46 من حديث (يا رسول اللَّه أنشدك باللَّه إلَّا قضيت لي بكتاب اللَّه)

كِتَابُ الْحُدُودِ

بَابُ حَدِّ الزَّانِي

1216 و1217- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ إِلَّا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ الْآخَرُ -وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ- نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأْذَنْ لِي، فَقَالَ: قُلْ، قَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِئَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي: أَنَّمَا عَلَى ابْنِيْ جَلْدُ مِئَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِئَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، هَذَا وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

1218- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِئَةٍ، وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِئَةٍ وَالرَّجْمُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1219- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثَنَّى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1220- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ قَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ؟ قَالَ: لَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

1221- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوْ الِاعْتِرَافُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: كتاب الحدود، الحدود هنا العقوبات المقدرة، والحد في اللغة: ما يحول بين الشيئين، حدّ أرض فلان من فلان، وحدّ حقّ فلان من حقِّ فلان، فالحد: ما يحول بين الشيئين، ويحجز بينهما، كالمراسيم وغيرها، ويُطلق الحدّ على العقوبة المقدرة: كحدِّ السارق، وحدّ الرجم، ونحو ذلك، ويُطلق الحدّ أيضًا على المعاصي: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187]، ويُطلق على الأشياء المقدرة: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229]، ما حدّه سبحانه من فرائض وواجبات، فهي كلمة مُشتركة، والمراد هنا العقوبات المقدرة من الشرع: كحد الزنا، والقذف، والرجم، ونحو ذلك.

"باب حدِّ الزاني" الزاني معروف، وهو الذي يفعل ما يفعله الرجلُ مع امرأته في غير امرأته، يعني: يُجامع المرأَة الأجنبية بدون نكاحٍ شرعيٍّ، يقال له: زانٍ، مَن أتى امرأةً بغير وجهٍ شرعي ولا شُبهةٍ فهو زانٍ.

وقد حرَّم الله ذلك وجعله من الكبائر العظيمة، وجعل له حدًّا ، وبيَّنه في كتابه وعلى لسان رسوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث.

الحديث الأول: حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما: أنَّ رجلين أتيا النبيَّ ﷺ، فقال أحدهما: يا رسول الله، أنشدك الله إلا قضيتَ بيننا بكتاب الله. فقال الآخر -وهو أفقه منه- نعم يا رسول الله، اقضِ بيننا بكتاب الله، وأذن لي. كأنه سمَّاه أفقه لأنه تأدَّب، قال: نعم يا رسول الله، وأذن لي. استأذن، فقال: قل، قال: إنَّ ابني كان عسيفًا على هذا، يعني: أجيرًا، العسيف: الأجير عند هذا الرجل، فزنا بامرأته، وأُخبرتُ أن على ابني الرجم. أخبره بعضُ الناس على غير علمٍ: أنَّ عليه الرجم، وكان بكرًا، وليس بثيبٍ، ففديتُ ابني بمئة شاةٍ ووليدةٍ. يعني: سلمتُ الرجل مئة شاةٍ ووليدة -جارية- حتى لا يُرجم ولده، أعطاها الزوج هذا صاحب المرأة، ثم سألتُ أهلَ العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مئةٍ وتغريب عام. يعني: سأل الصحابةَ فأخبروه أنَّ ما قيل له غلط، وأن الواجب على ابنه جلد مئةٍ وتغريب عام، وليس عليه الرجم. فقال النبيُّ ﷺ: والذي نفسي بيده حلف ﷺ وهو الصَّادق وإن لم يحلف عليه الصلاة والسلام.

هذا فيه الدلالة على جواز الحلف للتأكيد؛ لتأكيد المقام: لأقضينَّ بينكما بكتاب الله يعني: بحكم الله، كتاب الله: الحكم، ليس المراد القرآن، هنا المراد كتاب الله: الحكم، يعني: بحكم الله؛ لأنَّ الرجم ليس في القرآن؛ ولأنَّ النفي ليس في القرآن: لأقضين بينكما بكتاب الله: الوليدة والغنم ردٌّ عليك الجارية تُردّ عليه، والغنم تُردّ عليه، يردها عليه صاحبُ المرأة: وعلى ابنك جلد مئةٍ وتغريب عام، واغدُ يا أنيس أُنيس هذا رجلٌ من أسلم كما في الرواية الأخرى: إلى امرأة هذا فإن اعترفتْ فارجمها.

هذا الحديث دلَّ على فوائد واضحة:

منها: حُسن الأدب في خطاب القُضاة والرؤساء.

ومنها: أن الصلح المخالف للشرع يكون باطلًا يُردّ.

ومنها: بيان الحدّ الشرعي للبكر الزاني والثَّيب، وأن البكر يُجلد مئةً ويُغرب عامًا، كما في حديث عبادة الآتي، وأن الثَّيب من الرجال والنساء يُرجم؛ ولهذا أمر أُنيسًا أن يرجم المرأة إذا اعترفت، دلَّ ذلك على أنَّ حدَّ الزاني البكر هو الجلد والتَّغريب سنة، وحدّ المرأة الثَّيب وهكذا الرجل: الرجم.

واستقرَّ الأمرُ على هذا في الشَّريعة، وأجمع عليه أهلُ العلم، أجمع العلماءُ قاطبةً على أنَّ الرجم للثيب، وأنَّ البكر لا يُرجم، بل يُجلد مئة، وذهب جمهورُ أهل العلم إلى النَّفي أيضًا، كما دلَّ عليه النصُّ، ونازع في هذا بعضُ أهل العلم -وهم الأحناف- لأنَّ النفي لم يُذكر في الكتاب العزيز، وقولهم باطل غلط، والذي عليه جمهور أهل العلم هو الصواب: أن الحدَّ في حقِّ البكر جلد مئةٍ وتغريب عامٍ؛ لهذا الحديث، وحديث عبادة الآتي، ولأحاديث أخرى، ولنص القرآن في عموم الزناة أنَّ كلَّ واحدٍ يُجلد مئة، وجاء النص من السنة مُكمِّلًا لما جاء في القرآن من الحدِّ في القرآن: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، وجاء النصُّ من السنة بزيادة النَّفي في حقِّ البكر، والرجم في حقِّ الثَّيب، فيُرجم الثَّيب، وتُرجم الثَّيبة بعد جلد مئةٍ كما في حديث عبادة الآتي، والبكر يُجلد مئةً ويُغرب عامًا عن وطنه.

لعلَّ من الحكمة والله أعلم: ليترك أصحابه وجُلساءه الذين زيَّنوا له السُّوء؛ وليتأدَّب ويتذكر ويتَّعظ بما حصل له من الغُربة عن وطنه، ولعله يستفيد من صحبة أخيارٍ جدد، أو غير ذلك من الأسباب، والله حكيم عليم جلَّ وعلا.

فالتغريب فيه مصالح، والرجم هو الحدّ الشَّرعي الذي أوجبه الله على عباده في حقِّ الثَّيب من الرجال والنساء، وقد نزلت في ذلك كما قال عمر آية، ثم نُسخ لفظها، وبقي حكمها، بل خالف في هذا الخوارج؛ لأنهم اتَّهموا الصحابةَ ولم يقبلوا رواياتهم.

والخوارج قوم ضالُّون لا يُلتفت إليهم، ولا إلى خلافهم؛ لمروقهم من الإسلام؛ ولهذا أجمع العلماءُ على وجوب الرجم، وأنه حقٌّ.

وما قاله عمر فيما يأتي أن يطول الزمانُ فيُنكرون الرجمَ، قد وقع، كما وقع في عهد الصحابة من الخوارج، ثم وقع في زماننا وقبله من أناسٍ قالوا: إنَّ الرجم ليس بحدٍّ، وإنما هو تعزير.

وقال آخرون: إنه لم يقع في الكتاب العزيز، وأنه كذا، وأنه كذا، واعترضوا بأنه قتلة شنيعة.

وهذا كله من الجهل والضَّلال وضعف الإيمان أو عدم الإيمان، كما يحصل من النِّفاق، فالرجم حقٌّ ثابت، وشرع ثابت، وحد شرعي أجمع عليه أهلُ السنة والجماعة، ودلَّت عليه النُّصوص.

وفيه من الفوائد أيضًا: أن الحاكم يُقسم عند الحاجة على الحكم؛ حتى يطمئن الخصوم، زيادةً في تثبيت الحكم الشَّرعي.

وفيه أنَّ الرجم لا يكون إلا بالاعتراف، وأن قول الزاني لا يُقبل على المزني بها، قول الزاني في فلانة ما يُقبل عليها إذا أنكرت؛ لأنها دعوى، فلا تُقبل؛ ولهذا فإن اعترفت فارجمها فدلَّ ذلك على أنَّ دعوى الزاني على المزني بها لا تُقبل، ولا يقوم بها الحدُّ عليها حتى يثبت إقرارها أو بالبينة.

واختلف العلماء في الاعتراف: هل يكون عدد أربع مرات، أو يكفي مرةً واحدةً؟

وظاهر حديث أبي هريرة هذا وزيد أنه يكفي مرة، وأنها إذا اعترفت ولم يقل له: أربع مرات، فقال: إن اعترفت فارجمها، فدلَّ ذلك على أنَّ الاعتراف يكفي ولو واحدة.

وذهب الأكثر إلى أنه لا بدَّ من تكرار أربع مرات؛ لحديث ماعز؛ لأنَّ في حديث ماعز تكرار، وأنَّ الرسول أعرض عنه حتى كرر أربع مرات، فلما شهد ماعز أربع مرات أمر برجمه، وهذا هو الأحوط، وهو الذي ذهب إليه الجمهور.

فينبغي في القاضي ومَن ينوب عن القاضي إذا سأل الزاني أو الزانية أن يُكرر عليهما السؤال حتى يعترف كلٌّ منهما أربع مرات بذلك، ثم يُرجم، إلا إذا كان هناك شهود، فالشهود يكفون.

وفيه من الفوائد: الدلالة على جواز التوكيل، وأنه لا بأس أن يُوكل القاضي والسلطان مَن ينوب عنه في إقامة الحدِّ، وفي إثبات الحد، فإنَّ الرجل هذا وُكِّلَ في الأمرين: في الإثبات، وفي الإقامة، فدلَّ ذلك على أنه يجوز للقاضي أن يُوكل مَن ينوب عنه في إثبات الحدِّ على الجاني، إثبات اعترافه، ثم إقامة ما يجب عليه.

وحديث عبادة فيه أنَّ الله جلَّ وعلا أوضح السَّبيل لمن يأتي الفاحشة، ذكر الله سبحانه في قوله جلَّ وعلا: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15]، هكذا كان الشرعُ الأول: أن يُمسكن في البيوت ويُحبسن حتى يمتن أو يأتي الله بسبيلٍ، وهو الحد الشرعي، غير الحبس؛ ولهذا قال في حديث عبادة: خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل اللهُ لهن سبيلًا يعني: قد شرع الله في حقِّهن سبيلًا غير الحبس، وهو الجلد والنَّفي في حقِّ البكر، والرجم والجلد في حقِّ الثَّيب.

س: هذا الحديث ناسخ للآية؟

ج: تفسير للآية، يُفسرها، تفسير السَّبيل الذي بيَّنه الله جلَّ وعلا. وقوله في البكر وقوله في الثَّيب وصف أغلبي، وإلا فإنه يُجلد مئة ويُغرب ولو كان زناه بثيبٍ، وهكذا الثَّيب يُرجم وإن كان زناه بغير ثيبٍ.

واختلف العلماءُ في الجلد مع الرجم: هل يثبت أم لا على ما في حديث عبادة؟

فذهب قومٌ إلى أنه منسوخ؛ لأنَّ الرسول ﷺ لم يجلد ماعزًا ولا الغامدية ولا اليهوديين، فدلَّ ذلك على أنه نُسخ، واكتُفي بالرجم، وأنه متى صار القتلُ اكتُفي به، والرجم قتل، فيُغني عن الجلد، وهذا هو المعتمد، وهو الصواب: أنه يكفي الرجمُ؛ لأنَّ الرسول ﷺ لم يجلد بعد ذلك، بل رجم ولم يجلد؛ لأنه استقرت الشريعةُ على أن الرجم يكفي وحده، وأن الزاني الثَّيب يُرجم بغير حاجةٍ إلى جلدٍ، ولو كان الجلدُ باقيًا لفعله ﷺ مع ماعز، ومع الغامدية، ومع الجهنية، ومع اليهوديين.

وذهب عليٌّ وبعض السلف وبعض أهل العلم إلى أنه يُجمع على الزاني الثَّيب بين الرجم والجلد جميعًا، كما في حديث عبادة، وثبت عن عليٍّ أنه جلد شراحة ورجمها، جلدها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال: "جلدتُها بكتاب الله، ورجمتُها بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام"، هذا يظهر أنه عن اجتهاده رضي الله عنه وأرضاه.

س: المرأة البكر تُغرب؟

ج: نعم، تُغرب إذا تيسر وجود محرم معها، أو إلى بلادٍ تُؤمن عليها فيها، تغرب.

الحديث الثالث والرابع في قصة ماعز أيضًا: وكلاهما يدل على أنَّ ماعزًا رُجم؛ لأنه صرَّح بالجماع؛ ولهذا قيل له: لعلك قبلتَ، لعلك غمزتَ؟ فصرح بأنه جامعها، سأله النبيُّ عن ذلك حتى قال: هل أدخلت ذكرك فيها كما يدخل الميلُ في المكحلة .. إلى آخره، فسأله عن الشيء الواضح، فلما اعترف أمر برجمه عليه الصلاة والسلام.

وفي حديث ماعز الدلالة على أنه ينبغي التَّثبت في الأمر، وأنَّ مَن جاء مُعترفًا تائبًا ينبغي التَّثبت في أمره؛ لأنَّ الغالب أن الناس لا يأتون، قد يستترون بهذا، ويُخفون أمرهم، فإذا جاء تائبًا فيُخشى أن يكون في عقله شيء؛ فلهذا تثبت النبيُّ في عقله: أبك جنون؟ وسأل جماعته عن حاله، وأمر مَن يستنكهه؛ لئلا يكون سكرانًا، فلما تثبت في أمره ﷺ أمر برجمه.

فهذا يدل على أنه ينبغي للقاضي ونواب القاضي أن يتثبَّتوا فيمَن جاء مُعترفًا تائبًا: أن يتثبَّتوا في أمره، فإذا اتَّضح أنه سليم، وأنَّ عقله سليم أُقيم عليه الحدّ.

وفيه من الفوائد: أن مَن تاب ولم يحضر القاضي كفاه ذلك، وأنه ينبغي للمؤمن أن يستتر بستر الله، وأن يتوب بينه وبين الله، ولا يأتي القضاة ولا المحاكم، ولا حاجةَ إلى أن يطلب أن يُرجم أو يُجلد، بل يستتر بستر الله، فإعراض النبيِّ عنه يدل على أنه لو استتر بستر الله وترك المجيء واكتفى بالتوبة لكان أولى به وأصلح وأحسن؛ لما فيه من الستر والبُعد عن إظهار هذا الأمر.

وقد ثبت حديث ماعز من عدة طرقٍ رواها جماعةٌ من الصحابة: أبو هريرة، وجابر بن عبدالله، وجابر بن سمرة، وابن عباس، وجمع كثير كلهم رووا قصة ماعز، وأكثر ما في الروايات أنه شهد على نفسه أربع مرات، فلما كرر ذلك أمر برجمه عليه الصلاة والسلام.

وفي الحديث الخامس حديث عمر : أنه خطب الناسَ وقال: إنَّ الرجم حقٌّ في كتاب الله على مَن زنا إذا أحصن من الرجال والنساء. فإذا كان محصنًا يقال: أُحْصِن، وأَحْصَن، والمعنى: إذا كان ثيبًا يقال في الرجل: أحصن، وفي المرأة: أحصنت، المحصنون والمحصنات، فالأفصح في الرجل: المحصن، وفي المرأة: المحصنة، فإذا كان الرجلُ قد تزوج وجامع وهو حرٌّ بالغٌ فهو محصن، وهي محصنة.

س: وإن لم يدخل بها؟

ج: لا بدَّ من الدخول بها، وهو حقٌّ في كتاب الله على مَن زنا إذا أحصن من الرجال والنساء. قال: وأخشى إن طال بالناس زمانٌ أن يُنكروا الرجمَ، يقولون: ما نجده في كتاب الله. وقد وقع هذا، هذه الفراسة التي قالها عمر وظنَّها عمر قد وقعت من الناس: وقعت من الخوارج، ومن غير الخوارج، هم محجوجون بالسنة، حتى ولو لم تكن في كتاب الله، فالسنة مستقلة، حُجَّة مستقلة بإجماع المسلمين، فإذا كان في الكتاب والسنة كان أوكد للأمر.

وإنَّ الرجم حقٌّ في كتاب الله على مَن زنا إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينةُ، وهي الشهود الأربعة، أو كان الحبلُ، يعني: الحمل، أو الاعتراف، أو الإقرار.

فالحدّ يثبت بهذا: بالبينة، وهي أربعة شهود، وبالإقرار أربع مرات على الأرجح، وبالحبل من المرأة، إذا حبلت وليس لها زوج ولا سيد فإنها يُقام عليها الحدّ أيضًا، إلا أن تدعي شبهةً وأنها مُكرهة، فالأمر إليها، إذا ادَّعت ذلك فإنها تُصدق، إلا أن تكون دلائل وقرائن تدل على كذبها، فذاك شيء يرجع إلى اجتهاد الحاكم.

وقد خطب بهذا عمر على رؤوس الأشهاد ولم يُنكره منكر، فدلَّ ذلك على أنَّ الصواب هو ما قاله عمر في هذا، وأنَّ الحبل بينة مستقلة كالاعتراف والشُّهود.

وقد روى النَّسائي وجماعة هذه الآية التي أشار إليها عمر، وأنَّ لفظها: "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة"، زاد بعضُهما في روايةٍ: "نكالًا من الله والله عزيز حكيم"، ثم نُسخ لفظها وبقي حكمُها، وأجمع المسلمون على حكمها وهو الرجم على الثَّيب والثَّيبة من النساء، والجلد في حقِّ البكر من دون رجمٍ، والله ولي التوفيق، والله أعلم.

س: ..............؟

ج: التغريب إذا تيسر هو المشروع، بل هو واجب.

س: إذا كان يترتب عليه ضرر أكثر؟

ج: على كل حالٍ هذا يُنظر فيه: إذا تيسر التَّغريب إلى بلدةٍ مسلمةٍ عليها مَن يُلاحظه، أو عليها مَن يلاحظها، فالقاضي ينظر في الأمر: إذا تيسر وجب، وإن ما تيسر نظر ما هو أولى من النَّفي، بعض أهل العلم يرى النفي أولى من التغريب، ولكن الصواب التغريب، فإذا صار التغريبُ يترتب عليه مشاكل ومفاسد، فالشَّريعة ما تأتي بالمفسدة، تأتي بالمصلحة، فإذا كان تغريبه يُفسده كثيرًا ويزيده شرًّا فالسجن أولى به من التَّغريب.

س: هل مطلوب إنزال العقوبة بمُرتكب الحدِّ كي يعترف؟

ج: لا، لا، حقّ الله، أما في السَّرقة لا بأس، أما في حقِّ الله لا ..... من دون إيذاءٍ، وإلا فلا.

س: والقتل؟

ج: القتل حقّ مخلوقٍ، لا بدَّ، إذا كانت هناك دلائل فلا مانع من تعذيبه حتى يعترف بحقِّ الذي قامت عليه البينة النَّاقصة، أو التُّهمة الواضحة.

س: ..............؟

ج: حديث ماعز رجم، ما فيه تغريب، التَّغريب للبكر فقط.

س: ...............؟

ج: ينظر وليُّ الأمر، والسجن أولى به، إذا كان ما تيسر التغريبُ يُسجن عامًا حتى يبتعد عن الناس.

س: ..............؟

ج: لا يُقبل قوله عليها إلا ببينةٍ، لكن إذا رأى وليُّ الأمر أنه متّهم يُعاقَب عقوبة تهمةٍ.

س: ما يُفرَّق بين مَن أتى تائبًا وبين مَن أُمسك وهو مُتلبس؟

ج: لا، الممسوك له حال أخرى، الممسوك يُعاقب ويُؤدب، لكن لا يُقام عليه الحدّ إلا باعترافه، أما إن جاء تائبًا فهذا له شأن آخر، إذا أعرض يُعرض عنه.

س: ...............؟

ج: لا، يُجلد عن عمله السيئ: إذا وُجد في البيت، أو وُجد مع المرأة خاليًا بها، أو ما أشبه ذلك من الدلائل على الشرِّ، هذا من باب التَّعزير، لا من باب الحدِّ، ما هو ليعترف، لا، يُجلد لأجل عمله السيئ، هذا يُؤدب.

1222- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ.

1223- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ مَوْقُوفٌ.

1224- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ : أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ وَلِيَّهَا فَقَالَ: أَحْسِنْ إِلَيْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ فَائْتِنِي بِهَا، فَفَعَلَ، فَأَمَرَ بِهَا فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ عُمَرُ: أَتُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ؟! فَقَالَ: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ؟ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1225- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَجُلًا من أَسْلَمَ، وَرَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ، وَامْرَأَةً. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1226- وَقِصَّةُ رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.

1227- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ بَيْنَ أَبْيَاتِنَا رُوَيْجِلٌ ضَعِيفٌ، فَخَبَثَ بِأَمَةٍ مِنْ إِمَائِهِمْ، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: اضْرِبُوهُ حَدَّهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: خُذُوا عِثْكَالًا فِيهِ مِئَةُ شِمْرَاخٍ، ثُمَّ اضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، فَفَعَلُوا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، لَكِن اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ.

الشيخ: هذا الحديث الأول: حديث أبي هريرة عن النبيِّ ﷺ أنه قال: إذا زنت أمةُ أحدِكم فليجلدها الحدَّ، ولا يُثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحدَّ، ولا يُثرب عليها الحديث.

هذا يدل على وجوب إقامة الحدود على الأرقاء، وأنَّ الواجب على أوليائهم ومُلاكهم أن يُقيموا الحدود عليهم؛ ردعًا لهم عن الفواحش، وصيانةً لهم عن محارم الله .

وقد دلَّت الأدلةُ الشَّرعية من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام: أنَّ الحدَّ هو النصف، فيُجلدون نصف حدِّ الأحرار، وهو خمسون جلدةً، كما قال تعالى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، والتَّنصيف يكون فيما يتنصَّف، وهو الجلد، أما الرجم فلا يتنصف؛ ولأنَّ الأرقاء ملك لغير الزاني، ففي إتلافهم مضرة كبيرة على الملاك، فمن رحمة الله ومن إحسانه أن اكتفى بحقِّ الأرقاء بنصف الحدِّ؛ ردعًا وإبقاءً على ملكية المالك، ورحمةً له.

فعلى المالك أن يُقيم الحدَّ، والحدُّ هو النصف؛ تطهيرًا وزجرًا وردعًا عن الفسق والمعاصي.

وظاهر الحديث وصريحه أنه يُقيم الحدَّ، يتولَّاه، وهكذا حديث عليٍّ الذي بعده: أقيموا الحدودَ على ما ملكت أيمانكم، جاء مرفوعًا عند أبي داود، وصححه الحاكم. وجاء موقوفًا عند مسلمٍ رحمه الله.

وحديث أبي هريرة هذا يدل على المعنى، فإنَّ فيه: فليجلدها الحدّ، ولا يُثرب عليها في الصحيح، فخاطب السيد بذلك، فدلَّ ذلك على أنه يُقيم الحدَّ على مملوكه ومملوكته؛ لأنه أولى بهم من غيره، وأعطف عليهم وأرفق بهم.

وهذا كله إذا كان السيد أهلًا لذلك، أما إذا كان ليس بأهلٍ، أو لا يُؤمَن؛ فإنَّ ولي الأمر يُقيم ذلك إذا ثبت عنده ذلك، ولكن إذا أقامه السيدُ كفى في هذه المسألة.

وظاهر الحديث أنه يكتفي بعلمه، متى علم زناها أقام عليها الحدَّ، ولا يحتاج إلى أربعة شهودٍ، الشهود يُحتاج إليهم عند خفاء الشيء، عند عدم ظهوره، أما ما دام علمه هو فإنه يُقيم عليها أو عليه الحدَّ ويكفي.

وقوله: لا يُثرب يعني: لا يُعيرها أو يُعيره أو ..... بزيادةٍ على الحدِّ، متى أقام الحدَّ كفى، فإنَّ الحدَّ كفَّارة، وهو بمثابة التوبة، والتائب والمحدود لا يُعيران، والله جلَّ وعلا جعل الحدَّ كفَّارةً، وأنَّ الرب أجلّ وأكرم من أن يُعيد عليه العذاب بعد التوبة وبعد الحدِّ.

وفي رواية أحمد: ولا يُعيرها بدل: ولا يُثرب عليها في رواية النَّسائي، كما قال الشارحُ عن رواية النَّسائي، قال: ولا يُعنف.

فالمقصود من التَّثريب هو تعنيفها وتعييرها، أو تعييره وتعنيفه بعدما أُقيم عليه الحدّ، يكفي الحدّ، وتُمات المسألة، بعدما يُقام الحدّ ينبغي أن تُمات وتُترك؛ لما فيه من الستر وعدم إظهار هذا الأمر المنكر.

قوله: إن زنت فليبعها ولو بحبلٍ في الثالثة، هكذا جاء في هذه الرواية، وفي الرواية الأخرى قال: في الرابعة، هكذا رواه أحمد بإسنادٍ جيدٍ: في الرابعة. ورواه غيره أيضًا في الرابعة، فكأنَّ بعض الرواة اقتصر على الثالثة، ولم يحفظ الرابعة، فإن باعها في الثالثة احتياطًا فحسنٌ، وإن أخَّر حتى تُجلد الرابعة فلا حرجَ؛ لصحة الرواية في ذلك.

وقوله: ولو بحبلٍ من شعرٍ يعني: ولو رخيصة؛ لأنها لما كررت أو لأنه لما كرر ظهر منه أنه قد اعتاد هذا الشيء، وقد مرن عليه، فهو حري ألا يُترك، وألا يتأثر بالحدود، فكان في بيعه راحة منه؛ لئلا يُجرئ غيره على الزنا؛ ولأنه ربما في البيع يتأثر بالسيد الجديد، قد يكون السيدُ الجديد أقوى وأصلب وأهيب من السيد الأول، قد يعفّ الجارية إن كانت امرأةً، الجارية قد يعفّها بنفسه، أو يعفّها بالتزويج، فيزول هذا البلاء، وتُغير عليها الأحوال.

وربما تتأثر أو يتأثر العبدُ بالبيع، ويعلم أنه متى زنا صار عرضةً للتَّنقل من مالكٍ إلى مالكٍ؛ فيُساء إليه، وتسقط هيبته، فيكون هذا من باب التأثير عليه لعله يرجع عن هذا الخلق الذَّميم.

فالله حكيم عليم ، كل شرعه فيه حكمة ، فالبيع لا شكَّ أنَّ فيه مصالح، وفيه فوائد، وفيه تخلص السيد من هذا المملوك الذي اعتاد هذا المنكر.

وظاهر النص يقتضي أنه يُبلغه؛ لأنه عيب، وحتى ينتبه له السيد الجديد، وقال بعضُهم: لا يحتاج إلى ذلك. ولكن هذا فيه النظر، والأقرب أنه يُبين، ولا تنزل قيمته النزول الكثير إلا إذا بيَّن؛ ولهذا قال: ولو بحبلٍ من شعرٍ، لو باعه ولم يُبين على أنه سليم، فالغالب أنه لا تنزل قيمته عن المعتاد كأمثاله.

ثم أيضًا في ترك البيان نوعٌ من الغشِّ، والسيد الثاني لا يحتاط، ولا يدري، ولا يأخذ ما ينبغي من الحيطة، وما ينبغي من النَّصيحة والتَّوجيه، فالأقرب والأظهر أنه يُبين ويقول له: بعتُه لأجل هذا، وأنا أُوصيك بأن تعتني به، وأن تُلاحظ هذا؛ حتى لا يعود إن شاء الله إلى خلقه الذَّميم.

وحديث عليٍّ عرفنا معناه، وأنَّ السيد يُقيم الحدَّ على مملوكه، وقد جاء مرفوعًا، وجاء موقوفًا، والموقوف يُؤيد المرفوع، وتقدم في حديث أبي هريرة ما يدل على أنه مأمور بهذا، والمرفوع متَّفق عليه، فدلَّ ذلك على أنَّ السيد ليس بحاجةٍ إلى أن يرفع إلى وليِّ الأمر أو إلى القاضي، يُقيم الحدَّ بنفسه.

وفي حديث عليٍّ أن الرسول ﷺ أمره أن يُقيم الحدَّ على جاريةٍ زنت، قال: فذهبتُ إليها، فإذا هي حديثة عهدٍ بنفاسٍ، فخفت عليها إن أقمتُ عليها الحدَّ أن أقتلها، فأخبرت النبيَّ بذلك فقال: أحسنتَ، فتأخر عليها الحدُّ، كما رواه مسلم في الصحيح.

فدلَّ ذلك على أنَّ الحدَّ لا يُقام على المحدود إذا كان يُخشى عليه أن يموت في الحدِّ، بل يُؤخر إذا كانت فيه علة حتى يرتفع منها، فإذا كان مريضًا يُؤجل عليه الحدُّ حتى يرتفع عنه المرض، إذا كان يُرجى زواله قريبًا، أما إذا كان مرضًا مُلازمًا فيأتي البحثُ فيه في حديث سعيد بن سعد بن عبادة.

والمقصود من الحدود: التأديب والتَّوجيه والإصلاح، وليس المقصود القتل، فلا يُقام الحدُّ في وقتٍ يُخشى منه القتل، بل يُلاحظ وقت إقامة الحدِّ في الوقت المناسب في حقِّ المحدود، والحالة البدنية الصحية أيضًا؛ حتى لا يُفضي إلى قتله، وهكذا ذكر العلماءُ الحرَّ الشديد، والبرد الشديد، يُراعى في ذلك ما يكون سببًا لسلامة المحدود، مع إقامة الحدِّ عليه، إذ المقصود تأديبه وزجره وتوجيهه إلى الخير.

وحديث عمران بن حصين في الجهنية يدل على أنَّ المرأة كالرجل في إقامة الحدِّ عليها: فالجلد إن كانت بكرًا، والرجم إن كانت ثيبًا.

وفيه أنه أخبر ﷺ [أنَّ] المرأة تابت توبةً لو قُسمت بين سبعين لوسعتهم. هذا يدل على أنَّ التوبة لها شأن عظيم، وأنها لا تمنع من إقامة الحدِّ، كما لم تمنع في قصة ماعز، فالتائب إذا جاء وأقرَّ واعترف يُقام عليه الحدّ، ويجتمع له مطهران: أحدهما: التوبة، والثاني: الحدّ، فيكون هذا أكمل في سلامته من هذه الفاحشة.

وقد صلَّى عليها النبيُّ ﷺ فقال له عمر: أتُصلي عليها وقد زنت؟! فقال له النبيُّ: لقد تابت توبةً لو قُسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدتَ أفضل ..؟ وهل وجدتَ يعني: يا عمر، وجدتَ أنت أيها المخاطب، وجدت هي، يعني ما عندها أكثر من هذا، ما عندها أكثر من أن سلمت نفسها لتُقتل، ليس وراء هذا شيء؛ لهذا صارت توبةً عظيمةً، فاستحقَّت أن يُصلَّى عليها؛ لتوبتها وصدقها ورغبتها في الخير.

فهكذا ماعز صُلي عليه، جاء تائبًا، وهكذا غير التائب يُصلَّى عليه وإن كان عاصيًا؛ لأنه مسلم، فيُصلَّى عليه، وهو في أشدِّ الحاجة إلى الصَّلاة والدُّعاء؛ لما أصابه من البلاء.

وجاء هذا المعنى من حديث بُريدة في قصة الغامدية، والظاهر أنها قصة أخرى، كما رواه مسلم أيضًا من حديث بُريدة: أنَّ المرأة كانت غامديةً، ولا مانع من أن تكونا قصتين: جهنية وغامدية، وكلاهما جاءت وهي حُبلى من الزنا، وكلاهما أمر النبيُّ برجمها، كلتاهما أمر النبيُّ برجمها عليه الصلاة والسلام.

فحديث الغامدية والجهنية من جملة الأدلة في إثبات الرجم، وأنه حقّ، وأنه حدٌّ من حدود الله جاءت به السنة، وجاء في حديث عمر كما تقدم أنه جاء به الكتاب أيضًا، ولكن نُسخ لفظه وبقي حكمُه.

وحديث جابرٍ -وهو الرابع- يدل على أنَّ الرجم قد جرى في غير المرأة المذكورة، وقد سبق في قصة صاحب العسيف أنَّ النبي قال لأُنيس: اذهب فإن اعترفت فارجمها في حديث زيد بن خالد وأبي هريرة، وهكذا في ماعز في "الصحيحين"، في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة وغيره: عن جابر بن سمرة، وعن جابر بن عبدالله، وعن جماعةٍ من الصحابة كلهم رووا قصة ماعز.

وهذا جابر هنا يقول أنَّ النبي رجم رجلًا من أسلم، هو ماعز، ورجلًا من اليهود، وامرأةً. كذلك كما جاء في "الصحيحين" من حديث ابن عمر: أن يهوديًّا ويهوديًّا زنيا، فأمر النبيُّ برجمهما، فسأل اليهود عمَّا يفعلون في التَّوراة، فأخبروه أنهم يُسودونهم -يُحممونهم- ويُركبونهم دابةً مُنكسين، قال: فأتوا بالتَّوراة، فأتوا بها فإذا فيها آيةُ الرجم، فنفذ فيهم النبيُّ ﷺ الرجم، واتَّضح من ذلك أنَّ الرجم حقٌّ، حتى في شريعة التَّوراة.

وحديث اليهوديين في الصحيح عن ابن عمر: أن النبيَّ ﷺ رجمهما، فدلَّ ذلك على أنَّ الحدَّ يُقام على الكافر الذي تحت ولاية المسلمين، ولا سيما أهل الكتاب؛ لأنهم يعتقدون تحريم الزنا؛ لأنه في كتابهم، فيُقام عليهم الحدّ، أما غيرهم ..... والمعاهدين والوثنيين، فهذا محل نظرٍ: هل يُقام عليه الحدّ أم لا كاليهوديين وكأهل الكتاب؟ وهل يُقطعون في السَّرقة كأهل الكتاب أم يكفي جلدهم؛ لأنهم بين أيدينا وتحت أحكامنا؟ هذا محل النَّظر، محل البحث ..... هل يُقاسون على أهل الكتاب ويُمنعون من تعاطي الزنا في بلادنا، ويُقطعون في السرقة، أم يكفي جلدهم في السرقة وعقوبتهم بغير القطع؟ يحتاج إلى بحثٍ إن شاء الله ويأتي.

والحديث الخامس: حديث سعيد بن سعد بن عبادة، وهو صحابي صغير رضي الله عنه وعن أبيه، قال: كان بين أبياتنا رجلٌ ضعيف، فخبث بأمةٍ من نساء أهل الدار. يعني: زنا بها، فرُفع أمره إلى النبيِّ ﷺ فقال: اجلدوه، فقالوا: إنه أضعف من ذلك، متى جُلد يُخشى عليه الموت. بيَّنوا له حاله، فقال: خذوا عثكالًا فيه مئة شمراخٍ فاضربوه به ضربةً واحدةً.

العثكال: هو العذق المعروف، عذق النَّخل، والشّمراخ معروف، وهو الأغصان التي في العثكال.

وهذا يدل على أنَّ الرجل إذا كان لا يتحمل الحدَّ -وهكذا المرأة- يُعامل بهذه المعاملة، وهذا في الشيخ الكبير العاجز، والمريض الذي لا يُرجى برؤه، أو يُخشى طول مرضه، يُبادر بالحدِّ بهذه الصفة.

والحديث لا بأس بإسناده: رواه أحمد والنَّسائي وابن ماجه وجماعة، وقال الحافظ هنا: بإسنادٍ حسنٍ. وقال السَّاعاتي في ترتيب "المسند": أنه جاء من طرقٍ كثيرةٍ يشدّ بعضُها بعضًا.

فالحاصل أنه حديث لا بأس به، وهو محمول على المرض الذي يتأخر كثيرًا، أو لا يُرجى برؤه .....، أما إذا كان المرض عارضًا يُرجى برؤه قريبًا فإنه يُؤجل، كما فعل عليٌّ بالمرأة، وصوَّبه النبيُّ عليه الصلاة والسلام؛ لما كانت حديثة عهدٍ بنفاسٍ أجَّلها لتُضرب وهي قوية، فهكذا الرجلُ الذي به مرض عارض يُؤجل الشهر أو الشهرين أو الثلاثة لعله ..... من مرضه ويرتفع فيُقام عليه الحدّ كاملًا، أما إن كان ممن لا يُرجى برؤه لشدة المرض وضعف الجسم، أو لكبر السن وعدم تحمل الجلد المعتاد؛ فيُعامل مثلما عُومل هذا الرجل في العثكال، يُضرب به ضربةً واحدةً قويةً تُؤلمه، ويكفي ذلك عن مئة جلدةٍ مُفرقةٍ، والله أعلم.

س: ..............؟

ج: الذي يظهر أنه بعلمه، أما إن كان بغير علمه لا بدَّ من أربعة شهودٍ على القاعدة، إذا رأى بنفسه، شاهد بنفسه فهو تأديب لها، وتأديب له؛ لإطلاق النبيِّ ﷺ.

س: ...............؟

ج: الظاهر أنه يُحبس إذا كان يُخشى أنه يذهب ويهرب، أما إذا كان مثله لا يُخشى؛ لأنه طايح، رجل طايح، أقول: إذا كان يخشى ولي الأمر أنه يهرب يُحبس، أو يُوكل مَن يُلازمه.

س: ................؟

ج: دعت إليها الحاجة، إذا دعت إليها الحاجة فلا بأس.

س: ...............؟

ج: أمر وليَّها أن يحتفظ بها، وكَّل بها وليها.

س: ................؟

ج: نعم، يكون كفَّارةً ولو كان الشهود والقبض عليه، مثلما في حديث عبادة في "الصحيحين": مَن ..... به في الدنيا كان كفَّارته، هكذا قال النبيُّ ﷺ، وإن لم ..... به في الدنيا فأمره إلى الله: إن شاء غفر له، وإن شاء عذَّبه.

س: ...............؟

ج: هذا بحثٌ آخر، محل نظرٍ، عقوبة زائدة، محل نظرٍ.

س: ................؟

ج: إيه نعم، يُقيم الحدّ ثم يُباع، يُكمل الحدّ ثم يُباع.

س: ................؟

ج: فيه خلاف بين أهل العلم: الظاهرية قالوا بوجوب البيع. والمشهور عند العلماء أنه يستبح له البيع، وإن أدَّبه وجاهده لم يجب عليه، لكن ينبغي له أن يبيعه؛ أخذًا بالسنة، وتمشيًا مع ظاهر النص. وقول الظاهرية في هذا قوي؛ لأنه أمر واحد، أقول: أمر مكرر، مثلما قال: فليجلدها الحدّ، قال: فليبعها، فينبغي له أن يبيعها كما قال النبيُّ ﷺ، وقول الظَّاهرية هنا أقوى من قول الجمهور وأظهر.

س: ...............؟

ج: لا، الزُّناة قليل في عهد النبيِّ ﷺ؛ ولذلك استغرب عمر أن يُصلي عليها؛ لأنَّ الزناة قليلون، وهي معصية عظيمة، فاستغرب عمر أن يُصلي عليها، هذا الظَّاهر.

1228- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ، وَمَنْ وَجَدْتُمُوهُ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ، وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا.

1229- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ ضَرَبَ وَغَرَّبَ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ ضَرَبَ وَغَرَّبَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي وصله ورفعه.

1230- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

1231- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ادْفَعُوا الْحُدُودَ مَا وَجَدْتُمْ لَهَا مَدْفَعًا. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

1232- وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِلَفْظِ: ادْرَأُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا.

1233- وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ قَوْلِهِ بِلَفْظِ: "ادْرَأُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ".

1234- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ بِهَا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَليَتُبْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ . رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ فِي "الْمُوَطَّأ" مِنْ مَرَاسِيلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.

الشيخ: الحديث الأول: حديث ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما، عن النبيِّ ﷺ أنه قال: مَن وجدتُموه يعمل عمل قوم لوطٍ فاقتلوا الفاعلَ والمفعول به، ومَن وقع على بهيمةٍ فاقتلوه، واقتلوا البهيمة أخرجه الخمسةُ: أحمد وأهلُ السنن، ورجاله مُوثَّقون، إلا أنَّ فيه اختلافًا.

الحديث هذا دلَّ على مسألتين:

إحداهما: قتل اللَّائط والملوط به، وهذه الفاحشة فاحشة عظيمة، لم يذكرها الله سبحانه إلا عن قوم لوطٍ، حتى قال الوليدُ بن عبدالملك: لولا أنَّ الله ذكرها لما كنتُ أظن أنَّ رجلًا يعلو رجلًا! فالفاحشة عظيمة؛ ولهذا ثبت في "المسند" عن ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما، عن النبيِّ ﷺ أنه قال: لعن الله مَن عمل عمل قوم لوطٍ، لعن الله مَن عمل عمل قوم لوطٍ، لعن الله مَن عمل عمل قوم لوطٍ، فعملهم قبيح وشنيع، أفحش من الزنا؛ ولهذا أجمع الصحابةُ على أنَّ اللائط والملوط به يُقتلان، وإنما اختلفوا في صفة القتل:

فذهب قومٌ كالصديق وجماعة، وعن عليٍّ وابن الزبير وهشام بن عبدالملك [إلى] تحريق اللائط والملوط به؛ لعظم الجريمة.

وقال قومٌ: بل يُقتلان بالسيف.

وقال آخرون: بل يُلقيان من شاهقٍ كما فعل الله بقوم لوطٍ.

وقال قومٌ من أهل العلم: إنهما يُعاملان معاملة الزاني: فالبكر يُجلد مئةً ويُغرب عامًا، والثَّيب يُرجم. وهذا القول الأخير ليس عليه دليلٌ، ليس هناك حُجَّة تدل على إلحاقه بالزاني، وكون هذا حرام وهذا حرام لا يكفي في الإلحاق.

والصواب ما أجمع عليه الصحابةُ رضي الله عنهم وأرضاهم، كما حكاه ابنُ القيم رحمه الله وغيره، قال: أجمع الصحابةُ على قتله، وكان الصديقُ من أشد الناس في ذلك رضي الله عنه وأرضاه، فالصواب أنه يُقتل، ولولي الأمر أن يقتله بالسيف، ولولي الأمر أن يقتله بغير ذلك: كإلقائه من حائطٍ أو شاهقٍ أو نحو ذلك، لكن قتله بالسيف أنجز وأسرع، أما مُعاملته معاملة الزاني فلا وجهَ لها، ولا دليلَ عليها. وهذا كله إذا ثبت بالبينة أو بالإقرار.

أما وطء البهيمة فهو منكر لا شكَّ ومُحرَّم، وقد قال بعضُ أهل العلم بأنه يُعامل معاملة الزاني أيضًا؛ فيُقتل كما يُقتل الزاني المحصن.

وقال آخرون ما دلَّ عليه الحديثُ: وهو أنه يُقتل فقط، أي بالسيف.

والحديث في سنده اختلاف واضطراب عند بعض أهل العلم؛ ولهذا أشار إليه المؤلفُ قال: إلا أنَّ فيه اختلافًا. وقد رُوي بطرقٍ جيدةٍ، لكن علَّته الاختلاف الذي يُسميه العلماء: الاضطراب، فمَن رجَّح بعض طرقه قال: إنه سليم، والاضطراب إذا تحسنت إحدى الطرق وترجحت إحدى الطرق زال حكمه.

وقال آخرون: بل هذا شبهة تدرأ القتل عن مُواقع البهيمة؛ ولهذا جاء عن ابن عباسٍ أنه يُعزر، نفس ابن عباس الذي روى هذا الحديثَ رأى أنه يُعزر، وهذا هو الأظهر، وهو الأقرب: أنه يُعزر بما يراه ولي الأمر من ضربٍ وسجنٍ ونحو ذلك مما يُردعه عن هذا العمل القبيح، من أجل شبهة الاختلاف في الحديث.

وأما اللائط فتقدم أنَّ الحجة فيه إجماع الصحابة مع الحديث، فالحديث ..... وتقوى بإجماع الصحابة، فوجب قتله بإجماع سلف الأمة على قتله، والحديث يُؤيدهم ويعضد ما ذهبوا إليه.

وأما البهيمة فتُقتل؛ لأنَّ أمرها أسهل، قيل: لئلا يتحدث الناسُ أنَّ هذه بهيمة فلان التي وقع عليها. وقيل: لاستقباح جرها واقتنائها بعد ذلك.

وبكل حالٍ المشروع قتلها، فإذا كانت مأكولةً تُؤكل، تُوزع للفقراء، أو يأكلها غيرهم كالسُّجناء وغيرهم، وإن أكلها أهلها فليس هناك دليل على منعهم، فإنَّ الواجب هو قتلها وأكلها إن كانت مأكولةً، أو غير مأكولةٍ: كالحمار والبغل.

فالحاصل أنها تُذبح لئلا يتحدث الناسُ عنها؛ ولئلا تبقى معينةً للفاحشة، ومظهرةً للفاحشة، وقد جاء الشرعُ بدفن الفواحش وإماتتها، والنهي عن إشاعتها، وبقاء البهيمة التي ثبت أنه وطأها فلان مما يُشيع ذلك، أما إذا لم يثبت أنه وطأها لا بالبينة ولا بالإقرار فلا تُقتل.

والحديث الثاني حديث ابن عمر: أنَّ النبي ﷺ ضرب وغرَّب، وأنَّ الصديق ضرب وغرَّب، وأن عمر ضرب وغرَّب.

هذا يدل على أنَّ الضرب والتَّغريب أمر مُستقر، وهذا هو الوجه، ذكر الصديق وذكر عمر والخلفاء إنما يُذكرون لبيان أنَّ الحكم مستقرٌّ، وأنه لم يُنسخ ولم يُغير، وإلا فالحجَّة قائمة بما قاله النبيُّ ﷺ، فقد ضرب الزاني البكر مئةً وغرَّبه، كما ثبت في حديث العسيف، وثبت في حديث عبادة، وغيرهما، ولكن يذكرون عمل الخلفاء لبيان استقرار الحكم، وأنه لم يُنسخ ولم يُغير.

فالواجب في حقِّ الزاني أن يُضرب ويُغرب، يُضرب مئة جلدةٍ، ويُغرب سنةً كاملةً إذا كان بكرًا كما تقدم، وفي ذلك مصالح:

منها: تأديبه وردعه عن تعاطي هذه الفاحشة مرة أخرى.

ومنها: ردع غيره، وتنبيه غيره؛ حتى لا يقع فيما وقع فيه.

وأما التَّغريب فلعلَّ فيه حكمًا كثيرةً: منها البُعد عن الجو الذي كان فيه؛ لأنه قد يكون هناك ما يُغريه بالفاحشة ويجره إليها، فإذا بعد إلى جوٍّ صالحٍ، إلى صُحبة الأخيار، وعرف أنَّ هذا التَّغريب بسبب هذه المعصية، فربما استفاد من ذلك فائدةً كبيرةً؛ حتى يكون أردع له عنها بعد ذلك.

والحديث الثالث حديث ابن عباس أيضًا: يذكر عن النبيِّ ﷺ أنه لعن المخنَّثين من الرجال، والمترجلات من النساء، أنَّ رسول الله لعن المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم.

المخنَّث بفتح النون، وتُكسر، يقال: المخنِّث، يعني: المتشبِّه، ويقال: المخنَّث، بمعنى أنه يتخنث، يعني: يلين أو يتشبَّه بالنساء: إما بكلامٍ، وإما بمشيته، وإما بحركاته، وإما بملابسه، وإما بغير هذا .....، فهو مخنَّث مُتشبه، ومُخنث مُشبه بالنساء.

والمترجلات: المتشبهات من النساء، المترجلات.

وقد جاء بألفاظٍ أخرى: "لعن المتشبِّهين من الرجال بالنساء، والمتشبِّهات من النساء بالرجال".

فالمخنَّث هو المتشبِّه، وفي عُرف العامَّة هو الذي يُلاط به، وهذا ليس هو المقصود هنا، المقصود هنا هو ما هو معروف من التَّشبه بالنساء، يقال له: مُخنث إذا تشبَّه بهن في حركاتهن وكلامهن ومشيتهن، أو في ملابسهن، وهذا وعيد عظيم، يدل على أنه كبيرة من الكبائر، وأنَّ مَن تعمَّد ذلك هذا كبيرة من الكبائر، وهكذا تعمدهن التَّشبه بالرجال.

أما لو كان خلقةً، ليس لها فيه شيء، وليس له فيه شيء، فإنَّ هذا لا يضره: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وهذا هو المخنث الذي أقره النبيُّ مع النساء ..... خلقة، ليس فيه إربة، وليس له شيء يخاف منه، فأما إذا ظهر منه أنَّ له شهوةً، أو أنه يصف النساء، وأنه يحكي محاسنهن وصفاتهن التي يرغب فيها الرجال؛ فإنَّ هذا يُمنع، كما منع النبيُّ ﷺ المخنَّثين من الرجال وأمر بإخراجهم من البيوت.

فالحاصل أنَّ هذا الوعيد في حقِّ مَن تعاطى ذلك وهو يقدر على التَّخلص منه، فهذا هو المنكر، وهذا هو الذي يجب عليه الحذر، ويُعاقب إذا تساهل في ذلك، أما مَن ابتُلي بهذا خلقةً في كلامه، أو في مشيته، من غير تعمُّدٍ لذلك، فالله يقول جلَّ وعلا: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، نسأل الله العافية والسلامة.

والحديث الرابع حديث أبي هريرة: ادفعوا الحدودَ ما وجدتم لهن مدفعًا، هكذا حديث عائشة: ادرؤوا الحدودَ ما استطعتُم، وأثر عليٍّ: "ادرؤوا الحدودَ بالشُّبهات".

هذه المسألة جاءت فيها عدة آثار وأخبار مرفوعة إلى النبي ﷺ، لكنها لا تخلو عن ضعفٍ وعن مقالٍ في المرفوع منها إلى النبيِّ ﷺ، ولكن العلماء في الجملة قد أجمعوا على مراعاة ذلك، فتراعى الشُّبهات في الحدود، فإذا وجد شبهةً قويةً يخشى منها أنَّ الحقَّ غير ثابتٍ، وأنَّ هذا الحدَّ في ثبوته نظر؛ دُرئ الحدّ، وأُقيم ما يردع عن المعصية: من جلدٍ، أو سجنٍ، أو نحو ذلك، دون الحدِّ.

فالشبهات هي التي تُشكك الحاكم في الأمر، وتجعله غير جازمٍ بأنَّ هذا الحدَّ ثابت، وأنَّ صاحبه مستحقّ، مثل: ادعاء المرأة أنها مُكرهة، وأنه غصبها، وليس هناك ما يُبطل قولها، هذه شبهة يُدرأ بها الحدّ، وهكذا ما يشتبه على الحاكم، ويدل على أنَّ في الحدِّ شبهةً تمنعه من الجزم بإقامته، فإنه يتوقف عن ذلك، ويُجري ما هو دون الحدِّ، دون القتل في المحصن، وما دون القطع في السرقة، وما دون جلد المئة في البكر، فيُعاقب بما هو أقلّ من ذلك عند وجود الشُّبَه التي تمنع من إقامة الحدِّ بالكامل.

ومن هذا شبهة التي أباحت للرجل -زوجها- أن يطأ أمتَها، جعل حدَّها النبيُّ ﷺ مئة جلدة، مئة للشُّبهة، ومن هذا درء الحدِّ عن المزني بها إذا ادَّعت الغصب والإكراه وليس هناك ما يدل على بطلان قولها، وغير ذلك مما يكون شبهة للقاضي والحاكم تجعله يتوقف في هذا الأمر.

والحديث الأخير حديث ابن عمر في النَّهي عن القاذورات: فيه النَّهي عن تعاطي ما حرَّم الله، فإنَّ المعاصي كلها قاذورات، فيجب الحذر منها، ومَن وقع في شيءٍ منها فليستتر بستر الله، وليستحي ولا يُظهر ذلك، والله توعد مَن يُحب إشاعة الفاحشة، فينبغي للمؤمن ألا يُشيعها في نفسه، وقد قال ﷺ: مَن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، فالستر على المسلمين وعدم إشاعة الفواحش أمر مطلوب.

فإذا وُجد من أحدٍ شيء من ذلك، واطَّلع عليه بعضُ إخوانه، فإنه يستر عليه وينصحه ويُوجهه إلى الخير؛ حتى لا يعود إلى ذلك، وإذا وقع ..... فليحذر إشاعة ذلك، وقد قال النبيُّ ﷺ: كل أمتي مُعافًى إلا المجاهرين، ومن الإجهار أن يفعل الرجلُ المعصيةَ في الله، فيبيت يستره الله، ثم يُصبح ويقول: فعلتُ كذا يا فلان، وفعلتُ كذا يا فلان. ويُصبح وقد ستره الله فيفضح نفسه.

فالواجب في مثل هذا الاستتار بستر الله، والبُعد عن إظهار ما حرَّم الله، وليحمد الله الذي ستر عليه.

وقوله: فإنه مَن يُبدِ لنا صفحته نُقيم عليه كتابَ الله يعني: مَن أبدى لنا ما فعل وأظهر ما فعل وجب أن يُقام عليه أمر الله، فإذا أقرَّ أُقيم عليه الحدُّ، وإذا ثبت بالبينة أُقيم عليه الحدُّ، وما دام مستورًا لم يُقرّ ولم تأتِ بينةٌ فالله يتولى حسابه ، وإذا تاب تاب الله عليه ، والله أعلم.

س: ..............؟

ج: الظاهر أنها مجموعة ليتقوَّى بها الأمر؛ ولأنَّ الأصل براءة الذمة من هذا الشيء، فهذا قدح في شغلها.

س: ................؟

ج: لأنَّ دم المسلم أعظم حُرمةً من البهيمة؛ ولأنَّ بقاءها يُشيع الفاحشة، في الغالب إذا علم الناس ذلك يُشيعوها، أما هو فحُرمته أشد، حُرمة المسلم عظيمة، فلا يُقتل إلا ببينةٍ واضحةٍ لا شبهةَ فيها، والاختلاف في الحديث شبهة.

س: ................؟

ج: لأجل الحديث يتقوى بالقضاء على إشاعة الفاحشة.

س: ................؟

ج: نعم إذا تعمدت تُمنع من هذا، تستحق اللعن، نعوذ بالله.

س: ................؟

ج: تُغرب إذا تيسر محرم، ..... تُغرب، أما إذا ما تيسر يسقط، من شرط التَّغريب المحرم.

س: ...............؟

ج: جريمة، منكر، لا تُؤتى النساء في أدبارهن.

س: ................؟

ج: يُعزر نعم.

س: حلق اللحية يُعتبر من التَّخنث؟

ج: ذكره بعضُ أهل العلم، ذكره ابن عبد البر قال: إنَّ حلق اللِّحَى نوعٌ من التَّشبه بالنساء. ذكره ابن عبد البر عن بعض أهل العلم.

س: ..............؟

ج: في سنده بعض الكلام: مَن أتى امرأته وهي حائض، ولكن في مجموع الروايات: ملعونٌ مَن أتى امرأته في دبرها، لا ينظر الله إلى رجلٍ أتى امرأته في دبرها، أما الزيادة: فقد كفر ففي مسألة الحائض، أما في الدُّبر ما أتذكر زيادة: فقد كفر.

س: ...............؟

ج: لا، حدّ شرعي، الصحابة اعتبروه حدًّا.

س: ................؟

ج: تساهلوا فيه؛ لأنه من اللِّياطة، كونه فعل الفاحشة يُقال: لاط بفلانٍ، يعني: أجرى الفاحشة معه، نسأل الله العافية، ليس نسبة للنبيِّ ﷺ، لا، لوط لا يُنسب إليه، وإنما اللُّوطيون قومه ..... اسمه لوط عليه الصلاة والسلام.

س: ...............؟

ج: مثلما قال النبيُّ، أحسن على كل حالٍ: مَن عمل عمل قوم لوطٍ ...

بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ

1235- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ، وَتَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ فَضُرِبُوا الْحَدَّ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ. وأشار إليه البخاري.

1236- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَوَّل لِعَانٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ شَرِيكَ بْنَ سَمْحَاءَ قَذَفَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ بِامْرَأَتِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْبَيِّنَةَ، وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ. الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

1237- وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

1238- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَمْلُوكَ فِي الْقَذْفِ إِلَّا أَرْبَعِينَ. رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ فِي "جَامِعِهِ".

1239- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: هذا الباب في حدِّ القذف، القذف بمعنى: الرمي، قذفه بكذا: رماه بكذا، والمراد بالشرع هو القذف بالفاحشة، الرمي بالزنا واللِّواط يقال له: قذف، وقد بيَّن الله في كتابه العظيم أنَّ حدَّ القذف ثمانون جلدةً، كما في قوله جلَّ وعلا: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]؛ لما في هذا من حماية الأعراض، وحماية المسلمين من لعب اللاعبين من السُّفهاء وأهل الجور، فكان من رحمة الله ومن إحسانه سبحانه أن شرع حدَّ القذف؛ حمايةً لأهل الإيمان وللمُحصنين والمحصنات؛ وردعًا لأهل الفجور.

ولما وقع ما وقع في غزوة الإفك من قصة عائشة رضي الله عنها وذهابها إلى قضاء حاجتها في الغزوة التي جرى فيها ما جرى، واحتمل المسؤولون عن ترحيلها حملوا هودجها في محلِّه، ولم يحسّوا بعدم وجودها؛ لخفَّتها، لكونها خفيفةً، لم يحمل النساء ذاك الوقت اللَّحم، فلما جاءت وجدت المكان خاليًا، وقد ارتحل الناسُ، واضطجعت وغلبتها عيناها فنامت، فلم يفجأها إلا استرجاع صفوان بن معطل، لما رأى السَّواد وعرفها قال: إنَّا لله وإنا إليه راجعون. ثم أناخ ناقته فأركبها، وجعل يقود بها حتى أتى بها إلى الجيش، فوقع فيها مَن وقع، وهلك مَن هلك.

قالت عائشةُ رضي الله عنها: "وكان قد رآني قبل الحجاب فعرفني، فلما سمعتُ صوته خمرتُ وجهي"، فدلَّ ذلك على أنهم كانوا قبل الحجاب يكشفون الوجوه، ولما شرع الله الحجابَ أُمِروا بالحجاب للوجه كبقية البدن.

فلما رأى الناس صفوان أتى بها هلك في هذا مَن هلك، وأعظمهم وأخبثهم عبدالله بن أُبي بن سلول، أشاع هذا الكلام وقال: إنها فجرت بصفوان. وشاع هذا في الناس، وأخذه بعضُ الناس، فوقع في هذا مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش رضي الله عنهم ورحمهم، غلطوا، سمعوا الإشاعات فغلطوا في هذا، فلما أنزل الله عذرها وأنزل آية الإفك أمر النبيُّ بحدِّهم، فحُدّ الثلاثة: حسان، ومسطح، وحمنة، حدّ القذف.

أما عبدالله بن أُبي فكان تولى كبره، فالمعروف والمشهور أنه لم يُحدّ لأعذارٍ ذكرها ابنُ القيم وغيره، وأهمها خوف الفتنة من حدِّه؛ لأنه مطاع في قومه، وقد كانوا أرادوا أن يُرئسوه عليهم ويُملكوه المدينة، فلما هاجر النبي ﷺ فاته هذا الأمر، فشرق بالدَّعوة، واشتدَّ أذاه للمسلمين، وكان في كل فرصةٍ يفعل ما يستطيع من البلاء والشرِّ.

وقيل: إنه حُدَّ. كما ذكره الشارحُ عن رواية الحاكم في "الإكليل"، والأقرب والأظهر أنه لم يُحدّ، لو حُدَّ لاشتهر ونُقل.

والمقصود من هذا: مَن وقع في هذا الأمر وجب أن يُحدّ وإن كان من صالح الناس، ومن خيار الناس؛ ردعًا للناس عن هذا الأمر؛ وحمايةً للمؤمنات والمؤمنين من أذى الناس في القذف المحرم.

وفي هذا من الفوائد: أن السلطان يُقيم الحدَّ على مَن استحقَّ إقامة الحدِّ، وأنَّ له أن يدرأه إذا كان يخشى منه فتنةً كبيرةً على ما جاء في قصة عبدالله بن أُبي، وهذا عند وجود الأمارات والعلامات التي يخشى منها ما يضرّ المسلمين، ويُسبب فرقتهم ونزاعهم وقتالهم، فولي الأمر ينظر في الأمر، وإلا فالقاعدة أنَّ الحدَّ يُقام على مَن قذف ويُنفذ فيه أمر الله .

الحديث الثاني: حديث أنسٍ في قصة هلال بن أمية وشريك بن سمحاء، فيه أنَّ هلالًا قذف شريكًا بالزنا، فقال له النبيُّ ﷺ: البينة، وإلا فحدٌّ في ظهرك، وهكذا جرى غير ذلك من غير هلال، ويدل على أنَّ الزوج إذا قذف أحدًا بامرأته فإنه يُقام عليه حدُّ القذف، إلا أن يثبت ما قال بأربعة شهودٍ، أو بإقرار المقذوف، وإلا فعليه حدُّ القذف.

وهكذا إذا قذف زوجته فإنَّ عليه أن يُبرر ذلك، أو يُقام عليه حدُّ القذف، إلا أن يُلاعن، وقد جرى في عهد النبي ﷺ واقعة هلال، وواقعة عُويمر العجلاني، فلاعنا ودُرئ عنهما الحدّ لما لاعنا، وكان هذا من رحمة الله؛ لأنَّ الزوج قد لا يصبر، قد لا يتحمل الصبر إذا رأى الشيء، فيقذف الزوجة بسبب شدة غيرته وما يقع له من ضيق الصدر والتَّكدر، فجعل الله جلَّ وعلا من رحمته أن يدرأ الحدَّ عنه باللِّعان، فيُلاعنها اللِّعان الذي ذكره الله في كتابه في أول سورة النور، وهو أن يشهد أربع شهادات عليها أنها زنت، والخامسة أنَّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فإذا فعل ذلك دُرئ عنه الحدّ.

وفي حديث عبدالله بن عامر بن ربيعة، وهو صحابي صغير، وأبوه صحابي مشهور، فيه الدلالة على أنَّ حدَّ القذف يُنصف على المملوك مثل: حدِّ الزنا، كما قال الله جلَّ وعلا: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، المراد بالعذاب الحدّ: حدّ الجلد، واستفاد الصحابة من تنصيف حدّ الزنا حدّ القذف.

والظاهر والله أعلم أنهم قاسوه على ذلك؛ لأنه إذا نصف حدّ الزنا وهو أعظم وأشدّ، فتنصيف حدّ القذف وهو أدنى من باب أولى؛ ولأنَّ إقامة الحدِّ كاملًا على المملوك قد يُفضي إلى قتله أو موته أو تعطله مدةً طويلةً، وفيه ضرر على المالك، وهو لم يفعل شيئًا: لم يزنِ، ولم يقذف المالك، وإنما القاذفُ الخادم المملوك، فكان من رحمة الله أن خفَّف الأمر في المماليك حتى لا تضيع أموالُ الناس عليهم، وحتى ..... كثيرًا بأسباب ما قد يقع للمملوك، فيُقام عليه الحدّ الذي يليق به وينتفع به سيده إن هداه الله، أو يبيعه بعد ذلك ويستريح منه، كما في الحديث المتقدم: ولو بحبلٍ من شعرٍ.

وهذا الذي فعله الخلفاءُ موافق للآية الكريمة، وظاهر في المعنى، وسنتهم سنة تُتبع، كما قال ﷺ: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، فإلحاق ذلك بحدِّ الزنا واضح، وهم رضي الله عنهم وأرضاهم أعلم الناس بالسنة، وأعرفهم بالحقِّ بعد الأنبياء؛ ولهذا أخذ العلماء بما قاله الخلفاء؛ لأنه موافق لنص الكتاب العزيز من حدِّ الإماء، والأصل أنهما سواء، فيُقام الحدُّ على الزاني والقاذف من المماليك، وهو النصف، ولا يُرجم المملوك، ولا يُكمل عليه الحدّ.

أما الحديث الرابع: فهو ما إذا قذف السيدُ أمته أو عبده، هل يُقام عليه الحدُّ أو يُعزر؟

في الحديث المذكور الدلالة على أنه لا يُقام عليه الحدّ؛ لقوله ﷺ: مَن قذف مملوكه فإنه يُقام عليه الحدُّ يوم القيامة.

هذا يدل على أنه يُعذَّب يوم القيامة إذا كان كاذبًا، ويُقام عليه الحدّ يوم القيامة؛ تشنيعًا عليه، وإظهارًا لباطله على رؤوس الأشهاد، نسأل الله السلامة.

وظاهر الحديث أنه لا يُقام عليه في الدنيا؛ لأنه ما قال: فأقيموا عليه الحدّ، أو قال: أُقيم عليه الحدّ. ولكن قال: يُقام عليه الحدّ يوم القيامة، هذا يدل على أنه لا يُقام عليه في الدنيا.

ولعلَّ الحكمة في ذلك والله أعلم: أنه قد يكون أعلم به وأرأف بحاله في الأغلب، وليس محل التُّهمة في أن يقذفه، فدُرئ عنه الحدّ في الدنيا؛ لما في إقامته عليه من نصر المملوك عليه، والمملوك في الغالب قد يكون ضعيف البصيرة، ضعيف الإيمان، عنده جرأة على المحارم؛ لأنهم في الغالب يكونون جُهَّالًا، ويكونون من السَّبي الذي عاش بين الكفرة، فلا يبعد أن تقع منه الفاحشة، وهي الزنا، وأن يكون سيده صادقًا.

فمن رحمة الله أن درأ عنه الحدَّ في الدنيا، فإن كان ظالمًا أُقيم عليه يوم القيامة، وإن كان صادقًا سلم في الدنيا والآخرة، لكن هل يُعزره وليُّ الأمر؟ هذا يرجع إلى ولي الأمر: إذا رأى تعزيره، وطالب المملوك بذلك، طالب بحقِّه، ورأى وليُّ الأمر أن يُعزر بدون الحدِّ؛ ردعًا للناس عن رمي مماليكهم بغير حقٍّ، فهذا إلى ولي الأمر إذا رأى ذلك وطالب المملوك بحقِّه، من باب الحماية للأعراض، ومن باب إنصاف الضَّعيف، وردع المجرمين، وردع المتساهلين، فلا مانع من هذا؛ لأنَّ القاعدة: أنَّ المعاصي التي دون الحدود لولي الأمر النَّظر فيها، ويرى ما يرى من التَّعزيرات الرادعة في المعاصي التي لا حدَّ فيها، والله أعلم.

س: .............؟

ج: إذا ثبت.

س: ..............؟

ج: هذا مشهور أنه هو الذي تولى كبره في السير.

س: ...............؟

ج: يُفشيه ويُشيعه، ومعلوم أنَّ مَن أشاعه قاذف، من قال: إنها فعلت وفعلت، فهذا قاذف، نسأل الله العافية.

س: .............؟

ج: الله أعلم، محتمل.

س: ...............؟

ج: ما يجوز، ما يجوز.

س: ................؟

ج: إذا قذفها، وإلا إذا ما قذفها ما يصير قاذفًا إذا صرح بالزنا؛ لأنَّ البكارة تزول بغير الجماع، تزول بأشياء كثيرةٍ: قد تزول بالحيض، وبالقفز من مكانٍ إلى مكانٍ، وبأشياء أخرى.

س: ...............؟

ج: إذا طلب صاحبُ الحقِّ حقَّه ينظر في الكلمة: إن كانت صريحةً في القذف وإلا قبل تفسيره لها بما يدرأ عنه الحدَّ، أما إن كانت صريحةً وطالب صاحبُها بحقِّه: يا زاني، يا قحبة، الأشياء المعروفة عند الناس، أما إن كان شيء يحتمل: يا خبيث، يا ظالم، ما يكون قذفًا هذا، هذا قذف بغير الزنا، والقذف بغير الزنا له تعزيره الشرعي غير حدِّ القذف: يا حمار، يا كلب، يا فاجر، يا خبيث، يا ظالم، إذا كان ليس كذلك وطلب حقَّه، ولي الأمر يُعطيه حقَّه بالتَّعزير.

بَابُ حَدِّ السَّرِقَةِ

1240- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تُقْطَعُ يَدُ سَارِقٍ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا.

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: اقْطَعُوا فِي رُبُعِ دِينَارٍ، وَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ.

1241- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1242- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ؛ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا.

1243- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟! ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ .. الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: عَنْ عَائِشَةَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقَطْعِ يَدِهَا.

1244- وَعَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ.

1245- وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ. رَوَاهُ الْمَذْكُورُونَ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ.

الشيخ: هذا الباب في السَّرقة، السَّرقة من الجرائم التي يُبتلى بها المجتمع كثيرًا؛ ولذلك جاء حكمُها في كتاب الله ؛ لشدة الضَّرورة إلى حماية المجتمع من شرِّ السُّراق؛ لأنهم يُخيفون المجتمع، ويُنغصون النِّعَم، ويُفسدون في الأرض، ويأخذون أموالَ الناس بغير حقِّها، ويُخيفونهم ويُزعجونهم في أوقات الراحة والطُّمأنينة، فمن رحمة الله أن حكم فيهم بحكمٍ عظيمٍ رادعٍ عن هذه الجريمة الشَّنيعة، قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، ليس المقصود مجرد المال، المال شأنه أسهل، لكن ما يقع من الإخافة والإيذاء والفتنة، وما يكون في ذلك من القتال والفساد الكبير، فإنَّ الناس لا يسمحون بأن تُؤخذ أموالهم، وهو يأتيهم في وقت الأمن، ووقت الراحة، ووقت الخفاء في الليل، وفي أوقات الطُّمأنينة، فيُخادعهم ويُؤذيهم حتى يأخذ أموالهم.

فمن رحمة الله جلَّ وعلا أن شرع هذا الحدَّ الزاجر؛ حسمًا لمادة شرِّ السُّراق، فإذا نفذ فيهم ذلك اطمأنت البلادُ، واستراح العباد؛ ولهذا جاءت النصوصُ الكثيرة عن النبي ﷺ تُوافق ما جاء في الكتاب العزيز من قطع يد السارق، قال النبيُّ ﷺ: تُقطع يد السَّارق في ربع دينارٍ فصاعدًا، وفي اللفظ الآخر: لا تُقطع يد السَّارق إلا في ربع دينارٍ فصاعدًا كما رواه الشَّيخان من حديث عائشة. وفي رواية أحمد: اقطعوا في ربع دينارٍ، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك.

فهذا حدٌّ واضح فاصل فيما يُقطع فيه وما لا يُقطع فيه، فما كان من المال ربع دينارٍ فأكثر قُطع فيه، وما لا فلا، ولكن ما لا يُقطع يُعزر فيه، يُؤدب فيه ويُغرم مثليه، يُؤدب الأدب الرادع من السّجن والضَّرب والتَّغريم، فما يُساوي ريالًا يغرم فيه ريالين، وما يُساوي ريالين يغرم فيه أربعةً مضاعفة، كما يأتي إن شاء الله في حديث عبدالله بن عمرو في الصحيح.

وربع الدِّينار هو ربع المثقال، وهو الآن بالجنيه السُّعودي: سبع الجنيه السعودي؛ لأنَّ الجنيه السُّعودي مثقالان إلا ربع، وربع الدِّينار فيه هو الربع، وهو سبعه، يعني: إذا كان صرفه سبعين، فربع الدِّينار عشرة، سهمه سبعة، فيُقطع في هذا، وما زاد عليه وما نقص عنه لا يُقطع فيه، وما كان من الأموال الأخرى ..... ذلك، فإذا سرق طعامًا، أو أواني، أو ملابس، أو غير ذلك، فما بلغت قيمته ربع الدينار قُطع، وما لا فلا.

ولأجل هذا في الحديث الثاني -حديث ابن عمر- أن النبي ﷺ قطع في مجنٍّ قيمته ثلاثة دراهم.

المجن: الترس الذي يُتَّقى به السلاح، يُجعل في يد المجاهد يتَّقي به السيوف والرماح، وهو مُستدير، يُسمَّى: ترسًا، ويُسمَّى: مجنًّا؛ لأجل [أنه] يُستجنّ به، من الجنّة، فلما بلغ ربع الدينار أمر النبيُّ بقطعه.

وهكذا جاء عن عثمان : أنه قطع في أترجةٍ لما قوَّموها فإذا هي تُساوي ربع الدينار -ثلاثة دراهم- فأمر بقطع سارقها، هذا حدٌّ فاصلٌ واضحٌ يجب الاعتماد عليه.

وقد اختلف الناسُ، اختلف العلماءُ في هذا الباب:

فقال قومٌ: إنَّ ربع الدينار أصل، والدراهم الثلاثة أصل.

وقال آخرون: بل العُمدة هو الدِّينار، والثلاثة إنما قطع فيها لأنها وافقت ربع الدينار. وهذا هو الصواب، وهذا هو الحقّ: أن الأصل والأساس هو ربع الدينار، هذا هو قول الجمهور.

وقال بعضُ أهل العلم: إنَّ النِّصاب عشرة دراهم. وذكروا حديثًا ضعيفًا في هذا الباب احتجُّوا به، وهو مذهب الكوفيين.

والصواب ما جاء في حديث عائشة: أنَّ الحدَّ هو ربع الدينار، وأما تعلق الكوفيين وعلماء العراق برواية: لا يُقطع في أقلّ من عشرة دراهم، هذا ضعيف، ولا يُحتج به، ولا يُعول عليه.

وأما الحديث الثالث -وهو حديث أبي هريرة- أن النبيَّ ﷺ قال: لعن الله السارقَ؛ يسرق الحبلَ فتُقطع يده، ويسرق البيضةَ فتُقطع يده متفق عليه.

معناه عند أهل العلم: أنَّ هذا تنفير من السَّرقة وتحذير منها، وليس معناه أن البيضة نصاب، أو الحبل نصاب، وإنما المراد من ذلك التَّحذير، وأنه يتساهل في القليل فيقع في الكثير ثم يقطع، يتساهل في سرقة البيضة أو الدرهم أو نصف الدرهم ..... فيضطره ذلك إلى أن يسرق ما فوق ذلك فتُقطع يده.

فينبغي الحذر من السرقة وإن كان قليلًا، ينبغي للمؤمن الحذر من السَّرقات قليلها وكثيرها؛ حتى لا يعتادها.

وفي هذا لعن العُصاة على سبيل العموم، لا بأس أن يلعن: لعن الله السارق، لعن الله الزاني، لعن الله اللائط، لعن الله كذا، مثلما قال النبيُّ ﷺ: لعن الله السارق هنا، ومثلما لعن الواشمة والمستوشمة، والواصلة والمستوصلة، والمتفلجات للحُسن، ومثلما لعن مَن صبر البهائم، في أشياء كثيرة جاء فيها لعن العُصاة على سبيل العموم، فلا بأس بذلك.

أما لعن المعين: فلان ابن فلان، فقد تنازع فيه العلماءُ، والأرجح عدم لعن المعين؛ ولهذا لما لعن بعضُ الناس مَن جيء به وهو شارب قال: لعنه الله، ما أكثر ما يُؤتى به! قال: لا تُعينوا عليه الشيطان، إنه يُحب الله ورسوله.

المقصود أنَّ لعن العُصاة على سبيل العموم لا بأس به، بخلاف المعين، فإنَّ المعين يُدعا له بالهداية ولا يُلعن، بل يُدعا له بالهداية والتوفيق، ويُوبخ على عمله السيئ، ويُقام عليه حدُّ الله أو التَّعزير.

وقال بعضهم: إنَّ المراد بالبيضة هنا بيضة الجهاد التي تُوضع على الرأس، بيضة الحرب، والحبل: حبل السفن، وهذه البيضة وهذا الحبل يُساوي شيئًا كثيرًا. ولكن هذا لا دليلَ عليه، والأول هو المعتمد: أن المراد التَّحذير والتَّرهيب من جنس السرقة؛ لأنَّ سرقة القليل تُفضي إلى سرقة الكثير.

والحديث الرابع: حديث عائشة أيضًا رضي الله عنها في تحريم الشَّفاعة في الحدود، وأنه ما يجوز لأحدٍ أن يشفع في الحدود إذا بلغت السلطان، فإذا بلغت السلطان ورُفع الأمر إلى السلطان في حدِّ السارق أو الزاني أو غيره فلا يشفع فيها حتى تنفذ؛ ولهذا في الحديث: إذا بلغت الحدودُ السلطانَ فلعن الله الشَّافع والمشفع.

ولما شفع أسامةُ في حدٍّ في قصة المخزومية، قال النبي: أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟! يُخاطب أسامة، وغضب عليه الصلاة والسلام وقال: إنما هلك مَن كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيفُ أقاموا عليه الحدّ.

تمام الحديث في "الصحيحين": وايم الله، لو أنَّ فاطمة بنت محمدٍ سرقت لقطعتُ يدها.

فهذا يدل على أنَّ الحدود متى رُفعت إلى السلطان لم تجز الشَّفاعة: لا من الكبير، ولا من الصغير، ولا من العُظماء، ولا من غيرهم، بل يجب تنفيذها، ولا يجوز للسلطان متى بلغه الحدُّ أن يقبل شفاعة أحدٍ، بل يجب عليه أن ينفذ؛ ولهذا يأتي في حديث صفوان بن أمية في آخر الباب لما قال: يا رسول الله، عفوتُ عنه، أو هو له. قال: هلا كان قبل أن تأتيني به، فالعفو والشَّفاعة تكون قبل الرفع إلى السلطان.

في رواية مسلمٍ قال: كانت امرأةٌ تستعير المتاعَ فتجحده، فأمر النبيُّ بقطع يدها.

في قصة المخزومية أنها كانت تستعير متاعًا من الناس ثم تجحد تقول: ما أخذتُ شيئًا. فأمر النبيُّ بقطع يدها.

وفي رواية أبي بكر ابن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام مرسلة: أنها استعارت من قومٍ حُليًّا على إنسانٍ آخر، قالت: فلان يُريد منكم كذا وكذا من الحُلي. فأعطوها، فلما تأخَّر ردّها سألوا المستعار له، فقالت المرأةُ المستعارُ لها: ما استعرتُ منكم شيئًا! قالوا: فلانة قالت كذا. قالت: أبدًا ما أرسلناها. فجاءوا إليها فقالت: أبدًا ما استعرتُ منكم. وجحدت، فأُحضرت عند النبيِّ ﷺ، فسألها النبيُّ فأقسمت بالله: والذي بعثك بالحقِّ ما استعرتُ منهم. فأوحى الله إليه أنه موجود عندها، فقال: اذهبوا إلى فراشها تجدوا السَّرقة تحت فراشها، فذهبوا إلى بيتها فوجدوا السَّرقة تحت فراشها: الحُلي، فأمر النبيُّ بقطع يدها.

المقصود أنَّ مَن عُرف بهذا وثبت عليه هذا بالإقرار أو البينة: أنه يستعير ويجحد وجب قطعه؛ لهذا الحديث الصحيح، واختلف الناسُ في هذا، والصواب أنه يُقطع، وأن المستعير الذي يجحد ..... ويضرّ الناس إذا ثبت عليه ذلك حكمه حكم السَّارق.

والحديث الخامس حديث جابرٍ: لا قطعَ على خائنٍ، ولا مُختلسٍ، ولا مُنتَهِبٍ.

الخيانة: كونه يخون المالَ الذي عنده، مُؤتمن عليه يخونه، والمستعير خائن، لكن جاء النصُّ في المستعير، فيُستثنى من ذلك، أما الخيانة -جنس الخيانات- مَن عنده مال فخانه وجحده لا يُقطع، لكن يُؤدب، إذا ثبت عليه ذلك يُؤدب بما يردعه من الضَّرب والسّجن ونحو ذلك.

ولا مُختلس المختلس: هو الذي يأخذه على سبيل المخادعة، لا على سبيل السَّرقة، بل على سبيل المخادعة، يكون عنده ويجلس عنده، فإذا غفل أخذ من ماله بعض الشيء، هذا يُسمَّى: مُختلسًا.

والمنتهب: هو الذي يأخذه على سبيل القوة والإعلان والمكابرة، فهذا يُسمَّى: ناهبًا، ويُسمَّى: غاصبًا، فيُؤدب ويُعامل بما يستحق من العقوبات الرادعة.

هؤلاء الثلاثة يُعاملون بما يستحقون من العقوبات الرادعة: من الضرب والسّجن ونحو ذلك من العقوبات التي تردعهم عن الخيانة، وعن النهبة، وعن الاختلاس.

وهكذا حديث رافع بن خديج: لا قطع في ثمرٍ ولا كثرٍ.

الثَّمر واحد الثِّمار: من العنب والتمر والرمان وغير ذلك؛ لأنَّ هذا مما يتساهل فيه الناس، لكن يُعاقب بالجلد كما يأتي في حديث عبدالله بن عمرو، يُجلد ويغرم مثلما أخذ، فإذا أخذ ما يُساوي عشرة غرم عشرين، وإذا أخذ ما يُساوي أربعين غرم ثمانين، وهكذا.

وهكذا الكثر: وهو الجمّار، جمّار النَّخل، الشّحمة، فإذا أخذ شحمةَ النَّخل يُعاقب، ولا يكون حكمه حكم السَّرقة، ولكن يُعاقب بالغرامة وبالجلد، غرامة مثليه، وبالجلد الذي يزجره وأمثاله، كما في حديث عبدالله بن عمرو الآتي، فعليه جلدات النِّكال، وعليه غرامة مثليه كما يأتي، والثمر هذا إذا كان على رؤوس الشجر، أما إذا آواه الجرين وقطع وأحرز فإنه يُقطع فيه إذا بلغ ربع الدِّينار، وإنما هذا-كما يأتي في حديث عبدالله بن عمرو- إذا كان على رؤوس الشجر، فهذا لا يُقطع، ولكنه يُؤدب، أما إذا قطعه صاحبُه وآواه وجعله في الحرز: في الغرف، في الجرين، في محلٍّ يكون حرزًا، ثم سرق من الحرز يُقطع، كما يأتي في حديث عبدالله بن عمرو؛ لأنه أخذه من حرزه حينئذٍ والله أعلم، ويأتي بقية الكلام على بقية الأحاديث.

س: ...............؟

ج: الخائن لا يُسمَّى: جاحد عارية، ما هو بمُستعير، مثل: إنسان تُعطيه ألف ريال أمانةً عنده، ويقول: ما أمنتني. خان الأمانة، هذا إذا ثبت أنه خائن، وأثبتت عليه أنه خائن يستحق أنه يُؤدب، ولا يُقطع، لا يُسمَّى: سارقًا، وهكذا في بيت المال، وكيل بيت المال، وكيل أوقاف، وكيل أمانة الأيتام إذا خان فيها يُؤدب.

س: ..............؟

ج: ضعيف؛ لأنَّ النبي ﷺ قال: اقطعوا في ربع دينارٍ، ولا تقطعوا ما دون ذلك، وقال: لا تقطع إلا في ربع دينار فصاعدًا هذا حدٌّ واضح.

س: ...............؟

ج: يختلف: قد يكون رخيصًا، وقد يكون .....

س: ...............؟

ج: لا، يُؤدَّب، ما يُسمَّى: سارقًا، يُؤدب.

س: ...............؟

ج: لا، هذا وصل إلى السلطان، هو نائب السلطان، السلطة والمحكمة نواب السلطان، إذا وصل إليهم لا تجوز الشَّفاعة.

س: ...............؟

ج: ظاهر الأحاديث ما يُعتبر، وبعض أهل العلم قال: إنه إذا كان مسورًا يُعتبر حرزًا، ولكن ظاهر الأحاديث ..... ولو سُورت في الظاهر يتساهل الناس، تُفتح الأبواب، ويكون في بعضها ثلم يدخل منها بعضُ الناس، يعني: الغالب أن البساتين يكون فيها تسامح.

س: ...............؟

ج: قد يقطع العذق من أصله، ويكون فيه شحمة في أسفله، وقد يكون أخذ شحمتها فيغرم ويُؤدب.

س: ..............؟

ج: الشفاعة إيه نعم، إذا سمعت أنَّ فلانًا سرق مال فلانٍ وبينه وبينه كلام وجئتَه وأصلحتَ بينهما فلا بأس.

س: ...............؟

ج: مثلما تقدم: ربع الدينار سبع جنيه اليوم، سهم من سبعة الجنيه السعودي المعروف اليوم.

س: ...............؟

ج: ما في بأس، يأتي الحديث في هذا، إذا أكل لا شيء عليه، لم يتخذ خبنةً، إنما أكل، لا شيء عليه، حتى ولو ما هو مضطر ما عليه شيء.

س: ...............؟

ج: فيه خلاف مشهور، والقول فيه أسهل من المعاصي؛ لأنَّ الرسول لعن الحارث بن هشام وجماعةً، لكن أنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، وهذا حُجَّة مَن قال: إنه لا يُلعن. ومَن قال: إنه يُلعن، قال: إنه ثبت عن النبيِّ ﷺ أنه لعن جماعةً كثيرين من الكفَّار.

س: ..............؟

ج: على كل حالٍ الكافر أسهل، النبي لعن رعل وذكوان وعصية، لعن جماعةً كثيرةً عليه الصلاة والسلام، الكلام الذي فيه نظر هو لعن العاصي المسلم، هو الذي ينبغي تركه، المعين يعني، أما الكافر أسلم.

س: ...............؟

ج: ما نعرف صحَّة هذا، هو جارٍ على ألسنة الناس.

س: ...............؟

ج: قنت يدعو عليهم: لعن الله فلانًا، اللهم العن فلانًا وفلانًا. سمَّاهم بأسمائهم: صفوان بن أمية، والحارث بن هشام، وجماعة آخرين.

س: إذا وُجد شخصٌ معينٌ يدعو إلى البدع؟

ج: يُحذّر منه دون لعنٍ، يحذر منه يقول: ترى فلانًا مُبتدعًا، تراه خبيثًا، تراه كذا، احذروه، لا تُطيعوه، أسهل من اللعن.

س: ما يُلعن، يُحذر منه؟

ج: يُحذر منه واجب.

................