51 من حديث ( أنّ النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشًا كبشًا)

بَابُ الْعَقِيقَةِ

1369- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ، وَعَبْدُالْحَقِّ. لَكِنْ رَجَّحَ أَبُو حَاتِمٍ إِرْسَالَهُ.

1370- وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوَهُ.

1371- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَمَرَهُمْ أَنْ يُعَقَّ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

1372- وَأَخْرَجَ أحمدُ والأربعةُ عَنْ أُمِّ كُرْزٍ الْكَعْبِيَّةِ نَحْوَهُ.

1373- وَعَنْ سَمُرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: كُلُّ غُلَامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ، وَيُسَمَّى. رَوَاهُ أحمدُ والأربعةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

الشيخ: هذا الباب في العقيقة، والعقيقة فعيلة، بمعنى مفعولة، يعني: معقوقة، مذبوحة، وهي ما يُذبح عن المولود في حال صغره من ذكرٍ وأنثى، يقال له: عقيقة.

قال بعضُهم: سُميت بذلك لأنه يعقّ حلقها، يعني: يشقّ، وهذا ليس خاصًّا بها، بل كل ذبيحةٍ تعقّ.

وقال آخرون: بل سُميت بذلك؛ لأنَّ الشعر الذي على رأس الطفل أو ما يُولد يُسمَّى: عقيقة عند العرب، فيُمطونه عنها، هذا وجه التَّسمية. كذا قال الزمخشري وجماعة، وهذا أشبه أنه شيء خاصّ بها؛ ولهذا جاء في الأحاديث: وأميطوا عنه الأذى، اذبحوا عنه، وأميطوا عنه الأذى، وإماطة الأذى: إزالة الشعر، يعني: حلق الشعر الذي وُلد وهو عليه.

وهذه الأحاديث التي ذكرها المؤلفُ كلها دالة على سنية العقيقة، وقد جاء في هذا الباب عدة أحاديث ذكرها أهلُ العلم، ذكر المؤلفُ هنا بعضَها، وذكر صاحب "المنتقى" جملةً منها أيضًا، وذكر غيرهم كذلك جملةً منها.

فالمقصود أنَّ أحاديث العقيقة ثابتة: منها ما رواه البخاري في "الصحيح" عن سلمان بن عامر الضبي: أن النبي عليه السلام قال: مع الغلام عقيقة، وأميطوا عنه الأذى، فالسنة في حقِّ الأطفال أن يعقّ عنهم؛ فعن الذكر شاتان مُكافئتان، وعن الأنثى واحدة.

وفي هذا الباب ما ذكره المؤلفُ من حديث ابن عباسٍ: أن النبي ﷺ عقَّ عن الحسن والحسين كبشًا كبشًا. وفي الرواية الأخرى: كبشين كبشين.

هذا هو السنة من فعل النبيِّ ﷺ ومن أمره؛ فقد عقَّ عن ابنيه الحسن والحسين.

وقوله: "كبشًا، كبشًا" يحتمل أنَّ هذا وهمٌ من الراوي -بعض الرواة- ويحتمل أنه عقَّ كبشًا كبشًا، ثم عقَّ الكبش الثاني في وقتٍ آخر، فمن الناس مَن روى الأول، ثم جاءت رواية الثاني، ولا منافاةَ؛ فإنَّ الثابت من فعله ﷺ ومن قوله أنَّ العقيقة اثنتان عن الغلام، ولا مانع من كون والد الغلام يذبح واحدةً في وقتٍ، ثم الثانية في وقتٍ آخر، إذا تيسر ذبحهما جميعًا في يوم السابع، وهو أفضل، وإن لم يتيسر ذلك ذبح واحدةً، ثم ذبح الأخرى في وقتٍ آخر: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وهي سنة مؤكدة، هذا هو الصواب الذي عليه جمهورُ أهل العلم: الأئمة الأربعة والجمهور على أنها سنة مؤكدة.

وذهب بعضُ أهل العلم إلى وجوبها، والأقرب والأظهر ما قاله الجمهور: أنها سنة مؤكدة.

ومما احتجَّ به الجمهورُ: ما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده بإسنادٍ جيدٍ: أن النبيَّ ﷺ سُئل عن العقيقة فقال: إنَّ الله لا يُحبُّ العقوقَ، كأنه كره الاسمَ، ثم قال: مَن وُلِدَ له مولودٌ فأحبَّ أن ينسك عنه: شاتين عن الغلام، وشاة عن الأنثى، فليفعل، قوله: فأحبَّ واضح في أنَّ الأمر ليس للوجوب، ولكنه للنَّدب.

وهكذا أمره ﷺ بذلك هو أمر ندبٍ، لا أمر وجوبٍ؛ ولهذا في حديث عائشة أنه أمر أن يعقّ عن الغلام شاتان مُكافئتان.

مُكافِئتان: بفتح الفاء وبكسرها، يقال: مُكافِئة ومُكافَأة، كل واحدةٍ مُكافِئة ومُكافَأة، يعني: مُتساويتان، مُتقاربتان في السنِّ والصورة: وعن الجارية شاة، وهذا هو الأفضل، وهو أفضل من أن يعقّ عنهم بالإبل أو بالبقر، السنة أن يعقَّ عنهم بالغنم، كما قاله النبيُّ عليه الصلاة والسلام.

وهكذا حديث أم كرز الكعبية في أمر النبيِّ ﷺ بالعقيقة: عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة.

وجاء في هذا المعنى عدة أحاديث كلها دالة على شرعية العقيقة، وهي الذَّبيحة التي تُذبح يوم السابع، يقال لها: عقيقة، ويقال لها: النَّسيكة، ويُسمِّي الناسُ الآن: تميمة، ولا أدري متى جاء هذا الاسمُ؟ ومَن اخترع هذا الاسم؟ فهي عقيقة ونسيكة وذبيحة، سنة مؤكدة، يأكل منها ويُهدي إلى أقاربه، ويُطعم الفقراء، أو يصنعها ويطبخها ويدعو إليها مَن أحبَّ، كله جائز، ليس فيها تحديد، فالأمر فيها واسع: إن أكل وأطعم فلا بأس، وإن فرَّقها فلا بأس، وإن فرَّق بعضَها وأكل بعضَها فلا بأس، والأفضل أن يُعطي منها الفقراء كما في الضَّحية.

وكما في حديث سمرة: كل غلامٍ مُرتهن بعقيقته، سمرة بن جندب حديثه صحيح عند أهل العلم، وإن كان من رواية الحسن، وهذا مما ثبت عن الحسن، أو سمعه من سمرة، كما رواه البخاري في "الصحيح": أنه سُئل عن ذلك فقال: سمعتُه من سمرة.

وهو حديث صحيح، بخلاف بقية أحاديث الحسن عن سمرة؛ فإنَّ فيها خلافًا في وصلها وعدم وصلها، أما حديث العقيقة فقد ثبت أنه سمعه من سمرة، فهو من جملة الأحاديث الثابتة في العقيقة، وفيها أنه مُرتهن: الغلام مرتهن بعقيقته يعني: محبوس بها تُذبح عنه يوم سابعه، ويُحلق يعني: رأسه ويُسمَّى، هذا السنة أن تُذبح العقيقة يوم السابع، وأن يُحلق في يوم السابع، وأن يُسمَّى في يوم السابع، هذا هو السنة، وإن سُمي في اليوم الأول فهو سنة أيضًا؛ وقد ثبت عنه ﷺ أنه سمَّى ابنه إبراهيم يوم وُلد، وهكذا سمَّى عبدالله بن أبي طلحة يوم وُلد، وهكذا سمَّى إبراهيم بن موسى الأشعري يوم وُلد، فلا حرج في ذلك.

فيوم السابع سنة، واليوم الأول سنة التَّسمية، إن سمَّاه في اليوم الأول فسنة، وإن سمَّاه في اليوم السابع كما في حديث سمرة فهو سنة.

وينبغي التَّحري في الأسماء، واختيار الأسماء الحسنة، وتجنب الأسماء القبيحة.

واختلف العلماءُ في معنى الارتهان:

قال بعضُهم: معناه أنه مُرتهن عن الشَّفاعة، لا يشفع في والده حتى يعقَّ عنه.

وقال آخرون معنًى آخر، والأقرب في هذا والله أعلم هو الإمساك، فالرسول لم يُفسر هذا الارتهان، ولا ينبغي للإنسان أن يقول على الله بغير علمٍ، فهو مُرتهن، الله أعلم بهذا الارتهان.

والمقصود من ذلك الحثّ، المقصود من هذا الارتهان الحثّ والتَّحريض على البدار بها، والحرص عليها، وعدم تركها، أما كونه مُرتهنًا عن الشَّفاعة وعن كذا وعن كذا فهو محل نظرٍ، والقول بأنه مُرتهن عن الشَّفاعة فيه نظر، ولا يصحّ؛ لأنَّ الرسول ﷺ أخبر عن الأطفال أنهم يشفعون، ولم يقل: إلا مَن لم يعقّ عنه، بل أطلق ذلك في الأحاديث الصَّحيحة، فلا تقيد بشيءٍ مجمل.

وفيه دلالة على شرعية حلق الرأس، ولم يذكر فيما نعلم حلق رأس البنت، والأقرب أنَّ هذا خاصٌّ بالذكر، ومَن قال: إنهما يُحلقان، فيحتاج إلى دليلٍ، إن وُجد دليلٌ وإلا فالأصل إنما هو في حقِّ الذكر.

قوله: وليُسَمَّ مثلما تقدم، أما رواية فيُدْمَى فهي غلط، تصحيف، وكان أهلُ الجاهلية يُدمون رأس الطفل، إذا وُلد ذبحوا عنه ولطَّخوا رأسه بالدم، فنسخ الله ذلك بما شرع من إماطة الأذى والعقيقة والتَّسمية.

قال بُريدة: كنا نُدمي رأسه في الجاهلية، فلما جاء الإسلامُ كنا نجعل مكانه الزعفران. يعني: الطِّيب بعدما يُحلق، والله أعلم.

س: ...............؟

ج: ولو بعد ذلك يعقّ عنه، ولو بعد ذلك لا بأس، إن تيسر في يوم السابع فهو سنة، وإلا عقَّ عنه بعد ذلك.

س: ...............؟

ج: نعم، هذا هو الأفضل، جاء أنه يتصدق بوزنه فضة، ولكن في إسناده بعض الضَّعف.

س: وإن مات قبل السابع؟

ج: ولو، السنة يوم السابع، ولو مات تُذبح عنه العقيقة يوم السابع، ولو أنه مات؛ لأنه ..... معه عقيقته.

س: وإن ذبح شاةً واحدةً عن الغلام؟

ج: يصير نصف السنة، حصل نصف السنة.

س: حديث عائشة: يعقّ عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة واحدة؟

ج: صحيح: حديث عائشة، وحديث أم كرز، وفي الباب أحاديث أخرى.

س: في الصحيح: عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة واحدة؟

ج: لا، ما هو في الصحيح، خارج "الصحيحين"، الذي في الصحيح: "عن الغلام عقيقة" فقط، رواه البخاري عن سلمان بن عامر الضَّبي.

س: الميت يُعقُّ عنه؟

ج: هو الظاهر، تعمّه الأحاديث، ما قال: بشرط أن يكون حيًّا، ما قال النبيُّ: إذا كان حيًّا، أو بشرط أن يكون حيًّا.

س: الأذان والإقامة في أذن الصَّبي؟

ج: ورد فيها حديث صحَّحه الترمذي وجماعة: أنه يُؤذن في أذن الصبي، وجاء في بعض الأحاديث الأخرى أنه يُقام في الأذن الأخرى، فمَن فعل فلا بأس، عليه أهلُ العلم، إن فعل فلا بأس، وإن ترك فلا بأس.

س: للذكر الأذان؟

ج: للذكر والأنثى.

س: والحلق للذَّكر والأنثى؟

ج: لا، الحلق للذكر فقط، هذا الذي بلغنا.

س: الأفضل الحلق أو بالمقصّ؟

ج: لا، حلق، الحلق أكمل في إزالة الأذى.

س: سنة في حقِّ الذَّكر؟

ج: نعم.

كِتَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ

1374- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ، وَعُمَرُ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1375- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ.

1376- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ، وَفِي رِوَايَةٍ: الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ. أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ.

1377- وَعَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا؛ فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: فَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَإِسْنَادُهَا صَحِيحٌ.

1378- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

1379- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ ﷺ: لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: كتاب الأيمان.

الأيمان جمع يمين، وهي القسم والحلف والألية، قال بعضُهم: وسُميت اليمين يمينًا لأنَّ العرب كانوا في غالب عاداتهم إذا أرادوا أن يحلفوا أخذوا باليمين بالتأكيد، أخذ يمينَه وحلف على كذا وكذا، إذا عاهده على شيءٍ، أو قاسمه على شيءٍ، فسُميت اليمين يمينًا لأخذ الحالف بيمين صاحبه، وهذا محتمل.

المقصود أنَّ اليمين هي الحلف والقسم والألية على شيءٍ، كأن يقول: والله، أو بالله، أو تالله، أو نحو ذلك، وهكذا حلف الجاهلية بآبائهم ونحو ذلك لتأكيد المقام، ثم جاء الشرعُ المطهر بتحريم الأيمان إلا بالله وحده ، وأنه لا يمينَ إلا بالله، وأبطل ما كانت عليه الجاهليةُ من الحلف بالآباء والأنداد والأمهات وغيرهم، وحصر اليمين بالله وحده .

والنذور جمع نذر، وهو ما يُوجبه الإنسانُ على نفسه مما ليس واجبًا شرعًا، قال: نذر كذا، يعني: أوجب على نفسه شيئًا لم يجب عليه لأمرٍ ما: إما لطلب كذا، أو للسَّلامة من كذا، أو نحو ذلك، فينذر إن عافاه الله، أو ردَّ الله غائبه، أو سلم من كذا، أو حصل له كذا، فلله عليه كذا، ولله عليه كذا. يقال له: نذر، وهو الالتزام بالشيء وإجابه على النفس لمصلحةٍ رآها في ذلك، أو دفع شرٍّ رآه في ذلك.

وقد جاءت السنةُ في النَّهي عن النذر، وأنه لا ينبغي النذر، كما يأتي إن شاء الله، وإنما يُستخرج به من البخيل، لكن متى وقع وجب ولزم إذا كان طاعةً لله، كما يأتي في قوله ﷺ: مَن نذر أن يُطيع الله فليُطعه، ومَن نذر أن يعصي الله فلا يعصه.

الحديث الأول حديث ابن عمر: أنَّ النبي ﷺ أدرك عمر في ركبٍ وهو يحلف بأبيه، وقال: إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، مَن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت، وفي لفظٍ: فلا يحلف إلا بالله أو ليصمت.

وحديث أبي هريرة: لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمَّهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون.

وجاء في هذا المعنى حديث ابن عمر أيضًا عند أبي داود والترمذي، وصححه الحاكم بسندٍ جيدٍ عن النبي أنه قال: مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك.

وجاء أيضًا من حديث بريدة عند أبي داود: مَن حلف بالأمانة فليس منا.

وجاء من حديث سعدٍ: مَن حلف فقال في يمينه: واللات والعُزَّى، فليقل: لا إله إلا الله متَّفق عليه.

زاد النَّسائي: وليتفل عن يساره ثلاث مرات، وليتعوَّذ بالله من الشيطان.

كل هذه وما جاء في معناها تدل على تحريم الحلف بغير الله، وأنه لا يجوز للمؤمن أن يحلف بغير الله: لا بأبيه، ولا بأمه، ولا بالأنبياء، ولا بالكعبة، ولا بالأمانة، ولا بالأصنام، ولا بغير ذلك، جاء في حديث عبدالرحمن بن سمرة: لا تحلفوا بالطَّواغيت، وما ذاك والله أعلم إلا لأنَّ الحلفَ نوعٌ من التَّعظيم؛ لأنه يُؤكد ما أراد أن يحلف عليه بهذا الحلف، وهو تعظيم للمحلوف به، وأحقّ مَن يعظم هو الله ؛ ولهذا صارت اليمينُ به أولى وأخصّ ، واستقرت الشريعةُ على تحريمها بغيره.

قال ابنُ عبد البر: وأجمع العلماءُ على أنه لا يجوز الحلف بغير الله.

وقد صدق رحمه الله؛ فإنَّ الخلاف في هذا عن بعض الناس خلاف شاذٌّ لا يُلتفت إليه، والأحاديث الصَّحيحة صريحة في ذلك، واضحة في ذلك، وقد كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام يحلفون بآبائهم، وجاء في حديث الوفود: أفلح وأبيه إن صدق، قال العلماءُ: هذا كان على ما جرت عليه العادةُ: أنَّ الحلف بالآباء، فأكَّد المقام بقول: أفلح وأبيه.

وقال بعضُهم: إنه مُحرَّف، وأنَّ الأصل كما قال ابن عبد البر: أفلح والله، وأنَّ هذا غلط من بعض الرواة، والصواب أنه كان جائزًا كما تقدم، وأنَّ هذا اليمين من النبي ﷺ قد جرى على العادة السَّابقة، ثم استقرَّ النَّهي في ذلك، وأنه لا يجوز الحلف بغير الله كائنًا مَن كان.

ومع وضوح هذا الأمر وظهوره تجد الكثير من الناس لا يُبالي بهذا: وأبيك، وحياتك، ولا سيما فيما يقع من المدرسين المصريين؛ لأنه كثير بينهم هذا، وعاشوا عليه، إلا مَن عصم الله ورحمه.

فلا ينبغي لعاقلٍ أن يغترَّ بهذا، ينبغي أن ينتبه، وأن يُنكر هذا على مَن فعله؛ حتى يعلم الجاهلُ أو الغافلُ خطورة هذا الأمر الذي حرَّمه الله ورسوله، وسمَّاه شركًا وكفرًا، وهو من الشرك الأصغر عند أهل العلم، لكن قد يكون أكبر إذا قام بقلبه تعظيم المخلوق مثلما يعظم الله، وأنَّ هذا المخلوق يحلف به لأنه يتصرف في الكون، أو لأنَّ له سرًّا، أو ما يُشبه ذلك عند عُبَّاد القبور وعُبَّاد الصَّالحين.

والحديث الثاني حديث أبي هريرة: يقول النبيُّ ﷺ: يمينك على ما يُصدقك به صاحبك، اليمين على نية المستحلف رواه مسلم.

هذا الحديث يدل على أنَّ التأويل ما ينفع الظالم، وأنَّ المعول على نية المستحلف، فإذا كان لك دعوى على زيدٍ أو عمرٍو، وتأول، لا ينفعه التأويل، اليمين على نية المستحلف الذي حلفه، فإن ادَّعيتَ عليه أنك أقرضته ألفًا، أو بعتَ عليه سلعةً بكذا، فحلف أنه لا صحةَ لهذا وهو كاذب مُتأوِّلًا في يمينه ..... من جهة كذا وكذا، فإنه لا ينفعه التَّأويل، واليمين على نيتك أنت، أنت الذي حلفته بالحقِّ، فتأويله لا ينفعه، ويُعتبر آثمًا، وتُعتبر يمينُه غموسًا، وإن تأوَّل تأويلًا لا وجهَ له، ولا صحةَ له، بخلاف مَن هو مظلوم، أو لا ظالم ولا مظلوم، فله التَّأويل؛ لأنه قد ينفعه من الكذب في التَّأويل مندوحة عن الكذب، مثلما قال إبراهيمُ ﷺ لزوجته سارة: إذا سألك قولي أنك أختي، هذا تأويل، فهي أخته في الإسلام، وهذا يحتاجه الناسُ في الظلم: أن يتأوَّلوا، وقد يحتاج الإنسانُ حتى في غير الظلم؛ للمُجاملة، أو لأسبابٍ أخرى، فالحاصل أنَّ مَن ليس بظالمٍ ينفعه التَّأويل، أما الظالم فلا ينفعه التَّأويل.

والحديث الثالث: حديث عبدالرحمن بن سمرة، يقول النبي ﷺ: إذا حلفت على يمينٍ فرأيت غيرها خيرًا منها فكفِّر عن يمينك وائتِ الذي هو خير.

أصل هذا الحديث في "الصحيحين" عن عبدالرحمن بن سمرة: أنَّ النبي قال: لا تسأل الإمارة؛ فإنَّك إن أُعطيتها عن مسألةٍ وُكِلْتَ إليها، وإن أُعطيتها عن غير مسألةٍ أُعنتَ عليها، وإذا حلفتَ على يمينٍ فرأيت غيرها خيرًا منها فكفِّر عن يمينك، وائتِ الذي هو خير، وفي لفظٍ: وائتِ الذي هو خيرٌ وكفِّر عن يمينك، وفي اللفظ الآخر: فكفِّر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير.

فالروايات جاءت متعددةً، وعند أهل العلم يجوز هذا وهذا؛ يجوز أن يُكفِّر ثم يأتي، ويجوز أن يأتي ثم يُكفِّر؛ لأنَّ الروايات جاءت بهذا وهذا، وكلها صحيحة، فإنَّ له أن يُكفِّر ثم يأتي، وله أن يأتي ثم يُكفِّر.

وجاء في هذا المعنى عدة أحاديث تدل على أنه ينبغي للمؤمن أن يعمل بالأصلح: من حديث عدي بن حاتم، ومن حديث أبي هريرة، ومن حديث عبدالرحمن بن سمرة، ومن حديث أبي موسى.

في حديث أبي موسى عن النبيِّ ﷺ أنه قال: وإني والله لا أحلف على يمينٍ فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفَّرتُ عن يميني وأتيتُ الذي هو خير.

فالسنة للمؤمن إذا حلف على شيءٍ ثم رأى المصلحةَ في نقض اليمين، فإنه ينقضها ويحنث ويعمل بالمصلحة؛ كأن يقول: والله لا أزور فلانًا، ثم رأى المصلحة تقتضي الزيارة، أو والله لا أُكلمه، أو والله لا أُصاهره، أو والله لا آكل طعامه، ثم يرى المصلحةَ في خلاف ذلك، فإنه يحنث؛ يُكفِّر عن يمينه، ولا يلجُ في يمينه، ولا يخفى ما في هذا من المصلحة؛ لأنَّ الإنسان قد يغضب ويقول هذا الكلام: والله لأُطلقنَّ فلانة، والله لا أعيش مع فلانة، وما أشبه ذلك، يقع هذا كثيرًا من الناس، فمن رحمة الله وإحسانه أن شرع الكفَّارة.

والحديث الرابع حديث ابن عمر: أنَّ النبي ﷺ قال: مَن حلف على يمينٍ فقال: إن شاء الله، فلا حنثَ عليه.

هذا يدل على أنَّ الإنسان إذا حلف واستثنى فإنه لا تلزمه الكفَّارة، إذا قال: والله إن شاء الله لا أزور فلانًا، والله إن شاء الله لا أُكلم فلانًا، والله إن شاء الله لا آكل طعامه، فإنه إذا أكل فلا كفَّارة عليه؛ لأنه استثنى قال: إن شاء الله، فلما أكل عُلم أنَّ الله ما شاء هذا الشيء.

وهكذا قوله ﷺ: لا ومُقلب القلوب، قول عبدالله بن عمر: كانت يمينُ النبي ﷺ: لا ومقلب القلوب، هذا يدل على أنَّ اليمين لا تتعين بلفظ: "الله"، أو بلفظ: "الرحمن"، بل تجوز بكل اسمٍ من أسماء الله: والله، والرحمن، وربي، ومقلب القلوب، وعالم الغيب والشَّهادة، وعزة الله. كل هذا جائز، إذا حلف بالله أو بصفةٍ من صفاته كفى. والله أعلم.

س: حديث ابن عمر: مَن حلف على يمينٍ صحيح؟

ج: نعم، لا بأس به.

س: يجوز الحلف بالقرآن؟

ج: نعم، القرآن كلام الله.

س: ................؟

ج: يُبين لهم، يُبين لهم، إذا بعدوا هذا محل البحث، إذا بعدوا عن محلات الجمع، إذا بعدوا فلا جمعةَ عليهم، بعض العلماء ذكروا الفرسخ، يعني: ساعة ونصف تقريبًا عن محلِّه.

س: في الوقت الحاضر في كل محلٍّ جمعة؟

ج: على كل حالٍ، إذا رأيتهم انصحهم وعلِّمهم.

س: لكن كثيرًا [من] الناس وهم خاصَّة يخرجون الجمعة، والحديث الذي قلنا: ترك ثلاث جمع؟

ج: هذا بغير عذرٍ.

س: فقط هذا ما هو عذر، أحسن الله عملك؟

ج: السَّفر عذر.

1380- وَعَنْ عبدالله بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْكَبَائِرُ؟ ... فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؟ قَالَ: الَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

1381- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225]

قَالَتْ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ، بَلَى وَاللَّهِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَوْرَدَهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا.

1382- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ لِلَّهِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ اسْمًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَسَاقَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ الْأَسْمَاءَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ سَرْدَهَا إِدْرَاجٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ.

1383- وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

1384- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّذْرِ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أنَّ أعرابيًّا سأل النبيَّ ﷺ عن الكبائر، فذكر الحديث، وذكر فيه اليمين الغموس. الحديث، قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس، فهذه من الكبائر العظيمة، وهي كثيرة جدًّا، قد تنازع الناسُ في تعريف الكبيرة، وأحسن ما قيل في ذلك: أن الكبيرة كلّ معصيةٍ جاء فيها حدٌّ في الدنيا، أو وعيدٌ في الآخرة بغضبٍ، أو لعنةٍ، أو نارٍ، أو نحو ذلك.

وقال بعضُهم: كل الذُّنوب كبائر، ولكنها مُتساوية. والصواب أنَّ الذنوب فيها كبائر وصغائر، كما قال : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31].

الحاصل أنَّ اليمين الغموس -هذا الشاهد- من الكبائر، وهي الكاذبة التي يقتطع بها مال أخيه بغير حقٍّ، كما قال النبيُّ ﷺ: اليمين الغموس هي التي يقتطع بها صاحبُها مالَ أخيه بغير حقٍّ، أو دمَ أخيه بغير حقٍّ يعني: يأخذ أشياء بغير حقٍّ.

وسُميت "غموسًا"؛ لأنها تغمسه في الإثم ثم في النار، نسأل الله العافية، يعني: أنها من أسباب دخول النار، ومن أسباب الإثم، فهذا يفيد الحذر من تعاطي الأيمان الكاذبة الفاجرة، في الحديث الصَّحيح يقول ﷺ: لو يُعطى الناسُ بدعواهم لادَّعى ناسٌ دماءَ رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه.

فالواجب على المؤمن أن يتحرى في يمينه، وأن يحذر الكذب، سواء في خصومةٍ أو في غيرها، وفي التأويل مندوحة عن الكذب إذا كان غير ظالمٍ.

وحديث عائشة رضي الله عنها يدل على أنَّ اللَّغو في اليمين قول: لا والله، وبلى والله، الله قال سبحانه: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ الآية [البقرة:225]، فدلَّ ذلك على أنَّ اللغو في اليمين لا مُؤاخذة فيه، بل هو من العفو، بخلاف الأيمان التي تُقصد وتُعقد عن قصدٍ، فهذه هي التي محل المؤاخذة، سواء كانت على مستقبلٍ، أو على ماضٍ، فالماضي ..... هذا فيه ما تقدم من الإثم، والمستقبل عليه أن يحفظها، قال تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89]، أما ما يجري على اللِّسان من غير قصدٍ فهذا هو لغو اليمين، مثل قول الرجل في عرض كلامه: لا والله، وبلى والله، من غير قصد اليمين، ولكن تأتي في الكلام من باب التأكيد، من باب قصد الأيمان.

وهذا هو الذي اشتهر عن الأئمة، كما قالت عائشة، وقاله جماعةٌ من الصحابة والتابعين وغيرهم.

وألحق بذلك بعضُ أهل العلم الأيمانَ التي تصدر عن ظنِّ الصدق، وأنه مصيب، يحسب أنه صادق فيها، فهي بلغو اليمين، كأن يقول: لقد قدم فلانٌ والله، لقد صار كذا وكذا، وهو بانٍ على شيءٍ، وقد بان خلاف ذلك، فهو في هذا لم يتعمد الكذب، وإنما غلط: والله ما عندي في هذا شيء، وهو بانٍ على الأصل أنَّ ما عنده شيئًا، ثم تبين أنَّ عنده شيئًا، فهذا من لغو اليمين، ولا تكون من الغموس؛ لأنه ما تعمد الكذب، ولا أراد الكذب، لكن شبّه عليه: والله رأيت فلانًا، لكن ما رآه، شُبِّه له، ما هو الذي رآه، والله لقد أبرأتك، أو لقد أعطيتُك، أو لقد قضيتُك، أو لقد أقرضتُك، بانٍ على شيءٍ، ثم تبين له خطؤه.

وهذا القول قول جيد أيضًا؛ لأنه لم يتعمد الكذب، فهو في لغو اليمين، وليس عليه كفَّارة ولا إثم الغموس.

الحديث الثالث: حديث أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه قال: إنَّ لله تسعةً وتسعين اسمًا، مَن أحصاها دخل الجنة متفق عليه.

وفي اللفظ الآخر: مَن حفظها دخل الجنة.

وقد ساق الترمذي وابن حبان الأسماء، وساقها غيرُهما، ولكن التَّحقيق أنَّ ذكرها إدراجٌ من بعض الرواة، وليس من النبي ﷺ؛ فالنبي ﷺ لم يُفسرها، وإنما أدرجها بعضُ الرواة، كأنه جمعها من الآيات ومن بعض الأحاديث وأدرجها؛ ولهذا قال المؤلفُ: والتَّحقيق أن سردها إدراجٌ من بعض الرواة. يعني: ليس من كلام النبي ﷺ، وهذا هو المحفوظ الذي قاله الأئمةُ: أن ذكر الأسماء إدراجٌ في الرواية، وليس من الرواية.

ومَن تأمَّل الكتاب والسنة تحصل له هذه الأسماء وزيادة، ولعلَّ الحكمة في ذلك والله أعلم: أن يُعنى بها المؤمن، وأن يتتبعها ويعتني بها ويتدبرها ويتعقَّلها ويتعقل معانيها، بخلاف لو ذُكرت فإنه قد يقتصر عليها فقط.

فالصَّحيح أنَّ المراد أنَّ هناك تسعةً وتسعين اسمًا، وليست كل الأسماء، بل لله أسماء أخرى؛ ولذلك إذا تتبعت القرآن والسنة وجدت أشياء زائدةً على هذا العدد، هذا هو التحقيق، وهذا هو الصواب الذي عليه أهلُ العلم: أن المراد بذلك أنَّ هذه ..... خاصة تسعة وتسعين، وليست كل الأسماء، ليست هذه الأسماء كلها، بل له أسماء أخرى ﷺ.

وأما قول ابن حزم: أنَّ هذا الحصر يجب ألا يُزاد عليه. وهم وغلط؛ لأنَّ الرسول ما قال: ليس لله إلا تسعة وتسعون اسمًا، قال: إنَّ لله تسعًا وتسعين اسمًا، فإثباتها لا ينفي غيرها، بخلاف لو قال: إنه ليس لله إلا هذا، هو محل الحصر، لكنه قال: إنَّ لله تسعًا وتسعين اسمًا، وكما في حديث ابن مسعودٍ : أسألك بكل اسمٍ هو لك، سميتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك.

فهذا يدل على أنَّ هناك أسماء ليست داخلةً في هذا، والإحصاء والحفظ يتضمن تدبر المعاني والعمل.

وقال بعضُهم: مَن حفظها دخل الجنة؛ لأنَّ حفظها من أسباب دخول الجنة، مطلق الحفظ.

وقال بعضُهم: مَن أحصاها يعني: تدبر معانيها وتعقلها وعمل بمُقتضاها. وهذا هو الأوجه والأقرب والله أعلم: أن المراد بالحفظ والإحصاء العناية بها، وتدبر معانيها، والعمل بمقتضى ذلك؛ حتى يكون له في ذلك فضل العمل، وشرف العمل، فيأخذ من الرحمن والرحيم والعليم: الإيمان بأنَّ هذه الصِّفات [لله] ، والثناء عليه بذلك، ثم التأسي به فيما يجوز، التأسي به من رحمة العباد، والإحسان إلى الفقراء والمحاويج، كذلك ما يتعلق بكونه شديد العقاب، والجبار، خوفه ، والحذر من معاصيه وسيئاته.

فيكون من تدبر الأسماء: الاستفادة من معانيها بترك ما حرَّم الله، وفعل ما أوجب الله، والوقوف عند حدودها؛ تعظيمًا لهذه الأسماء التي اشتملت على المعاني العظيمة الزاجرة عن المعاصي، والمرغبة في الخير، فالعفو والرحمن والرحيم فيها الرجاء، وشديد العقاب وما جاء في معنى هذا الاسم فيه الخوف والتحذير.

فالمؤمن هكذا يكون: بين الرجاء والخوف، وبين تأمل هذه المعاني والسعي فيما يُسبب فوزه بمقتضاها من رحمة الله وإحسانه إليه، وإنجائه من النار، وسلامته من غضبه .

الحديث الرابع حديث أسامة بن زيد: مَن صُنِعَ إليه معروفٌ فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا فقد أبلغ في الثناء، هذا فيه حثٌّ على المقابلة على المعروف بالكلام الطيب، وأنَّ هذا من الجزاء الحسن، ومن هذا الحديث الصحيح: مَن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تُكافئوه فادعوا له، حديث ابن عمر رواه أبو داود والنَّسائي وغيرهما بسندٍ حسنٍ.

هذا فيه الدلالة على أنه ينبغي للمؤمن أن يُكافئ على الكلام الطيب، على المعروف بالكلام الطيب، والمعروف قد يكون مالًا، وقد يكون تفريج كربةٍ بعملٍ آخر، وقد يكون مساعدةً في الخير، وقد يكون غير ذلك، المعروف يتنوع، فالسنة لمن صُنع إليه معروف: من أرضٍ، أو هديةٍ، أو صدقةٍ، أو تفريج كربةٍ، أو شفاعةٍ في ظلامةٍ، أو غير ذلك أن يُكافئه بالكلام الطيب، والفعل الطيب، أو بالدعاء، هكذا المؤمن يكون كريمًا، لا لئيمًا، يُقابل على الحسنات بالكلام الطيب والفعل الطيب، ويُجازي على المعروف بالمعروف، وأقلّ ذلك الكلام الطيب والدعاء إذا لم يجد المكافأة الأخرى.

والحديث الخامس: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في النَّهي عن النَّذر، قال: لا تنذروا؛ فإنَّ النَّذر لا يرد من قدر الله شيئًا، وإنما يُستخرج به من البخيل.

الحديث هذا الصحيح يدل على أنه لا ينبغي النَّذر؛ لأنه يُكلف الإنسان أشياء قد تُتعبه، وقد تُعجزه؛ ولهذا قال: وإنما يُستخرج به من البخيل، البخيل يضعف عن الصَّدقات والإحسان والصيام والصَّلوات ونحو ذلك، المتنفلة، لكن يُلزم نفسه بالنذر؛ حتى يقوم بهذا الشيء، فلا ينبغي له ذلك.

وأما حمله على نذر الشَّرط فلا وجهَ له، الحديث عامّ: لا تنذروا، في الحديث نهى عن النَّذر وقال: إنه لا يأتي بخيرٍ، حتى في غير المجازاة: ينذر أن يصوم كذا، أو يُصلي كذا، قد يشقّ على نفسه أيضًا، لكن مَن نذر نظرت في أمره: فإن كان نذره طاعةً أمرته بالوفاء، وإن كان معصيةً نهيته عن الوفاء، وإن كان مُباحًا خيَّرته: إن شاء وفى، وإن شاء كفَّر عن يمينه كفَّارة النَّذر، كفَّارة يمينٍ، كما يأتي، يقول ﷺ: مَن نذر أن يُطيع الله فليُطعه، ومَن نذر أن يعصي الله فلا يعصه رواه البخاري من حديث عائشة، لكن هو أولًا لا ينبغي له أن ينذر، ويُنهى عن النَّذر، ولكن متى وقعت وهو طاعة شُرع له الوفاء؛ لقوله سبحانه: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7]؛ ولقوله ﷺ: مَن نذر أن يُطيع الله فليُطعه، فالله مدح الموفين، يعني: في نذور الطَّاعات، والمدح بالوفاء لا يلزم منه مدح الابتداء؛ ولهذا النبي نهى عن الابتداء، لكن متى كان النَّذر طاعةً وقربةً فلزمه الوفاء بذلك، وأما إن كان معصيةً فإنه لا يُوفي بذلك، وهل تلزمه كفَّارة يمينٍ؟ يأتي البحثُ في هذا إن شاء الله.

وفَّق الله الجميع.

...........

س: الحلف على شخصٍ: والله تأكل، والله تشرب؟

ج: هذا مقصود.

س: فيه كفَّارة؟

ج: فيه كفَّارة إذا حنث.

................

1385- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ: إِذَا لَمْ يُسَمّ، وَصَحَّحَهُ.

1386- وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَا يُطِيقُهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنَّ الْحُفَّاظَ رَجَّحُوا وَقْفَهُ.

1387- وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ.

1388- وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ: لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ.

1389- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَافِيَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

1390- وَلِلْخَمْسَةِ: فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، مُرْهَا فَلْتَخْتَمِرْ، وَلْتَرْكَبْ، وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.

الشيخ: حديث عقبة بن عامر الجهني : أن النبي ﷺ قال: كفَّارة النذر كفَّارة يمينٍ رواه مسلم، وزاد الترمذيُّ رحمه الله: إذا لم يُسمّ، وصححه.

ولأبي داود من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبيَّ ﷺ [قال]: مَن نذر نذرًا لم يُسمِّه فكفَّارته كفَّارة يمينٍ، ومَن نذر معصيةً فكفَّارته كفَّارة يمينٍ، ومَن نذر نذرًا لا يُطيقه فكفَّارته كفَّارة يمينٍ، وإسناده صحيح، إلا أنَّ الحفَّاظ رجَّحوا وقفه.

هذان الحديثان: حديث عقبة وحديث ابن عباسٍ، كلاهما دلَّ على فوائد:

منها أن النذر حكمه حكم اليمين إذا لم يُسمَّ، فرواية إذا لم يُسمّ مقيد لإطلاق رواية مسلم؛ لأنَّ رواية مسلم مُطلقة، قيَّدتها رواية الترمذي، ورواية أبي داود من حديث ابن عباسٍ: إذا نذر نذرًا لم يُسمه فإنَّ كفَّارته كفَّارة يمينٍ، إذا قال: لله عليه نذر، ولم يُسمِّ شيئًا؛ فإنه يُكفر كفَّارة يمينٍ.

وهكذا نذر المعصية كفَّارته كفَّارة يمينٍ، وهكذا النَّذر الذي لا يُطيقه، كما في حديث أخت عقبة: أنها نذرت أن تمشي لبيت الله حافيةً، ومَن نذر أن يقف في الشَّمس صائمًا إلى الليل، أو ما أشبه ذلك، كما في قصة أبي إسرائيل لما نذر أن يصوم، وأن يقف في الشمس، وألا يستظلّ، وألا يتكلم، أمره النبيُّ ﷺ أن يستظلَّ، وأن يتكلم، وأن يُتم صومه.

فالمقصود أنَّ النذور أنواع، فالنَّذر الذي يُسمَّى هو على ما سمَّاه، نُظر فيه: فإن كان طاعةً أُمِر بالوفاء، كما في حديث عائشة رضي الله عنها: مَن نذر أن يُطيع الله فليُطعه، ومَن نذر أن يعصي الله فلا يعصه رواه البخاري.

وقد اختصره المؤلفُ هنا، وذكر الشطر الثاني: المعصية، ولم يذكر الشطر الأول، وكان ينبغي للمؤلف أن يذكره تامًّا: مَن نذر أن يُطيع الله فليُطعه، ومَن نذر أن يعصي الله فلا يعصه خرجه البخاري رحمه الله، وهو حديث عظيم، فإذا سمَّى طاعةً وجب عليه الوفاء، كأن يقول: لله عليه أن يصوم كذا، أو يتصدق بكذا، أو يُصلي كذا، فإذا نذر نذرًا يشتمل على طاعةٍ، لا يُخالف شرع الله، فإنه يفي بذلك، فإذا كانت الطاعةُ نذرها على وجهٍ لا يُوافق الشرع: كأن ينذر صوم الأبد، أو صوم السنة كاملة، هذا نذر يُخالف الشَّرع، فعليه كفَّارة يمينٍ؛ لأنَّ السنة ألا يصوم الدهر، وألا يُتابع الصوم، فإن كان ولا بدَّ فليصم يومًا ويُفطر يومًا، هذا أفضل الصيام؛ صيام داود.

وكذلك إذا نذر نذرًا لم يسمّ كفَّارته كفَّارة يمينٍ، وإذا نذر نذرًا سمَّاه، لكنه في اللّجاج والغضب، لا بقصد القربة، فإنه يُكفر كفَّارة يمينٍ أيضًا؛ لأنه ليس المقصود التَّقرب، كأن يقول: لله عليه أن يصوم كذا إن كلَّم فلانًا، لله عليه أن يتصدق بماله إن زار فلانًا، أو إن زوج فلانًا، أو ما أشبه ذلك، فقد أفتى أصحابُ النبي ﷺ في مثل هذا بأنه ليس قربةً، وليس داخلًا في حديث عائشة: مَن نذر أن يُطيع الله فليُطعه، بل هو نذر اللّجاج والغضب، نذر يريد منه أن يحمل نفسه على شيءٍ من تصديقٍ أو تكذيبٍ أو حثٍّ أو منعٍ، فله حكم الأيمان، لا حكم الطاعات.

فإذا قال: لله عليَّ نذر بكذا وكذا: بألف درهم، بمئة ألف، بمالي كله، إن كلَّمتُ فلانًا، أو إن تزوجتُ فلانة، أو إن طلَّقتُ فلانة، أو إن زرتُ فلانًا، هذا كله يُسمَّى: نذر اللّجاج والغضب؛ لأنه في الغالب يقع من الغضب والملاجة والمخاصمة، فهذا فيه كفَّارة يمينٍ، وإن نفذ فلا كفَّارة عليه، لو قال: لله مالي صدقة إن كلمتُ فلانًا، فكلَّمه وتصدق بماله، ما عليه كفَّارة يمين، لكن لا يلزمه ذلك.

وهناك نذر المعصية، كأن يقول: لله عليه أن يشرب الخمر، أو لله عليه أن يقتل فلانًا، أو لله عليه أن يسبَّ فلانًا، فهذا نذر معصيةٍ فلا يفعله، وعليه كفَّارة يمينٍ كما في حديث ابن عباسٍ، وبقي قسمٌ آخر.

وحديث ابن عباسٍ هذا صحيح، فإنه رواه أبو داود بإسنادٍ جيدٍ، رجاله رجال الصَّحيحين، مرفوعًا، رفعه طلحة بن يحيى الأنصاري، وهو ثقة، من رجال الشَّيخين، ووقفه وكيع وجماعة.

والقاعدة التي درج عليها أئمةُ الحديث المحققون: أنَّ الرافع مُقدم، وأنه إذا رفع الثِّقةُ قُدم على مَن وقفه، وإذا وصله الثقةُ قُدم على مَن أرسله. هذه هي القاعدة التي سبق لكم بيانها في كتاب العراقي رحمه الله، كما نقله عن ابن الصلاح، وهو قول الأئمة المحققين: أن الواصل مُقدم على مَن أرسل، والرافع مُقدم على مَن وقف.

وتقدم قول الحافظ في "النخبة": "وزيادة راويهما مقبولة ما لم تقع منافيةً لمن هو أوثق"، فالرافع مُقدم، وهو ثقة، ويكون حديثُ ابن عباسٍ مرفوعًا وصحيحًا، دالًّا على ما اشتمل عليه من أنَّ النَّذر الذي لم يُسمَّ فيه كفَّارة يمينٍ، ونذر المعصية فيه كفَّارة يمينٍ، والنَّذر الذي لا يُطاق فيه كفَّارة يمينٍ.

فالأقسام ستة:

نذر طاعةٍ يُوفى به.

ونذر معصيةٍ لا يُوفى به، وفيه كفَّارة يمينٍ.

ونذر مكروه لا يُوفى به، وفيه كفَّارة يمينٍ، فإن أوفى به فلا كفَّارة عليه.

ونذر مباح، كأن يقول: لله عليه أن يأكل هذا الطعام، أو يبيت في منزله الليل، هذا مباح؛ إن شاء فعل، وإن شاء كفَّر كفَّارة يمينٍ.

ونذر اللّجاج والغضب كما تقدم، إن كفَّر أجزأه ذلك، حكمه حكم النذر المباح والمكروه؛ إذا كفَّر أجزأه ذلك، ولا يلزمه المضي في ذلك؛ لأنه في الغالب يُقدم على أشياء غريبةٍ، وأشياء مُستنكرة، وأشياء تضره بسبب الغضب، بسبب النزاع.

وهكذا النَّذر النوع السادس: وهو ما لا يُطاق، فيه كفَّارة يمينٍ، كأن يقول: لله عليه أن يحمل هذا الحديد، وهو لا يُطيقه، أو لله عليه أن يمشي إلى مكة حافيًا، وهو بعيد: من نجد، من خراسان، من مصر، من كذا، من محلات بعيدة، يشقّ عليه المشي ولا يُطيقه، وما أشبه، كما في حديث ابن عباسٍ، وكما في قصة أخت عقبة: أنها نذرت أن تمشي إلى بيت الله حافيةً، فقال النبيُّ ﷺ: مرها فلتركب ولتصم ثلاثة أيام، وفي اللفظ الآخر: إنَّ الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، مرها فلتختمر ولتركب، كانت نذرت أن تمشي حافيةً وألا تختمر، فأُمرت بالخمار والركوب والكفَّارة.

وروى أبو داود عن ابن عباسٍ : أنه سُئل عن امرأةٍ نذرت أن تمشي حافيةً، فقال: لتركب ولتُكفِّر عن يمينها.

فهذا هو المعتمد في هذه الأنواع والأقسام من النُّذور، وتقدم أنَّ النذر مكروه، وأنه لا ينبغي، النبي نهى عنه وقال: لا تنذروا، مكروه ينبغي تركه، لكن متى وقع ففيه التفصيل، وإلا فينبغي للمؤمن ألا ينذر؛ لأنَّ النذر معناه إلزام النفس وإكراهها على أشياء قد تضعف عنها؛ ولهذا قال: وإنما يُستخرج به من البخيل، فالبخيل تصعب عليه الأمور في النَّفقة والبذل؛ فلهذا يستعين بالنَّذر؛ لأنَّ النذر يلزمه.

فالمقصود أن النذر مكروه، وقد زعم بعضُهم تحريمه، ولكن المشهور عند أهل العلم كراهته.

وفصَّل آخرون فقالوا: إن كان نذر طاعةٍ غير مُعلَّقٍ فلا كراهةَ، وإلا كُره.

ولكن ظاهر الحديث المنع، ظاهر الحديث الكراهة مطلقًا: لا تنذروا، ولم يُفصِّل، والحكمة في ذلك والله أعلم: أنه ينبغي للمؤمن أن يأتي بالعبادات عن نفسٍ مختارةٍ، عن رغبةٍ، لا عن إكراهٍ من نذرٍ وغيره، بل يختارها ويميل إليها ويفعلها عن رغبةٍ وعن اختيارٍ، لا عن نذرٍ.

ثم أيضًا أمر آخر: وهو أن بعض الجهلة قد يظن أن النذر ينفعه، وأنه يرد من قدر الله شيئًا، أو أنه يُسبب الشِّفاء، قد يظن هذا بعضُ العامَّة، فنهى النبيُّ عن ذلك قطعًا لهذا الظنِّ؛ وحسمًا لهذه المادة التي قد يظنّها الجهال فينذرون: إن شفا الله مريضي صار كذا، وإن ردَّ الله غائبي صار كذا، يحسبون أنَّ هذا النذر له أثر في ذلك، وليس الأمر كذلك، والله أعلم.

س: ..............؟

ج: جاء في روايةٍ عند أحمد: "تهدي بدنة"، لكنها رواية معلولة؛ لأنها من رواية قتادة عن عكرمة، وهو مدلس، وقد عنعن، وأيضًا مخالفة للأصول، فإنَّ الأصول في النُّذور إنما هي الكفَّارات -كفارة الأيمان- ما للبدنة دخل في الأصول، وإنما البدنة في أمور الهدايا وما يتعلق بالحجِّ والعمرة، ليس لها دخلٌ في الأيمان والنُّذور، المقصود أنه شاذٌّ ضعيف.

س: .................؟

ج: لعلها كانت فقيرةً لها؛ ولهذا أمرها بالصيام، وإلا فالأصل التَّخيير، لعلَّ أخت عقبة كانت فقيرةً؛ ولهذا أُمرت بالصيام.

س: مَن نذر معصيةً وفعل الكفَّارة عليه معصية؟

ج: لا، إذا فعلها عليه التَّوبة، ولا كفَّارة عليه، لكن عليه التَّوبة.

س: النَّذر المكروه؟

ج: مثل: قال: لله عليه أنه لا يُصلي راتبةَ الظهر، ولا راتبة الفجر، هذا نذر مكروه، فيُكفر عن يمينه ويُصلي الراتبة، وإن لم يُصلِّ فلا شيء عليه؛ لأنها نافلة.

..........

س: مَن نذر أن يُصلي في مكانٍ ولم يستطع أن يُصلي فيه؟

ج: لا يلزمه إلا إذا كان أحد المساجد الثلاثة: إن نذر أن يُصلي في المسجد الحرام، أو مسجد النبي ﷺ، أو المسجد الأقصى؛ يلزمه إن استطاع، وإذا ما استطاع يبقى مُعلَّقًا كالدَّين، أما بقية المساجد ما يلزمه، لكن إن نذر في المسجد الأقصى، أو في مسجد المدينة، وصلَّى في المسجد الحرام كفى عنه، إذا كان صلَّى في الأفضل كفى عن المفضول.

س: رواية قتادة في صحيح البخاري؟

ج: التي في "الصحيحين" محمولة على السماع: قتادة والأعمش.

س: ...............؟

ج: ثقة يُخبر بخبرٍ، وناس نسوها أو ضيَّعوها، ضيع الزيادة، وهو ثقة.

س: ..............؟

ج: هم ما كذبوه، هم سكتوا، وهو بين الزيادة التي ما ذكروها، ما قالوا: إنه أخطأ، وأنَّ ابن عباس قال: لا، هذا من كلامي، سكتوا ..... جاءك ثلاث كلهم ثقات؛ واحد قال لك: إني رأيتُ فلانًا قدم من السفر بعيني. وقال الآخران: ما رأيناه، أيُّهم تقبل؟

.................

1391- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَالَ: اقْضِهِ عَنْهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1392- وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ يُعْبَدُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَهُوَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.

1393- وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ كَرْدَمٍ عِنْدَ أَحْمَدَ.

1394- وَعَنْ جَابِرٍ : أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ: صَلِّ هَاهُنَا. فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: صَلِّ هَاهُنَا. فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: شَأْنُكَ إِذًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

1395- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِد الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

1396- وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَ: فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ: فَاعْتَكَفَ لَيْلَةً.

الشيخ: هذه الأحاديث الخمسة كلها تتعلق بالنذر.

حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن سعدًا استفتى، سعد بن عبادة الخزرجي، سيد الخزرج ، كان أبوه عبادة وجدُّه دليم من سادات الخزرج، وكان يُنادى على بيوتهم كل ليلةٍ: مَن أراد الطعامَ واللحمَ فليأتِ. تُنادى الضيوف، وهم من السَّادات الكبار رضي الله عنه وأرضاه، أما عبادة ودليم فكانا في الجاهلية.

المقصود أنَّ سعدًا هو سيد الخزرج في زمانه ، استفتى النبيَّ ﷺ لما ماتت أمُّه -أمه تُوفيت في عهد النبيِّ ﷺ، وصلَّى النبيُّ على قبرها- في نذرٍ كان عليها، فقال النبيُّ: أوفِ بنذرها.

هذا يدل على أنَّ الإنسان إذا نذر نذرًا وتُوفي قبل أن يقضيه يُوفى به: إذا نذرت صدقةً، أو حجًّا، أو عمرةً، فإنه يُوفى بذلك، قال: أوفِ بنذرها.

وفي الحديث الصحيح -حديث عائشة- مَن مات وعليه صيام صام عنه وليُّه.

وفي الأحاديث الأخرى أن رجلًا قال: يا رسول الله، إنَّ أمي نذرت أن تحجَّ فلم تحجّ حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم.

وفي اللفظ الآخر قال: نذرت أن تصوم شهرين، وفي بعضها قال: تصوم شهرًا، أفأصوم عنها؟ قال النبيُّ: نعم.

وفي بعضها: أرأيت لو كان على أمك دَينٌ؟ اقضوا الله، فالله أحقّ بالوفاء، فيكون شاهدًا لحديث ابن عباسٍ هذا، وهو في معناه.

وذكر الشارحُ عن النَّسائي أنه روى عن سعدٍ أنه سأل النبيَّ ﷺ أن يتصدق عن أمِّه، قال: نعم، قال: أي الصَّدقة أفضل؟ قال: سقي الماء.

فهذا يدل على فضل سقي الماء، وأنَّ المتصدق يتحرى ما هو الأفضل، وهذا والله أعلم عند الحاجة إليه، وقد تكون هناك حاجات أخرى غير سقي الماء، فينظر المتصدق ما هو الأفضل، وما هو الأنفع للناس فيفعل، فإذا كان في محلٍّ فيه حاجة للماء كان سقيُ الماء أفضل ما يكون، وإن كان في محلٍّ وهم في حاجةٍ [إلى] تعمير المسجد، في حاجة إلى طعامٍ، في حاجة إلى غير ذلك، فعل ما هو اللائق بالمقام.

وفي الحديث الآخر لما سُئل: أي الصَّدقة أفضل؟ قال: أن تصدّق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر، فأخبره بالوقت المناسب بالصَّدقة عليه الصلاة والسلام.

فالمؤمن يتحرى وينظر ما هو الأنفع للناس، وما هو الأكثر نفعًا للأمة في دينها ودنياها فيفعل ما يتيسر له من ذلك، وسقي الماء لا شكَّ أنه من أفضل القُربات.

ولم يتعرض الشارحُ لإسناد النَّسائي، ولم أقف عليه، فينبغي أن يطلب وينظر في سنده.

والحديث الثاني: حديث ثابت بن الضحاك .

ثم قبل ذلك هذا أيضًا يدخل في برِّ الوالدين بعد أن يُوليا، كما جاء في حديث أبي أسيد السَّاعدي: أن رجلًا قال: يا رسول الله، هل بقي من برِّ أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال النبيُّ: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، فقضاء النذر الذي نذراه هو من إنفاذ عهدهما بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا تُوصل إلا بهما كأبيهما وأمِّهما وأعمامهما وأخوالهما ونحو ذلك.

الحديث الثاني: حديث ثابت بن الضَّحاك الأنصاري : أنَّ رجلًا سأل رسولَ الله قال: يا رسول الله، إني نذرتُ أن أنحر إبلًا ببوانة. بوانة قيل: إنه موضع حول ينبع. وقيل: أنها في أسفل مكة. فالنبي ﷺ سأله لما قال: إنه نذر خشي أن يكون هذا على طريق أهل الجاهلية فاستفصل، قال: كان فيها عيدٌ من أعيادهم؟ قال: لا، فقال: هل كان فيها وثنٌ من أوثان الجاهلية؟ قال: لا، قال: أوفِ بنذرك.

هذا يدل على أنه لا بأس أن ينذر الإنسانُ في محلٍّ معينٍ؛ لأنَّ فيه فقراء كثر، أو فيه أقارب له، أو لأسبابٍ أخرى، ما لم تكن أسبابًا جاهليةً: كإحياء أعياد الجاهلية، أو تأسٍّ بالجاهلية في أوثانهم، أو غير ذلك، ما دام المقصد صالحًا: كأقارب له هناك، أو فقراء هناك، أو لأسبابٍ شرعيةٍ هناك، فلا بأس؛ ولهذا قال: أوفِ بنذرك، ثم قال: فإنه لا وفاءَ لنذرٍ في معصية الله، ولا في قطيعة رحمٍ، ولا فيما لا يملك ابن آدم.

هذا يدل على أنه [إذا] كان النَّذر يتضمن المعصية لا يُوفى به، أو قطيعة رحم لا يُوفى به، أو فيه تصرف في أملاك الناس لا يُوفى به.

وهو حديث صحيح، رواه أبو داود، وإسناده على شرط الشَّيخين كما قال الشيخ محمد رحمه الله في كتاب "التوحيد": وإسناده على شرطهما.

قال المؤلفُ هنا: وإسناده صحيح. وهو كذلك، وله شاهد من حديث كردم عند أحمد في "مسنده" رحمه الله.

المقصود أنَّ هذا الحديث يدل على أنه لا بأس بالوفاء بالنُّذور في المحلات التي يُعينها النَّاذر، إذا كان المحلُّ ما فيه محذور شرعًا، وأنَّ الوفاء بنذرٍ يتضمن معصيةً أو قطيعة رحمٍ لا يجوز، لكن فيه كفَّارة يمينٍ كما تقدم في حديث ابن عباسٍ، لا يوف بالمعصية، ولكنه فيه كفَّارة يمينٍ.

وكذلك إذا كان نذره يتضمن تصرفه في ملك الغير؛ يكون نذرًا باطلًا؛ لو قال: لله عليه أو صدقة لله عليه أن يعتق عبد فلانٍ. ما هو له، ليس له، أو يتصدق ببيت فلانٍ، أو نخل فلانٍ، هذا نذر باطل، اللهم إلا أن ينوي أن يشتريه منه وأنه يتصدق ويعتق، هذا له معنى آخر، يعني معناه: أني أتصدق بهذا إن وافق فلانٌ على بيعه عليه، أو إعطائه إياه، أو نحو ذلك، هذا له وجه أن يُقال بلزومه حينئذٍ إذا تم شرطه؛ لأنَّ الحديث يقول ﷺ: مَن نذر أن يُطيع الله فليُطعه يشمله.

أما التَّصرف في ملك الغير بدون إذنه فهذا باطل؛ لأنه تصرف في ملك الغير، وظلم للغير، فلا يصحّ، وهو ظاهر الحديث: ولا فيما لا يملك ابن آدم؛ لأنَّ تصرفه في ملك غيره أمر ممنوع، فاقتصر النَّذر الشَّرعي على ما يتعلق بملكه هو، لكن لو نوى مثلما تقدم: إن باعه فلان، أو وهبه إياه أنه يتصدق به، فالقول أنه في هذه الحالة يُوفي قول قوي ووجيه، ولا أعلم أحدًا تكلم في هذا، ما أذكر أحدًا تكلم في هذا المعنى، ولكنه من حيث القواعد لا مانعَ من ذلك، ويشمله مَن نذر أن يُطيع الله فليُطعه، وقوله ﷺ: الأعمال بالنيات.

والحديث الثالث حديث جابرٍ: أن رجلًا قال: يا رسول الله، إني نذرتُ أن أُصلي في بيت المقدس، فقال: صَلِّ هاهنا، فأعاد عليه فقال: صلِّ هاهنا، فأعاد عليه فقال: شأنك إذًا.

هذا يدل على أنَّ مَن نذر صلاةً في مسجدٍ مفضولٍ كفاه أن يُؤدي الصلاة في المسجد الأفضل، فإذا نذر أن يُصلي في المسجد النبوي، أو في مسجد إيلياء الذي هو القدس، كفاه أن يُصلي في المسجد الحرام؛ لأنه أفضل الثلاثة، فأداؤها في الأفضل يكفي؛ ولهذا قال: صلِّ هاهنا يعني: يكفيك، لا تكلف وتذهب إلى القدس، فصلاته في الأفضل تكفي.

وهكذا لو نذر أن يُصلي في المسجد النبوي كفاه أن يُصلي في المسجد الحرام؛ لأنَّ المسجد الحرام أفضل، وإن صلاه في المسجد النبوي كفى، ولا يلزمه الشخوص إلى القدس.

وهذه المساجد الثلاث لها خصوصية؛ لأنها أفضل المساجد، أما المساجد الأخرى فلا حاجة إلى السفر إليها؛ لأنها لا مزية لها تُوجب السفر إليها؛ ولهذا قال ﷺ في الحديث الآخر -حديث أبي سعيدٍ- لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى.

وفي قوله: شأنك إذًا دلالة على أنه لا مانع لو سافر إلى القدس، لا مانع، لكن كونه يُؤديها في المسجد الحرام كافٍ، أو المسجد النبوي مثلًا كافٍ؛ لأنه أداها في الأفضل، والقضاء في الأفضل أداء للواجب وزيادة، فلا حاجة إلى التَّكلف.

وفي حديث أبي سعيدٍ الدلالة على أنَّ شدَّ الرحال إلى هذه الثلاثة أمر مشروع لفضلها، فلا يشدّ الرحال إلى غيرها من المساجد والبقاع؛ ولهذا في اللفظ الآخر: لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد، وفي اللفظ الآخر: لا تشدوا بالنهي، ومعنى لا تُشدّ بالخبر معناه النَّهي أيضًا، وهو خبر معناه النَّهي، أبلغ في النَّهي، فلا يجوز للمؤمن أن يشدَّ الرحال للتَّقرب إلى الله في بقعةٍ كالمقابر، أو مسجد من مساجد الناس، أو غير ذلك، وإنما تشدّ الرحال إلى هذه الثلاثة.

ولما علم ..... الغفاري أنَّ أبا هريرة شدَّ الرحل إلى الطور قال: لو علمتُ لنهيتُك ..... لمنعتك؛ لأني سمعتُ النبي يقول: لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد يعني: إلى بقعةٍ؛ لأنه قال: إلى مسجدٍ، إلا هذه المساجد الثلاثة، فإذا كانت المساجدُ مع كونها خير بقاع الأرض وأفضل بقاع الأرض لا تشدّ الرحال إليها إلا إلى هذه الثلاثة، فالبقاع الأخرى من باب أولى: كالمقابر، يشدّ الرحلَ إلى مقبرة فلان، أو المحل الذي جلس فيه فلان للتَّقرب، أو الطور الذي نادى الله عليه موسى، كل هذا ممنوع؛ لأنه داخل في النهي.

فهذا هو الصحيح، وهو الذي قال به أبو محمد الجويني وجماعة من السلف، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله وجماعة.

وقال آخرون من أهل العلم: إن المعنى نفي الفضيلة فقط، فيجوز شدّ الرحال إلى قبور الصالحين، وإلى مواضع الصالحين. وهذا قول ضعيف ومرجوح، فإن النهي واضح: لا تشدوا برواية مسلم، ولا تشدّ كذلك خبر معناه النهي، فالصواب في هذا المنع.

ثم شدّ الرحال إلى القبور قد يُفضي إلى الغلو فيها؛ فإن الشدَّ إليها لأجل الزيارة الشرعية قد لا يفعل، وإنما يشد الرحال إليها ضعفاء البصيرة وضعفاء العلم، الذين قد يشدون الرحال إليها للتَّقرب هناك في القراءة عندها، والصلاة عندها، والتمسح بها، ونحو ذلك، فمن حكمة الله أن سدَّ الباب، ومنع من هذ الشيء؛ لئلا يقع الغلو والفتنة.

أما الزيارة الشرعية فلا حاجة إلى شدِّ الرحل فيها، يزور القبور في البلاد من غير شدِّ الرحل ويكفي؛ لأن الزيارة الشرعية مقصودها الذكر؛ ذكر الموت، وذكر الآخرة، والاستعداد للآخرة، هذا يكفي في أن يزور قبور بلاده، وليس في حاجة إلى شدِّ الرحل، لكن متى شدَّ الرحل إلى قبور الآخرين فإن هذا قد يُفضي به إلى الغلو وعدم الاكتفاء بالزيارة الشرعية.

الحديث الخامس: حديث عمر في أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلةً، فقال النبي: فأوف بنذرك، احتج العلماء بهذا على صحة النذر من الكافر، وهذا مستثنى؛ فإن الأصل في عبادات الكافر أنها لا تصح؛ لأن شرط العبادة التوحيد، وهم وثنيون، لكن هذا مستثنى، والنذر تقرب، النذر عبادة، فأقره النبي ﷺ وقال: أوفِ بنذرك، لما كان عملًا صالحًا نذر به، وهم يعتادونه في الجاهلية كما يعتادون الحجَّ والعمرة، أقرهم النبيُّ ﷺ وأمرهم بالوفاء.

وقال آخرون: لعله على سبيل الاستحباب. ولكن الأصل هو الأول، وأنه يجب عليه الوفاء بما نذره من الطاعة في هذا، فإذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلةً أو يتصدق بكذا أو يحجَّ يُوفي بنذره كما قال النبيُّ: أوفِ بنذرك.

وفي الرواية الأخرى: فاعتكف ليلة الخبر، أو فاعتكف. أمره النبيُّ أن يعتكف، يحتمل أنه أمر، ويحتمل أنه خبر، المقصود من هذا أنَّ هذا مُستثنى مما ثبت في أعمال الكافرين وحبوطها وعدم صحَّتها حتى يسلموا، وهذا مُستثنى في انعقاد .....، وأنه ينعقد ويبقى، فلما أسلم يُؤمر به؛ لأنه خير نذر به واعتقد أنه قربة في جاهليته، ونذره تقربًا إلى الله فيُؤمر بالوفاء لما أسلم، وهكذا ما يُشبهه: لو نذر أن يتصدق بكذا، أو يحجَّ، أو يعتمر، ثم أسلم يُؤمر بذلك، كما أمر النبيُّ ﷺ عمر بالوفاء بالنذر.

وفَّق الله الجميع.

س: إذا نذر الصلاةَ في غير المساجد الثلاثة؟

ج: لا يلزمه.

س: ماذا يفعل؟

ج: يُصلي في أي مسجدٍ، أو في بيته.

س: يُكفر كفَّارة يمينٍ؟

ج: لا، ما يلزمه كفَّارة يمينٍ، الظاهر أنه ما يلزمه؛ لأنه مُخير في أي محلٍّ صلَّى والحمد لله، المقصود الصلاة، وهي حاصلة.

س: ................؟

ج: لأنَّ المقصود ما هو بمشروعٍ: مقصود السفر إلى غير المساجد الثلاثة، أو مسجد في البلد هذا، ما له مزية تُوجب هذا الشيء، كلها مُتقاربة.

س: ما يُخير بين كفَّارة اليمين أو الصلاة في أحد المساجد الثلاثة؟

ج: لا يلزمه شيء، ظاهر السنة أنه لا يلزمه شيء، يُصلي في أي مسجدٍ والحمد لله، المقصود العبادة فيُؤديها فقط.

س: لو نذر أن يُنفق نفقةً في جهةٍ معينةٍ، وبدا له أنَّ غيرها أولى منها؟

ج: يحتاج تأملًا.

س: سند الحديث: هل بقي عليَّ من برِّ أبوي شيء؟

ج: لا بأس به، جيد.

..............