45 من حديث (من قتل دون ماله فهو شهيد)

بَابُ قِتَالِ الْجَانِي وَقَتْلُ الْمُرْتَدِّ

1209- عَنْ عبدِالله بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

1210- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَاتَلَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ رَجُلًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ، فَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: أَيَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ؟! لَا دِيَةَ لَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

1211- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ﷺ: لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ: فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ.

1212- وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّ حِفْظَ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ حِفْظَ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ مَا أَصَابَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَفِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ.

الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: باب قتال الجاني وقتل المرتد. غاير بين العبارتين، قال: قتال الجاني، وقتل المرتد. ولم يقل: باب قتل الجاني وقتل المرتد. ولعل السرَّ في ذلك أنَّ الجاني قد لا يُقتل، وإنما يُحاول دفعه، وهو الصائل، فالصائل لا يُقتل ابتداءً، ولكن يُحاول دفع شرِّه بالأسهل فالأسهل؛ فلهذا قال: باب قتال الجاني. يعني: يصول عليه ويجني عليه، فإنك تُقاتله، بمعنى: تُدافعه، مثلما في حديث أبي سعيدٍ: فليُقاتله؛ فإنه شيطان، المار بين يدي المصلي، يعني: يُدافعه بما أمكن.

والصائل: الذي يصول على الإنسان لأخذ ماله، أو التَّعرض لحريمه، أو لنفسه، يُدافعه بالأسهل فالأسهل، فإن لم يتيسر دفعه إلا بالقتل قتله.

أما المرتد فلا حاجةَ إلى مُدافعته، بل يُقتل؛ ولهذا قال: وقتل المرتد؛ عملًا بالحديث الصحيح: مَن بدَّل دِينَه فاقتلوه، ما قال: فقاتلوه؛ لأنَّ هذا أمر ثبت، فهو مسوغ، فلا حاجةَ للمُدافعة، بل يُقتل.

والحديث الأول: حديث ..... أنَّ النبي ﷺ قال: مَن قُتِلَ دون ماله فهو شهيد، وقد جاء هذا المعنى في عدة أحاديث: بعضها في البخاري، وبعضها في غيره: مَن قُتِلَ دون ماله فهو شهيد، ومَن قُتِلَ دون نفسه فهو شهيد، ومَن قُتِلَ دون أهله فهو شهيد.

وقد روى مسلم في "الصحيح" عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه جاءه رجلٌ فقال: يا رسول الله، يأتيني الرجلُ يريد مالي، قال: لا تُعطه مالك، قال: فإن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: فإن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: فإن قتلته؟ قال: فهو في النار.

هذا يدل على أنَّ الإنسان يُدافع عن ماله، ويُدافع عن نفسه، فإذا قُتل دون ماله فهو شهيد، كما لو قُتل دون نفسه، فمَن ..... على مالك لا مانع من أن تُدافعه ولا تُعطيه مالك، لا يلزم أن تُعطيه مالك.

وقوله: لا تُعطه مالك دلالة على أنَّ الأولى ألا يكون جبانًا ولا ضعيفًا، وألا يُسلم له في الحال، بل يُدافعه؛ لأن تسليمه له في الحال تجرئة له على الباطل ولأمثاله، يقول: خافوا مني وفعلوا. فيتجرأ أهلُ الباطل على ذلك.

فينبغي المدافعة وعدم التَّسليم، اللهم إلا إذا خشي على نفسه فلا بأس أن يدع فداء لنفسه من القتل؛ لأنها أغلى من المال، لكن في أول الأمر يُدافع ويمتنع ولا يُعطيه المال، ولا يتسرع في إعطائه المال؛ ولهذا قال: لا تُعطه مالك، قال: فإن قاتلني؟ قال: قاتله.

كل هذا يدل على شرعية قتاله، واختلف العلماء: هل يجب أو ما يجب؟ على قولين:

أحدهما: أنه يجب كما يجب في دفاعه عن نفسه وعن حريمه.

والقول الثاني: أنَّ المال لا يُساوي هذا، فله أن يدع، إن قاتل فهو مشروع، ولكن لا يجب، وإن سلَّم المال فلا بأس؛ لئلا يتعرض لقتل نفسه.

وظاهر هذا الحديث الصحيح شرعية الأمرين: ألا يُعطيه المال، وأن يُدافع عن نفسه، أما كونه يجب أن يُواجه هذا من أدلةٍ أخرى، يُؤخذ من أدلةٍ أخرى، والأقرب والله أعلم أنه لا يجب ..... المال، ولكن يُشرع، أما إذا كان هناك فتن ..... بغير حقٍّ ..... الحديث: كن كخيري ابني آدم، وهو التَّسليم وعدم المقاتلة بسبب الفتنة، وعدم اتضاح القاتل من المقتول، والمصيب من المخطئ، ولو دافع فلا بأس؛ لعموم الأدلة في الدفاع عن النفس والأهل والمال.

وفيه الدلالة على أنَّ المقتول دون ماله يكون شهيدًا؛ لأنه مظلوم، وإن قُتل دون نفسه وأهله فهو أولى وأولى بذلك أن يكون شهيدًا.

وفيه أنَّ الشهداء لا ينحصرون في قتلى المعركة، ولكن قتلى المعركة هم أفضل الشهداء، وهناك شهداء غير قتلى المعركة، جاءت فيهم أحاديث: منها المقتول دون نفسه، ودون ماله، ودون أهله، ومنهم المطعون والمبطون وصاحب الهدم والغرق، كما جاء ذلك في أحاديث صحيحةٍ.

والحديث الثاني حديث يعلى بن أمية: أنَّ يعلى قاتل رجلًا، فعضَّ أحدُهما يدَ صاحبه، فنزع يده، فنزع ثنيته، فاختصما إلى النبيِّ ﷺ، فقال النبي: يدع يدَه في فمه يقضمها كما يقضم الفحلُ؟! كما في الرواية الأخرى، فأهدر ثنيته ولم يجعل له شيئًا. وفي لفظٍ: لا دية ولا قصاص.

هذا فيه الدلالة على أنَّ مَن ظُلم بعَضٍّ فله أن ينزع يده؛ حتى لا يضره العاضُّ، ولو سقطت بعض ثناياه، يقال: عضَّ يعضّ، مثل: قطع يقطع، من باب فعل يفعل، عظم يعظم؛ ولهذا فُتحت العين، ليس من باب فتح، ولكن باب فرح؛ لأنَّ .....، فالمضارع مفتوح: يعضّ.

والمقصود أنه في هذه الحالة صائل متعدٍّ، فإذا انتزع المظلومُ يده وسقطت بعض أسنان العاضِّ فلا جناح، ولا قصاص، ولا دية؛ لأنه هو المتعدي.

قالوا: وهذا إذا لم يتيسر نزعها بغير ما يطرح أسنانه، فإن تيسر شيء يمكنه إخراج يده بدون سقوط الأسنان فعل ذلك، إن تيسر له ذلك، والحديث واضح في أنَّ مثل هذا يهدر، ما جرى عليه بسبب تعديه، وهكذا لو عضَّه في موضعٍ آخر: إن عضَّه في رقبته أو في غير ذلك فانتزع نفسه ودفعه وسقط، فالظاهر أنه مثل ذلك، لا حرج عليه؛ لأنه ظالم، وإنما دفعه ليتخلص من ظلمه له.

وهكذا لو نهره وقام عليه ليدفعه من بيته أو من حريمه فسقط في حفرةٍ، أو سقط من جدارٍ، أو في بئرٍ، فيكون غير مضمونٍ؛ لأنه متعدٍّ، والهارب الخائف قد يعمى عمَّا أمامه فيسقط ..... أمامه لخوفه وذرعه.

والحاصل أنَّ المتعدي أمره سهل فيما قد يُصيبه بسبب عدوانه، فلا يضمن: لا بالدية، ولا بالقصاص؛ لظلمه وتعديه كالعاضِّ؛ ولهذا لو دعت الحاجةُ إلى قتله قتله إذا كان لا يندفع شرُّه بالكلام، ولا بالنهر، ولا بإظهار السلاح، بل أقبل عليه، أو رفع المسدس أو البندق ليرميه، فإنَّ له أن يُسارع فيرميه قبل حتى يرديه ويسلم من شرِّه.

المقصود أنه مصول عليه مظلوم، فله أن يُدافع ولو بالقتل، إذا خشي أن يُبادره بالقتل، نهره وتكلم عليه، لكن أخذ السلاح ليرفعه على المقصود عليه والمتعدَّى عليه، فله أن يُعاجله بضربه بالرمح أو بالسيف أو بالمسدس أو بغيره حتى يسلم من شرِّه.

والحديث الثالث حديث أبي هريرة : أن النبي ﷺ قال: لو أنَّ امرأً اطلع عليك بغير إذنٍ فحذفته بحصاةٍ، والمشهور في الرواية: بالخذف، بالخاء، ففقأتَ عينه لم يكن عليك من جناحٍ.

في هذا دلالة على أنَّ المتعدي ما يُصيبه هدر، وهو يُؤيد ما تقدم في حديث يعلى بن أمية، وحديث سعيد بن زيدٍ، فالمتعدي جانبه يهدر، جانبه جانب الظلم، وجانب المتعدَّى عليه جانب محترم مظلوم، فالذي ينظر إلى عورات الناس في الغالب أنه متعدٍّ، ولا بأس أن يرموه بالحجارة .....؛ لاتِّقاء شرِّ عينه، فإذا خذفه بحصاةٍ أو بغيرها فأصابه فلا ديةَ ولا قصاصَ؛ لأنه ظالم.

وهذا قد يقع من خصاص الباب، ومن الفُرَج التي تكون على البيت من ..... قد ينظرون إلى عورات الناس، فإذا خذفوه وأصابوه فهو هدر، وقد ثبت عنه ﷺ أنه كان يحك رأسه بمدرى في يده، فرآه ينظر فقال: لو علمتُ أنك تنظر لفقأتُ به عينك، وفي بعضها أنه ..... فهرب، المقصود أنَّ رميه أو طعنه أو ضربه بشيءٍ هو المستحق له إذا لم يرتدع إلا بذلك.

وظاهر الحديث أنه لا يتكلم عليه قبل ذلك، ولا يزجره قبل ذلك؛ لأنه قال: لو أنَّ امرأً اطَّلع عليك فخذفته ولم يقل: بعد أن نبَّهته، وبعد أن حذَّرته، فظاهر النص أنه ..... ولم يُبدأ بالإنذار، وأنَّ المتعدي للمظلوم أن يبتدئه بما يرد عدوانه.

وهذا قد يرد على ما قال العلماء أنه يبدأ بالأسهل فالأسهل في الصائل كما تقدم، ولعل الفرقَ في ذلك أن الصَّائل قد يُتَّقى شرُّه: شرّ قصد أخذ المال والدم بالمدافعة بالأسهل، لكن الناظر ما فيه حيلة؛ لأنَّ نظرته سريعة، يطلع على العورات، وفي إمهاله تمكينه من المطالعة، قد لا ..... بالتَّحذير، فجاز أن يتلف، بخلاف الصائل لأخذ المال، أو لأخذ .....، فإنَّ مُدافعته ممكنة، وقتله شديد، فلا يُسارع إلى قتله إلا عند الحاجة.

وهل يلحق بذلك ما إذا كان البابُ مفتوحًا؟ أو يقال: هذا تفريطٌ من أهل البيت، كأنهم أذنوا للناس أن ينظروا، وذكر لي بعضُ أهل العلم أنَّ هذا عذر في عدم خذفه؛ لأنهم هم الذين فتحوا البابَ وجعلوا عوراتهم مفتوحة للناس، وهذا هو الأقرب والله أعلم: أنه إذا كان البابُ مفتوحًا فلا يدخل في حكم مَن نظر في فرجةٍ، أو من خلال الباب، أو من ..... والله أعلم.

وبكل حالٍ هذا أمر خطير، ويدل على أنَّ الشريعة تعظم عورات الناس، وتُشدد في عورات الناس، وتُشدد في عقوبة مَن تعدَّى على عورات الناس.

وهل يُقاس على ذلك السمع؟ إذا أصغى بأذنه هل يُطعن في الأذن؟ هل يُقاس على النظر؟

قاسه بعضُهم على النظر وقال: إنه يُطعن إذا أصغى بأذنه للسماع.

وقال آخرون: لا قياسَ.

والأقرب عدم القياس في هذا، ولكن يُهدر ويُحذر؛ لأنَّ مضرة الأذن أشدّ، ولأنَّ أذى الأذن أخفّ من أذى البصر، البصر يُبصر العورات ويراها، والأذن إنما تسمع الكلام فقط، فهي أسهل، فالقياس فيه نظر، ليسا مستويين، ليس الفرع مساويًا للأصل من كل وجهٍ، فالأقرب الإنذار والتَّحذير دون أن يُطعن.

والحديث الرابع: حديث البراء بن عازب الأنصاري ، صحابي، وأبوه صحابي، البراء صحابي صغير، وأبوه صحابي كبير: العازب بن الحارث الأنصاري الأوسي .

فيه أنَّ النبي ﷺ قال: إنَّ حفظ حوائط النَّهار على أهلها، وحفظ الماشية في الليل على أهلها، وأنَّ على أهل الماشية ما أصابت ماشيتُهم بالليل الحديث رواه أحمد، وأبو داود، والنَّسائي، وابن ماجه من طريق الزهري رحمه الله، عن حرام بن سعد بن محيطة، عن البراء بن عازب.

ورواه حرام أيضًا عن محيطة جده، عن النبي ﷺ، وقد اختلف على الزهري في ذلك؛ ولهذا قال المؤلفُ: في إسناده اختلاف، فإنه رواه جماعةٌ عن الزهري، عن حرام: أن ناقةً للبراء تعدت على زرع قومٍ، ورواه جماعةٌ عن حرام، عن البراء نفسه. ورواه آخرون عن الزهري، عن حرام، عن جده.

ولكن هذا الاختلافَ لا يضرّ الحديث، فهو ثابت، ولعلَّ حرامًا رواه عن البراء، وعن جده، فلا منافاةَ، فيكون له فيه شيخان: البراء وجده، وأما كونه قد يقول أنَّ ..... ولم يُرفع؛ فلأنَّ الإنسان قد يضعف بعض الأحيان ويُخبر بالحديث ولا يُسنده متَّصلًا، كما يقول التَّابعي: قال رسول الله كذا. اختصارًا، أو يقول الواحد منا الآن: قال رسولُ الله كذا. ولا يأتي بالسند.

فالحاصل أنَّ كون حرام بعض الأحيان لا يسوقه عنه البراء، وعن محيطة، بل يقول: قال رسول الله، أو يقول: أنَّ ..... في عهد النبي فعل كذا، أو جرى كذا، لا يُنافي الرواية التي فيها الاتِّصال والرفع.

قال البغوي رحمه الله في "السنة": إنَّ أهل العلم أخذوا بهذا الحديث، وقالوا: إنَّ الماشية تُحفظ ليلًا؛ لأنَّ الناس يغفلون عن مزارعهم وينامون، فعلى أهل الماشية أن يحفظوها ليلًا، وأما النهار فعلى أهل المزارع أن يحفظوا مزارعهم ويصونوها، وأنَّ على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل.

هكذا أخذ أهلُ العلم بهذا الحديث، قالوا: ويُلحق بذلك إذا أرعاها قرب الحمى، فإنه مثل: لو رعت بالليل يضمن صاحبها، وهكذا لو كان معها صاحبها قائدًا أو راكبًا أو سائقًا أو حولها وتركها ترعى، فإنه يضمن؛ لأنه تركها في أموال الناس، وإن أرعاها حول الحمى فهو ظالم أيضًا؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ فيمَن أتى الشبهات: كالراعي يرعى حول الحمى يُوشك أن يقع فيه يعني: متعدٍّ، فليُبعدها عن الحمى، عن الفضاءات، وعن المحلات البعيدة عن مزارع الناس، فإذا أرعاها قرب المزرعة فقد أراد أن تأكل المزرعة، وأن ترعى فيها، فيكون مأخوذًا بذلك، وهذا هو الصواب.

وعارض بعضُ الفقهاء فقالوا: إنها لا تضمن المواشي. واحتجوا بقوله ﷺ: العجماء جُبار، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة رحمه الله، وقال: إنَّ العجماء الدَّابة لا تضمن شيئًا لهذا الحديث.

والجواب عن هذا عند الجمهور: أنَّ العجماء جُبار خبر عام، وحديث المزارع خبر خاصّ، وحديث: كالراعي حول الحمى، خبر خاصّ، فلا يُعارض الخاصّ بالعام.

القاعدة: أن الأدلة الخاصَّة تقضي على الأدلة العامَّة، فهي جبار إذا لم يكن معها أحد، ولم تكن حول مزارع الناس، ولم تكن بالليل، فيجب حمل الحديث على ما يليق به، وحمل حديث البراء على ما يليق به، ولا يجوز أن يُعارض هذا بهذا؛ فإن الأدلة يصدق بعضها بعضًا، ويُؤيد بعضها بعضًا، ولا يُكذب بعضها بعضًا، فالعجماء جُبار يعني: هدرًا إذا كانت بعيدةً عن مزارع الناس، أو كان ذلك في محلٍّ لا يُعدّ فيه صاحبه ملومًا، وأما إذا كانت في الليل في محلٍّ يُعدّ ملومًا فيرعاها حول المزارع، أو تركها تأكل وهو معها واقف، أو قائد، أو سائر، أو حولها، فهذا يُعتبر مُتعدِّيًا، فلا تكون عجماؤه جبارًا، والله أعلم.

.................

1213- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي رَجُلٍ أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَأُمِرَ بِهِ فَقُتِلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: وَكَانَ قَدِ اسْتُتِيبَ قَبْلَ ذَلِكَ.

1214- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

1215- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ ﷺ وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَخَذَ الْمِعْوَلَ فَجَعَلَهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: أَلَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة بقية أحاديث باب قتال الجاني وقتل المرتد، ويتعلق بالشقِّ الثاني: قتل المرتد.

الأول: حديث معاذٍ، وهو ابن جبل الأنصاري الخزرجي ، ومعروف ومناقبه كثيرة ومعلومة ، ومنها قوله ﷺ: أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل.

يقول : أنه يهوديًّا أسلم ثم تهوَّد، فقال: لا أجلس حتى يُقتل، قضاء الله ورسوله. فأُمِرَ به فقُتِلَ.

أصل القصة من رواية أبي موسى: أن النبي ﷺ بعث أبا موسى ومعاذًا إلى اليمن، هذا على جانب، وهذا على جانبٍ من اليمن، وكانا يتزاوران، فجاء ذات يومٍ معاذٌ يزور أبا موسى في محلِّه، فإذا عنده شخصٌ مربوط -مقيد- فقال: ما هذا؟ قال: هذا رجلٌ أسلم ثم عاد إلى دينه الخبيث. فقال معاذ وهو على الراحلة لم ينزل: لا أنزل حتى يُقتل، قضاء الله ورسوله. فقال: انزل؛ فإنه لم يُؤتَ به إلا ليُقتل. قال: لا أنزل حتى يُقتل. فأمر به أبو موسى فقُتِل؛ لأنه أصرَّ على ردَّته ولم يُسلم.

ففي هذا فوائد:

منها: أن المرتدَّ يُقتل.

ومنها: القوة في أمر الله، والحرص على تنفيذ الأوامر، وهذا من مناقب معاذٍ، فإنه لما عرف الحقيقةَ لم ينزل من دابته حتى ينفذ الأمر في هذا الخبيثِ لما علم حاله، فدلَّ ذلك على أنه ينبغي للمؤمن ولولاة الأمور المبادرة إلى أوامر الله ورسوله، والمسارعة إليها، والحرص على عدم تأخيرها لأسبابٍ لا وجهَ لها، كان أبو موسى رجا أن يُسلم، في روايةٍ: أنه استُتيبَ مدةً فلم يرجع، بل أصرَّ؛ ولهذا في الرواية الأخرى: كان قد استُتيب. كما في رواية أبي داود.

هذا دليل ظاهر على وجوب قتل المرتد؛ لأنَّ ردَّته تضر المسلمين، وتُسبب ردةَ غيره وتساهل غيره، فإذا قُتل صار في ذلك حسمٌ لباب الشرِّ، وردعٌ لغيره من أن يعمل عمله.

واختلف العلماء في الاستتابة: هل هي واجبة أم مُستحبَّة؟ على قولين:

أحدهما: أنها واجبة، وهو ظاهر ما رُوي عن عمر: كان أمر بالاستتابة، كان يأمر أن يُستتاب ثلاثة أيام، وبه قال جماعةٌ من أهل العلم، وقال بعضهم: يومًا. وبعضهم: ما يشاءه ولي الأمر من المدة التي يُمكن فيها توبته إلى الله .

وقال آخرون: لا يُستتاب، متى أظهر وأعلن ردَّته قُتل، كالذين دُعوا من الكفَّار، فإنهم لا يُدْعَون مرةً ثانيةً، مَن دُعي إلى الإسلام وبُلِّغ الإسلام وأصرَّ على كفره فيجب أن يُغزا ويُقاتل، كما في قصة النبي ﷺ مع بني المصطلق، فإنه غزاهم وهم غارون، أغار عليهم لأنهم قد دُعوا وبُلِّغوا فأصرُّوا.

وهذا قول قوي وجيد، لكن الاستتابة أفضل وأحوط كما فعل عمر رضي الله عنه وأرضاه؛ ولما فيها من الخير للكافر، لعلَّ الله يمنّ عليه، لعله يرجع إلى الرشد.

والحديث الثاني: حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ أنه قال: مَن بدَّل دينه فاقتلوه خرجه البخاري في "الصحيح".

هذا يدل على وجوب قتل المرتد، وهو أمر مجمع عليه، أجمع العلماءُ على أنَّ المرتد يُقتل؛ لما عرفت سابقًا من المصلحة في ذلك، وهذا يعمّ الرجل والمرأة، أما الرجل فمحل إجماعٍ، وأما المرأة فمحل خلافٍ، ولكن الجمهور على أنها تُقتل أيضًا؛ لعموم الحديث، وللمعنى العام الذي يستوي فيه الرجل والمرأة في هذا.

وتشبث بعض الناس بإنكار النبي ﷺ قتل النساء والصبيان، وقال: إنَّ المرأة لا تُقتل إذا ارتدت؛ لأنَّ الرسول أنكر قتل النساء والصبيان، ويُروى هذا عن أبي حنيفة رحمه الله.

والجواب عن هذا أنَّ الرسول ﷺ أنكر قتل النساء والصبيان من الكفار الأصليين، أما المرتد فهذا خبر خاصّ وحكم خاصّ في المرتدات، أما الصبي لا، لا يُقتل حتى يبلغ، فإذا بلغ التَّكليف وأصرَّ على الردة قُتل، وهذا هو الحقّ، ما قاله الجمهور في هذا هو الحقّ: أن القتل يعمّ الرجال والنساء المكلَّفين؛ لأنَّ في ذلك حسمًا لمواد الشرِّ، والقضاء على وسائل الردة، وردع مَن قد يهمّ بهذا الأمر تأسيًا بغيره.

والحديث الثالث حديث ابن عباسٍ أيضًا: أنَّ رجلًا أعمى كانت له أمُّ ولدٍ كانت تشتم النبيَّ ﷺ وتسبّه، فينهاها سيدها ولا تنتهي، فلما كان في بعض الليالي ورآها مصرةً على عملها السيئ، أخذ المعول، ضبطه الشارحُ بالعين المهملة، وضبطه غيره بالغين: المغول، قالوا: سُمي مغولًا لأنه يُغتال به، يعني: يُجعل تحت الثياب، وهو سيف قصير يُسميه بعض الناس الآن: زنجي، سيف صغير يُغتال به الناس، يغتال به صاحبُه الناسَ: إما لحقٍّ، وإما لباطلٍ.

فوضعه على بطنها ثم اتَّكأ عليه حتى قتلها بسبب سبِّها وكفرها وضلالها، فلما بلغ النبيَّ ذلك قال: ألا اشهدوا أنَّ دمها هدر.

هذا يدل على أنَّ مَن سبَّ الله ورسوله فإنَّ دمه هدر، وأنَّ مَن قتل هؤلاء لا يُؤخذ بهم، ولا سيما إذا كان سيد الأمة أو سيد العبد؛ لأنه مالكه، وقد نهاه واستتابه، فقد أدَّى ما عليه، فإذا كان مثل هذا فإنه هدر، ولا حرج عليه في قتله غيرةً لله، وانتقامًا لرسوله ﷺ، وحسمًا لما قد يترتب على إمهاله وتركه من الشرِّ، وهذا في مثل هذه الحال، في مثل مَن قتل جاريته أو غلامه لسبِّهما الله ورسوله.

أما أفراد الناس فليس لهم التَّعدي على مَن سبَّ، ولكن يُرفع أمره إلى ولي الأمر ..... فيه ما يلزم حتى لا تكون الأمور فوضى، و..... ودعاوى لا يعرف لها .....، بل مَن وجده يسبّه وجب عليه أن يرفع بأمره، وأن يستعين بالإخوان في ذلك حتى يُنكر هذا المنكر العظيم، وليس له أن يُقدم على القتل؛ لأنه قد لا يتثبت في الأمور، قد يُتهم بأنَّ له هوى، وقد لا يثبت ما ادَّعاه، ولكن يُرفع الأمر إلى ولي الأمر ليقوم باللازم في ذلك، هكذا ذكر أهلُ العلم، وذكروا أنَّ مَن تعدَّى وتقدم يُعزر إذا ثبت صحة ما قال، وإلا فالقصاص، والله أعلم.

س: ..............؟

ج: هذا أيضًا معناه ليس بلازمٍ، بل مستحب، الاستحباب لا شكَّ فيه، مثلما دعا النبيُّ اليهود على خيبر مرةً أخرى، الاستحباب لا بأس به، لكن الوجوب هو محل النظر؛ لأنه قد دُعي وقد عرف الإسلام، هل يجب؟ هذا محل النظر، أما الاستحباب فلا إشكالَ فيه، من باب إزالة الشُّبهة، قد تكون عرضت له شبهة تكشف عنه، أما كونه يجب هذا محل نظرٍ، ولعلَّ ما أمر به عمر من باب الاستحباب، من باب الاحتياط، وليس من باب الوجوب، في بعض الروايات أنه قال، لما قال: إنهم يُستتابون، قال: ..... اللهم أمر لم أشهده، ولم آمره به. هو يظهر منه الوجوب؛ لأنه قال: أفلا استتبتُموه؟!

وبكل حالٍ فهو محل نظرٍ، والاستتابة فيها حيطة.

................