيرٍ كثيرٍ من المصالح العامَّة التي يتعاونون فيها ويقومون بها عند أدنى داعٍ لذلك.

ومَن خصَّها بوليمة العُرس فليس معه دليل فيما يظهر؛ لأنَّ الولائم هي الطعام المصنوع للسرور، وهو يعمّ العرس وغير العرس، فلا وجهَ للتخصيص، والنبي قال: مَن لم يُجب الدَّعوة فقد عصى الله ورسوله، ما قال: مَن لم يُجب دعوة العرس. قال: مَن لم يُجب الدَّعوة قد أطلق.

وقوله في حديث أبي هريرة: يُدعا إليها مَن يأباها، شرُّ الطعام طعام الوليمة بيَّن وجه ذلك؛ لأنه يُدعا إليها مَن يأباها من الأغنياء، ويُمنعها مَن يأتيها من الفقراء والمحاويج؛ ولهذا سُميت شرّ الطعام، فمتى جمعت النَّوعين زالت عنها الشرية.

فهذا يُرشد إلى أنه ينبغي للدَّاعي ألا يخصَّ بالدعوة الأغنياء، بل تكون دعوة فيها الأخلاط: فيها الأغنياء والفقراء والمتوسطون، لا يخصّ قومًا دون قومٍ، بل يدعو مَن حوله من جيرانٍ وأقارب وأصحاب وأحباب، فيهم الغني، وفيهم الفقير، وفيهم مَن هو بين ذلك؛ إذ مقصودها التَّعارف والتَّواصي بالحقِّ والتَّناصح والتَّعاون على الخير، والإحسان من البعض إلى البعض، فلا وجهَ للتخصيص.

وقوله في الحديث الرابع: مَن كان صائمًا فليُصلِّ، ومَن كان مُفطرًا فليطعم يصل يعني: يدعو، كما في الرواية الأخرى، جاءت الرواية بلفظ: فليدع، وفي لفظٍ: فليُصل، وهذا الذي قاله أهلُ العلم -جمهور أهل العلم- في معناها.

أما مَن قال أنه يُصلي يعني: يُصلي ركعتين، هذا أبعد النُّجعة، لا وجهَ للصلاة هنا، وإنما المراد الدعاء: "صلِّ عليهم" ادعُ لهم، المراد هنا الدُّعاء، كما جاءت الرواية الأخرى، يقول: جزاكم الله خيرًا، أطعمكم الله، أنعم الله عليكم، يُكلمهم بالكلمة المناسبة لهم التي اعتادها الناسُ في الولائم، كل أهل بلدٍ بما يعتادون ويعرفون؛ شكرًا لهم على دعوتهم، ثم يستأذن ويقول للناس: إنه صائم.

وفي حديث جابرٍ في مسلم الدلالة على أنَّ الأكل ليس بواجبٍ، فإن شاء طعم، وإن شاء ترك، فالأمر به للسنية؛ ولذلك فقوله: فليطعم على سبيل النَّدب، وإن أحبَّ أن يعتذر وألا يطعم فلا بأس، فقد يكون قد أكل قريبًا، قد يكون الطعامُ ما يُناسبه، قد يكون له أسباب أخرى تمنعه من الأكل، فلا حرج عليه أن يعتذر ولا يطعم إذا أجاب الدعوة، لكن إذا تيسر له أن يطعم فهو أفضل وأكمل في الإجابة، وأجبر لخاطر الدَّاعي، إن تيسر جلوسه وأكله ولو قليلًا مع الناس من النوع الذي يشتهيه يكون هذا أكمل في الإجابة، وأسمح لخاطر الدَّاعي، هذا هو الأفضل؛ ولهذا جاء في رواية: فليطعم، وفي رواية جابرٍ: فإن شاء طعم، وإن شاء ترك، وهذا من تيسير الله ومن رحمته .

أما حديث ابن مسعودٍ فهو يدل على أنَّ طعام الوليمة أول يومٍ حقّ، يعني: متأكد، وهذا مما يُقوي قول مَن قال: إنَّ الوليمة واجبة كما تقدم في قوله: أولم، والثاني سنة، مستحب، وليس بمتأكد، والثالث سمعة: ومَن سمع سمع الله به.

لكن الحديث هذا فيه نظر، في صحَّته نظر، وقد استغربه الترمذيُّ لما رواه، قال: لا نعرفه إلا من طريق زياد بن عبدالله، وهو كثير الغرائب والمناكير. وحكى عن وكيع أنه كذبه، وقال الحافظ في "التقريب": إنه لم يثبت عن وكيع تكذيبه. والرجل معروف، وهو راوي السيرة عن ابن إسحاق، قال في "التقريب": إنه ثقة في حديثه عن ابن إسحاق، وفي روايته عن غيره لين. وجرحه آخرون.

وبكل حالٍ فهو في روايته عن ابن إسحاق جيد، ولكن في روايته عن غيره له أخطاء، وله أغلاط، ثم روايته هذه هي عن عطاء بن السائب، وقد اختلط، ومَن روى عنه بعد الاختلاط أو شكَّ فيه لا يُحتج به، وزياد هذا ممن روى عنه بعد الاختلاط، فتكون روايته عنه ضعيفة.

وبهذا يُستغرب قول المؤلف: ورجاله رجال الصحيح. فإنَّ ظاهر هذه الكلمة من المؤلف تعقيب على كلام الترمذي، وظاهرها أنَّ الحديث جيد؛ فإنَّ رجاله رجال الصحيح، فهو جيد.

وقد بيَّن في "الفتح" أنَّ سنده ليس بذاك، بل ضعيف؛ من أجل رواية زياد عن عطاء بعد الاختلاط، فيكون في كلمته هذه هنا في "البلوغ" تسامح وعدم تدقيق في الموضوع، فيغفر الله له.

وكذلك قوله: "وله شاهد عن أنسٍ عند ابن ماجه" أيضًا فيه تسامح، فإنَّ هذا الشاهد ضعيف، وليس من عادة المؤلف التَّسامح في هذا، هذا من الهفوات التي تقع للمؤلفين وإن كانوا عظامًا وكبارًا، فإنَّ هذا السند رواه ابن ماجه من طريق أبي مالك النَّخعي، قال في "التقريب": متروك. وقال بعضهم: أجمعوا على ضعفه. فكيف يسكت عنه؟!

الحاصل أنه شاهد ضعيف، وذكر الشارح، أشار الشارح وذكر صاحب "التحفة" والحافظ في "الفتح" شواهد أخرى، لكنها كلها ضعيفة.

وبهذا يُعلم أنَّ الحديث هذا ضعيف، وفي ارتقائه إلى الحسن من الشَّواهد نظر، ومما يُقوي ضعفه أنَّ البخاري رحمه الله أشار إلى ذلك لما ذكر الوليمة، قال: ومَن أولم ..... ونحوه. فهي إشارة إلى أنَّ رواية ابن مسعودٍ هذه ليست محفوظةً: سبعًا، سبعة أيام يعني.

وذكر الشارحُ أنَّ ابن أبي شيبة روى عن حفصة بنت سيرين أنَّ أباها لما تزوج دعا الصحابةَ وأولم سبعة أيام، يعني: وزعهم.

وقد راجعتُ ابن أبي شيبة فلم أجد رواية حفصة بنت سيرين، ولعلَّ المراجع ارتفع نظره عن هذا الباب "باب الوليمة في النكاح"، ولعلَّ بعضكم يلتمس رواية حفصة هذه؛ لأنَّ الشارح عزاها لابن أبي شيبة، وقد تكون في "المصنف"، وقد تكون في غير "المصنف".

المقصود أنَّ هذا الحديثَ في صحته نظر، وقد تدعو الحاجةُ إلى التَّوزيع؛ لكون المدعوون كثيرين، وقد يكون الوقتُ لا يُناسب جمعهم في يومٍ واحدٍ: إما لضيق المكان، وإما لأسبابٍ أخرى، فيُوزعهم على ثلاثة أيام، أو أربعة أيام، فتدعو الحاجة إلى هذا، كما جاء في رواية حفصة بنت سيرين.

وقد يقال: إنَّ مجموع الروايات الكثيرة التي تشهد لهذا تُوجب التوقف عن اليوم الثالث، وأنَّ الأولى والأفضل ألا يزيد على يومين، الوليمة في يومين، أو في يومٍ واحدٍ فقط، وألا يزيد على ذلك؛ لئلا يقع فيما ذمَّه في هذا الحديث: مَن سمَّع سمع الله به، فجعل الوليمة يوم الثالث سمعة، والنفس تميل إلى أنه ليس بصحيحٍ، والأقرب والله أعلم أنه ليس بصحيحٍ، وأنَّ هذه الأسانيد الضَّعيفة لا تُقويه، ولا تجعله في قسم المقبول، هذا هو الأظهر والأقرب، والله أعلم.

س: ..............؟

ج: ذكر العلماءُ أعذارًا في عدم الإجابة، ذكر الشارحُ منها في "السبل"، وكذلك ابن دقيق العيد عدة أعذار، بعضها مسلم، وبعضها غير مسلم، لكن على كل حالٍ بعضها مسلم: إذا كان فيها منكرات فهو عذر، إلا إذا كان يستطيع إنكارها ويُزيلها؛ وجب عليه الحضور وإزالة المنكر، أما إن كان لا يستطيع، مثل: فيها خمر، فيها آلات الملاهي، مثل: فيها إظهار البدع، أو التدخين، ولا يستطيع إنكاره فهو عذر، المقصود إن كان فيها منكر ظاهر لا يستطيع إنكاره فهو عذر.

س: .............؟

ج: هو من المنكر؛ لأنَّ اللعب هذا منكر، من آلات الملاهي، هو من المنكرات، إذا كانت فاشيةً ظاهرةً .....، فالظاهر له عذر إذا كان ما يستطيع إنكار ذلك، لكن ينبغي أن يكون عند المدعو -عند المؤمن- همة عالية، عنده قوة، لا يحقر نفسه عن إنكار ما يراه منكرًا؛ حتى ينفع الله به في حضوره، فإذا لم يستجيبوا أمكنه الخروج.

س: ..............؟

ج: ابن إسحاق نعم، مدلس، وإذا صرح بالسماع زال التَّدليس.

س: ..............؟

ج: هذه رواية في "الصحيحين"، ويأتي الدعاء للمُتزوج: بارك الله لك، وعليك، وجمع بينكما في خيرٍ. هذا ثابت أيضًا من حديث أبي هريرة: بارك الله لك، وعليكم، وجمع بينكما في خيرٍ.

س: ..............؟

ج: ما هو بعذرٍ، هذا حلقة علم .....، هذا من باب نشر الدَّعوة إلى الله، ومن إظهار السنة والعمل بها، فإذا تأخر طلبةُ العلم تأخَّر الناس.

س: .............؟

ج: السابق أولى.

.............

1056- وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: أَوْلَمَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

1057- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلَا لَحْمٍ، وَمَا كَانَ فِيهَا إِلَّا أَنْ أَمَرَ بِالْأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهَا التَّمْرُ، وَالْأَقِطُ، وَالسَّمْنُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

1058- وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِذَا اجْتَمَعَ دَاعِيَانِ فَأَجِبْ أَقْرَبَهُمَا بَابًا، فَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا فَأَجِبِ الَّذِي سَبَقَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.

1059- وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا آكُلُ مُتَّكِئًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

1060- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: يَا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: هذه الأحاديث كلها لها تعلق بالوليمة.

تقول صفيةُ بنت شيبة ..... رضي الله عنها: أن النبي أولم على بعض نسائه بمدين من شعيرٍ. لم تُبين هذا البعض من النساء، قال بعضهم: إنها أم سلمة. وقيل غير ذلك، وقال بعضهم: إنَّ المراد بعض نسائه من غير زوجاته: كابنته فاطمة أو غيرها من بناته.

وبكل حالٍ فالحديث يدل على أنه ﷺ ما كان يتكلف في الوليمة، بل يصنع ما تيسر: تارة لحم وخبز، وتارة طعام من الشعير، وتارة الحيس: السمن والتمر والأقط، فلا يتكلف، وهذا ينبغي لأهل الإيمان ألا يتكلفوا: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، فالتَّكلف يُفضي إلى الضَّرر وتعقيد المصالح الكثيرة كما تقدم، فالذي ينبغي لأهل الإيمان التأسي بالرسول ﷺ ..... في صفية كما يأتي، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا لا يتكلفون في ولائمهم.

وكان ﷺ في زواجه لنسائه لم يُنقل عنه التَّكلف، وأكثر ما جاء في زواجه من زينب بنت جحش: صنع للناس خبزًا ولحمًا، ودعا الناس فأكلوا وشبعوا، يدخل قومٌ ويخرج قومٌ، وهذا صادف يُسرًا، فحصل من ذلك ما ينفع الجميع.

فينبغي للمؤمن أن يُلاحظ اليسر وحاجة المدعوين، أو ما يُناسب المدعوين، فينصح ويضع لهم ما يُناسبهم ويكفيهم عند تيسر ذلك، وإذا لم يتيسر صنع ما يستطيع من تمرٍ وسمنٍ وأقطٍ: من خبز شعير، من خبز برٍّ، من غير ذلك مما تيسر.

وصفية هذه قيل: صحابية. وقال بعضهم: تابعية. فإن كانت تابعيةً فهو مرسل، وإن كانت صحابيةً فمتصل، وبكل حالٍ فالحديث وإن كان مرسلًا فالأدلة من غيره كثيرة، وهو شاهد من الشَّواهد في عدم التَّكلف.

والحديث الثاني حديث أنسٍ في قصة صفية: أن النبي بنى عليها بين المدينة وخيبر، كان اصطفاها من سبايا خيبر، فكانت من أجمل النساء، ومن أعقل النساء رضي الله عنها وأرضاها، فأقام عليها ثلاثًا، وما كان للناس طعام سوى السمن والأقط والتمر، وبسط الأنطاع كما قال أنس، ووضعوا فيها التمر والسمن والأقط، ودعا الناس إلى هذا، فكانت هذه هي وليمته عليه الصلاة والسلام، فدلَّ ذلك على أنه لا ينبغي التَّكلف، فلم يأمر بذبح إبل، ولا بذبح غنم، ولم يتكلف في هذا عليه الصلاة والسلام، بل يسر في هذا.

والمقصود من هذا كله التَّسهيل على الأمة، وبيان أنه ينبغي لها عدم التكلف، ولو شاء لأمر بنحر الإبل، وذبح الغنم، أو نحو ذلك، لكنه ﷺ تسامح في هذا ليتسامح الناس، وليُيسروا أمر الولائم ولا يتكلفوا، ولينقلوا هذا عنه إلى الأمة؛ حتى يقتدوا به في التَّيسير والتَّسهيل عليه الصلاة والسلام، وهو سيد الخلق، وإمام المتقين، وأشرف المرسلين، ومع هذا سمح لنفسه ولزوجه أن تكون الوليمةُ هذا الشيء الذي ليس فيه كُلفة، وهو مع ذلك شيء طيب ولذيذ ومأمون العاقبة.

هذا كله مما يدل على أنه ينبغي للمؤمن ألا يتكلف، وأن يصنع تارةً ما يُناسب المدعوين من لحمٍ وخبزٍ ونحو ذلك، وتارة يتسامح ويسمح بما ليس فيه تكلف للمدعوين، فيكون متمشيًا مع السنة الثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وبهذا يحصل له الخير العظيم، ويحصل للناس النكاح بيُسرٍ وسهولةٍ، ويحصل بذلك إحصان الفروج من الرجال والنِّساء، أما مع التَّكلف والمغالاة فيتعب الزوجُ، وتقلّ النتيجة الصَّالحة، ويتعطل الشباب والفتيات بسبب التَّكلفات التي يكرهها الله ولا يرضاها.

والحديث الثالث: حديث رجلٍ من أصحاب النبي ﷺ لم يُسمَّ، المؤلف ذكره هنا موقوفًا، كأنه نسي رحمه الله عند كتابته إياه ولم يذكر رفعه، أو غلط بعض النُّساخ وترك الرفع، والحديث مرفوع إلى النبي ﷺ؛ فإنه في أبي داود: أن النبي ﷺ قال: إذا اجتمع داعيان صريح في الرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام: إذا اجتمع داعيان فأجب أقربهما بابًا، فإنَّ أقربهما بابًا هو أقربهما جوارًا، فإن سبق أحدُهما فأجب الذي سبق.

هكذا رواه أبو داود رحمه الله، وسنده ضعيف عند أبي داود؛ لأنه من رواية أبي خالد الدَّالاني يزيد بن عبدالرحمن المعروف، وثَّقه جماعة، وضعَّفه بعضهم، وهو مدلس أيضًا، وقد رواه بالعنعنة؛ ولهذا قال المؤلفُ فيه: وسنده ضعيف. وقد استغرب الشارحُ ذلك، ثم ذكر بعد ذلك ما يدل على عدم الاستغراب، وأنَّ العلة هي وجود أبي خالد .....، ولكنه ليس ذا ضعفٍ شديدٍ؛ فإن أبا خالد وثَّقه جماعة، وهو سيئ الحفظ، وقد عنعن.

وله شاهد عند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: يا رسول الله، إنَّ لي جارين، فإلى أيهما أُهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابًا، هذا يدل على تقوية هذا الحديث، وأنَّ الأقرب بابًا هو الأولى بالإجابة من البعيد عند التَّساوي، فإذا سبق أحدُهما فالأولى تقديم السابق وإن كان بعيدًا.

وفيه أنَّ العبرة في قرب الجوار الباب، لا الجدران، فلو كان جاران أحدهما أقرب جدارًا، والثاني أقرب بابًا، فالأولى مَن هو أقرب بابًا، لا مَن هو أقرب جدارًا.

والحديث الرابع: حديث أبي جُحيفة وهب بن عبدالله السوائي ، عن النبي ﷺ أنه قال: لا آكل متكئًا رواه البخاري.

هذا يدل على أنه ﷺ يتوقَّى الأكل متَّكئًا؛ لأنه كان عليه الصلاة والسلام ليس ممن يُقبل على الأكل ويُكثر من الأكل عليه الصلاة والسلام؛ لما في ذلك من الثِّقل وعدم النَّشاط والخطر، فكان ﷺ يأكل مستوفزًا، ولا يُسرف في الأكل، ولا يعتني به العناية الكاملة، بل يأكل ما تيسر من غير إسرافٍ ولا تكلُّفٍ في الأكل؛ ولهذا قال: لا آكل متَّكئًا عليه الصلاة والسلام، فهذا هو الأفضل، ولم ينهَ عن هذا، قال: لا آكل، ولم يقل: لا تأكلوا. فرق بين الصِّفتين.

فهذا يدل على أنَّ الأفضل عدم الاتكاء، ولا يدل على أنه لا يجوز الاتكاء، أو يحرم الاتكاء، أو يُكره الاتكاء، بل يكون أفضل ترك الاتكاء أفضل؛ تأسيًا بالنبي ﷺ في جلسته وأكله عليه الصلاة والسلام.

واختلفوا في الاتِّكاء: ما هو الاتكاء؟

قال الخطابي وجماعة: هو التَّمكن في الجلوس حتى كأنه أوكأ مقعدته في الأرض، تمكَّن واستوى واعتمد على الأرض اعتمادًا كليًّا كالمتربع، كجلستي هذه.

وقال آخرون: الاتكاء هو أن يميل على أحد شقّيه، على متكأ من وسادةٍ أو غيرها، فيتكئ عليها مائلًا؛ لأنه إذا كان هكذا لا ينحدر الطعام انحدارًا سويًّا، فتكون الأمعاء مائلةً، فيكون الطعام ليس بمستقيمٍ، فالأولى والأفضل أن يكون مُعتدلًا في جلوسه، لا مائلًا حتى ينحدر الطعام والشَّراب انحدارًا سويًّا.

وهذا المشهور عند الناس: الاتكاء هو أن يميل على أحد الجانبين، يعتمد على شيءٍ، أما الجلوس مُتربعًا مُتمكنًا من الأرض ففي تسميته اتِّكاء نظر، وهذا يحتاج إلى جمع كلام أئمة اللغة في هذا الشيء، وهل لهم فيه اصطلاح؟ أو هل ورد لأحدٍ منهم في أشعارهم أو في كلامهم المنثور ما يُوضح الأمر؟ فالأصل في هذا كله أهل اللغة، فإن وُجد في كلامهم ما يدل على أنَّ الاتكاء هو التَّمكن فهو كما قال الخطابي، وإن لم يُوجد ذلك، بل الاتكاء هو الاعتماد على شيءٍ، فهو كما قال الآخرون أنه الميل على أحد الجانبين: على وسادةٍ، أو كرسيٍّ، أو ما أشبه ذلك مما يتكئ عليه عند الأكل، وتكون العلةُ معقولةً؛ لأنه إذا اتكأ هكذا أو هكذا ينزل الطعام غير معتدلٍ، أو قد يقال في هذا: إنه إذا كان بهذه المثابة فليس بمبالٍ بالطعام، وليس بمهتمٍّ، وليس بمُعطيه الإقبال الذي قد يحصل به السَّلامة من .....، فإنه ينبغي للآكل أن ينظر ويتأمل ويأكل حاجته، ويأكل ببصيرةٍ؛ حتى لا يضرَّ نفسه، أو يقع في لقمته شيء يُؤذيه، أو ما أشبه ذلك، فيكون أكله على بصيرةٍ، وعلى عنايةٍ؛ حتى لا يضرَّ نفسه بالإسراف، أو يضرَّ نفسه بشيءٍ لا يفطن له، ولا يعيه عند الأكل، ويظهر من حال المتكئ قلة المبالاة، وقلة العناية بأكله، والله أعلم.

والحمد لله أنَّ الأمر بهذا واسع؛ لأنَّ الرسول ﷺ لم ينهَ عن هذا، وإنما قال: لا آكل متَّكئًا، فينبغي للمؤمن أن يكون في حالةٍ غير مائلةٍ، وغير متمكنةٍ التَّمكن الكلي الذي يجعله يُسرف في الأكل، أو يزيد زيادةً قد تضرّه.

والحديث الخامس: حديث عمر بن أبي سلمة، وهو ربيب النبي ﷺ، عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد، عبدالله بن عبد الأسد المخزومي، أحد السَّابقين رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد عاش في حجر النبيِّ ﷺ، ومات النبيُّ ﷺ وهو كبير يعقل، وحفظ عن النبي أحاديث عليه الصلاة والسلام، ومنها هذا الحديث: أنَّ النبي ﷺ قال له: يا غلام، سمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك.

كانت أكلته قبل ذلك: تطيش يده في الصحفة، فأخذ النبيُّ ﷺ بيده وقال: سمِّ الله، وكلْ بيمينك، وكلْ مما يليك، هذه الآداب الشَّرعية في الأكل.

وكان النبيُّ ﷺ يُعلم الناسَ شؤون دينهم، وشؤون آدابهم الشرعية: في أكلهم ولباسهم وغير ذلك؛ لهذا قال في اللباس: إذا توضأتم ولبستم فابدؤوا باليمين، وقال: إذا انتعل أحدُكم فليبدأ باليمين، وقد علَّم الناس الآداب الشَّرعية في مآكلهم ومشاربهم ولباسهم ونومهم ويقظتهم، وغير ذلك عليه الصلاة والسلام، فأتاهم بالآداب العظيمة النَّافعة في الدِّين والدنيا، ومن هذا في الأكل: أن يأكل باليمين، لا باليسار.

وظاهر النصوص التحريم، وأن الواجب الأكل باليمين، ومَن قال أنه سنة فقد قصر في المقام إذا أراد بذلك أنه مندوب فقط، فظاهر الأدلة أنه واجب، وأنه لا يجوز الأكل بالشمال، فقد نهى النبيُّ عن الأكل بالشمال، وأخبر أنه من عمل الشيطان، وهكذا الشرب بالشمال.

ولما أكل رجلٌ بيده اليسرى عنده قال: كل بيمينك، قال: لا أستطيع، قال: لا استطعتَ، فما رفعها إلى فيه بعد ذلك، ثم قال: ما منعه إلا الكبر.

وقد شاع في الناس الآن التَّساهل بهذا: الأكل باليسار، والشرب باليسار، وهذا من الجهل بالسنة، وقلة المبالاة، فينبغي إنكار ذلك على مَن فعله، كما أنكره النبيُّ ﷺ.

وكذلك الأكل مما يليه، لا يأكل مما يلي الناس، بل يأكل مما يليه.

وكذلك التَّسمية، يُسمي الله، وظاهر النص للوجوب، فالواجب على الآكل أن يُسمي الله، فإن نسي في أوله يُسمي الله في أثنائه، يقول: بسم الله أوله وآخره. كما جاء به النص، وإذا قيل: إنَّ هذا سنة، فهو من باب التَّسامح، وإلا فظاهر النصوص الوجوب: وجوب التسمية، ووجوب الأكل باليمين، ووجوب الأكل مما يليه، هذا هو الأصل في الأوامر، لكن إذا كان أنواعًا فلا بأس أن يأكل من النوع الثاني، كما جاء في حديث عتبان -رواه الترمذي- أنَّ النبي ﷺ أمره أن يأكل مما يليه، فلما جاءت أنواع قال: يا عتبان ..... أنواع، المقصود أنه إذا كان أنواعًا، إذا قدم طعام متنوع ..... يأكل مما يليه إذا كان يليه هو نوع، ويأكل من الأنواع الأخرى ولو كانت لا تليه، أو فواكه متنوعة، فلا بأس أن يأكل من هذا، من النوع الذي يليه، ومن النوع الآخر؛ حتى لا يفوته نصيبُه من أنواع المآكل، أما إذا كان نوعًا واحدًا فالسنة أن يأكل مما يليه ..... يأكل مما يليه ولا يتعدَّى إلى غيره، وليس من الأدب، بل هذا يُؤذي الجار، وليس من الأدب بوجهٍ من الوجوه، والله أعلم.

..............

1061- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُتِيَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهَا؛ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ فِي وَسَطِهَا. رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَهَذَا لَفْظُ النَّسَائِيِّ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.

1062- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ طَعَامًا قَطُّ، كَانَ إِذَا اشْتَهَى شَيْئًا أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1063- وَعَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَا تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1064- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1065- وَلِأَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ: أَوْ يَنْفُخْ فِيهِ. وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

...........

الشيخ: هذه الأحاديث الأربعة كلها تتعلق بالوليمة كما .....

الحديث الأول حديث ابن عباسٍ: أن النبي ﷺ أُتي بقصعةٍ من ثريدٍ، الثريد: ما يكون من الخبز واللحم، هذا هو الثريد، فقال: كلوا من جوانبها، ولا تأكلوا من وسطها؛ فإنَّ البركة تنزل في وسطها.

هذا يدل على أنَّ السنة والأدب الشَّرعي في الأكل أن يكون من الجوانب، لا من وسط الطعام، وهذا هو الأدب الشَّرعي، وهذا هو السنة التي ندب إليها الرسولُ ﷺ وأرشد إليها، وبيَّن العلةَ: وهو أن البركة تنزل في وسطها، فلا ينبغي أن يبدأ بالوسط، بل يبدأ بالجوانب حتى يُؤتى عليها كلها، والله يُبارك لعباده في طعامهم، ويكفي القليل الجمّ الغفير.

وقد بيَّن الحديثُ أنَّ البركة تنزل في الوسط، ولا يزالون يأكلون والوسط ينمو؛ حتى يكون ما يكفي القليل يكفي الكثير، وقد ثبت في السنة وقائع كثيرة كان الطعامُ فيها قليلًا فكفى الجمَّ الغفير لما دعا فيه النبيُّ ﷺ بالبركة، وفي قصة أبي بكر الصديق وضيوفه قال: كنا نأكل، ما رفعنا لقمةً وما تحتها .....

والحديث الثاني حديث أبي هريرة : ما عاب النبيُّ طعامًا قط، إن كان اشتهى شيئًا أكله، وإن كرهه تركه. متفق عليه.

هذا يُبين لنا طيب أخلاقه عليه الصلاة والسلام، وحُسن سيرته مع أهله وغيرهم في مأكله، وكان لا يعيب الطعامَ، وهذا يدل على عدم ..... بهذه الأمور، وأنه ﷺ إنما يأكل ما يُقيم أوده، ولا يهتم بهذا الأمر؛ لأنَّ شغله الشَّاغل هو ..... وأداء حقّ ربه، وتبليغ رسالة ربه، ومنهم مَن يهتم بالطعام وتحسينه .....؛ ولهذا ما عاب طعامًا قط .....، هذا على حسب ما اطَّلع عليه أبو هريرة.

وهذا يدل على أنَّ هذا هو الكمال في خلق الرجل، وأنه يتحمل من أهله ما قد يقع من نقصٍ، وممن يضيفه أيضًا، ويكون هذا من كرم الأخلاق و..... عما قد يُسيء إلى الأهل، أو يُسيء إلى صاحب الوليمة، ولكن ليس بهذا نهي، إنما هذا هو الأفضل، وإذا دعت الحاجةُ إلى التَّنبيه فلا مانعَ من ذلك؛ عملًا بالأصل، الأصل أنه لا بأس بأن يُنبه الطباخ أو المرأة صاحبة البيت على أنَّ الطعام يحتاج إلى كذا، إلى مزيد كذا، أو إلى نقص كذا، لا بأس بهذا، والحاجة داعية إلى ذلك، لكن من كرم الأخلاق أن الإنسان إذا قدم إليه أهله أو مضيفه ألا يعيب شيئًا، وأن يأكل ما تيسر وما اشتهى ويسكت، وبإمكانه التَّنبيه في وقتٍ آخر، أو في مناسبةٍ أخرى، أو من طريقةٍ أخرى بغير قصد إيذاءٍ، بل ..... وغير هذا من الطرق التي يحصل بها المقصود، ومن غير أن يخدش نفس صاحب الطعام، أو نفس الأهل عند تقديم الطعام.

وهذا من مكارم الأخلاق، فقد ثبت عنه ﷺ أنه بعثه الله بمكارم الأخلاق: روى أحمد رحمه الله والخرائطي بإسنادٍ جيدٍ عن ..... ، عن النبي ﷺ أنه قال: إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق، في لفظ أحمد وفي لفظ الخرائطي: مكارم الأخلاق، وهذا هو المعروف من خلقه ﷺ ومن سيرته، فمَن تدبر القرآنَ وتدبر السنةَ وما فيهما من الدَّعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، والنَّهي عن سفاسف الأخلاق وسيئ الأعمال عرف معنى هذا الحديث، ومن ذلك هذا الخلق الكريم: ما عاب طعامًا قط، إن كان اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه، ليس من شأنه.

أنتم اليوم فعلتم كذا: هذا اليوم مالح، هذا اليوم .....، هذا فيه الماء ناقص، هذا شيء ثقيل على النفوس، ولا سيما من الكبار وممن يشقّ انتقادهم.

والحديث الثاني: حديث جابرٍ ، عن النبي ﷺ أنه قال: لا تأكلوا بالشمال؛ فإن الشيطان يأكل بشماله، وقد جاءت الآثار في هذا كثيرة عن النبي ﷺ تدل على تحريم الأكل بالشمال، وإن تساهل فيه الناس، وقد عبَّر بعض الناس بالسنية، لكن الأحاديث ظاهرة في التَّحريم.

ومن هذا قوله ﷺ: إذا أكل أحدُكم فليأكل بيمينه، وليشرب بيمينه؛ فإنَّ الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله رواه مسلم.

وفي هذا الحديث الآخر: أنَّ رجلًا أكل عند النبي ﷺ بشماله، فقال: كل بيمينك، فقال: لا أستطيع، قال: لا استطعتَ، فما رفعها إلى فيه بعد ذلك، قال: ما منعه إلا الكبر.

هذا يدل على أنه عُوقب، لما ترك الآداب الشَّرعية تكبُّرًا عُوقب فشُلَّت يده، فما رفعها بعد ذلك.

وهذا كله يدل على أنَّ الواجب الأخذ بهذا الأدب الشرعي، وأن يأكل بيمينه، ويشرب بيمينه.

ومن المؤسف الآن كثرة مَن يتعاطى الشمال، ولا سيما ممن يُنظر إليهم، ويُقتدى بهم، فهذا والله أعلم دعا إليه التَّقليد الأعمى، والتساهل بأمور الشرع، وضعف العناية بالآداب التي جاء بها المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك صاروا لا يُبالون ..... الآداب الشرعية، فيتأسى بهم غيرهم ممن ليس له تعلق بالشريعة، ولا التفات إليها، مع أنَّ الأكل باليمين أيسر وأحسن وأنفع وأخفّ، والأكل باليسار فيه عسر، ولكن طاعة الشيطان، والميل إلى ما يُخالف الشرع مما يدعو إليه الشيطان، ومما يسهل على الناس التقليد الأعمى كذلك، نسأل الله السلامة.

وإذا كانت اليمينُ مشغولةً بالأكل أو بشيءٍ آخر بإمكانه أن يستعين باليسرى، باليمنى إذا وضع القدح، ويتعامل باليسرى عند الحاجة، فيشرب بيمينه ..... اليسرى لا حرجَ في ذلك.

والحديث الرابع: حديث أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري، أحد الفرسان، وأحد المشهورين من أعيان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، من الأنصار.

يقول أنَّ النبي ﷺ نهى أن يُتنفس في الإناء، يعني مطلقًا لا .....

فالسر في ذلك والله أعلم: أنه قد ..... الماء، وقد يخرج من جوفه شيء فيُقذره على مَن بعده، فمن الآداب الشَّرعية ألا يتنفس في الإناء، بل يفصله.

وفي "الصحيحين" من حديث أنسٍ : أنَّ النبي ﷺ كان يتنفس في الإناء ثلاثًا، وكان يُديل الإناء عن فمه كما في الرواية الأخرى، وقد سأله سائلٌ عن القذاة تكون في الماء، قال: أهرقها، قال: ومن ذلك ..... نفس واحد، قال: أبنِ القدح.

فقد ثبت عنه ﷺ الأمر بإبانة القدح، وثبت عنه أنه كان يتنفس ثلاثًا، فدلَّ ذلك على أنَّ السنة أن يتنفس ثلاثًا، ولكن يكون خارج القدح، خارج الإناء، يفصل الإناء ويتنفس، وقال: إنه أهنأ وأبرأ وأمرأ، فكونه يشرب ثلاثًا ويعبّه عبًّا هذا أهنأ وأبرأ وأمرأ.

وفي حديث ابن عباسٍ عند أبي داود والترمذي وجماعة قال: نهى رسولُ الله أن يتنفس في الإناء، وأن يُنفخ فيه.

والمؤلف اختصره هنا، ولو ساقه كاملًا لكان واضحًا في المعنى، وقال: وأن يُنفخ فيه. فعبارة المؤلف فيها شيء من النَّقص.

المقصود أنه نهى أن يُتنفس في الإناء، وأن يُنفخ فيه، والنَّفخ فيه أيضًا قد يحصل به شيء من التَّقذير على مَن بعده، وقد يصدر من فيه شيء لا يُناسب.

والحاصل أنَّ السنة أنه لا ينفث فيه، بل يتنفس ثلاثًا، وإذا كان حارًّا أو فيه قذاة أهراق القذاة، أو أخذها بشيءٍ: بأصبعه إن كان ما وراءه أحد يخشى أن يُقذره عليه، المقصود أنه يُهريق القذاة، أو يُخرجها بشيءٍ من غير نفخٍ، وهكذا إذا كان حارًّا لا يعجل؛ حتى لا يحتاج إلى النَّفخ.

هذه من الآداب الشَّرعية: كونه يشرب باليمين، وكونه يتنفس في الإناء ثلاثًا، وكونه يشرب قاعدًا أفضل وأهنأ، وكونه لا ينفخ، وكونه يبين القدح عند التنفس، كل هذه من الآداب الشرعية للشرب والأكل.

...............