53 من حديث (أيُّما امرِئ مسلم أَعتق امرأ مسلما..)

كِتَابُ الْعِتْقِ

1433- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا، اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1435- وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ: وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً، كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنَ النَّارِ.

1436- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ، قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَعْلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1437- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ، قُوِّمَ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1438- وَلَهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ، وَاسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ السِّعَايَةَ مُدْرَجَةٌ فِي الْخَبَرِ.

الشيخ: هذه الأحاديث تتعلق بالعتق، والعتق هو تحرير الرقاب، وله فضل عظيم: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ۝ فَكُّ رَقَبَةٍ [البلد:11- 13]، فعتق الرقاب له منزلة عظيمة؛ لما فيه من إخراج النفس من مُشابهة البهائم إلى مُوافقة بني آدم وحرية بني آدم؛ ولهذا جعل اللهُ العتقَ من أسباب العتق من النار، وهو قُربة عظيمة، وجعله الله كفَّارةً لجرائم كثيرةٍ: فجعله كفَّارة للقتل، وكفَّارة للظِّهار، وكفَّارةً للوطء في رمضان، وكفَّارة لليمين.

فعتق الرقاب له شأن عظيم، تُكفر به الخطايا، وتُحطُّ به السَّيئات، وتُعتق به الرِّقاب، فمن هذا قوله ﷺ: أيما امرئٍ مسلمٍ أعتق امرأً مسلمًا استنقذ اللهُ من كل عضوٍ عضوًا من النار، زاد في روايةٍ: حتى فرجه بفرجه.

فهذا يدل على أنَّ إعتاق الرقاب من أعظم القُربات، ومن أسباب عتق العبد من النار، كما أعتقه لله فالله يُعتقه من النار، هذا من جنس ما جاء من القُرب الكثيرة في عتقه من النار، فهو ..... من الإيمان والتوحيد، هذه القربات والطَّاعات كأنواع الذكر، وصيام يوم عرفة، وصيام يوم عاشوراء، والحجّ، والصيام، ونحو ذلك، كلها أسبابٌ للعتق من النار، مضافة إلى وجود الإسلام، ووجود التوحيد، وعدم نواقض الإسلام.

وفي رواية الترمذي أيضًا: مَن أعتق امرأتين مُسلمتين كانتا فكاكَه من النار.

ولكعب بن مرة: أيما امرأةٍ مسلمةٍ أعتقت امرأةً مسلمةً كانت فكاكها من النار.

المقصود أنَّ هذا يدل على شرعية العتق وفضله العظيم، وأنَّ النفس بالنفس؛ مَن أعتق نفسًا أعتقه الله بها من النار، وأنَّ الرقبتين من الإناث تُعادل الرقبةَ من الذكور، كما في حديث أبي أمامة، وحديث كعب بن مرة، وظاهر إطلاق بعض الأحاديث: أنَّ الأمر عامّ، وأنه أيما امرئٍ مسلمٍ أعتق امرأً مسلمًا أو امرأةً مسلمةً كان ذلك من أسباب عتقه من النار، ولكن إذا كانا إناثًا، وكانا ثنتين كان أكمل في العتق، وأقرب في الرجاء، وهكذا المرأة تُقابلها المرأة، فإذا أعتقت رجلًا كان أكمل وأعظم.

وكل هذا يدل على فضل العتق، وأنَّ عتق الرقاب من الرقِّ -رق العبودية- من أسباب عتق الرقاب من عذاب الله يوم القيامة.

والحديث الرابع: حديث أبي ذرٍّ ، أنه قال: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيله.

هذا يدل على أنَّ أفضل الأعمال وخير الأعمال هو الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيل الله، جاء في الرواية الأخرى أنه سُئل: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم أيّ؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم أي؟ قال: حج مبرور خرجه الشيخان أيضًا.

فهذا يدل على فضل الإيمان، وأنه أفضل الأعمال، وتوحيد الله والإخلاص له والإيمان برسوله محمدٍ ﷺ، هذا هو أفضل الأعمال، هو رأس الدين وأساسه، ثم يليه الجهاد في سبيل الله، وإذا أُطلق دخل في الإيمان أيضًا، فالإيمان والجهاد مُستقل وعبادة عظيمة، وهو شعبة من الإيمان، وأصل عظيم من أصول الإيمان، فلا منافاةَ أن يُضمَّ إليه أو يُفرد، فالجهاد من أعظم الشُّعب، من أعظم القربات، من أعظم الطاعات.

وهكذا الصلاة هي شعبة من الإيمان، وهي عبادة مستقلة، وهكذا الصوم، وهكذا الحج، وهكذا الزكاة هي شُعب من الإيمان، ومع ذلك هي عبادات عظيمة مستقلة لها شأنها وفضلها.

قال: فأي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها، كل رقبةٍ تكون أغلى وأنفس لكمال علمها، أو إيمانها، أو تقواها، أو قوتها بين المسلمين، أو غير هذا؛ تكون أنفس في العتق وأفضل، فإعتاق القوي العامل المجاهد أفضل من إعتاق الضَّعيف الذي لا قدرةَ له على نفع المسلمين في المجاهدين، ولا العلم، وإعتاق المرأة المؤمنة النافعة أفضل من إعتاق المرأة العامية الضَّعيفة، وكلٌّ له قدره، وكلٌّ له نصيبه من فضل الله ، كلما كان العتيقُ أفضل في نفسه كان أفضل في العتق، سواء كان رجلًا أو امرأةً.

و..... هذا عند قومٍ الرقاب الأخرى: كالإبل والبقر والغنم في الهدايا والضَّحايا، فأنفسها عند أهلها وأغلاها أفضل في الهدايا والضَّحايا.

وقال آخرون: بل يُراعى في ذلك ما هو أنفع للفقراء من جهة السّمن، وإن كان الغير أغلى من جهة النَّجابة، فالعلة مختلفة؛ فالفقراء في الهدايا والضَّحايا محتاجون للسّمين وكثير اللحم أكثر من حاجتهم للنَّجابة.

وهذا محل نظرٍ؛ فإن نظرت إلى طيب نفس المتبرع فالنَّجابة والأغلى أفضل، يعني: مما حصل في نفسه من بذلها لله وتبرعه بها وطيب نفسه بها، فله أجر ذلك. وإن نظر إلى ما يتعلق بالفقراء وحاجتهم والتمس ما هو سليم، فهو يكون أغلى أيضًا، إذا كان أسمن وأكثر لحمًا فهو في الغالب أيضًا أغلى وأنفس بالنسبة إلى أفراد الجنس الذي يُراد من هذا أيضًا الضَّحايا، فلا منافاةَ، فما كان نجيبًا وعظيمًا في النفوس فهو أغلى وأنفس من جهة طيب النفس به، ومن جهة الثواب عند الله، وتحري المتبرع من الهدايا والضَّحايا السَّمين والذي ينفع أكثر له وجهه أيضًا من هذه الحيثية، ويكون له جزاؤه وفضله بسبب تحريه هذا الشيء.

ولكن حديث أبي ذرٍّ على إطلاقه، فما كان أنفس كان دليلًا على قوة إيمان العبد الذي طاب به وبذله وتقرب به مع غلائه وارتفاع ثمنه؛ رغبةً فيما عند الله ، وهذا يكثر في العبيد، ويظهر في العبيد، وقد يختفي فيما يتعلق بالإبل والبقر والغنم؛ لأنَّ النَّجابة فيها غير مطلوبةٍ، إنما المطلوب فيها سلامتها من الآفات والعيوب، وكونها بعيدةً عن الهزال، فكل شيءٍ له ما يُناسبه.

وقد يُقال في هذا: أنَّ ما يتعلق بالإبل والبقر والغنم يُراعى فيه النَّفاسة المناسبة، وما يتعلق بالرِّقاب يُراعى فيه النَّفاسة المناسبة، والغالب أنه يجتمع الأمران: فالنفس غالٍ، والسَّمين غالٍ، فما كان أغلى من جهة سمنه في الضَّحايا والهدايا ونجابته فهو أفضل، وما كان أغلى من جهة النَّفاسة من الرقيق؛ لنفعه للناس: لعلمه وفضله وجهاده وقوته، أو غير هذا من الخصال التي تنفع الناس كان أفضل.

الحديث الخامس والسادس: حديث عمر وأبي هريرة في عتق الجزء المشاع، يدل الحديثان على أنَّ عتق المشاع يُوجب عتق الجميع، وأنَّ مَن كان له شرك في عبده فأعتقه لزمه عتقُ الجميع إذا كان قادرًا، ولا يجوز التَّبعيض؛ لأنَّ التَّبعيض يضرّ العبد، ولا تتم به المصلحة؛ فلهذا وجب عليه أن يُعتقه كله إذا قدر، فمتى أعتق نصفَه أو رُبعه أو عُشره أو أقلّ أو أكثر لزمه عتقُ الباقي إذا كان له مال يستطيع به ذلك، ويسري عليه العتقُ للجميع، ويُلزم بالثمن، أما إن عجز وليس عنده ما يبلغ ذلك؛ فإنه يعتق منه ما قدر، ويبقى الجزء الآخر رقيقًا، ويكون مُبَعَّضًا، ولكنه يستسعى كما جاء في رواية أبي هريرة: يقوم ويستسعى حتى يُؤدي كالمكاتَب، هذا هو المعتمد.

وأما مَن قال: مُدرجة، فلا وجهَ له، هو حديث صحيح ظاهر في الاتصال وعدم الإدراج، فإن كان عنده مالٌ أعتق ولزمه الجميع، وإن لم يكن عنده مال قُوم عليه وعتق منه ما عتق، واستسعي في الباقي، يعني: استعمل نجَّارًا، حدَّادًا، عاملًا قُوِّم عليه مثلًا: بعشرة آلاف، بعشرين ألفًا، ثم قال: اعمل وأدِّ إلى سيدك.

...........

س: كيف يحصل الرقُّ؟

ج: الأصل في السَّبي استرقاق الكفار، إذا سباهم المسلمون، وقتلوا رجالهم، سبوا الذرية والنساء، وهكذا الأسرى قد يُسترقون إذا رأى وليُّ الأمر استرقاقهم.

س: ولو أسلموا؟

ج: ولو أسلموا، يبقى رقيقًا وهو أسلم.

س: لو أسلم قبل القتل؟

ج: يبقى رقيقًا ولو أسلم، إنما ينفعه هذا إذا أسلم قبل أن يجيء المسلمون.

س: فِكاك؟

ج: الظاهر بالكسر والفتح.

1439- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيُعْتِقَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1440- وَعَنْ سَمُرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَرَجَّحَ جَمْعٌ مِنَ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ.

1441- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةً مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1442- وَعَنْ سَفِينَةَ قَالَ: كُنْتُ مَمْلُوكًا لِأُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: أُعْتِقُكَ وَأَشْتَرِطُ عَلَيْكَ أَنْ تَخْدِمَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَا عِشْتَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ.

1443- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي حَدِيثٍ طويلٍ.

1444- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لَا يُبَاعُ، وَلَا يُوهَبُ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ. وَأَصْلُهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ.

الشيخ: هذا حديث أبي هريرة ، يقول ﷺ: لا يجزي ولدٌ والدَه إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه خرَّجه مسلم.

هذا يدل على أنَّ حقَّ الوالدين عظيم، وأنَّ برَّهما من أهم المهمات؛ ولهذا قرن الله برَّ الوالدين بحقِّه في آيات كثيرات، منها قوله سبحانه: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ الآيات [لقمان:14]، فحقُّهما عظيم لما قاما به من التربية والإحسان والصبر على الأذى؛ فلهذا وجب على الولد أن يبرَّهما، وأن يُحسن إليهما، وأن يسمع ويُطيع لهما في المعروف.

ومن جزائهما إعتاقهما إذا وُجدا رقيقين، فهذا هو الجزاء الكامل: أن يشتريه فيعتقه، هذا جزاء عظيم؛ لأنه خلصه من مشابهة البهائم إلى حرية بني آدم.

وذهب الجمهور إلى أنَّ معنى "فيعتقه" يعني: فيحصل له العتق بذلك، يعني بالشراء، وليس المعنى أنه يعتقه بعد الشراء، بل بمجرد الشراء يعتق بذلك، فالفاء عاطفة على أن يشتريه فيعتقه، أي: فيعتقه بالشراء، هذا هو الذي ذهب إليه الجمهور، وأنه متى ملك عتق، لا يحتاج إلى إعتاقٍ بعد الشراء، بل بمجرد تمام البيع يعتق عليه والده.

وهكذا أشباههم من ذوي الأرحام: كأخيه، وعمه، وخالته، وجدته، وبنته، ونحو ذلك.

وقال الظَّاهرية وجماعة: إنما يعتق بالإعتاق على ظاهر الرواية: "فيعتقه".

ولكن الجمهور على الأول، وأنَّ المراد: يعتق بالشراء، وأنه بمجرد ملكه إياه يعتق عليه بهذا الشراء، ويدل على هذا الحديث الآخر -حديث سمرة- مَن ملك ذا رحمٍ محرمٍ فهو حرٌّ، فجعل العتقَ لمجرد الملك، فهذا يُفسر هذا، ورواية سمرة رواها أحمد وأبو داود والترمذي والنَّسائي وابن ماجه والحاكم وجماعة.

وجزم المؤلفُ هنا بالرفع، ثم ذكر عن جماعةٍ من أهل العلم ترجيح الوقف، وبمُراجعة أسانيد هذا الحديث وما ذكره الحافظُ المزي في "الأطراف" وما ذكره بعضُ الأئمة وغيرهم: كأحمد وأبي داود؛ اتَّضح أن رواية سمرة من طريق قتادة عن الحسن عن سمرة، ومن طريق عاصم ..... عن الحسن عن سمرة، ومعلوم أنَّ سماع الحسن من سمرة في غير حديث العقيقة محل اختلافٍ: ذهب جماعةٌ إلى أنه سمع، وذهب جماعةٌ -وهم الأكثر- إلى أنه لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة، ولم يُصرح بالسماع.

ثم الذي رفع الشكَّ في الرفع هو حماد بن سلمة، ذكر أبو داود قال: فيما أحسب، فلم يجزم بالرفع، وذكر الآخرون -كشعبة وغيره- أنه مرسل من رواية الحسن عن النبيِّ ﷺ، وبعضهم وقفه على الحسن من غير ذكر النبيِّ ﷺ، وبعضهم وقفه على قتادة.

فالحاصل أنَّ في متنه خلافًا: هل هو موقوف على سمرة، أو على قتادة، أو على الحسن؟ ثم هل يُقال: إنه في حكم الرفع؛ لأنَّ مثل هذا لا يقوله التَّابعي من جهة رأيه، ولا يقوله ..... من جهة رأيه؟

والأقرب والله أعلم أنه في حكم المرسل إذا كان من كلام الحسن وقتادة، وهكذا من كلام سمرة؛ لأنَّ هذا لا يُقال من جهة الرأي، ولا يُعلم من جهة الرأي، فهو في الحقيقة في حكم المرفوع إلى النبي ﷺ، ورواية حماد التي قال فيها: أحسب، يُؤيدها المعنى، ويُقويها المعنى، ويتأيد ذلك بحديث أبي هريرة في الوالد، ويتأيد أيضًا بما رواه الحاكم وجماعة، وصحَّحه ابن حزم وآخرون من حديث ابن عمر بنفس حديث سمرة: مَن ملك ذا رحمٍ محرمٍ فهو حرٌّ.

فرواية ابن عمر التي صحَّحها الحاكمُ وابن حجر وجماعة تُؤيد رواية سمرة، وتشدّ منها.

وقد ذكر السَّاعاتي في جمعه لأحاديث "المسند": أنَّ الحاكم صحَّح حديث سمرة، وأقره الذَّهبي على ذلك، وأن الحافظ السيوطي صنَّف في ذلك رسالةً في تصحيح هذا الحديث.

فالحاصل أنَّ هذا الحديث له طرق يشدّ بعضُها بعضًا: منها ما هو موقوف على سمرة، ومنها ما هو موقوف على قتادة، ومنها ما هو موقوف على الحسن، ومنها ما هو مرفوع عن سمرة، كما في رواية حمادٍ. فهذه الطرق التي تعددت تدل على أنَّ الحديث له أصل، وإن كان في رفعه شكٌّ من جهة اللفظ، لكنه مرفوع من جهة المعنى، ولا يُقال من جهة الرأي.

ثم يتأيد من رواية ابن عمر، فيحصل بمجموع هذا، وحديث أبي هريرة، يحصل بمجموع ذلك أنَّ مَن ملك ذا رحمٍ محرمٍ فهو حرٌّ؛ أنه متى ملك أخاه أو أخته أو عمته أو بنته بالهبة أو بالشراء عتق ذلك عليه، هذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم، وهو المعتمد في هذه المسألة، وهو من البر والصِّلة.

الحديث الثالث: حديث عمران بن حصين في قضية الأعبد الذين أوصى بهم سيدهم، فرُفع ذلك للنبيِّ ﷺ، فجزَّأهم أثلاثًا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرقَّ أربعًا، وقال لمالكهم قولًا شديدًا، ذكر النَّسائي أنه قال: لو شهدتُه لما دُفن مع المسلمين يعني وعيد شديد.

ويدل على أنَّ الجور في الوصية والظلم في الوصية أمرٌ لا يجوز، وأنَّ الواجب على المسلم أن يتحرى ما أذن الله فيه، وهو الثلث فأقلّ، وليس له أن يزيد في الوصية ويرفعها فوق الثلث؛ ولهذا أنكر النبيُّ على سعدٍ، قال: الثلث، والثلث كثير.

فالواجب على الموصي، وهكذا المعتق في المرض، والمتصدق في المرض: أن يقف عند الحدِّ الشَّرعي، وهو الثلث، فإنَّ العتق في المرض والصَّدقة في المرض من جنس الوصية، كما يدل عليه هذا الحديث؛ ولأنه الآن قد رأى علامات الموت، ورخصت عليه الدنيا، فهو في هذه الحالة قد يجود بالشيء الكثير؛ لأنه يئس من الدنيا، ورأى أنَّ المال ينتقل إلى غيره، فقد يجود بالكثير، فحصره الشارعُ بالثلث فأقلّ؛ حتى لا يضرَّ الورثة، لكن لو سمحوا بشيءٍ بعد ذلك وهم مُرشدون فلا بأس، كما في إحدى الروايات من حديث أبي أمامة: إنَّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصيةَ لوارثٍ، قال: إلا أن يشاء الورثة، وإسناده لا بأس به.

الحاصل أنَّ الورثة المرشدين إذا أنفذوا الزائدَ على الثلث، أو أنفذوا عطيةً في المرض زائدةً على الثلث، أو لبعض الورثة، فالحق لهم، إن نفذوا ذلك وأجازوه نفذ، لكن هو ليس له أن يفعل ذلك، وليس له أن يُؤذيهم بهذا، بل عليه أن يقتصر على المشروع.

ثم هل هذه التَّجزئة على حسب القيمة، أو على حسب الرؤوس، أو مُراعًى فيها هذا وهذا؟

ظاهر السنة أنه ﷺ راعى فيها تقاربهم؛ لأنه لو دقق في القيمة لربما شقص العتقُ وأضرَّ بالعبيد، فهو ﷺ جزأهم أثلاثًا وقارع بينهم، ثم أعتق الثلث، وهم اثنان، وأرقَّ أربعةً، فهذا هو الواجب في هذه الحال: أن يُقارن بينهم، وإن تفاوتوا في بعض ..... شيئًا يسيرًا، ولكنه يُقارن بينهم، ثم يُقرع بينهم، يُجَزَّؤون حسب الظَّاهر من حالهم تجزئةً تُقارب الصواب، وإن حصل فيها بعض التَّفاوت القليل؛ لأنه يصعب أو يستحيل أن تكون قيمتهم على حدٍّ سواء، فالنبي ﷺ لما جزأهم ثم أقرع يدل على التَّسامح في هذا؛ حتى لا يتبعض الرقُّ، وحتى يحصل العتقُ لاثنين، ويبقى الرقُّ في أربعةٍ، فلا تحصل مضرة على العبيد ولا على الورثة.

الحديث الرابع حديث سفينة : أنَّ أم سلمة أعتقته واشترطت عليه خدمة النبي ﷺ.

وهو حديث جيد لا بأس به، وهو يدل على جواز العتق بالشرط، وأنه لا بأس أن يعتق بالشرط، وزاد أبو داود والحاكم في روايةٍ أنه قال لها: ولو لم تشترطي هذا عليَّ لخدمته ﷺ. وإن لم تشرط عليه رضي الله عن سفينة.

المقصود أنها أعتقته على هذا، فخدم النبيَّ ﷺ وأوفى بما قال رضي الله عنه وأرضاه، وكان رجلًا عظيمًا وقويًّا؛ ولهذا سُمي سفينة؛ لقوته وكثرة ما يحمل.

فلو قال: أنت عتيق بشرط أن تُقيم في بلد كذا، أو أنت عتيق بشرط أن تطلب العلمَ حتى تنجح في كذا وكذا، أو أنت عتيق بشرط أن تخدم والدي حياته، أو ما أشبه هذه الشروط، فلا بأس: المسلمون على شروطهم كما قاله النبي عليه الصلاة والسلام.

والحديث الخامس حديث عائشة: إنما الولاء لمن أعتق، وهو حديث صحيح؛ رواه الشَّيخان من حديث عائشة في قصة بريرة، فإنَّ أصحابها قالوا لعائشة: الولاء لنا. فقال النبيُّ ﷺ: اشتريها وأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق، وخطب الناسَ وبيَّن لهم ذلك عليه الصلاة والسلام، فدلَّ ذلك على أنَّ الولاء لمن أعتق مطلقًا، سواء كان العتق عن كفَّارةٍ أو تبرعٍ أو غير ذلك من أنواع العتق، مَن أعتق فله الولاء، هذا هو الذي بيَّنه النبيُّ وحكم به، وهي قاعدة شرعية ثابتة من هذا الحديث الصحيح، فإذا أعتقه عن كفَّارة الظِّهار، أو كفَّارة القتل، أو كفَّارة الوطء في رمضان، أو عن نذرٍ، أو عن تبرع، كل ذلك يكون له الولاء.

والحديث السادس: حديث ابن عمر عن النبيِّ ﷺ أنه قال: الولاء لُحمة كلُحمة النَّسب، لا يُباع، ولا يُوهب خرجه الشَّافعي رحمه الله، وهو أبو عبدالله محمد بن إدريس الشَّافعي الإمام المشهور المطلبي، أحد الأئمة الأربعة، المتوفى سنة 204 رحمه الله، وقد صحَّحه ابنُ حبان والحاكم.

هذا يدل على أنَّ الولاء لا يُباع، ولا يُوهب، ولا يُشترى، ولا يُجعل مهرًا، ولا غير ذلك من أحكام المال، فالولاء معنًى لا يُباع، ولا يُشترى، بل هو كالنَّسب، فكما أنَّ الإنسان لا يبيع نسبَه من ولده، ولا نسبه من أخيه، ولا نسبه من ابن عمه، ما يُباع، فهكذا الولاء لا يُباع، يبقى للمُعتِق ولعصبته، ما يمكن تخلصهم منه، بل هو لازم لهم، لا يُباع، ولا يُوهب.

ولهذا روى الشَّيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبيَّ ﷺ نهى عن بيع الولاء، وعن هبته. فهذا يُوافق هذا المعنى، وهو أصح؛ لأنه من طريق الشَّيخين، فهو لا يُباع، ولا يُوهَب، يُوافق هذا: الولاء لُحمة كلُحمة النَّسب، واللُّحمة بالفتح والضم، يقال: لحمة، ولحمة، فكما أنَّ لحمة النَّسب -قرابة النسب- لا تُباع، فهكذا قرابة العتق لا تُباع، بل هي باقية في المعتق وعصبته إلى يوم القيامة ما بقوا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه.

بَابُ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ

1445- عَنْ جَابِرٍ : أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عبدالله بِثَمَانِمِئَةِ دِرْهَمٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: فَاحْتَاجَ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِمِئَةِ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهُ وَقَالَ: اقْضِ دَيْنَكَ.

1446- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالثَّلَاثَةِ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

1447- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، وَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

1448- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: يُودَى الْمُكَاتَبُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ دِيَةَ الْحُرِّ، وَبِقَدْرِ مَا رَقَّ مِنْهُ دِيَةَ الْعَبْدِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: باب المدبر والمكاتَب وأم الولد.

المدبر: هو الذي يعتق عن دبرٍ، سُمي مدبرًا لأنَّ عتق علق في دبر الحياة، وهو الموت، كأن يقول: إذا متّ فعبدي فلان حرّ، أو عبيدي أحرار، أو ما أشبه ذلك.

والمكاتَب: هو الذي يشتري نفسَه من سادته بثمنٍ معلومٍ مُقسطٍ، نجومًا، متى أدَّاها عتق، يقال له: مكاتَب؛ لأنَّ البيع يقع بالكتابة بينه وبين السَّادة، والغالب أنه يكون نجومًا، والله جلَّ وعلا قال: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33].

وأم الولد هي التي يطأها سيدها وتحمل منه، هذه يقال لها: أم ولد.

وهذا الباب للثلاثة: للمُدبر، وللمُكاتب، وأم الولد.

والمدبر في حكم الوصية كما تقدم، فإنه معلَّق على الموت، والوصية مُعلَّقة على الموت، فإذا قال: عبدي حرٌّ بعد موتي، أو إذا متّ فهو حرٌّ، مثلما لو قال: ثلثي في كذا، أو ربعي في كذا، أو خمسي في كذا، أو البيت الفلاني وقف إذا متّ، أو الأرض الفلانية كلها وصايا.

وقد ثبت في النصوص ما يدل على أنَّ الوصية حقٌّ، وأنه لا بأس بها، لكن لا تُنفذ إلا بالثلث فأقلّ، كما في حديث سعد: الثلث، والثلث كثير، ويجوز الرجوع فيها؛ لأنها مُعلَّقة، فله أن يرجع عن الوصية قبل أن يموت، وهكذا المدبر حكمه حكمها؛ ولهذا في حديث جابرٍ المذكور هنا: أن النبي ﷺ باع الغلامَ الذي دبَّره الأنصاري وأعطاه الثمن، وجاء فيه عدة روايات في بعضها أنه قال: اقضِ دَينَك، وفي بعضها أنه احتاج فأمره أن يُنفقه، وفي بعضها قال: استمتع به، فإن فضل شيءٌ فجُدْ به على عيالك، فإن فضل شيءٌ فجُدْ به على ذي رحمك، فإن فضل شيءٌ فهكذا وهكذا وهكذا.

الحديث يدل على أنَّ المدبر لا يلزم عتقه، بل هو تحت مشيئة صاحبه: إن شاء أمضاه، وإن شاء تصرف فيه، فالنبي ﷺ تصرف فيه لحاجة الأنصاري إليه؛ فباعه بثمانمئة درهم، وأعطاه المال ليستفيد منه، وأمره أن يقضي دينَه، فلا منافاة بين هذا وهذا: قضاء الدَّين والاستمتاع به، وكونه احتاج، كل هذه المعاني لا مانع منها.

ويُستفاد من مجموع الروايات أنَّ المدبر لا بأس ببيعه، وأنه لا يلزم هذا التَّعليق، ولا تلزم هذه الوصية، ومثلها بقية الوصايا.

والحديث الثاني: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. عمرو هو ابن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص، وجده عبدالله، وجده الآخر عمرو، وجده القريب هو محمد، وهو تابعي، عمرو بن شعيب بن محمد جده الأول، وجده الثاني عبدالله، وجده الثالث عمرو، فالأول -جده الأول- تابعي، والجدَّان الآخران صحابيان، وقد ثبت سماع شعيب من جدِّه عبدالله، فقوله: "عن أبيه شعيب، عن جده" يعني: عبدالله بن عمرو، هذا هو المعتمد عند أهل العلم، وسنده من باب الحسن عند أهل العلم على الصحيح.

وعمرو في نفسه صدوق، أحاديثه من باب الحسن، وقد يُخالف، قد يأتي بغرائب عمرو فلا يُعتمد إذا خالف الثِّقات، لكن متى لم يُخالف الثِّقات فحديثه حسن.

ومما خالف فيه الثقات ما تقدم لكم في نهيه المرأة أن تتصرف في مالها إلا بإذن زوجها، فهو من روايته، ومما انفرد به عمرو: "ليس للمرأة عطية إلا بإذن زوجها"، وتقدم أنَّ هذا شاذٌّ، وأن الأحاديث الصَّحيحة تُخالفه، وتدل على أنَّ المرأة لها التَّصرف الكامل في أموالها إذا كانت رشيدةً، ولها أن تُعطي، ولها أن تُوصي، ولها أن تتصدق من دون إذن الزوج؛ لأدلةٍ كثيرةٍ تقدم ذكرها.

وهنا حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبيَّ ﷺ قال: المكاتَب عبدٌ ما بقي عليه درهم، وهو حديث جيد، ولا بأس به كما قال المؤلف، وهو من رواية إسماعيل بن عياش عن الشَّاميين عن عمرو، وهو دليل على أنَّ المكاتَب ما دام لم يُؤدِّ فهو عبدٌ، فعلى هذا لو مات قبل أن يُؤدي ولو قليلًا فهو عبدٌ، ماله كله لسيده، وهكذا لو قُتل فهو عبدٌ يُضمن بقيمته حتى يُؤدي ما عليه، فإذا أدَّى ما عليه تمت الحريةُ، وإلا فالحرية مُعلَّقة على أداء ما عليه، كما لو قال: إذا صمتَ رمضان فأنت حرّ، لا يعتق حتى يصوم رمضان، وهكذا لو قال له: إذا حفظت القرآن فأنت حرّ، لا يعتق إلا بحفظ القرآن، وهكذا بقية الشروط؛ فالمسلمون على شروطهم.

وقد جاء في هذا المعنى ما يُعارض حديث عمرو: منها حديث أم سلمة، وهو الثالث: إذا كان لإحداكنَّ مُكاتَب، وكان عنده ما يُؤديه، فلتحتجب منه، فإنَّ ظاهره أنه يكون في حكم الأحرار إذا كان عنده المال الذي يُؤدي ويقوم بخلاصه، لكن هذا الحديث من رواية نبهان مولى أم سلمة، ونبهان هذا انفرد عن أم سلمة بحديثين، هذا أحدهما، والثاني حديث: أنه ﷺ دخل عليه ابنُ أم مكتوم وعنده أم سلمة وزوجة أخرى من زوجاته، فقال: احتجبا منه، فقالتا: أليس أعمى، ما يُبصرنا؟! فقال: أوعمياوان أنتما؟! ألستُما تُبصرانه؟!.

هذا الحديث انفرد به نبهان أيضًا، وقد حسَّنه الترمذي، وصحَّحه أيضًا رحمه الله، وأعلَّه آخرون بأنه شاذٌّ مخالف للأحاديث الصَّحيحة: منها حديث فاطمة بنت قيس: أن النبيَّ ﷺ قال لها: اعتدي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك لا يراكِ، دلَّ على أنها لا تحتجب منه.

ومنها حديث: إنما جُعل الاستئذان من أجل النَّظر، وهو في "الصحيحين"، فهذا يدل على أنَّ نبهان في هذا ليس بحافظٍ لهذه الرواية، ولا يُعتمد عليه.

وقال آخرون: بل لا مانع من صحة حديث نبهان، ولكن يُحمل على أنَّ هذا خاصٌّ بأزواج النبي ﷺ، فيُؤمَرن بالحجاب عن الأعمى، أما غيرهن فلا يُؤمر بالحجاب عن الأعمى، وهذا ليس بجيدٍ؛ لأنَّ الأصل أنَّ أزواج النبي وغيرهن سواء في هذا.

فالحاصل أنَّ رواية نبهان فيها نظر، وأنه ليس ممن يُعتمد عليه، ولم يروِ عنه إلا الزهري، وإن كان ابن حبان وثَّقه، لكن ابن حبان يتساهل في هذا كثيرًا، والصواب أنه لا يكون حكمُه حكم الأحرار؛ لوجود ما يُؤدي عنه، بل هو عبدٌ ما بقي عليه درهم، فكيف إذا كان كلُّ المال باقٍ، ما قد أدَّى منه شيئًا؟

فرواية نبهان هذه غير مُعتمدة، ومخالفة للأحاديث الصَّحيحة: كحديث عبدالله بن عمرو وما جاء في معناه، وحديث عائشة في "الصحيحين": أنَّ بريرة قالت لها عائشة رضي الله عنها أنها سوف تُسلم المال كله إذا سمح أولياؤها بأن يكون الولاءُ لها، ولم تعتق بذلك حتى تم البيعُ.

المقصود أنَّ عائشة التزمت بالمال كله، وأنها تُؤدي المالَ الذي طُلب منها كله إذا سمحوا بأن يكون لها الولاء، فأمرها النبيُّ أن تشتريها، وأن الولاء لها ولو لم يسمحوا، فلما اشترتها أعتقتها رضي الله عنها وأرضاها.

فالحاصل أنَّ الكتابة لا يحصل بها العتق، ولا تتم بها الحرية حتى يُؤدي المكاتَب ما عليه، فتكون رواية أم سلمة هذه فيها نظر، ونبهان هذا فيه نظر، فهو ليس ممن يُعتمد عليه، والقاعدة: أنَّ الراوي إذا لم يرو عنه إلا واحد فهو مجهول العين، إلا أن يُوثقه مَن يُعتمد على توثيقه، وابن حبان محل ..... إذا انفرد بالتَّوثيق، لا سيما إذا خالفت روايته ما هو أوثق.

فحديث نبهان هنا وفيه قصة: أوعمياوان أنتما؟ فهو حديث محلّ نظرٍ، لا يُعتمد، والعبد هو مُكاتَب حتى يُؤدي، ولو كان عنده ما يُؤدي حتى يُؤديه ويتسلمه سيده منه، فإذا تسلمه سيدُه منه انتهت الكتابة وحصلت الحريةُ ..... الشرط تم كما تقدم، لو قال: أنت حرٌّ إذا صمتَ رمضان، أنت حرّ إذا حفظت القرآن، أنت حرّ إذا حضرت كذا وكذا، فإنه يتقيد بالشَّرط.

والحديث الرابع حديث ابن عباسٍ: أن النبيَّ ﷺ قال: يُودى المكاتَب بقدر ما أدَّى دية الحرِّ، وما بقي منه دية العبد.

معنى الحديث أنه يتبعَّض، وأنه إذا أدَّى شيئًا عتق منه بقدره، والباقي يرقّ بقدره، فإذا أدَّى النصف صار نصفه حرًّا، وإذا أدَّى الربع صار الربع حرًّا، وهكذا، فلو قُتل ضُمن بدية الحرِّ في الجزء الذي أدَّاه، ودية العبد في الجزء الذي لم يُؤدِّ.

وهذا الخبر فيه نظر، وقد جاء معناه من حديث عليٍّ أيضًا؛ رواه أحمد من حديث عليٍّ، عن عكرمة عن عليٍّ ، وقد قال جماعةٌ: إنَّ عكرمة لم يسمع من عليٍّ. ورواه جماعةٌ مرسلًا عن عكرمة، ورواية ابن عباسٍ هذه أيضًا من رواية يحيى بن أبي كثير عن عكرمة، ولم يُصرح بالسماع، فهو مُدلس، وهي مُتعارضة مع رواية عمرو بن شعيب كما تقدم؛ فإنَّ ظاهر حديث عمرو أنه عبد ما بقي عليه درهم ولا يتبعَّض: لا في الدية، ولا في غيرها، حتى يُؤدي فيعتق بذلك.

فالأظهر هو البقاء على ما يدل عليه حديث عمرو بن شعيب حتى يُوجد دليل واضح لا شبهةَ فيه يقتضي التَّبعيض فيما لو قُتل أو مات وقد أدَّى النصف ونحو ذلك، فإنَّ مُقتضى حديث ابن عباسٍ هذا وحديث عليٍّ أنه لو مات وقد أدَّى النصف فإنه يُورث عنه نصف ماله، ونصف ماله يبقى لسيده؛ لأنه مُبعض، والشارع يتشوف إلى الحرية وعدم التَّبعيض.

والمقام يحتاج إلى عنايةٍ، يحتاج إلى جمعٍ في الروايات هذه وما جاء في معناها، والعناية بأسانيدها، فلعله يتيسر كتابة بحثٍّ كاملٍ في هذا، ومَن تيسر له منكم أن يكتب في هذا ويجمع ما ورد فهو حسنٌ مناسبٌ إن أمكن قبل العيد، قبل رمضان فحسن، وإلا ولو بعد رمضان إن شاء الله.

فالحاصل أنَّ الأصل عندنا فيما نعتقد هو أنَّ المعتمد ما رواه عمرو، وأنَّ المكاتَب عبدٌ حتى يتخلص مما عليه في كل شيءٍ، في كل الأحكام: في قتله، وفي إرثه، وفي جميع الأحوال، وأما رواية أم سلمة فقد عرفت ما فيها من جهة نبهان، ورواية ابن عباسٍ وعليٍّ قد عرفت ما فيها مما أعلّ في الرواية، ولكن هذا يحتاج إلى مزيدٍ من العناية وجمع الطرق حتى يعرف سلامة حديث ابن عباسٍ وعليٍّ من العلة، فيُقدم على رواية عمرو، أو تقوى العلة فتتقدم رواية عمرو وما جاء في معناها عليه.

والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

1449- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ -أَخِي جُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنهمَا- قَالَ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا، وَلَا دِينَارًا، وَلَا عَبْدًا، وَلَا أَمَةً، وَلَا شَيْئًا، إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَسِلَاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

1450- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ وَقْفَهُ عَلَى عُمَرَ.

1451- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ، أَوْ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ؛ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة المتعلقة بباب المدبر والمكاتب وأم الولد، هذه الثلاثة تتعلق بالقسم الثالث، وهو أم الولد.

يقول عمرو بن الحارث بن أبي نضار الخزاعي المصطلقي -أخو جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها- ما ترك ﷺ عند موته درهمًا، ولا دينارًا، ولا عبدًا، ولا أمةً، ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضًا جعلها صدقةً. خرجه البخاري في الصحيح.

هذا الحديث يدل على أنه ﷺ ما كان جماعًا للدنيا، وليست عنده الدنيا لها قيمة، بل كان يُعطي عطاء مَن لا يخشى الفقر عليه الصلاة والسلام، كان يُنفق نفقةَ أهله سنة، يدَّخر نفقة أهله سنة، ولكن مع ذلك كان يُنفق منها النَّفقة الكثيرة حتى تنتهي قبل السنة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: نحن معاشر الأنبياء لا نُورث، ما تركنا صدقة، فما بعث اللهُ الرسلَ ليجمعوا الأموالَ لأهليهم وأولادهم، لا، إنما بعثهم دُعاةً للحقِّ، وهُداةً للخلق، يُنفقون الأموال في وجوهها، ويتألَّفون بها الناس على دين الله، ويُحسنون بها إلى عباد الله، ويصونون بها الفقراء والمساكين، ويدفعون بها الظلم، وينصرون بها المظلوم، إلى غير ذلك.

فالرسل بُعثوا لأمرٍ عظيمٍ، وهو دعوة الخلق إلى طاعة الله وتوحيده والإخلاص له، يُعرف الخلق بحقِّ الله عليهم، ومصيرهم يوم القيامة، وما لهم عند الله من المصير إن استقاموا أو انحرفوا، فإن استقاموا فلهم الجنة، وإن انحرفوا فلهم النار؛ ولهذا تُوفي ﷺ ما عنده شيء من أمور الدنيا إلا بغلته التي كان يركبها، وهي بغلة معروفة، وهكذا سلاحه الذي عنده عليه الصلاة والسلام للقتال، وهكذا الأرض التي جعلها صدقةً، كانت عنده أرض من أموال بني النَّضير يُنفق من غلتها على أهله، وعلى ضيوفه، وفي وجوه الخير، وعنده أيضًا أرض في خيبر، وأرض في فدك، فهذه الأراضي بقيت كلها صدقةً، ليس فيها ميراث.

وقد اتصلت فاطمةُ بالصديق رضي الله عنه والعباس كذلك، فقال لهم : إنه سمع النبيَّ ﷺ يقول: إنا لا نُورث، ما تركنا صدقة، وهكذا روى هذا الحديث عمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وجمع غفير من الصحابة، كلهم رووا هذا عن النبي ﷺ أنه قال: لا نورث، ما تركنا صدقة؛ فلهذا لم يقسم الصديق بين الورثة شيئًا، لم يُعطِ أزواجه شيئًا، وهو الثمن، ولم يُعطِ بنته شيئًا، ولم يُعطِ عمَّه شيئًا؛ لأنه لا يُورث عليه الصلاة والسلام، بل كان الصديقُ يُنفق على أهله من هذا المال: يُنفق على زوجات النبي ﷺ من هذا المال، وهكذا عمر، وهكذا عثمان يُنفقون من هذا المال، والباقي يُصرف في وجوه البرِّ وأعمال الخير والجهاد، وغير هذا من أعمال المسلمين.

فعمرو بن الحارث وله صلة بجويرية ومعرفة ببيت النبي ﷺ يُخبر أنه ما ترك النبيُّ شيئًا، وهذا يدل على أنَّ مارية عتقت، يحتمل أنها عتقت بعتقه ﷺ، أو أنها عتقت بموته عليه الصلاة والسلام.

وقد احتجَّ بعضُ أهل العلم بهذا الحديث على أنَّ أم الولد إذا مات سيدها عتقت، بدليل قول عمرو: "ولا عبد ولا أمة"، ومعلوم أنَّ مارية أمة، فدلَّ على أنها عتقت بموته ﷺ، ولكن هذا ليس بصريحٍ، بل يحتمل أنه أعتقها في حياته ﷺ بعدما ولدت إبراهيم .

فالمقصود أنه ﷺ ما ترك شيئًا سوى هذه الأشياء، فدلَّ ذلك على أنه ﷺ لم يكن جمَّاعًا للأموال، ولم يحرص على جمع الأموال، بل كان كلما وقع في يده شيء من الأخماس أو الفيء أو غير هذا من الزكوات أو غير ذلك أنفقه في وجوهه عليه الصلاة والسلام.

والحديث الثاني: حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ أنه قال: أيما أمةٍ ولدت من سيدها فهي حرة بعد موته.

هذا الحديث معروف عند أهل العلم أنه ضعيف، وأن السبب في ضعفه أنه من رواية حسين بن عبدالله بن عبيدالله بن عباس، وكان عندهم ليس بشيءٍ، ضعيف، وبعضهم اتَّهمه بالزندقة.

فالمقصود أنَّ الحديث ضعيف؛ رواه ابن ماجه، ورواه الحاكم أيضًا.

وفي روايةٍ عن ابن عباسٍ من طريق ابن ماجه أيضًا: أن أم إبراهيم ذكرت عند النبي ﷺ، فقال: أعتقها ولدها يعني: مارية. وهو من رواية حسين أيضًا المذكور، وهو ضعيف كما تقدم.

فهذا الحديث الذي استُدلَّ به على أنَّ كل أمةٍ ولدت من سيدها ثم مات عنها فإنها حرَّة، وإن كان العملُ عليه فقد حكى غيرُ واحدٍ إجماع العلماء عليه، لكن ليس بثابتٍ عن النبي ﷺ، وإنما اشتهر في وقت عمر، وقضى به عمر بين الناس، وأعتق أمهات الأولاد، ومنع من بيعهن، وتقدم الكلام في هذا في أول البيع، عندما ذكره المؤلفُ في أول البيع: كتاب البيع، لما ذكر حديث عمر، وذكر حديث جابر في هذا، وتقدم الكلام في هذا، وأنَّ العلماء رحمة الله عليهم أجمعوا على أنَّ أمهات الأولاد يُعتقن بعد موت السيد.

فكل امرأةٍ أولدها سيدُها عتقت بعد موته، ولم يجز بيعها، ولم تُحسب من التركة، حكى هذا غيرُ واحدٍ من أهل العلم.

وقال آخرون: إنها كانت تُباع كما روى جابر ذلك في عهد النبي ﷺ، وفي عهد الصديق، ثم رأى عمر منع الناس من ذلك.

وقال آخرون: بل هذا وقع في عهد النبي ﷺ، وبيَّنه النبيُّ ﷺ، ولكن خشي على بعض الناس حتى أظهره عمر وبيَّنه عمر وحكم به رضي الله عنه وأرضاه، فاستقرَّ الأمرُ على ذلك، وأن كلَّ أمةٍ ولدت من سيدها فإنها حرَّة بعد موته: لا تُباع، ولا تصير من التركة، وهذا هو الذي عليه العمل، وهو كالإجماع من أهل العلم، وإن نازع في الإجماع بعضُ الناس، لكنه كالإجماع، وقد استقرَّ الأمرُ على ذلك، وأن كل أمةٍ ولدت من سيدها فالأمر فيها كما قال عمر: لا تُباع، ولا تُوهب، ولا تُورث، بل هي حرة بعد موت سيدها، هذا هو المعتمد الذي عليه أهلُ العلم، وهو كالإجماع منهم كما تقدم.

والحديث الثالث: حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه، وسهل هذا أنصاري، وهو أخو عثمان بن حنيف، وهو من الأنصار، من الصحابة المعروفين رضي الله عنهم جميعًا.

يقول: عن النبيِّ ﷺ أنه قال: مَن أعان مجاهدًا في سبيل الله، أو غارمًا في عسرته، أو مُكاتبًا في رقبته؛ أظلَّه الله يوم لا ظلَّ إلا ظله خرجه الإمامُ أحمد، وصحَّحه الحاكم.

وهذا يدل على فضل إعانة المجاهدين، وفضل إعانة الغارم في عُسرته، وفضل إعانة المكاتبين، وأنه يُشرع إعانة المجاهدين في سبيل الله، وإعانة الغرماء المحتاجين حتى يُؤدوا ديونهم، وإعانة المكاتبين حتى يُؤدوا ما عليهم من دَين الكتابة حتى يُعتقوا.

ورواه النَّسائي وابن ماجه بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي هريرة ، عن النبيِّ ﷺ أنه قال: ثلاثة كلهم حقٌّ على الله عونه: المجاهد في سبيل الله، وفي رواية ابن ماجه: الغازي في سبيل الله، والناكح يريد العفاف، والمكاتَب يريد أن يُؤدي.

وهذا يدل على فضل الإعانة في هذا، وأنَّ الله يُعين هؤلاء بسبب حاجتهم إلى العون: المجاهد في سبيل الله، والناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء. فعلى حسب أعمالهم الطيبة ونياتهم الصالحة يُعينهم الله جلَّ وعلا.

وفي هذا حثٌّ على الجهاد في سبيل الله، وأنَّ الله يُعين المجاهدين والغُزاة في سبيل الله، والحثّ على التزوج بقصد التَّعفف عمَّا حرم الله، وأنَّ الله يُعين مَن أراد ذلك، ويُسهل أمره، والحثّ على أداء الكتابة، وأنه لما التزم فعليه أن يُؤدي الكتابة، ويحرص على النية الصَّالحة، والله يُعينه على ذلك، وقد وعد الله مَن أعانه أنه يُظله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظله، فهذا يدل على فضل إعانة هؤلاء، وأنَّ الله جلَّ وعلا يُعينهم من فضله، ويُسهل لهم من عباده الصَّالحين مَن يُعينهم على هذا الخير، والله ولي التَّوفيق.

كِتَابُ الْجَامِعِ

بَابُ الْأَدَبِ

1452- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَسَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1453- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1454- وَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، فَقَالَ: الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1455- وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الْآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

1456- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1457- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: كتاب الجامع، لما ذكر فيما تقدم أبواب الأحكام من العبادات والمعاملات وما يلتحق بذلك: من الأوقاف، والوصايا، والجهاد، والنكاح، والطلاق، وغير ذلك، ختم بهذا الكتاب الجامع؛ لما يحتاجه المؤمنُ في آدابه وأخلاقه، وما ينبغي له من الحرص على مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والبُعد عن مساوئ الأخلاق وسفاسفها، وما ينبغي له من حفظ أوقاته بالذكر والدعاء، فقد أحسن المؤلفُ في هذه الخاتمة؛ لأنَّ المؤمن في أشد الحاجة إلى هذه الأمور؛ ولهذا بدأ بالأدب، يعني: الأدب الشرعي الذي ينبغي أن يتحلى به المؤمن في أقواله وأعماله، وقيامه وقعوده، وسفره وإقامته، وغير ذلك.

والشريعة الإسلامية العظيمة كاملة، جاءت بالدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، والتحذير من سفاسف الأخلاق وسيئ الأعمال في جميع الأحوال، للرجال والنساء، والجن والإنس، والأغنياء والفقراء، والرؤساء والمرؤوسين.

فينبغي للمؤمن أن يتأدب بالآداب التي جاءت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأن يتخلق بها؛ حتى يتميز بذلك عن غيره، فإنَّ ميزة المسلم تخلقه بالأخلاق الإسلامية، والتزامه بها، وبُعده عن ضدِّها.

ومن أهم ذلك: الأدب الإسلامي في أقوال المؤمن وسيرته مع أهله، ومع إخوانه، ومع جيرانه، يمتاز بها عن بقية الناس، فقال رحمه الله: باب الأدب، وهو كتاب جامع لأبوابٍ كثيرةٍ، ذكر منها ستة أبواب مهمة رحمه الله: أولها باب الأدب، يعني: باب الأدب الذي ينبغي أن يتحلى به المسلم؛ تأسيًا بنبيه عليه الصلاة والسلام في أقواله وأعماله وسيرته مع نفسه، ومع ربه، ومع أهله وجيرانه، ومع سائر الناس.

الحديث الأول: حديث أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه قال: للمسلم على المسلم ستُّ خصالٍ: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس وحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه، هذه ست خلالٍ من أهم الخلال، من أهم الخصال الحميدة بين المسلمين، والمسلم له على أخيه حقوق عظيمة كثيرة، لكن هذه منها.

وهذا العدد لا مفهومَ له كما قال أهلُ العلم، العدد لا حُجَّة فيه، ولا يقتصر عليه؛ ولهذا جاءت النصوصُ بحقوقٍ أخرى كثيرةٍ غير هذه الست، فيجمعها قوله ﷺ: لا يُؤمن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه، وقوله ﷺ: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضُه بعضًا وشبَّك بين أصابعه، وقوله ﷺ: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسد بالسَّهر والحمَّى، في أحاديث كثيرة تدل على كثرة الحقوق، وهذه منها.

إذا لقيتَه فسلِّم عليه: يعني تبدأه بالسلام، هذا أفضل، في الحديث الصحيح يقول ﷺ: أولى الناس بالله مَن بدأهم بالسلام خرجه أبو داود وغيره بإسنادٍ جيدٍ.

فالمقصود أنَّ البداءة بالسلام من الآداب الشرعية، ومن خصال المسلم التي ينبغي أن يفعلها مع إخوانه، وهل يجب ذلك؟ على أقوالٍ لأهل العلم: منهم مَن قال: إنه يجب. ومنهم مَن قال: فرض كفايةٍ. ومنهم مَن قال: سنة. وهو على كل حالٍ سنة مؤكدة، أي: البداءة، أما الرد فلا خلافَ في وجوبه؛ لقوله جلَّ وعلا: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، وينبغي للمسلمين التَّسابق إلى خير الأعمال، كلٌّ يسبق إلى ما هو أفضل: فخيرهما الذي يبدأ بالسلام.

وكذلك من الخصال: إذا دعاك فأجبه، إذا دعاك لوليمة عرسٍ أو غيرها تُجيبه؛ لأنَّ هذا من أسباب إزالة الشَّحناء، وصفاء القلوب، والتعاون على الخير، والتقارب، كل هذه الخصال مما تقرب بين المؤمنين وتجمعهم على الخير، ومما يبعد الشَّحناء عنهم والاختلاف، ولا يختص هذا بدعوة العرس، بل عام؛ ولهذا جاءت الأحاديثُ عامَّة في إجابة الدَّعوة، كما في حديث البراء في "الصحيحين" سبع، ذكر منها: إجابة الدعوة، وفي حديث ابن عمر: إذا دعا أحدُكم أخاه فليُجب، عرسًا أو كان نحوه، إلا أن يكون له عذر شرعي: كالمطر، والمرض، أو وجود منكر ظاهر في الوليمة لا يستطيع إزالته، ونحو ذلك من الأعذار الشرعية التي تمنعه من إجابة الدَّعوة.

وإذا استنصحك فانصح له كذلك نصيحة المسلم واجبة: الدين النصيحة، ويحرم عليك غشُّه وخيانته وخداعه، ولكن إذا طلب النُّصح تأكَّد، طلب منك النَّصيحة، استشارك، فالواجب النُّصح وعدم الخيانة والغشّ.

وإذا عطس وحمد الله فشمته كذلك من حقِّه عليك، في الحديث الصحيح: إذا عطس أحدُكم فحمد الله فعلى كل مَن سمعه أن يقول له: يرحمك الله، فالواجب على المؤمن عند سماعه عطاس أخيه وحمده لربه أن يُشمته.

والقول بالوجوب هنا قوي، وإن كان المعروفُ عند أهل العلم أنَّ هذه من السنن المؤكدة، لكن قوله: كان حقًّا على كل إنسانٍ سمعه أن يقول: يرحمك الله ظاهره الوجوب، كذلك الأوامر: إذا عطس فحمد الله فشمته ظاهر الأوامر الوجوب، فينبغي ألا يتساهل في هذا، ومعلوم ما في هذا من المصالح الكثيرة.

وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه كذلك عيادة المريض، واتِّباع الجنائز، كل هذا من الحقوق بين المسلمين التي فيها المصالح الكثيرة، وتآلف القلوب وجمعها، وإزالة الشَّحناء، فينبغي للمؤمن ألا يتساهل فيها، بل يعود أخاه إذا مرض، والمعلوم أنَّ أخاه يتأثر بهذا، يعلم أنَّ أخاه تأثر به، وتأثر بمرضه، فيزداد نشاطًا، وربما زالت العلَّة بأسباب ما يحصل له من السُّرور بتأثر إخوانه وزيارتهم له، وربما احتاج إليهم في حاجةٍ من الحاجات: كالطبيب، أو الدَّواء، أو حاجة الأهل، وما أشبه ذلك مما قد يحتاجه المريض.

كذلك في زيارة القبور واتباع الجنائز مصالح: من ذكر الآخرة، وتذكر الموت، والتعاون مع أهل الميت في دفن ميتهم، وجبرهم أيضًا، فإنَّ تشييع الجنازة معهم فيه جبرٌ لهم، فيه مواساة لهم، فهذا من محاسن الأخلاق، ومن مكارم الأخلاق التي جاءت بها الشَّريعة.

والحديث الثاني يقول ﷺ: انظروا إلى مَن هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى مَن فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم.

هذا فيه الدلالة على أنه ينبغي للمؤمن ألا ينظر إلى مَن فوقه في الدنيا، فإنه يتعب حينئذٍ، ويستقلّ نعمة الله عليه ولا يشكرها، فإذا نظر إلى مَن فوقه في منزلةٍ: في المال، أو في القصور والملابس والدَّخل الدنيوي ونحو ذلك يتعب كثيرًا، ويستقلّ نعمة الله، فلا ينبغي له هذا، بل ينبغي له أن ينظر إلى مَن دونه في النِّعمة: في الخلقة، في الصحة، في المال، في الجاه، في غير ذلك؛ حتى يعرف قدر نعمة الله عليه، وحتى يشكر الله، فما من فقيرٍ إلا وهناك مَن هو أفقر منه، وما من مريضٍ إلا وهناك مَن هو أشدّ مرضًا منه، وما من ذي جاهٍ إلا وهناك مَن هو أقلّ جاهٍ منه، وهكذا المسائل الأخرى.

إذا نظر إلى مَن دونه عرف قدر نعمة الله عليه، وكان هذا من أسباب شكره لها، وهذا في أمور الدنيا، أما في أمور الدِّين فينبغي له أن ينظر إلى مَن فوقه، وأن يُشمر، وأن يتأسَّى بالأخيار، وعلى رأسهم النبيُّ عليه الصلاة والسلام، يتأسَّى بهم، ويُسارع ويُسابق، كما قال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، سَابِقُوا [الحديد:21]، فلا ينظر إلى الكسالى والمجرمين والعُصاة، لا، ينظر إلى أهل الخير والمسابقين إلى الخير، ويتقدم إلى صلاة الجماعة ويُسارع، ويتقدم إلى المبادرة بالزكاة، إلى حفظ الصيام، إلى الآداب الشرعية، إلى البُعد عن مواقف التُّهم، والحذر من المعاصي، يتأسَّى بالأخيار في هذا الباب.

والحديث الثالث يقول ﷺ: البرُّ حُسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهتَ أن يطلع عليه الناس.

هذا فيه أيضًا فضل حُسن الخلق، وأنه من الآداب الشَّرعية، وحُسن الخلق يجمع: طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكفّ الأذى، كما قال ابن المبارك وغيره، فينبغي للمؤمن أن يكون طليقَ الوجه عند اللِّقاء، ومع الضيوف طيب الكلام، يبذل المعروف، ويترك الأذى، هكذا يكون حُسن الخلق: طلاقة الوجه، وطيب الكلام هو بذل خيرٍ وكفّ شرٍّ، فليُجاهد نفسه في هذا، وليحرص على هذا.

ومن الآداب الشَّرعية: ترك ما يشتبه عليك وما يحيك في نفسك؛ حتى لا تقع في الحرام، حتى تنظر في الأمر، وتجتهد في معرفة حال ما أشكل عليك: إما بمراجعة العلم وكتب العلم، وإما بمراجعة العلماء؛ حتى يزول اللَّبس، وسمَّاه "إثمًا" لشدة ما فيه من الخطر، فينبغي توقي ذلك والحذر منه؛ لأنَّ التَّساهل فيه يُوقع في الحرام.

والرابع: حديث ابن مسعودٍ ، أنَّ النبي ﷺ قال: إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناجى اثنان دون الثالث حتى تختلطوا بالناس؛ من أجل أن ذلك يُحزنه، وهذا واضح، هذا من مكارم الأخلاق، ومن كمال الشريعة، ومن رعايتها لمصالح العباد، فإنَّ الناس إذا كانوا ثلاثةً وتحدث اثنان سرًّا شقَّ على الثالث وخاف أن يكون حديثُهما فيه، فلا ينبغي ذلك، بل ينبغي أن يكون حديثُهما مُشتركًا.

وهكذا لو كانا يتحدثان بلغةٍ لا يعرفها، فهذا من السرِّ، إن كان ما يعرف الإنجليزية وتحدثا بها وهو حاضر، أو غيرها من اللغات التي يجهلها، فلا يليق، هذا مثل السرّ، فإنَّ هذا يُحزنه، لكن لو كانوا أربعةً أو أكثر لا بأس؛ لأنَّ معه مَن يتحدث معه، ويلتحق بهذا لو كانوا أربعةً فلا يتحدث ثلاثة سرًّا أو بلغةٍ أجنبيةٍ عنه، فإنه يُحزنه أيضًا، وهكذا لو كانوا خمسةً لا يتساروا ويدعوا واحدًا، مثلما في الثلاثة سواء بسواءٍ، حتى يختلطوا بالناس.

الحديث الخامس حديث ابن عمر: أنَّ النبي ﷺ قال: لا يُقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن تفسَّحوا وتوسَّعوا.

فيه الأدب الشَّرعي، والإنسان ما يُقيم أخاه من مجلسه: لا في المسجد، ولا في غير المسجد؛ لأنه أغنى منه، أو لأنه أرفع منه عند الناس، أو لغير هذا من الأسباب، لا، بل ينتهي حيث ينتهي المجلس، فلا يُقيم أحدًا، إن دخل ينتهي إلى طرف الصفِّ، أو إلى سدِّ الفُرجة إن كانت هناك فرج، ولا يُقيم أحدًا، وفي المجلس ينتهي حيث انتهى الجلوس، ويجلس في المحلِّ الفارغ، ولا يُقيم أحدًا، لكن لو آثره أحد إيثارًا تطيب نفسُه به فلا بأس.

كان ابن عمر لا يقبل الإيثار، وكان يخشى أن يكون الذي آثره مُستحييًا، لم تطب نفسه، فإذا قام له أحدٌ لم يجلس في مكانه تورعًا منه .

فإذا قابلك أحدٌ فينبغي أن تتورع عنه مثلما فعل ابن عمر، إلا إذا عرفت شيئًا واضحًا أنه عن طيب نفسٍ، وعن محبَّةٍ لك، وعن تقديرٍ لك، فلا مانع، ولكن تفسَّحوا وتوسَّعوا ينبغي التَّفسح والتَّوسع، فإذا جاء الأخُ والمكان ضيق ينبغي أن يتضامّ الناس و..... له مكان حيث أمكن، هذا من مكارم الأخلاق.

الحديث السادس: حديث ابن عباسٍ ، عن النبي ﷺ أنه قال: إذا أكل أحدُكم طعامًا فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يُلعقها، وهكذا لا يغسلها حتى يلعقها أو يُلعقها، وهذا من باب العناية بالطعام وعدم التَّساهل فيه؛ ولهذا في اللَّفظ الآخر: فإنَّ أحدَكم لا يدري في أي طعامه البركة، وأمر بسلت القصعة، وقال: إن أحدكم لا يدري في أي طعامه البركة، فينبغي له أن يلعق أصابعه، وأن يسلت طريقه من الصحفة؛ حتى لا يكون طريقه مُبعثرًا مُشوَّهًا، بل يسلت مكانه ويلعق أصابعه ثم يمسحها بالمنديل إذا شاء، أو يغسلها بالماء إذا شاء، الأمر في هذا واسع، وهذا من الآداب الشَّرعية فيما يتعلق بالفراغ من الطعام.

وقوله: أو ليُلعقها يعني: يُلعقها غيره: كولده، أو زوجته، أو خادمه، أو يلعقها هو، بعض الناس قد يكره اللَّعقَ، وقد يستحي منه، وهذا غلط، فإنه ﷺ كان يلعق أصابعه عليه الصلاة والسلام، وهو خير الخلق، وأكرم الخلق، فلعق الأصابع لا بأس به، بل هو من السنة.

1458- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لِيُسَلِّم الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَالرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي.

1459- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ.

1460- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَبْدَأُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1461- وَعَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ، وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

1462- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1463- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ، وَلْتَكُنِ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ، وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ.

1464- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَمْشِ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَلْينْعلْهُمَا جَمِيعًا، أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.

1465- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1466- وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1467- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كُلْ، وَاشْرَبْ، وَالْبَسْ، وَتَصَدَّقْ فِي غَيْرِ سَرَفٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ.

الشيخ: هذه الأحاديث كلها تتعلق بالآداب الشَّرعية، وهي منوعة، ذكرها المؤلفُ هنا لينتبه الطالبُ لهذه الآداب الشَّرعية، فيتحلَّى بها، ويتخلق بها؛ امتثالًا لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام، وتأسيًا به في ذلك.

الحديث الأول: يقول ﷺ: ليسلم الصَّغيرُ على الكبير، والمارُّ على القاعد، والقليلُ على الكثير، والراكبُ على الماشي هذه السنة في حقِّ المسلمين عند التَّلاقي.

وتقدم أنَّ السنة أن المؤمن إذا لقي أخاه يُسلم عليه، وأن السنة إفشاء السلام، وأنَّ ذلك من أسباب التَّحاب في الله، وأنه لا يتم الإيمانُ إلا بذلك، وأنَّ من أسباب التَّحاب في الله إفشاء السلام.

وهنا بيَّن عليه الصلاة والسلام مَن هو الذي يبدأ، فالأفضل أن يبدأ الصَّغيرُ على الكبير، والمارُّ على القاعد، والقليلُ على الكثير، والراكبُ على الماشي، هذا هو السنة، فإذا مرَّ الصغيرُ على الكبير بدأه بالسلام؛ لأنه أحقّ منه بذلك؛ لكبر سنِّه، فإن عكس وبدأه الكبيرُ حاز الفضيلةَ، وأدرك صفة التواضع، ولكن المشروع أن يبدأ الصغيرُ، وأن ينتهز الفرصة ويبدأ.

كذلك المارُّ على القاعد، إذا مرَّ على القاعد فإنه يبدأه بالسلام، وكذلك القليلُ: ثلاثة يمرون على أربعة أو خمسة يبدؤونهم؛ لأنهم أكثر منهم وأحقّ.

كذلك الراكبُ له نوعٌ من العلو، وله نوعٌ من السلطة في كونه راكبًا، فينبغي أن يكون هو البادئ على الماشي.

فالحاصل أنَّ هذه هي السنة في هذه الأمور: أن يبدأ هؤلاء بالسلام على هؤلاء، فإن عكس مَن طُلب منه البدء، فإن عكس ذلك القسمُ الآخر وبدأ حاز الفضيلة، ولا حرج في ذلك.

والذي في رواية مسلم: والراكب على الماشي، كذا رواها البخاري أيضًا، هذه الزيادة: الراكب على الماشي.

ومجموع الأحاديث في هذا الباب كلها تدل على تأكد السلام، وأنه من أفضل خصال المسلمين؛ ولهذا قال جلَّ وعلا في كتابه العظيم: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، فلما دخل الوفدُ على إبراهيم -الضيف- قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ [هود:69]، فالسنة السلام بين المسلمين، والبدء سنة مؤكدة، أو واجب، أو فرض كفاية على الخلاف، والجواب متعين كما تقدم.

الحديث الثاني حديث عليٍّ: يُجزئ عن الجماعة إذا مرُّوا أن يُسلم أحدُهم، وعن الجماعة إذا سُلِّم عليهم أن يرد أحدُهم أخرجه أحمد والبيهقي.

فيما أذكره من مُراجعة سند هذا الحديث أنه لا بأس به؛ ولهذا سكت عنه المؤلفُ، وراجعتُه البارحة في "مسند أحمد" في "مسند عليٍّ" فلم أجده، فلعل المراجع غلط، أو لعل أحمد أخرجه في غير "المسند"، ينبغي أن يُراجع، ينبغي أن تُراجعوه وتكتبوا سنده في "المسند"، أو في "الزهد"، كذلك البيهقي؛ يُراجع في البيهقي.

وسكوت المؤلف عنه يدل أنه عنده صالح، والذي أذكره ..... أنه صالح، لكني بعيد عن مُراجعة سنده.

وهو يدل على أن البدء والجواب فرض كفايةٍ، وأنهم إذا كانوا جماعةً وبدأ أحدُهم كفى، وإذا سلموا جميعًا فهو أفضل وأفضل، وهكذا الجواب؛ إذا أجاب بعضُهم كفى، وإن أجابوا جميعًا كان أفضل وأفضل؛ لكونهم شاركوا في العبادة، وساهموا فيها، وسارعوا لها بدءًا وإجابةً.

والحديث الثاني: حديث أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه قال: لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتُموهم في طريقٍ فاضطروهم إلى أضيقه.

قوله: "عنه" قد يُوهم أنه عن عليٍّ الحديث، وهو من حديث أبي هريرة، والصواب أن يُقال: وعن أبي هريرة، ولعله غلط من بعض النُّساخ، هذا عن أبي هريرة، وهكذا الذي بعده، كلها عن أبي هريرة.

وهذا يدل على أنَّ الكفار لا يُبدؤون بالسلام، لكن متى بدأوا أُجيبوا؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إذا سلم عليكم أهلُ الكتاب فقولوا: وعليكم، فإذا بدأونا أجبنا، ولا نبدأهم؛ إظهارًا لعلو الإسلام عليهم، وأنه يعلو ولا يُعلى، ونوع من هجرهم لعلهم يستجيبون للحقِّ، وينتبهون لما هم عليه من الباطل.

أما أهل البدع وأهل المعاصي الظاهرة فينبغي النَّظر في أمرهم؛ فإن كان بدؤهم أو جوابهم يُرجى فيه خير ورجوعهم إلى الصواب، وإلا استحقُّوا الهجر: إما وجوبًا، وإما استحبابًا مُؤكَّدًا؛ لإظهارهم البدع والمعاصي الظاهرة، فإنهم يستحقون بها الهجر حتى يرجعوا، وذهب إلى وجوبه جماعةٌ، وقال آخرون: بل يتأكد ولا يجب، وسار إلى هذا المعنى ابن عبد القوي رحمه الله في منظومته، حيث قال:

وهجران مَن أبدى المعاصي سنة وقد قيل إن يردعه أوجب وأكد
وقيل على الإطلاق ما دام مُعلنًا ولاقه بوجه مُكفهر مربد

فذكر الأقوال الثلاثة: الوجوب مطلقًا، الهجر، والتفصيل: إن كان يردع وجب، وإلا فلا، وجزم بالأول، وهو أنه سنة؛ لأنه قد يحصل به المقصود؛ ولأنَّ الرسول ﷺ هجر الثلاثة: كعبًا وصاحباه لما تخلَّفوا عن غزوة تبوك، ولم يذكر عبدالله بن أُبي وجماعة من المنافقين المتَّهمين.

قال أهلُ العلم: إنما ذلك لمراعاة المصلحة الشَّرعية، فإذا كانت المصلحةُ تقتضي عدم الهجر وجبت المجاملةُ؛ دفعًا للشَّر، ورعايةً للمصلحة العامَّة، وإن كانت المصلحةُ تقتضي هجره؛ لأنه لا يترتب عليه إلا الخير وجب، كما فعل النبيُّ بكعبٍ وصاحبيه، وهكذا في زماننا، وبعد زماننا، وفي كل زمانٍ تُراعى المصلحة الإسلامية في ذلك.

والحديث الرابع: حديث أبي هريرة أيضًا، عن النبي ﷺ أنه قال: إذا عطس أحدُكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه: يرحمك الله، فإذا قال: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويُصلح بالكم.

وفي اللفظ الآخر: إذا عطس أحدُكم فحمد الله كان حقًّا على كل مَن سمعه أن يقول له: يرحمك الله، فالسنة للعاطس أن يحمد الله، والسنة لمن سمعه أن يُشمته، وقد قال قومٌ بالوجوب، وهو قوي؛ للأوامر في ذلك، أما إذا لم يحمد فلا يُشمت؛ لهذا في الصحيح أنه ﷺ عطس عنده اثنان، فشمَّت أحدَهما ولم يُشمت الآخر، فقال الذي لم يُشمته: يا رسول الله، لم تُشمتني! قال: إنه حمد الله فشمته، وأنت لم تحمد الله فلم أُشمتك، وهذا يدل على أنه يُعزر بترك التَّشميت فينته؛ حتى لا يعود إلى الغفلة وإلى التَّساهل بالسنن.

الحديث الخامس: حديث أبي هريرة أيضًا، والحديث السادس كذلك فيما يتعلق بالنَّعلين، السنة البداءة باليمنى في اللبس، واليسرى في الخلع، وأنه لا يمشِ بنعلٍ واحدةٍ، بل إمَّا أن ينعلهما جميعًا، وإما أن يُحفيهما جميعًا، كما تقدم فيما روى البخاري، كما تقدم، وهنا كذلك رواه الشيخان.

فالحاصل أنَّ هذا هو السنة في النَّعلين والخفين: إما أن يكونا في الرِّجلين جميعًا، وإما أن يحفيهما جميعًا؛ لأنَّ في مشيه بنعلٍ واحدةٍ، أو خُفٍّ واحدٍ تشويهًا للمنظر، وربما اتُّهم بضعف العقل، وفيه شهرة، وفيه أيضًا تعريض لعدم الاعتدال في المشي، فيحتاج أن يتقوى برجله المخلوعة.

فالحاصل أنَّ أقلَّ أحواله الكراهة الشَّديدة، وظاهر النص التحريم، وهو الأصل في النَّهي، التحريم هو الأصل.

الحديث الآخر حديث أبي هريرة أيضًا: نهى عن الشرب قائمًا، وهذا وردت فيه عدة أحاديث، والصواب أن الشرب قائمًا جائز، والجالس أفضل، والأحاديث التي فيها النَّهي عن ذلك والأمر بالاستقاء منسوخة، أو على سبيل النَّدب؛ ولهذا ثبت عنه ﷺ أنه شرب قائمًا: من حديث ابن عباسٍ، ومن حديث عليٍّ، فدلَّ ذلك على أنَّ الشرب قائمًا جائز، ولكنه جالس أفضل وأهنأ، وقد تعرض له الحاجة؛ لكونه عجلًا، أو لأنَّ المكان غير مناسبٍ للجلوس فيه، أو لأسبابٍ أخرى، فيشرب قائمًا للحاجة إلى ذلك.

حديث ابن عمر: يقول ﷺ فيمَن جرَّ ثوبه خُيلاء: لم ينظر الله إليه يوم القيامة، وفي اللفظ الآخر: لا ينظر الله إلى مَن جرَّ ثوبه خيلاء، وفي اللفظ الآخر من حديث أبي هريرة: لا ينظر الله إلى مَن جرَّ ثوبه بطرًا.

هذا يدل على تحريم الإسبال على سبيل البطر والكبر، فيكون حينئذٍ مُحرَّمًا لشيئين: أحدهما الإسبال، والثاني كونه عن تكبُّرٍ وعن بطرٍ، والتَّكبر جنسه مُحرَّم مطلقًا، ومع الإسبال كذلك أشدّ، فالإسبال فيه إفساد الثياب، وفيه الإسراف، وفيه التَّكبر؛ ولهذا في حديث المغيرة عند أحمد بسندٍ جيدٍ: أن النبي ﷺ قال لرجلٍ وأخذ بحجزته: لا تسبل ثيابك؛ فإنَّ الله لا يُحب المسبلين.

وفي الصحيح عن أبي ذرٍّ ، عن النبي ﷺ أنه قال: ثلاثة لا يُكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يُزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان بما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب خرَّجه مسلم رحمه الله في الصحيح.

وهكذا ما روى البخاري في الصحيح من حديث أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه قال: ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهكذا حديث جابر بن سليم: إياك والإسبال فإنه من المخيلة.

وقد ذهب بعضُ الناس إلى أنه يُكره إذا كان عن غير تكبرٍ، ويحرم إذا كان عن تكبرٍ.

والصواب أنه يحرم مطلقًا، ولكن إذا كان عن تكبرٍ يكون أشدَّ في التَّحريم والإثم، وأما حديث الصديق حين قال: يا رسول الله، إنَّ إزاري يتفلَّت عليَّ إلا أن أتعاهده، قال: إنك لا تفعله كبرًا، فلا يدل على جواز الإسبال، وإنما يدل على أنَّ المؤمن إذا تعاهد إزاره ولم يُهمله فلا حرجَ عليه، إذا كان ذلك عن غلبه، لا عن تكبرٍ فإنه لا حرج عليه في ذلك، فليتعاهده، وأما إذا لم يتعاهده كان ذلك تكبرًا، صار في حكم الآثمين.

أما أن يتعمد إسباله ويجرّه ويقول: ما قصدتُ الكبر! هذا غلط، والغالب أنه كذب، فإنَّ الغالب على المسبلين التَّكبر والتَّرفع، وقد يكون عن غفلةٍ، وعن قلة عنايةٍ؛ فيكون منعه من باب سدِّ الذَّرائع التي تُوصل إلى الكبر، وأيضًا من باب منع الإسراف، ومنع تعريض الملابس للنَّجاسات والقاذورات والأوساخ؛ ولأنَّ غالب الأحاديث مطلقة في المنع، فوجب الأخذ بها، وإذا كان عن تكبُّرٍ كان الإثمُ أشدَّ.

ومن المصائب: كثرة هذا في الناس اليوم، وهو من الغلط الكبير، فينبغي التَّنبيه عليه، والحذر منه.

كذلك حديث ابن عمر: يقول ﷺ: إذا أكل أحدُكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه؛ فإنَّ الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله.

هذا يدل على وجوب الأكل باليمين، والشرب باليمين، وأنه لا يجوز الشرب باليسار، ولا الأكل باليسار.

وفي الصحيح عن جابرٍ : أن رجلًا أكل بشماله، فقال له النبيُّ ﷺ: كل بيمينك، قال: لا أستطيع، قال: لا استطعتَ، ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعها إلى فيه بعد ذلك. يعني: عُوقب عقوبةً مُعجلةً؛ لأنه امتنع من الأكل باليمين تكبُّرًا، فدعا عليه النبيُّ ﷺ أنه لا يستطيع، فعُوقِب عقوبةً مُعجلةً إجابةً لدعوته عليه الصلاة والسلام، وعقوبةً له على تكبره وإصراره على الكبر وكذبه.

فهذا فيه الدلالة على تحريم الأكل بالشِّمال، والشرب بالشمال، وأنَّ الواجب التَّأدب بالأكل باليمين، والشرب باليمين.

وهكذا حديث عبدالله بن عمرو: يقول ﷺ: كُلْ واشرب، والبس وتصدَّق في غير سرفٍ ولا مخيلةٍ.

هكذا يجب على المؤمن أن يكون أكله وشربه ولباسه وصدقاته في غير إسرافٍ ولا مخيلةٍ، يعني: ولا كبر، والإسراف في الصَّدقة كونه يُنفق أمواله ويدع ما أوجب الله عليه من الإنفاق على العائلة ونحو ذلك، فهذا نوع إسرافٍ في الصدقة، فالواجب أن يتحرى في الصَّدقة مواضعها، وأن يبدأ بمَن يعول كما قاله النبيُّ عليه الصلاة والسلام.

وفَّق الله الجميع.

س: ................؟

ج: هذا كان اليهودُ لهم كبر، يقولون: السام عليكم، يقصدون الموت، فقال النبي: قولوا: وعليكم، فإنه يُستجاب لنا فيهم، ولا يُستجاب لهم فينا على ما قالوا، سواء قصدوا الموت، أو ما قصدوا الموت، فالموت لا بدَّ منه.

س: إذا سلَّم واحدٌ على واحدٍ يقول: السلام عليك، أو السلام عليكم؟

ج: مُخيَّر؛ إن قال: السلام عليك، فلا بأس، وإن قال: السلام عليكم، فلا بأس، كلاهما جاء.

س: يجوز بدء اليهود والنَّصارى بتحيةٍ غير السلام؟

ج: ما أعلم فيه بأسًا، لو قال: كيف حالك يا فلان؟ وكيف أولادك؟ وماذا فعلت؟ أو كذا، صرَّح بهذا أبو العباس ابن تيمية وجماعة، ليس من السلام.

س: ...............؟

ج: نعم، السنة [أن] يأتي بالحمدلة حتى يشمت، حتى يُقال له: يرحمك الله.