48 من حديث (من مات ولم يغز، ولم يُحدث نفسه به، مات على شعبة من نفاق)

كِتَابُ الْجِهَادِ

1271- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِهِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1272- وَعَنْ أَنَسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

1273- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه. وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ.

1274- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1275- وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ: ارْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ وَإِلَّا فَبَرَّهُمَا.

الشيخ: "فبرهما" بفتح الباء، من برر يبرر، مثل: برح يبرح، الأمر فيه فتح الباء على حسب الباء في المضارع، مثلما قال من خاف يخاف خف، ومن نام ينام نم، حسب الحرف في المضارع.

1276- وَعَنْ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ. رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَرَجَّحَ الْبُخَارِيُّ إِرْسَالَهُ.

1277- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1278- وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: هذا كتاب الجهاد.

الجهاد مصدر: جاهد جهادًا، وهو بذل الوسع في الشيء، بذل الطاقة في الشيء، جاهد في كذا، في بناء بيته، يعني: بذل وسعه، جاهد ضد الخصوم، بذل وسعه.

وفي الشرع: هو بذل الوسع في قتال الكفَّار، وفي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يقال له: جهاد، وهكذا في جهاد نفسه عن المعاصي وإلزامها بالحقِّ، كله يُسمَّى: جهادًا في الشرع، قال تعالى: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ [العنكبوت:6]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، وقال سبحانه: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:41].

وفي الصحيح عن النبيِّ ﷺ أنه قال: ما بعث الله من نبيٍّ في أمةٍ قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يهتدون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمَرون، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبَّة خردل خرجه مسلم رحمه الله.

المقصود أنَّ الجهاد يُطلق على هذا وهذا، ويكون بالمال، ويكون باللسان، ويكون بالسيف والسنان، في حقِّ الكفرة بالسيف والسنان، وفي حقِّ العُصاة بالتأديب والتَّوجيه والإرشاد، وغير هذا مما يردعهم عن المنكر، والتأديب باليد يكون على حسب حال المنكر؛ لإقامة الحدِّ، إن كان فيه حدٌّ، أو التَّعزير، إن كان فيه تعزير، أما جهاد النفس فمعلوم أنه توجيهها إلى الخير، وإلزامها بالحقِّ، ومنعها من الباطل.

الحديث الأول: حديث أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه قال: مَن مات ولم يغز، ولم يُحدِّث نفسه بالغزو، مات على شعبةٍ من نفاقٍ.

هذا يدل على وجوب الجهاد، وأنه فرض، وقد ذكر العلماءُ رحمهم الله أنه فرض كفايةٍ؛ لما جاءت به الأخبار والآيات في ذلك، وقد يتعين في مواضع: كحضور الصَّفين، وإذا استُنْفِر، كما في الحديث: وإذا استُنْفِرتم فانفروا، وإذا هجم العدو على البلد صار الجهادُ فرض عينٍ، وإلا فهو فرض كفايةٍ؛ إذا قام به مَن يكفي سقط عن الباقين؛ ولهذا جاء: جاهد النبيُّ ﷺ وجماعة، وبقي في المدينة جماعة، وأرسل السَّرايا والبعوث، وبقي في المدينة في أوقات متعددة، فهو فرض كفايةٍ؛ إذا قام به مَن يكفي من المسلمين في حماية الثُّغور وقتال الكفَّار سقط عن البقية، وإلا أثموا جميعًا.

والواجب على المؤمن أن يعدَّ نفسه لهذا، وأن يتهيأ لهذا، وأن يُحدِّث نفسه بذلك، وأنه سوف يُجاهد إن تيسر له ذلك، أو إن دعت الحاجةُ إلى ذلك، لا يغفل، فإذا غفل عن هذا وأعرض عن هذا كان هذا نوعًا من النِّفاق؛ من النِّفاق الإعراض عمَّا يقتضيه الشرع، والإقبال على الشَّهوات، والمنافق مُعرِض عن الشرع، مُكذِّب به، فلا ينبغي للمؤمن أن يتشبَّه به في إعراضه عن جهاد الكفَّار، بل يتحدث به وينويه.

والحديث الثاني: حديث أنسٍ ، عن النبيِّ ﷺ أنه قال: جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم.

الخبر هذا يدل على وجوب الجهاد باللسان، القرآن نصَّ على الجهاد بالمال والنفس في مواضع كثيرةٍ، كما قال : انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:41]، وقدَّم الأموال في غالب الآيات؛ لأنَّ المال أنفع في الجملة؛ فيُستعان به في جهاد النفس، ويُستعان به في السلاح، ويُستعان به في الطعام، ويُستعان به في الرِّحال، بخلاف النفس؛ فإنَّ جهادها نوعٌ واحدٌ، فالجهاد بالأموال أهم؛ ولهذا قدَّمه الله في غالب الآيات، وإن كان بعضُ الناس قد يكون نفعه في الجهاد بنفسه عظيمًا، لكن جنس الجهاد بالمال أنفع؛ لأنه يترتب عليه أنواع من المصالح.

وأما اللِّسان فيكون بالدَّعوة إلى الله، وبيان حقيقة الإسلام للكفَّار، ودعوتهم إليه، والذَّب عن الإسلام، وهجاء الكفار، وتشجيع المسلمين، كل هذا من الجهاد باللسان: ذبُّه عن الإسلام، وبيان حقيقته، والدعوة إليه، وبيان محاسنه، كل هذا من الجهاد: هجاء الكفَّار، وذمّهم، وتبكيتهم، وتحذيرهم من مغبة الجهاد، وتشجيع المجاهدين، ومدحهم، والثناء عليهم، كله نوع من الجهاد باللسان: ككتابة الكتب والرسائل والإذاعة فيما ينفع المسلمين ويُشجعهم، وفيما يُرغب الكافرين في الدخول في الإسلام، كل هذا نوعٌ من الجهاد.

والحديث الثالث حديث عائشة رضي الله عنها: أنها سألت النبيَّ ﷺ: هل على النساء جهادٌ؟ قال ﷺ: جهاد لا قتالَ فيه: الحجّ والعمرة.

وعند البخاري رحمه الله قالت: نرى الجهادَ أفضل الأعمال. قال: لكن عليكن جهادٌ لا قتالَ فيه: الحج والعمرة.

فهذا يدل على أنَّ القتال ليس مفروضًا على النساء، وإنما هو في حقِّ الرجال؛ لأنَّ الرجال أصبر عليه، وأقوى عليه؛ ولأنَّ النساء عورة وفتنة، فوضع الله عنهن الجهاد بالسيف، وجعل لهن جهادًا لا قتالَ فيه: الحج والعمرة.

وهذا يدل على أنَّ الحجَّ والعمرة مشروع للنساء، حتى غير الفريضة، الفريضة فرضٌ على الجميع، ولكن ظاهر الحديث أنه يُشرع لهن حجُّ النافلة، وعمرة النافلة؛ لأنَّه جعل ذلك جهادهن، وسكت عن المال هنا.

وظاهر النصوص أن المال يعمّ الرجال والنساء؛ لأنَّ النساء قد يكون عندهن مالٌ: قد يكنَّ تاجرات، فالأظهر من النصوص أنه يعمُّهن الجهاد بالمال، وإن سقط عنهن الجهاد بالنفس؛ لأنَّ ظاهر الحديث جهاد النفس؛ ولهذا قال: عليكن جهادٌ لا قتالَ فيه: الحج والعمرة، أما المال فلم يتعرض له النبيُّ ﷺ هنا، فالأقرب والله أعلم أنه يعمُّهن جهاد المال بالنصوص الأخرى.

والحديث الرابع: حديث ابن عمر في استئذان أبويه، وأنَّ مَن أراد الجهاد عليه أن يستأذن والديه أو أحدهما، يعني: الموجود منهما، فإن أذنا له وإلا فليبرّهما؛ ولهذا قال: ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا وإلا فبرّهما، وفي اللفظ الآخر: ففيهما فجاهد.

هذا يدل على وجوب استئذانهما، وأنَّ الجهاد فيهما يقوم مقام الجهاد في سبيل الله إذا لم يأذنا له، وذكر العلماء أنه إذا كان الجهادُ فرض عينٍ فلا إذنَ لهما: كالنَّفير إذا استنفر الإمامُ أهلَ البلد، وكالحضور بين الصَّفين، ليس له أن ينكص، وهكذا لو هجم العدو على البلد الذي هو فيها هو ووالداه، فعليه أن يُقاتل ويُدافع وإن لم يأذنا له؛ لأنَّ الأمر عظيم وخطير، يعمُّهم ويعمُّ غيرهم، فوجب الجهاد في هذه الأحوال التي فيها أنَّ الجهاد فرض عينٍ، وهو مأخوذ من عموم الأدلة، فيكون قولُ النبي ﷺ: ففيهما فجاهد فيما إذا كان ليس فرضَ عينٍ.

ويحتمل أنه يستأذنهما حتى ولو في فرض العين؛ لأنَّ النبي أطلق ولم يُقيد، فالأحوط للمؤمن حتى ولو كان فرض عينٍ أن يستأذنهما؛ لأنَّ جهاده لهما وحمايته لهما من خطر الهاجم فيه خير كثير أيضًا، فإطلاق النبيِّ ﷺ حُجَّة لمن قال: إنه لا بدَّ من استئذانهما مطلقًا؛ لإطلاق النبي وعدم تفصيله عليه الصلاة والسَّلام.

والحديث السادس حديث جريرٍ: أنا بريءٌ من كلِّ مسلمٍ يُقيم بين المشركين.

هذا يدل على أنه تحرم الإقامة بين أظهر المشركين، قال ابنُ كثير رحمه الله في "التفسير": إنَّ الإقامةَ بينهم وعدم الهجرة محرم بالإجماع. ومن أدلة هذا الحديث الكريم، مع قوله جلَّ وعلا: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ الآية [النساء:97]، ظالمي أنفسهم بالإقامة بين أظهر المشركين.

فالصواب أنه لا يجوز للمسلم أن يُقيم بين أظهر المشركين، بل يحرم عليه إجماعًا مع القُدرة، أما إذا عجز فالله جلَّ وعلا عفا عنه؛ لقوله : إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الآية [النساء:98]، فأما مع القُدرة فيلزمه أن يُهاجر وينتقل، إذا وجد مكانًا يُهاجر إليه، إذا وجد مكانًا وجبت عليه الهجرة، وإلا فهو معذور.

وهذا بالنسبة إلى مَن ليس عنده علم، أما مَن كان عنده علمٌ يستطيع إظهار دينه ودعوة الكفَّار إلى الله، فهذا إقامته بينهم نافعة، وقد تجب، وقد تُستحب إذا كان للدَّعوة مجال، أما إذا خشي على دِينه، وليس للدَّعوة مجال، ويخشى أن يفتنوه؛ فإنه يُهاجر كغيره، أما إذا وجد مجالًا للدَّعوة، وعنده علم يتميز به عن غيره، ويأمن به على دِينه، فإنه يدعو إلى الله، ويُقيم بينهم لإرشادهم، وإظهار حقيقة الإسلام لهم، وتحذيرهم من مغبة ما هم عليه من الكفر، لعلَّ الله يهدي به مَن شاء منهم.

والحديث السابع حديث أبي موسى: يقول ﷺ: مَن قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله.

هذا حديث ثابت في "الصحيحين": سُئل النبيُّ ﷺ عن الرجل يُقاتل شجاعةً، ويُقاتل حميَّةً، ويُقاتل رياءً، أي ذلك في سبيل الله، فقال ﷺ: مَن قاتل لتكون كلمةُ الله هي العُليا فهو في سبيل الله.

هذا يدل على أنَّ القتال للحمية والرياء والمال ليس في سبيل الله، وإنما القتال في سبيل الله والجهاد في سبيل الله إذا كان لإعلاء كلمة الله، لنصر دين الله، ويُلحق بذلك المسلم إذا دافع عن نفسه، أو دافع عن بلده، ويحمي بلاده عن الكفار، أو في الثُّغور يحميها عن الكفرة، أو على أهله، فهو شهيد إن قُتل، وجهاده جهاد شرعي، لكن مَن قصد جهادهم لإعلاء كلمة الله فهذا يكون أكمل من المدافع، والمدافع الدفاع عليه واجب، وجهاده واجب.

وأما حديث جريرٍ: كونه أُعلَّ بالإرسال، فقد تقدم غير مرةٍ أنَّ الإعلال بالإرسال أو بالوقف ليس بشيءٍ على الصحيح، إذا وصل الثقةُ ورفع الثقةُ فلا يضرّ الحديث إرسال زيدٍ أو عمرٍو، هذه قاعدة، تقدم لكم في المصطلح:

واحكم لوصل ثقةٍ في الأظهر وقيل: بل إرساله للأكثر

المقصود أنه إذا رفع ثقةٌ، ووقف آخر، أو وصل ثقةٌ، وأرسل آخر، فالحكم لمن وصل ومَن رفع إذا كان ثقةً، وحديث جريرٍ هنا كذلك، وصله الثِّقة، فيكون هو العُمدة.

والإنسان قد ينشط فيصل الحديثَ ويرفعه، وقد يضعف فلا يصله، قد يقول التابعيُّ: قال رسولُ الله ﷺ كذا؛ لأنه لم ينشط على سياق الحديث، قد يقول الواحدُ منا الآن: قال رسولُ الله، وبينه وبين الرسول فيافي ورجال لا يُحصون، لكن يشقّ أن يقول: حدَّثنا وحدَّثنا، فيطول، أو يقول: روى البخاريُّ عن فلانٍ، قد يطول، أو رواه مسلم عن كذا، قد يضعف عن هذا، يتساهل.

وقد يكون المخاطَبون لا يعقلون هذا الشيء من العامَّة، ما يُفيدهم ذكر: قال البخاري، وقال فلان، أو فلان، فهم في حاجةٍ إلى أن يُذكر لهم الحديث فقط، فهكذا إذا قال التابعيُّ: قال رسولُ الله، أو قال تابع التابعي: قال رسول الله، ثم جاءنا ثقةٌ فوصل الحديثَ، ورواه ثقةٌ عن ثقةٍ إلى الرسول ﷺ، فهو مُقدَّم على مَن أرسله.

كذلك حديث ابن عباسٍ: لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهاد ونيَّة، وهو حديث صحيح؛ رواه الشَّيخان، ومثله عن عائشةَ رضي الله عنها، ومعناه: أنه إذا فُتحت البلادُ فلا هجرةَ منها؛ كمكة لما فُتحت نسخت الهجرة منها؛ إذ المقصود الخلاص من الكفرة، فلما خلص الله منهم وفُتحت البلاد وأسلموا فلا هجرةَ منها.

وهكذا كل بلادٍ تُفتح على المسلمين لا هجرةَ منها، ولكن جهاد ونيَّة، يعني: بقي الجهادُ في سبيل الله، وبقيت النية الصَّالحة التي ينويها المؤمنُ.

وكذلك ما جاء في الرواية الأخرى: وإذا استُنفرتم فانفروا، هذا الباقي، إذا استُنفر للجهاد ينفر، وأما الهجرة فلا، وليس معناه أنه لا هجرةَ بالكلية، لا، بل الهجرة باقية؛ ولهذا في الحديث الصحيح: لا تنقطع الهجرةُ ما قُوتل العدو.

وقد حكى ابنُ كثيرٍ رحمه الله إجماعًا كما تقدم، فالهجرة باقية من بلاد الكفر، ولكنَّها من البلاد المفتوحة التي فتحها المسلمون لا هجرةَ منها، ولكن لو كان إنسانٌ في بلاد الكفر، وهو يستطيع الهجرة وجبت عليه الهجرة.

س: الإقامة بين المشركين لعملٍ دنيوي كالتِّجارة، أو لعمل حكومي؟

ج: إذا كان يُظهر دِينَه، ويقوى على ذلك، وعنده معلومات، عنده علم، ما يخشى على دِينه فلا بأس، أما إذا كان جاهلًا لا يجوز، يجب عليه الهجرة، أو ولو كان عالمًا إن كان يخشى على دِينه؛ لأنهم يفتنون الناس، ولا يقبلون [أن] يُهاجر منهم.

س: يُصلي وكذا؟

ج: ما يكفي، لا بدَّ [أن] يُظهر دِينه: أنه مسلم، مُوحِّد، ويدعو إلى الله، ويُرشد إلى توحيد الله، يدعو إلى الخير، يُحذر من الشِّرك.

س: مثل الشباب حديثي السن في الدِّراسة؟

ج: ما ينبغي سفرهم أبدًا: لا الشباب، ولا الفتيات، كله منكر وخطر، والآن الذين يروحون منهم يمكن 70% أو 90% لا يسلمون، نسأل الله السلامة، وإن كانت هناك مراكز إسلامية وأناس فيهم خير، لكن لا يُبرر سفر الأحداث، هؤلاء يجب أن يكون طلبُهم في بلادهم الإسلامية، وبقاؤهم بين المسلمين؛ لأنهم إذا ذهبوا هناك خلعوا جلبابَ الحياة، وتساهلوا في كل شيءٍ، إلا مَن عصمه الله، إلا القليل، وصاروا مع الكفرة، ومع الزناة، ومع شُرَّاب الخمر، يحصل فساد كبير، وبعضهم يبقى هناك، نسأل الله العافية.

س: إذا احتُلَّ بلدٌ من بلاد المسلمين، فهل جميع المسلمين آثمون إن لم يُجاهدوا، يعني: جميع المسلمين في المشارق والمغارب، أم أهل ذلك البلد فقط؟

ج: ذكر جمعٌ من أهل العلم أنه يعمّ المسلمين جميعًا، مثل: أفغانستان وأشباهها، يلزم المسلمين جميعًا أن يُساعدوهم.

س: يُساعدوهم بالمال؟

ج: يُساعدوهم بالمال والسلاح والنفس، هذا ظاهر كلام جمعٍ من أهل العلم، لكن يقولون: يُبدأ بالأقرب فالأقرب، فيجب على الأقربين أكثر مما يجب على الأبعدين، يعني: على باكستان، وعلى مَن حولهم، الواجب عليهم أكثر من الذي في المغرب، وهكذا، وإذا لم يكفِ مَن حولهم انجرَّ إلى مَن بعد عنهم.

س: قتال الدِّفاع وتخليص الأرض؟

ج: الظاهر أنه جهاد شرعي؛ لأنَّ الواجبَ الدفاع، يجب الدفاع، وإذا قُتل فهو شهيد: مَن قُتِلَ دون ماله، دون دِينه، دون أهله فهو شهيد، الرجل الذي قال: يا رسول الله، يأتي الرجلُ يريد مالي، قال: لا تُعطه مالك، قال: فإن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: فإن قتلني؟ قال: فأنت شهيد.

س: لكن لا يدخل في قوله: لتكون كلمةُ الله هي العُليا؟

ج: لا، تكون له الشَّهادة فقط.

س: مثل: باكستان ومَن حولها، مَن تخاذل عن أفغانستان كما هو حاصل الآن مُتخاذلة؟

ج: ..... بالله ثم بباكستان، وهي عليها خطر، مسكينة، مشكورة باكستان، جزاها الله خيرًا، مشكورة، وعليها خطر، وقد نفعت الأفغانيين، وآوتهم، وساعدتهم، فهي مشكورة، لكن يجب على غيرهم أن يُساعدوا، ما تكفي باكستان، على جميع الدول الإسلامية والمسلمين أن يُساعدوا بأموالهم وأنفسهم.

س: ...............؟

ج: في سنده نظر، لا تقوم به حُجَّة، ليس بذاك؛ ولهذا حجَّ نساءُ الصحابة مع عمر، وحجَّ أزواج النبي مع عمر.

س: بالنسبة للمُستأذن في الجهاد ما يُراعي نفسية الأب الذي يستأذنه، أحد الناس يقول لابنه: والله إن التحيت فأنا بريءٌ منك. هذا يُستأذن في الجهاد، ما يُراعى الأب المستأذن؟

ج: إذا كان مسلمًا يُستأذن، وإن كان ما هو بمسلمٍ لا يُستأذن، لا بدَّ [أن] يكونا مسلمين.

س: لكنه يقول: إن التحيتَ أنا بريء منك؟

ج: يقول النبيُّ: استأذنهما. وأنت تقبل أو ما تقبل؟ النبي يقول: استأذنهما.

1279- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ السَّعْدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

1280- وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: أَغَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ.

حَدَّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وفيه: وأصاب يومئذٍ جُويرية.1281- وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أو سريَّةٍ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ:

اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدُرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ:

ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ.

ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ.

فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُم الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ.

وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلَا تَفْعَلْ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ؛ فَإِنَّكُمْ أنْ تُخْفِرُوا ذِمَّتَكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ، وَإِذَا أَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تَفْعَلْ، بَلْ عَلَى حُكْمِكَ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللَّهِ أَمْ لَا

. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

 

1282- وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1283- وَعَنْ مَعْقِلٍ: أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ.

1284- وَعَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الدَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُبَيِّتُونَ فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، فَقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: الحديث الأول: حديث عبدالله بن السَّعدي، عن النبيِّ ﷺ أنه قال: لا تنقطع الهجرةُ ما قُوتل العدو هذا الحديث وما جاء في معناه احتجَّ به العلماء على أنَّ الهجرة باقية ما دام العدو يُقاتل، ما دام الشركُ موجودًا، والعدو يُقاتل، جهاد الفريضة باقية.

وأما قوله ﷺ: لا هجرةَ بعد الفتح فالمراد به الهجرة من مكة بعدما فُتحت وصارت بلد إسلامٍ فلا هجرةَ منها؛ لأنَّ العلة زالت، وهي وجود الشرك، وظهور الشرك فيها، فلما فتحها الله على المسلمين صارت بلد إسلامٍ، وهكذا كل بلدٍ يُسلم أهلها أو تُفتح وتكون دار إسلامٍ لا هجرةَ منها، أما الهجرة في نفسها فهي باقية؛ ولهذا قال الحافظُ ابن كثيرٍ رحمه الله وجماعة: إنَّ الهجرة باقيةٌ إجماعًا. فإذا أسلم الإنسانُ في بلدٍ يظهر فيها الكفر، ولا يستطيع فيها إظهار دِينه، وجب عليه الانتقال منها والهجرة منها إذا استطاع ذلك، فإن لم يستطع فهو معذور بقوله جلَّ وعلا: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الآية [النساء:98].

وقوله: ما قُوتل العدو معناه: أنه إذا انتهى القتالُ وذلك بطلوع الشمس من مغربها؛ فإنه إذا طلعت الشمسُ من مغربها حينئذٍ لا يُقبل من أحدٍ إسلام، فينتهي القتال والجهاد، ولا هجرةَ حينئذٍ؛ لأنَّ البلاد صارت واحدةً، الآن المسلم على إسلامه، والكافر على كفره.

والهجرة هي الانتقال من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام؛ لحماية الدِّين، والبُعد عن أسباب الردة، والحذر من شرِّ المشركين وما يعملون مع المسلم، فإنهم قد يُؤذونه، وقد يجرونه إلى الشرك، فشرع الله له الهجرة حتى يبتعد عن شرهم وعمَّا يُزينون له من الردة أو يقهرونه عليه من الردة، فكان هذا من باب الاحتياط والبُعد عن أسباب الشرِّ.

والحديث الثاني: حديث سليمان بن بريدة، عن أبيه بريدة بن الحصيب الأسلمي ، جاء في بعض النُّسخ عن عائشة، ولكن ما وجدتُ لها أصلًا، فقد راجعتُ مسلمًا وليس فيه: عن عائشة، وهكذا أبو داود ليس فيه: عن عائشة، وإنما هو والله أعلم غلط من بعض النُّساخ في بعض نسخ "البلوغ"، وإنما الصَّواب: عن سليمان، عن أبيه فقط، عن النبي ﷺ: أنه كان إذا أمَّر أميرًا على الجيش أو سرية أوصاه بتقوى الله، يعني: أوصى أمير الجيش خاصةً بتقوى الله: أن يتَّقي الله في جميع أموره؛ لأنَّ التقوى هي أساس السعادة، وأساس النجاة في الدنيا والآخرة، وهي العُدة فيما يأتي ويذر، وهي أعظم سببٍ لنصرته على عدوه، وإعانته على عدوه، وأوصاه بمَن معه من المسلمين خيرًا.

في رواية مسلم: "ومَن معه"، وفي رواية أبي داود: "وبمَن معه من المسلمين خيرًا"، وقال: اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا مَن كفر بالله .. الحديث.

هذا يدل على أنه ﷺ كان يعتني بعُمَّاله -بأُمرائه- يُوصيهم بتقوى الله ، ويُوجِّههم إلى ما يفعلون في جهادهم، وينهاهم عمَّا لا ينبغي لهم أن يفعلوه؛ حتى يكونوا على بينةٍ وعلى بصيرةٍ، وهكذا ينبغي لولاة الأمور إذا أمَّروا الأُمراء وأرسلوا الجيشَ أن يُوجِّهوهم إلى الخير، وأن يُعلِّموهم ما يعتمدون في حربهم، وأن يُوصوهم بتقوى الله؛ لأنها سبب العز والنصر والتأييد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد:7]، فنصر الله بالتقوى والاستقامة على أمره : وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47].

وقوله: اغزوا بسم الله يعني: مُستعينين بالله، مُعتمدين عليه .

في سبيل الله في جهاد أعدائه وطاعته .

اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا نهاهم عن هذه الأشياء؛ لما فيها من العدوان.

والغلول: العدوان على بيت المال، وعلى غنيمة المسلمين.

ولا تغدروا الغدر: نقضٌ للعهد الذي أوجب الله الوفاء به؛ ولهذا حذَّرهم منه عليه الصلاة والسلام، والله يقول: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء:34].

ولا تمثِّلوا التَّمثيل: هو قطع الذي يُشين الإنسان من يدٍ، أو أذنٍ، أو أنفٍ، أو نحو ذلك، فلا يجوز التَّمثيل، بل يجب إذا قتل أن يقتل قتلةً شرعيةً سليمةً، إلا إذا كان التَّمثيل من غير قصدٍ عند المقاتلة وعند المضاربة وعند المسايفة، فهذا معذور فيه الإنسانُ إذا ضربه فأصاب وجهَه، أو أصاب يده، أما عند القُدرة فلا يُمثل، بل يقتل قتلةً شرعيةً، كما قال ﷺ: إذا قتلتُم فأحسنوا القتلة.

ولا تقتلوا وليدًا يعني: صبيًّا، وقد أنكر النبيُّ قتل النساء والصبيان كما يأتي، فالصِّبيان لا يُقتلون، والنساء لا يُقتلن، إلا إذا قاتلن، إذا قاتل النساءُ والصبيانُ قُتلوا؛ لأنهم صاروا حينئذٍ حربًا للمسلمين فيُقاتلون، أما ما داموا مُعتزلين للقتال فالمرأة لا تُقتل، والصبي لا يُقتل.

ثم بيَّن لهم ﷺ ما يعتمدون في القتال، قال: فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصالٍ، وفي رواية مسلم: أو خلالٍ، وهذا شكٌّ من الراوي، والمعنى واحد، يقال: خِلال، وخِصال، معناها واحد.

فأيَّتهن أجابوك إليها أيتهن مفعول مُقدم في المعنى، أو منصوب ..... الخافض، فإلى أيَّتهن أجابوك إليها فاقبل منهم، وكفَّ عنهم، إذا أجابوك إلى واحدةٍ فاقبل منهم، وكفَّ عنهم.

ادعهم إلى الإسلام هكذا في رواية أبي داود بغير "ثم"، وفي رواية مسلم: ثم ادعهم، وقد ذكر القاضي عياض أنها غلط من بعض الرواة؛ لأنَّ الخصلة هي الأولى، فلا مناسبةَ لوجود "ثم" هنا؛ ولهذا في رواية أبي داود قال: وفي رواية أبي عبيدٍ أيضًا -القاسم بن سلام- ادعهم، من دون "ثم"، وهي القاعدة المعروفة في سياق الكلام، يعني: ادعهم أولًا إلى الإسلام قبل كل شيءٍ، قبل القتال؛ لأنَّ دخولهم في الإسلام هو المطلوب، والقتال ليس مقصودًا، إنما المطلوب هو دخولهم في الإسلام، والجهاد لأجل دخولهم في الإسلام، وإنقاذهم من الشرك؛ ولهذا قال ﷺ لعليٍّ لما بعثه إلى خيبر: ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقِّ الله تعالى، فيه: فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النَّعَم، بيَّن له ﷺ أنَّ المقصود هدايتهم، وليس المقصود دماءهم ولا أموالهم ولا نساءهم، المقصود إخراجهم من الظُّلمات إلى النور.

هذه الجيوش والسَّرايا ليست لقصد الدِّماء، ولا لقصد الأموال، وإنما تُبعث للدَّعوة إلى الله، والتَّوجيه إلى الخير، فإن أجابوا ودخلوا في دين الله فهذا هو المطلوب والحمد لله، فلهم ما لنا، وعليهم ما علينا، فإن أبوا ولم يُجيبوا فلنا أمرٌ آخر معهم.

قال: فإن أجابوك فاقبل منهم، وكُفَّ عنهم إذا أجابوا إلى الإسلام فاقبل منهم الإسلام، وكفَّ عنهم القتال، المقصود حصل.

ثم ادعهم إلى أن يتحوَّلوا من دارهم إلى دار المهاجرين يعني: ادعهم إلى أن يتحوَّلوا من بلادهم إلى بلاد المسلمين؛ حتى يُقووا المسلمين، وحتى يُكثروا سواد المسلمين، ويُهاجروا من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، ومن قبائلهم الكافرة إلى بلاد الإسلام، ومن الصحراء إلى الحضارة والتَّعاون مع المهاجرين.

فإن أبوا أن يتحوَّلوا منها وأحبُّوا أن يبقوا في بلادهم وفي قبائلهم وفي محلِّ إقامتهم، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكمُ الله في الإسلام: من تحريم ما حرَّم، ووجوب ما أوجب، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيءٌ إلا أن يُجاهدوا مع المسلمين، فلا يكون لهم حظٌّ في الغنيمة، ولا في الفيء، إلا إذا جاهدوا مع المسلمين، وإلا فلا حقَّ لهم إذا امتنعوا من التَّحول إلى دار المهاجرين.

هذا يُبين لنا أنَّ الغنيمة والفيء لمن ساعد المسلمين، وأوى إليهم ونصرهم، أما مَن بقي في محلِّه ولم يَأْوِ إلى المسلمين، ولم ينضم إليهم، ولم يكن معهم في جهادهم وإعدادهم لعدوهم ومُناصرتهم بالحقِّ؛ يكون له حكم المسلمين في أحكام الله، ولكن لا يُعطى من الغنيمة والفيء شيء إلا إذا جاهد مع المسلمين.

قال: فإن أبوا يعني: الدخول في الإسلام فاسألهم الجزية، هذا عند أهل العلم، جمع من أهل العلم، إذا كانوا من أهل الكتاب، أو من المجوس، بدليل آية الجزية في سورة التوبة، قال: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [التوبة:29]، قيَّدهم بالذين أوتوا الكتاب، وحكم النبيُّ ﷺ في المجوس بأنَّ حكمَهم حكم اليهود والنصارى في الجزية، وبهذا قال جمعٌ من أهل العلم: كالشافعي وأحمد وجماعة.

وقال آخرون: هذا عامّ، يعمّ جميع المشركين، فتُؤخذ منهم الجزية. وهو قول جيد قوي؛ لأنَّ الحديث هذا عامّ: فإن لقيتَ عدوك من المشركين، ولم يقل: من أهل الكتاب، وهذا الحديث حُجَّة لهم قوية في أخذ الجزية من غير اليهود والنَّصارى والمجوس، ويكون قوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لا مفهومَ له، بدليل حديث: عدوك من المشركين، والمنطوق يُقدم على المفهوم.

وقال آخرون -كأبي حنيفة وجماعة- تُؤخذ من جميع المشركين ما عدا مشركي العرب؛ فإنَّ الرسول ﷺ ما أخذها منهم، بل قاتلهم حتى أسلموا، فدلَّ ذلك على أنَّ مشركي العرب لا تُؤخذ منهم الجزية.

ومَن قال: إنه يختصّ باليهود والنَّصارى، قال: إنَّ الرسول ﷺ لم يأخذها إلا من هؤلاء، ولم يأخذها من العرب، بل قاتلهم حتى دخلوا في دِين الله، والله يقول: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، ما قال: أو أدُّوا الجزية. فدلَّ ذلك على أنهم لا تُؤخذ منهم الجزية، وهكذا غيرهم، ما عدا المجوس واليهود والنصارى.

وهذا محتمل، حديث بُريدة هذا قوي في حُجَّة مَن أجاز أخذها من الجميع، ولكن عمله ﷺ في العرب وعدم أخذها منهم، والصحابة كذلك ما أخذوها منهم ولا من العرب في الخليج -في عمان وغيرها- بل قاتلهم حتى أسلموا؛ يُقوي ما قاله الشَّافعي وأحمد وجماعة: من أنها لا تُؤخذ إلا من هؤلاء الثلاثة: اليهود والنصارى والمجوس، وأنَّ قوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ أمر مُراد؛ ولهذا توقَّف الصحابةُ عن أخذها من المجوس حتى شهد عبدُالرحمن بن عوف بأنه أخذها منهم، فهذا هو الأقرب والأظهر، والقول الثاني قوي أيضًا، لكن هذا هو الأقرب والأظهر، والله أعلم.

قال: وإذا حاصرتَ أهل حصنٍ فأرادوك أن تجعل لهم ذمَّة الله وذمَّة نبيه فلا تفعل المؤلف اختصره، وفي مسلم: فلا تجعل لهم ذمَّة الله وذمَّة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمَّتك وذمَّة أصحابك؛ فإنَّكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمَّة الله وذمَّة نبيه.

المعنى: أن إخفاركم إن وقع إخفارٌ، ولا يجوز الإخفار، بل يجب الوفاء، لكن لو وقع إخفارٌ فهو في ذمَّة الإنسان وأصحابه أهون وأسهل من كونه في ذمَّة الله وذمَّة نبيه، يقال: أخفر الرجل فلانًا؛ إذا نقض عهده وخانه، بالهمزة من الرباعي، ومنها أن تخفروا، ويُقال: خفره إذا حماه ونصره، خفرتُ فلانًا، أو جعلتُ له خفيرًا، يعني: حميته ونصرته، فبالألف ضدّ بإسقاطها، ومع الألف معناها: النَّقض والخيانة وعدم الوفاء، وبحذف الألف معناها: الحماية والنَّصر.

وإذا أرادُوك أن تُنزلهم على حكم الله فلا تفعل اختصره الرسولُ قال: فلا تُنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنَّك لا تدري أُتصيب فيهم حكمَ الله أم لا؟ هذا دليل على أنه ينبغي إنزالهم على حكم الأمير وجماعته؛ لأنه لا يدري: هل يُصيب حكم الله أم يغلط ويُخطئ؟ فلا يجعل لهم حُجَّة عليه، بل يُنزلهم على حكمه.

والمعنى أنه يتحرى فيهم حكم الله، ولكن إذا أنزلهم على حكمه لم يكن لهم عليه حُجَّة أن يقولوا: أنت أخطأت، أو كذا، بل يجتهد ويتحرى الأمر الشَّرعي فيُنفذه فيهم.

وفيه دليل على أنَّ الحكم واحد، وأنَّ الحقَّ واحدٌ، فالمصيب من المجتهدين على الصحيح واحد، وما سواه غالط، فله أجر الاجتهاد، وفاته أجر الصواب، ومَن أصاب فله الأجران: أجر الصواب، وأجر الاجتهاد، كما جاء في حديث عمرو بن العاص في "الصحيحين" القاضي: إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر. وهذا هو الحقّ: أنَّ الحقَّ واحدٌ، فمَن أصابَه باجتهاده وتحريه وطلبه فله أجران، ومَن أخطأ وهو مجتهد طالب للحقٍّ فله أجر واحد.

وفيه جواز مصالحة المشركين إذا رأى وليُّ الأمر المصالحة، وإنزالهم على حكمه، كل هذا جائز، إن رأى المصلحة في ذلك، إن رأى أن يُعطيهم الذِّمة والعهد ويُنزلهم على ذلك، وإن رأى المقاتلة قاتل.

وفي هذا من الفوائد: أن جعل الأمير ونحوه -كالملك وأمير المؤمنين ونحو ذلك- ذمّة الله وذمّة نبيه للعدو غير سائغ، لكن قال النَّووي رحمه الله وجماعة: إنَّ هذا على سبيل النَّدب والاستحباب. ولكن لا أدري ما هو الصَّارف؛ فإن ظاهر النص المنع في [أن] يجعل لهم ذمّة الله وذمّة نبيه، والمنع في أن يُنزلهم على حكم الله.

ولعلَّ الصَّارف مُراعاة المعنى، وأنَّ الجميع في ذمّة الله وذمّة نبيه في المعنى؛ لأنَّ الرسول هو المبلغ عن الله، والله جلَّ وعلا شرع لنا أن نأخذ بشرعه وأحكامه، فإذا جعلناه في ذمّة الله وذمّة نبيه معناه: في حكم الله وحكم نبيه، والناس كلهم في حكم الله وحكم نبيه، فإذا أنزلهم على ذلك فقد أنزلهم على الحكم الذي يجب عليه التزامه.

ولكن هذا ليس بظاهرٍ؛ لأنَّ الرسول ﷺ وضَّح العلة وبيَّنها، قال: إنَّ الإنسان قد يخفر، قد يغلط، قد يحمله الهوى، قد يحمله الحنق على المشركين على إخفار الذمة، فكون ذلك يقع في ذمَّته هو أسهل وأهون من كونه يُعطيهم ذمّة الله وذمّة نبيه ثم يخفر.

فالأظهر في هذا والله أعلم المنع والتَّحذير، هذا الأصل، فإنَّ الأصل في النَّواهي المنع، هذا هو الأصل، والأصل في الأوامر الوجوب، إلا إذا دلَّ دليلٌ واضحٌ على عدم الوجوب وعدم التَّحريم.

وكذلك في الحُكم بيَّن العلة: فإنَّك لا تدري أتُصيب فيهم حكم الله أم لا؟ فهم إن نزلوا على حكمك فالحمد لله، وإلا قاتلهم حتى لا يكون لهم عليك سبيل في أن يتأوَّلوا الحكم على غير ما قال الله، ويقولون: حكم الله كذا، وحكم الله كذا، وتحصل منازعة.

وحديث نافع، عن ابن عمر: أنَّ النبي ﷺ أغار على بني المصطلق وهم غارون، فقتل مُقاتلتهم، وسبى ذريتهم.

وهذا دليل على أنَّ مَن سبق أن دُعي لا يجب أن يُدعا مرةً أخرى، بل يجوز أن يُغار عليه؛ لأنَّ بني المصطلق قد دُعوا وقد وُجِّهوا إلى الخير فلم يستجيبوا؛ فلهذا أغار عليهم النبيُّ ﷺ وهم غارون، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية، وأصاب جُويرية بنت الحارث أم المؤمنين.

فهذا يدل على أنه لا بأس على وليِّ الأمر أن يُغير على العدو لغفلته؛ حتى يتمكن من القضاء عليهم وقتل مُقاتلتهم وسبي ذريتهم؛ لأنهم حادُّوا الله ورسوله، وعصوا، وقد بُلِّغوا وأُنذروا فاستكبروا، فجاز أن يُغار عليهم على غِرَّةٍ، وهكذا فعل ﷺ في بني المصطلق، وإن دعاهم قبل ذلك ورأى المصلحةَ في دعوتهم فلا بأس، إذا رأى المصلحةَ أن يدعوهم مرةً أخرى فلا بأس، وقد يكون ذلك مُستحبًّا إذا اقتضت المصلحةُ ذلك، كما فعل النبيُّ مع اليهود؛ فإنَّ النبي قد دعاهم غير مرةٍ، وأجلاهم إلى خيبر، ثم مع هذا دعاهم مرةً أخرى على يد عليٍّ، فدلَّ ذلك على أنَّ ولي الأمر إذا رأى تجديد الدَّعوة مرةً ثانيةً أو ثالثةً لإقامة الحُجَّة وقطع المعذرة ولعلهم يهتدون فلا بأس، وإن رأى أن يُغير عليهم بعد الدَّعوة الأولى، ولكن يُعيدها عليهم فلا بأس، الأمر في هذا واسع، وهو إليه ينظر ما هو الأصلح للمسلمين، وما هو الأقرب إلى الخير، وما هو الأنفع فيفعله.

والحديث الرابع حديث كعب: كان النبي إذا أراد غزوةً ورَّى بغيرها.

كعب هو ابن مالك الأنصاري المشهور، الذي جرى عليه ما جرى مع صاحبيه يوم تبوك.

ومعنى "ورَّى بغيرها" يعني: أظهر أنه يُريد غيرها؛ حتى يفجأ العدو، هذا يُؤيد رواية ابن عمر: أن النبيَّ أغار على بني المصطلق وهو غارون، فإنه يُوري بغيرها، يعني: حتى يفجأ العدو، وحتى يتمكَّن منهم قبل أن يعلموا، وحتى يكون أقرب إلى دخولهم في الحقِّ وقبولهم الحقّ؛ لأنه إذا فجأهم وهم غارون أقرب إلى أن يستجيبوا ويدخلوا في الإسلام؛ لأنهم ما عندهم العدة الكافية للقتال، بخلاف ما إذا كانوا مُستعدين؛ فقد يتمنَّعون، وقد يتكبرون، فإذا أراد مثلًا جهة الشَّمال سأل عن الجنوب، أو عن الشرق، أو الغرب؛ حتى يظنّ الظانون أنه لا يريد الشمال، وهكذا إذا أراد الشرقَ فسأل عن الشمال أو الجنوب؛ حتى يظن الظانون أنه ما أراد الشرق، وهكذا أشباه ذلك، وهذه التَّورية يعني: إظهار أشياء تُشعر السَّامعين ومَن تبلغهم الأخبار أنه ما أراد الجهةَ التي هو يُريدها.

وحديث الصعب بن جثامة الليثي فيه دلالة على أنَّ ما يُصاب من النساء والذرية في حال الحرب من غير عمدٍ لا يُضمن؛ فإنَّ النبي سُئل عن المشركين يُبَيَّتون فيُصاب من نسائهم وذراريهم، فقال: هم منهم، فإذا هجم المسلمون على العدو ليلًا وقاتلوهم فأصابوا بعض النساء أو الأطفال فلا حرج عليهم؛ لأنهم من المشركين، حكمهم حكمهم في الدنيا، إنما نُهي عن تعمد قتلهم، أما إذا قُتلوا تبعًا لآبائهم وتبعًا لمقاتلتهم فإنَّ هذا لا يضرّ؛ لأنه قد تدعو الحاجةُ إلى الهجوم على العدو، فتدعو الحاجةُ إلى الهجوم عليهم ومُباغتتهم ليلًا، فإذا قُوتلوا ليلًا وأُصيب من نسائهم وذراريهم فلا حرجَ في ذلك.

وحديث معقل عن النعمان بن مقرن : أخبر عن النبي ﷺ أنه كان إذا لم يُقاتل أول النهار أخَّر القتال حتى تزول الشمسُ وتهب الرياحُ وينزل النصر.

هذا يدل على أنَّ الإنسان إذا لم يُقاتل أول النهار؛ لأنَّ الرسول كان يُغير أول النهار، صباحًا عليه الصلاة والسلام، كما أغار على خيبر صباحًا عليه الصلاة والسلام، لكن إذا أخَّر القتال ولم يتيسر في الصباح فإنه يُؤجل حتى تهب الرياحُ وتزول الشمسُ ويُقبل البرادُ وتنكسر شدَّةُ الحرِّ، فهذا هو الأفضل للمسلمين عند القتال.

وهذا كله على سبيل الاختيار، أما إذا فجأهم العدو ولم يتمكَّنوا فعلوا ما هو الأصلح، إذا فجأهم العدو، أو صارت الفرصةُ أنسب لهم قبل الظهر فعلوا ما هو الأصلح، لكن عند الاختيار يختارون الأوقات المناسبة: صباحًا إن تيسر، فإن لم يتيسر مثلما فعل النبيُّ إذا زالت الشمسُ وهبت الرياحُ، يعني: توجَّه إلى العدو؛ لأنه في استقبال مجيء الوقت المناسب، وذَهاب الوقت غير المناسب.

س: آية الجزية ما يُقال أنها تُخصص حديث سليمان بن بُريدة؟

ج: محتمل، محتمل، السنة تُخصص الكتاب، والكتاب يُخصص السنة، فقط تعميم المشركين في الغالب أنه يُراد بهم غير أهل الكتاب، لكن يُقال: آية الجزية تُوضح المراد بالمشركين؛ لأنهم سمّوا مشركين، أهل الكتاب يُسمون مشركين أيضًا، وإن كانوا إذا قُرنوا مع المشركين قيل: أهل الكتاب، ولكن إذا أُطلق المشركون فهو يعمّهم من جهة جهادهم وكفرهم وضلالهم، وإن اختلفوا عنهم في بعض الأحكام، محتمل.

س: مَن قال بأنَّ العرب لا يجوز أخذ الجزية منهم؟

ج: قوله أظهر؛ لأنه ما أخذ منهم الجزية عليه الصلاة والسلام، وقاتلهم الصحابة بعد النبيِّ ﷺ ..... الجزية، وقاتلوا بني حنيفة، وقاتلوا غيرهم، وما أخذوا الجزية.

س: ولو كانوا نصارى؟

ج: الأقرب والله أعلم أنهم داخلون في أهل الكتاب، حكمهم حكم أهل الكتاب، لكن النصارى لا يُقرُّوا في الجزيرة: إما أن يُسلموا، وإلا يبتعدوا عن الجزيرة؛ لأنَّ الجزيرة لا يُقرُّ فيها إلا مسلم.

س: وغير المشركين في جزيرة العرب عند أبي حنيفة لا مانع؟

ج: إيه، نعم، يُؤخذ منهم، وعند مالك مطلقًا.

س: ...............؟

ج: تخصيص الكتاب للسنة، وتخصيص السنة للكتاب لا مانعَ منه.

س: ...............؟

ج: كالعكس نعم.

س: تفسير إظهار الإسلام؟

ج: المعروف عند العلماء بإظهار التَّوحيد وإظهار أحكام الإسلام: من الصَّلوات، وذكر الله ، والدعوة إليه ، هذا إظهار الإسلام، أي لا بدَّ [أن] يكون معه شيء من بيان التوحيد وبيان الشرك، ما هو مجرد أنه يُصلي فقط، لا، يكون معه إظهار دِينه، والبراءة من الشرك، ومُوالاة أهل التوحيد، والاعتراف بأنَّ الله هو المعبود بالحقِّ ، لو أنَّ المسلمين في مكة سكتوا ولا دعوا إلى التوحيد، بمجرد [أنهم] صلّوا ما قال لهم شيء.

1285- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِرَجُلٍ تَبِعَهُ يَوْمَ بَدْرٍ: ارْجِعْ؛ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1286- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَأَنْكَرَ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1287- وَعَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ، وَاسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

1288- وَعَنْ عَلِيٍّ : أَنَّهُمْ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مُطَوَّلًا.

1289- وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَعْنِي: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]. قَالَهُ رَدًّا عَلَى مَنْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَمَلَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ. رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

1290- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَطَعَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: هذه الأحاديث كلها لها تعلُّق بالجهاد.

الحديث الأول: حديث عائشة رضي الله عنها: أنَّ النبي ﷺ قال لرجلٍ تبعه يوم بدر، سأله قال: جئتُ لأُقاتل معك. قال: هل أسلمتَ؟ قال: لا. قال: فارجع؛ فلن أستعين بمشركٍ، ثم تبعه أيضًا فقال: أسلمتَ؟ قال: لا. قال: ارجع؛ فلن أستعين بمشركٍ، المؤلف اختصره رحمه الله، ثم تبعه بعد ذلك، فقال: أسلمتَ؟ قال: نعم. قال: الآن.

المقصود: هذا دليل على أنَّ المشركين لا يُستعان بهم في القتال على الكفَّار؛ لأنهم لا يُؤْمَنون أن يُخامروا، وأن يكونوا مع أصحابهم، وأن يكونوا جاءوا للأذى والخيانة وإيذاء المسلمين، فلا يُستعان بهم، سواء كانوا يهودًا أو نصارى أو وثنيين؛ ولهذا قال: ارجع؛ فلن أستعين بمشركٍ؛ ولأنهم ليسوا أولياء لنا، هم أولياء لأصحابهم، فلا يُؤمنون.

والحديث الثاني حديث ابن عمر: أنَّ النبي ﷺ رأى امرأةً مقتولةً، فأنكر قتل النساء والصبيان.

تقدم في ذلك قوله ﷺ: ولا تقتل وليدًا، وأنه إذا قاتل أحدٌ منهم قُوتل، فإذا قاتل الصبيُّ مع الناس، أو المرأة مع الناس قُوتلت؛ ولهذا في بعض الروايات عند الطبراني وغيره، وعند أبي داود في "المراسيل" وآخرين: أنه رأى امرأةً مقتولةً، فقال: ما كانت هذه لتُقاتل، فدلَّ على أنها إذا قاتلت تُقتل.

ورُوي عنه ﷺ، رُوي حديث مرسل: أنه رأى رجلًا حمل امرأةً، فأرادت قتله فقتلها، فرآها النبي مقتولةً فقال: ما هذا؟ أنهى عن قتل النساء، فقال: يا رسول الله، إنها أرادت أن تصرعني وتقتلني فقتلتها. فسكت عليه الصلاة والسلام.

المقصود أنه إذا كانت تُقاتل أو تحثّ الكفار وتُساعدهم على المسلمين تُقتل، وهكذا الصبي الذي يُقاتل فإنه يُقتل؛ لأنه منهم؛ ولأنَّ حمله السلاح وقتاله يدل على أنه من أهل القتال وإن صغر جسمه، وإن ظهر أنه ما بلغ الخمسة عشر، فالحاصل أنه منهم.

والحديث الثالث: حديث سمرة بن جندب : أن النبي ﷺ قال: اقتلوا شيوخ المشركين، واستبقوا شرخهم، الشَّرخ: الشباب.

وهذا يحتمل أمرين:

أحدهما: أنَّ المراد الصِّغار، فيكون من جنس حديث ابن عمر، ومن جنس حديث بريدة: ولا تقتلوا وليدًا، فالصِّغار لا يُقتلون كما تقدم في النَّهي.

ويحتمل أمرًا ثانيًا: وهو حال الأسارى، وأنَّ الشباب من الأسارى يستبقون، قد ينفعون، وقد يهديهم الله؛ لأنهم أقرب إلى الخير من الشيوخ، أما الشيوخ فيُقتلون؛ لأنَّ الغالب أنهم لا يرجعون عن دينهم، والشيوخ هم الكبار -كبار السن- الأقوياء، هؤلاء يُقتلون، أو يُفادى بهم؛ لأنه في الغالب أنهم لا يرجعون عمَّا هم عليه من الباطل، أما الشباب فقد يبقى أسيرًا وقتًا ما، ثم يدخل في الإسلام ويهديه الله جلَّ وعلا، وهو الأظهر: أنَّ المراد والله أعلم أنَّ الصِّغار لا يُقتلون، أما الشيوخ -وهم الكبار- فيُقتلون.

ويُستثنى من هذا عند أهل العلم الشيخُ الهرم الذي لا يُقاتل ولا خير فيه، والزَّمِن الضَّعيف الذي ليس من أهل القتال، فقد جاء عن الصديق وغيره ما يدل على أنهم لا يُقتلون؛ لأنهم كالعدم: كالمجانين وأشباههم، ما لم يُقاتل أو يُعيد الرأي ..... بن الصمة لما كان يوم أوطاس قُتل؛ لأنه ذو رأيٍ، وهو معهم لا يُقاتل، ولكنه ذو رأيٍ، يقول لهم: افعلوا كذا، تقدَّموا، تأخَّروا، فرأيه قد يكون أنفع من السِّلاح.

والحديث الرابع حديث عليٍّ: أنهم تبارزوا يوم بدرٍ، هذا يدل على أنه لا بأس بالتَّبارز، بل على شرعيته إذا وُجد مَن هو أهل لذلك، فهو يدل على علو كعب المسلمين، وأنَّ فيهم من الشُّجعان والرجال الأقوياء مَن يُرهب المشركين ويجعلهم يهابون المسلمين ويقفون عند حدِّهم.

فقد تبارز عليٌّ رضي الله عنه وأرضاه وعبيدة بن الحارث المطلبي وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهم جميعًا مع ثلاثةٍ من المشركين يوم بدرٍ، وهم عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، فإنَّ عتبة بن ربيعة خرج وقال: مَن يُبارز؟ وخرج معه أخوه شيبة، وابنه الوليد، فتقدم إليهم ثلاثةٌ من الأنصار مُدججين بالسلاح، فقالوا: مَن؟ قالوا: من الأنصار. فقال عتبة: أكفاء كرام، نريد من قومنا. يعني: من قريش، فقال النبيُّ لعليٍّ: قم يا علي، قم يا حمزة، قم يا عبيدة، فقام الثلاثة إليهم وتبارزوا بين الصَّفين، خرج هؤلاء من صفِّهم، وهؤلاء من صفِّهم وتبارزوا، وأعان الله المسلمين عليهم فقتلوهم: قتل عليٌّ الوليد، شابٌّ مع شابٍّ، وقتل حمزةُ شيبةَ بن ربيعة، وأما عبيدة وعتبة فاختلفا ضربتين: عبيدة ضربه، وهو ضربه أيضًا، وكان عظيم الجثة عتبة بن ربيعة، وعظيم الرأس، فسقط هذا، وسقط هذا، فانصرف حمزةُ وعليٌّ إلى عتبة فتمموا عليه، كمَّلوا عليه، وأنهوا قتله، وحملوا عبيدة إلى المعسكر، وعاش ثلاثة أيام ثم توفي رضي الله عنه وأرضاه شهيدًا.

المقصود أنَّ هذا دليل على شرعية المبارزة، وأنها مطلوبة، ولا سيما إذا طلبها المشركون وأظهروا الفخر والخيلاء، وقد وُجد في المسلمين مَن يُبارز، فإنها مطلوبة وحقّ، وقد أمر بها النبيُّ ﷺ، أمر بها الثلاثة المذكورين، وليست واجبةً، ولكن من باب مقابلة المشركين؛ لئلا يقولوا: ضعفوا، أو وهنوا، فيُشرع مُقابلتهم لمن وجد في نفسه قوةً، وإلا فلا يضرّ المسلمين، مَن وجد في نفسه الأهلية فليتقدم، وإلا فليتركوا ويتقدم إليهم المسلمون من غير حاجةٍ إلى أن يُبارزهم أحدٌ، في الإمكان أن يتقدم إليهم جماعةٌ أكثر منهم فيقتلونهم، وقد نزل فيهم: هَذَانِ خَصْمَانِ [الحج:19]، كما جاء في رواية عليٍّ رضي الله عنه وأرضاه، قال: أنا أول مَن ..... بين يدي الله يوم القيامة في الخصومة. وذكر قصته مع شيبة وعتبة والوليد.

والحديث الخامس: حديث أبي أيوب الأنصاري في قوله جلَّ وعلا: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، في قتال الروم تقدم بعضُ الصحابة وشقَّ صفَّ الكفار، وحمل عليهم حملةً عظيمةً حتى خرق صفَّهم، ثم عاد، فقال بعضُ الناس: ألقى بيده إلى التَّهلكة. فأنكر عليهم أبو أيوب وقال: ليس هذا من التَّهلكة، وإنما التَّهلكة أن نبقى في الزراعة والدنيا وندع الجهادَ، هذه التَّهلكة. قد نزلت فينا لما قلنا فيما بيننا: إنا نصرنا رسول الله وقت الشدة، والآن لما وسَّع الله على المسلمين وكثر المسلمون لو جلسنا في مزارعنا نُصلحها. فأنزل الله الآية: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فصارت التَّهلكة أن نجلس في مزارعنا وأموالنا وندع الجهاد.

وهذا يدل على أنه لا بأس بأن يحمل المؤمنُ الشجاع القوي على العدو، قال العلماء: ليس بهذا .... إذا رأى من نفسه القوة والشَّجاعة والإقدام، وظنَّ السلامة؛ لمقاصد جيدة، لا لمقصد الرياء والسُّمعة، ولكن لمقصد إرهاب المشركين، أو لتشجيع المسلمين، أو وجد فرصةً من العدو فأراد أن ينتهزها، أو ما أشبه ذلك من الأسباب، ولو خاف أن يُقتل. قال بعضُهم: ولو ظنَّ أن يُقتل؛ لأنَّ الرسول ما أنكر ولا فصل في هذا عليه الصلاة والسلام.

فإذا حمل عليهم لمصلحة المسلمين، لا للرياء والسُّمعة، بل لمصلحةٍ رآها فلا بأس، وإن قُتل.

أما كونه ينتحر، يعني: يفعل أمرًا انتحاريًّا، كمثل ما يفعل بعضُ الناس اليوم؛ يُعبِّي السيارة من القنابل، ويكون معها، وهو أول قتيلٍ، يعني: معلوم أنه سيقتل بنفسه، أو يُعبي نفسه ويحمل على نفسه من القنابل وأشباهها ما يكون مُحْرِقًا له ولعدوه، ثم يذهب إلى العدو ليُفجرها في العدو ويقتل منهم الجمَّ الغفير، هذا محل نظرٍ، ولم يسبق لي فيه فتوى، وعندي فيه توقف؛ لأنَّ أدلة الانتحار معروفة في تحريم قتل النفس، وهذا فيه تيقن، قتل النفس فيه تيقن، لكن لمصلحة المسلمين، فهذا هو الذي عندي فيه توقف، لم يسبق لي فيه فتوى.

كذلك حديث ابن عمر السَّادس: أنَّ النبي حرق نخل بني النَّضير وقطع. يعني: قطع بعض أشجارهم.

بنو النَّضير من اليهود، لما أظهروا العداء لرسول الله ﷺ، وهموا بقتله، أمر بقتالهم، وحاصرهم عليه الصلاة والسلام، فاتَّقوا بالنَّخيل والأشجار، فأمر النبيُّ ﷺ بتحريقها حتى لا يُتَّقى بها؛ وحتى يتمكَّنوا من قتالهم، حتى نزلوا على حكمه وأجلاهم عليه الصلاة والسلام.

فالحاصل أنه يجوز عند الحاجة قطع النَّخيل والأشجار إذا كانت يُتَّقى بها؛ حتى قتل الدَّواب إذا اتُّقي بها، إذا كان العدو يتَّقي بالنَّخيل أو بالأشجار ويُؤذي المسلمين، أو يُقدم الإبل أو البقر أو الغنم ليتَّقي بها؛ لإيذاء المسلمين، فلا مانع من ضربها قصدًا، وقطع النخل قصدًا، والشجر قصدًا؛ لهذا الحديث، وفي هذا يقول حسان :

وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ

البُويرة: هي محل بني النضير، المقصود أنَّ قتل الدَّواب وقطع الشَّجر والنَّخل وأشباه ذلك وقت الحرب جائز؛ لهذا الحديث الصحيح، إذا اقتضت المصلحةُ ذلك.

أما ما يُروى عن الصديق أنه أمر جيوشه ألا يقطعوا شجرًا، ولا يقتلوا الدَّواب، فهذا إذا كان ما فيه مصلحة؛ لأنَّ بقاء الشجر ينفع المسلمين، وبقاء الدَّواب تنفع المسلمين، فما فعله الصديقُ في محلِّه إذا اقتضت المصلحةُ ذلك، وما أمر به النبيُّ في محلِّه، ولا يُعارض فعل النبي بفعل الصديق؛ لأنَّ الحجَّة قائمة بفعل النبيِّ ﷺ، وليس لأحدٍ أن يُعارضه، لكن الجمعَ بين الأثر وبين الحديث: أن فعل الصديق فيما إذا كانت المصلحةُ تقتضي ذلك، وأمر النبي ﷺ بالتَّحريق فيما إذا اقتضت المصلحةُ ذلك، ولا منافاةَ.

وهذا هو الجمع في مثل هذا وأشباهه فيما يأتي من الآثار، وما يأتي من الأحاديث، فإنَّ الصحابة لا يتعمَّدون خلاف النبيِّ ﷺ، هم أتبع الناس له، وأحرصهم على اتباع سنته، والتأسي به عليه الصلاة والسلام، ولكن عرفوا المقصود: أنَّ قطعها ليس للعبث، ولا تحريقها للعبث، إنما حُرقت وقُطعت للمصلحة، فإذا وُجدت المصلحة جاء التَّحريق وجاء القطع، وإذا فُقدت المصلحةُ فلا حاجةَ إلى القطع، ولا حاجة إلى التَّحريق، والله أعلم.

س: ...............؟

ج: نزلت الآيةُ في القصة هذه، فبإذن الله هذا يدل على جواز الأمرين، فبإذن الله الشَّرعي يعني: أنهم ما قطعوه للوجه الشَّرعي فلا بأس، وما تركوه للوجه الشرعي فلا بأس، وهذا مما يُؤيد ما تقدم من الجمع بين الأثر وبين فعل الرسول ﷺ، وأنها إن تُركت للمصلحة فلا بأس، كما فعل الصديق، وإن قُطعت للمصلحة فلا بأس، كما فعل عليه الصلاة والسلام، واللَّينة نوعٌ من النَّخل.

س: ..............؟

ج: يظهر والله أعلم، الظاهر أنهم ما قطعوا كل شيءٍ، المهم أنهم قطعوا بعض الشيء لأذاهم.

س: إذا قتل الكفَّارُ أطفالنا ونساءَنا ألا نقتل نساءَهم وأطفالهم؛ أخذًا بقوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126]؟

ج: ما يظهر لي هذا، الرسول نهى عن قتل النساء والصبيان، وإذا أساءوا إلينا ما نقتل النساء والصبيان، ما يظهر هذا، لكن هذا في أنفسهم هم، إذا فعلوا هم، إذا مثَّلوا بنا.

س: ...............؟

ج: بنو النَّضير أجلاهم، وبنو قُريظة قتلهم، بنو قُريظة لهم قصة أخرى: نزلوا على حكم سعدٍ فقتلهم، أما هؤلاء أجلوا.

س: استعانة الرسول ﷺ بصفوان بن أمية؟

ج: يُستعان بالدروع والسلاح ما في بأس، لكن بالمشرك لا، الاستعانة بالسلاح أو بالمال والأرض ما في بأس، هذا لا محذورَ فيه، أما كونه يستعين بالمشرك نفسه، يُخالط المسلمين لا. أما إذا استعان بالدُّروع أو السيوف أو الرماح أو ما أشبهه من بعض الكفَّار فهذا ما يضرنا، ينفعنا ولا يضرنا، إن كان في محلِّه والسلاح عندنا.

س: النساء إذا حملن السلاحَ ضد المسلمين يُقتلن؟

ج: يُقتلن نعم.

1291- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَغُلُّوا؛ فَإِنَّ الْغُلُولَ نَارٌ وَعَارٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

1292- وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

1293- وَعَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قِصَّةِ قَتْلِ أَبِي جَهْلٍ قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالَا: لَا. قَالَ: فَنَظَرَ فِيهِمَا، فَقَالَ: كِلَاكُمَا قَتَلَهُ، فقضى ﷺ بسلبه لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1294- وَعَنْ مَكْحُولٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي "الْمَرَاسِيلِ"، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

1295- وَوَصَلَهُ الْعُقَيْلِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ .

1296- وَعَنْ أَنَسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: اقْتُلُوهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1297- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَةً صَبْرًا. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي "الْمَرَاسِيلِ"، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

الشيخ: الحديث الأول: حديث عبادة بن الصامت الخزرجي ، أحد النُّقباء، وأحد العلماء والمقدمين في الأنصار رضي الله عن الجميع: أن النبيَّ عليه السلام قال: إنَّ الغلول نار وعار على أصحابه يوم القيامة.

الغلول جاءت فيه أحاديث كثيرة في التَّحذير منه .....، وقال الله فيه سبحانه: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، فالغلول هو الأخذ من الغنيمة سرًّا وخفيةً على سبيل الخيانة، وهكذا يلحق به ما يُؤخذ من بيت المال، أو من الزكوات، أو من مال الأيتام، أو ما أشبه ذلك على سبيل السرِّ والخيانة، فهو نار وعار، نار: يُعاقب به يوم القيامة، وعار: خزي يوم القيامة، فإنهم يُفضحون يوم القيامة، ويأتون بالغلول على رؤوس الأشهاد؛ فلهذا حذَّر النبيُّ من الغلول وقال: لا ألفين أحدكم يوم القيامة يأتي وعلى رقبته بعيرٌ له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، أو صامت، أو رقاع تخفق، حذَّرهم من هذا، وأبدى وأعاد عليه الصلاة والسلام، قال: فيقول: يا محمد، يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد أبلغتُك.

المقصود أنَّ الغلول شرّه عظيم، وعواقبه وخيمة، فالواجب على الغُزاة وعلى كل مسلمٍ الحذر منه، وأن يُؤدي ما عليه: إن كان على بيت المال أدَّى الحقَّ، وصان بيت المال وحفظه، وإن كان على أمانات صانها وحفظها، وإن كان على زكاةٍ صانها وحفظها.

وهكذا المؤمن: يكون أمينًا على ما تحت يده، لا يغلّ، ولا يخون، فالغلول نار وعار على أصحابه يوم القيامة.

واختلف العلماء: أيُحرق متاع الغالّ؟

على قولين: فالجمهور قالوا: لا يُحرق؛ لأنه لم يثبت فيه حديثٌ صحيح يُعتمد عليه.

وذهب أحمد وجماعة إلى أنه يُحرق عقوبةً له عاجلة، ومتاعه الأثاث الذي معه.

وقول الجمهور في هذا أصحّ، قول الجمهور في هذا أقوى، وقد ثبت عنه ﷺ أحاديث كثيرة في الغلول، ولم يثبت تحريق المتاع، وهؤلاء غِلمانه الذين غلّوا ولم يثبت أنه حرَّق متاعهم ..... الشملة التي غلَّها تشتعل عليه نارًا، لما قالوا: إنه شهيد، وعلى الآخر قال: إنَّ العباءة التي غلَّها تشتعل عليه نارًا.

المقصود أنَّ الغلول عقوبته أخبر الله عنها في الآخرة، ولكن لولي الأمر أن يُعاقب بما يرى: يسجنه، يضربه، يُعاقبه بشيءٍ من المال، هذا إليه، لكن التَّحريق لم يثبت.

وقد روى أحمد والترمذي وأبو داود من حديث أبي واقدٍ الصغير الذي هو صالح بن محمد بن زائدة، عن سالم، عن أبيه، عن عمر: أنَّ النبي حرَّق متاع الغالّ.

ورُوي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي حرَّق متاع الغالّ. وهكذا صاحبه أبو بكر وعمر، لكنَّهما حديثان لا يثبتان، أبو واقد الصغير هذا ضعيف عند أهل العلم، ورواية عمرو غير ثابتةٍ؛ لأنه رواها شخصٌ يُقال له: زهير بن محمد. قيل: إنه الحجازي. وروايته إذا روى عن أهل الشام ليست جيدةً، بل فيها مناكير وأغلاط كثيرة، وقيل: إنه مجهول، وأنه غير زهير المعروف.

وبكل حالٍ فالحديثان ضعيفان، ولا يثبت بهما تحريق متاع الغالّ، والصواب قول الجمهور، وأنَّ الإمام يُعزره بما يرى.

الحديث الثاني حديث عوف بن مالك: أن النبيَّ ﷺ قضى بالسَّلب للقاتل.

والسّلب: ما يكون مع القتيل من مطيةٍ أو فرسٍ أو سلاحٍ ونحو ذلك، هذا السّلب يُعطاه القاتل تشجيعًا للشُّجعان، واعترافًا لفضلهم، وحثًّا لهم على الإقدام، إذا انفرد بقتله وحمل عليه وقتله يُعطى سلبه.

في الصحيح: أن النبيَّ ﷺ قال: مَن قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه، وقام أبو قتادة، قام له مرات، فقال له النبيُّ: ما شأنك؟ قال: إني قتلتُ فلانًا، فقام رجلٌ وقال: صدق يا رسول الله، هو قتله، وسلبه عندي، فأرضه عني يا رسول الله. فقام الصديقُ وقال: لَاهَا اللَّهِ، إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُعْطِيكَ سَلَبَهُ! فأمر النبي ﷺ الرجلَ أن يُسلم سلبه لأبي قتادة، قال: فاشتريتُ به مخرفًا في المدينة، فذاك أول ما تأثلتُه في الإسلام. أو كما قال .

المقصود أنَّ الرسول ﷺ حكم بالسّلب للقاتل تشجيعًا للمُجاهدين، وترغيبًا للشُّجعان في الإقدام.

والحديث الثالث: حديث عبدالرحمن بن عوف في قصة أبي جهل وقتله، كان عبدُالرحمن -أحد العشرة المشهود لهم بالجنة- يوم بدرٍ بين شابين من الأنصار، كما جاء في الصحيح، قال: فتمنيتُ أني بين ..... يعني: أكبر منهما، وأسنّ منهما.

قال: فالتزمني أحدُهما وقال: يا عم، أين أبو جهل؟ قلت: وما شأنك بأبي جهل؟! قال: إنه بلغني أنه يسبّ رسول الله ﷺ، والذي نفسي بيده، لئن أمكنني الله منه لا يُفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجلُ منا.

ثم قال الآخرُ الذي عن يساره: يا عم، أين أبو جهل؟ مثل قول الأول، فقال: وما شأنك به؟! قال: بلغني كذا وكذا، فلئن أمكنني الله منه فلن يُفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجلُ منا.

قال هو: فنظرتُ في الناس فإذا أبو جهلٍ يجول في الناس، فقلتُ لهما: هذا صاحبكما، وأشرتُ إليه.

قال: فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم جاءا إلى النبيِّ ﷺ وأخبراه، فقال: أمسحتُما سيفيكما؟ قال: لا، فأرياه سيفيهما، فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح.

قال العلماء: لأنَّ ضربة معاذٍ كانت .....، وهي التي قتلته، وطيَّب نفوسهما بقوله: كلاكما قتله؛ لأنهما ضرباه جميعًا.

وفي هذا فضل الأنصار: شجاعتهم وصدقهم في مواطن اللِّقاء .

وفيه الشَّاهد: أن السّلب للقاتل كما تقدم، أنَّ السّلب للقاتل دون غيره، ولو شاركه آخرون، إن كانت جراحُه غير مُؤثرةٍ في القتل فالسّلب لمن كان له الأثر، وكانت له النِّكاية التي حصل بها القتل.

كذلك حديث مكحول فيه نصب المنجنيق على أهل الطائف، ومكحول هذا أبو عبدالله الشَّامي المعروف، وهو من رجال مسلم والسنن، وهو ثقة، تابعي صغير ..... الشامي، أبو عبدالله، وهناك مكحول آخر يقال له: الأزدي، مصري، روى له البخاري في "الأدب"، فإن أُطلق مكحول فهو هذا أبو عبدالله الشامي المعروف، وذاك صدوق أيضًا.

فيه أن نصب المنجنيق على أهل الطائف، وهذا المرسل له شواهد، قول الترمذي: له شاهد من حديث ثور بن يزيد، وله شواهد، وهو دليل على جواز ضرب العدو بما يعمّ؛ لأنَّ المنجنيق يرمي بحجارةٍ كبيرةٍ مثل المدفع، تُربط الحجارة، لها طريقة خاصَّة، يُرمى بها البيوت، ويُرمى بها القلاع، ويُرمى بها العدو المجتمع، فله تأثير كبير، كالمدافع وأشباهها.

فهذا يدل على جواز رمي العدو بما يكون الضَّرر فيه أشدّ من النَّبل: كالمنجنيق والمدفع وأشباه ذلك، إذا اعتصم وصمم على عدم الانقياد وعدم الدخول في الإسلام فللمسلمين أن يرموه بما فيه نكاية له، لعله يُسلم، أو يُنتهى منه وتُفتح بلاده.

الحديث الخامس حديث أنسٍ: أن النبيَّ ﷺ دخل مكةَ وعلى رأسه المغفر.

المغفر: آلة تُوضع على الرأس تستره وتقيه السيوف.

هذا يدل على أنه دخلها حلالًا غير مُحرمٍ؛ لأنه ما جاء لعمرة ولا لحجٍّ، جاء لقتال المشركين وإخراجهم من البلاد وإصلاحها وإسلامهم.

فهذا يدل على جواز قصد مكة بغير إحرامٍ، إذا كان القاصدُ لم يُرد الحجَّ ولا العمرة، وهذا هو الصواب من قولي العلماء.

وقال آخرون: من خصائصها ألا يدخلها أحدٌ إلا بإحرامٍ. وهذا قول ضعيف مرجوح، والصواب أنَّه يجوز دخولها بغير إحرامٍ لمن لم يُرد الحجَّ والعمرة، وإنما أراد القتالَ عند وجود مسوغٍ، أو أراد التِّجارة، أو أراد زيارة قريبٍ، أو صديقٍ، أو نحو ذلك.

ويدل على هذا المعنى ما رواه الشَّيخان من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: هن لهن، لما وقَّت المواقيت قال: هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنَّ من غير أهلهنَّ ممن أراد الحجَّ أو العمرة، فجعل الإحرامَ والإلزامَ لمن أراد الحجَّ والعمرة، فقيل للنبيِّ ﷺ: ابن خطل مُتعلق بأستار الكعبة. فقال: اقتُلوه.

وهذا يدل على جواز قتل مَن ألحد في الحرم من أهله، فإنَّ هذا مُلحد، وإن كان النبيُّ ﷺ أُذن له ساعةً من نهارٍ، لكن هذا قد وُجدت فيه أسباب القتل، وهو أنه مُرتدّ، ارتدَّ عن الإسلام .....، ويحتمل أنه يكون قتله النبيُّ ﷺ لردته وإيذائه للنبي ﷺ وهجوه له، ويحتمل أنه قتله في السَّاعة التي أُبيح له فيها القتال عليه الصلاة والسلام، وكان هذا هجاء، كان له جاريتان تُغنيان بهجاء النبيِّ عليه الصلاة والسلام مع ردَّته.

وذكر الشارحُ وغيره أنه قتل أيضًا مولًى له في طريقه لما ارتدَّ، لما أمره بإحضار الطعام فتأخَّر فقتله، ثم ذهب إلى مكة .....

المقصود أنه ﷺ قتله: إما في السَّاعة التي أُذن له فيها، وإما لأنه قام بهذا السَّب الموجب للقتل، وهو الردة والسَّب والهجاء، وقُتلت إحدى جاريتيه، واستُؤمن للأخرى.

وذكر أصحابُ السير أنه أهدر ﷺ تسعةً من الناس، أهدر دماءهم في مكة، لكنه أسلم ستة منهم، وقُتل ابن خطل وإحدى جاريتيه، واستُؤمن للأخرى.

واختلف العلماءُ فيمَن يُحدِث حدثًا في مكة، ماذا يُفعل به؟ هل يُقام عليه الحدُّ؟ هل يُقتل قصاصًا؟ إلى غير ذلك.

على قولين:

أحدهما: أنه يُقام عليه الحدُّ؛ لأنه هتك حُرمة الحرم فيُقام عليه الحدّ، وهذا هو الصواب، لما هتك الحرام يُقام عليه الحدّ؛ ولهذا قطع النبيُّ المخزومية في مكة ولم يُخرجها إلى خارج الحرم؛ لأنها هتكت حِمى الله في حرمه، ورجم الزُّناة في المدينة، وقد حرم المدينة كما حرَّم الله مكة، وقتل العُرنيين، فدلَّ ذلك على أنَّ مَن هتك الحرمة يُقام عليه الحدُّ، أما مَن جاء من خارجٍ، قد قال الله فيه: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، وهو خبر معناه الأمر: تأمينه، فيُؤمن حتى يخرج ثم يُقام عليه الحدّ؛ لأنه جاء مُعظِّمًا للحرم، وليس مثل الذي هتك الحرم، فالذي جاء مُعظِّمًا أمر بتأمينه: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، بخلاف الذي هتك الحرمَ وسرق وقتل وزنا، فيُقام عليه الحدّ، ولو جاز ترك ذلك لصارت مكة مأوى للمُفسدين والمجرمين.

الحاصل أنَّ مَن هتك الحرمَ يُقام عليه الحدّ في الحرم: فالزاني يُرجم، والبكر يُجلد، والمرتد يُقام عليه حدُّ القتل، والقاتل عمدًا يُقتص منه، هذا هو الصواب في هذه المسألة، أما مَن جاء من خارجٍ فهذا يُعمل معه ما يُخرجه: من التَّضييق عليه، ومُطالبته بالخروج، فإذا خرج قُتل هناك خارج الحرم؛ حتى لا تضيع الحقوق.

الحديث السادس: أنَّ النبي ﷺ قتل ناسًا صبرًا يوم بدرٍ، وهم النَّضر بن الحارث .....، وهكذا عقبة بن أبي مُعيط، والثالث: طُعيمة المطعم بن عدي، جُبير بن مطعم، وهذا فيه جواز القتل صبرًا إذا رأى وليُّ الأمر ذلك، إذا تمكَّن من أعدائه فله القتل في حقِّ الأسير: إن شاء قتل، وإن شاء استرقَّ، وإن شاء عفا، وإن شاء فادى، كما يأتي بعد هذا الحديث إن شاء الله.

وقد روى مسلمٌ في "الصحيح" عن عبدالله بن مطيع: أن النبيَّ ﷺ قال: لا يُقتل قرشي صبرًا بعد اليوم، وهذا خبر معناه النَّهي، وهو مُشكل، يحتاج إلى تأمُّلٍ ومُراجعة كلام أهل العلم فيه؛ لأنَّ القرشيَّ قد يأتي بجريمةٍ تُوجب قتله صبرًا، فلا بدَّ من حمله على محملٍ صالحٍ يُوافق الأدلة والقواعد الشَّرعية والله أعلم.

س: ...............؟

ج: كأنه رأى ﷺ أثرًا، علامة من سيفه، كأنَّ السيف دخل كثيرًا، كأنه رأى الدم كثيرًا، والعلامات الأخرى ..... يعني شيء واضح، لا بدَّ أنه ﷺ رأى شيئًا واضحًا.

س: صبرًا معناها، أحسن الله إليك؟

ج: يعني: يُحبس ويُقتل، هذا صبرًا، يعني: يُقيَّد ثم يُضرب بالسيف، هذا الصبر، بخلاف قتله في الصُّفوف، هذا ما يُسمَّى: صبرًا.

س: تعلّق ابن خطل بأستار الكعبة ألا يحتمل أنه يكون قد أسلم؟

ج: لو أسلم ما خفي، النبي ما يقتل مسلمًا إلا بحقٍّ شرعيٍّ .....

س: إحراق العدو بالنار؟

ج: لا، ما يجوز التَّعذيب بالنار، ما يجوز.

س: ليس تعذيبًا، وإنما من باب القتال؟

ج: النبي نهى عن قتلهم بالنار، قال: "أنستعين بعذاب الله؟" أما الرمي -رمي بالمنجنيق والقنابل- .....

س: وإذا فعلوا بنا نفس الشيء؛ أحرقوا المسلمين بالنار؟

ج: الله أعلم.

س: خارج الدَّوام وعدم وجوده هل يُعتبر من الغلول؟

ج: لا شكَّ أنه من الخيانة، وقد يُعتبر من جهة الذي أعطى، وهذا ساعده .....، نسأل الله السلامة.

................

1298- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَدَى رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ.

1299- وَعَنْ صَخْرِ بْنِ الْعَيْلَةِ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ إِذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ.

1300- وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

1301- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أَصَبْنَا سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَتَحَرَّجُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24]. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

الشيخ: الحديث الأول: حديث عمران بن حصين بن عبيد الخزاعي وعن أبيه، هو صحابي، وأبوه حصين صحابي أيضًا، وأبوه هو الذي قال له النبيُّ ﷺ: يا حصين، كم إلهًا تعبد؟ قال: سبعة، قال: فمَن تعدّ لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السَّماء. ثم أرشده النبيُّ ﷺ ودعاه إلى الإسلام فأسلم.

المقصود أنه صحابي، وأباه صحابي، يقول: إنَّ النبي ﷺ فدى رجلين من المسلمين عند المشركين برجلٍ مُشركٍ.

هذا فيه دلالة على جواز المفاداة بالأسرى، وقد تقرر في الأسرى أربعة أحكام:

منها ما ذكر الله في قوله جلَّ وعلا: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4]، وأنَّ الأسير إن شاء وليُّ الأمر مَنَّ عليه بالإطلاق والعفو إذا رأى المصلحةَ في ذلك، وإن شاء أخذ الفديةَ فيه من أهله، وهذا شيء يتعلق بالمصلحة، لا بالتَّخيير الشَّهواني الذي ليس له تعلّق بمصلحة الإسلام، لا، ليس له أن يختار شيئًا من أجل هواه، بل ينظر للمسلمين، ويختار ما هو الأصلح للمسلمين، فإن رأى المصلحةَ في العفو مَنَّ، وإن رأى أخذ الفدية أخذ الفدية.

والثالث: أن يُفادي به المشركين بعض الأسارى الذين عندهم.

والرابع: الاسترقاق.

والمفاداة داخلة في الفدية، بل الرابع هو القتل، فإنَّ المفاداة وأخذ الفدية كله شيء واحد.

فالأربعة: المنّ. وأخذ الفدية: سواء الفدية بالنقود، أو بالمفاداة بالأسرى عند المشركين. والثالث: الاسترقاق. والرابع: القتل. وقد فعلها كلها عليه الصلاة والسلام؛ فقد فادى بالأسرى كما هنا، وقد أخذ الفدية كما في أسرى بدر، وقد مَنَّ على بعض الأسرى وعفا، وقد قتل أيضًا كما في قصة النَّضر بن الحارث وعقبة المتقدم، قتلهم، والاسترقاق ..... كما في قصة بني قُريظة؛ استرقاق الذُّرية والنِّساء.

والحديث الثاني حديث صخر بن العيلة: أنَّ النبي ﷺ قال: إنَّ القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءَهم وأموالهم.

هذا أمر معلوم، وهو محل وفاقٍ، متى أسلم الناسُ أحرزوا دماءهم وأموالهم؛ ولهذا لما أسلم أهلُ المدينة أحرزوا دماءهم وأموالهم، فمَن أسلم قبل القُدرة عليه أحرز ماله ودمه، وإنما تُغنم أموالهم ويُقتلون إذا أصرُّوا على القتال وعدم الإسلام، هذا محل قتالهم، ومحل الاستيلاء على أموالهم، واسترقاق نسائهم وذرياتهم، فإذا أسلموا قبل ذلك، أو عند القتال طلبوا من ولي الأمر الموافقة على إنهاء الحرب؛ لأنهم سيدخلون في الإسلام، وجب قبول قولهم، فإنهم مدعوون، فإذا أجابوا وقبلوا الإسلامَ أحرزوا دماءهم وأموالهم، وقصة أسامة وصاحبه لما قتله بعدما قال: "لا إله إلا الله" أنكر.