44 من حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بمعاهد وقال: أنا أولى من وفى بذمته)

بَابُ الدِّيَاتِ

1188- عَنْ أَبِي بَكْر ابْنِ مُحَمَّد بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ ... فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ، إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، وَإِنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ مِئَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي "الْمَرَاسِيلِ"، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَحْمَدُ، وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّتِهِ.

الشيخ: هذا الباب في الديات، والديات جمع دية، كالعدة جمعها عدات، والهبة جمعها هبات، وأصلها ودية، وحُذفت الواو وعُوض عنها الهاء، كما في أمثالها.

والديات: هي الأموال التي تجب في النفوس، وفي الجروح، وفي الأعراض، يقال لها: دية، وهي العِوض، سمَّاها الشرعُ دية، يعني: ودي بما يُقابل ما ذهب منه، يعني: عوض، وأعلاها دية النفس، وقد يجب في الإنسان أعلى من دية النفس ..... لأسبابٍ تقتضي ذلك.

وهذا الحديث الذي ذكره المؤلفُ في أول هذا الباب -حديث عمرو بن حزم- حديث عظيم جليل، تلقته الأمةُ بالقبول؛ حتى قال فيه الإمامُ ابن عبد البر رحمه الله: إنه قد اشتهر بين أهل العلم وتلقوه بالقبول. فأغنى ذلك عن النَّظر في إسناده، وكان الصحابةُ يرجعون إليه، كانت نسخته محفوظةً عند حفيده أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، وقد صحَّ عنه من طرقٍ كثيرةٍ عن أبي بكر، وهو وجادة مضبوطة محفوظة عند حفيده أبي بكر، وهو إمام كبير، وتابعي جليل رحمه الله ورضي عنه، وقد تلقاه عنه الزهري وغيره، وعبدالله بن أبي بكر وآخرون.

وأخبرهم أنَّ هذه صحيفة الرسول ﷺ التي وجَّهها إلى شرحبيل بن عبد كلال، وإلى النعيم بن عبد كلال، وإلى الحارث بن عبد كلال، من رعين، من أعيان اليمن: من محمدٍ رسول الله إلى هؤلاء، وذكر فيها أشياء من الفرائض والسنن والديات، وذكر فيها ما ذكر هنا.

وقد جاء مرفوعًا من طرقٍ فيها ضعف، والمحفوظ عند أهل العلم إرساله عن أبي بكر: أنه من الوجادة التي عند أبي بكر، ولكن طرقه الكثيرة التي جاءت من طريق أبي بكر وغيره تشهد له بالصحة والقوة، فيكون من قبيل الحسن: إما لذاته؛ لكونها وجادة عظيمة مضبوطة محفوظة، وإما لغيره كما في الطرق المتصلة والمرسلة.

وبكل حالٍ فهو حديث حُجَّة عند أهل العلم، وقد أجمعوا على ما دلَّ عليه في هذا، قد أجمع أهلُ العلم في الجملة على ما ذُكر في هذا الحديث، فأجمعوا على أنَّ الدية مئة من الإبل، واختلفوا فيما سواها من الأموال الأخرى، فبين هنا أنَّ مَن اعتبط مؤمنًا قتلًا عن بينةٍ فإنه القود، متى قتله بغير حقٍّ فهو القود إذا كان عمدًا، إلا أن يرضى أولياء القتيل بالدية، وهذا محل إجماعٍ، أجمع العلماءُ على ذلك.

فدلَّ عليه حديثُ أبي هريرة في "الصحيحين" وأبي شريح: أنَّ مَن قُتل له قتيل فهو بخير النَّظرين: إما أن يقتل، وإما أن يأخذ العقل، وأن ديةَ النفس مئة من الإبل، كذلك أجمع عليها العلماءُ: أنَّ الدية مئة من الإبل، وأنه أصل عظيم، واختلفوا فيما سواها من البقر والغنم والذهب والفضَّة والحلل: هل هي أصول أو قيم؟ على قولين لأهل العلم، والأرجح والأظهر أنها قيم وأعواض عن المئة.

وقد جاء عن عمر ما يدل على هذا المعنى، ودلت الأحاديث التي إذا جمعها طالبُ العلم وتأملها ظهر له ذلك، فقضاء النبي ﷺ بألف دينارٍ يعني في مقابل المئة، وتُعتبر ذاك الوقت تُقابلها، وهكذا ما ورد من حكمه باثني عشر ألف درهم كما يأتي في هذا الباب، وهكذا ما جاء في ألفي شاةٍ ومئتي بقرةٍ، أو في مئتي حلةٍ، كل هذا من باب القيم.

والصواب أنَّ الأصل الأصيل هو المئة من الإبل، هذا هو الصواب، وأنها الأصل الذي يُرجع إليه، ومما يدل على هذا أنَّ الأحاديث الصَّحيحة في ذلك لا تحصر، كثيرة؛ لأنَّ الدية مئة من الإبل، أما بقية الأنواع ففيها كلام، وفي صحتها نظر.

ثم أمر آخر، وهو أنه ﷺ راعى في الأبعاض الإبل، ولم يُراعِ غيرها: بيَّن ما في الأسنان، ما في الأصابع، ما في الموضحة، ما في الجائفة، ما في كذا، كلها بيَّنها بالإبل، ولم يتعرض لبقرٍ ولا غنمٍ ولا حُللٍ ولا نقودٍ، فعلم أنَّ هذه هي الأصل؛ ولهذا راعى في الأبعاض الأجزاء المتعلقة بالإبل، وبيَّن ﷺ في هذا أنَّ الشيء الذي فيه اثنان من الإنسان يكون فيه الدية، وفي أحدهما النصف: كالعينين، والأذنين، والبيضتين، والشفتين، وما أشبه ذلك، وما كان فيه واحد بيَّن فيه ﷺ أنَّ فيه ديةً كاملةً: كالذَّكر والصلب وأشباه ذلك مما يكون فيه واحد، فإن الدية تجب فيه.

وقد تجتمع أنواع فتجب الديات كما ذكر أهلُ العلم؛ قياسًا على الذكر، فلو ضربه ضربةً في رأسه أذهبت سمعه وبصره وعقله، صار فيه ثلاث ديات: فيه السمع، وفيه البصر، ودية العقل، وإذا ذهب الشمُّ صار أربعًا.

المقصود أنه قد يجتمع في الإنسان ديات وهو موجود قائم حي، بسبب أنَّ هناك أشياء أُزيلت منه ليس لها عوض، وليس لها بديل، فيستحق مكانها الدية، وقد يكون لها بديل ثانٍ فقط: كالعينين، والأذنين، والرِّجْلين، واليدين، فيكون فيها النصف إذا زال أحدُهما.

وذكر في هذا الحديث اليدين والرِّجلين، وذكر أيضًا الأصابع: في كل أصبعٍ عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل.

كل هذا يُبين لنا أنَّ هذه الأشياء كلها تُنسب إلى المئة، ويُحكم فيها بما بيَّنه الرسولُ ﷺ من ذلك، فالسن مطلقًا، سواء كان ..... أو ناب أو غير ذلك فيه خمس من الإبل، الثنية والضّرس سواء، كما جاء في الحديث الصحيح.

وفي الإنسان اثنان وثلاثون سنًّا، ففيهن مئة وستون من الإبل، يعني دية وثلاثة أخماس الدية، إذا قُلعت كلها ولم تعد، والأصابع عشر، فلو أخذ أصابع يديه وجب عليه مئة من الإبل، ولو أخذ أصابع رجليه وجب عليه مئة ثانية، فصار عليه مئتان، يعني ديتان، وهو قائم موجود عند أخذ أصابع رجليه وأصابع يديه، وهكذا إذا قطع رجليه وقطع يديه وجب عليه ديتان.

فهذا الحديث أصل كبير عظيم في بيان الدّيات الواجبة في النفس إذا أُزهقت، وفي الأعضاء والأبعاض التي من النَّفس.

بقي شيء أيضًا اختلف فيه العلماءُ في هذا: وهو ما إذا أصاب عين الأعور حتى ذهب ضوؤها، هل تجب فيها نصف الدية على الأصل؛ لأنها أحد العينين، أو تجب فيها الدية كاملة؛ لأنه أزال البصر، حاسة البصر بالكلية ذهبت بأسبابه، والحاسة فيها الدية كاملة؟ على قولين لأهل العلم، والصواب أنَّ فيها الدية كاملة؛ لأنه أذهب الحاسة كلها، ما بقي له عين ثانية ينظر بها، فتكون فيها الدية كاملة كما قضى بذلك عمر وعثمان وعلي وابن عمر.

أما الرجل الواحدة ففيها النصف؛ لأنَّ ذهابها ليس مثل ذهاب العين، وهكذا اليد.

وقد راجعتُ "سنن النسائي" فرأيتُه وصل الحديثَ من طريق سليمان بن الأرقم، وقال: سليمان بن الأرقم متروك. وقال: الأشبه أنَّ الراوي عن الزهري هو سليمان بن الأرقم، لا سليمان بن داود. وسليمان بن داود الخولاني لا بأس به لو صحَّت الرواية عنه.

أما رواية ابن الجارود وابن خزيمة فلم أقف عليهما، وهكذا لم يتيسر لي الوقوف على رواية أحمد، ولعل في "مسند أحمد" طرقًا تُفيد اتِّصاله أكثر من رواية غيره.

فالحاصل أنه مهما كانت الحالُ مثلما تقدم فهو حديث معتمد، وطرقه مختلفة ومتنوعة، والموصول والمرسل كلها يشدّ بعضُها بعضًا، واعتمد عليها أهلُ العلم، وأجمعوا على ما فيه إلا النادر، إلا القليل، والله أعلم.

س: .............؟

ج: يعني هذا يستشهد لشهرة الحديث، وإلا ليس عليه عمدة، لا يعتمد.

س: ...............؟

ج: لا، ما يكفي، ليس عليه عمدة هذا الكلام، وإنما يُذكر للاستشهاد فقط؛ لشهرة الحديث عندهم، وإلا فقد يقول هذا وغيره ولا يكفي هذا، لا بدَّ من وجود السند السليم أو المجبور بالشَّواهد.

س: ...............؟

ج: عين الأعور يعني إذا أُخذت، وإلا إذا كانت عيناه صحيحتين ليس فيه إلا النصف.

س: ...............؟

ج: لا شكَّ إذا أجمعوا عليه فالعمدة على إجماعهم.

س: ................؟

ج: لا، ما يجب فيه إلا النصف؛ لأنه ليس مثل الأعور؛ لأنَّ نصف الحاسة ذهبت، ما تغني هذه عن هذه، الواحدة ما تُغني عن الثانية، والعين الواحدة تُغني، أما الرِّجل ما تكفي، واليد ما تكفي، فافترقا.

س: ...............؟

ج: فيه حكمها، تُقدر، ما يُساوي عبدًا مقطوعًا، وما يُساوي سليمًا بعد قطع أصابعه.

س: إذا أتلف من نفسه إصبعًا تجب الدية لورثته، بعض الناس يقطع سبابته؛ لكي لا يدخل الجيش عمدًا؟

ج: ما سمعتُ بهذا، الله أعلم.

س: ................؟

ج: هذا نص القرآن، هذا بإجماع المسلمين، لكن هذا في العين التي معها عين أخرى، أما إن كانت عين ما معها عين أخرى فقد ذهب البصر -الحاسة- لأنَّ حاسة البصر فيها الدية، مثل: حاسة السمع، لو ضربه فذهب سمعه، وأذناه قائمتان، فعليه الدية، ولو ضربه ضربةً أذهبت عقله، فعليه الدية، ولو كان موجودًا قائمًا صحيحًا.

س: ...............؟

ج: نعم، مثله من ديته، ديته النصف، سواء بسواءٍ، كله سواء بسواءٍ، مثل المسلم، لكن على النصف، على نصف أهل الذمة، والقوم الآخرون فيهم خلاف، لكن القول بأن كل كافرٍ فيه النصف قول قوي، كأهل الذمة.

س: بالنسبة للسمع تُقاس الأذن على العين؟

ج: لا، الأذن لا، إذا ذهب السمعُ فيه الدية، أما الأذن ما يظهر، إذا قطع أذنًا وبقيت له أذن، ثم قطعها، فما عليه إلا النصف؛ لأنَّ السمع ما يتعلق بها، السمع من داخلٍ، يتعلق بالرأس من داخلٍ.

س: ...............؟

ج: نعم بعد الاستقرار على القاعدة، لا يقتص من جرحٍ حتى يبرأ صاحبه كما تقدم.

1189- وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: دِيَةُ الْخَطَأ أَخْمَاسًا: عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بَنِي لَبُونٍ. أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

وَأَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ بِلَفْظ: وَعِشْرُونَ بَنِي مَخَاضٍ بَدَلَ: بَنِي لَبُونٍ. وَإِسْنَادُ الْأَوَّلِ أَقْوَى.

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَصَحُّ مِنَ الْمَرْفُوعِ.

1190- وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، رَفَعَهُ: الدِّيَةُ ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا.

1191- وَعَنِ ابْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: مَنْ قَتَلَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ لِذَحْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثٍ صَحَّحَهُ.

1192- وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

1193- وَعَنْ عبدالله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَلَا إِنَّ دِيَةَ الْخَطَأ شِبْهِ الْعَمْدِ -مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا- مِئَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

1194- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ يَعْنِي: الْخِنْصَرَ وَالْإِبْهَامَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: دِيَةُ الْأَصَابِعِ سَوَاءٌ، وَالْأَسْنَانُ سَوَاءٌ: الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ.

وَلِابْنِ حِبَّانَ: دِيَةُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءٌ، عَشَرَةٌ مِنَ الْإِبِلِ لِكُلِّ إصْبَعٍ.

1195- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ -رَفَعَهُ- قَالَ: مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يَكُنْ بِالطِّبِّ مَعْرُوفًا فَأَصَابَ نَفْسًا فَمَا دُونَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ. أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا، إِلَّا أَنَّ مَنْ أَرْسَلَهُ أَقْوَى مِمَّنْ وَصَلَهُ.

الشيخ: هذه الأحاديث تتعلق بالدية، تقدم لنا حديث عمرو بن حزم، وهو حديث عظيم كما تقدم، اشتمل على أحكام كثيرة، ومن ذلك أنَّ الدية مئة من الإبل، وهذا هو الصواب، وأنها هي الأصل كما تقدم، وأنَّ ما سواها أبدال وقيم.

وفي حديث ابن مسعودٍ هنا يقول ﷺ: دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني لبون.

وفي روايةٍ أخرى: عشرون بني مخاضٍ، عند ابن أبي شيبة وجماعة أنه موقوف على ابن مسعودٍ، لكنه موقوف في حكم المرفوع؛ لأنَّ هذا لا يُقال من جهة الرأي، هذه أحكام تفصيلية لا تُقال من جهة الرأي، فالموقوف يُؤيد المرفوع، ولا يُخالفه، وهو دليل على أنَّ الدية في الخطأ تكون أخماسًا، تكون مئة أخماسًا على التفصيل المذكور: عشرون حقَّة، وهي التي تم لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، وعشرون جذعة، وهي التي تم لها أربع سنين ودخلت في الخامسة، وبعدها الثنية، وعشرون بنت مخاضٍ: تمَّ لها سنة ودخلت في الثانية، وعشرون بنت لبون: تم لها سنتان، وأمها ذات لبنٍ، هذه بنت مخاضٍ، أمها ماخض -حامل- وبنت لبون أمها قد ولدت، ذات لبن. والخامس: عشرون من بني لبونٍ، يعني: قعدان، قد أكملت سنتين ودخلت في الثالثة.

وفي اللفظ الآخر: "بني مخاضٍ"، واختلف في أيِّهما أصحّ؟ فقوم صحَّحوا رواية "بني لبون" كما قال المؤلفُ في رواية الدَّارقطني. وقوم صحَّحوا رواية "بني مخاض".

وفي حديث عبدالله بن عمرو الآتي أن الدية ثلاثون حقّة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها. خَلِفة بكسر اللام مع فتح الخاء: خلفة .....، وهي الحامل، يقال لها: خلفة. والعُرف عند الناس الآن يُسمون الخلفة التي فيها اللبن.

وفي اللفظ الآخر: ودية الخطأ وشبه العمد ثلاثون حقّة، وثلاثون جذعة، وأربعون في بطونها أولادها، فهذا اختلاف في المتنين.

فذهب قومٌ من أهل العلم إلى ترجيح رواية ابن مسعودٍ، وأن دية الخطأ تكون أخماسًا.

وذهب قومٌ آخرون إلى أنها تكون أثلاثًا: ثلاثون حقّة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، يعني: حوامل.

وعلى حسب التَّصحيح للروايتين اختلف العلماءُ: فمَن صحَّح رواية ابن مسعودٍ وضعَّف رواية عمرو بن شعيب، اختار أنها خماسية، ومَن صحح رواية عبدالله بن عمرو اختار أنها ثلاثية.

أما في العمد فتكون رباعيةً: خمس وعشرون حقّة، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون جذعة، على إحدى الروايات عن ابن مسعودٍ رحمه الله.

وهذا المقام مقام عظيم، اختلف فيه أهلُ العلم كما سمعت بسبب اختلاف الروايات في بيان أسنان الإبل الواجبة في الدية، ويحتاج إلى جمع الروايات وتتبع أسانيدها، ثم الحكم على الراجح منها، ولم يتيسر لي في هذه الأيام القليلة جمع الروايات لتأمل أسانيدها، وسأفعل إن شاء الله هذه الأيام.

وقد ألَّف بعضُ أهل العلم في هذا، واطلعتُ على كتابٍ جديدٍ في الديات، ولكن لم أتمكن من قراءته، ولعله عني بهذا الشيء.

فالحاصل أنَّ المقام يحتاج إلى مزيد عنايةٍ، ونرى التأجيل في البتِّ في الترجيح إلى وقتٍ آخر إن شاء الله؛ لأني الآن عندي توقف في الترجيح، والمعروف عند أصحاب أحمد ترجيح أنها خماسية في الخطأ، ورباعية في العمد، ولم يأخذ رحمه الله برواية عبدالله بن عمرو في التثليث، وقوم آخرون رجَّحوا رواية عبدالله بن عمرو في التَّثليث، وقدَّموها على رواية ابن مسعودٍ في التربيع والتَّخميس، ولكن مثلما تقدم الترجيح يحتاج إلى عنايةٍ، وإلى جمع الطرق ومعرفة كلام أهل العلم عليها؛ حتى يعتمد ما سلم منها من الانقطاع.

وحديث ابن عمرو: أنَّ أعتى الناس على الله ثلاثة: مَن ألحد في حرم الله، ومَن قتل غير قاتله، أو قتل لذحل الجاهلية.

هذا يدل على تحريم هذا الأمر، وأن القتل في حرم الله، والقتل لغير القاتل، والقتل لذحل الجاهلية أمر منكر، وأمر محرم، ومن عمل الجاهلية.

كان أهلُ الجاهلية يأخذون القريبَ بقريبه، فأبطل الله ذلك، وأنزل قوله: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، وقال النبيُّ ﷺ: لا يجني جانٍ إلا عن نفسه، فليس لأحدٍ أن يأخذ أخ القاتل أو عمَّ القاتل فيقتله، الجاني جنى على نفسه، لا على غيره؛ ولهذا قال في هذا: إنَّ أعتى الناس على الله ثلاثة، ذكر منهم: مَن قتل غير قاتله، ومَن ألحد في حرم الله. فالحرم له شأن، فالمعصية فيه يُضاعف وزرها، ويعظم وزرها؛ ولهذا يقول جلَّ وعلا: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].

وهكذا القتل لذحول الجاهلية وعداوتها، فإنَّ الإسلام أبطل ما قبله، ويجب أن يكون ما سبق بين الناس من الذحول باطلًا بمجيء الإسلام، ودخول الإسلام.

وروى البخاري رحمه الله في "الصحيح" عن ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما، عن النبي ﷺ أنه قال: أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومُبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئٍ بغير حقٍّ ليهريق دمه.

فهذا يدل على أنَّ هؤلاء الثلاثة من أبغض الناس إلى الله ؛ لغلظ معاصيهم:

الأول الملحد في الحرم: الذي يأتي المعاصي في الحرم: من الزنا، أو السرقة، أو قتل النفس بغير حقٍّ.

وهذا يدل على أنَّ الحرم تعظم فيه السيئات، كما تضاعف فيه الحسنات، وقد ثبت عن عثمان : أنه كان يغلظ الدية في الحرم فيجعلها ديةً وثلثًا تغليظًا على مَن قتل في الحرم، وغلظ مَن قتل مُعاهدًا بغير حقٍّ، أضعف عليه الدية.

وأما "مُبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية" فهذا لأنه أراد التَّلبيس على المسلمين، وإدخال ما كان من أمر الجاهلية في دينهم؛ فلهذا عظم أمره، وعظم خطره، ويجب أن تُحارب البدع، وألا تُقرب، ومَن أراد إدخالها بين المسلمين وإقامتها بين المسلمين والعمل بها بين المسلمين فهو داخلٌ في هذا الحديث، والحديث الآخر: لعن الله مَن آوى مُحْدِثًا، وفي لفظٍ: مُحْدَثًا، فسَّره بعضُ أهل العلم بأنَّ المراد به إيواء البدع على رواية فتح الدال، وعلى رواية كسرها إيواء المحدِثين، سواء أحدثوا معاصي أو بدعًا، يعني: نصرهم وتأييدهم وحمايتهم من أخذ الحقِّ، يجب أخذه منهم.

وأما مطلب دم امرئٍ بغير حقٍّ ليهريق دمه، فهذا واضح في جريمته العظيمة؛ لتعديه حدود الله، وأنه خالف قوله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، وخالف قول النبي ﷺ: لا يجني جانٍ إلا على نفسه.

وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الفتح" أنَّ عمرو بن شبة المعروف ..... في "أخبار مكة" ذكر شاهدًا مرسلًا لحديث ابن عمر: إنَّ أعتى الناس على الله ثلاثة، ذكره عن الزهري مرسلًا، وعن عطاء مرسلًا في معنى رواية ابن عمر: إنَّ أعتى الناس على الله ثلاثة .. إلى آخره.

والحديث الثالث: حديث ابن عباسٍ وما جاء في معناه في الأضراس والأصابع، فهو محل وفاقٍ: أن الأضراس سواء، والأصابع سواء، وهذا من الشارع حسمٌ لمادة النزاع، وحماية للمسلم من التَّعدي على أصابعه أو أضراسه، وأنها سواء، هذه وهذه سواء: الخنصر والإبهام والثَّنايا والأضراس سواء، كل واحدةٍ فيها خمس من الإبل.

والإنسان فيه اثنان وثلاثون ضرسًا، في المقدم في الوجه ستة وستة، اثنا عشر، وفي أطراف الفم خمس من هنا، وخمس من هنا فوق، وخمس من هنا، وخمس من هنا حدر، فالجميع اثنان وثلاثون ضرسًا، في كل واحدٍ خمس من الإبل، فيجب على المؤمن أن يخضع لحكم الله، وأن يحذر العدوان على غيره، والأضراس كلها سواء، فيها مئة وستون من الإبل، يعني الدية وثلاثة أخماس الدية لو أُخذت كلها.

والأصابع عشرة في اليدين، وعشرة في الرِّجلين، دية كل واحدةٍ عشرة، فلو أخذ أصابع يديه وجب عليه ديةٌ كاملةٌ، أو أصابع رِجليه وجب عليه دية كاملة، فإن أخذهما جميعًا وجب فيه ديتان، مع بقاء الإنسان، فهذا من حكمة الله جلَّ وعلا في حسم النزاع وحماية المؤمن عن العدوان عليه.

وحديث عبدالله بن عمرو كما تعلق في الطبِّ: مَن تطبب ولم يكن بالطبِّ معروفًا هذا يدل على أنَّ مَن تطبب فقد اعتدى على الناس، فيكون ضامنًا، ومعلوم أنَّ التعدي على الناس صاحبه يُؤخذ بعدوانه، وإذا كان لا يعلم الطبَّ، وليس عنده فيه بصيرة؛ يُعتبر مُتعديًا، فيضمن كما يضمن المتعدي على الناس في أي سببٍ، مَن تعدَّى عمدًا، أو تعدَّى في حكم الخطأ فإنه يضمن؛ لأنَّ مقام الإتلاف مقام عظيم، لا فرق فيه بين الخطأ والعمد من جهة الضمان، وإن كان فيه فرق بين الخطأ والعمد فيما يتعلق بالقصاص، لكن مَن تطبب ولم يكن بالطبِّ معروفًا فقد تعدَّى وظلم، فهو في حكم الخطأ، لا في حكم العمد؛ لشبه قصد التَّطبب، وقصد النفع، فيكون ضامنًا للدية إذا ترتب على تطببه تلاف نفس أو عضو أو منفعة، وهذا من عدالة الشريعة وحكمتها وحمايتها للأمة من عبث العابثين وجهل الجاهلين، والله المستعان، والله أعلم.

س: ..............؟

ج: هذا ليس المراد أنه يقتص منه، ولكن ليجلب المطلوب، ويحضر المطلوب؛ لأنهم يتعاونون في هذا، فإذا أخذ الإنسانُ من جهة إحضار المطلوب؛ لأنهم يتعاونون، وقد يحفظونه ويُبعدونه ويُخفونه، فهذا من باب حفظ الحقوق، إذا كانت قبيلة ..... منها أحد، الغالب أنها تدري عن مكانه، تعرف أين ذهب؟ أين اختفى؟ فإذا أخذ منهم بعض الناس حتى يحضروا ما لديهم، فليس هذا من باب القصاص منه، ولا من باب الجناية عليه، ولكن من باب حفظ الأمن، من باب أخذ القبيلة بما تتعارف عليه وتقوم به في نفسها.

س: ...............؟

ج: في قصة العُقيلي نعم.

س: ................؟

ج: نعم، هذا المقصود لحفظ الأمن؛ حتى لا تتعاون القبيلة، هذا يقتل، وهذا يختفي.

س: ...............؟

ج: تضاعف من جهة الصفة والكيفية، لا من جهة العدد، أما الحسنات تضاعف عددًا وكيفيةً، وأما السيئات الصحيح فيها أنها تضاعف كيفيةً لا عددًا.

1196- وَعَن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: فِي الْمَوَاضِحِ خَمْسٌ، خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَزَادَ أَحْمَدُ: وَالْأَصَابِعُ سَوَاءٌ، كُلُّهُنَّ عَشْرٌ، عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ.

1197- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: عَقْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِينَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ.

وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ: دِيَةُ الْمُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ.

وَلِلنَّسَائِيِّ: عَقْلُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا. وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.

1198- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْلُ عَقْلِ الْعَمْدِ، وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ، وَذَلِكَ أَنْ يَنْزُوَ الشَّيْطَانُ فَتَكُونُ دِمَاءٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي غَيْرِ ضَغِينَةٍ، وَلَا حَمْلِ سِلَاحٍ. أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَضَعَّفَهُ.

1199- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ إِرْسَالَهُ.

1200- وَعَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَمَعِي ابْنِي، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: ابْنِي، أَشْهَدُ بِهِ. قَالَ: أَمَّا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ، وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ.

الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: عن عبدالله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن النبي عليه السلام قال: في المواضح خمس خمس.

المواضح: هي جمع موضحةٍ، وهي التي تُوضح العظمَ، وهي جراح الرأس، سائر وجوه الرأس وجوانبه فيها خمس من الإبل، وهي نصف عشر الدية، سواء صغيرة أو كبيرة، متى أوضحت العظم وجب فيها خمس من الإبل، وفي الأصابع عشر عشر كما تقدم، فالموضحة والسن كما تقدم فيها خمس من الإبل، أما الأصابع ففي كل واحدةٍ عشر من الإبل كما تقدم، وهو محل وفاقٍ.

وجاء عن زيد بن ثابتٍ موقوفًا: في الهاشمة عشر من الإبل. وتقدم في المنقلة حديث عمرو بن حزم: خمسة عشر من الإبل.

والموضحة: التي تُوضح العظم ولا تكسره، والهاشمة تُوضحه وتكسره، فيكون فيها عشر، والمنقلة: تنقل العظام، تكسر وتنقل العظام، ففيها خمسة عشر كما تقدم، أما الأسنان ففيها خمس من الإبل، في جميع أنواع الأسنان، وهكذا أنواع الأصابع، لا فرق بين الإبهام والوسطى وغيرهما.

وهذا من حكمة الله كما تقدم وفضله: أن قطع النزاع والمشاكل، وجعل الدية واحدةً في هذه الأمور؛ حمايةً لها، وصيانةً لها، وردعًا للغير عن التَّعدي عليها، وكفًّا للنزاع والاضطراب لو كانت هناك أشياء تتعلق بتمييز بعضها على بعضٍ.

والحديث الثاني حديث عبدالله بن عمرو أيضًا: أنَّ النبي ﷺ قال: عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين.

وهو حديث جيد، وهو من أحاديث عمرو الجيدة، رواه أحمد وأهل السنن، وأهل الكتاب هم: اليهود والنصارى، عقلهم النصف، وهذه المسألة اختلف فيها العلماءُ:

فقال قومٌ: إنَّ فيهم الدية كاملة. واحتجُّوا بأشياء وردت في ذلك.

وقال قومٌ: فيها الثلث؛ أربعة آلاف من اثني عشر.

والصواب ما دلَّ عليه الحديثُ، وهو نصف عقل المسلمين، فإنه حديث جيد الإسناد صحيح، فلا وجه لمخالفته، لكن إذا قتل عمدًا -قتل المسلمُ الذّميَّ عمدًا- اختلف العلماءُ: هل تضعف عليه الدية ويُعزر بذلك؟ على قولين:

منهم مَن رأى التَّضعيف، كما جاء عن عثمان أنه ضعَّف الدية عليه من باب التَّعزير، فنصفها دية، ونصفها تعزير، إذا كان عمدًا بغير حقٍّ.

وإليه ذهب أحمد وجماعة من السلف، وهو قول حسن جيد، وهو قول الخليفة الراشد رضي الله عنه وأرضاه.

أما إذا كان ذلك خطأ أو شبه عمدٍ ففيه نصف الدية فقط.

واختلفوا في الكافر غير أهل الكتاب: كالمجوسي، والوثني المستأمن والمعاهد، هل ديته مثل دية الكتابي؟

فجاء عن عمر وجماعة أنها ثلث خُمس الدية، ثمانمئة من اثني عشر ألفًا، يعني: ثلث خمس الدية؛ لأنَّ الاثني عشر قُومت به الدية في وقت النبيِّ ﷺ ووقت عمر، اثنا عشر ألفًا خمسها ألفان وأربعمئة، وثلث الخمس ثمانمئة، جاء هذا عن عمر وجماعةٍ من السلف، وحُكي قول الجمهور.

وقال آخرون من أهل العلم: بل نصف الدية كأهل الكتاب. وهو قول عمر بن عبد العزيز وجماعة.

والأقرب هو أنه مثل أهل الكتاب، متى كان المجوسي أو الوثني مُستأمنًا أو مُعاهدًا ففيه النصف، والحجَّة في ذلك ما رواه النَّسائي بإسنادٍ صحيحٍ عن عبدالله بن عمرو: أن النبيَّ ﷺ قال: عقل الكافر نصف عقل المسلم، فعمم، وهو أشبه؛ لأنَّ المعاهد له حُرمة، والثمانمئة شيء يسير، وحكمة الشارع وحمايته للنفوس وحمايته لحقوق الغير تقتضي أن تكون العقوبةُ أكثر، فإلحاقهم بأهل الكتاب بجامع أنهم أهل ذمةٍ، أو أهل أمانٍ، أو أهل عهدٍ أظهر، ولعل ما جاء عن عمر عذره فيه أنه خفي عليه ما ورد فاجتهد في ذلك.

س: ...............؟

ج: هذه تُؤيد رواية النَّسائي، والآخرون يحملون المعاهد يعني: من أهل الذمة، هي تُؤيد رواية النَّسائي، وهي أيضًا من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، كلها من طريق عمرو.

س: ...............؟

ج: نعم حُجَّة، إذا كان الراوي عنه ثقةً حُجَّةً، هذا الصواب، إلا إذا خالف مَن هو أوثق منه، مثل ابن إسحاق، ومثل جماعة آخرين، إذا صرح بالسماع.

والحديث الثالث حديث عمرو أيضًا: أنَّ النبي ﷺ قال: عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْلُ عَقْلِ الْعَمْدِ، وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ، وَذَلِكَ أَنْ يَنْزُوَ الشَّيْطَانُ فَتَكُونُ دِمَاءٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي غَيْرِ ضَغِينَةٍ وَلَا حَمْلِ سِلَاحٍ. أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَضَعَّفَهُ، وأخرجه أبو داود أيضًا.

والعجب من المؤلف: كيف لم ينسبه إلى أبي داود؟! كأنه ذهل عن ذلك، فقد أخرجه أبو داود أيضًا بإسنادٍ فيه سليمان بن موسى، وفيه ضعف، وفيه لين، وعلَّق قوله: وذلك بأن ينزو الشيطان عن شيخ شيخه، وفيه: في عمياء ..... فتكون دماء بين الناس من غير ضغينةٍ ولا حمل سلاحٍ.

والحاصل من هذا على ضعف الحديث: أنَّ المراد بقتل شبه العمد أن يكون قتل ليس فيه تعمد القتل، بل فيه تعمد جنس أسباب تُشبه جنس القتال، لكن ليس فيه تعمد قتل الشخص، مثل: الضرب بالعصا، والضرب بالحجر، والضرب بالأيدي، وما يقع بين الناس من المضاربات والمدافعات، فهذا حكمه حكم شبه العمد، وليس فيه قود، ولكن فيه الدية كما تقدم في حديث مَن قُتل في عمياء .. إلى آخره، فعقله عقل الخطأ، وهو أصح من هذا، فهذا وأشباهه محمول على ما تقدم من حديث عبدالله بن عمرو في قتيل الخطأ وشبه العمد، الحكم واحد في ذلك: أنه يُودى ولا يُقتل صاحبه؛ من أجل عدم تعمد القتل.

والحديث الرابع حديث ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما: أنَّ رجلًا قتل رجلًا، فجعل النبيُّ ديته اثني عشر ألفًا. أخرجه أهلُ السنن الأربعة، لكن اختلفوا في إرساله وفي وصله: فجماعة من الثِّقات أرسلوه عن عكرمة، وبعض الثِّقات وصله عن عكرمة، عن ابن عباسٍ. لكن رجَّح أبو حاتم والنَّسائي إرساله.

وقد سبق غير مرة أنَّ الصواب في هذه المسائل تقديم قول مَن وصل الحديث وأتى به على وجهٍ مستقيمٍ، وإن كان خالفه الكثيرون، فالأولى والأحق أن تكون روايته كروايةٍ مستقلةٍ تُقبل، فزيادة الراوي الثقة مقبولة وإن خالفه جماعة، كما تقدم في قول الحافظ:

وَاحْكُمْ لِوَصْلِ ثِقَةٍ في الأَظْهَرِ وَقِيْلَ: بَلْ إرْسَالُهُ لِلْأَكْثَرِ

فالأكثرون يُقدمون رواية الأكثر والأحفظ، ولكن الصواب تقديم رواية الثِّقة إذا زاد شيئًا، فإذا رواه ثقتان أو أكثر عن عكرمة مرسلًا، ورواه ثقةٌ عن عكرمة عن ابن عباسٍ متَّصلًا، فالثقة الذي وصله أولى، وإن كان الذين خالفوه جماعة.

وهكذا المنقطع والمتصل: فلو رواه جماعةٌ مُنقطعًا، ورواه ثقةٌ متَّصلًا، فرواية الثقة الذي وصله أولى؛ لأنها زيادة خفيت على الآخرين، وهي من ثقةٍ فتُقبل.

وقال الحافظ في "النخبة" رحمه الله: "وزيادة راويهما -راوي الحسن والصحيح- مقبولة ما لم تقع منافيةً لمن هو أوثق"، أما إذا نافت فيُحكم على رواية الثِّقة التي خالفت رواية الثِّقات بالشُّذوذ، أما عند عدم المنافاة وعند عدم امتناع الجمع فلا مانع أن تُقبل روايته ويُقدم في ذلك كأنها رواية مستقلة، وحديث مستقل.

وبهذا يعلم أنَّ حديث ابن عباسٍ صحيح، ولكن كون الرسول وداه باثني عشر ألفًا المعتمد في هذا أنها كانت هي القيمة ذاك الوقت، وليست ديةً مستقلةً على الأرجح، تقدم قول مَن قال: إنها دية مستقلة، وأنها أصل من الأصول، احتجوا بهذا الحديث، ولكن الأحاديث الصحيحة الكثيرة كلها دالة على أن الأصل هو الإبل، والباقي قيمة، وهو الذي تبرأ به الذمة، وتجتمع به الأدلة.

والحديث الخامس: حديث أبي رمثة البلوي، ويقال: التميمي، ويقال: التيمي، اختلفوا في اسمه واسم أبيه.

أنه وفد على النبي ﷺ، فسأله عن ابنه فقال: هو ابني، واشهد به. فقال له النبيُّ ﷺ: إنه لا يجني جانٍ إلا على نفسه، وقال: إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه.

هذا مما احتج به العلماء على أنه لا يُؤخذ أحدٌ بجريرة غيره، بل إنه أوجب العدل، فليس لأحدٍ أن يقتل أحدًا بعمل أخيه، أو ابن عمه، أو عمه، أو نحو ذلك، بل هذا من شأن الجاهلية، والله يقول سبحانه: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، فالقتل يكون لمن قتل، والجرح لمن جرح، لا لمن لم يفعل ذلك؛ لكونه قريبًا من القاتل أو الجارح، لا، هذا من سنن الجاهلية، والواجب هو العدل، وألا يُؤخذ أحد إلا بذنبه.

وهذا محل وفاقٍ وإجماعٍ بين أهل العلم، لكن لا يُنافي هذا ما تحمله العاقلة؛ لأنَّ هذا من باب التعاون، ما تحمله العاقلة من الديات هذا من باب التعاون بين القبيلة، وكذلك ما يجب أن يُؤخذ به أفراد القبيلة إذا كانت متعاونةً متساعدةً في أمورها، فيُؤخذ بعضها ببعضٍ حتى يحضر الجاني، فهو من باب الحيطة للدماء، والحيطة للأمن، وعقوبة القبيلة بما اعتادته وعرفته وسارت عليه من تعاون بعضها مع بعضٍ في الشر والخير، والله أعلم.

بَابُ دَعْوَى الدَّمِ وَالْقَسَامَةِ

1201- عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ: أَنَّ عبدالله بْنَ سَهْلٍ ومُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأُتِيَ مُحَيِّصَةُ فَأُخْبِرَ أَنَّ عبدالله بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ. قَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَأَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَعبدُالرحمن بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كَبِّرْ، كَبِّرْ يُرِيدُ: السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يَأْذَنُوا بِحَرْبٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ كِتَابًا، فَكَتَبُوا: إِنَّا وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ. فَقَالَ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعبدالرحمن بْنِ سَهْلٍ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ؟ قَالُوا: لَيْسُوا مُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مِئَةَ نَاقَةٍ. قَالَ سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1202- وَعَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَقَرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ نَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الشيخ: هذا الباب في دعوى الدم والقسامة، معلوم أنَّ الدعاوي، يُقال: دعاوي، ودعاوى، وفتاوي، وفتاوى، معلوم أنها تكون في الدماء، وتكون في الأموال، وتكون في الأعراض، لكن هذا الباب فيما يتعلق بالدم، والأصل في هذا الباب: "البينة على المدَّعي، واليمين على مَن أنكر"، هذا هو الأصل كما في حديث ابن عباسٍ في "الصحيحين": لو يُعطى الناسُ بدعواهم لادَّعى ناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه رواه البخاري ومسلم في "الصحيحين"، ورواه البيهقي بإسنادٍ صحيحٍ، وزاد: البينة على المدَّعي، واليمين على مَن أنكر.

وفي هذا المعنى ما جاء في "الصحيحين" من حديث .....: شاهداك أو يمينك، قال: إذن يذهب بمالي! قال: ليس لك إلا ذلك، هذا هو الأصل: أنَّ مَن ادَّعى دعوى فعليه البينة، فإن لم يجد فله يمين خصمه؛ لأنَّ الأصل البراءة والسلامة، هذا هو الأصل: براءة المدَّعى عليه، يكفيه اليمين، جنبه قوي، وهو أنَّ الأصل براءته حتى تُشغل ذمته بشيءٍ، بالبينة، إذا كان المدَّعي لا بينةَ له فليس له إلا يمين خصمه، إلا أن يتقوى جانب المدَّعي بشاهدٍ واحدٍ، فقد حكم النبي بالشاهد واليمين عليه الصلاة والسلام في الأموال، فإذا تقوَّى جانبه بشاهدٍ واحدٍ حلف أيضًا وأخذ حقَّه المالي.

وهكذا إذا قوي جانب المدَّعي بالقرائن؛ فقد يحكم باليمين عند وجود القرائن القوية الدالة على صدقه، ومن ذلك مسألة القسامة، فإنَّ المدعين حكم لهم بالأيمان، كما في حديث سهل المذكور، وهم مدعون، والأصل أنَّ الأيمان في حقِّ المدَّعى عليه، لكن خولف هذا الأصل بسبب أن المدَّعين جانبهم أقوى؛ لما معهم من اللوث، يعني: لما معهم من العلامة والدلالة على صدقهم، سُميت العلامة: لوثًا، بمعنى أنه حُجَّة أو دليل على صدق المدعين، واللوث يكون تارةً بالعداوة، كما بين اليهود والمسلمين، فإنَّ عداوة اليهود أمر معلوم، عداوة اليهود للمسلمين شيء لا خفاء به.

واختلفوا هل هناك لوث آخر غير العداوة؟

والجمهور على أنه هناك غير العداوة، وأنَّ اللوث يكون بكلِّ ما يغلب على الظنِّ صحة الدَّعوى، سواء كان ذلك عداوةً كما بين اليهود والمسلمين، أو كان غير ذلك، مثل: إذا شهد بالقتل جماعةٌ من النساء، أو جماعة من الفساق، أو من الصبيان، أو من الكفار الذين يُوثق بأخبارهم، فلأولياء الدم أن يحلفوا بأنَّ هذا لوث، يغلب على الظنِّ صحة الدَّعوى.

ومثل: لو رأوه واقفًا عليه ومعه سكين أو سيف أو ما أشبه ذلك، وهو يتشحط في دمه، فإنَّ هذا لوث ظاهر في تهمته بهذا القتل، وما أشبه ذلك، وهذا هو الصواب.

الصواب أنَّ كلَّ ما يغلب على الظنِّ صحّة الدَّعوى فهو لوث يسوغ لهم اليمين معه في دعواهم على مَن قتل موليهم، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قال لهم النبيُّ ﷺ: ..... أو تحلفون وتستحقون دم صاحبكم، قالوا: أمر لم نره ولم نشهده كيف نحلف يا رسول الله؟ فدلَّ ذلك على أنَّ الخيرة لهم؛ إذا أرادوا أن يبدؤوا بالأيمان فلهم؛ لأنَّ جنب ..... أقوى، واللَّوث في حقِّهم واضح، فإن أبوا فلهم أيمان خصومهم المتَّهمين وإن كانوا كفَّارًا، قال لهم: تحلف يهود بخمسين يمينًا، قال: تُبرئكم يهود بخمسين يمينًا؟ قالوا: يا رسول الله، قوم كفَّار ليسوا مسلمين، فكيف نأخذ بأيمانهم؟! فلما رأى ما رأى من الأنصار وتوقفهم عن الأيمان وعن قبول أيمان اليهود، واسى الحال وأصلح الحال بأن وداه من عنده عليه الصلاة والسلام، وسلم لهم مئةً من الإبل؛ حسمًا لمادة النزاع بينهم وبين اليهود، وحسمًا لمادة الفتنة بينهم وبين اليهود، وتطييبًا لنفوس الأنصار و..... لدم صاحبهم ، وهذا من باب الإصلاح، وأنه ينبغي لولي الأمر في مثل هذه الأمور أن يتوسط بالإصلاح، وألا يُشدد في الحكم؛ لأنَّ الإصلاح يترتب عليه مصالح كبيرة، وأعمال خيرية كثيرة، وإن رأى أن يلزم ألزم، يقول: ليس لكم إلا ذلك: إما أن تحلفوا، وإما أن تقبلوا أيمانهم، فله أن يلزم، وله أن يُصلح: إما ببينةٍ، أو بحكمٍ، ثم أصلح وأحسن عليه الصلاة والسلام.

وقد وقع للشارح هنا كلام غير طيبٍ، فإنه اعترض على قول الجمهور في القسامة، وقال: إنه لا دليلَ معهم في هذا، وأنَّ هذا ليس بحكمٍ من النبيِّ ﷺ، وإنما هو إرضاء للخصوم من غير حكمٍ. كلام ليس بجيدٍ في هذا المقام، والصواب ما قاله الجمهور، وأنه حكم، حكم به ﷺ؛ لأنَّ قوله: تحلفون أو تُبرئكم يهود؟، فهذا حكم، لكن لما لم يقبلوا لم يُلزمهم، فدلَّ ذلك على أنَّ ولي الأمر له أن يعفو ولا يلزم، وله أن يتوسط بالصلح، وله أن يُحسن بما يرى، من دون إلزامٍ بالحكم.

هذا أمر معلوم، ولهم في هذه قصة وحدها، حتى في غيرها من القصص إذا كانت هناك خصومة شديدة ولم يتَّضح فيها الحكم كما ينبغي، وتشدد المدعون في طلب حقِّهم، ولم تتوافر البينات في حقِّهم، أو لم يتضح الحكم للقاضي أو لولي الأمر، فله أن يُصلح، وله أن يبذل شيئًا من المال من المحسنين أو من بيت المال؛ للقضاء على الفتنة، ولإنهاء الحكم في هذه المسألة المشكلة، أو التي فيها تعصب من جانب المدعين، أو جانب المدَّعى عليهم، ليس هذا .....

وقد سمع النبيُّ ﷺ أصواتًا في المسجد، فرفع ستره، فإذا هو كعب بن مالك وابن أبي حدرد يتنازعان قد ارتفعت أصواتهما في دَينٍ لكعبٍ على ابن أبي حدرد، فقال عليه الصلاة والسلام: يا كعب، ضع الشَّطْرَ، فقال: نعم يا رسول الله، وقال: يا فلان، قم فاقضه حقَّه، فأصلح بينهما بالشطر، كان بإمكانه أن يقول: هاتِ بينةً يا كعب على أنه مليء حتى يُؤدي لك، أو حتى ..... معسر، توسَّط بينهما بالصلح من دون إلزامٍ لهذا بإحضار بينة اليسار، ولا إلزام لهذا بإحضار بينة الإعسار، بل من باب الصلح بينهما.

المقصود أنَّ الصلح ممكن حتى في غير القسامة، والجود من ولي الأمر أو من بعض الحاضرين والمحسنين بأن يُسلموا مالًا ويتوسَّطوا بمالٍ بين الخصوم، كل هذا لا بأس به، والله أعلم.

وذكر العلماءُ أنها لا تتم إلا بشروطٍ أربعة:

الشرط الأول: الدَّعوى، لا بدَّ من دعوى.

الثاني: أن يكون هناك لوث.

والثالث: اتِّفاق الأولياء، فإن اختلفوا: بعضُهم أبرأ، وبعضهم لم يُبرئه؛ فلا قسامةَ.

والرابع: أن يكون فيهم ذكور .....، وهذه مسألة خلاف، لكن هذا هو مذهب أحمد وجماعة، وهو الأرجح؛ لأنَّ الرسول ﷺ ما سأل عن النساء فقال: يقسم خمسون منكم على رجلٍ منهم. فدلَّ على أنه مناط في الرجال، لا في المدعين، ولا في المدَّعى عليهم اليهود ..... بأيمان خمسين منهم، هذا يدل على أنه مناط بالرجال، وهذا هو الأرجح؛ لظاهر السنة.

ومن الفوائد: أن الأكبر يتقدم في الدَّعوى؛ ولهذا قدم النبيُّ حُويصة على محيصة وعلى عبدالرحمن، مع أنَّ عبدالرحمن هو أخوه، وهؤلاء بنو عمه، ومع ذلك قدَّم حُويصة؛ لكبر سنِّه.

واحتجَّ بهذا بعضُ أهل العلم على أنَّ الأيمان لا تقتصر على الورثة، بل تُؤخذ من العصبة مطلقًا وإن كانوا غير وارثين؛ لأنَّ العار يعمّهم، كما يقتل صاحبهم -يقتله أعداؤه- يعمّهم، فإذا حلف العصبةُ خمسين يمينًا إن كانوا كثيرين أو ..... منهم كانوا اثنين حلفوا على خمسة وعشرين، أو كانوا ثلاثةً ..... الكسر، وحلف كل واحدٍ سبعة عشر يمينًا، وهكذا.

وفي القصة فوائد أخرى لمن تأمَّلها، لكن هذه من أبرز فوائدها.

وقول سهل في آخر الحديث: ركضتني ناقةٌ منها. الركض: ضربته برجلها، يُسميه الناس: الرمح، رمحته، فيكون قصده لبيان أنها إبل موجودة، وأنها حقيقة، وأنَّ الرسول ﷺ سلَّمها لهم، وتسلَّموها منه عليه الصلاة والسلام، حتى إنه أصابه من أذاها .

س: ...............؟

ج: هو الظاهر، الأقرب أنه لوث في ذلك، إذا غلب على الظنِّ صدقهم عند المدعين ..... بعض الصبيان وبعض النساء قد يكونون أفضل من كثيرٍ من الرجال.

س: ...............؟

ج: الشَّهادة وإن كانت لا تُقبل في الدماء، لكن يغلب على الظنِّ صدق المدَّعين.

.................

بَابُ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ

1203- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1204- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَمَاتَ فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1205- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1206- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَلْ تَدْرِي يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ كَيْفَ حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟، قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا، وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا، وَلَا يُطْلَبُ هَارِبُهَا، وَلَا يُقْسَمُ فَيْؤُهَا. رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ فَوَهِمَ؛ فَإِنَّ فِي إِسْنَادِهِ كَوْثَرَ بْنَ حَكِيمٍ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ.

1207- وَصَحَّ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طُرُقٍ نَحْوُهُ مَوْقُوفًا. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَاكِمُ.

1208- وَعَنْ عَرْفَجَةَ بْنِ شُرَيْحٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ، يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

الشيخ: قال المؤلفُ رحمه الله: باب القتال في البغي. البغي مصدر: بغى يبغي بغيًا، وهو التَّعدي والعدوان والظلم.

وأهل البغي هم الذين يخرجون على الإمام، مَن له شوكة وله منعة؛ لتأويلٍ لهم فيه شبهة، وقد عبَّر بعضُهم: لهم تأويل سائغ. يعني: لهم شبهة، يُريدون خلع ولايته إلا أن يُعطيهم مطالبهم، هؤلاء يُقال لهم: بغاة، خرج قومٌ لهم شوكة ومنعة وقوة يُطالبون بخلع الإمام إلا أن يُعطيهم مطالبهم من كذا وكذا: من توليتهم كذا، أو عزل كذا، أو ما أشبه ذلك، هؤلاء يقال لهم: البُغاة، وحكمهم مثلما قال الله جلَّ وعلا: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]، حكمهم أنهم يُقاتلون، أولًا الصلح: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، فإذا أمكن الصلحُ فهو الواجب مقدمًا: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، فيُرسل لهم الإمامُ من العلماء والأخيار مَن يكشف شُبهتهم، ويُبين حال الإمام الذي خرجوا عليه، ويسألهم عمَّا نقموا عليه، فإن كانوا ذكروا مظلمةً طُولب الإمامُ بإزالتها، إن كانت شبهةٌ عرضت لهم بتكفيره وضحت لهم الشبهة؛ لأنهم قد يعتقدون أنه كافر، وأنه أتى كفرًا بواحًا، فيُبين لهم حال الإمام، وأنه لم يأتِ هذا الأمر الذي أوجب خروجهم إذا كان الأمر كذلك، فإن رجعوا عن خروجهم وقنعوا بما وجهوا إليه فالحمد لله، وإن صُولحوا على شيءٍ يكفّ شرَّهم فلا بأس: كأموالٍ يُعطون إياها، أو انتقال من محلٍّ إلى محلٍّ يُرضيهم، أو ما أشبه ذلك، فإن أبوا قُوتلوا كما قاتل عليٌّ معاوية وأصحابه.

فإنَّ معاوية وأصحابه في حكم البغاة؛ لأنهم خرجوا بشبهةٍ، خرجوا بشبهة قتال قتلة عثمان، وقالوا: إنهم قتلوه من غير حقٍّ، وهو من بني أمية، ومع معاوية جمعٌ من بني أمية يُطالبون بدم عثمان ويقولون: هؤلاء قتلوه، نُريد أن يُسلمهم عليٌّ لنا. هذه شبهة أوجبت خروجهم، وقد كاتبهم عليٌّ في هذا وأراد منهم الرجوع، وأنه سينظر في أمر القتلة؛ لأنَّ القتلة ليسوا أفرادًا، القتلة جمٌّ غفير، ولهم قبائل، ولهم قوة، لا يمكن لعليٍّ [أن] يُسلمهم في الحال، ولا يستطيع ذلك.

فأصرَّ معاوية وأصحابه على المطالبة، وصارت الحروبُ المعروفة: أولها حرب الجمل على يد عائشة ومَن معها، ثم حرب صفين على جيش معاوية ومَن معه مع أهل العراق، مع عليٍّ وأصحابه، هذه من البلاوي التي وقعت في أول الزمان، في أول عصر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، مع كون هذا العصر العظيم عصر الذهب، عصر الخير، ومع هذا وقعت فيه الفتنة -فتنة البغي.

وهم يُقاتلون مقاتلةَ دفع الصائل، يُقاتلون عند الضَّرورة مُدافعة الصائل؛ حتى يرجعوا عمَّا هم عليه، وحتى ينضموا للجماعة، فإذا هداهم الله وانضموا للجماعة كفَّ عنهم، وإن أصروا قُوتلوا حتى يدفع شرَّهم، فإذا هربوا وانهزموا تُركوا، لا يُطلب حاكمهم، ولا يُجهز على جريحهم، ولا يُقتل أسيرهم، بل يُسجن حتى تنتهي الفتنة ثم يُطلق، ولا يُقسم فيئهم، بل أموالهم لورثتهم.

هكذا عاملهم عليٌّ لما جرى ما جرى بينه وبينهم كما يأتي في أثر ابن عمر، وإن كان ضعيفًا، لكن هذا عمل عليٍّ معهم رضي الله عنه وأرضاه.

ويأتيكم حديث أم سلمة -الحديث الثالث: تقتل عمَّارًا الفئةُ الباغية رواه مسلم، ورواه البخاري رحمه الله في الصحيح عن أبي سعيدٍ الخدري، قال: تقتل عمَّارًا الفئةُ الباغيةُ، ذكره رحمه الله في باب التَّعاون في بناء المسجد في كتاب الصلاة.

وقال ابن عبد البر: إنها متواترة. أحاديث تقتل عمَّارًا الفئةُ الباغيةُ أنها مُتواترة في المعنى، وذكره غيره أيضًا، فهذا دليل على أنَّ معاوية وأصحابه في حكم البُغاة.

ومنه الحديث الآخر الصحيح: تمرق مارقة على حين فرقةٍ من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحقِّ، والمارقة هم الخوارج؛ فإنهم مرقوا في عهد اختلاف معاوية وعليٍّ، وقتلهم عليٌّ وأصحابه، فصار عليٌّ أولى الطائفتين.

وفيه الحكم على ..... أنهم مسلمون، معاوية وأصحابه، وعلي وأصحابه كلهم مسلمون، لكن عليًّا وأصحابه هو الإمام، وهو مبغي عليه، فهو وأصحابه أولى الطائفتين بالحقِّ؛ ولهذا صار على أيديهم قتل الخوارج.

وحديث ابن عمر: مَن حمل علينا السلاحَ فليس منا، هكذا يقول النبيُّ ﷺ، هذا يدل على أنه لا يجوز حمل السلاح على أمة محمدٍ ﷺ: يُقتل برُّها وفاجرها، لا يُحمل السلاح إلا على مَن استحقَّه: كالبُغاة، وقُطاع الطريق، والكفار، أما أن يُحمل على أهل العدل لشبهةٍ هذا .....، بل يجب التَّناصح والمذاكرة وحلّ المشاكل بغير السلاح، وهذا جاءت له شواهد كثيرة في المعنى.

وفي الحديث الآخر: مَن خرج عن الطاعة وفارق الجماعة ومات فميتته كميتة الجاهلية، وهذا أيضًا له شواهد عن النبي ﷺ كثيرة صحيحة.

فالواجب على أهل الإسلام: لزوم الطاعة، ولزوم الجماعة، وإن جرى من الإمام ما جرى من النَّقص أو معصيةٍ، حتى يروا كفرًا بواحًا عندهم من الله فيه برهان، كما جاء في الأخبار عن النبي ﷺ.

وفي الجماعة الخير العظيم، والأمن، والراحة، والطمأنينة، وصلاح الأحوال، ونصر الحق، والقضاء على البدع والأهواء، وفي الاختلاف والقتال والفتن الشر العظيم، وظهور البدع والمنكرات، وانقسام الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وحديث أم سلمة عرفت معناه.

والحديث الرابع حديث ابن عمر في حكم الله فيمَن بغى: يُروى أنَّ الرسول قال لابن أم عبد، وهو ابن مسعودٍ، يقال له: ابن أم عبد: كيف حكم الله فيمَن بغى من هذه الأمة؟ وهو حديث ضعيف كما سمعت؛ لأنَّ في إسناده كوثر بن حكيم، وقد ضعَّفه الأئمةُ، وذكروا أنَّ حديثه ليس بشيءٍ.

فيه أن جريحهم لا يُجهز عليه، ولا يُطلب هاربهم، ولا يُقتل أسيرهم، ولا يُقسم فيؤهم، وهذا وإن كان ضعيفًا مثلما تقدم له شاهد من عمل عليٍّ، وهو ..... عليّ وجرى بينه وبينهم ما جرى، وقال لهم ما قال من الدَّعوة إلى الرجوع إلى الجماعة، وأنه سوف ينظر في أمر قتلة عثمان، ولكن ما حكم الله به جرى، وكانت هذه الواقعة من علامات نبوة النبي ﷺ، وأنه رسول الله حقًّا؛ فإنه قال: تمرق مارقةٌ على حين فرقةٍ من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحقِّ، فحصلت هذه الفرقة، وحصلت هذه المارقة، وصار هذا علمًا من أعلام النبوة.

والحديث الخامس حديث عرفجة بن شريح: أن النبيَّ ﷺ قال: مَن أتاكم وأمركم جميع، يريد أن يُفرق جماعتكم فاقتلوه، وفي لفظٍ: يريد أن يُفرق جماعتكم، ويشقّ عصاكم، وفي لفظٍ: وأنتم على رجلٍ واحدٍ فاقتلوه كائنًا مَن كان، وفي اللفظ الآخر: إذا بُويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما.

فهذا يدل على أنَّ مَن خرج على الناس وهم جميع يُريد تفريق الصفِّ، تفريق الجماعة، فإنه يُقتل.

وهكذا إن خرج قومٌ وبايعوا شخصًا آخر بعد البيعة الأولى يُقتل؛ لأنَّ هذا معناه تفريق الجماعة، وإيجاد الفتن، وتقسيم المسلمين، والإخلال بالأمن، فوجب قتله.

والخارج على الإمام وعلى الناس أقسام:

منهم البُغاة: وعرفت حكمهم، وأنهم مسلمون يخرجون لشبهةٍ تعرض لهم على الإمام؛ لإزالة دولته، أو تسليمه ما يطلبون منه، وحكم البُغاة تقدم.

الطائفة الثانية: الخوارج، والخوارج أشنع من البُغاة وأقبح، وهم يخرجون لتكفير المسلمين، ما قصدهم الإمام وحده، يخرجون مُكفِّرين للمسلمين، ناقمين عليهم، يُقاتلونهم، ويدعون عباد الأوثان والأصنام، فهم يُكفرونهم؛ ولهذا قال النبيُّ فيهم: أينما لقيتُموهم فاقتلوهم، فإنَّ قتلهم أجرٌ لمن قتلهم، وقال فيهم: يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه.

اختلف العلماءُ فيهم: فذهب الجمهور إلى أنهم عُصاة وفسقة، وليسوا كفَّارًا، قال فيهم عليٌّ: من الكفر فرُّوا.

وذهب جماعةٌ من أهل الحديث إلى أنهم كفَّار؛ لصراحة الأحاديث في ذلك؛ لأنَّ الرسول قال: يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه، فظاهر السنة أنهم كفار بسبب تكفيرهم للمسلمين، واستحلالهم دماءهم وأموالهم بدون شبهةٍ؛ فلهذا الصواب فيهم قول مَن قال بكفرهم؛ ولهذا أمر بقتلهم مطلقًا عليه الصلاة والسلام.

والطائفة الثالثة: قُطَّاع الطريق: هم يخرجون لنهب أموال الناس، والتَّعرض لهم في الفيافي والقفار في الغالب، وقد يعرضون لهم في البناء والقُرى والمدن، هؤلاء حكمهم أنهم يُقتلون، أو تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ، أو يُصلبون، أو يُنفون كما قال الله في حقِّهم، فلا يجوز إقرارهم، بل يجب على ولي الأمر مُتابعتهم، وبعث البعوث لتتبعهم في كل مكانٍ حتى يُمسكوا، ثم هو مُخير: إن شاء قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم، وإن شاء نفاهم، كما بيَّن الله في سورة المائدة.

وقد فعل ذلك قومٌ في عهد النبيِّ ﷺ، وهم العُرنيون، فقتلوا الراعي، واستاقوا النعم، وسملوا عين الراعي، فبعث النبيُّ في آثارهم، فأُمسكوا، فجاء بهم، وقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ، وتركهم في الحرة، ولم يحسمهم، بل تركهم، يستسقون فلا يُسقون حتى هلكوا، شدد عليهم ﷺ، وهو أرحم الناس، وأرفق الناس، لكن لعظم جريمتهم وخُبث جريمتهم قطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ وتركهم حتى ماتوا.

فهذا يدل على شدة جريمة قُطَّاع الطريق وخطرهم على الناس؛ لأنهم يُخيفون الطرق، ويُؤذون المسلمين، وينهبون الأموال، ويسفكون الدماء بغير حقٍّ، بل لطمع في المال، فهؤلاء هم قُطَّاع الطريق، والواجب فيهم أن يُبادوا، وألا يُرحموا؛ لظلمهم وفسقهم وعدوانهم وإيذائهم المسلمين، نسأل الله العافية والسَّلامة.

...............